❞ يعتبر كتاب المُختار في حساب الجبر والمقابلة من الكتب غير المعروفة للخورازمي، ومن أفضل الأعمال الكلاسيكيّة الخاصّة بعلم الجبر، وقد تُرجم الكتاب إلى اللغة اللاتينيّة في العصور الوسطى، فقد كُتب باللغة العربيّة عام 820م، وتُرجم إلى اللغة اللاتينيّة في القرن الثاني عشر، وقد ساعدت كتابة مصطلح الجبر بدلاً من الخوارزم في الشكل اللاتيني إلى وصوله إلى اللغات الحديثة، وقد حظي بمكانة بارزة في تاريخ علم الرياضيّات وفقاً لما قاله الكاتب التاريخيّ جلال شوقي، وقد عرّف الخوارزميّ الجبر في هذا الكتاب على أنّه محور مستقل في علم الرياضيّات، بالإضافة إلى أنّه سارع عمليّة دخول قيمة المكانة العربيّة في العالم الغربيّ، وقد كُرّس هذا الكتاب لحل المشاكل اليوميّة التي كانت تواجه المسلمين في الحياة اليوميّة، كمسائل الميراث، والموروث، وتقسيم الدعاوي القضائيّة، والتّجارة، وقد احتوى على 800 مثال.
تعني كلمة الجبر باللغة العربيّة، عمليّة الترميم؛ وتعبّر عن نقل الكميّات التي تحمل إشارةٍ سالبةٍ إلى الطرف الآخر للمعادلة للحصول على كميّةٍ موجبةٍ، أمّا قسم المقابلة فيعبّر عن عمليّة حذف الكميّات المتطابقة في طرفيّ المعادلة، ونسبةً إلى جون بومجارت فإنّ أفضل ترجمةً لعنوان كتاب حساب الجبر والمقابلة هو علم المعادلات، حيث أنّ الجبر هو كلمةً بلاغيّةً، وقد قدّم الخوارزميّ القواعد الخاصّة بحل المعادلات التربيعيّة المبرهنة بعددٍ من الحالات من خلال البراهين الهندسيّة، وقد عبّر جلال شوقي عن الكميّة المجهولة بالشيء أو الجذر، والذي يعني باللغة العربيّة الأصل أو القاعدة، أو جذور الشجرة، وبالتالي فإنّ استخدام مفهوم جذور المعادلة يرجع إلى المفهوم العربيّ، فقد استخدم العالم الخورازميّ مفهوم الجذر للتعبير عن الدرجة الأولى من المعادلة التربيعيّة، والمثال الآتي هو شرحاً مفصّلاً للجذر: إذا كان المربّع لعدد يساوي 5، فإنّ الجذر التربيعيّ أيضاً يساوي 5، والعدد هو 25، والذي يساوي جذره 5، أمّا القوة الثانيّة من الكميّة فقد استخدم الثروة والممتلكات لوصفها، كاستخدام القطعة النقدية الدرهم.
ظهر علم الجبر بدايةً بأنّه محوراً مستقلاً من علم الرياضيّات، وقد وضع حلولاً تحليلةً لمختلف أشكال المعادلة التربيعيّة بعنايةٍ، وبرهن طريقة الحل ببراعةٍ باستخدام أمثلة عمليّة، وعلى الرغم من إدراكه لوجود حليّن للجذر التربيعيّ إلّا أنّه اهتم بالقيمة الموجبة فقط.
يٌمثّل كتاب حساب الجبر والمقابلة الرياضيّات التطبيقيّة، حيث إنّه يشرح معادلات الدرجة الأولى والثانيّة في جزئه الأوّل، ويُمكن تحويل المسائل الرياضيّة المقترحة إلى أحد الأشكال الرياضيّة الستّة، حيث أنّه يُعطي قواعد لحل الأشكال الهندسيّة لستّة مع توضيحاً لكيفيّة تحويل أي مسألة إلى النماذج القياسيّة، أمّا الجزء الثاني من الكتاب فإنّه يتناول القياس العمليّ من خلال تقديم قواعد لإيجاد المساحة في المستويات المتعددة كالدائرة، وإيجاد أحجام الصلبة كالأهرامات، والمخاريط، أمّا الجزء الثالث يقدّم شرحاً للمواريث والميراث، بالإضافة لحل المشاكل التي تنشأ عنها.
استُخدمت الأعمال الرياضيّة الخاصّة بالخوارزميّ في الجامعات الأوروبيّة حتّى القرن السابع عشر، وقد ذُكر بأنّه مؤسس علم الجبر، حيث إنّه حول المفهوم السابق للرقم كقيمة ثابتة إلى أنّه عنصر متغيّر في المعادلة، بالإضافة إلى أنّه وجد حلولاً للمعادلة العامّة من الدرجة الأولى والثانيّة المحتويّة على رموزاً غير معروفة القيمة باستخدام الوسائل الجبريّة والهندسيّة، وساهم في نشر النظام الهنديّ للأعداد في الدول العربيّة، والأوربيّة عن طريق ترجمة الكتاب إلى اللغة اللاتينيّة، وبالرغم من تزامن العلوم الرياضيّة الخاصّة به مع اليونانيّة والهنديّة إلى أنّه كان أوّل عالم يوضّح الفرق بين الجبر والهندسة. ❝ ⏤عاطف محمد
❞ يعتبر كتاب المُختار في حساب الجبر والمقابلة من الكتب غير المعروفة للخورازمي، ومن أفضل الأعمال الكلاسيكيّة الخاصّة بعلم الجبر، وقد تُرجم الكتاب إلى اللغة اللاتينيّة في العصور الوسطى، فقد كُتب باللغة العربيّة عام 820م، وتُرجم إلى اللغة اللاتينيّة في القرن الثاني عشر، وقد ساعدت كتابة مصطلح الجبر بدلاً من الخوارزم في الشكل اللاتيني إلى وصوله إلى اللغات الحديثة، وقد حظي بمكانة بارزة في تاريخ علم الرياضيّات وفقاً لما قاله الكاتب التاريخيّ جلال شوقي، وقد عرّف الخوارزميّ الجبر في هذا الكتاب على أنّه محور مستقل في علم الرياضيّات، بالإضافة إلى أنّه سارع عمليّة دخول قيمة المكانة العربيّة في العالم الغربيّ، وقد كُرّس هذا الكتاب لحل المشاكل اليوميّة التي كانت تواجه المسلمين في الحياة اليوميّة، كمسائل الميراث، والموروث، وتقسيم الدعاوي القضائيّة، والتّجارة، وقد احتوى على 800 مثال.
تعني كلمة الجبر باللغة العربيّة، عمليّة الترميم؛ وتعبّر عن نقل الكميّات التي تحمل إشارةٍ سالبةٍ إلى الطرف الآخر للمعادلة للحصول على كميّةٍ موجبةٍ، أمّا قسم المقابلة فيعبّر عن عمليّة حذف الكميّات المتطابقة في طرفيّ المعادلة، ونسبةً إلى جون بومجارت فإنّ أفضل ترجمةً لعنوان كتاب حساب الجبر والمقابلة هو علم المعادلات، حيث أنّ الجبر هو كلمةً بلاغيّةً، وقد قدّم الخوارزميّ القواعد الخاصّة بحل المعادلات التربيعيّة المبرهنة بعددٍ من الحالات من خلال البراهين الهندسيّة، وقد عبّر جلال شوقي عن الكميّة المجهولة بالشيء أو الجذر، والذي يعني باللغة العربيّة الأصل أو القاعدة، أو جذور الشجرة، وبالتالي فإنّ استخدام مفهوم جذور المعادلة يرجع إلى المفهوم العربيّ، فقد استخدم العالم الخورازميّ مفهوم الجذر للتعبير عن الدرجة الأولى من المعادلة التربيعيّة، والمثال الآتي هو شرحاً مفصّلاً للجذر: إذا كان المربّع لعدد يساوي 5، فإنّ الجذر التربيعيّ أيضاً يساوي 5، والعدد هو 25، والذي يساوي جذره 5، أمّا القوة الثانيّة من الكميّة فقد استخدم الثروة والممتلكات لوصفها، كاستخدام القطعة النقدية الدرهم.
ظهر علم الجبر بدايةً بأنّه محوراً مستقلاً من علم الرياضيّات، وقد وضع حلولاً تحليلةً لمختلف أشكال المعادلة التربيعيّة بعنايةٍ، وبرهن طريقة الحل ببراعةٍ باستخدام أمثلة عمليّة، وعلى الرغم من إدراكه لوجود حليّن للجذر التربيعيّ إلّا أنّه اهتم بالقيمة الموجبة فقط.
يٌمثّل كتاب حساب الجبر والمقابلة الرياضيّات التطبيقيّة، حيث إنّه يشرح معادلات الدرجة الأولى والثانيّة في جزئه الأوّل، ويُمكن تحويل المسائل الرياضيّة المقترحة إلى أحد الأشكال الرياضيّة الستّة، حيث أنّه يُعطي قواعد لحل الأشكال الهندسيّة لستّة مع توضيحاً لكيفيّة تحويل أي مسألة إلى النماذج القياسيّة، أمّا الجزء الثاني من الكتاب فإنّه يتناول القياس العمليّ من خلال تقديم قواعد لإيجاد المساحة في المستويات المتعددة كالدائرة، وإيجاد أحجام الصلبة كالأهرامات، والمخاريط، أمّا الجزء الثالث يقدّم شرحاً للمواريث والميراث، بالإضافة لحل المشاكل التي تنشأ عنها.
استُخدمت الأعمال الرياضيّة الخاصّة بالخوارزميّ في الجامعات الأوروبيّة حتّى القرن السابع عشر، وقد ذُكر بأنّه مؤسس علم الجبر، حيث إنّه حول المفهوم السابق للرقم كقيمة ثابتة إلى أنّه عنصر متغيّر في المعادلة، بالإضافة إلى أنّه وجد حلولاً للمعادلة العامّة من الدرجة الأولى والثانيّة المحتويّة على رموزاً غير معروفة القيمة باستخدام الوسائل الجبريّة والهندسيّة، وساهم في نشر النظام الهنديّ للأعداد في الدول العربيّة، والأوربيّة عن طريق ترجمة الكتاب إلى اللغة اللاتينيّة، وبالرغم من تزامن العلوم الرياضيّة الخاصّة به مع اليونانيّة والهنديّة إلى أنّه كان أوّل عالم يوضّح الفرق بين الجبر والهندسة. ❝
❞ عندما كنت طبيبا فى وحدة ريفية، رأيت حالة فتاة تعرضت يدها لالتهاب شديد فامتلأت بالصديد. كان علىّ أن أشق الجلد وأخرج هذا الصديد طبقا للقاعدة القديمة: حيثما يوجد صديد فلا بد من التخلص منه. قمت بهذا واستخرجت كميات كبيرة فعلا من الصديد جعلتنى أتِيه فخرا بنفسى. على أن فرحتى لم تدم طويلا.. لقد عادت الفتاة بعد ثلاثة أيام وقد ارتفعت درجة حرارتها بتلك الطريقة المحمومة المجنونة التى تدل على وجود صديد مضغوط، وكانت ترتعش، وأدركت أن التهابا أقوى كاد يدمر يدها. هكذا حملت خيامى ورحلت كما يقول الأعراب، وأخذتها لجراح بارع فى المستشفى الجامعى. رأى ما قمت به فقال ضاحكا «المشكلة هى أن قلبك رهيف جدا ولا تملك الشجاعة اللازمة.. كان عليك أن تفتح أنسجة أكثر وتمزق أكثر وتتوغل أكثر». وذكّرنى كذلك بقاعدة أهم هى أن عدوى اليد خطرة جدا، ولا يجب التهاون معها بأى حال. القاعدة الأخيرة هى أنه يجب العمل تحت مخدر عام، لأن الفتاة لن تتحمل ما سيحدث
وفى ذهول رحت أراقبه وهو يُولج مبضعه، فيمزق الحواجز الصفاقية ويخترق أقسام اليد.. ورأيت أنهارا من الصديد تتدفق. كل هذا كان بالداخل وأنا بقلة خبرتى حسبت أننى أجدت التنظيف. وعندما ضمد الجرح ووضع الفتيل، كانت حرارة الفتاة قد هبطت فعلا.. وبعد يومين كانت ضحكتها تشرق كالشمس
تذكرت هذا الموقف وأنا أرى ما وصل إليه حالنا اليوم بسبب الثورة التى لم تكتمل. لقد نجح الثوار فى أن يزيلوا الكثير جدا من الصديد وحبسوه فى طرة، لكن ما زال هناك الكثير جدا منه.. صديد يحتاج إلى جراح محترف، ويحتاج إلى قسوة وإلى حزم.. وهى عملية غير محببة للجراح ولا المريض معا. يجب أن يعترف المرء بأنه كان مخطئا عندما اعتقد أن النهاية السعيدة جاءت يوم 11 فبراير 2011، والحقيقة أنها كانت البداية، وكان يجب أن يستمر كل شىء إلى أن يتحقق ما يريده الثوار. الخلاص من قمة الدمل لا يعنى أنه لم يعد هناك صديد.. ليس هذا هو الخطأ الوحيد على كل حال
من حين لآخر يكتشف المرء أنه كان مخطئا بشدة، وأنه أحسن الظن فى أمور كان الشك أقل ما يجب فيها، وتفاءل حيث ينبغى أن يكتفى سواه بابتسامة جانبية حذرة. وعزائى الوحيد هو أننى لست محللا سياسيا أو استراتيجيا، وإنما أنا مجرد مواطن يقرأ الصحف ويحب هذا البلد. هكذا كتبت مرارا عن أننى أعتبر حكومة عصام شرف من أصدق وأكفأ الحكومات التى عرفتها مصر.. كان هذا منذ زمن بعيد، أما اليوم فلم أتخل عن قناعة أنها (من أصدق)، لكن موضوع (أكفأ) هذا قد انتهى منذ زمن، ومن الواضح تماما أن هذه الحكومة الواهية تتعرض لضغوط عنيفة من كل الجهات، والأسوأ أنها تستجيب لأى ضغط. أتذكر كذلك فى قلق أن الدولتين الوحيدتين اللتين يحكمهما مجلس عسكرى أو (خونتا) فى العالم اليوم هما مصر وجزر فيجى!ـ
هذا بلد عظيم يستحق ما هو أفضل بكثير، ولا أعرف السبب فى استحالة أن نملك رئيسا منتخبا وبرلمانا وتداول سلطة وصحافة وإعلاما حرّين.. هل نحن لا نستحق هذا؟ أم أن مصر أهم من أن تحظى بهذا؟
قررت أن أقرأ قليلا لأتناسى هذه الهواجس، ولسبب ما عدت إلى رواية (البصيرة) للكاتب البرتغالى الحاصل على نوبل (خوزيه ساراماجو). كنت قد بدأت كتابة رواية اسمها (أيام الشهاب الأولى) منذ أعوام، كتبتها بتردد قاتل لدرجة كتابة سطرين أو ثلاثة كل أسبوع. لما بدأت الرواية تتخذ كيانا ملموسا فوجئت برواية (الطوف الحجرى) لساراماجو التى تحكى نفس الحبكة تقريبا، ولو أنهيت روايتى فمن المستحيل أن يصدق أحد أننى لم أسرقها من ساراماجو. هكذا تخلصت من روايتى آسفا، وإن سرّنى أن فكرة لى اقتربت من أفكار هذا الأديب العظيم. لن أعطى أى بيانات عن رواية (البصيرة) والدار التى نشرتها، لسبب بسيط هو أنها مترجمة ترجمة رديئة فعلا، وقراءتها عذاب حقيقى. لا بد أن تعيد صياغة كل جملة فى ذهنك لتصير مستساغة
صدرت الرواية عام 2004 بعد جائزة نوبل، وهى تمتاز كمعظم روايات ساراماجو بروح من السخرية والعبث والفانتازيا. يقولون إنها تكملة لرواية سابقة هى (العمى) التى لم أقرأها بصراحة، لكنها تحكى عن بلد فقد أهله جميعا البصر ما عدا امرأة واحدة
تبدأ رواية (البصيرة) بجملة صادمة: قال الكلب.. هيا بنا نعوى!
لا بد أن نثور.. لقد خلقنا من أجل هذا
تدور الرواية حول لجنة اقتراع فى بلد غير محدد المعالم.. يمكن أن يكون مصر أو البرتغال. هناك مشكلة بسيطة هى أن أحدا لم يذهب إلى صناديق الاقتراع حتى المساء، ثم يخرجون من بيوتهم تحت الأمطار الغزيرة -ليثبتوا أن الطقس لم يمنعهم- ويدلون بأصواتهم
عندما يتم الفرز نكتشف أن معظم الأصوات غير صالحة.. معظم الناخبين وضع أوراقا بيضاء فى صناديق الاقتراع. بمعنى أدق هم ذهبوا إلى اللجان بحماس غريب، ولكنهم لم يختاروا أى حزب.. لا اليمين ولا الوسط ولا اليسار. وهذه الظاهرة لا يبدو أنها تمت بناء على اتفاق. على فكرة بدأت موضة من الأصوات البيضاء فى أوروبا بعد هذه الرواية. عندما تعاد الانتخابات تتكرر هذه الظاهرة المحيرة. عصيان فانتازى يرفض الجميع.. وكما هى العادة لدى كل هذه الحكومات، فإنهم لا يعتقدون أن الشعب يتصرف من تلقاء نفسه.. لا بد من يد خفية تنظم هذا كله. وتقرر الحكومة أن تحاصر العاصمة وتنشئ عاصمة جديدة، بينما تترك العاصمة القديمة نهبا للجوع والمعاناة
عندما تقرر الحكومة أن تتهم شخصا ما فإنها تجد أن أفضل شخص هو المرأة التى ظلت مبصرة فى رواية (العمى). ويدور تحقيق معها بمعرفة ضابط كبير من الحزب الحاكم أرسله وزير الداخلية.. الضابط يكتشف أن المتهمة بريئة فعلا، ويتعاطف معها، والنتيجة هى أنه يدفع حياته ثمنا
تنتهى الرواية بطلقة تقتل الكلب الذى يعوى بسبب وفاة صاحبته، فيقول أحد العميان «الحمد لله.. أنا أكره عواء الكلاب»! إن العميان لا يكتفون بلذة فقد البصر بل يطمعون كذلك فى لذة الصمت. الناس فى مدينة ساراماجو كانوا محظوظين رغم كل شىء، لأنهم امتلكوا القدرة على الاختيار، بل واختيار عدم الاختيار.. أما نحن فننتظر.. ننتظر ونعتصر بعض قطرات الصديد من الدمل فى كل جمعة. ومن جديد أكره الاعتراف بأننى كنت مخطئا لكنها الحقيقة
#أحمد_خالد_توفيق
بصيرة ساراماجو. ❝ ⏤جوزيه ساراماغو
❞ عندما كنت طبيبا فى وحدة ريفية، رأيت حالة فتاة تعرضت يدها لالتهاب شديد فامتلأت بالصديد. كان علىّ أن أشق الجلد وأخرج هذا الصديد طبقا للقاعدة القديمة: حيثما يوجد صديد فلا بد من التخلص منه. قمت بهذا واستخرجت كميات كبيرة فعلا من الصديد جعلتنى أتِيه فخرا بنفسى. على أن فرحتى لم تدم طويلا. لقد عادت الفتاة بعد ثلاثة أيام وقد ارتفعت درجة حرارتها بتلك الطريقة المحمومة المجنونة التى تدل على وجود صديد مضغوط، وكانت ترتعش، وأدركت أن التهابا أقوى كاد يدمر يدها. هكذا حملت خيامى ورحلت كما يقول الأعراب، وأخذتها لجراح بارع فى المستشفى الجامعى. رأى ما قمت به فقال ضاحكا «المشكلة هى أن قلبك رهيف جدا ولا تملك الشجاعة اللازمة. كان عليك أن تفتح أنسجة أكثر وتمزق أكثر وتتوغل أكثر». وذكّرنى كذلك بقاعدة أهم هى أن عدوى اليد خطرة جدا، ولا يجب التهاون معها بأى حال. القاعدة الأخيرة هى أنه يجب العمل تحت مخدر عام، لأن الفتاة لن تتحمل ما سيحدث
وفى ذهول رحت أراقبه وهو يُولج مبضعه، فيمزق الحواجز الصفاقية ويخترق أقسام اليد. ورأيت أنهارا من الصديد تتدفق. كل هذا كان بالداخل وأنا بقلة خبرتى حسبت أننى أجدت التنظيف. وعندما ضمد الجرح ووضع الفتيل، كانت حرارة الفتاة قد هبطت فعلا. وبعد يومين كانت ضحكتها تشرق كالشمس
تذكرت هذا الموقف وأنا أرى ما وصل إليه حالنا اليوم بسبب الثورة التى لم تكتمل. لقد نجح الثوار فى أن يزيلوا الكثير جدا من الصديد وحبسوه فى طرة، لكن ما زال هناك الكثير جدا منه. صديد يحتاج إلى جراح محترف، ويحتاج إلى قسوة وإلى حزم. وهى عملية غير محببة للجراح ولا المريض معا. يجب أن يعترف المرء بأنه كان مخطئا عندما اعتقد أن النهاية السعيدة جاءت يوم 11 فبراير 2011، والحقيقة أنها كانت البداية، وكان يجب أن يستمر كل شىء إلى أن يتحقق ما يريده الثوار. الخلاص من قمة الدمل لا يعنى أنه لم يعد هناك صديد. ليس هذا هو الخطأ الوحيد على كل حال
من حين لآخر يكتشف المرء أنه كان مخطئا بشدة، وأنه أحسن الظن فى أمور كان الشك أقل ما يجب فيها، وتفاءل حيث ينبغى أن يكتفى سواه بابتسامة جانبية حذرة. وعزائى الوحيد هو أننى لست محللا سياسيا أو استراتيجيا، وإنما أنا مجرد مواطن يقرأ الصحف ويحب هذا البلد. هكذا كتبت مرارا عن أننى أعتبر حكومة عصام شرف من أصدق وأكفأ الحكومات التى عرفتها مصر. كان هذا منذ زمن بعيد، أما اليوم فلم أتخل عن قناعة أنها (من أصدق)، لكن موضوع (أكفأ) هذا قد انتهى منذ زمن، ومن الواضح تماما أن هذه الحكومة الواهية تتعرض لضغوط عنيفة من كل الجهات، والأسوأ أنها تستجيب لأى ضغط. أتذكر كذلك فى قلق أن الدولتين الوحيدتين اللتين يحكمهما مجلس عسكرى أو (خونتا) فى العالم اليوم هما مصر وجزر فيجى!ـ
هذا بلد عظيم يستحق ما هو أفضل بكثير، ولا أعرف السبب فى استحالة أن نملك رئيسا منتخبا وبرلمانا وتداول سلطة وصحافة وإعلاما حرّين. هل نحن لا نستحق هذا؟ أم أن مصر أهم من أن تحظى بهذا؟
قررت أن أقرأ قليلا لأتناسى هذه الهواجس، ولسبب ما عدت إلى رواية (البصيرة) للكاتب البرتغالى الحاصل على نوبل (خوزيه ساراماجو). كنت قد بدأت كتابة رواية اسمها (أيام الشهاب الأولى) منذ أعوام، كتبتها بتردد قاتل لدرجة كتابة سطرين أو ثلاثة كل أسبوع. لما بدأت الرواية تتخذ كيانا ملموسا فوجئت برواية (الطوف الحجرى) لساراماجو التى تحكى نفس الحبكة تقريبا، ولو أنهيت روايتى فمن المستحيل أن يصدق أحد أننى لم أسرقها من ساراماجو. هكذا تخلصت من روايتى آسفا، وإن سرّنى أن فكرة لى اقتربت من أفكار هذا الأديب العظيم. لن أعطى أى بيانات عن رواية (البصيرة) والدار التى نشرتها، لسبب بسيط هو أنها مترجمة ترجمة رديئة فعلا، وقراءتها عذاب حقيقى. لا بد أن تعيد صياغة كل جملة فى ذهنك لتصير مستساغة
صدرت الرواية عام 2004 بعد جائزة نوبل، وهى تمتاز كمعظم روايات ساراماجو بروح من السخرية والعبث والفانتازيا. يقولون إنها تكملة لرواية سابقة هى (العمى) التى لم أقرأها بصراحة، لكنها تحكى عن بلد فقد أهله جميعا البصر ما عدا امرأة واحدة
تبدأ رواية (البصيرة) بجملة صادمة: قال الكلب. هيا بنا نعوى!
لا بد أن نثور. لقد خلقنا من أجل هذا
تدور الرواية حول لجنة اقتراع فى بلد غير محدد المعالم. يمكن أن يكون مصر أو البرتغال. هناك مشكلة بسيطة هى أن أحدا لم يذهب إلى صناديق الاقتراع حتى المساء، ثم يخرجون من بيوتهم تحت الأمطار الغزيرة -ليثبتوا أن الطقس لم يمنعهم- ويدلون بأصواتهم
عندما يتم الفرز نكتشف أن معظم الأصوات غير صالحة. معظم الناخبين وضع أوراقا بيضاء فى صناديق الاقتراع. بمعنى أدق هم ذهبوا إلى اللجان بحماس غريب، ولكنهم لم يختاروا أى حزب. لا اليمين ولا الوسط ولا اليسار. وهذه الظاهرة لا يبدو أنها تمت بناء على اتفاق. على فكرة بدأت موضة من الأصوات البيضاء فى أوروبا بعد هذه الرواية. عندما تعاد الانتخابات تتكرر هذه الظاهرة المحيرة. عصيان فانتازى يرفض الجميع. وكما هى العادة لدى كل هذه الحكومات، فإنهم لا يعتقدون أن الشعب يتصرف من تلقاء نفسه. لا بد من يد خفية تنظم هذا كله. وتقرر الحكومة أن تحاصر العاصمة وتنشئ عاصمة جديدة، بينما تترك العاصمة القديمة نهبا للجوع والمعاناة
عندما تقرر الحكومة أن تتهم شخصا ما فإنها تجد أن أفضل شخص هو المرأة التى ظلت مبصرة فى رواية (العمى). ويدور تحقيق معها بمعرفة ضابط كبير من الحزب الحاكم أرسله وزير الداخلية. الضابط يكتشف أن المتهمة بريئة فعلا، ويتعاطف معها، والنتيجة هى أنه يدفع حياته ثمنا
تنتهى الرواية بطلقة تقتل الكلب الذى يعوى بسبب وفاة صاحبته، فيقول أحد العميان «الحمد لله. أنا أكره عواء الكلاب»! إن العميان لا يكتفون بلذة فقد البصر بل يطمعون كذلك فى لذة الصمت. الناس فى مدينة ساراماجو كانوا محظوظين رغم كل شىء، لأنهم امتلكوا القدرة على الاختيار، بل واختيار عدم الاختيار. أما نحن فننتظر. ننتظر ونعتصر بعض قطرات الصديد من الدمل فى كل جمعة. ومن جديد أكره الاعتراف بأننى كنت مخطئا لكنها الحقيقة
❞ “لعلم لا يستطيع أن يعرف حقيقة أي شئ، إنه يعرف كيف يتصرف ذلك الشئ في ظروف معينة، و يستطيع أن يكشف علاقاته مع غيره من الأشياء، و يحسبها، و لكنه لا يستطيع أن يعرف ما هو.
لا سبيل أما العلم لإدراك المطلق
العلم يدرك كميات و لكنه لا يدرك ما هيات”. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ لعلم لا يستطيع أن يعرف حقيقة أي شئ، إنه يعرف كيف يتصرف ذلك الشئ في ظروف معينة، و يستطيع أن يكشف علاقاته مع غيره من الأشياء، و يحسبها، و لكنه لا يستطيع أن يعرف ما هو.
❞ في يونيو 1982 سافرت في رحلة طويلة إلى الولايات المتحدة.
لم تكن الرحلة بحثًا عن الذَّرَّة لكنها كانت بحثًا عن البشر والحياة في دولة عظمى تُعاملنا على طريقة «لعبة الأمم» وتَعدّ رجال مخابراتها وجنرالاتها وجواسيسها أفضل خبراء في «الزواج المثالي» بينها وبين العالم الثالث.
لكن لأن الموضوع الذي لا يحسمه الصحفي يصبح مثل شوكة في بطنه ومثل خنجر في ضلوعه ومثل زائدة دودية ملتهبة، فقد وجدت نفسي أشمشم بأنفي عمّا أريد في معهد دراسات الشرق الأوسط، ومعهد الدراسات السياسية والاستراتيجية في واشنطن –العاصمة- وقدمتْ لي مستشارة الرئيس الأمريكي لشؤون الإسلام سستر كوفي، نصائح وأبحاثًا، من الإنصاف أن أذكر أنها كانت مفيدة وربما أكثر من ذلك.
وبعيدًا عن كل تعصب وطني، وقومي، أقول إن الباحثين هم الوجه العاقل في أمريكا، لكن الكارثة أنه لا أحد يسمع صوتهم إلا بعد فوات الأوان، إن لهم حرية التفكير، وللمسؤولين عن السياسة الخارجية حرية الاشمئناط وحرية ارتكاب الحماقات.
وقد تضاعف اقتناعي بذلك في لوس أنجلوس، بعد أن زرت مركز أبحاث الأمن والسلاح التابع لجامعة كاليفورنيا، وحصلت من رئيسه رومان كلوكوفيسكي، على مجموعة الأبحاث التي نشرها المركز عن الخيار النووي الإسرائيلي، وحقيقة التورط الأمريكي في برنامج القنبلة الذَّرية الإسرائيلية، وطبيعة التعاون النووي بين إسرائيل وجنوب إفريقيا.
وقبل أن أعود إلى القاهرة، كان في نيويورك من الأصدقاء، من وعد بموافاتي بالكتب الجديدة التي ستصدر بعد سفري، لكن يبدو أن بُعد المسافة حرَّر البعض مما التزم، على أن ما أرسله البعض الآخر غطّى وفاض.
باريس، لندن، شرم الشيخ، فيينا، واشنطن، لوس أنجلوس... مشوار طويل استغرق سنوات، ولست أحاول استعراضه من باب ابتزاز المشاعر أو من باب التأثير على القارئ كي يغفر أيَّ تقصير قد يلمسه في الكتاب.
أبدًا...
فهذا أبعد ما يكون عن تفكيري وعن تفكير أي كاتب يتصور نفسه عاقلًا، فالمهم الكتاب نفسه لا ما وراءه.
لكن أقصد من ذلك –إلى جانب المعايشة بين الكاتب والقارئ- أكثر من حقيقة:
1- أن مصادر معلوماتنا عن القضايا التي تهمنا لا تتوافر –للأسف- إلا خارج الحدود دائمًا، ومن ثَمَّ فإننا آخر من يعلم.
2- أن جهد الحصول على المعلومات من الخارج يتضاءل –مهما كان- أمام جهد تنقيتها من شوائب مغرضة، مقصود أن تصل إلينا –على هذا النحو- لتعلق بأذهاننا ولا تتركها.
3- أن الذين يعرفون الحقيقة في بلادنا، يسيطر عليهم هاجس السرَّية مع أن المطلوب منهم تصحيح أو تأكيد أو نفي ما يُنشر عنَّا ويباع في المكتبات، وأكشاك التبغ والصحف، وعلى أرصفة العواصم الغربية.
4- أن خوفًا ما من عقاب غير معروف يشعر به أي شخص، ولو كان عاديًّا، تذهب إليه لتسأله في أي شيء، ولو كان بسيطًا، عن حياة إنسان آخر.
وقد واجهني هذا الخَرَس الممزوج بالقلق وأنا أسأل زملاء وتلاميذ الدكتور المشد –في قسم الهندسة النووية بجامعة الإسكندرية- عنه وعن عمله وعن حياته، فقد أحسوا بأنهم على حافة بحر بلا قرار تسبح فيه أسماك القرش، والذين تجرؤوا منهم وقَبِلوا الكلام تحدثوا –في أفضل الأحوال- بنصف لسان وفتحوا عبارات لم يكملوها مع أنهم أساتذة وعلماء ويعرفون أنه لا حقيقة من دون لسان قوي سليم النطق.
ومن ثَمَّ لم أصدق أن تقبل زوجة الدكتور المشد استقبالي والحديث معي بصراحة قالت من خلالها كل ما عندها.
إنها سيدة شجاعة بطبعها كما أنها –بعد مصرع زوجها- لم تعد تخشى إلا الله وضميرها، وقد تعجبتْ من حماسي للكتابة عن رجل قُتل في مدينة صاخبة لم يتذكره الناس في بلاده، وقالت وهي تجاهد في حبس دموعها «الليل له آخر».
كان ذلك في الإسكندرية، آخر مدينة سافرت إليها بحثًا عن التفاصيل في الشتاء الماضي، وقد وجدت نفسي أمام بحرها الأبعد بكثير من مرمى البصر والأمواج تتلاطم على سطحه، وفي رأسي: لماذا جريت طويلًا وراء هذه القضية؟ هل الدافع خبطة صحفية أصوغها بدماء الضحية؟ هل هو الغيظ الدفين من عدو يصرّ على إذلالنا، وكل ما نفعله هو أن نداري شحوبنا بالمكياج وأضواء الكاميرات، وعناوين الصحف الكاذبة؟ هل قضية اغتيال المشد هي المدخل لقضية أكبر وأخطر؛ قضية اغتيالنا جميعًا بقنبلة إسرائيل النووية؟
تكسّرت أمواج البحر ولم تنكسر أمواج الحيرة في رأسي.
في الإسكندرية أيضًا وعلى بُعد أمتار من شاطئ «العجمي» مددت أكثر من جسر للحوار مع رجل جريء يوصف بالأب الروحي لعلماء الذَّرَّة في عالمنا العربي وكان على علاقة علمية وعائلية بالدكتور يحيى المشد، هو الدكتور عصمت زين الدين.
كانت الشمس قد استدارت وتحولت إلى قرص أحمر يمسّ زُرقة البحر وتستعد للنوم في أحضانه، وعلى الرمال بقايا ثرثرة ومرح ومشاعر ساخنة تركها أصحابها ولم يسع للتخلص منها عمال الشاطئ.
لكن هذا المشهد الناعم سرعان ما أصبح خلف ظهري وأنا أضع كل اهتمامي في خدمة الدكتور زين الدين وهو يمزج ما بين الغضب والأرقام وما بين السياسة والذَّرَّة، ولم يقطع تدفقه سوى حرصه على تأدية صلاة المغرب.
وقد ذهبت إليه لأنني أعرف أنه كان أستاذ الدكتور المشد، ومؤسس قسم الهندسة النووية، وأنه كان من القلائل الذين كلّفهم الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بوضع برنامج طَموح للسلاح النووي مع أنه كان معارضًا للحكم منذ سنة 1968 ولا يزال.
وبعد أن تشبعت وقبل أن أنصرف ألقيتُ نظرة خاطفة على البحر فأحسست بالانقباض، فقد تحول من الفيروز إلى ثياب الرهبان وراحت أمواجه تتكسر على الشاطئ الناعم في لحن جنائزي حزين مخيف، فكان أن سارعت بالبحث عمّا تبقى من التفاصيل.
وقد كنت أجمع هذه التفاصيل كأنها فراشات نادرة حرفًا حرفًا، كلمةً كلمةً، جملةً جملةً، وحاولت قدر استطاعتي دعمها بالصور أحيانًا وبالوثائق أحيانًا أخرى ونسبتها إلى مصادرها دائمًا، وليس من الصعب –بعد ما فات- تحديد نوعية هذه المصادر.
ولا شك في أن هذه المصادر أتاحت لي كميات هائلة من المعلومات، كان من السهل فرزها وتبويبها في ثلاثة اتجاهات، يستقل كل منها بذاته، لكنه يتلامس ويتقاطع ويتداخل مع غيره في النهاية.
اتجاه أول: يقودنا إلى حياة بطل الكتاب الدكتور يحيى المشد؛ طفولته، دراساته، أبحاثه، أسرته، أهميته، أيامه وساعاته الأخيرة ونهايته، كيف ولماذا قُتل؟ مَن قتله؟ والأدلة الجنائية والسياسية على ذلك!
اتجاه ثانٍ: يلقي بنا في طريق القنبلة الذَّرية الإسرائيلية، مَن تحمس لها ودافع عنها؟ مَن صمَّمَها وكان وراءها؟ كيف صُنعت بعيدًا عن عيون العالم؟ ولماذا؟ وكم عدد الموجود منها الآن في «قبو» أو «بدروم» المؤسسة العسكرية الإسرائيلية؟
اتجاه ثالث: يفرض علينا الخوض في مستنقعات المحظور والسير في طريق وعر، طريق البرامج النووية العربية كيف كانت؟ كيف ستصبح؟ هل هي ضرورية؟ لماذا لا تتقدم؟ وما المؤامرات التي فجّرتها؟ ومَن الضحايا الذين استُشهدوا في سبيلها؟
لقد كان حادث اغتيال المشد مثل حجر أُلقي في بحر ساكن راكد ما إن اخترق المياه حتى راحت الدوائر تتسع وتتسع وتتسع.
ومع أن فرز المعلومات الخاصة بكل اتجاه كان يسيرًا لا مشكلات فيه فإن تشابكها كان زمرًا لا مفر منه عند صياغة الكتاب.
فلا يمكن فصل حادث المشد عن حادث المفاعل العراقي.
ولا يمكن فصل حادث المفاعل العراقي عن حوادث الرسائل الملغومة التي أرسلتها المخابرات الإسرائيلية للعلماء الألمان في مصر في الستينيات.
ولا يمكن فصل تلك الحوادث عن إصرار إسرائيل على أن تكون القوة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط.
إنها خيوط غزل مختلفة الألوان لكنها تدخل في نسيج واحد.
لذلك...
سيلحظ القارئ أن فصول الكتاب تعكس هذا النسيج من خلال أسلوب، يُعرف في عالم السينما بالقطع المتوازي، وهو أشبه بقضبان السكة الحديدية، لا تلتقي إلا لتفترق ولا تفترق إلا لتلتقي مع أنها تبدو متوازية متباعدة أحيانًا.
وقد ترددت كثيرًا في استخدام هذا الأسلوب الذي يؤخِّر تواصل الحدث قليلًا ويفتح بابًا قبل أن يسدَّ آخر.
وسرُّ ترددي، كان الخوف من عدم تقبله ربما لأنه غير معتاد في الكتب السياسية ومن النادر اللجوء إليه في الروايات الأدبية.
لكنني حسمت ترددي، وفضلت استعماله مستندًا على ظهر صلب هو فطنة القارئ وتقبله للجديد دائمًا.
وبعد أن انتهيت من الكتابة على هذا النحو سعيت إلى اختبار التجربة بنشر الكتاب على حلقات في مجلة «روزاليوسف» القاهرية وصحيفة «الأنباء» الكويتية خلال شهري يونيو ويوليو الماضيين، وأحمد الله على أن ظني لم يخب.
أيضًا، تراوح رد الفعل بين الحماس لإنصاف عالِمٍ لم يمشِ سوى أسرته في جنازته، والتأييد لكل من يمسح التراب عن الذاكرة القومية ولا يكفّ عن ترديد أن إسرائيل لا تزال عدوًّا وأنها لن تقبلنا على سطح الحياة في الشرق الأوسط إلا راكعين أذلّاء ضعفاء ومتخلفين.
لقد انقلبت الآية تمامًا.
كانت إسرائيل تحلم بالوجود، ثم أصبحت تتمنى أن تحظى بالاعتراف، ثم ها هي ذي تحدِّد من يكون ومن لا يكون.
وما أسعدني أكثر أن الأجيال الصغيرة الشابة هي التي كانت الأسرع والأشد فهمًا لذلك.
وقد فرحوا بأن تنجب مصر نجومًا في العلم أيضًا، لا في الفن فقط، وفرحت مثلهم لأن الناس تعاملت مع ما كتبت، وما نشرتُ عن د.المشد، معاملة نجوم السينما والكرة واستعراضات التليفزيون، وقد تعمدتُ ذلك، فالصور التي حصلت عليها من أسرته وأصدقائه، أفرطت في نشرها: صوره في مراحل العمل المختلفة من الطفولة إلى الجامعة، ومن أيام البعثة في موسكو، إلى أيام العمل في المفاعلات النووية، ومن زمن الشباب إلى زمن الأسرة، وبعض الصور كان جادًّا في مؤتمرات الذَّرَّة الدولية في هيئة الطاقة النووية بأنشاص، وفي زيارات عمل للندن وأوسلو، والبعض الآخر كان نادرًا، في النيل يمارس رياضة التجديف، وفي غابات موسكو يلعب الكرة، وفي المطاعم يأكل مع زوجته.
ولو كان الهدف إنصاف عالم عبقري أعطى لوطنه الأصغر ولوطنه الأكبر أكثر مما أخذ، فقد نجح الكتاب.
فقبل نشر أجزاء منه في الصحافة كان الدكتور المشد غير معروف إلا لجيرانه وتلاميذه وزملائه والمهتمين بالذَّرَّة، وبعض المثقفين من مختلف التخصصات، وكان ذكر اسمه يقترن دائمًا –من باب التعريف الإجباري- بعبارة «عالم الذَّرَّة المصري الذي قُتل في باريس»، فموته –على هذا النحو- كان عنصر شهرته الوحيد.
وأحمد الله أن اسمه الآن يُذكر دون إضافة أو تعريف، يكفي الآن أن نقول د.يحيى المشد أو د.المشد.
ولو كان الهدف التحذير من ضياع علماء مصر والتخلص منهم بواسطة أجهزة المخابرات السرية -المعادية، فأحسب أن هذا الهدف قد تحقق هو الآخر.
فقبل أن تُنهي «روزاليوسف» الأجزاء التي اتفقت عليها، وقع حادث عالم الإلكترونيات سعيد السيد بدير (ابن الفنان والسيناريست السيد بدير من أولى زوجاته) في حي كامب شيزار بالإسكندرية نحو الساعة السابعة من مساء الخميس 13 يوليو 1989 وكان ذلك اليوم أول أيام عيد الأضحى.
قيل إنه انتحر، ونفت زوجته وأصرّت على أنه قُتل، وكان أن سعت اجتهادات صحفية متنوعة للتدليل على أن «الموساد» تخلص منه.
وكان أن كثر الحديث عن اغتيال العلماء بدايةً من سميرة موسى ونهايةً بسعيد بدير، وفي تلك الرحلة كان اسم المشد حاضرًا بارزًا.
كذلك، فإن ما نُشر كان أشبه بشِبَاك الصيد، فقد طرق بابي مَن أضاف الكثير من المعلومات والوثائق.
كما أن الذين سبق وتكلموا أحسوا بمزيد من الثقة فكان أن أباحوا بما أخفوه من قبل.
ولأن الشكر واجب فأنا مدين به لعدد كبير من البشر لولاهم ما كان هذا الكتاب، ومنهم أخص السيدة زنوبة علي الخشخاني زوجة الدكتور يحيى المشد، والدكتور عصمت زين الدين، والصحفي الأمريكي ستيفن جرين، والدكتور عبد المنعم سعيد الخبير بمركز الدراسات الاستراتيجية بمؤسسة «الأهرام»، والصحفية الفلسطينية أسماد الأفغاني، والأستاذ المترجم صبحي مشرقي، والدكتور رومان كلوكوفيسكي، والبروفيسور سيجفريد آرنيه كلود، رئيس وكالة الطاقة الذَّرية الأسبق.. ❝ ⏤عادل حمودة
❞ في يونيو 1982 سافرت في رحلة طويلة إلى الولايات المتحدة.
لم تكن الرحلة بحثًا عن الذَّرَّة لكنها كانت بحثًا عن البشر والحياة في دولة عظمى تُعاملنا على طريقة «لعبة الأمم» وتَعدّ رجال مخابراتها وجنرالاتها وجواسيسها أفضل خبراء في «الزواج المثالي» بينها وبين العالم الثالث.
لكن لأن الموضوع الذي لا يحسمه الصحفي يصبح مثل شوكة في بطنه ومثل خنجر في ضلوعه ومثل زائدة دودية ملتهبة، فقد وجدت نفسي أشمشم بأنفي عمّا أريد في معهد دراسات الشرق الأوسط، ومعهد الدراسات السياسية والاستراتيجية في واشنطن –العاصمة- وقدمتْ لي مستشارة الرئيس الأمريكي لشؤون الإسلام سستر كوفي، نصائح وأبحاثًا، من الإنصاف أن أذكر أنها كانت مفيدة وربما أكثر من ذلك.
وبعيدًا عن كل تعصب وطني، وقومي، أقول إن الباحثين هم الوجه العاقل في أمريكا، لكن الكارثة أنه لا أحد يسمع صوتهم إلا بعد فوات الأوان، إن لهم حرية التفكير، وللمسؤولين عن السياسة الخارجية حرية الاشمئناط وحرية ارتكاب الحماقات.
وقد تضاعف اقتناعي بذلك في لوس أنجلوس، بعد أن زرت مركز أبحاث الأمن والسلاح التابع لجامعة كاليفورنيا، وحصلت من رئيسه رومان كلوكوفيسكي، على مجموعة الأبحاث التي نشرها المركز عن الخيار النووي الإسرائيلي، وحقيقة التورط الأمريكي في برنامج القنبلة الذَّرية الإسرائيلية، وطبيعة التعاون النووي بين إسرائيل وجنوب إفريقيا.
وقبل أن أعود إلى القاهرة، كان في نيويورك من الأصدقاء، من وعد بموافاتي بالكتب الجديدة التي ستصدر بعد سفري، لكن يبدو أن بُعد المسافة حرَّر البعض مما التزم، على أن ما أرسله البعض الآخر غطّى وفاض.
باريس، لندن، شرم الشيخ، فيينا، واشنطن، لوس أنجلوس.. مشوار طويل استغرق سنوات، ولست أحاول استعراضه من باب ابتزاز المشاعر أو من باب التأثير على القارئ كي يغفر أيَّ تقصير قد يلمسه في الكتاب.
أبدًا..
فهذا أبعد ما يكون عن تفكيري وعن تفكير أي كاتب يتصور نفسه عاقلًا، فالمهم الكتاب نفسه لا ما وراءه.
لكن أقصد من ذلك –إلى جانب المعايشة بين الكاتب والقارئ- أكثر من حقيقة:
1- أن مصادر معلوماتنا عن القضايا التي تهمنا لا تتوافر –للأسف- إلا خارج الحدود دائمًا، ومن ثَمَّ فإننا آخر من يعلم.
2- أن جهد الحصول على المعلومات من الخارج يتضاءل –مهما كان- أمام جهد تنقيتها من شوائب مغرضة، مقصود أن تصل إلينا –على هذا النحو- لتعلق بأذهاننا ولا تتركها.
3- أن الذين يعرفون الحقيقة في بلادنا، يسيطر عليهم هاجس السرَّية مع أن المطلوب منهم تصحيح أو تأكيد أو نفي ما يُنشر عنَّا ويباع في المكتبات، وأكشاك التبغ والصحف، وعلى أرصفة العواصم الغربية.
4- أن خوفًا ما من عقاب غير معروف يشعر به أي شخص، ولو كان عاديًّا، تذهب إليه لتسأله في أي شيء، ولو كان بسيطًا، عن حياة إنسان آخر.
وقد واجهني هذا الخَرَس الممزوج بالقلق وأنا أسأل زملاء وتلاميذ الدكتور المشد –في قسم الهندسة النووية بجامعة الإسكندرية- عنه وعن عمله وعن حياته، فقد أحسوا بأنهم على حافة بحر بلا قرار تسبح فيه أسماك القرش، والذين تجرؤوا منهم وقَبِلوا الكلام تحدثوا –في أفضل الأحوال- بنصف لسان وفتحوا عبارات لم يكملوها مع أنهم أساتذة وعلماء ويعرفون أنه لا حقيقة من دون لسان قوي سليم النطق.
ومن ثَمَّ لم أصدق أن تقبل زوجة الدكتور المشد استقبالي والحديث معي بصراحة قالت من خلالها كل ما عندها.
إنها سيدة شجاعة بطبعها كما أنها –بعد مصرع زوجها- لم تعد تخشى إلا الله وضميرها، وقد تعجبتْ من حماسي للكتابة عن رجل قُتل في مدينة صاخبة لم يتذكره الناس في بلاده، وقالت وهي تجاهد في حبس دموعها «الليل له آخر».
كان ذلك في الإسكندرية، آخر مدينة سافرت إليها بحثًا عن التفاصيل في الشتاء الماضي، وقد وجدت نفسي أمام بحرها الأبعد بكثير من مرمى البصر والأمواج تتلاطم على سطحه، وفي رأسي: لماذا جريت طويلًا وراء هذه القضية؟ هل الدافع خبطة صحفية أصوغها بدماء الضحية؟ هل هو الغيظ الدفين من عدو يصرّ على إذلالنا، وكل ما نفعله هو أن نداري شحوبنا بالمكياج وأضواء الكاميرات، وعناوين الصحف الكاذبة؟ هل قضية اغتيال المشد هي المدخل لقضية أكبر وأخطر؛ قضية اغتيالنا جميعًا بقنبلة إسرائيل النووية؟
تكسّرت أمواج البحر ولم تنكسر أمواج الحيرة في رأسي.
في الإسكندرية أيضًا وعلى بُعد أمتار من شاطئ «العجمي» مددت أكثر من جسر للحوار مع رجل جريء يوصف بالأب الروحي لعلماء الذَّرَّة في عالمنا العربي وكان على علاقة علمية وعائلية بالدكتور يحيى المشد، هو الدكتور عصمت زين الدين.
كانت الشمس قد استدارت وتحولت إلى قرص أحمر يمسّ زُرقة البحر وتستعد للنوم في أحضانه، وعلى الرمال بقايا ثرثرة ومرح ومشاعر ساخنة تركها أصحابها ولم يسع للتخلص منها عمال الشاطئ.
لكن هذا المشهد الناعم سرعان ما أصبح خلف ظهري وأنا أضع كل اهتمامي في خدمة الدكتور زين الدين وهو يمزج ما بين الغضب والأرقام وما بين السياسة والذَّرَّة، ولم يقطع تدفقه سوى حرصه على تأدية صلاة المغرب.
وقد ذهبت إليه لأنني أعرف أنه كان أستاذ الدكتور المشد، ومؤسس قسم الهندسة النووية، وأنه كان من القلائل الذين كلّفهم الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بوضع برنامج طَموح للسلاح النووي مع أنه كان معارضًا للحكم منذ سنة 1968 ولا يزال.
وبعد أن تشبعت وقبل أن أنصرف ألقيتُ نظرة خاطفة على البحر فأحسست بالانقباض، فقد تحول من الفيروز إلى ثياب الرهبان وراحت أمواجه تتكسر على الشاطئ الناعم في لحن جنائزي حزين مخيف، فكان أن سارعت بالبحث عمّا تبقى من التفاصيل.
وقد كنت أجمع هذه التفاصيل كأنها فراشات نادرة حرفًا حرفًا، كلمةً كلمةً، جملةً جملةً، وحاولت قدر استطاعتي دعمها بالصور أحيانًا وبالوثائق أحيانًا أخرى ونسبتها إلى مصادرها دائمًا، وليس من الصعب –بعد ما فات- تحديد نوعية هذه المصادر.
ولا شك في أن هذه المصادر أتاحت لي كميات هائلة من المعلومات، كان من السهل فرزها وتبويبها في ثلاثة اتجاهات، يستقل كل منها بذاته، لكنه يتلامس ويتقاطع ويتداخل مع غيره في النهاية.
اتجاه أول: يقودنا إلى حياة بطل الكتاب الدكتور يحيى المشد؛ طفولته، دراساته، أبحاثه، أسرته، أهميته، أيامه وساعاته الأخيرة ونهايته، كيف ولماذا قُتل؟ مَن قتله؟ والأدلة الجنائية والسياسية على ذلك!
اتجاه ثانٍ: يلقي بنا في طريق القنبلة الذَّرية الإسرائيلية، مَن تحمس لها ودافع عنها؟ مَن صمَّمَها وكان وراءها؟ كيف صُنعت بعيدًا عن عيون العالم؟ ولماذا؟ وكم عدد الموجود منها الآن في «قبو» أو «بدروم» المؤسسة العسكرية الإسرائيلية؟
اتجاه ثالث: يفرض علينا الخوض في مستنقعات المحظور والسير في طريق وعر، طريق البرامج النووية العربية كيف كانت؟ كيف ستصبح؟ هل هي ضرورية؟ لماذا لا تتقدم؟ وما المؤامرات التي فجّرتها؟ ومَن الضحايا الذين استُشهدوا في سبيلها؟
لقد كان حادث اغتيال المشد مثل حجر أُلقي في بحر ساكن راكد ما إن اخترق المياه حتى راحت الدوائر تتسع وتتسع وتتسع.
ومع أن فرز المعلومات الخاصة بكل اتجاه كان يسيرًا لا مشكلات فيه فإن تشابكها كان زمرًا لا مفر منه عند صياغة الكتاب.
فلا يمكن فصل حادث المشد عن حادث المفاعل العراقي.
ولا يمكن فصل حادث المفاعل العراقي عن حوادث الرسائل الملغومة التي أرسلتها المخابرات الإسرائيلية للعلماء الألمان في مصر في الستينيات.
ولا يمكن فصل تلك الحوادث عن إصرار إسرائيل على أن تكون القوة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط.
إنها خيوط غزل مختلفة الألوان لكنها تدخل في نسيج واحد.
لذلك..
سيلحظ القارئ أن فصول الكتاب تعكس هذا النسيج من خلال أسلوب، يُعرف في عالم السينما بالقطع المتوازي، وهو أشبه بقضبان السكة الحديدية، لا تلتقي إلا لتفترق ولا تفترق إلا لتلتقي مع أنها تبدو متوازية متباعدة أحيانًا.
وقد ترددت كثيرًا في استخدام هذا الأسلوب الذي يؤخِّر تواصل الحدث قليلًا ويفتح بابًا قبل أن يسدَّ آخر.
وسرُّ ترددي، كان الخوف من عدم تقبله ربما لأنه غير معتاد في الكتب السياسية ومن النادر اللجوء إليه في الروايات الأدبية.
لكنني حسمت ترددي، وفضلت استعماله مستندًا على ظهر صلب هو فطنة القارئ وتقبله للجديد دائمًا.
وبعد أن انتهيت من الكتابة على هذا النحو سعيت إلى اختبار التجربة بنشر الكتاب على حلقات في مجلة «روزاليوسف» القاهرية وصحيفة «الأنباء» الكويتية خلال شهري يونيو ويوليو الماضيين، وأحمد الله على أن ظني لم يخب.
أيضًا، تراوح رد الفعل بين الحماس لإنصاف عالِمٍ لم يمشِ سوى أسرته في جنازته، والتأييد لكل من يمسح التراب عن الذاكرة القومية ولا يكفّ عن ترديد أن إسرائيل لا تزال عدوًّا وأنها لن تقبلنا على سطح الحياة في الشرق الأوسط إلا راكعين أذلّاء ضعفاء ومتخلفين.
لقد انقلبت الآية تمامًا.
كانت إسرائيل تحلم بالوجود، ثم أصبحت تتمنى أن تحظى بالاعتراف، ثم ها هي ذي تحدِّد من يكون ومن لا يكون.
وما أسعدني أكثر أن الأجيال الصغيرة الشابة هي التي كانت الأسرع والأشد فهمًا لذلك.
وقد فرحوا بأن تنجب مصر نجومًا في العلم أيضًا، لا في الفن فقط، وفرحت مثلهم لأن الناس تعاملت مع ما كتبت، وما نشرتُ عن د.المشد، معاملة نجوم السينما والكرة واستعراضات التليفزيون، وقد تعمدتُ ذلك، فالصور التي حصلت عليها من أسرته وأصدقائه، أفرطت في نشرها: صوره في مراحل العمل المختلفة من الطفولة إلى الجامعة، ومن أيام البعثة في موسكو، إلى أيام العمل في المفاعلات النووية، ومن زمن الشباب إلى زمن الأسرة، وبعض الصور كان جادًّا في مؤتمرات الذَّرَّة الدولية في هيئة الطاقة النووية بأنشاص، وفي زيارات عمل للندن وأوسلو، والبعض الآخر كان نادرًا، في النيل يمارس رياضة التجديف، وفي غابات موسكو يلعب الكرة، وفي المطاعم يأكل مع زوجته.
ولو كان الهدف إنصاف عالم عبقري أعطى لوطنه الأصغر ولوطنه الأكبر أكثر مما أخذ، فقد نجح الكتاب.
فقبل نشر أجزاء منه في الصحافة كان الدكتور المشد غير معروف إلا لجيرانه وتلاميذه وزملائه والمهتمين بالذَّرَّة، وبعض المثقفين من مختلف التخصصات، وكان ذكر اسمه يقترن دائمًا –من باب التعريف الإجباري- بعبارة «عالم الذَّرَّة المصري الذي قُتل في باريس»، فموته –على هذا النحو- كان عنصر شهرته الوحيد.
وأحمد الله أن اسمه الآن يُذكر دون إضافة أو تعريف، يكفي الآن أن نقول د.يحيى المشد أو د.المشد.
ولو كان الهدف التحذير من ضياع علماء مصر والتخلص منهم بواسطة أجهزة المخابرات السرية -المعادية، فأحسب أن هذا الهدف قد تحقق هو الآخر.
فقبل أن تُنهي «روزاليوسف» الأجزاء التي اتفقت عليها، وقع حادث عالم الإلكترونيات سعيد السيد بدير (ابن الفنان والسيناريست السيد بدير من أولى زوجاته) في حي كامب شيزار بالإسكندرية نحو الساعة السابعة من مساء الخميس 13 يوليو 1989 وكان ذلك اليوم أول أيام عيد الأضحى.
قيل إنه انتحر، ونفت زوجته وأصرّت على أنه قُتل، وكان أن سعت اجتهادات صحفية متنوعة للتدليل على أن «الموساد» تخلص منه.
وكان أن كثر الحديث عن اغتيال العلماء بدايةً من سميرة موسى ونهايةً بسعيد بدير، وفي تلك الرحلة كان اسم المشد حاضرًا بارزًا.
كذلك، فإن ما نُشر كان أشبه بشِبَاك الصيد، فقد طرق بابي مَن أضاف الكثير من المعلومات والوثائق.
كما أن الذين سبق وتكلموا أحسوا بمزيد من الثقة فكان أن أباحوا بما أخفوه من قبل.
ولأن الشكر واجب فأنا مدين به لعدد كبير من البشر لولاهم ما كان هذا الكتاب، ومنهم أخص السيدة زنوبة علي الخشخاني زوجة الدكتور يحيى المشد، والدكتور عصمت زين الدين، والصحفي الأمريكي ستيفن جرين، والدكتور عبد المنعم سعيد الخبير بمركز الدراسات الاستراتيجية بمؤسسة «الأهرام»، والصحفية الفلسطينية أسماد الأفغاني، والأستاذ المترجم صبحي مشرقي، والدكتور رومان كلوكوفيسكي، والبروفيسور سيجفريد آرنيه كلود، رئيس وكالة الطاقة الذَّرية الأسبق. ❝