❞ النوبة – تكنيك قديم للتقبية مازال باقياً
ذات صباح في فبراير 1941 غادرت القطار في أسوان ، في صحبة عدد من الطلبة والمدرسين من مدرسة الفنون الجميلة . يقومون برحلة دراسية للمواقع الأثرية ، وانتهزت الفرصة للذهاب معهم لمشاهدة ما ينبغي رؤيته في النوبة .
وكان انطباعي الأول هو عن معمار أسوان نفسها الذي يتصف إلى حد بالغ بعدم التميز . إنها مدينة إقليمية صغيرة ، تبدو كقاهرة رثة مصغرة مزروعة في الريف ؛ نفس واجهات المباني المدّعية ، نفس واجهات الدكاكين المبهرجة ، نفس الجو المعتذر ذو العلاقات السقيمة لشيء لعله قد يصبح جو مدينة . قرحة صغيرة كئيبة للعين ، تتلف المشهد الدرامي البديع للجندل الثاني . لم يكن في أسوان شيء مما أطلبه ؛ وبالتأكيد ما من علامة تشير إلى تلك الإشاعات عن التكنيكات التي أتيت بحثاً عنها . وكان من خيبة أملي أنني كدت أقرر أن ألازم فندقي .
على أني قمت برحلة عبر النهر ، ذلك أن أخي كان قد أخبرني أنني يجب أن ألقي نظرة على القرى التي في الضواحي بدلاً من أسوان نفسها . وما أن دخلت أول قرية ، وهي (( غرب أسوان )) حتى أدركت أنني قد وجدت ما جئت من أجله . كان ذلك عالماً جديداً عليّ ، قرية بأكملها من بيوت رحبة جميلة ، نظيفة ، ومتجانسة
، كل بيت فيها أجمل من البيت التالي . ليس هناك في مصر أي مما يشبه ذلك ، إنها قرية من بلد للأحلام ، لعلها من قرى مدينة قديمة مخبوءة في قلب الصحراء الكبرى – وقد احتفظ بها مهندسها المعماري طيلة القرون بلا تلوث من أي تأثيرات أجنبية ، أو لعلها كانت من أطلنطس * نفسها . لم يكن ثمة أثر لما يحدث عادة في القرية المصرية من حشد تعس للبيوت ، وإنما كل بيت يتلو الآخر سامقاً ، مرتاحاً مسقوفاً سقفاً نظيفاً بقبو من الطوب ، وكل منزل مزين على نحو فريد أنيق حول المدخل بأشغال المخرمات الطوبية Claustra ** ، حليات بارزة وخطية من الطين . أدركت أنني إنما أنظر إلى الأثر الحي الباقي لمعمار التراث المصري ، إلى طريقة بناء
كانت بمثابة نمو طبيعي من المشهد الخلوي الطبيعي ، هي جزء منه بمثل ما تكونه نخلة الدوم في المنطقة . وكان الأمر كرؤيا معمارية من عهود ما قبل السقوط : قبل أن تؤدي النقود ، والصناعة ، والجشع ، والتكبر إلى فصم المعمار عن جذوره الحقيقية في الطبيعة . و إذا كنت قد أحسست بالسعادة ، فإن الرسامين الذين أتوا معي كانوا في حال غامر من النشوة . واتخذوا مجالسهم في كل ركن ، وفضوا لوحات رسمهم، ونصبوا الحوامل ، وأمسكوا لوحات الألوان والفرش وبدأوا العمل ، وأخذوا يحملقون ويصرخون ، ويشيرون ؛ إنها لهدية نادرة نفيسة بالنسبة لأي فنان . وحاولت أثناء ذلك أن أجد من يستطيع أن يخبرني عن المكان الذي يعيش فيه البناءون الذين خلقوا هذه القرية . ولكني ها هانا كنت أقل حظاً ؛ ويبدوا أن كل الرجال كانوا يعيشون بعيداً عن المكان ، ويعملون في المدن ، فلم يكن هناك سوى النساء والأطفال ، وكانوا أشد خجلاً من أن يتحدثوا . وكانت الفتيات يكتفين بالجري بعيداً وهن يكركرن ضاحكات . ولم أتمكن من الحصول على أي معلومة مطلقاً ، وعدت ولم أتمكن من الحصول على أي معلومة مطلقاً ، وعدت إلى أسوان وقد استثيرت شهيتي وإن كانت لم تشبع مطلقاً ، فواصلت بحثي عن بنّاء يعرف سر بناء هذه الأقبية .. ❝ ⏤حسن فتحي
❞ النوبة – تكنيك قديم للتقبية مازال باقياً
ذات صباح في فبراير 1941 غادرت القطار في أسوان ، في صحبة عدد من الطلبة والمدرسين من مدرسة الفنون الجميلة . يقومون برحلة دراسية للمواقع الأثرية ، وانتهزت الفرصة للذهاب معهم لمشاهدة ما ينبغي رؤيته في النوبة .
وكان انطباعي الأول هو عن معمار أسوان نفسها الذي يتصف إلى حد بالغ بعدم التميز . إنها مدينة إقليمية صغيرة ، تبدو كقاهرة رثة مصغرة مزروعة في الريف ؛ نفس واجهات المباني المدّعية ، نفس واجهات الدكاكين المبهرجة ، نفس الجو المعتذر ذو العلاقات السقيمة لشيء لعله قد يصبح جو مدينة . قرحة صغيرة كئيبة للعين ، تتلف المشهد الدرامي البديع للجندل الثاني . لم يكن في أسوان شيء مما أطلبه ؛ وبالتأكيد ما من علامة تشير إلى تلك الإشاعات عن التكنيكات التي أتيت بحثاً عنها . وكان من خيبة أملي أنني كدت أقرر أن ألازم فندقي .
على أني قمت برحلة عبر النهر ، ذلك أن أخي كان قد أخبرني أنني يجب أن ألقي نظرة على القرى التي في الضواحي بدلاً من أسوان نفسها . وما أن دخلت أول قرية ، وهي (( غرب أسوان )) حتى أدركت أنني قد وجدت ما جئت من أجله . كان ذلك عالماً جديداً عليّ ، قرية بأكملها من بيوت رحبة جميلة ، نظيفة ، ومتجانسة
، كل بيت فيها أجمل من البيت التالي . ليس هناك في مصر أي مما يشبه ذلك ، إنها قرية من بلد للأحلام ، لعلها من قرى مدينة قديمة مخبوءة في قلب الصحراء الكبرى – وقد احتفظ بها مهندسها المعماري طيلة القرون بلا تلوث من أي تأثيرات أجنبية ، أو لعلها كانت من أطلنطس * نفسها . لم يكن ثمة أثر لما يحدث عادة في القرية المصرية من حشد تعس للبيوت ، وإنما كل بيت يتلو الآخر سامقاً ، مرتاحاً مسقوفاً سقفاً نظيفاً بقبو من الطوب ، وكل منزل مزين على نحو فريد أنيق حول المدخل بأشغال المخرمات الطوبية Claustra * ، حليات بارزة وخطية من الطين . أدركت أنني إنما أنظر إلى الأثر الحي الباقي لمعمار التراث المصري ، إلى طريقة بناء
كانت بمثابة نمو طبيعي من المشهد الخلوي الطبيعي ، هي جزء منه بمثل ما تكونه نخلة الدوم في المنطقة . وكان الأمر كرؤيا معمارية من عهود ما قبل السقوط : قبل أن تؤدي النقود ، والصناعة ، والجشع ، والتكبر إلى فصم المعمار عن جذوره الحقيقية في الطبيعة . و إذا كنت قد أحسست بالسعادة ، فإن الرسامين الذين أتوا معي كانوا في حال غامر من النشوة . واتخذوا مجالسهم في كل ركن ، وفضوا لوحات رسمهم، ونصبوا الحوامل ، وأمسكوا لوحات الألوان والفرش وبدأوا العمل ، وأخذوا يحملقون ويصرخون ، ويشيرون ؛ إنها لهدية نادرة نفيسة بالنسبة لأي فنان . وحاولت أثناء ذلك أن أجد من يستطيع أن يخبرني عن المكان الذي يعيش فيه البناءون الذين خلقوا هذه القرية . ولكني ها هانا كنت أقل حظاً ؛ ويبدوا أن كل الرجال كانوا يعيشون بعيداً عن المكان ، ويعملون في المدن ، فلم يكن هناك سوى النساء والأطفال ، وكانوا أشد خجلاً من أن يتحدثوا . وكانت الفتيات يكتفين بالجري بعيداً وهن يكركرن ضاحكات . ولم أتمكن من الحصول على أي معلومة مطلقاً ، وعدت ولم أتمكن من الحصول على أي معلومة مطلقاً ، وعدت إلى أسوان وقد استثيرت شهيتي وإن كانت لم تشبع مطلقاً ، فواصلت بحثي عن بنّاء يعرف سر بناء هذه الأقبية. ❝
❞ وعقل أي إنسان هو من التركب بحيث أن قراراته تكون دائماً قرارات فريدة . وتفاعله مع الأشياء من حوله هو أمر خاص به وحده . و إذا كنت في تعاملاتك مع البشر تعتبرهم مجرد جمهور وتلجأ للتجريد ، وتستغل الملامح المشتركة بينهم ، فإنك ستدمر من الملامح المتفردة لكل منهم . إن المعلن الذي يلعب على مظاهر الضعف المشتركة عند البشر ، والصانع الذي يرضي الشهوات المشتركة ، والمدرس الذي يعلّم بردود الفعل المشتركة ، لكل منهم يعمل بطريقته على قتل الروح . ذلك أن كلاً منهم إذا يعطي للملامح المشتركة أكثر مما تستحقه ، يخنق الملامح الفردية بالزحام . صحيح أن الفرد هم مما يجب إلى حدٍٍ ما أن يضحي به للجماهير ، وإلا فإنه لن يكون ثمة مجتمع ، ويموت الإنسان من العزلة ، إلا أنه ينبغي أن يسأل كل الناس أنفسهم ، كيف يمكن إلى التوازن في الشخصية الإنسانية ما بين العوامل المشتركة و الفردية . وقد سادت سيادة عنيفة ، هي غالباً سيادة بلا تحد ، تلك العوامل التي تروج التماثل فمحت من الحياة الحديثة تراث الفردية . فهناك وسائل الاتصالات بالجملة ، والإنتاج بالجملة ، والتعليم بالجملة ، وكلها علامات على مجتمعاتنا الحديثة ، التي سواء كانت شيوعية أو رأسمالية ، فإنها لا تتمايز من هذه النواحي .
والعامل الذي يتحكم في آلة في مصنع لا يضع شيئاً من ذاته في الأشياء التي تصنع الآلة . والمنتجات التي تصنعها الآلة منتجات متماثلة ، غير شخصية ، وبغير مردود سواء بالنسبة لمستخدمها أو لمن يشغل الآلة . أما المنتجات المصنوعة باليد فإنها تستهوينا لأنها تعبر عن مزاج الحرفي . وكل وجه من عدم انتظام أو شذوذ أو اختلاف هو نتيجة لقرار يُتخذ لحظة الإنتاج ، وتغيير التصميم عندما يصيب الحرفي الزهق من تكرار نفس الفكرة ، أو التغيير اللون إذ ينقص ما لديه من أحد الألوان أو الخيوط ، فيه ما يشهد على التفاعل الحي المتواصل بين الإنسان ومواده . والشخص الذي يستخدم الشيء الذي صُنع هكذا سوف يفهم شخصية الحرفي من خلال أوجه تردده هذه هي ونزواته ، وسيكون هذا الشيء بسبب ذلك جزءاً من بيئته المحيطة له قيمة أكبر .. ❝ ⏤حسن فتحي
❞ وعقل أي إنسان هو من التركب بحيث أن قراراته تكون دائماً قرارات فريدة . وتفاعله مع الأشياء من حوله هو أمر خاص به وحده . و إذا كنت في تعاملاتك مع البشر تعتبرهم مجرد جمهور وتلجأ للتجريد ، وتستغل الملامح المشتركة بينهم ، فإنك ستدمر من الملامح المتفردة لكل منهم . إن المعلن الذي يلعب على مظاهر الضعف المشتركة عند البشر ، والصانع الذي يرضي الشهوات المشتركة ، والمدرس الذي يعلّم بردود الفعل المشتركة ، لكل منهم يعمل بطريقته على قتل الروح . ذلك أن كلاً منهم إذا يعطي للملامح المشتركة أكثر مما تستحقه ، يخنق الملامح الفردية بالزحام . صحيح أن الفرد هم مما يجب إلى حدٍٍ ما أن يضحي به للجماهير ، وإلا فإنه لن يكون ثمة مجتمع ، ويموت الإنسان من العزلة ، إلا أنه ينبغي أن يسأل كل الناس أنفسهم ، كيف يمكن إلى التوازن في الشخصية الإنسانية ما بين العوامل المشتركة و الفردية . وقد سادت سيادة عنيفة ، هي غالباً سيادة بلا تحد ، تلك العوامل التي تروج التماثل فمحت من الحياة الحديثة تراث الفردية . فهناك وسائل الاتصالات بالجملة ، والإنتاج بالجملة ، والتعليم بالجملة ، وكلها علامات على مجتمعاتنا الحديثة ، التي سواء كانت شيوعية أو رأسمالية ، فإنها لا تتمايز من هذه النواحي .
والعامل الذي يتحكم في آلة في مصنع لا يضع شيئاً من ذاته في الأشياء التي تصنع الآلة . والمنتجات التي تصنعها الآلة منتجات متماثلة ، غير شخصية ، وبغير مردود سواء بالنسبة لمستخدمها أو لمن يشغل الآلة . أما المنتجات المصنوعة باليد فإنها تستهوينا لأنها تعبر عن مزاج الحرفي . وكل وجه من عدم انتظام أو شذوذ أو اختلاف هو نتيجة لقرار يُتخذ لحظة الإنتاج ، وتغيير التصميم عندما يصيب الحرفي الزهق من تكرار نفس الفكرة ، أو التغيير اللون إذ ينقص ما لديه من أحد الألوان أو الخيوط ، فيه ما يشهد على التفاعل الحي المتواصل بين الإنسان ومواده . والشخص الذي يستخدم الشيء الذي صُنع هكذا سوف يفهم شخصية الحرفي من خلال أوجه تردده هذه هي ونزواته ، وسيكون هذا الشيء بسبب ذلك جزءاً من بيئته المحيطة له قيمة أكبر. ❝