❞ المثقفون لهم اعتراض تقليدي على مسألة البعث والعقاب ..
فهم يقولون : كيف يعذبنا الله والله محبة ؟
وينسى الواحد منهم أنه قد يحب ابنه كل الحب ومع ذلك يعاقبه بالضرب والحرمان من المصروف والتأديب والتعنيف .. وكلما ازداد حبه لابنه كلما ازداد اهتمامه بتأديبه ..
ولو أنه تهاون في تربيته لاتّهمه الناس في حبه لابنه ولقالوا عنه إنه أب مهمل لا يرعى أبناءه الرعاية الكافية .. فما بال الرب وهو المربي الأعظم .. وكلمة الرب مشتقة من التربية .
والواقع أن عبارة (( الله محبة )) عبارة فضفاضة يسيء الكثيرون فهمها ويُحمِّلونها معنى مطلقًا .. ويتصورون أن الله محبة على الإطلاق .. وهذا غير صحيح .
فهل الله يحب الظلم مثلاً ؟!
مستحيل ..
مستحيل أن يحب الله الظلم والظالمين .. وأن يستوي في نظره ظالم ومظلوم .. وهذا التصور للقوة الإلهية .. هو فوضى فكرية ..
ويلزم فعلًا أن يكون لله العلو المطلق على كل الظالمين , وأن يكون جبارًا مطلقًا يملك الجبروت على كل الجبارين .. وأن يكون متكبرًا على المتكبرين مُذِلًّا للمُذِلين قويًا على جميع الأقوياء .. وأن يكون الحَكم العدل الذي يضع كل إنسان في رتبته ومقامه .
وبمقتضى ما نرى حولنا من انضباط القوانين في المادة والفضاء والسماوات يكون استنتاجنا للعدل الإلهي استنتاجًا سليمًا يعطي الصفة لموصوفها ..
وكل البيِّنات تحت أيدينا تقوم لتؤكد صفة العدل الإلهي والنظام والحكمة والتدبير .
والذين ينكرون النظام والعدل هم الذين يحتاجون إلى إقامة البرهان وإلى تقديم الدليل على إنكارهم .. وليس الذين يؤمنون بالنظام .
أما الذين ينكرون العذاب على إطلاقه وينكرون أن الإنسان مربوب تعلو عليه قوة أعلى منه وقوانين أعلى منه ندعوهم إلى نظرة في أحوال عالَمَهم الأرضي .. نظرة في الدنيا دون حاجة إلى افتراض آخره .
ولا أحد لم يجرب ألم الضرس الذي يخرق الدماغ ويشق الرأس كالمنشار . والمغص الكلوي والصداع الشقي وألم الغضروف وسل العظام وهي ألوان من الجحيم يعرفها من أَلقى به سوء حظه إلى تجربتها .
وزيارة لعنبر المحروقين في القصر العيني سوف تقنع المشاهد بأن هناك فارقًا كبيرًا بين رجل محروق مشوه يصرخ في الضمادات , وبين حال رجل يرشف فنجان شاي في استرخاء ولذة على شاطئ النيل وإلى جواره حسناء تلاطفه .
إن العذاب حقيقة ملموسة .
والإنسان مربوب بقوة أعلى منه وهو عديم الحيلة في قبضة تلك القوة . ويستوي الأمر أن يسمي المؤمن هذه القوة .. (( الله )) وأن يسميها الملحد (( الطبيعة )) أو (( القوانين الطبيعية )) أو (( قانون القوانين )) فما هذه إلا سفسطة لفظية ..
المهم أنه لم يجد بدّاً من الإعتراف بأن هناك قوة تعلو على الإنسان وعلى الحوادث .. وأن هذه القوة تعذب وتنكل .
وأصحاب المشاعر الرقيقة الذين يتأففون من تصور الله جبارًا معذِبًا .. علينا أن نذكِّرَهم بما كان يفعله الخليفة التركي حينما يصدر حكم الإعدام بالخازوق على أعدائه .. وما كان يفعله الجلاد المنوط به تنفيذ الحكم حينما كان يلقي بالضحية على بطنه ثم يدخل في الشرج خازوقاً ذا رأس حديدية مدببة يظل يُدَق ببطء حتى تتهتك جميع الأحشاء ويخرج الخازوق من الرقبة .. وكيف أنه كان من واجب الجلاد أن يحتفظ بضحيته حيّاً حتى يخرج الخازوق من رقبته ليشعر بجميع الآلام الضرورية .
وأفظع من ذلك أن تفقأ عيون الأسرى بالأسياخ المحمية في النار .
مثل هؤلاء الجبارين هل من المفروض أن يقدم لهم الله حفلة شاي لأن الله محبة ؟!
بل إن جهنم هي منتهى المحبة ما دامت لا توجد وسيلة غيرها لتعريف هؤلاء بأن هناك إلهًا عادلًا .
وهي رحمة من حيث كونها تعريفًا وتعليمًا لمن رفض أن يتعلم من جميع الكتب والرسل , وللذين كذَّبوا حتى أوَّليات العقل وبداهات الإنسانية .
أيكون عدلًا أن يقتل هتلر عشرين مليونًا في حرب عالمية .. يسلخ فيها عماله الأسرى ويعدمون الألوف منهم في غرف الغاز ويحرقونهم في المحارق .. ثم عند الهزيمة ينتحر هتلر هاربًا وفارّاً من مواجهة نتيجة أعماله .
إن العبث وحده وأن يكون العالَم عبثًا في عبث هو الذي يمكن أن ينجي هذا القاتل الشامل من ذنبه .
ولا شيء حولنا في هذا العالَم المنضبط الجميل يدل على العبث .. وكل شيء من أكبر النجوم إلى أدق الذرّات ينطق بالنظام والضبط والإحكام . ولا يكون الله محبة .. ولا يكون عادلاً .. إلا إذا وضع هذا الرجل في هاوية أعماله .
عن العاقل الفطن المتأمل لن يحتاج إلى فلسفة ليدرك حقيقة العذاب فإنه سوف يكتشف نذر هذا العذاب في نفسه داخل ضميره .. وفي عيون المذنبين ونظرات القتلة .. وفي دموع المظلومين وآلام المكلومين وفي ذل الأسرى وجبروت المنتصرين وفي حشرجة المحتضرين .
وهو سوف يدرك العذاب والحساب حينما يحتويه الندم .
والندم هو صوت الفطرة لحظة الخطأ .
وهو القيامة الصغرى والجحيم الأصغر وهو نموذج من الدينونة .
وهو إشارة الخطر التي تضيء في داخل النفس لتدل على أن هناك ميزانًا للأعمال .. وأن هناك حقّاً وباطلًا .. ومَن كان على الحق فهو على صراط وقلبه مطمئن .. ومن كان على باطل فهو في هاوية الندم وقلبه كليم .
وعذاب الدنيا دائمًا نوع من التقويم .. وكذلك على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمم .. فهزيمة 67 في سيناء كانت درسًا , كما أن رسوب الطالب يكون درسًا – كما أن آلام المرض واعتلال الصحة هي لمن عاش , حياة الإسراف والترف والرخاوة والمتعة درس .
والعذاب يجلو صدأ النفس و يصقل معدنها .
ولا نعرف نبيّاً أو مصلحًا أو فنانًا أو عبقريّاً إلا وقد ذاق أشد العذاب مرضًا أو فقرًا أو إضطهادًا .
والعذاب من هذه الزاوية محبة .. وهو الضريبة التي يلزم دفعها للإنتقال إلى درجة أعلى .
وإذا خفيت عنا الحكمة في العذاب أحيانًا فلأننا لا ندرك كل شيء ولا نعرف كل شيء من القصة إلا تلك الرحلة المحدودة بين قوسين التي إسمها الدنيا ..
أما ما قبل ذلك وما بعد ذلك فهو بالنسبة لنا غيب محجوب , ولذا يجب أن نصمت في احترام ولا نطلق الأحكام .
أما كيفيات العذاب بعد البعث فلا يمكن القطع فيها تفصيلًا لأن الآخرة كلها غيب .. ويمكن أن يكون ما ورد في الكتب المقدسة بهذا الشأن رموزًا وإشارات .. كما نقول للصبي الذي لم يدرك البلوغ حينما يسألنا عن اللذة الجنسية إنها مثل السكر أو العسل لأننا لا نجد في قاموس خبراته شيئًا غير ذلك .. ولأن تلك اللذة بالنسبة له غيب لا يمكن وصفه بكلمات من محصوله اللغوي فهي خبرة لم يجربها إطلاقًا , وبالمثل الجنة والجحيم هي خبرات بالنسبة لنا .. غيب .. ولا يمكن وصفها بكلمات من قاموسنا الدنيوي .. وكل ما يمكن هو إيراد أوصاف على سبيل التقريب مثل النار أو الحدائق الغناء التي تجري من تحتها الأنهار .. أما ما سوف يحدث فهو شيء يفوق بكثير كل هذه الأوصاف التقريبية مما لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر .
ويمكن أن يقال دون خطأ إن جهنم هي المقام الأسفل بكل ما يستتبع ذلك المقام من عذاب حسي ومعنوي .. وأن الجنة هي المقام الأعلى بكل ما يستتبع ذلك المقام من نعيم حسي ومعنوي .
والصوفية يقولون إن جهنم هي مقام البعد ( البعد عن الله ) والحَجب عن الله .. والجنة هي مقام القرب بكل ما يتبع ذلك القرب من سعادة لا يمكن وصفها .
(( و مَنْ كانَ في هَذِهِ أعمَْى فَهوَ في الآخرة أعْمى وأضَلُّ سبيلاً )) . والعمى هنا هو عمى البصيرة .
إنها إذن أشبه بما نرى من درجات ومقامات وتفاوت بين أعمى وبصير . ومهتد وضال . ولكن في الآخرة سوف يكون التفاوت عظيمًا .
(( انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا )) .. (الإسراء – 21)
لدرجة أن من سيكون في المقام الأسفل سيكون حاله حال من في النار وأسوأ .. إنه قانون التفاضل الذي يحكم الوجود كله دنيا وآخره ملكًا وملكوتًا غيبًا وشهودًا .
لكل واحد رتبة واستحقاق ومقام ودرجة .. ولا يستوي اثنان .
ولا يكون الإنتقال من درجة إلى درجة إلا مقابل جهد وعمل واختبار وابتلاء .. ومن كان في الدنيا في أحط الدرجات من عمى البصيرة فسيكون حاله في الآخرة في أحط الدرجات أيضاً .
وهذا عين العدل .. أن يوضع كل إنسان في مكانه ودرجته واستحقاقه .. وهذا ما يحدث في الدنيا ظلمًا وهو ما سوف يحدث في الآخرة عدلًا .
والعذاب بهذا المعنى عدل .
والثواب عدل .
وكلاهما من مقتضيات الضرورة .
أن يكون الحديد الصلب غاية في الصلابة فيصنع منه الموتور .
ويكون الكاوتشوك رخوًا فتصنع منه العجلات .
ويكون القش رخيصًا فتصنع منه رأس المكنسة .
ويكون القش رخيصًا فتصنع منه رأس المكنسة .
وأن يكون القطن الفاخر لصناعة الوسائد .. والقطن الرديء لتسليك البالوعات .
وهذه بداهات وأوليات تقول بها الفطرة والمنطق السوي ولا تحتاج إلى تدبيج مقالات في الفلسفة ولا إلى رص حيثيات ومسببات .
ولهذا كانت الأديان كلها مقولة فطرية .. لا تحتمل الجدل ولا تحتمل التكذيب .. ولهذا كانت حقيقة مطلقة تقبلها العقول السوية التي لم تفسدها لفلفات الفلسفة والسفسطة .. والتي احتفظت ببكارتها ونقاوتها وبرئَت من داء العناد والمكابرة .
ولهذا يقول الصوفي إن الله لا يحتاج إلى دليل بل إن الله هو الدليل الذي يستدل به على كل شيء .
هو الثابت الذي نعرف به المتغيرات .
وهو الجوهر الذي ندرك به اختلاف الظواهر .
وهو البرهان الذي ندرك به حكمة العالم الزائل .
أما العقل الذي يطلب برهاناً على وجود الله فهو عقل فقد التعقل .
فالنور يكشف لنا الأشياء ويدلنا عليها .
ولا يمكن أن تكون الأشياء هي دليلنا على النور وإلا نكون قد قلبنا الأوضاع .. كمن يسير في ضوء النهار ثم يقول .. أين دليلك على أن الدنيا نهار .. أثبت لي بالبرهان .
ومن فقد سلامة الفطرة وبكارة القلب .. ولم يبق له إلا الجدل وتلافيف المنطق وعلوم الكلام .. فقد فقدَ كل شيء وسوف يطول به المطاف .. ولن يصل أبداً .
ومثل الذي يحتج على العذاب الدنيوي ويتبرم ويتسخط ويلعن الحياة وقول إنها حياة لا تحتمل وإنه يرفضها وإن أحداً لم يأخذ رأيه قبل أن يولد وإنه خلق قهراً وحكم عليه بالعذاب جبراً وإن هذا ظلم فادح .
مثل هذا الرفض الساخط مثل الفنان الذي يؤدي دوراً في مسرحية .. ويقتضي الدور أن يتلقى الضرب والركل كل يوم أما المتفرجين .
لو أن هذا الممثل فقد الذاكرة ولم ير شريط حياته إلا أمام هذا الدور الذي يؤديه بين قوسين على خشبة المسرح كل يوم .. فإنه سوف يحتج .. رافضاً أن يتلقى العذاب .. ويقول إن أحداً لم يأخذ رأيه وإنه خلق قهراً وحكم عليه بالعذاب جبراً وقضي عليه بالإهانة أمام الناس بدون مبرر معقول وبدون اختيار منه منذ البداية .
وسوف ينسى هذا الممثل أنه كان هناك اتفاق قبل بدء الرواية .. وكان هناك تكليف من المخرج ثم قبول للتكليف من جانب الممثل .. ثم عهد وميثاق على تنفيذ المطلوب .. كل هذا تم في حرية قبل أن يبدأ العرض .. وارتضى الممثل دوره اختياراً .. بل إنه أحب دوره وسعى إليه .
ولكن الممثل قد نسي تماماً هذه الحقبة الزمنية قبل الوقوف على خشبة المسرح .. ومن هنا تحولت حياته بما فيها من تكاليف وآلام إلى علامة استفهام ولغز غير مفهوم .
وهذا شأن الإنسان الذي تصور أن كل حياته هي وجوده بالجسد في هذه اللحظات الدنيوية وأنه هالك ومصيره التراب . وأنه ليس له وجود غير هذا الوجود الثلاثي الأبعاد على خشبة الحياة الدنيا .
نسي هذا الإنسان أنه كان روحاً في الملكوت وأنه جاء على الدنيا بتكليف وأنه قبل هذا التكليف وارتضاه .. وأنه كانت بينه وبين خالقه ( المخرج الأعظم لدراما الوجود ) عهود ومواثيق .. وأنه بعد دراما الوجود الدنيوي يكون البعث والحساب كما أنه بعد المسرحية يكون النقد من النقاد والنجاح والفشل من الجمهور والسقوط في عين النظارة أو الارتفاع في نظرهم .
إنه النسيان والغفلة .
والنظرة الضيقة المحدودة التي تتصور أن الدنيا كل شيء .. هي التي تؤدي إلى ضلال الفكر .. و هي التي تؤدي إلى الحيرة أمام العذاب والشر والألم ...
ومن هنا جاءت تسمية القرآن بأنه .. ذكر .. وتذكير .. وتذكرة .. ليتذكر أولو الألباب .
والنبي هو مذكر .
(( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ , لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ))
( الغاشية 21 – 22 )
الدنيا كلها ليست كل القصة .
إنها فصل في الرواية .. كان لها بدء قبل الميلاد وسيكون لها استمرار بعد الموت .
وفي داخل هذه الرؤية الشاملة يصبح للعذاب معنى ...
يصبح عذاب الدنيا رحمة من الرحيم الذي ينبهنا به حتى لا نغفل ..
إنه محاولة إيقاظ لتتوتر الحواس ويتساءل العقل .. وهو تذكير دائم بأن الدنيا لن تكون ولا يمكن أن تكون جنة .. وإنها مجرد مرحلة ..
وأن الإخلاد إلى ذاتها يؤدي بصاحبه إلى غفلة مهلكة .
إنه العقاب الذي ظاهره العذاب وباطنه الرحمة .
وأما عذاب الآخرة فهو الصحو على الحقيقة وعلى العدل المطلق الذي لا تفوته ذرة الخير ولا ذرة الشر .. وهو اليقين بنظام المنظم الذي أبدع كل شيء صنعًا .
(( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ))
واليقين هنا هو الموت وما وراءه .
~
مقال : لماذا العذاب
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ المثقفون لهم اعتراض تقليدي على مسألة البعث والعقاب .
فهم يقولون : كيف يعذبنا الله والله محبة ؟
وينسى الواحد منهم أنه قد يحب ابنه كل الحب ومع ذلك يعاقبه بالضرب والحرمان من المصروف والتأديب والتعنيف . وكلما ازداد حبه لابنه كلما ازداد اهتمامه بتأديبه .
ولو أنه تهاون في تربيته لاتّهمه الناس في حبه لابنه ولقالوا عنه إنه أب مهمل لا يرعى أبناءه الرعاية الكافية . فما بال الرب وهو المربي الأعظم . وكلمة الرب مشتقة من التربية .
والواقع أن عبارة (( الله محبة )) عبارة فضفاضة يسيء الكثيرون فهمها ويُحمِّلونها معنى مطلقًا . ويتصورون أن الله محبة على الإطلاق . وهذا غير صحيح .
فهل الله يحب الظلم مثلاً ؟!
مستحيل .
مستحيل أن يحب الله الظلم والظالمين . وأن يستوي في نظره ظالم ومظلوم . وهذا التصور للقوة الإلهية . هو فوضى فكرية .
ويلزم فعلًا أن يكون لله العلو المطلق على كل الظالمين , وأن يكون جبارًا مطلقًا يملك الجبروت على كل الجبارين . وأن يكون متكبرًا على المتكبرين مُذِلًّا للمُذِلين قويًا على جميع الأقوياء . وأن يكون الحَكم العدل الذي يضع كل إنسان في رتبته ومقامه .
وبمقتضى ما نرى حولنا من انضباط القوانين في المادة والفضاء والسماوات يكون استنتاجنا للعدل الإلهي استنتاجًا سليمًا يعطي الصفة لموصوفها .
وكل البيِّنات تحت أيدينا تقوم لتؤكد صفة العدل الإلهي والنظام والحكمة والتدبير .
والذين ينكرون النظام والعدل هم الذين يحتاجون إلى إقامة البرهان وإلى تقديم الدليل على إنكارهم . وليس الذين يؤمنون بالنظام .
أما الذين ينكرون العذاب على إطلاقه وينكرون أن الإنسان مربوب تعلو عليه قوة أعلى منه وقوانين أعلى منه ندعوهم إلى نظرة في أحوال عالَمَهم الأرضي . نظرة في الدنيا دون حاجة إلى افتراض آخره .
ولا أحد لم يجرب ألم الضرس الذي يخرق الدماغ ويشق الرأس كالمنشار . والمغص الكلوي والصداع الشقي وألم الغضروف وسل العظام وهي ألوان من الجحيم يعرفها من أَلقى به سوء حظه إلى تجربتها .
وزيارة لعنبر المحروقين في القصر العيني سوف تقنع المشاهد بأن هناك فارقًا كبيرًا بين رجل محروق مشوه يصرخ في الضمادات , وبين حال رجل يرشف فنجان شاي في استرخاء ولذة على شاطئ النيل وإلى جواره حسناء تلاطفه .
إن العذاب حقيقة ملموسة .
والإنسان مربوب بقوة أعلى منه وهو عديم الحيلة في قبضة تلك القوة . ويستوي الأمر أن يسمي المؤمن هذه القوة . (( الله )) وأن يسميها الملحد (( الطبيعة )) أو (( القوانين الطبيعية )) أو (( قانون القوانين )) فما هذه إلا سفسطة لفظية .
المهم أنه لم يجد بدّاً من الإعتراف بأن هناك قوة تعلو على الإنسان وعلى الحوادث . وأن هذه القوة تعذب وتنكل .
وأصحاب المشاعر الرقيقة الذين يتأففون من تصور الله جبارًا معذِبًا . علينا أن نذكِّرَهم بما كان يفعله الخليفة التركي حينما يصدر حكم الإعدام بالخازوق على أعدائه . وما كان يفعله الجلاد المنوط به تنفيذ الحكم حينما كان يلقي بالضحية على بطنه ثم يدخل في الشرج خازوقاً ذا رأس حديدية مدببة يظل يُدَق ببطء حتى تتهتك جميع الأحشاء ويخرج الخازوق من الرقبة . وكيف أنه كان من واجب الجلاد أن يحتفظ بضحيته حيّاً حتى يخرج الخازوق من رقبته ليشعر بجميع الآلام الضرورية .
وأفظع من ذلك أن تفقأ عيون الأسرى بالأسياخ المحمية في النار .
مثل هؤلاء الجبارين هل من المفروض أن يقدم لهم الله حفلة شاي لأن الله محبة ؟!
بل إن جهنم هي منتهى المحبة ما دامت لا توجد وسيلة غيرها لتعريف هؤلاء بأن هناك إلهًا عادلًا .
وهي رحمة من حيث كونها تعريفًا وتعليمًا لمن رفض أن يتعلم من جميع الكتب والرسل , وللذين كذَّبوا حتى أوَّليات العقل وبداهات الإنسانية .
أيكون عدلًا أن يقتل هتلر عشرين مليونًا في حرب عالمية . يسلخ فيها عماله الأسرى ويعدمون الألوف منهم في غرف الغاز ويحرقونهم في المحارق . ثم عند الهزيمة ينتحر هتلر هاربًا وفارّاً من مواجهة نتيجة أعماله .
إن العبث وحده وأن يكون العالَم عبثًا في عبث هو الذي يمكن أن ينجي هذا القاتل الشامل من ذنبه .
ولا شيء حولنا في هذا العالَم المنضبط الجميل يدل على العبث . وكل شيء من أكبر النجوم إلى أدق الذرّات ينطق بالنظام والضبط والإحكام . ولا يكون الله محبة . ولا يكون عادلاً . إلا إذا وضع هذا الرجل في هاوية أعماله .
عن العاقل الفطن المتأمل لن يحتاج إلى فلسفة ليدرك حقيقة العذاب فإنه سوف يكتشف نذر هذا العذاب في نفسه داخل ضميره . وفي عيون المذنبين ونظرات القتلة . وفي دموع المظلومين وآلام المكلومين وفي ذل الأسرى وجبروت المنتصرين وفي حشرجة المحتضرين .
وهو سوف يدرك العذاب والحساب حينما يحتويه الندم .
والندم هو صوت الفطرة لحظة الخطأ .
وهو القيامة الصغرى والجحيم الأصغر وهو نموذج من الدينونة .
وهو إشارة الخطر التي تضيء في داخل النفس لتدل على أن هناك ميزانًا للأعمال . وأن هناك حقّاً وباطلًا . ومَن كان على الحق فهو على صراط وقلبه مطمئن . ومن كان على باطل فهو في هاوية الندم وقلبه كليم .
وعذاب الدنيا دائمًا نوع من التقويم . وكذلك على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمم . فهزيمة 67 في سيناء كانت درسًا , كما أن رسوب الطالب يكون درسًا – كما أن آلام المرض واعتلال الصحة هي لمن عاش , حياة الإسراف والترف والرخاوة والمتعة درس .
والعذاب يجلو صدأ النفس و يصقل معدنها .
ولا نعرف نبيّاً أو مصلحًا أو فنانًا أو عبقريّاً إلا وقد ذاق أشد العذاب مرضًا أو فقرًا أو إضطهادًا .
والعذاب من هذه الزاوية محبة . وهو الضريبة التي يلزم دفعها للإنتقال إلى درجة أعلى .
وإذا خفيت عنا الحكمة في العذاب أحيانًا فلأننا لا ندرك كل شيء ولا نعرف كل شيء من القصة إلا تلك الرحلة المحدودة بين قوسين التي إسمها الدنيا .
أما ما قبل ذلك وما بعد ذلك فهو بالنسبة لنا غيب محجوب , ولذا يجب أن نصمت في احترام ولا نطلق الأحكام .
أما كيفيات العذاب بعد البعث فلا يمكن القطع فيها تفصيلًا لأن الآخرة كلها غيب . ويمكن أن يكون ما ورد في الكتب المقدسة بهذا الشأن رموزًا وإشارات . كما نقول للصبي الذي لم يدرك البلوغ حينما يسألنا عن اللذة الجنسية إنها مثل السكر أو العسل لأننا لا نجد في قاموس خبراته شيئًا غير ذلك . ولأن تلك اللذة بالنسبة له غيب لا يمكن وصفه بكلمات من محصوله اللغوي فهي خبرة لم يجربها إطلاقًا , وبالمثل الجنة والجحيم هي خبرات بالنسبة لنا . غيب . ولا يمكن وصفها بكلمات من قاموسنا الدنيوي . وكل ما يمكن هو إيراد أوصاف على سبيل التقريب مثل النار أو الحدائق الغناء التي تجري من تحتها الأنهار . أما ما سوف يحدث فهو شيء يفوق بكثير كل هذه الأوصاف التقريبية مما لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر .
ويمكن أن يقال دون خطأ إن جهنم هي المقام الأسفل بكل ما يستتبع ذلك المقام من عذاب حسي ومعنوي . وأن الجنة هي المقام الأعلى بكل ما يستتبع ذلك المقام من نعيم حسي ومعنوي .
والصوفية يقولون إن جهنم هي مقام البعد ( البعد عن الله ) والحَجب عن الله . والجنة هي مقام القرب بكل ما يتبع ذلك القرب من سعادة لا يمكن وصفها .
(( و مَنْ كانَ في هَذِهِ أعمَْى فَهوَ في الآخرة أعْمى وأضَلُّ سبيلاً )) . والعمى هنا هو عمى البصيرة .
إنها إذن أشبه بما نرى من درجات ومقامات وتفاوت بين أعمى وبصير . ومهتد وضال . ولكن في الآخرة سوف يكون التفاوت عظيمًا .
لدرجة أن من سيكون في المقام الأسفل سيكون حاله حال من في النار وأسوأ . إنه قانون التفاضل الذي يحكم الوجود كله دنيا وآخره ملكًا وملكوتًا غيبًا وشهودًا .
لكل واحد رتبة واستحقاق ومقام ودرجة . ولا يستوي اثنان .
ولا يكون الإنتقال من درجة إلى درجة إلا مقابل جهد وعمل واختبار وابتلاء . ومن كان في الدنيا في أحط الدرجات من عمى البصيرة فسيكون حاله في الآخرة في أحط الدرجات أيضاً .
وهذا عين العدل . أن يوضع كل إنسان في مكانه ودرجته واستحقاقه . وهذا ما يحدث في الدنيا ظلمًا وهو ما سوف يحدث في الآخرة عدلًا .
والعذاب بهذا المعنى عدل .
والثواب عدل .
وكلاهما من مقتضيات الضرورة .
أن يكون الحديد الصلب غاية في الصلابة فيصنع منه الموتور .
ويكون الكاوتشوك رخوًا فتصنع منه العجلات .
ويكون القش رخيصًا فتصنع منه رأس المكنسة .
ويكون القش رخيصًا فتصنع منه رأس المكنسة .
وأن يكون القطن الفاخر لصناعة الوسائد . والقطن الرديء لتسليك البالوعات .
وهذه بداهات وأوليات تقول بها الفطرة والمنطق السوي ولا تحتاج إلى تدبيج مقالات في الفلسفة ولا إلى رص حيثيات ومسببات .
ولهذا كانت الأديان كلها مقولة فطرية . لا تحتمل الجدل ولا تحتمل التكذيب . ولهذا كانت حقيقة مطلقة تقبلها العقول السوية التي لم تفسدها لفلفات الفلسفة والسفسطة . والتي احتفظت ببكارتها ونقاوتها وبرئَت من داء العناد والمكابرة .
ولهذا يقول الصوفي إن الله لا يحتاج إلى دليل بل إن الله هو الدليل الذي يستدل به على كل شيء .
هو الثابت الذي نعرف به المتغيرات .
وهو الجوهر الذي ندرك به اختلاف الظواهر .
وهو البرهان الذي ندرك به حكمة العالم الزائل .
أما العقل الذي يطلب برهاناً على وجود الله فهو عقل فقد التعقل .
فالنور يكشف لنا الأشياء ويدلنا عليها .
ولا يمكن أن تكون الأشياء هي دليلنا على النور وإلا نكون قد قلبنا الأوضاع . كمن يسير في ضوء النهار ثم يقول . أين دليلك على أن الدنيا نهار . أثبت لي بالبرهان .
ومن فقد سلامة الفطرة وبكارة القلب . ولم يبق له إلا الجدل وتلافيف المنطق وعلوم الكلام . فقد فقدَ كل شيء وسوف يطول به المطاف . ولن يصل أبداً .
ومثل الذي يحتج على العذاب الدنيوي ويتبرم ويتسخط ويلعن الحياة وقول إنها حياة لا تحتمل وإنه يرفضها وإن أحداً لم يأخذ رأيه قبل أن يولد وإنه خلق قهراً وحكم عليه بالعذاب جبراً وإن هذا ظلم فادح .
مثل هذا الرفض الساخط مثل الفنان الذي يؤدي دوراً في مسرحية . ويقتضي الدور أن يتلقى الضرب والركل كل يوم أما المتفرجين .
لو أن هذا الممثل فقد الذاكرة ولم ير شريط حياته إلا أمام هذا الدور الذي يؤديه بين قوسين على خشبة المسرح كل يوم . فإنه سوف يحتج . رافضاً أن يتلقى العذاب . ويقول إن أحداً لم يأخذ رأيه وإنه خلق قهراً وحكم عليه بالعذاب جبراً وقضي عليه بالإهانة أمام الناس بدون مبرر معقول وبدون اختيار منه منذ البداية .
وسوف ينسى هذا الممثل أنه كان هناك اتفاق قبل بدء الرواية . وكان هناك تكليف من المخرج ثم قبول للتكليف من جانب الممثل . ثم عهد وميثاق على تنفيذ المطلوب . كل هذا تم في حرية قبل أن يبدأ العرض . وارتضى الممثل دوره اختياراً . بل إنه أحب دوره وسعى إليه .
ولكن الممثل قد نسي تماماً هذه الحقبة الزمنية قبل الوقوف على خشبة المسرح . ومن هنا تحولت حياته بما فيها من تكاليف وآلام إلى علامة استفهام ولغز غير مفهوم .
وهذا شأن الإنسان الذي تصور أن كل حياته هي وجوده بالجسد في هذه اللحظات الدنيوية وأنه هالك ومصيره التراب . وأنه ليس له وجود غير هذا الوجود الثلاثي الأبعاد على خشبة الحياة الدنيا .
نسي هذا الإنسان أنه كان روحاً في الملكوت وأنه جاء على الدنيا بتكليف وأنه قبل هذا التكليف وارتضاه . وأنه كانت بينه وبين خالقه ( المخرج الأعظم لدراما الوجود ) عهود ومواثيق . وأنه بعد دراما الوجود الدنيوي يكون البعث والحساب كما أنه بعد المسرحية يكون النقد من النقاد والنجاح والفشل من الجمهور والسقوط في عين النظارة أو الارتفاع في نظرهم .
إنه النسيان والغفلة .
والنظرة الضيقة المحدودة التي تتصور أن الدنيا كل شيء . هي التي تؤدي إلى ضلال الفكر . و هي التي تؤدي إلى الحيرة أمام العذاب والشر والألم ..
ومن هنا جاءت تسمية القرآن بأنه . ذكر . وتذكير . وتذكرة . ليتذكر أولو الألباب .
والنبي هو مذكر .
إنها فصل في الرواية . كان لها بدء قبل الميلاد وسيكون لها استمرار بعد الموت .
وفي داخل هذه الرؤية الشاملة يصبح للعذاب معنى ..
يصبح عذاب الدنيا رحمة من الرحيم الذي ينبهنا به حتى لا نغفل .
إنه محاولة إيقاظ لتتوتر الحواس ويتساءل العقل . وهو تذكير دائم بأن الدنيا لن تكون ولا يمكن أن تكون جنة . وإنها مجرد مرحلة .
وأن الإخلاد إلى ذاتها يؤدي بصاحبه إلى غفلة مهلكة .
إنه العقاب الذي ظاهره العذاب وباطنه الرحمة .
وأما عذاب الآخرة فهو الصحو على الحقيقة وعلى العدل المطلق الذي لا تفوته ذرة الخير ولا ذرة الشر . وهو اليقين بنظام المنظم الذي أبدع كل شيء صنعًا .
❞ و بقدر ما تمتد حياتك يوما بعد يوم.. بقدر ما تتمزق عن وجهك الأقنعة.. و يظهر و يفتضح أمرك و ينتهك سرك.
و الله يعلم حقيقتك و سرك من البداية.. و لكنك أنت لا تعلم و لا تريد أن تعلم.. لأنك مدع.. و كل منا مدع..
كل منا يتصور أنه رجل طيب و أنه مستحق لكل خير، حتى الجبارون الذين شنقوا و سجنوا، و عذبوا شعوبهم تصوروا أنهم مصلحون.
كل منا جاء إلى الحياة و معه دعوى عريضة مزعومة بأنه رجل صالح و طيب.
و لهذا اقتضى عدل الله أن يطلعنا على حقائقنا، حتى لا تقوم أعذار حينما يبدأ تصنيف الناس في الآخرة حسب درجاتهم.. و حتى يكون التصنيف على حسب الحقائق، و ليس على حسب المزاعم و الدعاوى.
و لهذا خلق الله الدنيا.
خلقها لتنكشف الحقائق على ما هي عليه.. و يعرف كل واحد نفسه و يعرف مقدار خيره و شره.. ثم ليعرف الأبرار خالقهم و ربهم، و ليذوقوا رحمته قبل لقائه.
ثم خلق الآخرة لتنكشف فيها حقائق الربوبية، و عالم الملكوت و الجبروت و الغيب.
و الله لا يخلق أي شيء إلا بالحق و للحق، لأنه سبحانه هو الحق.
(( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ (85) )) [ الحجر ]
(( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) )) [ الدخان ]
(( مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) )) [ الدخان ]
(( مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ (5) )) [ يونس ]
(( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) )) [ النحل ]
(( مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى (8) )) [ الروم ]
(( وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ (22) )) [ الجاثية ]
(( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ (3) )) [ التغابن ]
(( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (2) )) [ الملك ]
(( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ (191) )) [ آل عمران ]
(( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) )) [ المؤمنون ]
لا عبثية و لا عبث...
و ما نرى حولنا من تداول الأحوال على الناس من فقر إلى غنى، إلى مرض إلى عز إلى ذل، إلى حوادث مفاجئة إلى مصائب إلى كوارث إلى نجاح إلى فشل، ليست أمورا عبثية و لا مصادفات عشوائية، إما هي ملابسات محكمة من تدبير المدبر الحكيم الذي يريد أن يفض مكنون النفوس و يخرج مكتومها.
(( وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) )) [ البقرة ]
إننا جميعا شجعان حتى يدعو داعي الحرب، فيبدي كل واحد عذرا و يختلق كل واحد ظروفا تمنعه و لا يثبت ساعة الضرب إلا القليل.
و لولا محنة القتال ما انكشفت النفوس على حقيقتها، و نحن جميعا كرماء حتى يدعو داعي البذل، فتنكمش الأيدي التي كانت ممدودة بدعوى السخاء، و لا تنبسط بالكرم إلا أكف معدودة.
و كما قال المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر و الإقدام قتّال
فالمشقة هي التي كشفت النفوس و فضحت دعاويها، و من هنا جاءت ضرورتها.
و ما كنا لنعرف صلابة الصلب لولا اختباره.
و لهذا خلق الله الدنيا ليعرف الضعيف ضعفه، و ليعرف القوي قوته، و لتفتضح الدعاوى الكاذبة، و يتم العدل باقتناع كل نفس باستحقاقها، و بعدالة مصيرها النهائي في أعلى عليين أو أسفل سافلين.
خلق الله الدنيا ليحق الحق و يبطل الباطل.
و يصدق أيضا الكلام الذي يقول.. إن الله خلقنا ليعطينا.. فهو كلام يؤدي بنا إلى نفس المعنى.
فهل يصح عطاء إلا بمعرفة الاستحقاقات أولا ليكون العطاء حقا.
إن معرفتنا لأنفسنا أيضا مطلوبة، لتكون قناعة كل واحد بعطائه قناعة حقيقية.. و لينتفي الإعتراض.
فمعرفة النفوس لحقائقها.. و معرفة الإنسان لخالقه.. هي الحكمة من خلق الدنيا.
(( خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (2) )) [ الملك ]
و ما كانت هذه المعرفة لتتم إلا بالدم و الدموع، لأن النفوس ما كانت لتبوح بأسرارها و حقائقها إلا بالدم و الدموع.
و لأن كلا منا يخفي حقيقته وراء أقنعة غليظة من الشعارات و الأكاذيب، و يسدل على وجهه حجابا من الافتعال و التمثيل و بسمات النفاق و الملاطفة و المجاملة.
فكان لابد من حادث عنيف ليخترق هذه الحجب.
و الدنيا كانت ذلك الحادث.
لقد أخرجنا الله من العدم و كان كل منا حقيقة مكنونة، و أعطى كلا منا اليد و القدم ليضر و ينفع.
فأما الذين تحروا النفع و البر و الخير فهم أهله.. و مأواهم إلى ظله يوم لا ظل إلا ظله.
و أما أهل الضرر و الأذى و الظلم فهم المبعدون عنه و عن رحمته.. و البعد عن الله نار.. لأن كل ما سوى الله نار..
و علامة أهل الله هي عرفانهم لربهم من قبل لقائه.. أن يعرفوه في هذه الدنيا.. و أن يشهدوا الدنيا دالة عليه.
و كلام القرآن بأن الله خلقنا لنعبده هو كلام يشتمل على كل هذه المعاني السالفة في باطنه.
و حينما تقول الآيات.
(( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) )) [ الذاريات ]
فإنها تعني بداهة.
( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعرفون ).
لأنه لا عبادة بلا معرفة.
و المعنى أنه خلقنا لنعرفه، فإذا عرفناه عبدناه.. و إذا عبدناه تفاضلت عباداتنا، و تفاضل إيماننا و إنكارنا، و تفاضلت منازلنا.. و بالتالي تفاضلت استحقاقاتنا حسب ما نتعرض له من امتحانات في الدنيا.. و بالتالي تفاضل العطاء من المعطي.
و عطاء الله مبذول للكل.
(( كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) )) [ الإسراء ]
فالله خلق ليعطي.. و كلنا مستحقون للعطاء بحكم رتبة العبودية، و كل هذه المعاني باطنة في كلمة (( ليعبدون )).
(( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) )) [ الذاريات ]
أما الذي يقول: إن الله خلقنا لأنه خالق و لابد للخالق أن يخلق، فقد أوجب على الله أن يخلق هذا أو يخلق ذاك..
و لا حق لأحد أن يوجب على الله شيئا.
و لا يوجد قانون يوجب على الله شيئا.
لأنه لا توجد سلطة أو حكم خارج عن الله أصلا، و إنما الله يخلق ما يشاء.
و مشيئة الله لا تحدها قوانين.. لأنه سبحانه مصدر جميع القوانين.
و المشيئة مردودة إلى الله، و بالتالي ليست مسببة بحيث يمكن أن نسأل: و لماذا خلق الله هذا و لم يخلق ذاك؟
إن (( لماذا )) هنا لا مكان لها بتاتا و لا يصح أن توجه إليه سبحانه
(( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) )) [ الأنبياء ]
و كنه المراد لا يعلمه أحد.
و السؤال يقال بوجه إجمال.
و مجال التأمل هو في الحكمة العامة للخلق و للدنيا.
أما السؤال تفصيلا عن خلق هذا و خلق ذاك، فهو أمر غيبي.. و هو في العمى لا يعلمه أحد.
يقول الصوفي ابن عربي: إن الله خلق هذا و خلق ذاك لأنهما سألاه في العدم أن يرحمهما بإيجادهما فأوجدهما.. و أن الله لا يأتي بأحد إلى الدنيا كرها.. و إنما كل ما جاء إلى الدنيا بطلبه.
و هو كلام غيبي.
و هو كلام يستتبع أنه كان لنا وجود في العدم.. و أن العدم غير معدوم.
و هو كلام يجرنا مرة أخرى إلى المعضلة التي أثرتها في كتابي (( الوجود و العدم )).
و لمن يريد أن يغوص وراء الأسرار أكثر أن يعود إلى الكتاب.
و حسب المؤمن الذي يريد أن يقف عند بر الأمان، و لا يلقي بنفسه في وادي العماء.. أن يقول:
آمنت بكلمات الله على مراد الله.
و ما خفى عني فالله به أعلم.
د مصطفى محمود
من كتاب : القرآن كائن حي. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ و بقدر ما تمتد حياتك يوما بعد يوم. بقدر ما تتمزق عن وجهك الأقنعة. و يظهر و يفتضح أمرك و ينتهك سرك.
و الله يعلم حقيقتك و سرك من البداية. و لكنك أنت لا تعلم و لا تريد أن تعلم. لأنك مدع. و كل منا مدع.
كل منا يتصور أنه رجل طيب و أنه مستحق لكل خير، حتى الجبارون الذين شنقوا و سجنوا، و عذبوا شعوبهم تصوروا أنهم مصلحون.
كل منا جاء إلى الحياة و معه دعوى عريضة مزعومة بأنه رجل صالح و طيب.
و لهذا اقتضى عدل الله أن يطلعنا على حقائقنا، حتى لا تقوم أعذار حينما يبدأ تصنيف الناس في الآخرة حسب درجاتهم. و حتى يكون التصنيف على حسب الحقائق، و ليس على حسب المزاعم و الدعاوى.
و لهذا خلق الله الدنيا.
خلقها لتنكشف الحقائق على ما هي عليه. و يعرف كل واحد نفسه و يعرف مقدار خيره و شره. ثم ليعرف الأبرار خالقهم و ربهم، و ليذوقوا رحمته قبل لقائه.
ثم خلق الآخرة لتنكشف فيها حقائق الربوبية، و عالم الملكوت و الجبروت و الغيب.
و الله لا يخلق أي شيء إلا بالحق و للحق، لأنه سبحانه هو الحق.
و ما نرى حولنا من تداول الأحوال على الناس من فقر إلى غنى، إلى مرض إلى عز إلى ذل، إلى حوادث مفاجئة إلى مصائب إلى كوارث إلى نجاح إلى فشل، ليست أمورا عبثية و لا مصادفات عشوائية، إما هي ملابسات محكمة من تدبير المدبر الحكيم الذي يريد أن يفض مكنون النفوس و يخرج مكتومها.
(( وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) )) [ البقرة ]
إننا جميعا شجعان حتى يدعو داعي الحرب، فيبدي كل واحد عذرا و يختلق كل واحد ظروفا تمنعه و لا يثبت ساعة الضرب إلا القليل.
و لولا محنة القتال ما انكشفت النفوس على حقيقتها، و نحن جميعا كرماء حتى يدعو داعي البذل، فتنكمش الأيدي التي كانت ممدودة بدعوى السخاء، و لا تنبسط بالكرم إلا أكف معدودة.
و كما قال المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهم
الجود يفقر و الإقدام قتّال
فالمشقة هي التي كشفت النفوس و فضحت دعاويها، و من هنا جاءت ضرورتها.
و ما كنا لنعرف صلابة الصلب لولا اختباره.
و لهذا خلق الله الدنيا ليعرف الضعيف ضعفه، و ليعرف القوي قوته، و لتفتضح الدعاوى الكاذبة، و يتم العدل باقتناع كل نفس باستحقاقها، و بعدالة مصيرها النهائي في أعلى عليين أو أسفل سافلين.
خلق الله الدنيا ليحق الحق و يبطل الباطل.
و يصدق أيضا الكلام الذي يقول. إن الله خلقنا ليعطينا. فهو كلام يؤدي بنا إلى نفس المعنى.
فهل يصح عطاء إلا بمعرفة الاستحقاقات أولا ليكون العطاء حقا.
إن معرفتنا لأنفسنا أيضا مطلوبة، لتكون قناعة كل واحد بعطائه قناعة حقيقية. و لينتفي الإعتراض.
فمعرفة النفوس لحقائقها. و معرفة الإنسان لخالقه. هي الحكمة من خلق الدنيا.
(( خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (2) )) [ الملك ]
و ما كانت هذه المعرفة لتتم إلا بالدم و الدموع، لأن النفوس ما كانت لتبوح بأسرارها و حقائقها إلا بالدم و الدموع.
و لأن كلا منا يخفي حقيقته وراء أقنعة غليظة من الشعارات و الأكاذيب، و يسدل على وجهه حجابا من الافتعال و التمثيل و بسمات النفاق و الملاطفة و المجاملة.
فكان لابد من حادث عنيف ليخترق هذه الحجب.
و الدنيا كانت ذلك الحادث.
لقد أخرجنا الله من العدم و كان كل منا حقيقة مكنونة، و أعطى كلا منا اليد و القدم ليضر و ينفع.
فأما الذين تحروا النفع و البر و الخير فهم أهله. و مأواهم إلى ظله يوم لا ظل إلا ظله.
و أما أهل الضرر و الأذى و الظلم فهم المبعدون عنه و عن رحمته. و البعد عن الله نار. لأن كل ما سوى الله نار.
و علامة أهل الله هي عرفانهم لربهم من قبل لقائه. أن يعرفوه في هذه الدنيا. و أن يشهدوا الدنيا دالة عليه.
و كلام القرآن بأن الله خلقنا لنعبده هو كلام يشتمل على كل هذه المعاني السالفة في باطنه.
و حينما تقول الآيات.
(( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) )) [ الذاريات ]
فإنها تعني بداهة.
( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعرفون ).
لأنه لا عبادة بلا معرفة.
و المعنى أنه خلقنا لنعرفه، فإذا عرفناه عبدناه. و إذا عبدناه تفاضلت عباداتنا، و تفاضل إيماننا و إنكارنا، و تفاضلت منازلنا. و بالتالي تفاضلت استحقاقاتنا حسب ما نتعرض له من امتحانات في الدنيا. و بالتالي تفاضل العطاء من المعطي.
و عطاء الله مبذول للكل.
(( كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) )) [ الإسراء ]
فالله خلق ليعطي. و كلنا مستحقون للعطاء بحكم رتبة العبودية، و كل هذه المعاني باطنة في كلمة (( ليعبدون )).
(( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) )) [ الذاريات ]
أما الذي يقول: إن الله خلقنا لأنه خالق و لابد للخالق أن يخلق، فقد أوجب على الله أن يخلق هذا أو يخلق ذاك.
و لا حق لأحد أن يوجب على الله شيئا.
و لا يوجد قانون يوجب على الله شيئا.
لأنه لا توجد سلطة أو حكم خارج عن الله أصلا، و إنما الله يخلق ما يشاء.
و مشيئة الله لا تحدها قوانين. لأنه سبحانه مصدر جميع القوانين.
و المشيئة مردودة إلى الله، و بالتالي ليست مسببة بحيث يمكن أن نسأل: و لماذا خلق الله هذا و لم يخلق ذاك؟
إن (( لماذا )) هنا لا مكان لها بتاتا و لا يصح أن توجه إليه سبحانه
(( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) )) [ الأنبياء ]
و كنه المراد لا يعلمه أحد.
و السؤال يقال بوجه إجمال.
و مجال التأمل هو في الحكمة العامة للخلق و للدنيا.
أما السؤال تفصيلا عن خلق هذا و خلق ذاك، فهو أمر غيبي. و هو في العمى لا يعلمه أحد.
يقول الصوفي ابن عربي: إن الله خلق هذا و خلق ذاك لأنهما سألاه في العدم أن يرحمهما بإيجادهما فأوجدهما. و أن الله لا يأتي بأحد إلى الدنيا كرها. و إنما كل ما جاء إلى الدنيا بطلبه.
و هو كلام غيبي.
و هو كلام يستتبع أنه كان لنا وجود في العدم. و أن العدم غير معدوم.
و هو كلام يجرنا مرة أخرى إلى المعضلة التي أثرتها في كتابي (( الوجود و العدم )).
و لمن يريد أن يغوص وراء الأسرار أكثر أن يعود إلى الكتاب.
و حسب المؤمن الذي يريد أن يقف عند بر الأمان، و لا يلقي بنفسه في وادي العماء. أن يقول:
آمنت بكلمات الله على مراد الله.
و ما خفى عني فالله به أعلم.
❞ “• فمن كان قريبا من ربه ذاكرا له على الدوام كانت قدرته دائمة مكتملة وحاضرة وجاهزة لا ينسي شيئا ولا يغيب عن باله شيء لأنه في دائرة النور ..
أما البعد عن الله فيدخل صاحبه في دائرة الظلمة ويجعله من أهل الغفلة.”. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ • فمن كان قريبا من ربه ذاكرا له على الدوام كانت قدرته دائمة مكتملة وحاضرة وجاهزة لا ينسي شيئا ولا يغيب عن باله شيء لأنه في دائرة النور .
أما البعد عن الله فيدخل صاحبه في دائرة الظلمة ويجعله من أهل الغفلة.”. ❝