❞ وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان عربيّا أعرابيًّا، وإسلاميًّا جماعيًّا، فقد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسّة، وإحساس الغريزة، ويشتهيه الفتيان كما تشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه المجدّ ذو الحزم، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبيّ كما يشتهيه الفطن. ❝ ⏤أبي عثمان عمرو بن الجاحظ
❞ وهذا كتاب تستوي فيه رغبة الأمم، وتتشابه فيه العرب والعجم، لأنه وإن كان عربيّا أعرابيًّا، وإسلاميًّا جماعيًّا، فقد أخذ من طرف الفلسفة، وجمع بين معرفة السماع وعلم التجربة، وأشرك بين علم الكتاب والسنة، وبين وجدان الحاسّة، وإحساس الغريزة، ويشتهيه الفتيان كما تشتهيه الشيوخ، ويشتهيه الفاتك كما يشتهيه الناسك، ويشتهيه اللاعب ذو اللهو كما يشتهيه المجدّ ذو الحزم، ويشتهيه الغفل كما يشتهيه الأريب، ويشتهيه الغبيّ كما يشتهيه الفطن. ❝
❞ كلنا من أصل واحد .. من خامة واحدة .
ولكن لكل منا فرديته الخاصة به .
والفرق بين مخلوق ومخلوق ليس مجرّد فرق كميّ في الذرات , وإنما هناك فرق أكبر وأعقد في العلاقات بين تلك الذّرات وفي كيفيات الترابط بينها .
ونعلم الآن من أمر توليف الجينات الوراثية في الخلية الأولى أن جميع الأجِنّة الآدمية يتم توليفها من أكثر من عشرين حرفاً كيميائياً من بروتين DNA و RNA .. كما تتألف جميع الكتب والمؤلفات من الحروف الأبجدية , فيكون لكل كتاب روحه وشخصيته ونوعيته كمخلوق مستقل متفرِّد مع أن جميع الكتب مؤلفة من الحروف نفسها .
ويبلغ هذا التفرُد لدرجة أن ينفرد كل واحد ببصمة خاصة مختلفة . لا تتشابه بصمتان لاثنين ولو كانا توأمين منذ بدء الخليقة إلى الآن برغم آلاف آلاف وملايين ملايين الملايين من الأفراد .
ونعلم الآن أن لكل جسد شفرة كيميائية خاصة به بحيث يصبح من العسير وأحياناً من المستحيل ترقيع جسدٍ بقطعةٍ من جسد آخر .. فما يلبث أن يرفض الجسد الرقعة الغريبة كما لو كانت ميكروباً أو جسماً أجنبياً أو استعماراً .. وهذه هي كبرى المشكلات في جراحات الترقيع ونقل الأعضاء .
وأطول مدة عاشها قلب منقول كانت عشرين شهراً وتحت مطر مستمر من حقن التخدير والأقراص المضادة للحساسية لمنع الجسد من رفض العضو الغريب .
ومعنى هذا أن الفردية والتفرد حقيقة جوهرية يشهد بها العِلم .. وهي حقيقة لم ألتفت إليها في بداية تطوري الفكري .. واعتقدت بأن الجوهري والباقي هو المجتمع وليس الفرد .. الإنسان وليس فلاناً , والحياة وليس الأحياء .. الوجود لا الموجودات .. الكل وليس الآحاد .
وهذا أثر من آثار فلسفة وحدة الوجود الهندية القائلة إن الوجود هو الله وهو الباقي .. أما جميع الموجودات فهي " MAYA " والمايا هي الوهم الزائل .
وكل فرد مصيره إلى فناء حقيقي لا بعث بعده , واعتقدت بأن خلود الفرد هو بقدر ما يترك لأولاده من توجيه وتربية وعلوم ومعارف .
أما هو ذاته فإنه ينتهي إلى التراب إلى غير عودة .
نصيبنا من الخلود هو ما نضيفه إلى وعاء الكل .
أما شخوصنا و أفردنا فمصيرها إلى العدم .
وما الشخصية ؟!
لم أفهم من الشخصية في البداية أكثر من أنها ردود فعل ظرفية على مواقف مؤقتة . وبالتالي حينما تنتهي هذه الظروف وتتغيّر الأوقات لا يبقى من الشخصية شيء .. ومآلها أن تتفكك بالشيخوخة نتيجة تفكك ألياف الترابط الموجودة بالمخ .. وحين تفسد الأعصاب وتَفنَى بالموت تفنى الذات الخاصة بها .
إعتقدت أن الشخصية ليست سوى انفصال محدد لصفات معينة بتأثير تجارب حية وأفعال منعكسة عصبية .. بعضها موروث في شكل غرائز ، وبعضها مكتسَب عن طريق الممارسة الحِسية .. وهذه الممارسة تسجَل في المخ وتنطبع على الذاكرة . فإذا انتهى المخ وتعفنت خلايا الذاكرة فلا محل لافتراض بقاء آخر روحاني لهذا الترابط المادي البحت .
بهذا الفهم المادي المسطح تصورت الإنسان في البداية , وكنت أقول لنفسي إن الشخصية ليست شيئاً واحداً وإنما هي سيل من الشخصيات المختلفة لا تنقطع عن الجريان .. فشخصيتي في سن العاشرة .. غيرها في سن العشرين .. غيرها في سن الثلاثين .. وفي كل لحظة هناك شيء يضاف إلى نفسي .. و شيء ينقص منها .. فأية واحدة من هذه النفوس سوف تُبعَث وتعاقَب ؟
وهؤلاء المصابون بانقسام الشخصية أيهما سوف يذهب إلى العالم الآخر .. الدكتور جيكل أم مستر هايد ؟!
ونسيت بهذا التلاعب اللفظي الحقيقة الأولية البسيطة أننا حينما نطبع من الكتاب طبعة ثانية فإننا لا نطبع صفحةً أو فصلاً , وإنما نطبعه كله في أصوله ليصدُر كلّه في أصوله .
وهكذا يكون بعث الروح .. ككل بكل فصولها وأصولها كما تُنبت البذرة من ظلام الأرض حاوية لكل إمكانيات الفروع والأوراق والثمار .
ولكن النظرة المادية التي تميل بطبيعتها إلى التحليل والتشريح والتقطيع كانت هي الغالبة طول الوقت .. ولهذا كانت تغيب عني دائماً صورة الأمور في كليّتها وكنت أتصور أني يمكن أن أفهم الروح إذا شرَّحت الجسد .. إذ لا فرق بين الإثنين ..
الروح هي البدن ..
والعقل هو المخ ..
والشخصية هي ردود الفعل ومجموع الأفعال المنعكسة ..
والعاطفة في نهاية الأمر جوع جسماني .
ونقف الآن وقفة طويلة لنسأل : هل صحيح أن النفس ما هي إلا مجرد حوافز الجوع والجنس ومجموعة الإستشعارات التي يدرِك بها الجسد ما يحتاجه ؟
لو قلنا هذا فنحن أمام تفسير مادي متهافت فما هكذا حقيقة النفس .. ولا حقيقة الإنسان .. وأعود إلى صفحات كتاب لغز الموت ، ولغز الحياة حيث ناقشت الموضوع بالتفصيل .
إن الإنسان لَيُضحِي بلقمته وبيته وفراشه الدافئ في سبيل أهداف ومُثل وغايات شديدة التجريد .. كالعدل والحق والخير والحرية .. فأين حوافز الجوع والجنس هنا ؟! ..
والمحارب المقاتل في الميدان الذي يضحي بنفسه على مدفعه في سبيل غد لم يأت بعد .. أين هو من التفسير المادي ؟!
إننا أمام إثبات قاطع بأن النفس والذات حقيقة متجاوزة وعالية على الجسد ليست مجرد احتياجات الجسد الحسية معكوسة في مرآة داخلية .
تلك الإرادة الهائلة التي تدوس على الجسد وتضحي به هي حقيقة متجاوزة عالية بطبيعتها وآمرة ومهيمنة على الجسد .. وليست للجسد تبعاً و ذيلاً .
وإذا كنت أنا الجسد .. فكيف أتحكم في الجسد وأُخضِعه ؟!
وإذا كنت أنا الجوع .. فكيف أتحكم في الجوع ؟!
إن مجرد الهيمنة الداخلية على جميع عناصر الجسد ومفردات الغرائز هي الشهادة الكاشفة عن ذلك العنصر المتعالي والمفارق الذي تتألف منه الذات الإنسانية .
عن طريق النفس أتحكم في الجسد .
وعن طريق العقل أتحكم في النفس .
وعن طريق البصيرة أضع للعقل حدوده .
هذا التفاضل بين وجود ووجود يعلو عليه و يحكمه هو الإثبات الواقعي الذي يقودنا إلى الروح كحقيقة عالية متجاوزة للجسد وحاكمة عليه وليست ذيلاً وتابعاً تموت بموته .
والذي يقول إن الإنسان مجموعة وظائف فسيولوجية مادية لا غير .. عليه أن يفسر لنا أين يذهب ذلك الإنسان في لحظة النوم .
إن جميع الوظائف الفسيولوجية قائمة ومستمرة في أثناء النوم .. وجميع الأفعال المنعكسة واللاإرادية تحدث بانتظام .
فالقلب يدق والنَفَس يتردد والغدد تفرز والأحشاء تتلوى والأعضاء التناسلية تهتاج والذراع ينقبض لشكّة الدبوس .. ومع ذلك فنحن أمام رجل نائم أشبه بشجرة .. مجرد شجرة .. أو حياة بدائية لا تختلف عن الحياة الحشرية . فأين الإنسان ؟!
إن النوم ثم اليقظة .. وهو النموذج المصغر للموت ثم البعث .. يكشف لنا مرة أخرى عن ذلك العنصر المتعالي الذي يخلق بحضوره في تلك الجثة النائمة فجأة وبلا مقدمات هتلر أو نيرون .. فإذا بذلك الممد كالثور الهامد يصحو ليقتل ويغزو ويسحق ويمحق وإن الفرق لهائل أكبر من أن يفسَر بتغير مادي يتم في لحظات .
والماديّون يقولون إن النفس حقيقة موضوعية وبالتالي هي مادة .
ونحن نسأل كيف تكون النفس موضوعاً ؟ وموضوع بالنسبة لمن .. ؟
موضوع بالنسبة للآخرين ؟ وكيف ؟! والآخرون لا يرونها ولا يدركون وجودها إلا استنباطاً من ظواهر السلوك .. وهي ظواهر أغلبها كاذب .. فكل منّا يمثل على الناس .. بل يمثل على نفسه .. وسلوكه الظاهر قَلما يدل عليه .
أم هي موضوع بالنسبة لصاحبها ؟
وكل منا لو اتخذ نفسه موضوعاً فإنها تبرد وتستحيل تحت مشرط التحليل إلى جثة , وتستخفي وتهرب من يديه لأنها لا يمكن أن تكون موضوعاً ولا أن توضع تحت مجهر مثل ورقة شجرة , لأن جوهرها بالدرجة الأولى في ذاتيتها , وحقيقتها أنها الوجه الآخر من الصورة فهي الذات في مقابل الجسد الذي هو موضوع ..
وكِلا القطبين .. الذات والموضوع .. هما وجها الحقيقة .. فإذا عرّفنا المادة بأنها كل ما هو موضوعي فلا بد من الإعتراف بأن هناك في الوجود شيئاً آخر غير المادة هو الوجه الآخر من الحقيقة .. الذي هو الذات .
وتقودنا عملية الإدراك إلى إثبات أكيد بأن هناك شيئين في كل لحظة .. الشيء المدرك .. والنفس المدركة خارجه .
وما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لولا أن الجزء المدرك فينا يقف على عتبة منفصلة وخارجة عن هذا المرور الزمني المستمر .
ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل لحظة لما استطعنا أن ندرك هذه الثواني أبداً .. ولا نصرم إدراكنا كما تنصرم الثواني بدون أن يلاحظ شيئاً وإنه لقانون معروف أن الحركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها .
لا يمكن أن تدرِك الحركة وأنت تتحرك معها في الفلك نفسه .. وإنما لابد لك من عتبة خارجية تقف عليها لترصدها ..
ولهذا تأتي عليك لحظة وأنت في أسانسير متحرك لا تستطيع أن تعرف هل هو واقف أم متحرك لأنك أصبحت قطعة واحدة معه في حركته .. لا تستطيع إدراك هذه الحركة إلا إذا نظرت من باب الأسانسير إلى الرصيف الثابت في الخارج .
وبالمثل لا يمكنك رصد الشمس وأنت فوقها ولكن يمكنك رصدها من القمر أو الأرض .. كما أنه لا يمكنك رصد الأرض وأنت تسكن عليها وإنما تستطيع رصدها من القمر .
وهكذا دائماً .. لا تستطيع أن تحيط بحالة إلا إذا خرجت خارجها ولاحظتها كموضوع .
وأنت تدرك مرور الزمن لابد أن تكون ذاتك المدركة خارج الزمن . وهي نتيجة مذهلة تثبت لنا الروح أو الذات المدركة كوجود مستقل متعالٍ على الزمن ومتجاوز له وخارج عنه .
فها نحن أولاء أمام حقيقة إنسانية جزء منها غارق في الزمن ينصرم مع الزمن ويكبر معه ويشيخ معه ويهرم معه ( وهو الجسد ) وجزء منها خارج عن هذا الزمن يلاحظه من عتبة السكون ويدركه دون أن يتورط فيه ولهذا فهو لا يكبر ولا يشيخ ولا يهرم ولا ينصرم ..
ويوم يسقط الجسد تراباً سوف يظل هو على حاله حيّاً حياته الخاصة غير الزمنية .. ولا نجد لهذا الجزء إسماً غير الإسم الذي أطلقته الأديان وهو الروح .
وكل منا يستطيع أن يلمس هذا الوجود الروحي بداخله .. ويدرك أنه وجود مغاير في نوعيته للوجود الخارجي النابض المتغير الذي يتدفق حولنا في شلال من التغيرات .
كل منا يستطيع أن يحس بداخله حالة حضور وديمومة وامتثال وشخوص وكينونة حاضرة دائماً ومغايرة تماماً للوجود المادي المتغير المتقلب النابض مع الزمن خارجه .
هذه هي الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الداخلي والتي أسميتها حالة ( حضور ) .. هي المفتاح الذي يقودنا إلى الوجود الروحي بداخلنا ويضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه الروح .. أو المطلق .. أو المجرد .
ونحن حينما ندرك الجمال ونميزه من القبح .. وندرك الحق ونميزه من الباطل .. وندرك العدل ونميزه من الظلم .. فنحن في كل مرة نقيس بمعيار .. بمسطرة منفصلة عن الحادث الذي نقيسه .. فنحن إذن نقيس من العتبة نفسها .. عتبة الروح ..
فالوجود الروحي يمثله فينا أيضاً الضمير ويدل عليه أيضاً الإحساس بالجمال .. وتدل عليه الحاسة الخفية التي تميز الحق من الباطل والزائف من الصحيح .. وتدل عليه الحرية الداخلية .. فالروح هي منطقة السريرة والحرية المطلقة والإختيار والتمييز .
وحينما نعيش حياتنا لا نضع اعتباراً للموت .. ونتصرف في كل لحظة دون أن نحسب حساباً للموت .. وننظر إلى الموت كأنه اللامعقول ..
فنحن في الواقع نفكر ونتصرف بهذه الـ أنا العميقة التي هي الروح والتي لا تعرف الموت بطبيعتها .
فالموت بالنسبة للروح التي تعيش خارج منطقة الزمن هو بالنسبة لها .. لا أكثر من تغيير ثوب .. لا أكثر من انتقال ..
أما الموت كفناء وكعدم فهو أمر لا تعرفه , فهي أبداً ودائماً كانت حالة حضور وشخوص .. إنها كانت دائماً هنا .
إنها الحَضرة المستمرة التي لم ولا يطرأ عليها طارئ الزوال .. وكل ما سوف يحدث لها بالموت .. أنها سوف تخلع الثوب الجسدي الترابي ..
وكما تقول الصوفية تلبس الثوب البرزخي .. ثم تخلع الثوب البرزخي لتلبس الثوب الملكوتي .. ثم تخلع الثوب الملكوتي لتلبس الثوب الجبروتي ..
كادحة من درجة إلى درجة ارتفاعاً إلى خالقها .. كل روح ترتفع بقدر صفائها وشفافيتها وقدرتها على التحليق .. على حين تتهابط الأرواح الكثيفة إلى ظلمات سحيقة وتنقضي عليها الآباد وهي تحاول الخلاص .
وأترك الصوفيين لمشاهداتهم حتى لا نضيع معهم في التيه , وليس هدفي من هذه الدراسة عبور حاجز الموت لمعرفة ما وراءه , فهذا طمع في غير مطمع ورغبة في مستحيل .
ويكفيني أن أقف بالقارئ ليتأمل نفسه ويكتشف ذاته العميقة الحاكمة الآمرة المتعالية على جسده الترابي .. تلك التي أسميتها الروح .. و التي استدللت عليها بأبلغ دلالة .. بشعور الحضرة التي يشعر بها كل منا في داخل نفسه .
تلك الحضرة المستمرة التي لا يطرأ عليها طارئ الزوال ولا تهُب عليها رياح التغير وكأنها العين المفتوحة داخلنا على الدوام .
ذلك الصحو الداخلي .
ذلك النور غير المرئي في نفوسنا والذي نرى على ضوئه طريق الحق ونعرف طريق .. القبح من الجمال .. والخير من الشر .
تلك العتبة التي نرصد من فوقها حركة الزمن وندرك مروره .. ونرى مرور الأشياء وندرك حركتها .
تلك النقطة في داخل الدائرة .
المركز الذي تدور حوله أحداثنا الدنيوية الزمنية وهو شاخص في مكانه لا يتحرك ولا ينصرم له وجود .. " الروح " ..
حقيقتنا المطلقة التي هي برغم ذلك لغز .
هل الروح أبدية .. أو أن لها زمناً آخر ذا تقويم مختلف .. اليوم فيه بألف سنة ؟
وما العلاقة بين الروح والجسد ؟
وما العلاقة بين العقل والمخ ؟
وما العلاقة بين الذاكرة والتحصيل واستظهار العلوم ؟
إنه موضوع آخر له شرح يطول .
**********************
مقال / الجســـد
من كتاب / رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود ( رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ كلنا من أصل واحد . من خامة واحدة .
ولكن لكل منا فرديته الخاصة به .
والفرق بين مخلوق ومخلوق ليس مجرّد فرق كميّ في الذرات , وإنما هناك فرق أكبر وأعقد في العلاقات بين تلك الذّرات وفي كيفيات الترابط بينها .
ونعلم الآن من أمر توليف الجينات الوراثية في الخلية الأولى أن جميع الأجِنّة الآدمية يتم توليفها من أكثر من عشرين حرفاً كيميائياً من بروتين DNA و RNA . كما تتألف جميع الكتب والمؤلفات من الحروف الأبجدية , فيكون لكل كتاب روحه وشخصيته ونوعيته كمخلوق مستقل متفرِّد مع أن جميع الكتب مؤلفة من الحروف نفسها .
ويبلغ هذا التفرُد لدرجة أن ينفرد كل واحد ببصمة خاصة مختلفة . لا تتشابه بصمتان لاثنين ولو كانا توأمين منذ بدء الخليقة إلى الآن برغم آلاف آلاف وملايين ملايين الملايين من الأفراد .
ونعلم الآن أن لكل جسد شفرة كيميائية خاصة به بحيث يصبح من العسير وأحياناً من المستحيل ترقيع جسدٍ بقطعةٍ من جسد آخر . فما يلبث أن يرفض الجسد الرقعة الغريبة كما لو كانت ميكروباً أو جسماً أجنبياً أو استعماراً . وهذه هي كبرى المشكلات في جراحات الترقيع ونقل الأعضاء .
وأطول مدة عاشها قلب منقول كانت عشرين شهراً وتحت مطر مستمر من حقن التخدير والأقراص المضادة للحساسية لمنع الجسد من رفض العضو الغريب .
ومعنى هذا أن الفردية والتفرد حقيقة جوهرية يشهد بها العِلم . وهي حقيقة لم ألتفت إليها في بداية تطوري الفكري . واعتقدت بأن الجوهري والباقي هو المجتمع وليس الفرد . الإنسان وليس فلاناً , والحياة وليس الأحياء . الوجود لا الموجودات . الكل وليس الآحاد .
وهذا أثر من آثار فلسفة وحدة الوجود الهندية القائلة إن الوجود هو الله وهو الباقي . أما جميع الموجودات فهي ˝ MAYA ˝ والمايا هي الوهم الزائل .
وكل فرد مصيره إلى فناء حقيقي لا بعث بعده , واعتقدت بأن خلود الفرد هو بقدر ما يترك لأولاده من توجيه وتربية وعلوم ومعارف .
أما هو ذاته فإنه ينتهي إلى التراب إلى غير عودة .
نصيبنا من الخلود هو ما نضيفه إلى وعاء الكل .
أما شخوصنا و أفردنا فمصيرها إلى العدم .
وما الشخصية ؟!
لم أفهم من الشخصية في البداية أكثر من أنها ردود فعل ظرفية على مواقف مؤقتة . وبالتالي حينما تنتهي هذه الظروف وتتغيّر الأوقات لا يبقى من الشخصية شيء . ومآلها أن تتفكك بالشيخوخة نتيجة تفكك ألياف الترابط الموجودة بالمخ . وحين تفسد الأعصاب وتَفنَى بالموت تفنى الذات الخاصة بها .
إعتقدت أن الشخصية ليست سوى انفصال محدد لصفات معينة بتأثير تجارب حية وأفعال منعكسة عصبية . بعضها موروث في شكل غرائز ، وبعضها مكتسَب عن طريق الممارسة الحِسية . وهذه الممارسة تسجَل في المخ وتنطبع على الذاكرة . فإذا انتهى المخ وتعفنت خلايا الذاكرة فلا محل لافتراض بقاء آخر روحاني لهذا الترابط المادي البحت .
بهذا الفهم المادي المسطح تصورت الإنسان في البداية , وكنت أقول لنفسي إن الشخصية ليست شيئاً واحداً وإنما هي سيل من الشخصيات المختلفة لا تنقطع عن الجريان . فشخصيتي في سن العاشرة . غيرها في سن العشرين . غيرها في سن الثلاثين . وفي كل لحظة هناك شيء يضاف إلى نفسي . و شيء ينقص منها . فأية واحدة من هذه النفوس سوف تُبعَث وتعاقَب ؟
وهؤلاء المصابون بانقسام الشخصية أيهما سوف يذهب إلى العالم الآخر . الدكتور جيكل أم مستر هايد ؟!
ونسيت بهذا التلاعب اللفظي الحقيقة الأولية البسيطة أننا حينما نطبع من الكتاب طبعة ثانية فإننا لا نطبع صفحةً أو فصلاً , وإنما نطبعه كله في أصوله ليصدُر كلّه في أصوله .
وهكذا يكون بعث الروح . ككل بكل فصولها وأصولها كما تُنبت البذرة من ظلام الأرض حاوية لكل إمكانيات الفروع والأوراق والثمار .
ولكن النظرة المادية التي تميل بطبيعتها إلى التحليل والتشريح والتقطيع كانت هي الغالبة طول الوقت . ولهذا كانت تغيب عني دائماً صورة الأمور في كليّتها وكنت أتصور أني يمكن أن أفهم الروح إذا شرَّحت الجسد . إذ لا فرق بين الإثنين .
الروح هي البدن .
والعقل هو المخ .
والشخصية هي ردود الفعل ومجموع الأفعال المنعكسة .
والعاطفة في نهاية الأمر جوع جسماني .
ونقف الآن وقفة طويلة لنسأل : هل صحيح أن النفس ما هي إلا مجرد حوافز الجوع والجنس ومجموعة الإستشعارات التي يدرِك بها الجسد ما يحتاجه ؟
لو قلنا هذا فنحن أمام تفسير مادي متهافت فما هكذا حقيقة النفس . ولا حقيقة الإنسان . وأعود إلى صفحات كتاب لغز الموت ، ولغز الحياة حيث ناقشت الموضوع بالتفصيل .
إن الإنسان لَيُضحِي بلقمته وبيته وفراشه الدافئ في سبيل أهداف ومُثل وغايات شديدة التجريد . كالعدل والحق والخير والحرية . فأين حوافز الجوع والجنس هنا ؟! .
والمحارب المقاتل في الميدان الذي يضحي بنفسه على مدفعه في سبيل غد لم يأت بعد . أين هو من التفسير المادي ؟!
إننا أمام إثبات قاطع بأن النفس والذات حقيقة متجاوزة وعالية على الجسد ليست مجرد احتياجات الجسد الحسية معكوسة في مرآة داخلية .
تلك الإرادة الهائلة التي تدوس على الجسد وتضحي به هي حقيقة متجاوزة عالية بطبيعتها وآمرة ومهيمنة على الجسد . وليست للجسد تبعاً و ذيلاً .
وإذا كنت أنا الجسد . فكيف أتحكم في الجسد وأُخضِعه ؟!
وإذا كنت أنا الجوع . فكيف أتحكم في الجوع ؟!
إن مجرد الهيمنة الداخلية على جميع عناصر الجسد ومفردات الغرائز هي الشهادة الكاشفة عن ذلك العنصر المتعالي والمفارق الذي تتألف منه الذات الإنسانية .
عن طريق النفس أتحكم في الجسد .
وعن طريق العقل أتحكم في النفس .
وعن طريق البصيرة أضع للعقل حدوده .
هذا التفاضل بين وجود ووجود يعلو عليه و يحكمه هو الإثبات الواقعي الذي يقودنا إلى الروح كحقيقة عالية متجاوزة للجسد وحاكمة عليه وليست ذيلاً وتابعاً تموت بموته .
والذي يقول إن الإنسان مجموعة وظائف فسيولوجية مادية لا غير . عليه أن يفسر لنا أين يذهب ذلك الإنسان في لحظة النوم .
إن جميع الوظائف الفسيولوجية قائمة ومستمرة في أثناء النوم . وجميع الأفعال المنعكسة واللاإرادية تحدث بانتظام .
فالقلب يدق والنَفَس يتردد والغدد تفرز والأحشاء تتلوى والأعضاء التناسلية تهتاج والذراع ينقبض لشكّة الدبوس . ومع ذلك فنحن أمام رجل نائم أشبه بشجرة . مجرد شجرة . أو حياة بدائية لا تختلف عن الحياة الحشرية . فأين الإنسان ؟!
إن النوم ثم اليقظة . وهو النموذج المصغر للموت ثم البعث . يكشف لنا مرة أخرى عن ذلك العنصر المتعالي الذي يخلق بحضوره في تلك الجثة النائمة فجأة وبلا مقدمات هتلر أو نيرون . فإذا بذلك الممد كالثور الهامد يصحو ليقتل ويغزو ويسحق ويمحق وإن الفرق لهائل أكبر من أن يفسَر بتغير مادي يتم في لحظات .
والماديّون يقولون إن النفس حقيقة موضوعية وبالتالي هي مادة .
ونحن نسأل كيف تكون النفس موضوعاً ؟ وموضوع بالنسبة لمن . ؟
موضوع بالنسبة للآخرين ؟ وكيف ؟! والآخرون لا يرونها ولا يدركون وجودها إلا استنباطاً من ظواهر السلوك . وهي ظواهر أغلبها كاذب . فكل منّا يمثل على الناس . بل يمثل على نفسه . وسلوكه الظاهر قَلما يدل عليه .
أم هي موضوع بالنسبة لصاحبها ؟
وكل منا لو اتخذ نفسه موضوعاً فإنها تبرد وتستحيل تحت مشرط التحليل إلى جثة , وتستخفي وتهرب من يديه لأنها لا يمكن أن تكون موضوعاً ولا أن توضع تحت مجهر مثل ورقة شجرة , لأن جوهرها بالدرجة الأولى في ذاتيتها , وحقيقتها أنها الوجه الآخر من الصورة فهي الذات في مقابل الجسد الذي هو موضوع .
وكِلا القطبين . الذات والموضوع . هما وجها الحقيقة . فإذا عرّفنا المادة بأنها كل ما هو موضوعي فلا بد من الإعتراف بأن هناك في الوجود شيئاً آخر غير المادة هو الوجه الآخر من الحقيقة . الذي هو الذات .
وتقودنا عملية الإدراك إلى إثبات أكيد بأن هناك شيئين في كل لحظة . الشيء المدرك . والنفس المدركة خارجه .
وما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لولا أن الجزء المدرك فينا يقف على عتبة منفصلة وخارجة عن هذا المرور الزمني المستمر .
ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل لحظة لما استطعنا أن ندرك هذه الثواني أبداً . ولا نصرم إدراكنا كما تنصرم الثواني بدون أن يلاحظ شيئاً وإنه لقانون معروف أن الحركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها .
لا يمكن أن تدرِك الحركة وأنت تتحرك معها في الفلك نفسه . وإنما لابد لك من عتبة خارجية تقف عليها لترصدها .
ولهذا تأتي عليك لحظة وأنت في أسانسير متحرك لا تستطيع أن تعرف هل هو واقف أم متحرك لأنك أصبحت قطعة واحدة معه في حركته . لا تستطيع إدراك هذه الحركة إلا إذا نظرت من باب الأسانسير إلى الرصيف الثابت في الخارج .
وبالمثل لا يمكنك رصد الشمس وأنت فوقها ولكن يمكنك رصدها من القمر أو الأرض . كما أنه لا يمكنك رصد الأرض وأنت تسكن عليها وإنما تستطيع رصدها من القمر .
وهكذا دائماً . لا تستطيع أن تحيط بحالة إلا إذا خرجت خارجها ولاحظتها كموضوع .
وأنت تدرك مرور الزمن لابد أن تكون ذاتك المدركة خارج الزمن . وهي نتيجة مذهلة تثبت لنا الروح أو الذات المدركة كوجود مستقل متعالٍ على الزمن ومتجاوز له وخارج عنه .
فها نحن أولاء أمام حقيقة إنسانية جزء منها غارق في الزمن ينصرم مع الزمن ويكبر معه ويشيخ معه ويهرم معه ( وهو الجسد ) وجزء منها خارج عن هذا الزمن يلاحظه من عتبة السكون ويدركه دون أن يتورط فيه ولهذا فهو لا يكبر ولا يشيخ ولا يهرم ولا ينصرم .
ويوم يسقط الجسد تراباً سوف يظل هو على حاله حيّاً حياته الخاصة غير الزمنية . ولا نجد لهذا الجزء إسماً غير الإسم الذي أطلقته الأديان وهو الروح .
وكل منا يستطيع أن يلمس هذا الوجود الروحي بداخله . ويدرك أنه وجود مغاير في نوعيته للوجود الخارجي النابض المتغير الذي يتدفق حولنا في شلال من التغيرات .
كل منا يستطيع أن يحس بداخله حالة حضور وديمومة وامتثال وشخوص وكينونة حاضرة دائماً ومغايرة تماماً للوجود المادي المتغير المتقلب النابض مع الزمن خارجه .
هذه هي الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الداخلي والتي أسميتها حالة ( حضور ) . هي المفتاح الذي يقودنا إلى الوجود الروحي بداخلنا ويضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه الروح . أو المطلق . أو المجرد .
ونحن حينما ندرك الجمال ونميزه من القبح . وندرك الحق ونميزه من الباطل . وندرك العدل ونميزه من الظلم . فنحن في كل مرة نقيس بمعيار . بمسطرة منفصلة عن الحادث الذي نقيسه . فنحن إذن نقيس من العتبة نفسها . عتبة الروح .
فالوجود الروحي يمثله فينا أيضاً الضمير ويدل عليه أيضاً الإحساس بالجمال . وتدل عليه الحاسة الخفية التي تميز الحق من الباطل والزائف من الصحيح . وتدل عليه الحرية الداخلية . فالروح هي منطقة السريرة والحرية المطلقة والإختيار والتمييز .
وحينما نعيش حياتنا لا نضع اعتباراً للموت . ونتصرف في كل لحظة دون أن نحسب حساباً للموت . وننظر إلى الموت كأنه اللامعقول .
فنحن في الواقع نفكر ونتصرف بهذه الـ أنا العميقة التي هي الروح والتي لا تعرف الموت بطبيعتها .
فالموت بالنسبة للروح التي تعيش خارج منطقة الزمن هو بالنسبة لها . لا أكثر من تغيير ثوب . لا أكثر من انتقال .
أما الموت كفناء وكعدم فهو أمر لا تعرفه , فهي أبداً ودائماً كانت حالة حضور وشخوص . إنها كانت دائماً هنا .
إنها الحَضرة المستمرة التي لم ولا يطرأ عليها طارئ الزوال . وكل ما سوف يحدث لها بالموت . أنها سوف تخلع الثوب الجسدي الترابي .
وكما تقول الصوفية تلبس الثوب البرزخي . ثم تخلع الثوب البرزخي لتلبس الثوب الملكوتي . ثم تخلع الثوب الملكوتي لتلبس الثوب الجبروتي .
كادحة من درجة إلى درجة ارتفاعاً إلى خالقها . كل روح ترتفع بقدر صفائها وشفافيتها وقدرتها على التحليق . على حين تتهابط الأرواح الكثيفة إلى ظلمات سحيقة وتنقضي عليها الآباد وهي تحاول الخلاص .
وأترك الصوفيين لمشاهداتهم حتى لا نضيع معهم في التيه , وليس هدفي من هذه الدراسة عبور حاجز الموت لمعرفة ما وراءه , فهذا طمع في غير مطمع ورغبة في مستحيل .
ويكفيني أن أقف بالقارئ ليتأمل نفسه ويكتشف ذاته العميقة الحاكمة الآمرة المتعالية على جسده الترابي . تلك التي أسميتها الروح . و التي استدللت عليها بأبلغ دلالة . بشعور الحضرة التي يشعر بها كل منا في داخل نفسه .
تلك الحضرة المستمرة التي لا يطرأ عليها طارئ الزوال ولا تهُب عليها رياح التغير وكأنها العين المفتوحة داخلنا على الدوام .
ذلك الصحو الداخلي .
ذلك النور غير المرئي في نفوسنا والذي نرى على ضوئه طريق الحق ونعرف طريق . القبح من الجمال . والخير من الشر .
تلك العتبة التي نرصد من فوقها حركة الزمن وندرك مروره . ونرى مرور الأشياء وندرك حركتها .
تلك النقطة في داخل الدائرة .
المركز الذي تدور حوله أحداثنا الدنيوية الزمنية وهو شاخص في مكانه لا يتحرك ولا ينصرم له وجود . ˝ الروح ˝ .
حقيقتنا المطلقة التي هي برغم ذلك لغز .
هل الروح أبدية . أو أن لها زمناً آخر ذا تقويم مختلف . اليوم فيه بألف سنة ؟
وما العلاقة بين الروح والجسد ؟
وما العلاقة بين العقل والمخ ؟
وما العلاقة بين الذاكرة والتحصيل واستظهار العلوم ؟
إنه موضوع آخر له شرح يطول .
**********************
مقال / الجســـد
من كتاب / رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود ( رحمه الله ). ❝
❞ ❞ ومن بديع حكمة الله أنه وضع للإنسانية أصلًا من أصول نظامها في ضمير الإنسان ،ثم ماذا يكون بعد أن يضرب الإنسان تلك الحاسة الروحية التي نسميها الضمير ويرميها بالشلل؟ إنه ينحطُّ درجة واحدة، ولكنها درجة الضمير التي لو جازها الحيوان لصار إنسانًا، ولو نزل عنها الإنسان لعاد حيوانًا ❝ الرافعي. ❝ ⏤Zachary Hasan
❞ ومن بديع حكمة الله أنه وضع للإنسانية أصلًا من أصول نظامها في ضمير الإنسان ،ثم ماذا يكون بعد أن يضرب الإنسان تلك الحاسة الروحية التي نسميها الضمير ويرميها بالشلل؟ إنه ينحطُّ درجة واحدة، ولكنها درجة الضمير التي لو جازها الحيوان لصار إنسانًا، ولو نزل عنها الإنسان لعاد حيوانًا ❝ الرافعي. ❝
❞ الذي رأى قطة تتلصص على مائدة في خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك. الذي رأى مثل تلك القطة ونظر إلى عينيها وهي تسرق لن ينسى أبداً تلك النظرة التي تملؤها الإحساس بالذنب.
إن القطة وهي الحيوان الأعجم تشعر شعوراً مبهماً أنها ترتكب إثماً .. فإذا لحقها العقاب ونالت ضربة على رأسها فإنها تغض من رأسها وتطأطئ بصرها ، وكأنها تدرك إدراكاً مبهماً أنها نالت ما تستحق.
هو إحساس الفطرة الأولى الذي ركبه الخالق في بنية المخلوق .. إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتى في الحيوان الأعجم.
والقط إذ يتبرز ثم ينثني علي ما فعل ويهيل عليه التراب حتى يخفيه عن الأنظار.
ذلك الفعل الغريزي يدل على إحساس بالقبح وعلى المبادرة بستر هذا القبح.
وذلك الفعل هو أيضاً فطرة أخلاقية لم تكتسب بالتعلم .. وإنما بهذه الفطرة وُلِد كل القطط.
وبالمثل غضبة الجمل بعد تكرار الإهانة من صاحبه وبعد طول الصبر والتحمل .. وكبرياء الأسد وترفعه عن أن يهاجم فريسته غدراً من الخلف وإنما دائماً من الأمام ومواجهة .. ولا يفترس إلا ليأكل .. ولا يفكر في أكل أو افتراس إلّا إذا جاع.
كل هذه أخلاق مفطورة في الحشوة الحية وفي الحيوان.
ثم الوفاء الزوجي عند الحمام.
والولاء للجماعة في الحيوانات التي تتحرك في قطعان.
نحن أمام الأسس الأولى للضمير .. نكتشفها تحت الجلد وفي الدم لم يعلمها معلم وإنما هي في الخلقة.
ونحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطري بالمسئولية .. ثم نشعر بالعبء أثناء الفعل نتيجة تحري الصواب .. ونشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ.
هذه المشاعر الفطرية التي يشترك فيها المثقف والبدائي والطفل هي دليل على شعور باطن بالقانون والنظام وأن هناك محاسبة .. وأن هناك عدالة .. وإن كل واحد فينا مُطَالب بالعدالة كما أن له الحق في أن يطلبها .. وإن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذي خلقنا ومن طبيعتنا ذاتها.
فإذا نظرنا إلى العالم المادي من الذرات المتناهية في الصغر إلى المجرات المتناهية في العظم وجدنا كل شيء يجري بقوانين و بحساب و انضباط .
حتى الإلكترون لا ينتقل من مدار إلى مدار في فلك النواة إلّا إذا أعطى أو أخذ حزماً من الطاقة تساوي مقادير انتقاله و كأنه راكب في قطار لا يستطيع أن يستقل القطار إلّا إذا دفع ثمن التذكرة .
و ميلاد النجوم و موتها له قوانين و أسباب.
و حركة الكواكب في دولاب الجاذبية لها معادلة .
و تحول المادة إلى طاقة و تحول جسم الشمس إلى نور له معادلة .
و انتقال النور له سرعة .
و كل موجة لها طول و لها ذبذبة و لها سرعة .
كما أن كل معدن له طيف و له خطوط امتصاص مميزة يُعرَف بها في جهاز المطياف .
و كل معدن يتمدد بمقدار و يتقلص بمقدار بالحرارة و البرودة .. و كل معدن له كتلة و كثافة و وزن ذري جزيئي و ثوابت و خواص .
و أينشتين أثبت لنا أن هناك علاقة بين كتلة الجسم و سرعته .. و بين الزمن و نظام الحركة داخل مجموعة متحركة .. و بين الزمان و المكان .
و الذي يفرق المواد إلى جوامد و سوائل و غازات هو معدل السرعة بين جزيئاتها .
و لأن الحرارة تعجّل من هذه السرعة فإنها تستطيع أن تصهر الجوامد و تحولها إلى سوائل ثم تبخر السوائل و تحولها إلى غازات .
كما أن الكهرباء تتولد بقوانين .. كما يتحرك التيار الكهربائي و يفعل و يؤثرعلى أساس من فرق الجهد و الشدة .
كما تتوقف جاذبية كل نجم على مقدار جرمه و كتلته .
و الزلازل التي تبدو أنواعاً من الفوضى لها هي الأخرى نظام و أحزمة و
خطوط تحدث فيها و يمكن رسم و تتبع الأحزمة الزلزالية بطول الكرة
الأرضية و عرضها .
و الكون كله جدول من القوانين المنضبطة الصريحة التي لا غش فيها و لا خداع .
سوف يرتفع صوت ليقول : و ما رأيك فيما نحن فيه من الغش و الخداع و الحروب و المظالم و قتل بعضنا البعض بغياً و عدواناً .. أين النظام هنا ؟ و سوف أقول له : هذا شيء آخر .. فإن ما يحدث بيننا نحن دولة بني آدم يحدث لأن الله أخلفنا في الأرض و أقامنا ملوكاً نحكم و أعطانا الحرية .. و عرض علينا الأمانة فقبلناها .
و كان معنى إعطائنا الحرية أن تصبح لنا إمكانية الخطأ و الصواب .
و كان كل ما نرى حولنا في دنيانا البشرية هو نتيجة هذه الحرية التي
أسأنا استعمالها .
إن الفوضى هي فعلنا نحن و هي النتيجة المترتبة على حريتنا ، أما العالم فهو بالغ الذروة في الانضباط و النظام .
و لو شاء الله لأخضعنا نحن أيضاً للنظام قهراً كما أخضع الجبال و البحار و النجوم و الفضاء .. و لكنه شاء أن يفني عنّا القهر لتكتمل بذلك عدالته .. و ليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذي هو من جنس دخيلته .
أراد بذلك عدلاً ليكون بعثنا بعد ذلك على مقامات و درجات هو إحقاق الحق و وضع كل شيء في نصابه .
و الحياة مستمرة .
و ليس ما نحياه من الحياة في دنيانا هو كل الحياة .
و معنى هذا أن الفترة الاعتراضية من المظالم و الفوضى هي فترة لها حِكمتها و أسبابها و أنها عين العدالة من حيث هي امتحان لما يلي من حياة مستمرة أبداً .
إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها و ما قبلها ، و هي ليست كل الحقيقة و لا كل القصة .. و إنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولاً .
وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة.
أدركها الإنسان البدائي.
وقال بها الأنبياء إخباراً عن الغيب.
وقال بها العقل والعلم الذي أدرك أن الإنسان جسد وروح كما ذكرنا في فصول سابقة .. وإن الإنسان يستشعر بروحه من إحساسه الداخلي العميق المستمر بالحضور رغم شلال التغيرات الزمنية من حوله ، وهو إحساس ينبئ بأنه يملك وجوداً داخلياً متعالياً على التغيرات مجاوزاً للزمن والفناء والموت.
وفلاسفة مثل عمانويل كانت وبرجسون وكيركجارد ، لهم وزنهم في الفكر قالوا بحقيقة الروح والبعث.
وفي كتاب «جمهورية أفلاطون».. فصل رائع عن خلود الروح.
هي حقيقة كانت تفرض نفسها إذن على أكبر العقول وعلى أصغر العقول وكانت تقوم كبداهة يصعب إنكارها.
ولكن أهم برهان على البعث في نظري هو ذلك الإحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعا ونتصرف على أساسه ، أن هناك نظاماً مُحكَماً وقانوناً وعدلاً.
ونحن نطالب أنفسنا ونطالب غيرنا فطرياً وغريزياً بهذا العدل.
وتحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل.
ونحارب لنرسي دعائم ذلك العدل.
ونموت في سبيل العدل.
وفي النهاية لا نحقق أبداً ذلك العدل.
وهذا يعني أنه سوف يتحقق بصورة ما لاشك فيها .. لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها على عقولنا وضمائرنا طول الوقت.
وإذا كنا لا نرى ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة ولأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة.
وإلّا فلماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم ولماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلاً .. لماذا نحرص كل هذا الحرص ونشتعل غضباً على ما لا وجود له.
يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان :
إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل .. ولأنه لا عدل في الدنيا .. فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي.
إن شعورنا الداخلي الفطري هو الدليل القطعي على أن العدل حق .. وإن كنا لا نراه اليوم .. فإننا سوف نراه غداً .. هذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا .. وهو الصدق لأنه وحي البداهة..
والبداهة والفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش وهي قانون من ضمن القوانين العديدة التي ينضبط بها الوجود.
سوف يرتفع صوت ليقول : لندع عالم الآدميين ونسأل : لماذا خلق الله الخنزير خنزيراً والكلب كلباً .. والحشرة حشرة .. ما ذنب هذه الكائنات لتخلق على تلك الصورة المنحطة .. وأين العدل هنا ؟
وإذا كان الله سوف يبعث كل ذي روح فلماذا لا يبعث القرد والكلب والخنزير؟
والسؤال وجيه ولكن يلقيه عقل لا يعرف إلّا نصف القضية .. أو سطراً واحداً من ملف التحقيق .. ومع ذلك يتعجل معرفة الحكم وحيثياته.
والواقع أن كل الكائنات الحيوانية نفوس.
والله قد اختار لكل نفس القالب المادي الذي تستحقه.
والله قد خلق الخنزير خنزيراً لأنه خنزير..
ونحن لا نعلم شيئا عن تلك النفوس الخنزيرية قبل أن يودعها الله في قالبها المادي الخنزيري..
ولا نعلم لماذا وكيف كان الميلاد على تلك الصورة .. وما قبل الميلاد محجوب.
كما أن ما بعد الموت محجوب.
ولكن أهل المشاهدة يقولون كما يقول القرآن إننا كنا قبل الميلاد في عالم ( يسمونه عالم الذر ) ونكون بعد الموت في عالم. والحياة أبدية ولا موت وإنما انتقال وارتقاء في معراج لا ينتهي . صعوداً وتطوراً وتسامياً وكدحاً إلى الله.
وهذا الاستمرار يقول به العقل أيضاً.
والعدل هو الحقيقة الأزلية التي وقرها الله في الفطرة وفي الحشوة الآدمية.. وحتي في الحشوة الحيوانية كما قدمت في بداية مقالي.
هذا العدل حقيقة مطلقة سوف تقول لنا أن جميع القوالب المادية والحيوانية هي استحقاقات مؤكدة لا ندري شيئا عن تفاصيلها ولا كيف كانت ، ولكننا نستطيع أن نقول بداهة أنها استحقاقات .. وأن الله خلق الخنزير خنزيراً لأن نفسه كانت نفسا خنزيرية فكان هذا ثوبها وقالبها الملائم.
أما بعث الحيوانات فالقرآن يقول به :
( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) (الأنعام – 38).
هي أمم من الأنفس يقول لنا القرآن أنها تُحشَر كما نُحشَر.. أما ما يجري عليها بعد ذلك وأين تكون وما مصيرها .. فهو غيب .. وتطلع إلى محجوبات .. وفضول لن نجد له جواباً شافياً.
والعلم بكل شيء في داخل اللحظة المحدودة وفي عمرنا الدنيوي هو طمع في مستحيل.
ولكن إذا كان نصيبنا من العلم وإذا كان ما غنمناه بالتأمل هو أن العدل حقيقة أزلية وأن الله وقرها وأودعها في الفطرة فقد علمنا الكثير وأدركنا كفايتنا.
وبالصورة التي أدركنا بها الله في مقالنا الأول على أنه العقل الكلي المحيط وأنه القادر المبدع الملهم المعني بمخلوقاته ، بهذه الصورة سوف نفهم كيف أودع الله هذه الفطرة الهادية المرشدة في مخلوقاته فهذا مقتضي عنايته وعدله .. أن يخلق مخلوقاته ويخلق لها النور الذي تهتدي به. وسوف نصدق أيضا أن الله أرسل الأنبياء وأوحي بالكتب .. فإن الله لا يكون رباً ولا إلهاً ملهماً مدبراً بغير ذلك.
وسوف يكون دليلا على صدق الكتب السماوية وهو ما تأتينا به من علم وغيب وحكمة وتشريع وحق مما لا يتأتي لجهد فردي أن يهتدي إليه بالمحاولة الشخصية.
إن الله الخالق العادل الملهم الذي خلق مخلوقاته وألهمها الطريق.. (وهو لباب الأديان كلها)..
هو مبدأ أولي يصل إليه العقل دون إجهاد. وتوحي به الفطرة بداهة.
وإنما الافتعال كل الافتعال.. هو القول بغير ذلك.
والإنكار يحتاج إلى الجهد كل الجهد وإلى الالتفاف والدوران واللجاجة والجدل العقيم ثم نهايته إلى التهافت .. لأنه لا يقوم على أساس .. ولأنه يدخل في باب المكابرة والعناد أكثر مما يدخل في باب التأمل المحايد النزيه والفطرة السوية.
وهذا هو ما قالته لي رحلتي الفكرية الطويلة .. من بدايتها المزهوة في كتاب ( الله والإنسان ) إلى وقفتها الخاشعة على أبواب القرآن والتوراة والإنجيل وليس متديناً في نظري من تعصب وتحزب وتصور أن نبيه هو النبي الوحيد وأن الله لم يأت بغيره .. فإن هذا التصور لله هو تصور طفولي متخلف يظن أن الله أشبه بشيخ قبيلة .. ومثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تديناً.
وإنما التصور الحق لله .. أنه الكريم الذي يعطي الكل ويرسل الرسل للكل.
( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )
(فاطر – 24)
و( لقد بعثنا في كل أمة رسولاً )
(النحل – 36)
( وما كان ربك مُهلِك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً )
( القصص – 59)
( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك )
( النساء – 164)
ومعنى هذه الآية أن بوذا يمكن أن يكون رسولا وإن لم يرد ذكره في القرآن.
وإخناتون يمكن أن يكون رسولاً .. ويمكن أن يكون ما وصلنا من تعاليمهم قد خضع للتحريف .. والله يريد بهذا أن يوحي بالإيمان المنفتح الذي يحتضن كل الرسالات وكل الأنبياء وكل الكتب بلا تعصب وبلا تحيز.
وأصدق مثل للوعي الديني المتفتح هو وعي رجل مثل غاندي .. هندوسي ومع ذلك يقرأ في صلاته فقرات من القرآن والتوراة والإنجيل وكتاب ( الدامابادا ) لبوذا .. في خشوع ومحبة.. مؤمناً بكل الكتب وكل الرسل .. وبالخالق الواحد الذي أرسلها.
وهو رجل حياته مثل كلامه أنفقها في الحب والسلام.
والدين واحد من الناحية العقائدية وإن اختلفت الشرائع في الأديان المتعددة . كما أن الرب واحد.
والفضلاء من جميع الأديان هم على دين واحد.
لأن المتدين الفاضل لا يتصور الله خالقاً له وحده وهادياً له وحده أو لفئة وحدها .. وإنما هو نور السموات والأرض .. المتاح لكل من يجهد باحثا عنه .. الرحمن الرحيم المرسل للهداة المنزل للوحي في جميع الأعصر والدهور .. وهذا مقتضى عدله الأزلي .. وهذا هو المعنى الجدير بالمقام الإلهي .. وبدون هذا الإيمان المنفتح لا يكون المتدين متديناً.
أما الأديان التي تنقسم شيعاً يحارب بعضها بعضاً باسم الدين فإنها ترفع راية الدين كذباً .. وما الراية المرفوعة إلا راية العنصر والعرق والجنس وهي مازالت في جاهلية الأوس والخزرج وحماسيات عنترة .. تحارب للغرور .. وإن ظنت أنها تحارب لله .. وهي هالكة ، الغالب فيها والمغلوب .. مشركة .. كل منها عابد لتمثاله ولذاته ولتصوره الشخصي وليس عابداً لله.
وإنما تبدأ عبادة الله بمعرفة الله ومقامه الأسمى . وتبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الأدنى.
وهذا هو الطريق .. والصراط .. والمعراج الذي يبدأ منه عروج السالكين في هجرتهم الكبرى إلى الحق.
مقال : العدل الأزلي .
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان .
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الذي رأى قطة تتلصص على مائدة في خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك. الذي رأى مثل تلك القطة ونظر إلى عينيها وهي تسرق لن ينسى أبداً تلك النظرة التي تملؤها الإحساس بالذنب.
إن القطة وهي الحيوان الأعجم تشعر شعوراً مبهماً أنها ترتكب إثماً . فإذا لحقها العقاب ونالت ضربة على رأسها فإنها تغض من رأسها وتطأطئ بصرها ، وكأنها تدرك إدراكاً مبهماً أنها نالت ما تستحق.
هو إحساس الفطرة الأولى الذي ركبه الخالق في بنية المخلوق . إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتى في الحيوان الأعجم.
والقط إذ يتبرز ثم ينثني علي ما فعل ويهيل عليه التراب حتى يخفيه عن الأنظار.
ذلك الفعل الغريزي يدل على إحساس بالقبح وعلى المبادرة بستر هذا القبح.
وذلك الفعل هو أيضاً فطرة أخلاقية لم تكتسب بالتعلم . وإنما بهذه الفطرة وُلِد كل القطط.
وبالمثل غضبة الجمل بعد تكرار الإهانة من صاحبه وبعد طول الصبر والتحمل . وكبرياء الأسد وترفعه عن أن يهاجم فريسته غدراً من الخلف وإنما دائماً من الأمام ومواجهة . ولا يفترس إلا ليأكل . ولا يفكر في أكل أو افتراس إلّا إذا جاع.
كل هذه أخلاق مفطورة في الحشوة الحية وفي الحيوان.
ثم الوفاء الزوجي عند الحمام.
والولاء للجماعة في الحيوانات التي تتحرك في قطعان.
نحن أمام الأسس الأولى للضمير . نكتشفها تحت الجلد وفي الدم لم يعلمها معلم وإنما هي في الخلقة.
ونحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطري بالمسئولية . ثم نشعر بالعبء أثناء الفعل نتيجة تحري الصواب . ونشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ.
هذه المشاعر الفطرية التي يشترك فيها المثقف والبدائي والطفل هي دليل على شعور باطن بالقانون والنظام وأن هناك محاسبة . وأن هناك عدالة . وإن كل واحد فينا مُطَالب بالعدالة كما أن له الحق في أن يطلبها . وإن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذي خلقنا ومن طبيعتنا ذاتها.
فإذا نظرنا إلى العالم المادي من الذرات المتناهية في الصغر إلى المجرات المتناهية في العظم وجدنا كل شيء يجري بقوانين و بحساب و انضباط .
حتى الإلكترون لا ينتقل من مدار إلى مدار في فلك النواة إلّا إذا أعطى أو أخذ حزماً من الطاقة تساوي مقادير انتقاله و كأنه راكب في قطار لا يستطيع أن يستقل القطار إلّا إذا دفع ثمن التذكرة .
و ميلاد النجوم و موتها له قوانين و أسباب.
و حركة الكواكب في دولاب الجاذبية لها معادلة .
و تحول المادة إلى طاقة و تحول جسم الشمس إلى نور له معادلة .
و انتقال النور له سرعة .
و كل موجة لها طول و لها ذبذبة و لها سرعة .
كما أن كل معدن له طيف و له خطوط امتصاص مميزة يُعرَف بها في جهاز المطياف .
و كل معدن يتمدد بمقدار و يتقلص بمقدار بالحرارة و البرودة . و كل معدن له كتلة و كثافة و وزن ذري جزيئي و ثوابت و خواص .
و أينشتين أثبت لنا أن هناك علاقة بين كتلة الجسم و سرعته . و بين الزمن و نظام الحركة داخل مجموعة متحركة . و بين الزمان و المكان .
و الذي يفرق المواد إلى جوامد و سوائل و غازات هو معدل السرعة بين جزيئاتها .
و لأن الحرارة تعجّل من هذه السرعة فإنها تستطيع أن تصهر الجوامد و تحولها إلى سوائل ثم تبخر السوائل و تحولها إلى غازات .
كما أن الكهرباء تتولد بقوانين . كما يتحرك التيار الكهربائي و يفعل و يؤثرعلى أساس من فرق الجهد و الشدة .
كما تتوقف جاذبية كل نجم على مقدار جرمه و كتلته .
و الزلازل التي تبدو أنواعاً من الفوضى لها هي الأخرى نظام و أحزمة و
خطوط تحدث فيها و يمكن رسم و تتبع الأحزمة الزلزالية بطول الكرة
الأرضية و عرضها .
و الكون كله جدول من القوانين المنضبطة الصريحة التي لا غش فيها و لا خداع .
سوف يرتفع صوت ليقول : و ما رأيك فيما نحن فيه من الغش و الخداع و الحروب و المظالم و قتل بعضنا البعض بغياً و عدواناً . أين النظام هنا ؟ و سوف أقول له : هذا شيء آخر . فإن ما يحدث بيننا نحن دولة بني آدم يحدث لأن الله أخلفنا في الأرض و أقامنا ملوكاً نحكم و أعطانا الحرية . و عرض علينا الأمانة فقبلناها .
و كان معنى إعطائنا الحرية أن تصبح لنا إمكانية الخطأ و الصواب .
و كان كل ما نرى حولنا في دنيانا البشرية هو نتيجة هذه الحرية التي
أسأنا استعمالها .
إن الفوضى هي فعلنا نحن و هي النتيجة المترتبة على حريتنا ، أما العالم فهو بالغ الذروة في الانضباط و النظام .
و لو شاء الله لأخضعنا نحن أيضاً للنظام قهراً كما أخضع الجبال و البحار و النجوم و الفضاء . و لكنه شاء أن يفني عنّا القهر لتكتمل بذلك عدالته . و ليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذي هو من جنس دخيلته .
أراد بذلك عدلاً ليكون بعثنا بعد ذلك على مقامات و درجات هو إحقاق الحق و وضع كل شيء في نصابه .
و الحياة مستمرة .
و ليس ما نحياه من الحياة في دنيانا هو كل الحياة .
و معنى هذا أن الفترة الاعتراضية من المظالم و الفوضى هي فترة لها حِكمتها و أسبابها و أنها عين العدالة من حيث هي امتحان لما يلي من حياة مستمرة أبداً .
إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها و ما قبلها ، و هي ليست كل الحقيقة و لا كل القصة . و إنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولاً .
وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة.
أدركها الإنسان البدائي.
وقال بها الأنبياء إخباراً عن الغيب.
وقال بها العقل والعلم الذي أدرك أن الإنسان جسد وروح كما ذكرنا في فصول سابقة . وإن الإنسان يستشعر بروحه من إحساسه الداخلي العميق المستمر بالحضور رغم شلال التغيرات الزمنية من حوله ، وهو إحساس ينبئ بأنه يملك وجوداً داخلياً متعالياً على التغيرات مجاوزاً للزمن والفناء والموت.
وفلاسفة مثل عمانويل كانت وبرجسون وكيركجارد ، لهم وزنهم في الفكر قالوا بحقيقة الروح والبعث.
وفي كتاب «جمهورية أفلاطون». فصل رائع عن خلود الروح.
هي حقيقة كانت تفرض نفسها إذن على أكبر العقول وعلى أصغر العقول وكانت تقوم كبداهة يصعب إنكارها.
ولكن أهم برهان على البعث في نظري هو ذلك الإحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعا ونتصرف على أساسه ، أن هناك نظاماً مُحكَماً وقانوناً وعدلاً.
ونحن نطالب أنفسنا ونطالب غيرنا فطرياً وغريزياً بهذا العدل.
وتحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل.
ونحارب لنرسي دعائم ذلك العدل.
ونموت في سبيل العدل.
وفي النهاية لا نحقق أبداً ذلك العدل.
وهذا يعني أنه سوف يتحقق بصورة ما لاشك فيها . لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها على عقولنا وضمائرنا طول الوقت.
وإذا كنا لا نرى ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة ولأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة.
وإلّا فلماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم ولماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلاً . لماذا نحرص كل هذا الحرص ونشتعل غضباً على ما لا وجود له.
يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان :
إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل . ولأنه لا عدل في الدنيا . فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي.
إن شعورنا الداخلي الفطري هو الدليل القطعي على أن العدل حق . وإن كنا لا نراه اليوم . فإننا سوف نراه غداً . هذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا . وهو الصدق لأنه وحي البداهة.
والبداهة والفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش وهي قانون من ضمن القوانين العديدة التي ينضبط بها الوجود.
سوف يرتفع صوت ليقول : لندع عالم الآدميين ونسأل : لماذا خلق الله الخنزير خنزيراً والكلب كلباً . والحشرة حشرة . ما ذنب هذه الكائنات لتخلق على تلك الصورة المنحطة . وأين العدل هنا ؟
وإذا كان الله سوف يبعث كل ذي روح فلماذا لا يبعث القرد والكلب والخنزير؟
والسؤال وجيه ولكن يلقيه عقل لا يعرف إلّا نصف القضية . أو سطراً واحداً من ملف التحقيق . ومع ذلك يتعجل معرفة الحكم وحيثياته.
والواقع أن كل الكائنات الحيوانية نفوس.
والله قد اختار لكل نفس القالب المادي الذي تستحقه.
والله قد خلق الخنزير خنزيراً لأنه خنزير.
ونحن لا نعلم شيئا عن تلك النفوس الخنزيرية قبل أن يودعها الله في قالبها المادي الخنزيري.
ولا نعلم لماذا وكيف كان الميلاد على تلك الصورة . وما قبل الميلاد محجوب.
كما أن ما بعد الموت محجوب.
ولكن أهل المشاهدة يقولون كما يقول القرآن إننا كنا قبل الميلاد في عالم ( يسمونه عالم الذر ) ونكون بعد الموت في عالم. والحياة أبدية ولا موت وإنما انتقال وارتقاء في معراج لا ينتهي . صعوداً وتطوراً وتسامياً وكدحاً إلى الله.
وهذا الاستمرار يقول به العقل أيضاً.
والعدل هو الحقيقة الأزلية التي وقرها الله في الفطرة وفي الحشوة الآدمية. وحتي في الحشوة الحيوانية كما قدمت في بداية مقالي.
هذا العدل حقيقة مطلقة سوف تقول لنا أن جميع القوالب المادية والحيوانية هي استحقاقات مؤكدة لا ندري شيئا عن تفاصيلها ولا كيف كانت ، ولكننا نستطيع أن نقول بداهة أنها استحقاقات . وأن الله خلق الخنزير خنزيراً لأن نفسه كانت نفسا خنزيرية فكان هذا ثوبها وقالبها الملائم.
أما بعث الحيوانات فالقرآن يقول به :
( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) (الأنعام – 38).
هي أمم من الأنفس يقول لنا القرآن أنها تُحشَر كما نُحشَر. أما ما يجري عليها بعد ذلك وأين تكون وما مصيرها . فهو غيب . وتطلع إلى محجوبات . وفضول لن نجد له جواباً شافياً.
والعلم بكل شيء في داخل اللحظة المحدودة وفي عمرنا الدنيوي هو طمع في مستحيل.
ولكن إذا كان نصيبنا من العلم وإذا كان ما غنمناه بالتأمل هو أن العدل حقيقة أزلية وأن الله وقرها وأودعها في الفطرة فقد علمنا الكثير وأدركنا كفايتنا.
وبالصورة التي أدركنا بها الله في مقالنا الأول على أنه العقل الكلي المحيط وأنه القادر المبدع الملهم المعني بمخلوقاته ، بهذه الصورة سوف نفهم كيف أودع الله هذه الفطرة الهادية المرشدة في مخلوقاته فهذا مقتضي عنايته وعدله . أن يخلق مخلوقاته ويخلق لها النور الذي تهتدي به. وسوف نصدق أيضا أن الله أرسل الأنبياء وأوحي بالكتب . فإن الله لا يكون رباً ولا إلهاً ملهماً مدبراً بغير ذلك.
وسوف يكون دليلا على صدق الكتب السماوية وهو ما تأتينا به من علم وغيب وحكمة وتشريع وحق مما لا يتأتي لجهد فردي أن يهتدي إليه بالمحاولة الشخصية.
إن الله الخالق العادل الملهم الذي خلق مخلوقاته وألهمها الطريق. (وهو لباب الأديان كلها).
هو مبدأ أولي يصل إليه العقل دون إجهاد. وتوحي به الفطرة بداهة.
وإنما الافتعال كل الافتعال. هو القول بغير ذلك.
والإنكار يحتاج إلى الجهد كل الجهد وإلى الالتفاف والدوران واللجاجة والجدل العقيم ثم نهايته إلى التهافت . لأنه لا يقوم على أساس . ولأنه يدخل في باب المكابرة والعناد أكثر مما يدخل في باب التأمل المحايد النزيه والفطرة السوية.
وهذا هو ما قالته لي رحلتي الفكرية الطويلة . من بدايتها المزهوة في كتاب ( الله والإنسان ) إلى وقفتها الخاشعة على أبواب القرآن والتوراة والإنجيل وليس متديناً في نظري من تعصب وتحزب وتصور أن نبيه هو النبي الوحيد وأن الله لم يأت بغيره . فإن هذا التصور لله هو تصور طفولي متخلف يظن أن الله أشبه بشيخ قبيلة . ومثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تديناً.
وإنما التصور الحق لله . أنه الكريم الذي يعطي الكل ويرسل الرسل للكل.
( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )
(فاطر – 24)
و( لقد بعثنا في كل أمة رسولاً )
(النحل – 36)
( وما كان ربك مُهلِك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً )
( القصص – 59)
( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك )
( النساء – 164)
ومعنى هذه الآية أن بوذا يمكن أن يكون رسولا وإن لم يرد ذكره في القرآن.
وإخناتون يمكن أن يكون رسولاً . ويمكن أن يكون ما وصلنا من تعاليمهم قد خضع للتحريف . والله يريد بهذا أن يوحي بالإيمان المنفتح الذي يحتضن كل الرسالات وكل الأنبياء وكل الكتب بلا تعصب وبلا تحيز.
وأصدق مثل للوعي الديني المتفتح هو وعي رجل مثل غاندي . هندوسي ومع ذلك يقرأ في صلاته فقرات من القرآن والتوراة والإنجيل وكتاب ( الدامابادا ) لبوذا . في خشوع ومحبة. مؤمناً بكل الكتب وكل الرسل . وبالخالق الواحد الذي أرسلها.
وهو رجل حياته مثل كلامه أنفقها في الحب والسلام.
والدين واحد من الناحية العقائدية وإن اختلفت الشرائع في الأديان المتعددة . كما أن الرب واحد.
والفضلاء من جميع الأديان هم على دين واحد.
لأن المتدين الفاضل لا يتصور الله خالقاً له وحده وهادياً له وحده أو لفئة وحدها . وإنما هو نور السموات والأرض . المتاح لكل من يجهد باحثا عنه . الرحمن الرحيم المرسل للهداة المنزل للوحي في جميع الأعصر والدهور . وهذا مقتضى عدله الأزلي . وهذا هو المعنى الجدير بالمقام الإلهي . وبدون هذا الإيمان المنفتح لا يكون المتدين متديناً.
أما الأديان التي تنقسم شيعاً يحارب بعضها بعضاً باسم الدين فإنها ترفع راية الدين كذباً . وما الراية المرفوعة إلا راية العنصر والعرق والجنس وهي مازالت في جاهلية الأوس والخزرج وحماسيات عنترة . تحارب للغرور . وإن ظنت أنها تحارب لله . وهي هالكة ، الغالب فيها والمغلوب . مشركة . كل منها عابد لتمثاله ولذاته ولتصوره الشخصي وليس عابداً لله.
وإنما تبدأ عبادة الله بمعرفة الله ومقامه الأسمى . وتبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الأدنى.
وهذا هو الطريق . والصراط . والمعراج الذي يبدأ منه عروج السالكين في هجرتهم الكبرى إلى الحق.
مقال : العدل الأزلي .
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان .
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله). ❝