❞ فلان مات !! ..
مات .. ؟! مات ازاي ده كان لسه سهران معانا امبارح لنص الليل .. شيء عجيب !! ..
و نمصمص شفاهنا .. ثم ننسى كل شيء و نعود إلى حياتنا الآلية .. و لكن عيننا الداخلية تظل مطلة على هذه الفجوة .. و باطننا يظل يرتجف بهذا القلق المبهم !! ..
الموت بالنسبة لكل منا .. أزمة .. و سؤال .. يبعث على الدهشة و القلق .. والذعر ..
و لكنه بالنسبة للكون شيء آخر ..
إنه بالنسبة للكون ضرورة و فضيلة .. و خير ..
الموت و الحياة حينما ننظر لهما من بعيد .. و هما يعملان في الكون يظهران و هما يخلقان الواقع ..
الموت يبدو مكملًا للحياة .. يبدو كالبستاني الذي يقتلع النباتات الفاسدة و يسوي الأرض و يحرثها ليفسح المجال للبذور الصغيرة الرقيقة لتطرح ثمارها ..
يبدو كالرسام الذي يمحو بفرشاته خطًا ليثبت على اللوحة خطًا جديد أفضل منه ..
يبدو خالقًا في ثوب هدام .. فهو يهدم حائط الجسد .. لأن خلف الحائط يوجد ماء الحياة الجاري ..
حاول أن تتخيل الدنيا بلا موت ..
الدنيا من أيام آدم ..
و المخلوقات و هي تتراكم فيها ..
و لا تموت !!
الناس .. و الذباب .. و الضفادع .. و الحشائش .. و الديدان .. و هي تتراكم .. و يصعد بعضها على أكتاف بعض .. حتى تسد عين الشمس .. إن الحياة تبدو شيئا كالاختناق ..
إن الكائن الحي يحب نفسه فقط .. و يحب اللحظة الصغيرة التي يعيشها و لهذا يكره الموت .. و لكن الموت يحب كل اللحظات و يحب الزمن .. و يحب المستقبل .. و لهذا يتساقط الناس من غرباله كالنشارة ليقوم على أشلائهم ناس آخرون أحسن منهم و هكذا دواليك ..
الموت هو عملية المونتاج التي تعمل في الشريط الوجودي كله فتقصه إلى عدة لقطات واقعية .. كل منها له عمر محدود !! ..
و الموت يخلق واقع الأشياء الجامدة أيضا كما يخلق واقع المخلوقات الحية ..
الأشياء الجامدة لها نهاية .. و العين تدركها لأن لها نهاية .. نهاية في الطول و العرض و العمق .. و لو كانت لا نهائية في طولها و عرضها و عمقها لاختفت .. و لأصبحت عالية في الإدراك .. غير موجودة
..
إن التناهي هو الذي يوجدها..
و التناهي هو الموت ..
كل ما في الكون من إنسان و حيوان و نبات و جماد إذن متناه له حدود .. الموت يأكل أطرافه .. و يقص حواشيه .. و يبرزه .. و يوجده و يخلقه في نفس الوقت ..
الموت فضيلة و خير بالنسبة للكون كله لأن به تكون الأشياء موجودة و تكون المخلوقات مضطربة بالشعور و الحياة ..
و لكنه شر الرذائل بالنسبة للإنسان الفرد .. بالنسبة لك أنت .. و لي أنا .. لأنه ينفقنا كضرائب إنشاء و تعمير .. و يقدمنا قرابين على مذبح الوجود.
و نحن لا نفهم هذا النوع من القربان .. و لا نستطيع أن نفهمه لأنه قربان فظيع .. و تضحية معناها أن نموت و نهلك !! .
. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ فلان مات !! ..
مات .. ؟! مات ازاي ده كان لسه سهران معانا امبارح لنص الليل .. شيء عجيب !! ..
و نمصمص شفاهنا .. ثم ننسى كل شيء و نعود إلى حياتنا الآلية .. و لكن عيننا الداخلية تظل مطلة على هذه الفجوة .. و باطننا يظل يرتجف بهذا القلق المبهم !! ..
الموت بالنسبة لكل منا .. أزمة .. و سؤال .. يبعث على الدهشة و القلق .. والذعر ..
و لكنه بالنسبة للكون شيء آخر ..
إنه بالنسبة للكون ضرورة و فضيلة .. و خير ..
الموت و الحياة حينما ننظر لهما من بعيد .. و هما يعملان في الكون يظهران و هما يخلقان الواقع ..
الموت يبدو مكملًا للحياة .. يبدو كالبستاني الذي يقتلع النباتات الفاسدة و يسوي الأرض و يحرثها ليفسح المجال للبذور الصغيرة الرقيقة لتطرح ثمارها ..
يبدو كالرسام الذي يمحو بفرشاته خطًا ليثبت على اللوحة خطًا جديد أفضل منه ..
يبدو خالقًا في ثوب هدام .. فهو يهدم حائط الجسد .. لأن خلف الحائط يوجد ماء الحياة الجاري ..
حاول أن تتخيل الدنيا بلا موت ..
الدنيا من أيام آدم ..
و المخلوقات و هي تتراكم فيها ..
و لا تموت !!
الناس .. و الذباب .. و الضفادع .. و الحشائش .. و الديدان .. و هي تتراكم .. و يصعد بعضها على أكتاف بعض .. حتى تسد عين الشمس .. إن الحياة تبدو شيئا كالاختناق ..
إن الكائن الحي يحب نفسه فقط .. و يحب اللحظة الصغيرة التي يعيشها و لهذا يكره الموت .. و لكن الموت يحب كل اللحظات و يحب الزمن .. و يحب المستقبل .. و لهذا يتساقط الناس من غرباله كالنشارة ليقوم على أشلائهم ناس آخرون أحسن منهم و هكذا دواليك ..
الموت هو عملية المونتاج التي تعمل في الشريط الوجودي كله فتقصه إلى عدة لقطات واقعية .. كل منها له عمر محدود !! ..
و الموت يخلق واقع الأشياء الجامدة أيضا كما يخلق واقع المخلوقات الحية ..
الأشياء الجامدة لها نهاية .. و العين تدركها لأن لها نهاية .. نهاية في الطول و العرض و العمق .. و لو كانت لا نهائية في طولها و عرضها و عمقها لاختفت .. و لأصبحت عالية في الإدراك .. غير موجودة
..
إن التناهي هو الذي يوجدها..
و التناهي هو الموت ..
كل ما في الكون من إنسان و حيوان و نبات و جماد إذن متناه له حدود .. الموت يأكل أطرافه .. و يقص حواشيه .. و يبرزه .. و يوجده و يخلقه في نفس الوقت ..
الموت فضيلة و خير بالنسبة للكون كله لأن به تكون الأشياء موجودة و تكون المخلوقات مضطربة بالشعور و الحياة ..
و لكنه شر الرذائل بالنسبة للإنسان الفرد .. بالنسبة لك أنت .. و لي أنا .. لأنه ينفقنا كضرائب إنشاء و تعمير .. و يقدمنا قرابين على مذبح الوجود.
و نحن لا نفهم هذا النوع من القربان .. و لا نستطيع أن نفهمه لأنه قربان فظيع .. و تضحية معناها أن نموت و نهلك !! .
❞ إلهي ..
إنك ترى نفسي و لا يراها سواك .
تراها كالبيت الكبير الذي تصدعت منه الجدران و تهاوت السقوف و انكفأت الموائد .
بيتاً مهجوراً يتعاوى فيه الذئاب و يلهو فيه القردة و تغرد العصافير .
ساعةً تتلألأ فيه الأنوار و تموج فيه أشعة القمر .
و ساعةً أخرى مظلماً مطموساً محطم المصابيح تسرح فيه العناكب .
مرةً تحنو عليه يد الربيع فتتفتح الزهور على نوافذه و تصدح البلابل و تغزل الديدان الحرير و تفرز النحلات الطنانة العسل.
و مرةً أخرى يأتي عليه الزلزال فلا يكاد يخلف جداراً قائماً لولا ذلك الحبل الممدود الذي ينزل بالنجدة من سماوات رحمتك .
حبل لا إله إلا أنت سبحانك .
أنت الفاعل سبحانك و أنت مجري الأقدار و الأحكام .. و أنت الذي امتحنت و قويت و أضعفت و سترت و كشفت .. و ما أنا إلا السلب و العدم .. و كل توفيق لي كان منك و كل هداية لي كانت بفضلك و كل نور كان من نورك .. ما أنا إلا العين و المحل و كل ما جرى علي من استحقاقي و كل ما أظهرت فيّ كان بعدلك و رحمتك .. ما كان لي من الأمر شيء .
و هل لنا من الأمر شيء !؟
مولاي .. يقولون إن أكبر الخطايا هي خطايا العارفين .. و لكني أسألك يارب أين العارف أو الجاهل الذي استطاع أن يسلم من الفتنة دون رحمة منك .. و أنت الذي سويت نفوسنا و خلقتها و وصفتها بأنها
( لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) .
و أين من له الحول و القوة بدونك .. و هذا جبريل يقول لنبيك لا حول من معصية إلا بعصمة الله و لا قوة على طاعة الله إلا بتمكين الله .
و هل استعصم الذين استعصموا إلا بعصمتك و هل تاب الذين تابوا إلا بتوبتك .. و هل استغفروا إلا بمغفرتك .
إلهي .. لقد تنفست أول ما تنفست بك و نطقت بك و سمعت بك و أبصرت بك و مشيت بك و اهتديت بك .. و ضللت عندما خرجت عن أمرك .
سألتك يارب بعبوديتي أن ترفع عني غضبك .. فها أنا ذا و قد خلعت عن نفسي كل الدعاوي و تبرأت من كل حوْل و طوْل و لبست الذل في رحاب قدرتك .
إنك لن تضيعني و أنا عبدك .
لن تضيع عبداً ذل لربوبيتك و خشع لجلالك .
و كيف يضيع عبد عند مولىً رحيم فكيف إذا كان هذا المولى هو أرحم الراحمين .
ربّ اجذبني إليك بحبلك الممدود لأخرج من ظلمتي إلى نورك و من عدميتي إلى وجودك و من هواني إلى عزتك .. فأنت العزيز حقاً الذي لن تضرك ذنوبي و لن تنفعك حسناتي .
إن كل ذنوبنا يارب لن تنقص من ملكك .
و كل حسناتنا لن تزيد من سلطانك .
فأنت أنت المتعال على كل ما خلقت المستغني عن كل ما صنعت .
و أنت القائل :
هؤلاء في الجنة و لا أبالي و هؤلاء في النار و لا أبالي .
و أنت القائل على لسان نبيك :
( ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم )
فها أنا أدعوك فلا أكف عن الدعاء .. فأنا المحتاج.. أنا المشكلة .. و أنا المسألة .
أنا العدم و أنت الوجود فلا تضيعني .
عاوني يارب على أن اتخطى نفسي إلى نفسي .. أتخطى نفسي الأمارة الطامعة في حيازة الدنيا إلى نفسي الطامعة فيك في جوارك و رحمتك و نورك و وجهك .
لقد جربت حيازة كل شيء فما ازددت إلا فقراً و كلما طاوعت رغائبي ازدادت جوعاً و إلحاحاً و تنوعاً .
حينما طاوعت شهوتي إلى المال ازددت بالغنى طمعاً و حرصاً و حينما طاوعت شهوتي إلى النساء ازددت بالإشباع عطشاً و تطلعاً إلى التلوين و التغيير .. و كأنما أشرب من ماء مالح فأزداد على الشرب ظمأً على ظمأ .
و ما حسبته حرية كان عبودية و خضوعاً للحيوان المختفي تحت جلدي ثم هبوطاً إلى درك الآلية المادية و إلى سجن الضرورات و ظلمة الحشوة الطينية و غلظتها .
كنت أسقط و أنا أحسب أني أحلق و أرفرف .
و خدعني شيطاني حينما غلف هذه الرغبات بالشعر و زوقها بالخيال الكاذب و زينها بالعطور و زفها في أبهة الكلمات و بخور العواطف ، و لكن صحوة الندم كانت توقظني المرة بعد المرة على اللاشيء و الخواء .
إلهي .. لم تعد الدنيا و لا نفسي الطامعة في الدنيا و لا العلوم التي تسخر لي هذه الدنيا و لا الكلمات التي احتال بها على هذه الدنيا .. مرادي و لا بضاعتي .
و إنما أنت وحدك مرادي و مقصودي و مطلوبي فعاوني بك عليك و خلصني بك من سواك و أخرجني بنورك من عبوديتي لغيرك فكل طلب لغيرك خسار .
أنت أنت وحدك .. و ما أرتضي مشوار هذه الدنيا إلا لدلالة هذا المشوار عليك و ما يبهرني الجمال إلا لصدوره عنك و ما أقصد الخير و لا العدل و الحرية و لا الحق إلا لأنها تجليات و أحكام أسمائك الحسنى يامن تسميت بأنك الحق .
و لكن تلك هجرة لا أقدر عليها بدونك و نظرة لا أقوى عليها بغير معونتك .. فعاوني و اشدد أزري .. فحسبي النية و المبادرة فذلك جهد الفقير .. فليس أفقر مني .. و هل بعد العدم فقر .. و قد جئت إلى الدنيا معدماً و أخرج منها معدماً و أجوزها معدماً .. زادي منك و قوتي منك و رؤيتي منك و نوري منك .
و اليوم جاءت الهجرة الكبرى التي أعبر فيها بحار الدنيا دون أن أبتل و أخوض نارها دون أن أحترق .. فكيف السبيل إلى ذلك دون يدك مضمومة إلى يدي .
و هل يدي إلا من صنع يدك ؟ .. و هل يدي إلا من يدك ؟!
و هل هناك إلا يد واحدة ؟
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
سبحانك لا أرى لي يداً .
سبحانك لا أرى سواك .
لا إله إلا الله .
لا إله إلا الله حقاً و صدقاً .
و ذاتك هي واحدة الحسن .
الحسن كله منها .
و الحب كله لها .
و يدك هي واحدة المشيئة .
الفعل كله منها و القوة كلها بها و إن تعددت الأيدي في الظاهر و ظن الظانون تعدد المشيئات .. و إن تعدد المحبون و تعددت المحبوبات .. ما يركع الكل إلا على بابك و ما يلثم الكل إلا أعتابك .. مؤمنون و كفرة .. و إن ظن الكافر أنه يلثم ديناراً أو يقبل خداً فإنما هي أيادي رحمتك أو أيادي لعنتك هي ما يلثم و يقبل دون أن يدري .
و إنما هي أسماء و أفعال و أوصاف .
و المسمى واحد .
و الفاعل واحد .
و الموصوف واحد .
لا إله إلا هو .
لا إله إلا الله .
الحمد له في الأول و الآخر .
رفعت الأقلام و طويت الصحف و انتهت الكلمات
مقال / دعاء العبد الخطاء
من كتاب / أناشيد الإثم والبراءة
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ إلهي ..
إنك ترى نفسي و لا يراها سواك .
تراها كالبيت الكبير الذي تصدعت منه الجدران و تهاوت السقوف و انكفأت الموائد .
بيتاً مهجوراً يتعاوى فيه الذئاب و يلهو فيه القردة و تغرد العصافير .
ساعةً تتلألأ فيه الأنوار و تموج فيه أشعة القمر .
و ساعةً أخرى مظلماً مطموساً محطم المصابيح تسرح فيه العناكب .
مرةً تحنو عليه يد الربيع فتتفتح الزهور على نوافذه و تصدح البلابل و تغزل الديدان الحرير و تفرز النحلات الطنانة العسل.
و مرةً أخرى يأتي عليه الزلزال فلا يكاد يخلف جداراً قائماً لولا ذلك الحبل الممدود الذي ينزل بالنجدة من سماوات رحمتك .
حبل لا إله إلا أنت سبحانك .
أنت الفاعل سبحانك و أنت مجري الأقدار و الأحكام .. و أنت الذي امتحنت و قويت و أضعفت و سترت و كشفت .. و ما أنا إلا السلب و العدم .. و كل توفيق لي كان منك و كل هداية لي كانت بفضلك و كل نور كان من نورك .. ما أنا إلا العين و المحل و كل ما جرى علي من استحقاقي و كل ما أظهرت فيّ كان بعدلك و رحمتك .. ما كان لي من الأمر شيء .
و هل لنا من الأمر شيء !؟
مولاي .. يقولون إن أكبر الخطايا هي خطايا العارفين .. و لكني أسألك يارب أين العارف أو الجاهل الذي استطاع أن يسلم من الفتنة دون رحمة منك .. و أنت الذي سويت نفوسنا و خلقتها و وصفتها بأنها
( لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ) .
و أين من له الحول و القوة بدونك .. و هذا جبريل يقول لنبيك لا حول من معصية إلا بعصمة الله و لا قوة على طاعة الله إلا بتمكين الله .
و هل استعصم الذين استعصموا إلا بعصمتك و هل تاب الذين تابوا إلا بتوبتك .. و هل استغفروا إلا بمغفرتك .
إلهي .. لقد تنفست أول ما تنفست بك و نطقت بك و سمعت بك و أبصرت بك و مشيت بك و اهتديت بك .. و ضللت عندما خرجت عن أمرك .
سألتك يارب بعبوديتي أن ترفع عني غضبك .. فها أنا ذا و قد خلعت عن نفسي كل الدعاوي و تبرأت من كل حوْل و طوْل و لبست الذل في رحاب قدرتك .
إنك لن تضيعني و أنا عبدك .
لن تضيع عبداً ذل لربوبيتك و خشع لجلالك .
و كيف يضيع عبد عند مولىً رحيم فكيف إذا كان هذا المولى هو أرحم الراحمين .
ربّ اجذبني إليك بحبلك الممدود لأخرج من ظلمتي إلى نورك و من عدميتي إلى وجودك و من هواني إلى عزتك .. فأنت العزيز حقاً الذي لن تضرك ذنوبي و لن تنفعك حسناتي .
إن كل ذنوبنا يارب لن تنقص من ملكك .
و كل حسناتنا لن تزيد من سلطانك .
فأنت أنت المتعال على كل ما خلقت المستغني عن كل ما صنعت .
و أنت القائل :
هؤلاء في الجنة و لا أبالي و هؤلاء في النار و لا أبالي .
و أنت القائل على لسان نبيك :
( ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم )
فها أنا أدعوك فلا أكف عن الدعاء .. فأنا المحتاج.. أنا المشكلة .. و أنا المسألة .
أنا العدم و أنت الوجود فلا تضيعني .
عاوني يارب على أن اتخطى نفسي إلى نفسي .. أتخطى نفسي الأمارة الطامعة في حيازة الدنيا إلى نفسي الطامعة فيك في جوارك و رحمتك و نورك و وجهك .
لقد جربت حيازة كل شيء فما ازددت إلا فقراً و كلما طاوعت رغائبي ازدادت جوعاً و إلحاحاً و تنوعاً .
حينما طاوعت شهوتي إلى المال ازددت بالغنى طمعاً و حرصاً و حينما طاوعت شهوتي إلى النساء ازددت بالإشباع عطشاً و تطلعاً إلى التلوين و التغيير .. و كأنما أشرب من ماء مالح فأزداد على الشرب ظمأً على ظمأ .
و ما حسبته حرية كان عبودية و خضوعاً للحيوان المختفي تحت جلدي ثم هبوطاً إلى درك الآلية المادية و إلى سجن الضرورات و ظلمة الحشوة الطينية و غلظتها .
كنت أسقط و أنا أحسب أني أحلق و أرفرف .
و خدعني شيطاني حينما غلف هذه الرغبات بالشعر و زوقها بالخيال الكاذب و زينها بالعطور و زفها في أبهة الكلمات و بخور العواطف ، و لكن صحوة الندم كانت توقظني المرة بعد المرة على اللاشيء و الخواء .
إلهي .. لم تعد الدنيا و لا نفسي الطامعة في الدنيا و لا العلوم التي تسخر لي هذه الدنيا و لا الكلمات التي احتال بها على هذه الدنيا .. مرادي و لا بضاعتي .
و إنما أنت وحدك مرادي و مقصودي و مطلوبي فعاوني بك عليك و خلصني بك من سواك و أخرجني بنورك من عبوديتي لغيرك فكل طلب لغيرك خسار .
أنت أنت وحدك .. و ما أرتضي مشوار هذه الدنيا إلا لدلالة هذا المشوار عليك و ما يبهرني الجمال إلا لصدوره عنك و ما أقصد الخير و لا العدل و الحرية و لا الحق إلا لأنها تجليات و أحكام أسمائك الحسنى يامن تسميت بأنك الحق .
و لكن تلك هجرة لا أقدر عليها بدونك و نظرة لا أقوى عليها بغير معونتك .. فعاوني و اشدد أزري .. فحسبي النية و المبادرة فذلك جهد الفقير .. فليس أفقر مني .. و هل بعد العدم فقر .. و قد جئت إلى الدنيا معدماً و أخرج منها معدماً و أجوزها معدماً .. زادي منك و قوتي منك و رؤيتي منك و نوري منك .
و اليوم جاءت الهجرة الكبرى التي أعبر فيها بحار الدنيا دون أن أبتل و أخوض نارها دون أن أحترق .. فكيف السبيل إلى ذلك دون يدك مضمومة إلى يدي .
و هل يدي إلا من صنع يدك ؟ .. و هل يدي إلا من يدك ؟!
و هل هناك إلا يد واحدة ؟
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
سبحانك لا أرى لي يداً .
سبحانك لا أرى سواك .
لا إله إلا الله .
لا إله إلا الله حقاً و صدقاً .
و ذاتك هي واحدة الحسن .
الحسن كله منها .
و الحب كله لها .
و يدك هي واحدة المشيئة .
الفعل كله منها و القوة كلها بها و إن تعددت الأيدي في الظاهر و ظن الظانون تعدد المشيئات .. و إن تعدد المحبون و تعددت المحبوبات .. ما يركع الكل إلا على بابك و ما يلثم الكل إلا أعتابك .. مؤمنون و كفرة .. و إن ظن الكافر أنه يلثم ديناراً أو يقبل خداً فإنما هي أيادي رحمتك أو أيادي لعنتك هي ما يلثم و يقبل دون أن يدري .
و إنما هي أسماء و أفعال و أوصاف .
و المسمى واحد .
و الفاعل واحد .
و الموصوف واحد .
لا إله إلا هو .
لا إله إلا الله .
الحمد له في الأول و الآخر .
رفعت الأقلام و طويت الصحف و انتهت الكلمات
مقال / دعاء العبد الخطاء
من كتاب / أناشيد الإثم والبراءة
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
كانا يتمشيان على النيل ..و الشمس تغيب في الأفق ..و النسيم يداعب الشجر قال و هو يمسك يديها في حب
-أتعرفين ماذا تحت قدمك الآن ؟
-ماذا تعني !!
-أتعرفين على أي شئ تقفين .. إن تحت قدمك الصغيرة هذه أربع مدن و ثمانية عصور .. و ثمان حضارات و سبعة آلاف عام من التاريخ ..
هل تصدقين أن تحت قدمك عصراً رومانياً و عصراً فاطمياً و عصراً تركياً و عصراً إسلامياً و عصراً قبطياً و عصراً فرعونياً .. أكادُ أرى المواكب تخرج في أبهتها و دروعها و أكادُ أسمع صهيل الخيل و جلجلة السلاح .. و أكادُ أرى الدم يسيل ..و الناس تتصارع و تتحارب و تتاجر و تهاجر .. و أكاد أرى الدموع تلمع على خدود ما تلبث أن تغدو تراباً .. و أكادُ أرى نظرات الغرور ما تلبث أن تأكلها الديدان ..
و المنتصر يرقد جوار المهزوم و القاتل يتمدد إلى جوار قتيله
و الهاجر الغادر ما يلبث أن يُسحب عليه الزمن ستار الهجر فيغدو مهجوراً هو الآخر لا حس و لا أثر و لا خبر ..
أين ذهب الغضب ؟
أين ذهب الجنون ؟
أين رقد اليأس ؟
أين نامت الفتن ؟
ماذا بقي من هذه النيران المشتعلة في الصدور ؟
-قالت الفتاة و هي ساهمة تنظر إلى التراب تحت قدميها ..
ترى هل يبقى شئ من حبنا أم أننا ماضون نحن أيضاً إلى لا شئ .. ؟!
-قال و هو يضحك :
في عصر السرعة الذي نعيشه يكاد يكون الحب فستاناً تتعلق به الفتاة لمدى لبسة واحدة .. ثم بعد ذلك تتغير الموضة ..
-هل هذا رأيك ؟
-هذا حال أكثر الناس ..
" كل الذين تحت قدمك قد اقسموا - و هم يبكون - أن ما بينهما كان شيئاً خاصاً نادراً ليس له مثيل ..
-ألم يصدق بعضهم ؟؟
-نعم ؛ أقل القليل ، الذين استودعوا شيئاً عند الله.. فالله وحده هو الذي يحفظ الودائع ..
و أردف و هو ينظر إلى السماء الممدودة ..
" الذين أحبوا بعضهم فيه و نظروا إلى بعضهم في مرآته ..
الذين أفرشوه أسرارهم .. و أسلموا اختيارهم .. فأصبح مرادهم مراده .. هؤلاء أهله الذين هم إليه .. و ليسوا للتراب "
قالت و مازالت على شرودها تنظر في داخل عينيه :
و أين نحن من هؤلاء ؟
-قال و هو ينظر إلى السماء الممدودة :
الكل يدعي أنه من هؤلاء .. و لكن الزمن وحده هو الذي يكشف صدق الدعوى .. و لهذا خلق الله الدنيا ليتميز أهل الدعاوي من أهل الحقائق ..
-ألا ترى نفسك مخلصاً ؟
-لست من الغرور بحيث أسبق الزمن إلى الحكم .. فما
أكثر ما يُخدع الإنسان في نفسه .. و ما أكثر ما يُستدرج الإنسان إلى ثقة في النفس مُبالغ فيها .. ثم يأتي الزمان فيكذبه على لسانه ..
و شرد قليلاً ثم أردف :
-الإخلاص هو أخفى الخفايا .. و هو سر لا يكاد يطلع
عليه إلا الله.. و نحن نأتي به إلي الدنيا أو نأتي بدونه
و لا يعلم سرنا إلا خالقنا ..
قالت و يدها ترتجف في يديه : إني خائفة ..
قال و هو يمشي الهوينا : أنا أعيش في هذا الخوف .. إنه الخوف الجميل .. الخوف من أن يظهر المكتوم .. فإذا به على غير ما نرضى و على غير ما نحب و هو خوف يدفع كلاً منا إلى إحسان العمل .. و هو خوف لا يوجد إلا عند الأتقياء ..
لأنه خوف يحمي صاحبه من الغرور ..
ألم يقل أبو بكر .. مازلت أبيتُ على الخوف و أصحو على الخوف حتى لو رأيتُ إحدى قدمي تدخل الجنه فإني أظل خائفاً حتى أرى الثانية تدخل .. فلا يأمن مكر الله إلا القوم الضالون ..
و لماذا يمكر بنا الله ؟
مكر الله ليس كمكرنا .. فنحن نمكر لنخفي
الحقيقه أما الله فيمكر ليظهرها و هو يمكر بالمُدعي
حتى يظهره على حقيقة نفسه فهو خير الماكرين ..
-ألا توجد راحة ؟
-ليس دون المنتهى راحة .
-و متى نبلغ المنتهى ؟
-عنده .. أليس هو القائل :
" و إن إلى ربك المنتهى "
. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ قصة " الخوف الجميل "
كانا يتمشيان على النيل ..و الشمس تغيب في الأفق ..و النسيم يداعب الشجر قال و هو يمسك يديها في حب
أتعرفين ماذا تحت قدمك الآن ؟
ماذا تعني !!
أتعرفين على أي شئ تقفين .. إن تحت قدمك الصغيرة هذه أربع مدن و ثمانية عصور .. و ثمان حضارات و سبعة آلاف عام من التاريخ ..
هل تصدقين أن تحت قدمك عصراً رومانياً و عصراً فاطمياً و عصراً تركياً و عصراً إسلامياً و عصراً قبطياً و عصراً فرعونياً .. أكادُ أرى المواكب تخرج في أبهتها و دروعها و أكادُ أسمع صهيل الخيل و جلجلة السلاح .. و أكادُ أرى الدم يسيل ..و الناس تتصارع و تتحارب و تتاجر و تهاجر .. و أكاد أرى الدموع تلمع على خدود ما تلبث أن تغدو تراباً .. و أكادُ أرى نظرات الغرور ما تلبث أن تأكلها الديدان ..
و المنتصر يرقد جوار المهزوم و القاتل يتمدد إلى جوار قتيله
و الهاجر الغادر ما يلبث أن يُسحب عليه الزمن ستار الهجر فيغدو مهجوراً هو الآخر لا حس و لا أثر و لا خبر ..
أين ذهب الغضب ؟
أين ذهب الجنون ؟
أين رقد اليأس ؟
أين نامت الفتن ؟
ماذا بقي من هذه النيران المشتعلة في الصدور ؟
قالت الفتاة و هي ساهمة تنظر إلى التراب تحت قدميها ..
ترى هل يبقى شئ من حبنا أم أننا ماضون نحن أيضاً إلى لا شئ .. ؟!
قال و هو يضحك :
في عصر السرعة الذي نعيشه يكاد يكون الحب فستاناً تتعلق به الفتاة لمدى لبسة واحدة .. ثم بعد ذلك تتغير الموضة ..
هل هذا رأيك ؟
هذا حال أكثر الناس ..
" كل الذين تحت قدمك قد اقسموا و هم يبكون أن ما بينهما كان شيئاً خاصاً نادراً ليس له مثيل ..
ألم يصدق بعضهم ؟؟
نعم ؛ أقل القليل ، الذين استودعوا شيئاً عند الله.. فالله وحده هو الذي يحفظ الودائع ..
و أردف و هو ينظر إلى السماء الممدودة ..
" الذين أحبوا بعضهم فيه و نظروا إلى بعضهم في مرآته ..
الذين أفرشوه أسرارهم .. و أسلموا اختيارهم .. فأصبح مرادهم مراده .. هؤلاء أهله الذين هم إليه .. و ليسوا للتراب "
قالت و مازالت على شرودها تنظر في داخل عينيه :
و أين نحن من هؤلاء ؟
قال و هو ينظر إلى السماء الممدودة :
الكل يدعي أنه من هؤلاء .. و لكن الزمن وحده هو الذي يكشف صدق الدعوى .. و لهذا خلق الله الدنيا ليتميز أهل الدعاوي من أهل الحقائق ..
ألا ترى نفسك مخلصاً ؟
لست من الغرور بحيث أسبق الزمن إلى الحكم .. فما
أكثر ما يُخدع الإنسان في نفسه .. و ما أكثر ما يُستدرج الإنسان إلى ثقة في النفس مُبالغ فيها .. ثم يأتي الزمان فيكذبه على لسانه ..
و شرد قليلاً ثم أردف :
الإخلاص هو أخفى الخفايا .. و هو سر لا يكاد يطلع
عليه إلا الله.. و نحن نأتي به إلي الدنيا أو نأتي بدونه
و لا يعلم سرنا إلا خالقنا ..
قالت و يدها ترتجف في يديه : إني خائفة ..
قال و هو يمشي الهوينا : أنا أعيش في هذا الخوف .. إنه الخوف الجميل .. الخوف من أن يظهر المكتوم .. فإذا به على غير ما نرضى و على غير ما نحب و هو خوف يدفع كلاً منا إلى إحسان العمل .. و هو خوف لا يوجد إلا عند الأتقياء ..
لأنه خوف يحمي صاحبه من الغرور ..
ألم يقل أبو بكر .. مازلت أبيتُ على الخوف و أصحو على الخوف حتى لو رأيتُ إحدى قدمي تدخل الجنه فإني أظل خائفاً حتى أرى الثانية تدخل .. فلا يأمن مكر الله إلا القوم الضالون ..
و لماذا يمكر بنا الله ؟
مكر الله ليس كمكرنا .. فنحن نمكر لنخفي
الحقيقه أما الله فيمكر ليظهرها و هو يمكر بالمُدعي
حتى يظهره على حقيقة نفسه فهو خير الماكرين ..
ألا توجد راحة ؟
ليس دون المنتهى راحة .
و متى نبلغ المنتهى ؟
عنده .. أليس هو القائل :
" و إن إلى ربك المنتهى "
❞ الحب قصة جميلة .. الموت مؤلفها..
الحياة حرارة .. و احتراق .. الموت نسيجها .. و الهلاك صميمها.
أجسادنا تتساقط و هي تمشي .. في كل لحظة هناك شيء يتساقط منها..
و كلما حياتنا كلما تآكلت في نفس الوقت..
العدم كامن في الوجود .. كامن في أجسادنا .. كامن في إحساساتنا و مشاعرنا..
الخوف .. الشك .. التردد .. القلق .. الكسل .. التراخي .. اليأس .. القنوط .. كل هذه علامات
سكون في الشعور .. كلها إحساسات عدمية تفسيرها الوحيد أن هناك فجوة في تكويننا .. فجوة نراها
بعين الشعور فنخاف و نجزع و نقلق..
فجوة نطل عليها من داخلنا و إن كنا لا نراها بعيننا الواعية .. و لا نتذكرها إلا حينما يقال لنا .. فلان
مات.
مات .. ؟! مات ازاي ده كان لسه سهران معانا امبارح لنص الليل .. شيء عجيب..
و نمصمص شفاهنا .. ثم ننسى كل شيء و نعود إلى حياتنا الآلية .. و لكن عيننا الداخلية تظل مطلة
على هذه الفجوة .. و باطننا يظل يرتجف .ذا القلق المبهم..
الموت بالنسبة لكل منا .. أزمة .. و سؤال .. يبعث على الدهشة و القلق .. والذعر.
و لكنه بالنسبة للكون شيء آخر.
إنه بالنسبة للكون ضرورة و فضيلة .. و خير..
الموت و الحياة حينما ننظر لهما من بعيد .. و هما يعملان في الكون يظهران و هما يخلقان الواقع.
الموت يبدو مكملاً للحياة .. يبدو كالبستاني الذي يقتلع النباتات الفاسدة و يسوي الأرض و يحرثها
ليفسح ا.ال للبذور الصغيرة الرقيقة لتطرح ثمارها.
يبدو كالرسام الذي يمحو بفرشاته خطاً ليثبت على اللوحة خطاً جديد أفضل منه.
يبدو خالقاً في ثوب هدام .. فهو يهدم حائط الجسد .. لأن خلف الحائط يوجد ماء الحياة الجاري.
حاول أن تتخيل الدنيا بلا موت .. الدنيا من أيام آدم .. و المخلوقات و هي تتراكم فيها .. و لا تموت
.
الناس .. و الذباب .. و الضفادع .. و الحشائش .. و الديدان .. و هي تتراكم .. و يصعد بعضها على
أكتاف بعض .. حتى تسد عين الشمس..
إن الحياة تبدو شيئاً كالاختناق..
إن الكائن الحي يحب نفسه فقط .. و يحب اللحظة الصغيرة التي يعيشها و لهذا يكره الموت .. و لكن
الموت يحب كل اللحظات و يحب الزمن .. و يحب المستقبل .. و لهذا يتساقط الناس من غرباله كالنشارة
ليقوم على أشلائهم ناس آخرون أحسن منهم و هكذا دواليك.
الموت هو عملية المونتاج التي تعمل في الشريط الوجودي كله فتقصه إلى عدة لقطات واقعية .. كل منها
له عمر محدود..
و الموت يخلق واقع الأشياء الجامدة أيضاً كما يخلق واقع المخلوقات الحية.
الأشياء الجامدة لها .اية .. و العين تدركها لأن لها .اية .. .اية في الطول و العرض و العمق .. و لو
كانت لا .ائية في طولها و عرضها و عمقها لاختفت .. و لأصبحت عالية في الإدراك .. غير موجودة
..
إن التناهي هو الذي يوجدها..
و التناهي هو الموت.
كل ما في الكون من إنسان و حيوان و نبات و جماد إذن متناهٍ له حدود .. الموت يأكل أطرافه .. و
يقص حواشيه .. و يبرزه .. و يوجده و يخلقه في نفس الوقت..
الموت فضيلة و خير بالنسبة للكون كله لأن به تكون الأشياء موجودة و تكون المخلوقات مضطربة
بالشعور و الحياة.
و لكنه شر الرذائل بالنسبة للإنسان الفرد .. بالنسبة لك أنت .. و لي أنا .. لأنه ينفقنا كضرائب إنشاء
و تعمير .. و يقدمنا قرابين على مذبح الوجود.
و نحن لا نفهم هذا النوع من القربان .. و لا نستطيع أن نفهمه لأنه قربان فظيع .. و تضحية معناها أن
نموت و ذلك.
نحن نعيش في مأساتنا الشخصية .. و نرى الموت كفجوة تفغر فاها تحت أقدامنا فنتشبث بأي شيء نجده
حولنا .. و نتشبث بها و نحتمي من الجرف الذي ينهار تحتنا.
و نبصر بالمرأة تمد لنا يديها و قلبها و جسدها .. و تتراقص مثل كوبري عائم على نهر الفناء .. فنهرع
إليها محاولين النجاة .. و نشعر بجنون اللذة و السرور و الفرح و نحن بين ذراعيها .. نشعر بأننا نولد من
جديد .. و نبعث .. و نهرب من المصير..
و نموت .. و لكن بعد أن نكون قد زرعنا صورتنا في جسدها و قمنا بتهريب جزء من وجودنا عبر هذا
الكوبري الجميل من اللحم و الدم .. الذي مدته لنا مع ابتسامتها.
إن الحب كله قصة جميلة .. مؤلفها الموت نفسه .. و ليس الحب فقط .. بل كل العواطف و التروات و
المخاوف و الآمال و شطحات الخيال و الفكر و الفن و الأخلاق .. كل هذه القيم العظيمة تدين
للموت بوجودها.
أعطني أي مثال أخلاقي .. و أنا أكشف لك عن الموت في مضمونه.
الشجاعة قيمتها في أنها تتحدى الموت.
و الإصرار قيمته في أنه يواجه الموت .. و هكذا كل مثل أخلاقي .. قوته في أنه يواجه مقاومة .. و هو
ينهار .. و ينهار مضمونه حينما لا تكون هناك مقاومة في مواجهته.
الفنان و الفيلسوف و رجل الدين ثلاثة يقفون على بوابة الموت..
الفيلسوف يحاول أن يجد تفسيراً..
و رجل الدين يحاول أن يجد سبيلاً للاطمئنان..
و الفنان يحاول أن يجد سبيلاً إلى الخلود .. يحاول أن يترك مولوداً غير شرعي على الباب يخلد اسمه ..
قطعة موسيقية أو تمثالاً أو قصة أو قصيدة.
كلنا يخلقنا الموت .. الموت المدهش.
لو لم نكن نموت لما شعرنا بالحب .. فما الحب إلا هيستريا التشبث و التعلق بالحياة .. و محاولة تهريبها
كالمخدرات في بطون الأمهات.
و ما الداعي إلى أخلاق في مجتمع من الخالدين .. إن الأخلاق هي الخرسانة و المسلح الذي ندعم به
بيوتنا المنهارة .. و نمسك به هياكلنا الفانية .. فإذا كنا من الخالدين لا نمرض و لا نموت و لا نضعف و
لا يصيبنا شر فما لزوم الأخلاق.
إن كل ما هو جميل و خير و حسن في مجتمعنا خارج من هذه الفجوة .. الموت.
و كل ما هو جميل في إنسانيتنا خارج من هذه الفجوة أيضاً.
إن حياتنا غير منفصلة عن موتنا .. فكل منهما مشروط بالآخر.
و الأصدق أن نقول أنه لا توجد حالتان .. حياة و موت .. و لكن حالة واحدة هي الصيرورة .. حالة
متناقضة في داخلها و محتوية على الاثنين معاً : الحياة و الموت..
حالة متحركة نابضة صائرة من حياة إلى موت و من موت إلى حياة و في كل لحظة منها تحمل
الجرثومتين , جرثومة نموها و جرثومة فنائها في نفس الوقت.
و هما جرثومتان لا هدنة بينهما .. و لا تعادل و إنما صراع و توتر و تمزق و شرر متطاير مثل الشرر
الذي يتطاير من قطبي الكهرباء السالب و الموجب حينما يلتقيان .. و هما مثلهما أيضاً .. تبعثان حرارة
و نوراً .. هما العاطفة و الوعي اللذان يندلعان في عقل الإنسان الذي يعيش هذا الصراع بسالبه و موجبه
..
و هو الصراع يبدو فيه العنصر الموجب أقوى من السالب .. و تبدو الحياة غلابة صاعدة منتصرة..
* * *
كلام جميل .. و لكنه مع هذا كله لا يجعل الموت جميلاً في عيوننا.
إنه يفشل حتى في الاعتذار لنا عن عزرائيل و أفعاله .. حتى و لو كانت في صالح الكون .. فمالنا و
الكون .. نحن كون في ذاتنا .. و عزرائيل ينتهك أطهر حرماتنا , نفوسنا .. أنا .. و أنت.
إن أجمل اللحظات في حياتي هي التي أقول فيها .. أنا فعلت .. أنا قدمت .. أنا أنجزت .. أنا اخترعت
..أنا .. أنا..
لا يوجد شيء في وجودي .. أو وجودك .. أغلى من هذه الكلمة الصغيرة .. أنا .. فكيف يمكن أن
أتصور أن أموت..
إني أستطيع إحداث الموت .. أستطيع أن أقتل و أن أنتحر..
كيف يكون الموت أحد اختراعاتي ؟؟ ..وأكون أنا أحد ضحاياه في نفس الوقت.
أين اللغز الحقيقي .. أهو الموت .. أم هو هذه الكلمة الصغيرة .. أنا ؟..
..
مقال / عملية تهريب
من كتاب / لغز الموت
للدكتور مصطفي محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الحب قصة جميلة .. الموت مؤلفها..
الحياة حرارة .. و احتراق .. الموت نسيجها .. و الهلاك صميمها.
أجسادنا تتساقط و هي تمشي .. في كل لحظة هناك شيء يتساقط منها..
و كلما حياتنا كلما تآكلت في نفس الوقت..
العدم كامن في الوجود .. كامن في أجسادنا .. كامن في إحساساتنا و مشاعرنا..
الخوف .. الشك .. التردد .. القلق .. الكسل .. التراخي .. اليأس .. القنوط .. كل هذه علامات
سكون في الشعور .. كلها إحساسات عدمية تفسيرها الوحيد أن هناك فجوة في تكويننا .. فجوة نراها
بعين الشعور فنخاف و نجزع و نقلق..
فجوة نطل عليها من داخلنا و إن كنا لا نراها بعيننا الواعية .. و لا نتذكرها إلا حينما يقال لنا .. فلان
مات.
مات .. ؟! مات ازاي ده كان لسه سهران معانا امبارح لنص الليل .. شيء عجيب..
و نمصمص شفاهنا .. ثم ننسى كل شيء و نعود إلى حياتنا الآلية .. و لكن عيننا الداخلية تظل مطلة
على هذه الفجوة .. و باطننا يظل يرتجف .ذا القلق المبهم..
الموت بالنسبة لكل منا .. أزمة .. و سؤال .. يبعث على الدهشة و القلق .. والذعر.
و لكنه بالنسبة للكون شيء آخر.
إنه بالنسبة للكون ضرورة و فضيلة .. و خير..
الموت و الحياة حينما ننظر لهما من بعيد .. و هما يعملان في الكون يظهران و هما يخلقان الواقع.
الموت يبدو مكملاً للحياة .. يبدو كالبستاني الذي يقتلع النباتات الفاسدة و يسوي الأرض و يحرثها
ليفسح ا.ال للبذور الصغيرة الرقيقة لتطرح ثمارها.
يبدو كالرسام الذي يمحو بفرشاته خطاً ليثبت على اللوحة خطاً جديد أفضل منه.
يبدو خالقاً في ثوب هدام .. فهو يهدم حائط الجسد .. لأن خلف الحائط يوجد ماء الحياة الجاري.
حاول أن تتخيل الدنيا بلا موت .. الدنيا من أيام آدم .. و المخلوقات و هي تتراكم فيها .. و لا تموت
.
الناس .. و الذباب .. و الضفادع .. و الحشائش .. و الديدان .. و هي تتراكم .. و يصعد بعضها على
أكتاف بعض .. حتى تسد عين الشمس..
إن الحياة تبدو شيئاً كالاختناق..
إن الكائن الحي يحب نفسه فقط .. و يحب اللحظة الصغيرة التي يعيشها و لهذا يكره الموت .. و لكن
الموت يحب كل اللحظات و يحب الزمن .. و يحب المستقبل .. و لهذا يتساقط الناس من غرباله كالنشارة
ليقوم على أشلائهم ناس آخرون أحسن منهم و هكذا دواليك.
الموت هو عملية المونتاج التي تعمل في الشريط الوجودي كله فتقصه إلى عدة لقطات واقعية .. كل منها
له عمر محدود..
و الموت يخلق واقع الأشياء الجامدة أيضاً كما يخلق واقع المخلوقات الحية.
الأشياء الجامدة لها .اية .. و العين تدركها لأن لها .اية .. .اية في الطول و العرض و العمق .. و لو
كانت لا .ائية في طولها و عرضها و عمقها لاختفت .. و لأصبحت عالية في الإدراك .. غير موجودة
..
إن التناهي هو الذي يوجدها..
و التناهي هو الموت.
كل ما في الكون من إنسان و حيوان و نبات و جماد إذن متناهٍ له حدود .. الموت يأكل أطرافه .. و
يقص حواشيه .. و يبرزه .. و يوجده و يخلقه في نفس الوقت..
الموت فضيلة و خير بالنسبة للكون كله لأن به تكون الأشياء موجودة و تكون المخلوقات مضطربة
بالشعور و الحياة.
و لكنه شر الرذائل بالنسبة للإنسان الفرد .. بالنسبة لك أنت .. و لي أنا .. لأنه ينفقنا كضرائب إنشاء
و تعمير .. و يقدمنا قرابين على مذبح الوجود.
و نحن لا نفهم هذا النوع من القربان .. و لا نستطيع أن نفهمه لأنه قربان فظيع .. و تضحية معناها أن
نموت و ذلك.
نحن نعيش في مأساتنا الشخصية .. و نرى الموت كفجوة تفغر فاها تحت أقدامنا فنتشبث بأي شيء نجده
حولنا .. و نتشبث بها و نحتمي من الجرف الذي ينهار تحتنا.
و نبصر بالمرأة تمد لنا يديها و قلبها و جسدها .. و تتراقص مثل كوبري عائم على نهر الفناء .. فنهرع
إليها محاولين النجاة .. و نشعر بجنون اللذة و السرور و الفرح و نحن بين ذراعيها .. نشعر بأننا نولد من
جديد .. و نبعث .. و نهرب من المصير..
و نموت .. و لكن بعد أن نكون قد زرعنا صورتنا في جسدها و قمنا بتهريب جزء من وجودنا عبر هذا
الكوبري الجميل من اللحم و الدم .. الذي مدته لنا مع ابتسامتها.
إن الحب كله قصة جميلة .. مؤلفها الموت نفسه .. و ليس الحب فقط .. بل كل العواطف و التروات و
المخاوف و الآمال و شطحات الخيال و الفكر و الفن و الأخلاق .. كل هذه القيم العظيمة تدين
للموت بوجودها.
أعطني أي مثال أخلاقي .. و أنا أكشف لك عن الموت في مضمونه.
الشجاعة قيمتها في أنها تتحدى الموت.
و الإصرار قيمته في أنه يواجه الموت .. و هكذا كل مثل أخلاقي .. قوته في أنه يواجه مقاومة .. و هو
ينهار .. و ينهار مضمونه حينما لا تكون هناك مقاومة في مواجهته.
الفنان و الفيلسوف و رجل الدين ثلاثة يقفون على بوابة الموت..
الفيلسوف يحاول أن يجد تفسيراً..
و رجل الدين يحاول أن يجد سبيلاً للاطمئنان..
و الفنان يحاول أن يجد سبيلاً إلى الخلود .. يحاول أن يترك مولوداً غير شرعي على الباب يخلد اسمه ..
قطعة موسيقية أو تمثالاً أو قصة أو قصيدة.
كلنا يخلقنا الموت .. الموت المدهش.
لو لم نكن نموت لما شعرنا بالحب .. فما الحب إلا هيستريا التشبث و التعلق بالحياة .. و محاولة تهريبها
كالمخدرات في بطون الأمهات.
و ما الداعي إلى أخلاق في مجتمع من الخالدين .. إن الأخلاق هي الخرسانة و المسلح الذي ندعم به
بيوتنا المنهارة .. و نمسك به هياكلنا الفانية .. فإذا كنا من الخالدين لا نمرض و لا نموت و لا نضعف و
لا يصيبنا شر فما لزوم الأخلاق.
إن كل ما هو جميل و خير و حسن في مجتمعنا خارج من هذه الفجوة .. الموت.
و كل ما هو جميل في إنسانيتنا خارج من هذه الفجوة أيضاً.
إن حياتنا غير منفصلة عن موتنا .. فكل منهما مشروط بالآخر.
و الأصدق أن نقول أنه لا توجد حالتان .. حياة و موت .. و لكن حالة واحدة هي الصيرورة .. حالة
متناقضة في داخلها و محتوية على الاثنين معاً : الحياة و الموت..
حالة متحركة نابضة صائرة من حياة إلى موت و من موت إلى حياة و في كل لحظة منها تحمل
الجرثومتين , جرثومة نموها و جرثومة فنائها في نفس الوقت.
و هما جرثومتان لا هدنة بينهما .. و لا تعادل و إنما صراع و توتر و تمزق و شرر متطاير مثل الشرر
الذي يتطاير من قطبي الكهرباء السالب و الموجب حينما يلتقيان .. و هما مثلهما أيضاً .. تبعثان حرارة
و نوراً .. هما العاطفة و الوعي اللذان يندلعان في عقل الإنسان الذي يعيش هذا الصراع بسالبه و موجبه
..
و هو الصراع يبدو فيه العنصر الموجب أقوى من السالب .. و تبدو الحياة غلابة صاعدة منتصرة..
كلام جميل .. و لكنه مع هذا كله لا يجعل الموت جميلاً في عيوننا.
إنه يفشل حتى في الاعتذار لنا عن عزرائيل و أفعاله .. حتى و لو كانت في صالح الكون .. فمالنا و
الكون .. نحن كون في ذاتنا .. و عزرائيل ينتهك أطهر حرماتنا , نفوسنا .. أنا .. و أنت.
إن أجمل اللحظات في حياتي هي التي أقول فيها .. أنا فعلت .. أنا قدمت .. أنا أنجزت .. أنا اخترعت
..أنا .. أنا..
لا يوجد شيء في وجودي .. أو وجودك .. أغلى من هذه الكلمة الصغيرة .. أنا .. فكيف يمكن أن
أتصور أن أموت..
إني أستطيع إحداث الموت .. أستطيع أن أقتل و أن أنتحر..
كيف يكون الموت أحد اختراعاتي ؟؟ ..وأكون أنا أحد ضحاياه في نفس الوقت.
أين اللغز الحقيقي .. أهو الموت .. أم هو هذه الكلمة الصغيرة .. أنا ؟..
..
مقال / عملية تهريب
من كتاب / لغز الموت
للدكتور مصطفي محمود (رحمه الله) . ❝
❞ خُضرة الحقول اليانعة .. وزرقة السماء الصافية .. وحُمرة الورود الدامية .. وصفرة الرمال الذهبية .. وكل الألوان المبهجة التي نشاهدها في الأشياء لا وجود لها أصلًا في الأشياء ..
وإنما هي اصطلاحات جهازنا العصبي وشفرته التي يترجم بها أطوال الموجات الضوئية المختلفة التي تنعكس عليه .
إنها كآلام الوخز التي نشعر بها من الإبر .. ليست هي الصورة الحقيقية للإبر .. وإنما هي صورة لتأثرنا بالإبر .
وبالمثل طعم الأشياء ورائحتها وملمسها وصلابتها وليونتها وشكلها الهندسي وحجمها، لا تقدم لنا صورة حقيقية لما نلمسه ونشمه ونذوقه، وإنما هي مجرد الطريقة التي نتأثر بها بهذه الأشياء ..
إنها ترجمة ذاتية لا وجود لها خارجنا .
كل ما نراه ونتصوره .. خيالات مترجَمة لا وجود لها في الأصل، مجرد صور رمزية للمؤثرات المختلفة صورها جهازنا العصبي بأدواته الحسية المحدودة ..
أهي أحــــلام .. ؟
هل نحن نحلم .. ولا وجود لهذا العالَم .. هل هذه الصفات تقوم في ذهننا دون أن يكون لها مقابل في الخارج .. ؟؟
البداهة والفطرة تنفي هذا الرأي .. فالعالَم الخارجي موجود .. وحواسنا تحيلنا دائمًا على شيء آخر خارجنا .. ولكن هناك فجوة بيننا وبين هذا العالَم .. حواسنا لا تستطيع أن تراه على حقيقته .. وإنما هي تترجمه دائمًا بلغة خاصة وذاتية .. وبشفرة مختلفة ..
ولو أننا كنا نحلم .. ولو أننا كنا نهذي كل منا على طريقته لما استطعنا أن نتفاهم .. ولما استطعنا أن نتفق على حقيقة موضوعية مشتركة ..
ولكننا في الحقيقة نتناول بين أيدينا تراجم حسية .. ربما ناقصة .. وربما غير صحيحة .. ولكنها تراجِم لها أصل أمامنا ..
هناك نسخة موضوعية من الحقيقة نحاول أن نغش منها على قدر الإمكان .. هناك حقيقة خارجنا ..
إننا لا نحلـــم ..
وإنما نحن سجناء حواسنا المحدودة .. وسجناء طبيعتنا العاجزة .. وما نراه يُنقَل إلينا دائمًا مشوَّهًا وناقصًا ومبتورًا نتيجة رؤيتنا الكليلة .
والنتيجة أن هناك أكثر من دنيا ..
هناك الدنيا كما هي في الحقيقة وهذه لا نعرفها .. ولا يعرفها إلا الله .
وهناك الدنيا كما يراها الصرصور .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيانا، لأن الجهاز العصبي للصرصور مختلف تمامًا عن جهازنا .. فهو يرى الشمس يطريقة مختلفة .. وهو لا يرى الشجرة كما نراها نحن شجرة .. وهو لا يميز الألوان ..
وهناك الدنيا كما تراها دودة الإسكارس .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيا الصرصور .. فهي دنيا كلها ظلام .. دنيا خالية من المناظر .. ليس فيها سوى إحساسات بليدة تنتقل عن طريق الجِلد ..
وهكذا كل طبقة من المخلوقات لها دنيا خاصة بها .
ومنذ لحظة الميلاد يتسلم كل مخلوق بطاقة دعوة إلى محفل من محافل هذه الدنيا .. ويجلس إلى مائدة مختلفة ليتذوّق أطعمة مختلفة .. ولذائذ وآلام مختلفة .
وكل طبقة من المخلوقات تعيش سجينة في تصوراتها .. لا تستطيع أن تصف الصور التي تراها الطبقات الأخرى ..
لا يمكننا نحن الآدميون أن نتكلم مع الطيور أو الزواحف أو الديدان أو الحشرات لنشرح لها ما نراه من الدنيا .
ولا يستطيع اصرصور أن يخاطبنا ويصف لنا العالَم الذي يعيش فيه .
وربما لو حدث هذا في يومٍ ما لأمكننا أن نصل إلى ما يشبه حجر رشيد .. ولأمكننا أن نتوصل إلى عدة شفرات، ولغات مختلفة للدنيا نضعها تحت بعضها ونفكك طلاسمها .. ونستنبط منها الحقيقة التي تحاول هذه الشفرات الرمزية أن تصفها .. ونعرف ســر هذه الدنيا .
ولكن هذا الاتصال غير ممكن .. لأننا الوحيدون في هذه الدنيا الذين نعرف اللغة .. وبقية المخلوقات عجماء ..
مــا الحــل .. ؟!
هل ننتظر حتى نسافر إلى الفضاء ونعثر على مخلوقات في المريخ تقرأ وتكتب .. ؟!
علماء الرياضة يقولون لنا أنه لا داعي لهذا الانتظار .. هناك طريقة أخرى .. طريقة صعبة ولكنها توصل إلى سكة الحقيقة ..
هذه الطريقة هي أن نضع جانبًا كل ما تقوله الحواس .. ونستعمل أساليب أخرى غير السمع والبصر والشم واللمس ..
نستعمل الحساب والأرقام .. نجرد كل المحسوسات إلى أرقام .. ومقادير ..
القائمة الطويلة المعروفة للأشعة الضوئية .. الأصفر والبرتقالي والأحمر والبنفسجي والأزرق والأخضر .. إلخ .. نجردها إلى أرقام ..
كل موجة طولها كذا .. وذبذبتها كذا ..
وكذلك كل صنوف الإشعاع .. أشعة إكس .. أشعة الراديوم .. الأشعة الكونية ..
كلها أمواج .. مثل أمواج اللاسلكي التي نسمع المذيع يقول كل يوم إنها كذا كيلو سيكل في الثانية ..
مجــرد أرقـــام .. نستطيع أن نقيسها ونحسبها ونجمعها ونطرحها .. إذًا نغمض أعيننا ونفكر بطريقة جديدة ..
وبدل أن نقول اللون الأخضر ، واللون الأحمر .. نقول كذا كيلو سيكل ثانية .
والذي أغمض عينيه وبدأ يفكر بهذه الطريقة الجديدة التي أحدَثَت انقلابًا في العلوم .. كان هو العالِم الرياضي ماكس بلانك .. الذي طلع في سنة 1900 بنظريته المعروفة في الطبيعة النظرية الكمّية .. ( Quantum Theory )
وقد بدأ من حقيقة بسيطة معروفة .. أنك إذا سخنت قضيبًا من الحديد .. فإنه في البداية يحمر، ثم يتحول إلى برتقالي، ثم أصفر، ثم أبيض متوهج ..
إذًا هناك علاقة حسابية بين الطاقة التي يشعها الحديد الساخن .. وطول أو ذبذبة الموجة الضوئية التي تنبعث منه ..
هناك معادلة ..
وبدأ يبحث عن هذه المعادلة حتى عثر عليها ..
وجد ببساطة أن الطاقة المشعة مقسومة على الذبذبة ( ن ) تساوي دائمًا كمًا ثابتًا (مثل النسبة التقريبية في الدائرة) هذا الكَم أسماه .. ثابت بلانك ( هـ ) .
والمعادلة هي : الطاقـــة = هـ X ن .
وهي معادلة تقوم على افتراض .. بأن الطاقة المشعة تنبعث في كميات متتابعة .. في دفعات .. أو حزم .. أو حبيبات من الطاقة .. أو ذرّات .
وأطلق على هذه الذرات الضوئية إسم " فوتونات " ..
وفي رسالة نال عليها أينشتين جائزة نوبل قدم دراسة وافية بالمعادلات والأرقام عن العلاقة بين هذه الفوتونات الضوئية الساقطة على لوح معدني .. وبين الكهرباء التي تتولد منه ..
وعلى أساس هذه المعادلات قامت فكرة اختراع التليفزيون فيما بعد ..
يقول أينشتين إن من الظاهرات المعروفة في المعمل أنك إذا أسقطت شعاعًا من الضوء على لوح معدني فإن عددًا من الإلكترونات تنطلق من اللوح .. ولا تتأثر سرعة انطلاق هذه الإلكترونات بشدة الضوء، فمهما خفّ الضوء ومهما ابتعد مصدره فالإلكترونات تنطلق بسرعة ثابتة .. ولكن بعدد أقل .. وإنما تزداد هذه السرعة كلما كانت الموجة الضوئية الساقطة عالية الذبذبة .. ولهذا تزيد في الأشعة البنفسجية وتقل في الحمراء .
وهو يفسر انطلاق هذه الإلكترونات بأن الضوء لا يسقط على اللوح المعدني في سيال متصل .. وإنما في حِزَم من الطاقة .. " فوتونات " وتصطدم هذه الفوتونات بالإلكترونات في اللوح المعدني كما تصدم العصا بكرات البلياردو فتطلقها حرة خارج مداراتها ..
وكلما كانت الأشعة الضوئية ذات ذبذبة عالية ( البنفسجية مثلًا ) كلما كان الفوتون يختزن طاقة أكثر .. كلما أطلق الإلكترونات بسرعة أكثر ..
وربَط هذه العلاقات في سلسلة من المعادلات الرياضية ..
وعمد التليفزيون إلى تطبيق هذه النظرية في جهاز الإرسال التليفزيوني ..
فأنت حينما تجلس أمام كاميرا التليفزيون فإنها تنقل صورتك التي هي عبارة عن نقط من الظل ونقط من النور إلى اللوح المعدني الحساس ..
ونقط النور ونقط الظل الساقطة على اللوح المعدني تطلق سيالًا من الإلكترونات يتفاوت في العدد وفي السرعة حسب الظل والنور في الصورة .. وهذه الخفقات الإلكترونية الكهربائية تنتقل إلى عمود الإرسال وتُذاع على شكل موجات مغناطيسية كهربائية إلى أجهزة الإستقبال .
وأينشتين لم يفكر حينما وضع معادلاته في اختراع التليفزيون .
وعلماء الرياضة لم يُثِر اهتمامهم في ذلك الحين ولا فيما بعد .. ظهور التليفزيون .. وإنما الذي أثارهم هو هذا الإفتراض الجديد الذي أقام عليه ماكس بلانك معادلاته في النظرية الكمّية، وأقام عليه أينشتين معادلاته في الظاهرة الضوئية الكهربائية ..
أن الضوء ينطلق في ذرّات أو فوتونات لا في أمواج متصلة .. فالضوء حتى ذلك الحين كانت طبيعته موجية .. فكيف يصبح شأنه شأن المادة .. مؤلَف من ذرات أو فوتونات .. !
وماذا تكون هذه الفوتونات .. ؟؟
هل هي كرات من الطاقة لها حيز، ولها أوضاع في المكان .. شأنها في ذلك شأن جزيئات المادة .. ؟!
وإذا كان الضوء ذرّات .. فكيف يتصرف كما لو كان أمواجًا .. ؟!
لماذا يحيد الضوء حينما يدخل من ثقب ضيق كما تحيد أمواج البحر حينما تدخل في مضيق .. ولماذا ينعطف الضوء حول شعرة رفيعة فلا يبدو لها ظل .. كما تنعطف الأمواج وتتلاحم حول عصا مرشوقة في البحر .. ؟!
وكيف نفرِّق بين المعادلات التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته موجية متصلة وبين المعادلات الجديدة التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته ذريّة متقطعة .. !
أم أن للضوء طبيعة مزدوجة .. ؟! وكيــف .. ؟؟ !!
كيف تكون الحقيقة بهذا التناقض .. ؟!
أم أنه لا توجد حقيقة واحدة ... ؟!
مقال / كل شيء ذرّات
من كتاب / أينشتين والنسبيه
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ خُضرة الحقول اليانعة .. وزرقة السماء الصافية .. وحُمرة الورود الدامية .. وصفرة الرمال الذهبية .. وكل الألوان المبهجة التي نشاهدها في الأشياء لا وجود لها أصلًا في الأشياء ..
وإنما هي اصطلاحات جهازنا العصبي وشفرته التي يترجم بها أطوال الموجات الضوئية المختلفة التي تنعكس عليه .
إنها كآلام الوخز التي نشعر بها من الإبر .. ليست هي الصورة الحقيقية للإبر .. وإنما هي صورة لتأثرنا بالإبر .
وبالمثل طعم الأشياء ورائحتها وملمسها وصلابتها وليونتها وشكلها الهندسي وحجمها، لا تقدم لنا صورة حقيقية لما نلمسه ونشمه ونذوقه، وإنما هي مجرد الطريقة التي نتأثر بها بهذه الأشياء ..
إنها ترجمة ذاتية لا وجود لها خارجنا .
كل ما نراه ونتصوره .. خيالات مترجَمة لا وجود لها في الأصل، مجرد صور رمزية للمؤثرات المختلفة صورها جهازنا العصبي بأدواته الحسية المحدودة ..
أهي أحــــلام .. ؟
هل نحن نحلم .. ولا وجود لهذا العالَم .. هل هذه الصفات تقوم في ذهننا دون أن يكون لها مقابل في الخارج .. ؟؟
البداهة والفطرة تنفي هذا الرأي .. فالعالَم الخارجي موجود .. وحواسنا تحيلنا دائمًا على شيء آخر خارجنا .. ولكن هناك فجوة بيننا وبين هذا العالَم .. حواسنا لا تستطيع أن تراه على حقيقته .. وإنما هي تترجمه دائمًا بلغة خاصة وذاتية .. وبشفرة مختلفة ..
ولو أننا كنا نحلم .. ولو أننا كنا نهذي كل منا على طريقته لما استطعنا أن نتفاهم .. ولما استطعنا أن نتفق على حقيقة موضوعية مشتركة ..
ولكننا في الحقيقة نتناول بين أيدينا تراجم حسية .. ربما ناقصة .. وربما غير صحيحة .. ولكنها تراجِم لها أصل أمامنا ..
هناك نسخة موضوعية من الحقيقة نحاول أن نغش منها على قدر الإمكان .. هناك حقيقة خارجنا ..
إننا لا نحلـــم ..
وإنما نحن سجناء حواسنا المحدودة .. وسجناء طبيعتنا العاجزة .. وما نراه يُنقَل إلينا دائمًا مشوَّهًا وناقصًا ومبتورًا نتيجة رؤيتنا الكليلة .
والنتيجة أن هناك أكثر من دنيا ..
هناك الدنيا كما هي في الحقيقة وهذه لا نعرفها .. ولا يعرفها إلا الله .
وهناك الدنيا كما يراها الصرصور .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيانا، لأن الجهاز العصبي للصرصور مختلف تمامًا عن جهازنا .. فهو يرى الشمس يطريقة مختلفة .. وهو لا يرى الشجرة كما نراها نحن شجرة .. وهو لا يميز الألوان ..
وهناك الدنيا كما تراها دودة الإسكارس .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيا الصرصور .. فهي دنيا كلها ظلام .. دنيا خالية من المناظر .. ليس فيها سوى إحساسات بليدة تنتقل عن طريق الجِلد ..
وهكذا كل طبقة من المخلوقات لها دنيا خاصة بها .
ومنذ لحظة الميلاد يتسلم كل مخلوق بطاقة دعوة إلى محفل من محافل هذه الدنيا .. ويجلس إلى مائدة مختلفة ليتذوّق أطعمة مختلفة .. ولذائذ وآلام مختلفة .
وكل طبقة من المخلوقات تعيش سجينة في تصوراتها .. لا تستطيع أن تصف الصور التي تراها الطبقات الأخرى ..
لا يمكننا نحن الآدميون أن نتكلم مع الطيور أو الزواحف أو الديدان أو الحشرات لنشرح لها ما نراه من الدنيا .
ولا يستطيع اصرصور أن يخاطبنا ويصف لنا العالَم الذي يعيش فيه .
وربما لو حدث هذا في يومٍ ما لأمكننا أن نصل إلى ما يشبه حجر رشيد .. ولأمكننا أن نتوصل إلى عدة شفرات، ولغات مختلفة للدنيا نضعها تحت بعضها ونفكك طلاسمها .. ونستنبط منها الحقيقة التي تحاول هذه الشفرات الرمزية أن تصفها .. ونعرف ســر هذه الدنيا .
ولكن هذا الاتصال غير ممكن .. لأننا الوحيدون في هذه الدنيا الذين نعرف اللغة .. وبقية المخلوقات عجماء ..
مــا الحــل .. ؟!
هل ننتظر حتى نسافر إلى الفضاء ونعثر على مخلوقات في المريخ تقرأ وتكتب .. ؟!
علماء الرياضة يقولون لنا أنه لا داعي لهذا الانتظار .. هناك طريقة أخرى .. طريقة صعبة ولكنها توصل إلى سكة الحقيقة ..
هذه الطريقة هي أن نضع جانبًا كل ما تقوله الحواس .. ونستعمل أساليب أخرى غير السمع والبصر والشم واللمس ..
نستعمل الحساب والأرقام .. نجرد كل المحسوسات إلى أرقام .. ومقادير ..
القائمة الطويلة المعروفة للأشعة الضوئية .. الأصفر والبرتقالي والأحمر والبنفسجي والأزرق والأخضر .. إلخ .. نجردها إلى أرقام ..
كل موجة طولها كذا .. وذبذبتها كذا ..
وكذلك كل صنوف الإشعاع .. أشعة إكس .. أشعة الراديوم .. الأشعة الكونية ..
كلها أمواج .. مثل أمواج اللاسلكي التي نسمع المذيع يقول كل يوم إنها كذا كيلو سيكل في الثانية ..
مجــرد أرقـــام .. نستطيع أن نقيسها ونحسبها ونجمعها ونطرحها .. إذًا نغمض أعيننا ونفكر بطريقة جديدة ..
وبدل أن نقول اللون الأخضر ، واللون الأحمر .. نقول كذا كيلو سيكل ثانية .
والذي أغمض عينيه وبدأ يفكر بهذه الطريقة الجديدة التي أحدَثَت انقلابًا في العلوم .. كان هو العالِم الرياضي ماكس بلانك .. الذي طلع في سنة 1900 بنظريته المعروفة في الطبيعة النظرية الكمّية .. ( Quantum Theory )
وقد بدأ من حقيقة بسيطة معروفة .. أنك إذا سخنت قضيبًا من الحديد .. فإنه في البداية يحمر، ثم يتحول إلى برتقالي، ثم أصفر، ثم أبيض متوهج ..
إذًا هناك علاقة حسابية بين الطاقة التي يشعها الحديد الساخن .. وطول أو ذبذبة الموجة الضوئية التي تنبعث منه ..
هناك معادلة ..
وبدأ يبحث عن هذه المعادلة حتى عثر عليها ..
وجد ببساطة أن الطاقة المشعة مقسومة على الذبذبة ( ن ) تساوي دائمًا كمًا ثابتًا (مثل النسبة التقريبية في الدائرة) هذا الكَم أسماه .. ثابت بلانك ( هـ ) .
والمعادلة هي : الطاقـــة = هـ X ن .
وهي معادلة تقوم على افتراض .. بأن الطاقة المشعة تنبعث في كميات متتابعة .. في دفعات .. أو حزم .. أو حبيبات من الطاقة .. أو ذرّات .
وأطلق على هذه الذرات الضوئية إسم " فوتونات " ..
وفي رسالة نال عليها أينشتين جائزة نوبل قدم دراسة وافية بالمعادلات والأرقام عن العلاقة بين هذه الفوتونات الضوئية الساقطة على لوح معدني .. وبين الكهرباء التي تتولد منه ..
وعلى أساس هذه المعادلات قامت فكرة اختراع التليفزيون فيما بعد ..
يقول أينشتين إن من الظاهرات المعروفة في المعمل أنك إذا أسقطت شعاعًا من الضوء على لوح معدني فإن عددًا من الإلكترونات تنطلق من اللوح .. ولا تتأثر سرعة انطلاق هذه الإلكترونات بشدة الضوء، فمهما خفّ الضوء ومهما ابتعد مصدره فالإلكترونات تنطلق بسرعة ثابتة .. ولكن بعدد أقل .. وإنما تزداد هذه السرعة كلما كانت الموجة الضوئية الساقطة عالية الذبذبة .. ولهذا تزيد في الأشعة البنفسجية وتقل في الحمراء .
وهو يفسر انطلاق هذه الإلكترونات بأن الضوء لا يسقط على اللوح المعدني في سيال متصل .. وإنما في حِزَم من الطاقة .. " فوتونات " وتصطدم هذه الفوتونات بالإلكترونات في اللوح المعدني كما تصدم العصا بكرات البلياردو فتطلقها حرة خارج مداراتها ..
وكلما كانت الأشعة الضوئية ذات ذبذبة عالية ( البنفسجية مثلًا ) كلما كان الفوتون يختزن طاقة أكثر .. كلما أطلق الإلكترونات بسرعة أكثر ..
وربَط هذه العلاقات في سلسلة من المعادلات الرياضية ..
وعمد التليفزيون إلى تطبيق هذه النظرية في جهاز الإرسال التليفزيوني ..
فأنت حينما تجلس أمام كاميرا التليفزيون فإنها تنقل صورتك التي هي عبارة عن نقط من الظل ونقط من النور إلى اللوح المعدني الحساس ..
ونقط النور ونقط الظل الساقطة على اللوح المعدني تطلق سيالًا من الإلكترونات يتفاوت في العدد وفي السرعة حسب الظل والنور في الصورة .. وهذه الخفقات الإلكترونية الكهربائية تنتقل إلى عمود الإرسال وتُذاع على شكل موجات مغناطيسية كهربائية إلى أجهزة الإستقبال .
وأينشتين لم يفكر حينما وضع معادلاته في اختراع التليفزيون .
وعلماء الرياضة لم يُثِر اهتمامهم في ذلك الحين ولا فيما بعد .. ظهور التليفزيون .. وإنما الذي أثارهم هو هذا الإفتراض الجديد الذي أقام عليه ماكس بلانك معادلاته في النظرية الكمّية، وأقام عليه أينشتين معادلاته في الظاهرة الضوئية الكهربائية ..
أن الضوء ينطلق في ذرّات أو فوتونات لا في أمواج متصلة .. فالضوء حتى ذلك الحين كانت طبيعته موجية .. فكيف يصبح شأنه شأن المادة .. مؤلَف من ذرات أو فوتونات .. !
وماذا تكون هذه الفوتونات .. ؟؟
هل هي كرات من الطاقة لها حيز، ولها أوضاع في المكان .. شأنها في ذلك شأن جزيئات المادة .. ؟!
وإذا كان الضوء ذرّات .. فكيف يتصرف كما لو كان أمواجًا .. ؟!
لماذا يحيد الضوء حينما يدخل من ثقب ضيق كما تحيد أمواج البحر حينما تدخل في مضيق .. ولماذا ينعطف الضوء حول شعرة رفيعة فلا يبدو لها ظل .. كما تنعطف الأمواج وتتلاحم حول عصا مرشوقة في البحر .. ؟!
وكيف نفرِّق بين المعادلات التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته موجية متصلة وبين المعادلات الجديدة التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته ذريّة متقطعة .. !
أم أن للضوء طبيعة مزدوجة .. ؟! وكيــف .. ؟؟ !!
كيف تكون الحقيقة بهذا التناقض .. ؟!
أم أنه لا توجد حقيقة واحدة ... ؟!
مقال / كل شيء ذرّات
من كتاب / أينشتين والنسبيه
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ) . ❝