❞ السينما كما عرفتها، تاريخ وطن وتجلّيات لروح ذلك الوطن، ومن ثمّ فكرت أن أكتب رغم أني في السنوات الأخيرة لم أعد من روّادها إلا نادرًا، بحكم السنّ والقدرة على الحركة في بلدٍ أقصى آمالك فيها أن تعود سالمًا إلى البيت، أو تذهب إلى موعدٍ ما دون تأخير. ❝ ⏤إبراهيم عبد المجيد
❞ السينما كما عرفتها، تاريخ وطن وتجلّيات لروح ذلك الوطن، ومن ثمّ فكرت أن أكتب رغم أني في السنوات الأخيرة لم أعد من روّادها إلا نادرًا، بحكم السنّ والقدرة على الحركة في بلدٍ أقصى آمالك فيها أن تعود سالمًا إلى البيت، أو تذهب إلى موعدٍ ما دون تأخير . ❝
أنا كما يراني الناس من الخارج فتاة عادية في التاسعة عشر ..
مرحة منطلقة .. الكثيرون يحسدونني على انطلاقي .. فأنا أبداً دائماً ضاحكة عابثة .. و لكن قلبي من الداخل يدمي .. و لا أحد يعلم ما أعانيه ..
أحببت منذ ثلاث سنوات .. و كان حباً أكبر من عمري .. و كان هو في الثلاثين .. أكبر مني بأربعة عشر عاماً .. و علمني كل شيء .. كنت كتاباً مقفولاً و موضوعاً على الرف و جاء هو و فتحه و قرأ كل سطر فيه .. و كل كلمة فيه .. و كنت سعيدة
السنة الماضية في مثل هذا الوقت كنت أسعد مخلوقة في الوجود .. فأنا جميلة ، خفيفة الظل ، محبوبة من الجميع ، و من عائلة غنية .. أستطيع الحصول على جميع طلباتي .. و أهم من هذا كله .. كان هو بجانبي .. حبيبي .
كنا شبه مخطوبين أمام الناس و شبه متزوجين أمام أنفسنا و أمام الله .. عرفت معه كل متع الحب .. و كل مسراته .. و قد حرصنا معاً على ألا يتجاوز عبثنا الحدود .. فظللت عذراء .. و لكنه في آخر لحظة تركني و هجرني إلى غير رجعة ..
قال إنه لا يستطيع أن يعصي أمر والدته .. و قد اختارت له والدته ابنة أختها اليتيمة .. و خطَبَتها له .. و هو لا يستطيع أن يرفض لها طلباً فهو وحيدها .
و تعذبْت .. و مَرِضْت .. ثلاثة شهور ..
ثم بدأت أضمد جراحي و أقاوم عذابي .. و أرسم الضحكة على شفتي .. و أغتصب الإبتسامة .. و بدأت أعود إلى الحياة .
و عرفت أحد زملائي في الكلية .. و صاحبته ..
و لم يكن حباً هذه المرة .. فأنا أعلم أني لا أحبه .. و أنه لا يحبني .
و لكني كنت أبحث عن سلوى .
و نحن نذهب إلى السينما حيث نقضي الساعات .. لا نرى الفيلم .. و لا نرى ما حولنا .. و إنما نظل نتبادل القبلات و العناق حتى يضيء النور ..
و في حمى الشباب تأخذنا نشوة المراهقة التي نمر بها نحن الإثنان فيشعر كلانا بأننا نقضي ساعات لذيذة .
و لكن بعد ذلك .. و بعد أن تمضي هذه الساعات .. يبدأ عذاب الضمير .. و أراني أصرخ في نفسي .. إني ساقطة .. مجرمة بدون أخلاق .. مذنبة مصيرها جهنم .
و لكني أعود فأسأل نفسي .. و ما ذنبنا إذا كانت هذه غرائزنا التي ركبت فينا .. و رغباتنا التي خلقت معنا .
إني لو لم أفعل هذه الأشياء .. فسوف أظل مشغولة الذهن طول الوقت أفكر و أتمنى أن أعملها .. و هذا ألعن ..
ما ذنبنا إذا كانت هذه طبيعتنا ..
و أبكي .. و أصلي .. و أصوم .. ثم أعود إلى فعل هذه الأشياء .. و أنا أسأل نفسي في حيرة .. ما الفرق بين ما يفعله المتزوجون و غير المتزوجين .. إنها ورقة .. مجرد ورقة ..
و لماذا يَعتبِر الناس تلامس اليدين في المصافحة عملاً عادياً لا غُبارعليه .. و تلامس الشفاه في القبلة عملاً فاضحاً شائناً .. أليست كلها أجزاء جسم واحد ..
و ما معنى الفضيلة هنا ؟! ..
و كيف يكون تحريم أشياء هي في صميم طبيعتنا فضيلة .. ؟!
لماذا لا نعيش على الطبيعة بدون تعقيد .. و بدون كبت .. و بدون تحريم ؟! .
***************
رد الدكتور على القارئة صاحبة الرسالة :
قصدك لماذا لا نعيش كالحيوانات فننطلق مع غرائزنا بلا ضابط .. و بلا نظام .. و بلا هدف سوى هاتف اللحظة .. و لذة الساعة ..
مستحيل طبعاً فهذا معناه أن نتخلى عن إنسانيتنا تماماً .. و نعود إلى عصر الغابة .
فالآدمية لا تبدأ إلا من هذه اللحظة .. من اللحظة التي يحكم فيها الإنسان رغبته ، و يكبح غضبه ، و يلجم شهواته ، و يتصرف بمقتضى أهداف سامية .. كالرحمة ، و الإخاء ، و الشجاعة ، و التضحية ، و البذل في سبيل الآخرين ، و العمل على إقامة نظام ، و الإنقطاع للعلم و التحصيل ، و المعرفة و خدمة الناس ..
أما إذا انقلب الوضع و أصبحت لذَّات الجسد العابرة ، و نزوات الغريزة مفضلة على هذه الأغراض السامية فإن الإنسان يفقد إنسانيته و ينقلب حيواناً .. و النظام الإجتماعي ينهار كله من أساسه ..
و الزواج ليس مجرد ورقة كما تقولين .. الزواج تنظيم اجتماعي للغرائز حتى يكون لكل إبن يولد أب مسئول عنه .. و حتى لا تتحول العلاقات الجنسية إلى فوضى بلا رابط .. و تختلط الأحساب و الأنساب .. و لا يعرف الإبن أباه ..
و الواقع أن الإنسان حينما يضبط رغبته و يكبح شهوته .. فإنه لا يمكن أن يُقال إنه يكبت طبيعته .. فإنه في الحقيقة يخرِس صوت الغريزة .. و لكنه في نفس الوقت يُطلِق صوت العقل .. و هو يشد اللجام على الحيوان الهائج في نفسه ، و لكنه يطلق العنان للوجدان و العاطفة و الفكر .
و لا يمكن أن يُقال في أمر طبيعتنا إنها مجرد رغبات حيوانية .
فإن العقل أيضاً من طبيعتنا .. ، و العاطفة و الوجدان و الروح هي صميمنا ..
و هي أكثر أصالة في طبيعتنا من نزوة الجنس و صرخة الحيوان الجائع .
أما حكاية تلامس الشفتين في القبلة و تلامس اليدين في المصافحة .. فهي مغالطة واضحة .. و لن أحاول أن أناقشها .. فأنت تعرفين جيداً الفرق بين ما تفعله القبلة و بين ما تفعله المصافحة .. و مفيش داعي نكذب على بعض .
أما حكايتك مع صاحبك .. فهي حكاية يجب أن تنتهي .. فأنتِ باعترافك لا تحبينه و هو لا يحبك .. فالعلاقة إذن علاقة حيوانية لإشباع نزوات عارضة .. و هي علاقة تخلو من عنصر الصدق .. علاقة يُهين كل منكما فيها جسمه .. و يُهين نفسه .. و هي لهذا يجب أن تتوقف .. لا بسبب الدين وحده .. و لا خوفاً من جهنم .. و لكن بدافع من الإنسانية و من احترام كل منكما لجسمه و نفسه أيضاً .
من كتاب / إعترافات عشاق
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الحيــاة بـدون كبــت ...
أنا كما يراني الناس من الخارج فتاة عادية في التاسعة عشر ..
مرحة منطلقة .. الكثيرون يحسدونني على انطلاقي .. فأنا أبداً دائماً ضاحكة عابثة .. و لكن قلبي من الداخل يدمي .. و لا أحد يعلم ما أعانيه ..
أحببت منذ ثلاث سنوات .. و كان حباً أكبر من عمري .. و كان هو في الثلاثين .. أكبر مني بأربعة عشر عاماً .. و علمني كل شيء .. كنت كتاباً مقفولاً و موضوعاً على الرف و جاء هو و فتحه و قرأ كل سطر فيه .. و كل كلمة فيه .. و كنت سعيدة
السنة الماضية في مثل هذا الوقت كنت أسعد مخلوقة في الوجود .. فأنا جميلة ، خفيفة الظل ، محبوبة من الجميع ، و من عائلة غنية .. أستطيع الحصول على جميع طلباتي .. و أهم من هذا كله .. كان هو بجانبي .. حبيبي .
كنا شبه مخطوبين أمام الناس و شبه متزوجين أمام أنفسنا و أمام الله .. عرفت معه كل متع الحب .. و كل مسراته .. و قد حرصنا معاً على ألا يتجاوز عبثنا الحدود .. فظللت عذراء .. و لكنه في آخر لحظة تركني و هجرني إلى غير رجعة ..
قال إنه لا يستطيع أن يعصي أمر والدته .. و قد اختارت له والدته ابنة أختها اليتيمة .. و خطَبَتها له .. و هو لا يستطيع أن يرفض لها طلباً فهو وحيدها .
و تعذبْت .. و مَرِضْت .. ثلاثة شهور ..
ثم بدأت أضمد جراحي و أقاوم عذابي .. و أرسم الضحكة على شفتي .. و أغتصب الإبتسامة .. و بدأت أعود إلى الحياة .
و عرفت أحد زملائي في الكلية .. و صاحبته ..
و لم يكن حباً هذه المرة .. فأنا أعلم أني لا أحبه .. و أنه لا يحبني .
و لكني كنت أبحث عن سلوى .
و نحن نذهب إلى السينما حيث نقضي الساعات .. لا نرى الفيلم .. و لا نرى ما حولنا .. و إنما نظل نتبادل القبلات و العناق حتى يضيء النور ..
و في حمى الشباب تأخذنا نشوة المراهقة التي نمر بها نحن الإثنان فيشعر كلانا بأننا نقضي ساعات لذيذة .
و لكن بعد ذلك .. و بعد أن تمضي هذه الساعات .. يبدأ عذاب الضمير .. و أراني أصرخ في نفسي .. إني ساقطة .. مجرمة بدون أخلاق .. مذنبة مصيرها جهنم .
و لكني أعود فأسأل نفسي .. و ما ذنبنا إذا كانت هذه غرائزنا التي ركبت فينا .. و رغباتنا التي خلقت معنا .
إني لو لم أفعل هذه الأشياء .. فسوف أظل مشغولة الذهن طول الوقت أفكر و أتمنى أن أعملها .. و هذا ألعن ..
ما ذنبنا إذا كانت هذه طبيعتنا ..
و أبكي .. و أصلي .. و أصوم .. ثم أعود إلى فعل هذه الأشياء .. و أنا أسأل نفسي في حيرة .. ما الفرق بين ما يفعله المتزوجون و غير المتزوجين .. إنها ورقة .. مجرد ورقة ..
و لماذا يَعتبِر الناس تلامس اليدين في المصافحة عملاً عادياً لا غُبارعليه .. و تلامس الشفاه في القبلة عملاً فاضحاً شائناً .. أليست كلها أجزاء جسم واحد ..
و ما معنى الفضيلة هنا ؟! ..
و كيف يكون تحريم أشياء هي في صميم طبيعتنا فضيلة .. ؟!
لماذا لا نعيش على الطبيعة بدون تعقيد .. و بدون كبت .. و بدون تحريم ؟! .
رد الدكتور على القارئة صاحبة الرسالة :
قصدك لماذا لا نعيش كالحيوانات فننطلق مع غرائزنا بلا ضابط .. و بلا نظام .. و بلا هدف سوى هاتف اللحظة .. و لذة الساعة ..
مستحيل طبعاً فهذا معناه أن نتخلى عن إنسانيتنا تماماً .. و نعود إلى عصر الغابة .
فالآدمية لا تبدأ إلا من هذه اللحظة .. من اللحظة التي يحكم فيها الإنسان رغبته ، و يكبح غضبه ، و يلجم شهواته ، و يتصرف بمقتضى أهداف سامية .. كالرحمة ، و الإخاء ، و الشجاعة ، و التضحية ، و البذل في سبيل الآخرين ، و العمل على إقامة نظام ، و الإنقطاع للعلم و التحصيل ، و المعرفة و خدمة الناس ..
أما إذا انقلب الوضع و أصبحت لذَّات الجسد العابرة ، و نزوات الغريزة مفضلة على هذه الأغراض السامية فإن الإنسان يفقد إنسانيته و ينقلب حيواناً .. و النظام الإجتماعي ينهار كله من أساسه ..
و الزواج ليس مجرد ورقة كما تقولين .. الزواج تنظيم اجتماعي للغرائز حتى يكون لكل إبن يولد أب مسئول عنه .. و حتى لا تتحول العلاقات الجنسية إلى فوضى بلا رابط .. و تختلط الأحساب و الأنساب .. و لا يعرف الإبن أباه ..
و الواقع أن الإنسان حينما يضبط رغبته و يكبح شهوته .. فإنه لا يمكن أن يُقال إنه يكبت طبيعته .. فإنه في الحقيقة يخرِس صوت الغريزة .. و لكنه في نفس الوقت يُطلِق صوت العقل .. و هو يشد اللجام على الحيوان الهائج في نفسه ، و لكنه يطلق العنان للوجدان و العاطفة و الفكر .
و لا يمكن أن يُقال في أمر طبيعتنا إنها مجرد رغبات حيوانية .
فإن العقل أيضاً من طبيعتنا .. ، و العاطفة و الوجدان و الروح هي صميمنا ..
و هي أكثر أصالة في طبيعتنا من نزوة الجنس و صرخة الحيوان الجائع .
أما حكاية تلامس الشفتين في القبلة و تلامس اليدين في المصافحة .. فهي مغالطة واضحة .. و لن أحاول أن أناقشها .. فأنت تعرفين جيداً الفرق بين ما تفعله القبلة و بين ما تفعله المصافحة .. و مفيش داعي نكذب على بعض .
أما حكايتك مع صاحبك .. فهي حكاية يجب أن تنتهي .. فأنتِ باعترافك لا تحبينه و هو لا يحبك .. فالعلاقة إذن علاقة حيوانية لإشباع نزوات عارضة .. و هي علاقة تخلو من عنصر الصدق .. علاقة يُهين كل منكما فيها جسمه .. و يُهين نفسه .. و هي لهذا يجب أن تتوقف .. لا بسبب الدين وحده .. و لا خوفاً من جهنم .. و لكن بدافع من الإنسانية و من احترام كل منكما لجسمه و نفسه أيضاً .
من كتاب / إعترافات عشاق
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ هكذا أرادوا بالمرأة حينما صمّموا لها الفساتين ووسّعوا لها الفتحات على الصدر والظهر وحينما حزقوا لها البنطلونات وضيقوا البلوزات .. واستدرجوا المرأة من غرورها حينما قالوا لها .. ما أجمل صدرك .. ما أجمل كتفيك .. ما أروع ساقك .. ما أكثر جاذبيتك حينما يكون كل هذا عارياً .. ووقعت المرأة في الفخ .. وخلعت ثوب حيائها .. وعرضت جسمها سلعة تنهشها العيون .
وقالوا لها البيت سجن .. وإرضاع الأطفال تخلف .. وطهي الطعام بدائية ..
مكانك إلى جوار زوجك في المصنع وفي الأتوبيس و في الشارع .
وخرجت المرأة من البيت لتباشر ما تصلح له و ما لا تصلح له ..من أعمال و ألقت بأطفالها للشغالة .. وقالوا لها جسمك ملكك أنت حرة فيه بلا حسيب ولا رقيب وليس لك إلا حياة واحدة وكل يوم يمضي من أيامك لن يعود .. عيشي حياتك بالطول وبالعرض .. أنفقي شبابك قبل أن ينفد .. واستثمري أنوثتك قبل أن تشيخ ولا تعود لها سوق !
وساهم الفن بدوره ليروج هذا المفهوم .. ساهمت السينما والمسرح والإذاعة والأغنية والرقصة والقصيدة .. ودخلت الغواية إلى البيوت من كل باب وتسربت إلى العقول وتخللت الجلد وأشعلت الخيال بسعار الشهوات.. وأصبحت المُثل العليا في المجتمع هى أمثال مارلين مونرو .. وكلوديا كردينالي ولولو بريجيدا ..
وأصبحت البطلات صاحبات المجد عندنا ..أمثال شفيقة القبطية و بمية كشر و منيرة المهدية !
وأصبحت القدوة هي زوجة هربت من بيت الزوجية !
وظنت المرأة بنفسها الشطارة والفهلوة فظنت أنها تقدمت على أمها وجدتها حينما اختارت لنفسها هذه المسالك .. والحقيقة أنها استدرجت من حيث لا تدري .. وكانت ضحية الإيحاء والإستهواء وبريق الألفاظ وخداع الفن والإعلام الذي تصنعه حضارة مادية وثنية لا تؤمن إلا باللحظة ولا تعترف إلا بلذائذ الحس .. الصنم المعبود لكل إنسان فيها هو نفسه وهواه .
والمحراب هو فاترينة البضائع الإستهلاكية .. والهدف الذي من أجله يلهث هو إشباع الحاجات العاجلة !
ترى كيف كانت نظرة الإسلام للمرأة ؟ .. الإسلام المتهم بالرجعية والتخلف و البداوة .. الإسلام الذي قالوا عنه إنه أفيون الشعوب !
لم ينظر الإسلام للمرأة على أنها دمية أو لعبة أو متاع ، بل نظر إليها على أنها أم ورأى فيها شريكة عمر لا شريكة ليلة .
وقال عنها القرآن الكريم إنها السكن و المودة و الرحمة وقرة العين .. واختار لها البيت والحجاب و الرجل الواحد تعظيمًا لها وحفاظًا عليها ..
وكانت خديجة لمحمد عليه الصلاة والسلام .. أكثر من مجرد شريكة لقمة ، فقد شاركته الدعوة والرسالة .
واحتضنت هموم النبوة .. وكانت الناصح والصديق والأم الرءوم والسند المعين ..
واشتغلت المرأة بالتمريض ، وصاحب النساء أزواجهن في الغزوات .. وجلست المرأة للفقه .. وجلست لتلقي العلم .. و أنشدت الخنساء الشعر بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام .. وكان يستزيدها قائلًا .. هيه يا خناس ..
ولم يبح الإسلام التعدد إلا للضرورة وبشرط العدل ..
وما أباح التعدد إلا إيثارًا لأن تكون المرأة زوجة ثانية بدلًا من أن تكون عشيقة ! وهذا أكرم .. ثم عل القاعدة العامة في الزواج هي الزوجة الواحدة لأن العدل بين النساء أمر لا يستطيعه الرجال ..
وقد عهد الإسلام إلى الرجل بأن يبني ويُعمّر ويفتح الأمصار ويتاجر ، ولكنه عهد إلى المرأة بما هو أشرف من كل هذا .. بحضانة الإنسان و تربيته .
إن الرجل له أن يصنع أي شيء و لكن المرأة وحدها هي التي سوف تصنع الرجال .. وهذا غاية التكريم وغاية الثقة .. هل هذا هو التخلف ؟! .. أم أن التخلف الحقيقي هو أن تسير المرأة نصف عارية حلمها إثارة رجل وغايتها متاع ليلة ، ومثلها الأعلى إمرأة هلوك يقتتل حولها السكارى !
كم خدعوك يا أختي .. وكم استدرجوك إلى حتفك .. وخلعوكي من عرشك وانتزعوكي من خدرك .. وباعوكِ في أسواق النخاسة رقيقاً تثمن بقدر ما فيها من لحم ..
وأنت نصف الأمة .. ثم إنك تلدين لنا النصف الآخر .. فأنت أُمّة بأسرها .. ولا يستطيع الرجل أن يقود التطور وحده .. تُرى هل آن الأوان أن تعيدي النظر .. تُرى هل آن الأوان لتعرفي قدرك وتعرفي دورك ؟!. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ هكذا أرادوا بالمرأة حينما صمّموا لها الفساتين ووسّعوا لها الفتحات على الصدر والظهر وحينما حزقوا لها البنطلونات وضيقوا البلوزات .. واستدرجوا المرأة من غرورها حينما قالوا لها .. ما أجمل صدرك .. ما أجمل كتفيك .. ما أروع ساقك .. ما أكثر جاذبيتك حينما يكون كل هذا عارياً .. ووقعت المرأة في الفخ .. وخلعت ثوب حيائها .. وعرضت جسمها سلعة تنهشها العيون .
وقالوا لها البيت سجن .. وإرضاع الأطفال تخلف .. وطهي الطعام بدائية ..
مكانك إلى جوار زوجك في المصنع وفي الأتوبيس و في الشارع .
وخرجت المرأة من البيت لتباشر ما تصلح له و ما لا تصلح له ..من أعمال و ألقت بأطفالها للشغالة .. وقالوا لها جسمك ملكك أنت حرة فيه بلا حسيب ولا رقيب وليس لك إلا حياة واحدة وكل يوم يمضي من أيامك لن يعود .. عيشي حياتك بالطول وبالعرض .. أنفقي شبابك قبل أن ينفد .. واستثمري أنوثتك قبل أن تشيخ ولا تعود لها سوق !
وساهم الفن بدوره ليروج هذا المفهوم .. ساهمت السينما والمسرح والإذاعة والأغنية والرقصة والقصيدة .. ودخلت الغواية إلى البيوت من كل باب وتسربت إلى العقول وتخللت الجلد وأشعلت الخيال بسعار الشهوات.. وأصبحت المُثل العليا في المجتمع هى أمثال مارلين مونرو .. وكلوديا كردينالي ولولو بريجيدا ..
وأصبحت البطلات صاحبات المجد عندنا ..أمثال شفيقة القبطية و بمية كشر و منيرة المهدية !
وأصبحت القدوة هي زوجة هربت من بيت الزوجية !
وظنت المرأة بنفسها الشطارة والفهلوة فظنت أنها تقدمت على أمها وجدتها حينما اختارت لنفسها هذه المسالك .. والحقيقة أنها استدرجت من حيث لا تدري .. وكانت ضحية الإيحاء والإستهواء وبريق الألفاظ وخداع الفن والإعلام الذي تصنعه حضارة مادية وثنية لا تؤمن إلا باللحظة ولا تعترف إلا بلذائذ الحس .. الصنم المعبود لكل إنسان فيها هو نفسه وهواه .
والمحراب هو فاترينة البضائع الإستهلاكية .. والهدف الذي من أجله يلهث هو إشباع الحاجات العاجلة !
ترى كيف كانت نظرة الإسلام للمرأة ؟ .. الإسلام المتهم بالرجعية والتخلف و البداوة .. الإسلام الذي قالوا عنه إنه أفيون الشعوب !
لم ينظر الإسلام للمرأة على أنها دمية أو لعبة أو متاع ، بل نظر إليها على أنها أم ورأى فيها شريكة عمر لا شريكة ليلة .
وقال عنها القرآن الكريم إنها السكن و المودة و الرحمة وقرة العين .. واختار لها البيت والحجاب و الرجل الواحد تعظيمًا لها وحفاظًا عليها ..
وكانت خديجة لمحمد عليه الصلاة والسلام .. أكثر من مجرد شريكة لقمة ، فقد شاركته الدعوة والرسالة .
واحتضنت هموم النبوة .. وكانت الناصح والصديق والأم الرءوم والسند المعين ..
واشتغلت المرأة بالتمريض ، وصاحب النساء أزواجهن في الغزوات .. وجلست المرأة للفقه .. وجلست لتلقي العلم .. و أنشدت الخنساء الشعر بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام .. وكان يستزيدها قائلًا .. هيه يا خناس ..
ولم يبح الإسلام التعدد إلا للضرورة وبشرط العدل ..
وما أباح التعدد إلا إيثارًا لأن تكون المرأة زوجة ثانية بدلًا من أن تكون عشيقة ! وهذا أكرم .. ثم عل القاعدة العامة في الزواج هي الزوجة الواحدة لأن العدل بين النساء أمر لا يستطيعه الرجال ..
وقد عهد الإسلام إلى الرجل بأن يبني ويُعمّر ويفتح الأمصار ويتاجر ، ولكنه عهد إلى المرأة بما هو أشرف من كل هذا .. بحضانة الإنسان و تربيته .
إن الرجل له أن يصنع أي شيء و لكن المرأة وحدها هي التي سوف تصنع الرجال .. وهذا غاية التكريم وغاية الثقة .. هل هذا هو التخلف ؟! .. أم أن التخلف الحقيقي هو أن تسير المرأة نصف عارية حلمها إثارة رجل وغايتها متاع ليلة ، ومثلها الأعلى إمرأة هلوك يقتتل حولها السكارى !
كم خدعوك يا أختي .. وكم استدرجوك إلى حتفك .. وخلعوكي من عرشك وانتزعوكي من خدرك .. وباعوكِ في أسواق النخاسة رقيقاً تثمن بقدر ما فيها من لحم ..
وأنت نصف الأمة .. ثم إنك تلدين لنا النصف الآخر .. فأنت أُمّة بأسرها .. ولا يستطيع الرجل أن يقود التطور وحده .. تُرى هل آن الأوان أن تعيدي النظر .. تُرى هل آن الأوان لتعرفي قدرك وتعرفي دورك ؟! . ❝
❞ عجيب أمرنا نحن المسلمين !.. نعبد إلها واحدا.. و نطوف حول كعبة واحدة.. و نتوجه في صلاتنا إلى قبلة واحدة.. و نصطف في المسجد صفا واحدا.. و نقول جميعا: آمين.. في نفس واحد.. و مع ذلك لكل منا إسلام خاص به، يختلف عن إسلام الآخر ! و كل منا يفهم الإسلام على طريقته، و يباشره في حياته بمفهومه الخاص !
و قد تفرقت الجماعة الإسلامية إلى سنة و شيعة و أباضية و دروز، بل إن الشيعة نفسها تفرقت إلى زيدية و اثنى عشرية و إسماعيلية و علوية و بهرة و بكتاشية، و خرج منها غلاة عبدوا عليا، و رأوا فيه ابنا لله، و اعتقدوا أن الرسالة أخطأته و نزلت على محمد ! و الأكثرية التزمت جانب الاعتدال و قالت: بل كان أولى بالخلافة.. و لم تزد.. و بين هؤلاء و هؤلاء تعددت الفرق و بعيدا عن الطريق و المذهب اختلف الناس بين مدخلين للإسلام.. المدخل السلفي الأصولي، و المدخل الصوفي.
و في المدخل السلفي تمادى الأصوليون في الشكلية و في الالتزام الحرفي بالنصوص، و في ظاهر سلوكيات المسلم: طريقة إطلاقه لحيته، و تقصيره جلبابه.. و للمرأة: نقابها و حجابها.. و هي الشريعة ذاتها.. بينما اهتمت الصوفية بتطهير الباطن، و مجاهدة النفس، و التربية الخلقية و تحصيل المقامات.. مقامات التوبة و الإخلاص و الصدق و الصبر و الشكر و المراقبة و المحاسبة و التقوى و الورع.. و تركت الظاهر لأهل الظاهر، و قالوا: نحن عمدتنا القلب، و غايتنا اللب و ليس القشر.
و الكل مسلمون و لكن شتان بين فهم و فهم !
و أنا أرى الآن أن القرآن لم ينحصر في أي من هذين المسلكين، بل كان في مجموع آياته يمثل الوسط العدل بينهما، و الجامع الأمين بين طهارة الظاهر و طهارة الباطن.. و أن المذهبية و الحزبية أفسدت الإسلام تماما.
و القرآن في مجموع آياته شيء غير القرآن في آية واحدة مبتورة من سياقها، أو بضع آيات نزلت في مناسبة، أو حكم متشدد نزل في ضرورته.
و لا يمكن فهم الإسلام إلا من خلال القرآن كله بمجموع آياته.. فهو يفسر بعضه بعضا، و ما غمض في آية توضحه آية أخرى، و ما أجمل في آية تفصله آية ثانية.
و التشديد لا يجيء في القرآن إلا لضرورة.. أما السياق القرآني العام.........؟
فهو العفو و المغفرة و السماحة.
((.. هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ.. )) [ الحج : 78 ]
((لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ )) [ النور : 61 ]
و سلوك النبي عليه الصلاة و السلام (( و هو المؤشر إلى التفسير الصحيح للقرآن )) هو الحلم بعينه، لا تزمت و لا تشدد و تنطع، و لا وقوف عند الفهم الحرفي للنصوص.. و كمثال: حكاية الرجل الذي جاء يحكي للرسول كيف اختلى بامرأة و نال منها ما يبتغي دون مباشرة.. فأطرق النبي – عليه الصلاة و السلام – و لم يعلق و قام للصلاة، فنزلت الآية:
(( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) )) [ هود ]
فنصح الرجل بالصلاة و الإكثار من النوافل، و لم يقم عليه النبي حد الزنا رغم اعترافه، و اعتبر ما حدث من (( اللمم ))، أي الذنوب التي تغفر، و التي تجبرها الصلاة و التوبة.
و يذكرنا هذا بالمسيح – عليه السلام – حينما رفض أن يرجم (( المجدلية )) الزانية، و قال لمن حوله: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر !
و لم يشهد المسيح و لا نبينا – عليهما الصلاة و السلام – من بعده ذلك العصر الرديء الذي نعيش فيه، و الذي تدعو فيه أجهزة الإعلام و أغاني الإذاعة و أفلام السينما و تمثيليات التليفزيون – إلى العلاقات الحرة.. و الأقمار الفضائية التي تباشر الزنا علنا، و جهارا نهارا، و تغري الشباب بالصورة و الكلمة و الحركة إلى المسارعة في قضاء الشهوات، و إلى التسابق في المتع الحرام !
ماذا يكون موقف الشريعة من هذا العصر الذي شاعت فيه البلوى ؟!!
و ماذا يفعل الشباب.. و الزواج بعيد المنال.. هل يدخل في جب تحت الأرض ؟!!
و هل شبابنا في هذا الحال جناة، أم مجني عليهم ؟!
و فقه شيوع البلوى له مكان في شريعتنا، عملا بالمبدأ القرآني، حينما كانت الخمر بلاء شائعا في أول الدعوة، فنزلت الآيات مخففة، تعاتب شارب الخمر و لا تغلظ عليه، و تتدرج في التحريم على مراحل.. و يذكرنا هذا بالفقيه الإسلامي الذي سألوه أن يقيم حد الخمر على الحاكم التتري – و ذلك بعد إسلامه – فرفض، و آثر تركه في غيبوبة السكر ليكف ظلمه عن الناس، و قال: إن تطبيق الشريعة عليه و امتناعه عن الشرب و عودته إلى وعيه و عافيته، سوف تؤدي إلى منكر أشد، بعودته إلى جبروته و ظلمه.
و في هذا يقول العوام: (( نوم الظالم عبادة )) !
و منذ ذلك اليوم سارت كلمة ذلك الفقيه مثلا.. و أصبحت مبدأ مقررا من مبادئ الاجتهاد: له أنصاره.. إنه إذا أدى تطبيق الشريعة إلى منكر أشد كان عدم تطبيقها أولى.. و أنه لابد من فهم الشريعة الإسلامية في إطار مراد الله بها، و قصده من نزولها، و هو صلاح أمر العباد و ليس شقاءهم. فالله تعالى يقول:
(( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى )).. و هكذا كان شأن الاجتهاد عند المفسرين الأوائل.. و هكذا كان شأن العقل و الفهم و التدبر و التفكر.. و لم يظهر التشدد و التحجر و الانغلاق على الألفاظ، إلا مع قرون التخلف و توقف الاجتهاد، و ظهور الدعوات الأصولية التي تزايد على بعضها، و يسابق بعضها بعضا في الغلظة و في الرجم و الجلد.
و ليس في كلامنا تهوين من أمر الشريعة، فهي حبة قلب المسلم و سواد عينيه، و لا يملك المسلم العابد أمام كلمة ربه إلا السمع و الطاعة.. و إنما هي الغيرة على الكلمة و قداستها من أن تفهم على غير وجهها، و تستعمل في غير حقها، فتكون ذريعة إلى ظلم بريء.. بل نحن أشد حبا للشريعة من الذين يطبقونها في عمى.
و لقد تكاثر دعاة الأصولية الغلاظ، و تنافسوا في القسوة و في مطاردة المسلمين و إرهابهم بالنصوص، حتى نفروهم من دينهم !
و الله يعلم مسبقا ماذا سيكون شأن هذا العصر الذي نعيشه، من شيوع البلوى فيه، و من انتشار الفساد و الفقر و البطالة و الانحلال، و تكالب الأعداء على الإسلام من كل جانب، و هوان حال المسلمين و انقسامهم و تشتتهم و بوارهم.
و كل هذا يكشف عن عمق القرآن و رحابته و تعدد آفاقه، بحيث تغطي آياته التشريعية كل العصور.. و يكشف عن روح التسامح و إيثار فهم التشريع على الوجه الأصلح لحياة المسلمين.
و هو يكشف أيضا عن المرونة و عدم الجمود، و رفض الغلظة إلا في ضرورتها القصوى حين يقتل القاتل ظلما و بغيا فيتوجب القصاص.. و لهذا اختلف الناس أمام فهم القرآن ، و انعكست نفس كل قارئ في لون تفسيره.. فغلاظ القوم لم يشهدوا من القرآن إلا آيات النكال.. و الرحماء شهدوا رحابة التشريع، و انفساح آفاق التفسير أمام الفهم الأرحب و الأرحم.. و اختلفوا، و الكتاب الذي يقرأونه واحد.. و ما اختلفوا بسبب الكتاب بل بسبب نفوسهم ! و هذه مشكلة الحكومات الأصولية و الفرق المتشددة، و مرضى النفوس و مرضى القلوب، و هواة التشفي من كل جنس !
و لقد نزلت الآيات بهذا التلوين لتمتحن القلوب، و لتمتحن النفوس، و لتختبر المعادن.. و القرآن هو الشاهد على الكل، و هو الحجة.. و لا يصلح القرآن ذريعة لظلم أو جبروت، بل هو قاموس الرحمة بعينه.
و المختلفون من أهل الشقاق و النفاق شهدت أعمالهم على كفرهم.. فما اختاروا بغلظتهم القرآن حكما، بل اختاروا نفوسهم، و آثروا رغباتهم الانتقامية، و اتخذوا من القرآن ستارا و ذريعة لقساوتهم !
و صدق الله العظيم في خطابه لرسوله:
(( مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) )) [ طه ]
فالقرآن هو الباب إلى النعيم، و لا يمكن أن يكون بابا للشقاء، و لا بابا لكل هذا الخلاف و الفرقة و الانقسام.. و لا بابا لكل هذا الإرهاب و الإجرام و القساوة.. و إنما اختلفت النفوس التي تقرأ و تفهم و تفسر.
و لهذا قال ربنا عن قرآنه:
(( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26) )) [ البقرة ]
و ما أكثر فساق و مجرمي هذا الزمان، الذين اتخذوا من القرآن ذريعة لإجرامهم و ستارا لإرهابهم ! و هؤلاء هم الذين أضلهم الله بقرآنه.. و كشفهم أمام الناس و أمام نفوسهم، و فضح ضلالهم و كفرهم.
و لا مفر من الاختلاف، بحكم اختلاف النفوس و اختلاف الطبائع، قال ربنا عن الناس:
((.. وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) )) [ هود ]
و هذا الاختلاف أزلي، من قبل أن تولد النفوس و تجيء إلى الدنيا، و سببه ثبوت وصف تلك النفوس في علم الله من الأزل، و هذا الوصف هو ما أرادته النفوس لنفسها أزلا، و ليس ما أراده الله لها. فالله لا يريد إلا الخير لكل الخلق.. و لقد فطر البشر على الحرية و الاختيار، و كانت النتيجة أن اختلفوا حسب أهوائهم.
قال ربنا: (( و لذلك خلقهم )) ليميز الخبيث من الطيب، و لتكون خاتمة كل مخلوق على وفاق نيته.
و كانت العاقبة في النهاية أن امتلأت بهم جهنم، و لم يدخل الجنة إلا القليل، و استلزم الأمر (( الفرز )) و التصنيف، و تفاضل الرتب و المنازل، لأن هذا كان مقتضى العدل، و الله أعدل العادلين.
و كان البديل الآخر أن يستووا عند الله رغم اختلافهم.. أن يستوي القاتل و القتيل، و الظالم و المظلوم، و أن يستوي البر و الفاجر، و هو الأمر المحال !
تعالى ربنا عن مثل ذلك العبث علوا كبيرا.
قال ربنا: (( و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك )).. و معنى ذلك أن داخل الجنة لن يدخلها بعمله وحده بل بفضل الله و رحمته، و تلك هي النسمة الربيعية الجميلة التي تهب من أول صفحة في القرآن إلى آخر صفحة.. من أول مفتتح الفاتحة.. بسم الله الرحمن الرحيم.. إلى آخر كلمة.. و الحمد لله رب العالمين بعد أن يتم الحساب. و لقد اختار ربنا لرحمته من استحقها من الخلق.. و هو أعلم بقلوب خلقه، و لولا رحمة ربك لهلكنا جميعا.
و بين النار و الجنة ذلك الخيط الرفيع بين المؤتلف و المختلف.. بين الذين أسلموا للحق و انسجموا معه في كتيبة الخير، و بين الذين أعرضوا و تفرقوا و اقتتلوا.. و ليس بالشعارات و لا بالبطاقات سيكون دخول الجنة ! فما أكثر الذين حملوا شعار لا إله إلا الله و خانوه، و حملوا بطاقة المسلم و لم يسلموا لشيء سوى هوى نفوسهم !
و تظل الوسطية و الاعتدال هي النغمة القرآنية السائدة من أول آياته إلى آخرها.. و الذين تطرفوا في الأخذ بالظاهر، و الذين تطرفوا في الأخذ بالباطن – إنما أخذوا من القرآن ما ناسبهم، و لم يأخذوا به كله.
و محمد – عليه الصلاة و السلام – و هو القرآن الحي الذي يمشي على الأرض – ما عرفناه إرهابيا، و لا عرفناه مجذوبا غائبا عن الوعي في سكرة الوجد مثل مجاذيب الطرق الصوفية، إنما عرفناه يقظا متنبها، حاضر الذهن، عقله مع الناس و قلبه مع ربه، يعيش الواقع و يلتحم بالدنيا، و مع ذلك لا يغفل عن خالقه لحظة.
و ذلك هو الصراط المستقيم.. لا يمين فيه و لا يسار.. بل خط رفيع كالسيف.. من أصابه فقد عرف جادة الإسلام.. و لهذا جعله الله أسوة لنا جميعا، و اختاره قدوة و مثالا.. و أرسله نبيا.. و قال له ما لم يقل لرسول:
(( و إنك لعلى خلق عظيم )). و من أخطأ فهو مسلم بقدر اقترابه من هذا الوسط الأمثل، و هو صاحب الأخلاق بقدر حظه من الاعتدال.
و الأخلاق في أصلها هي الأسماء الحسنى لله.. الكريم، الحليم، الرحيم، الودود، الرؤوف، الصبور، الشكور، البر، العفو، الغفور، الغفار، الرزاق، الحكم، العدل، النافع، الهادي، الرشيد.. فكل هذه أخلاق مثلى.. و لله المثل الأعلى.. و بقدر ما يحصل العبد من هذه الأخلاق يكون عند الله عبدا ربانيا.. و يكون عند الله مسلما حقا.
و في الحديث: (( تخلقوا بأخلاق الله.. إن ربي على صراط مستقيم )). و جمعية تلك الأخلاق هي الأصولية الحقيقية في ديانتنا إلى جانب الإسلام لله في كل شيء، و توحيده و تمجيده، و تسبيحه و عبادته و طاعته، و الإيمان بكتبه و رسله و القدر خيره و شره، و الآخرة و البعث و الحساب..
هذه هي الأصولية.. و لا دخل لها بإرهاب و لا بتطرف، و لا بمظهرية كاذبة، و لا بشكليات فجة..
و يجمع النبي – عليه الصلاة و السلام – كل هذا في جملة واحدة: (( قل: آمنت بالله ثم استقم )).
فيضع كل مكارم الأخلاق تحت كلمة الاستقامة، و كل مقررات الإسلام في كلمة الإيمان.. و ذلك لتأكيد أن الإسلام دين فطرة و بساطة، و ليس فلسفة و حذلقة و تنطعا و جدلا.. فالأمر أبسط من كل هذا.. بل هو ثلاث كلمات !
و أصحاب النيات السليمة يفهمون هذا ببداهتهم و لا حاجة لهم بجدل و لا بتنطع.. و أصحاب النيات الخبيثة.. المشكلة فيهم، و ليست في الدين.. و بين الاثنين ذلك الخيط الرفيع بين الجنة و النار.
و لذلك قال ربنا في أهل الجنة: (( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون )) – أي عن النار مبعدون –
كان هذا أمرا سبق نزولهم إلى الدنيا و هم مجرد نفوس.. و من قبل أن ينزلوا إلى عالم الامتحان و الابتلاء و دنيا أسفل سافلين.
هم إذن أهل الجنة من قديم.. و الآخرون أهل النار من قديم.. و إنما قضى الله بالامتحان و الابتلاء حتى تنقطع الحجة.. و حتى لا يكون لأحد عذر.
و يبقى بعد ذلك السؤال: كيف كنا في ذلك الأزل قبل الخلق ؟ و كيف تفاضلنا ؟ و متى ؟ و أين ؟
أم أنه لا أين، و لا متى في الأزل.. حيث لا حيث.. و حيث لا مكان و لا زمان ؟! و تلك من أسرار الغيب التي لا يعلمها إلا الله، و لن يكشف عنها الستار إلا بعد الموت و البعث.. و العرض مستمر.. و القصة ممتدة فصولا.. و فيها مصيرنا كله.
ضعوا أيديكم على قلوبكم.. فليس الأمر بالهزل !
مقال/ الخيط الرفيع بين الجنة و النار
من كتاب / سواح في دنيا الله
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ عجيب أمرنا نحن المسلمين !.. نعبد إلها واحدا.. و نطوف حول كعبة واحدة.. و نتوجه في صلاتنا إلى قبلة واحدة.. و نصطف في المسجد صفا واحدا.. و نقول جميعا: آمين.. في نفس واحد.. و مع ذلك لكل منا إسلام خاص به، يختلف عن إسلام الآخر ! و كل منا يفهم الإسلام على طريقته، و يباشره في حياته بمفهومه الخاص !
و قد تفرقت الجماعة الإسلامية إلى سنة و شيعة و أباضية و دروز، بل إن الشيعة نفسها تفرقت إلى زيدية و اثنى عشرية و إسماعيلية و علوية و بهرة و بكتاشية، و خرج منها غلاة عبدوا عليا، و رأوا فيه ابنا لله، و اعتقدوا أن الرسالة أخطأته و نزلت على محمد ! و الأكثرية التزمت جانب الاعتدال و قالت: بل كان أولى بالخلافة.. و لم تزد.. و بين هؤلاء و هؤلاء تعددت الفرق و بعيدا عن الطريق و المذهب اختلف الناس بين مدخلين للإسلام.. المدخل السلفي الأصولي، و المدخل الصوفي.
و في المدخل السلفي تمادى الأصوليون في الشكلية و في الالتزام الحرفي بالنصوص، و في ظاهر سلوكيات المسلم: طريقة إطلاقه لحيته، و تقصيره جلبابه.. و للمرأة: نقابها و حجابها.. و هي الشريعة ذاتها.. بينما اهتمت الصوفية بتطهير الباطن، و مجاهدة النفس، و التربية الخلقية و تحصيل المقامات.. مقامات التوبة و الإخلاص و الصدق و الصبر و الشكر و المراقبة و المحاسبة و التقوى و الورع.. و تركت الظاهر لأهل الظاهر، و قالوا: نحن عمدتنا القلب، و غايتنا اللب و ليس القشر.
و الكل مسلمون و لكن شتان بين فهم و فهم !
و أنا أرى الآن أن القرآن لم ينحصر في أي من هذين المسلكين، بل كان في مجموع آياته يمثل الوسط العدل بينهما، و الجامع الأمين بين طهارة الظاهر و طهارة الباطن.. و أن المذهبية و الحزبية أفسدت الإسلام تماما.
و القرآن في مجموع آياته شيء غير القرآن في آية واحدة مبتورة من سياقها، أو بضع آيات نزلت في مناسبة، أو حكم متشدد نزل في ضرورته.
و لا يمكن فهم الإسلام إلا من خلال القرآن كله بمجموع آياته.. فهو يفسر بعضه بعضا، و ما غمض في آية توضحه آية أخرى، و ما أجمل في آية تفصله آية ثانية.
و التشديد لا يجيء في القرآن إلا لضرورة.. أما السياق القرآني العام.........؟
فهو العفو و المغفرة و السماحة.
((.. هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ.. )) [ الحج : 78 ]
((لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ )) [ النور : 61 ]
و سلوك النبي عليه الصلاة و السلام (( و هو المؤشر إلى التفسير الصحيح للقرآن )) هو الحلم بعينه، لا تزمت و لا تشدد و تنطع، و لا وقوف عند الفهم الحرفي للنصوص.. و كمثال: حكاية الرجل الذي جاء يحكي للرسول كيف اختلى بامرأة و نال منها ما يبتغي دون مباشرة.. فأطرق النبي – عليه الصلاة و السلام – و لم يعلق و قام للصلاة، فنزلت الآية:
(( وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) )) [ هود ]
فنصح الرجل بالصلاة و الإكثار من النوافل، و لم يقم عليه النبي حد الزنا رغم اعترافه، و اعتبر ما حدث من (( اللمم ))، أي الذنوب التي تغفر، و التي تجبرها الصلاة و التوبة.
و يذكرنا هذا بالمسيح – عليه السلام – حينما رفض أن يرجم (( المجدلية )) الزانية، و قال لمن حوله: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر !
و لم يشهد المسيح و لا نبينا – عليهما الصلاة و السلام – من بعده ذلك العصر الرديء الذي نعيش فيه، و الذي تدعو فيه أجهزة الإعلام و أغاني الإذاعة و أفلام السينما و تمثيليات التليفزيون – إلى العلاقات الحرة.. و الأقمار الفضائية التي تباشر الزنا علنا، و جهارا نهارا، و تغري الشباب بالصورة و الكلمة و الحركة إلى المسارعة في قضاء الشهوات، و إلى التسابق في المتع الحرام !
ماذا يكون موقف الشريعة من هذا العصر الذي شاعت فيه البلوى ؟!!
و ماذا يفعل الشباب.. و الزواج بعيد المنال.. هل يدخل في جب تحت الأرض ؟!!
و هل شبابنا في هذا الحال جناة، أم مجني عليهم ؟!
و فقه شيوع البلوى له مكان في شريعتنا، عملا بالمبدأ القرآني، حينما كانت الخمر بلاء شائعا في أول الدعوة، فنزلت الآيات مخففة، تعاتب شارب الخمر و لا تغلظ عليه، و تتدرج في التحريم على مراحل.. و يذكرنا هذا بالفقيه الإسلامي الذي سألوه أن يقيم حد الخمر على الحاكم التتري – و ذلك بعد إسلامه – فرفض، و آثر تركه في غيبوبة السكر ليكف ظلمه عن الناس، و قال: إن تطبيق الشريعة عليه و امتناعه عن الشرب و عودته إلى وعيه و عافيته، سوف تؤدي إلى منكر أشد، بعودته إلى جبروته و ظلمه.
و في هذا يقول العوام: (( نوم الظالم عبادة )) !
و منذ ذلك اليوم سارت كلمة ذلك الفقيه مثلا.. و أصبحت مبدأ مقررا من مبادئ الاجتهاد: له أنصاره.. إنه إذا أدى تطبيق الشريعة إلى منكر أشد كان عدم تطبيقها أولى.. و أنه لابد من فهم الشريعة الإسلامية في إطار مراد الله بها، و قصده من نزولها، و هو صلاح أمر العباد و ليس شقاءهم. فالله تعالى يقول:
(( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى )).. و هكذا كان شأن الاجتهاد عند المفسرين الأوائل.. و هكذا كان شأن العقل و الفهم و التدبر و التفكر.. و لم يظهر التشدد و التحجر و الانغلاق على الألفاظ، إلا مع قرون التخلف و توقف الاجتهاد، و ظهور الدعوات الأصولية التي تزايد على بعضها، و يسابق بعضها بعضا في الغلظة و في الرجم و الجلد.
و ليس في كلامنا تهوين من أمر الشريعة، فهي حبة قلب المسلم و سواد عينيه، و لا يملك المسلم العابد أمام كلمة ربه إلا السمع و الطاعة.. و إنما هي الغيرة على الكلمة و قداستها من أن تفهم على غير وجهها، و تستعمل في غير حقها، فتكون ذريعة إلى ظلم بريء.. بل نحن أشد حبا للشريعة من الذين يطبقونها في عمى.
و لقد تكاثر دعاة الأصولية الغلاظ، و تنافسوا في القسوة و في مطاردة المسلمين و إرهابهم بالنصوص، حتى نفروهم من دينهم !
و الله يعلم مسبقا ماذا سيكون شأن هذا العصر الذي نعيشه، من شيوع البلوى فيه، و من انتشار الفساد و الفقر و البطالة و الانحلال، و تكالب الأعداء على الإسلام من كل جانب، و هوان حال المسلمين و انقسامهم و تشتتهم و بوارهم.
و كل هذا يكشف عن عمق القرآن و رحابته و تعدد آفاقه، بحيث تغطي آياته التشريعية كل العصور.. و يكشف عن روح التسامح و إيثار فهم التشريع على الوجه الأصلح لحياة المسلمين.
و هو يكشف أيضا عن المرونة و عدم الجمود، و رفض الغلظة إلا في ضرورتها القصوى حين يقتل القاتل ظلما و بغيا فيتوجب القصاص.. و لهذا اختلف الناس أمام فهم القرآن ، و انعكست نفس كل قارئ في لون تفسيره.. فغلاظ القوم لم يشهدوا من القرآن إلا آيات النكال.. و الرحماء شهدوا رحابة التشريع، و انفساح آفاق التفسير أمام الفهم الأرحب و الأرحم.. و اختلفوا، و الكتاب الذي يقرأونه واحد.. و ما اختلفوا بسبب الكتاب بل بسبب نفوسهم ! و هذه مشكلة الحكومات الأصولية و الفرق المتشددة، و مرضى النفوس و مرضى القلوب، و هواة التشفي من كل جنس !
و لقد نزلت الآيات بهذا التلوين لتمتحن القلوب، و لتمتحن النفوس، و لتختبر المعادن.. و القرآن هو الشاهد على الكل، و هو الحجة.. و لا يصلح القرآن ذريعة لظلم أو جبروت، بل هو قاموس الرحمة بعينه.
و المختلفون من أهل الشقاق و النفاق شهدت أعمالهم على كفرهم.. فما اختاروا بغلظتهم القرآن حكما، بل اختاروا نفوسهم، و آثروا رغباتهم الانتقامية، و اتخذوا من القرآن ستارا و ذريعة لقساوتهم !
و صدق الله العظيم في خطابه لرسوله:
(( مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) )) [ طه ]
فالقرآن هو الباب إلى النعيم، و لا يمكن أن يكون بابا للشقاء، و لا بابا لكل هذا الخلاف و الفرقة و الانقسام.. و لا بابا لكل هذا الإرهاب و الإجرام و القساوة.. و إنما اختلفت النفوس التي تقرأ و تفهم و تفسر.
و لهذا قال ربنا عن قرآنه:
(( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26) )) [ البقرة ]
و ما أكثر فساق و مجرمي هذا الزمان، الذين اتخذوا من القرآن ذريعة لإجرامهم و ستارا لإرهابهم ! و هؤلاء هم الذين أضلهم الله بقرآنه.. و كشفهم أمام الناس و أمام نفوسهم، و فضح ضلالهم و كفرهم.
و لا مفر من الاختلاف، بحكم اختلاف النفوس و اختلاف الطبائع، قال ربنا عن الناس:
((.. وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) )) [ هود ]
و هذا الاختلاف أزلي، من قبل أن تولد النفوس و تجيء إلى الدنيا، و سببه ثبوت وصف تلك النفوس في علم الله من الأزل، و هذا الوصف هو ما أرادته النفوس لنفسها أزلا، و ليس ما أراده الله لها. فالله لا يريد إلا الخير لكل الخلق.. و لقد فطر البشر على الحرية و الاختيار، و كانت النتيجة أن اختلفوا حسب أهوائهم.
قال ربنا: (( و لذلك خلقهم )) ليميز الخبيث من الطيب، و لتكون خاتمة كل مخلوق على وفاق نيته.
و كانت العاقبة في النهاية أن امتلأت بهم جهنم، و لم يدخل الجنة إلا القليل، و استلزم الأمر (( الفرز )) و التصنيف، و تفاضل الرتب و المنازل، لأن هذا كان مقتضى العدل، و الله أعدل العادلين.
و كان البديل الآخر أن يستووا عند الله رغم اختلافهم.. أن يستوي القاتل و القتيل، و الظالم و المظلوم، و أن يستوي البر و الفاجر، و هو الأمر المحال !
تعالى ربنا عن مثل ذلك العبث علوا كبيرا.
قال ربنا: (( و لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك )).. و معنى ذلك أن داخل الجنة لن يدخلها بعمله وحده بل بفضل الله و رحمته، و تلك هي النسمة الربيعية الجميلة التي تهب من أول صفحة في القرآن إلى آخر صفحة.. من أول مفتتح الفاتحة.. بسم الله الرحمن الرحيم.. إلى آخر كلمة.. و الحمد لله رب العالمين بعد أن يتم الحساب. و لقد اختار ربنا لرحمته من استحقها من الخلق.. و هو أعلم بقلوب خلقه، و لولا رحمة ربك لهلكنا جميعا.
و بين النار و الجنة ذلك الخيط الرفيع بين المؤتلف و المختلف.. بين الذين أسلموا للحق و انسجموا معه في كتيبة الخير، و بين الذين أعرضوا و تفرقوا و اقتتلوا.. و ليس بالشعارات و لا بالبطاقات سيكون دخول الجنة ! فما أكثر الذين حملوا شعار لا إله إلا الله و خانوه، و حملوا بطاقة المسلم و لم يسلموا لشيء سوى هوى نفوسهم !
و تظل الوسطية و الاعتدال هي النغمة القرآنية السائدة من أول آياته إلى آخرها.. و الذين تطرفوا في الأخذ بالظاهر، و الذين تطرفوا في الأخذ بالباطن – إنما أخذوا من القرآن ما ناسبهم، و لم يأخذوا به كله.
و محمد – عليه الصلاة و السلام – و هو القرآن الحي الذي يمشي على الأرض – ما عرفناه إرهابيا، و لا عرفناه مجذوبا غائبا عن الوعي في سكرة الوجد مثل مجاذيب الطرق الصوفية، إنما عرفناه يقظا متنبها، حاضر الذهن، عقله مع الناس و قلبه مع ربه، يعيش الواقع و يلتحم بالدنيا، و مع ذلك لا يغفل عن خالقه لحظة.
و ذلك هو الصراط المستقيم.. لا يمين فيه و لا يسار.. بل خط رفيع كالسيف.. من أصابه فقد عرف جادة الإسلام.. و لهذا جعله الله أسوة لنا جميعا، و اختاره قدوة و مثالا.. و أرسله نبيا.. و قال له ما لم يقل لرسول:
(( و إنك لعلى خلق عظيم )). و من أخطأ فهو مسلم بقدر اقترابه من هذا الوسط الأمثل، و هو صاحب الأخلاق بقدر حظه من الاعتدال.
و الأخلاق في أصلها هي الأسماء الحسنى لله.. الكريم، الحليم، الرحيم، الودود، الرؤوف، الصبور، الشكور، البر، العفو، الغفور، الغفار، الرزاق، الحكم، العدل، النافع، الهادي، الرشيد.. فكل هذه أخلاق مثلى.. و لله المثل الأعلى.. و بقدر ما يحصل العبد من هذه الأخلاق يكون عند الله عبدا ربانيا.. و يكون عند الله مسلما حقا.
و في الحديث: (( تخلقوا بأخلاق الله.. إن ربي على صراط مستقيم )). و جمعية تلك الأخلاق هي الأصولية الحقيقية في ديانتنا إلى جانب الإسلام لله في كل شيء، و توحيده و تمجيده، و تسبيحه و عبادته و طاعته، و الإيمان بكتبه و رسله و القدر خيره و شره، و الآخرة و البعث و الحساب..
هذه هي الأصولية.. و لا دخل لها بإرهاب و لا بتطرف، و لا بمظهرية كاذبة، و لا بشكليات فجة..
و يجمع النبي – عليه الصلاة و السلام – كل هذا في جملة واحدة: (( قل: آمنت بالله ثم استقم )).
فيضع كل مكارم الأخلاق تحت كلمة الاستقامة، و كل مقررات الإسلام في كلمة الإيمان.. و ذلك لتأكيد أن الإسلام دين فطرة و بساطة، و ليس فلسفة و حذلقة و تنطعا و جدلا.. فالأمر أبسط من كل هذا.. بل هو ثلاث كلمات !
و أصحاب النيات السليمة يفهمون هذا ببداهتهم و لا حاجة لهم بجدل و لا بتنطع.. و أصحاب النيات الخبيثة.. المشكلة فيهم، و ليست في الدين.. و بين الاثنين ذلك الخيط الرفيع بين الجنة و النار.
و لذلك قال ربنا في أهل الجنة: (( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون )) – أي عن النار مبعدون –
كان هذا أمرا سبق نزولهم إلى الدنيا و هم مجرد نفوس.. و من قبل أن ينزلوا إلى عالم الامتحان و الابتلاء و دنيا أسفل سافلين.
هم إذن أهل الجنة من قديم.. و الآخرون أهل النار من قديم.. و إنما قضى الله بالامتحان و الابتلاء حتى تنقطع الحجة.. و حتى لا يكون لأحد عذر.
و يبقى بعد ذلك السؤال: كيف كنا في ذلك الأزل قبل الخلق ؟ و كيف تفاضلنا ؟ و متى ؟ و أين ؟
أم أنه لا أين، و لا متى في الأزل.. حيث لا حيث.. و حيث لا مكان و لا زمان ؟! و تلك من أسرار الغيب التي لا يعلمها إلا الله، و لن يكشف عنها الستار إلا بعد الموت و البعث.. و العرض مستمر.. و القصة ممتدة فصولا.. و فيها مصيرنا كله.
ضعوا أيديكم على قلوبكم.. فليس الأمر بالهزل !
مقال/ الخيط الرفيع بين الجنة و النار
من كتاب / سواح في دنيا الله
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝