❞ نحتاج احيانا للبوح باسرارنا لمن نثق بهم،لنطمئن أن بوحنا في صندوق مغلق لن تفتح اقفاله مرة اخرى لنخفف الحمل عن صدورنا التي امتلأت لحافتها وحتى لا تنسكب ارواحنا مع انسكاب عبراتنا عندما توشك أن تفيض ولكن ماذا لو كان بوحنا هذا سيبعدهم عنّا ويدفعهم للرحيل. ❝ ⏤حنان لاشين
❞ نحتاج احيانا للبوح باسرارنا لمن نثق بهم،لنطمئن أن بوحنا في صندوق مغلق لن تفتح اقفاله مرة اخرى لنخفف الحمل عن صدورنا التي امتلأت لحافتها وحتى لا تنسكب ارواحنا مع انسكاب عبراتنا عندما توشك أن تفيض ولكن ماذا لو كان بوحنا هذا سيبعدهم عنّا ويدفعهم للرحيل . ❝
❞ شروق وغروب
فرحة عارمة تعم منزل الحاج (عدلي) ، رجل الأعمال المعروف .. الأنوار والزينات تحيل الليل نهارا .. وقد امتلأت الموائد داخل سرادق ضخم بألوان الطعام والحلوى والمشروبات المثلجة .. ووزعت علب (الملبس) المليئة بالحمص واللوز وأغلى أنواع الشيكولاتة ، على كل الحاضرين صغارا وكبارا .. فقد رزقه الله بعد عشر سنين عجاف طفلتين توأم .. ( شمس وقمر) كانتا ريحانتي العائلة كلها .
تمضي السنين وتصبحان فتاتين يافعتين جميلتين .. لا يستطيع أحد التفريق بينهما لتشابهما التام ! ، إلا إن شمس كانت أكثر نشاطا وخفة .. لا تكف عن الضحك والمزاح .. بينما كانت قمر رزينة هادئة ، تهوى القراءة والرسم ، تقضي معظم الوقت في البيت مما جعل (شمس) تطلق عليها (بيوتية) وكانت دائما ما تداعبها وتمازحها قائلة : أنتِ (قمر) .. والقمر لا يظهر إلا ليلًا !! أما أنا فأظهر نهارا لأنير الدنيا لأنني (شمس) !! وتنطلق ضاحكة مرحة .. بينما (قمر) تبتسم ساخرة منها .. ألا إن الحب يجمعهما .. ويتجسد هذا الحب عندما تجتمع الأسرة كلها .. في سعادة وبهجة
كانت شمس تعشق المغامرات ، تتدرب علي (الكونغو فو) وتلعب كرة القدم ، تخرج بصحبة أبيها تمارس هواية صيد السمك .. تركب الخيل .. تجوب بالدراجة أنحاء البلدة .. وتطارد الفراشات في الحدائق ، لا تدع لعبة أو هواية .. إلا مارستها ، وكأنها تسرق من العمر عمرا !! الشيء الوحيد الذي تمنت ممارسته .. هو السباحة ! وأخبرت أبيها بذلك .. لكنه رفض رفضًا تامًا خوفا عليها ، ولعدم وجود مكان مخصص لتعليم الفتيات السباحة بالنادي .
ظل هذا الحلم يراودها .. وأصرت .. في قرارة نفسها أن تحققه .. أثناء تنزهها مع أختها على شاطىء النيل .. غافلتها وأسرعت تتسلق إحدى الشجرات المطلة علي النيل ، مهددة بإلقاء نفسها في الماء ، إن لم يوافق أبوهما على تعلمها السباحة أخذت (قمر) الأمرعلى إنه مزحة لأنها تعرف أن (شمس) تعشق الحياة !! ولن تفعلها أبدا تصعد (قمر) إليها مرددة :ما دمتِ تصرين على ذلك .. فإما أن نموت معا أو نعيش معا !!
لم يتحمل فرع الشجرة ثقلهما فينكسر، وتسقط (قمر) في النيل ، بينما يعلق ثوب (شمس) بالشجرة ، تصرخ (شمس) تستغيث لعل أحدا ينقذهما ! فيهرع بعض المارة إليها .. منهم من ألقى بنفسه في الماء لإنقاذ (قمر) التي كانت تصارع الأمواج .. لكن الأمواج تصرعها وتغرق !! قبل أن يصل إليها أحد .. ويخرجونها جثة هامدة ، ومنهم من تسلق الشجرة لنجدة (شمس) و إنزالها .. وقد انهارت وخارت قواها وظلت تصرخ وتبكي وتولول في هيستريا مفزعة !!
يأتي الأب على صوت الضجيج والصراخ .. مستطلعا .. ليفاجأ بما حدث .. يصرخ دون وعي : ابنتي .. ابنتي !! ويسقط مغشيا عليه من هول الصدمة !
كان موت (قمر) صدمة مفجعة ( لشمس) ، وجميع أفراد الأسرة .. لا يصدقون أن (قمر) ماتت !! إلا إنهم في النهاية يسلمون الأمر لله .. فالموت حق .. ولكن الصدمة قوية .. وظلت (شمس) تعاني من نوبات بكاء وصراخ ، وكلما حاولت النوم يأتيها طيف شقيقتها .. تراها ممدة بجانبها تحاول احتضانها .. فلا تحتضن إلا الفراغ .. تصرخ : ˝ قمر .. قمر ˝ ! إلى أين ذهبتِ ..ارجعي يا قمر !! .. وتروح في نوبة بكاء حار !! إلى أن يغلبها النوم !!
خيم الظلام و الحزن علي المنزل ، الذي كان يشع ضوءً و حياة ، فقدغابت (قمر) وانطفأت (شمس) حزنًا عليها ..
تمر سنوات ولا جديد غير إن (شمس) علي قيد الحياة ، لكنها لم تعد (شمس) التي كانت قبل موت أختها ..تلجأ إلى الصمت وتعكف على القراءة كما كانت تفعل ( قمر) .. و دموعها لا تفارقها ليل نهار، تتوقف عن الدراسة .. تنعزل عن المجتمع ..تشعر بالذنب فلولا تهورها ما ماتت (قمر) !!
يحاول والدها التسرية عنها ، وإخراجها من تلك العزلة القاتلة .. لكن الحزن لا يغيب والجراح لا تبرأ !!
هدأت نفسها بعض الشيء .. قررت ان تكمل دراستها ، التحقت بمعهد الفنون لتعلم الرسم ، تتقمص شخصية (قمر) ، الهدوء والرزانة والرسم والقراءة فقط !!
مرت أيام و أيام .. وكل يوم كانت تتحسن حالة (شمس) .. الكل سعيد بعودتها للحياة .. ويدعون لها دائما براحة البال ، ودوام السعادة والاستقرار .
ذات يوم .. قلقت الأم عندما لم تخرج (شمس) من حجرتها لتناول العشاء .. نادتها .. لم تسمع إجابة .. ذهبت إلى الحجرة .. لم تجدها بالغرفة أصابها الخوف .. يطمئنها زوجها فلعلها خرجت للتنزه قليلا ، لا داعي للقلق ويجب ألا تضيقِ عليها بعد أن منَ الله عليها بالخروج من عزلتها ، و دعيها تكتشف الحياة بنفسها ! تنقضي ساعات وتعود (شمس) ، وقد بدا عليها الإجهاد و التعب ، وتحمل في يدها .. حقيبة ملابس .. عللت غيابها بأنها كانت تتسوق .. رفضت الطعام و أخبرت أمها بأنها تناولت بعض الشطائر .. وليست جائعة و توجهت لتستريح في غرفتها . في الصباح تفتح الحقيبة فتعتريها الدهشة .. وتتعجب مما تجده فيها .. ملابس مثيرة و اكسسوارات وأشياء لا تدري كيف وصلت لها !!؟ فهي لا تجرأ علي ارتدائها حتى داخل حجرتها .. فكيف وصلت إليها ؟! ومن أين ؟! ومتى ؟!
تحاول أن تتذكر ما حدث ليلة أمس ، تشعر بصداع رهيب ، تتناول الافطار مع والديها ، تشعر والدتها بحالتها وتعبها .. تسألها عما بها .. وهل تشعر بألم ما ؟! .. تجيبها بالنفي .. إلا إن أمها تعرض عليها الذهاب للطبيب ، ترفض وتطمئن أمها .. رغم أن صداعا شديدا وألما لا يطاق يلازمنها منذ فترة .. كما تعتريها نوبات دوار بين الحين والحين ..
إلى أن يزداد الأمر سوءً عندما سقطت مغشيا عليها ذات صباح .. يفزع والدها ويستدعي الطبيب ، الذى يطلب نقلها فورا للمستشفى ، فهي في حالة وهن شديد ، تحتاج لعلاج ورعاية خاصة لا توجدان بالمنزل ..وقد تحتاج لنقل دم ويجب إدخالها الرعاية المركزة ..
يمر يومان و(شمس) ترقد في الإنعاش غائبة عن الوعي تماما ، تظهر نتيجة التحاليل والأشعة ، لتُصعق الجميع : ˝ شمس حامل ˝ !!!؟
يصاب والدها بارتفاع الضغط الدم وأمها تسقط أرضا ، يتم اسعافهما وينصحهما الطبيب بوجوب الهدوء والتعامل بحكمة مع الأمر ! فهي بالإضافة إلى الحمل ، تعاني من انفصام الشخصية ، تجعلها تتقمص شخصيتين معا !
تتذكر والدتها خروجها ليلا .. والألم والصداع الذي كانت تعاني منهما منذ فترة . تستعيد (شمس) وعيها ، يحاول والديها تمالك نفسهما ، والتماسك من أجلها ، فهي لا تتذكر شيئا .
تظل أيامًا بالمستشفى تخضع فيها للعلاج جسديًا .. وبعدما تحسنت حالتها قليلا .. بدأ العلاج النفسي .. تروي (شمس) للطبيبة النفسية ما حدث منذ غرق (قمر) وإحساسها بالذنب ، فهي تتصور إنها القاتلة لذلك تعاقب نفسها بعزلتها عن كل متع الحياة ، وكل ما تحب و تتقمص شخصية (قمر) وتكبت شخصية (شمس) التي هي عكس (قمر) تحب الخروج والانطلاق !! عاشت صراعًا دائمًا وشديدًا داخلها بين (شمس) و(قمر) .. بين الشروق والغروب ، الهدوء والصخب ، بين الموت والحياة ، هذا الكبت سبب انفجارا لديها ، تأتي بتصرفات لا تدري عنها شيئا ..
هدأت الطبيبة من روعها .. وطمأنتها .. فهي في طريقها إلى الشفاء بإذن الله .. تلتقي الطبيبة بوالديها .. تطالبهما بالتروي في معاملتها .. فهي .. نتيجة إحساسها بالذنب .. أصبحت تعيش في النهار قمر وفي الليل شمس . بل إن زيادة إحساسها بهذا الذنب .. وهي لم ترتكبه .. تعاقب نفسها .. فانحرفت وارتادت الملاهي الليلية و اصطياد الرجال ، ممارسة الرذيلة معهم .. لذلك فلابد من التريث والصبر ، وعدم إخبارها بالحمل
ويستمر علاج (شمس) .. ويلجأ الوالدان إلى الله يدعوان لها .. بعدما عرفا إنها غير مسئولة عن تصرفاتها !!
٢٠٢١/٥/٨. ❝ ⏤صفاء فوزى
❞ شروق وغروب
فرحة عارمة تعم منزل الحاج (عدلي) ، رجل الأعمال المعروف .. الأنوار والزينات تحيل الليل نهارا .. وقد امتلأت الموائد داخل سرادق ضخم بألوان الطعام والحلوى والمشروبات المثلجة .. ووزعت علب (الملبس) المليئة بالحمص واللوز وأغلى أنواع الشيكولاتة ، على كل الحاضرين صغارا وكبارا .. فقد رزقه الله بعد عشر سنين عجاف طفلتين توأم .. ( شمس وقمر) كانتا ريحانتي العائلة كلها .
تمضي السنين وتصبحان فتاتين يافعتين جميلتين .. لا يستطيع أحد التفريق بينهما لتشابهما التام ! ، إلا إن شمس كانت أكثر نشاطا وخفة .. لا تكف عن الضحك والمزاح .. بينما كانت قمر رزينة هادئة ، تهوى القراءة والرسم ، تقضي معظم الوقت في البيت مما جعل (شمس) تطلق عليها (بيوتية) وكانت دائما ما تداعبها وتمازحها قائلة : أنتِ (قمر) .. والقمر لا يظهر إلا ليلًا !! أما أنا فأظهر نهارا لأنير الدنيا لأنني (شمس) !! وتنطلق ضاحكة مرحة .. بينما (قمر) تبتسم ساخرة منها .. ألا إن الحب يجمعهما .. ويتجسد هذا الحب عندما تجتمع الأسرة كلها .. في سعادة وبهجة
كانت شمس تعشق المغامرات ، تتدرب علي (الكونغو فو) وتلعب كرة القدم ، تخرج بصحبة أبيها تمارس هواية صيد السمك .. تركب الخيل .. تجوب بالدراجة أنحاء البلدة .. وتطارد الفراشات في الحدائق ، لا تدع لعبة أو هواية .. إلا مارستها ، وكأنها تسرق من العمر عمرا !! الشيء الوحيد الذي تمنت ممارسته .. هو السباحة ! وأخبرت أبيها بذلك .. لكنه رفض رفضًا تامًا خوفا عليها ، ولعدم وجود مكان مخصص لتعليم الفتيات السباحة بالنادي .
ظل هذا الحلم يراودها .. وأصرت .. في قرارة نفسها أن تحققه .. أثناء تنزهها مع أختها على شاطىء النيل .. غافلتها وأسرعت تتسلق إحدى الشجرات المطلة علي النيل ، مهددة بإلقاء نفسها في الماء ، إن لم يوافق أبوهما على تعلمها السباحة أخذت (قمر) الأمرعلى إنه مزحة لأنها تعرف أن (شمس) تعشق الحياة !! ولن تفعلها أبدا تصعد (قمر) إليها مرددة :ما دمتِ تصرين على ذلك .. فإما أن نموت معا أو نعيش معا !!
لم يتحمل فرع الشجرة ثقلهما فينكسر، وتسقط (قمر) في النيل ، بينما يعلق ثوب (شمس) بالشجرة ، تصرخ (شمس) تستغيث لعل أحدا ينقذهما ! فيهرع بعض المارة إليها .. منهم من ألقى بنفسه في الماء لإنقاذ (قمر) التي كانت تصارع الأمواج .. لكن الأمواج تصرعها وتغرق !! قبل أن يصل إليها أحد .. ويخرجونها جثة هامدة ، ومنهم من تسلق الشجرة لنجدة (شمس) و إنزالها .. وقد انهارت وخارت قواها وظلت تصرخ وتبكي وتولول في هيستريا مفزعة !!
يأتي الأب على صوت الضجيج والصراخ .. مستطلعا .. ليفاجأ بما حدث .. يصرخ دون وعي : ابنتي .. ابنتي !! ويسقط مغشيا عليه من هول الصدمة !
كان موت (قمر) صدمة مفجعة ( لشمس) ، وجميع أفراد الأسرة .. لا يصدقون أن (قمر) ماتت !! إلا إنهم في النهاية يسلمون الأمر لله .. فالموت حق .. ولكن الصدمة قوية .. وظلت (شمس) تعاني من نوبات بكاء وصراخ ، وكلما حاولت النوم يأتيها طيف شقيقتها .. تراها ممدة بجانبها تحاول احتضانها .. فلا تحتضن إلا الفراغ .. تصرخ : ˝ قمر .. قمر ˝ ! إلى أين ذهبتِ ..ارجعي يا قمر !! .. وتروح في نوبة بكاء حار !! إلى أن يغلبها النوم !!
خيم الظلام و الحزن علي المنزل ، الذي كان يشع ضوءً و حياة ، فقدغابت (قمر) وانطفأت (شمس) حزنًا عليها ..
تمر سنوات ولا جديد غير إن (شمس) علي قيد الحياة ، لكنها لم تعد (شمس) التي كانت قبل موت أختها ..تلجأ إلى الصمت وتعكف على القراءة كما كانت تفعل ( قمر) .. و دموعها لا تفارقها ليل نهار، تتوقف عن الدراسة .. تنعزل عن المجتمع ..تشعر بالذنب فلولا تهورها ما ماتت (قمر) !!
يحاول والدها التسرية عنها ، وإخراجها من تلك العزلة القاتلة .. لكن الحزن لا يغيب والجراح لا تبرأ !!
هدأت نفسها بعض الشيء .. قررت ان تكمل دراستها ، التحقت بمعهد الفنون لتعلم الرسم ، تتقمص شخصية (قمر) ، الهدوء والرزانة والرسم والقراءة فقط !!
مرت أيام و أيام .. وكل يوم كانت تتحسن حالة (شمس) .. الكل سعيد بعودتها للحياة .. ويدعون لها دائما براحة البال ، ودوام السعادة والاستقرار .
ذات يوم .. قلقت الأم عندما لم تخرج (شمس) من حجرتها لتناول العشاء .. نادتها .. لم تسمع إجابة .. ذهبت إلى الحجرة .. لم تجدها بالغرفة أصابها الخوف .. يطمئنها زوجها فلعلها خرجت للتنزه قليلا ، لا داعي للقلق ويجب ألا تضيقِ عليها بعد أن منَ الله عليها بالخروج من عزلتها ، و دعيها تكتشف الحياة بنفسها ! تنقضي ساعات وتعود (شمس) ، وقد بدا عليها الإجهاد و التعب ، وتحمل في يدها .. حقيبة ملابس .. عللت غيابها بأنها كانت تتسوق .. رفضت الطعام و أخبرت أمها بأنها تناولت بعض الشطائر .. وليست جائعة و توجهت لتستريح في غرفتها . في الصباح تفتح الحقيبة فتعتريها الدهشة .. وتتعجب مما تجده فيها .. ملابس مثيرة و اكسسوارات وأشياء لا تدري كيف وصلت لها !!؟ فهي لا تجرأ علي ارتدائها حتى داخل حجرتها .. فكيف وصلت إليها ؟! ومن أين ؟! ومتى ؟!
تحاول أن تتذكر ما حدث ليلة أمس ، تشعر بصداع رهيب ، تتناول الافطار مع والديها ، تشعر والدتها بحالتها وتعبها .. تسألها عما بها .. وهل تشعر بألم ما ؟! .. تجيبها بالنفي .. إلا إن أمها تعرض عليها الذهاب للطبيب ، ترفض وتطمئن أمها .. رغم أن صداعا شديدا وألما لا يطاق يلازمنها منذ فترة .. كما تعتريها نوبات دوار بين الحين والحين ..
إلى أن يزداد الأمر سوءً عندما سقطت مغشيا عليها ذات صباح .. يفزع والدها ويستدعي الطبيب ، الذى يطلب نقلها فورا للمستشفى ، فهي في حالة وهن شديد ، تحتاج لعلاج ورعاية خاصة لا توجدان بالمنزل ..وقد تحتاج لنقل دم ويجب إدخالها الرعاية المركزة ..
يمر يومان و(شمس) ترقد في الإنعاش غائبة عن الوعي تماما ، تظهر نتيجة التحاليل والأشعة ، لتُصعق الجميع : ˝ شمس حامل ˝ !!!؟
يصاب والدها بارتفاع الضغط الدم وأمها تسقط أرضا ، يتم اسعافهما وينصحهما الطبيب بوجوب الهدوء والتعامل بحكمة مع الأمر ! فهي بالإضافة إلى الحمل ، تعاني من انفصام الشخصية ، تجعلها تتقمص شخصيتين معا !
تتذكر والدتها خروجها ليلا .. والألم والصداع الذي كانت تعاني منهما منذ فترة . تستعيد (شمس) وعيها ، يحاول والديها تمالك نفسهما ، والتماسك من أجلها ، فهي لا تتذكر شيئا .
تظل أيامًا بالمستشفى تخضع فيها للعلاج جسديًا .. وبعدما تحسنت حالتها قليلا .. بدأ العلاج النفسي .. تروي (شمس) للطبيبة النفسية ما حدث منذ غرق (قمر) وإحساسها بالذنب ، فهي تتصور إنها القاتلة لذلك تعاقب نفسها بعزلتها عن كل متع الحياة ، وكل ما تحب و تتقمص شخصية (قمر) وتكبت شخصية (شمس) التي هي عكس (قمر) تحب الخروج والانطلاق !! عاشت صراعًا دائمًا وشديدًا داخلها بين (شمس) و(قمر) .. بين الشروق والغروب ، الهدوء والصخب ، بين الموت والحياة ، هذا الكبت سبب انفجارا لديها ، تأتي بتصرفات لا تدري عنها شيئا ..
هدأت الطبيبة من روعها .. وطمأنتها .. فهي في طريقها إلى الشفاء بإذن الله .. تلتقي الطبيبة بوالديها .. تطالبهما بالتروي في معاملتها .. فهي .. نتيجة إحساسها بالذنب .. أصبحت تعيش في النهار قمر وفي الليل شمس . بل إن زيادة إحساسها بهذا الذنب .. وهي لم ترتكبه .. تعاقب نفسها .. فانحرفت وارتادت الملاهي الليلية و اصطياد الرجال ، ممارسة الرذيلة معهم .. لذلك فلابد من التريث والصبر ، وعدم إخبارها بالحمل
ويستمر علاج (شمس) .. ويلجأ الوالدان إلى الله يدعوان لها .. بعدما عرفا إنها غير مسئولة عن تصرفاتها !!
❞ تُحاول الذاكرة الاحتماء من لهيب الحب، تبحث عن مصد يعترض هذا الولع، في محاولة لإطفاء فتائل الوقت المتقدة. وددت مشاركة السماء دموعها، أفرغ النفس بما امتلأت من ألم، أتقيأ حد النزيف جراح عمري، صِرت أحسد الطيور، أراقبها تنتقل بين الأشجار، تبحث عن ملاذ آمن من المطر، تدخل في نفير عام.. أووه إلى الآن استخدم الرموز العسكرية، تبّاً متي أتخلص من آثار الحروب؟. ❝ ⏤نبيل جميل
❞ تُحاول الذاكرة الاحتماء من لهيب الحب، تبحث عن مصد يعترض هذا الولع، في محاولة لإطفاء فتائل الوقت المتقدة. وددت مشاركة السماء دموعها، أفرغ النفس بما امتلأت من ألم، أتقيأ حد النزيف جراح عمري، صِرت أحسد الطيور، أراقبها تنتقل بين الأشجار، تبحث عن ملاذ آمن من المطر، تدخل في نفير عام.. أووه إلى الآن استخدم الرموز العسكرية، تبّاً متي أتخلص من آثار الحروب؟ . ❝
❞ شروق وغروب
فرحة عارمة تعم منزل الحاج (عدلي) ، رجل الأعمال المعروف .. الأنوار والزينات تحيل الليل نهارا .. وقد امتلأت الموائد داخل سرادق ضخم بألوان الطعام والحلوى والمشروبات المثلجة .. ووزعت علب (الملبس) المليئة بالحمص واللوز وأغلى أنواع الشيكولاتة ، على كل الحاضرين صغارا وكبارا .. فقد رزقه الله بعد عشر سنين عجاف طفلتين توأم .. ( شمس وقمر) كانتا ريحانتي العائلة كلها .
تمضي السنين وتصبحان فتاتين يافعتين جميلتين .. لا يستطيع أحد التفريق بينهما لتشابهما التام ! ، إلا إن شمس كانت أكثر نشاطا وخفة .. لا تكف عن الضحك والمزاح .. بينما كانت قمر رزينة هادئة ، تهوى القراءة والرسم ، تقضي معظم الوقت في البيت مما جعل (شمس) تطلق عليها (بيوتية) وكانت دائما ما تداعبها وتمازحها قائلة : أنتِ (قمر) .. والقمر لا يظهر إلا ليلًا !! أما أنا فأظهر نهارا لأنير الدنيا لأنني (شمس) !! وتنطلق ضاحكة مرحة .. بينما (قمر) تبتسم ساخرة منها .. ألا إن الحب يجمعهما .. ويتجسد هذا الحب عندما تجتمع الأسرة كلها .. في سعادة وبهجة
كانت شمس تعشق المغامرات ، تتدرب علي (الكونغو فو) وتلعب كرة القدم ، تخرج بصحبة أبيها تمارس هواية صيد السمك .. تركب الخيل .. تجوب بالدراجة أنحاء البلدة .. وتطارد الفراشات في الحدائق ، لا تدع لعبة أو هواية .. إلا مارستها ، وكأنها تسرق من العمر عمرا !! الشيء الوحيد الذي تمنت ممارسته .. هو السباحة ! وأخبرت أبيها بذلك .. لكنه رفض رفضًا تامًا خوفا عليها ، ولعدم وجود مكان مخصص لتعليم الفتيات السباحة بالنادي .
ظل هذا الحلم يراودها .. وأصرت .. في قرارة نفسها أن تحققه .. أثناء تنزهها مع أختها على شاطىء النيل .. غافلتها وأسرعت تتسلق إحدى الشجرات المطلة علي النيل ، مهددة بإلقاء نفسها في الماء ، إن لم يوافق أبوهما على تعلمها السباحة أخذت (قمر) الأمرعلى إنه مزحة لأنها تعرف أن (شمس) تعشق الحياة !! ولن تفعلها أبدا تصعد (قمر) إليها مرددة :ما دمتِ تصرين على ذلك .. فإما أن نموت معا أو نعيش معا !!
لم يتحمل فرع الشجرة ثقلهما فينكسر، وتسقط (قمر) في النيل ، بينما يعلق ثوب (شمس) بالشجرة ، تصرخ (شمس) تستغيث لعل أحدا ينقذهما ! فيهرع بعض المارة إليها .. منهم من ألقى بنفسه في الماء لإنقاذ (قمر) التي كانت تصارع الأمواج .. لكن الأمواج تصرعها وتغرق !! قبل أن يصل إليها أحد .. ويخرجونها جثة هامدة ، ومنهم من تسلق الشجرة لنجدة (شمس) و إنزالها .. وقد انهارت وخارت قواها وظلت تصرخ وتبكي وتولول في هيستريا مفزعة !!
يأتي الأب على صوت الضجيج والصراخ .. مستطلعا .. ليفاجأ بما حدث .. يصرخ دون وعي : ابنتي .. ابنتي !! ويسقط مغشيا عليه من هول الصدمة !
كان موت (قمر) صدمة مفجعة ( لشمس) ، وجميع أفراد الأسرة .. لا يصدقون أن (قمر) ماتت !! إلا إنهم في النهاية يسلمون الأمر لله .. فالموت حق .. ولكن الصدمة قوية .. وظلت (شمس) تعاني من نوبات بكاء وصراخ ، وكلما حاولت النوم يأتيها طيف شقيقتها .. تراها ممدة بجانبها تحاول احتضانها .. فلا تحتضن إلا الفراغ .. تصرخ : ˝ قمر .. قمر ˝ ! إلى أين ذهبتِ ..ارجعي يا قمر !! .. وتروح في نوبة بكاء حار !! إلى أن يغلبها النوم !!
خيم الظلام و الحزن علي المنزل ، الذي كان يشع ضوءً و حياة ، فقدغابت (قمر) وانطفأت (شمس) حزنًا عليها ..
تمر سنوات ولا جديد غير إن (شمس) علي قيد الحياة ، لكنها لم تعد (شمس) التي كانت قبل موت أختها ..تلجأ إلى الصمت وتعكف على القراءة كما كانت تفعل ( قمر) .. و دموعها لا تفارقها ليل نهار، تتوقف عن الدراسة .. تنعزل عن المجتمع ..تشعر بالذنب فلولا تهورها ما ماتت (قمر) !!
يحاول والدها التسرية عنها ، وإخراجها من تلك العزلة القاتلة .. لكن الحزن لا يغيب والجراح لا تبرأ !!
هدأت نفسها بعض الشيء .. قررت ان تكمل دراستها ، التحقت بمعهد الفنون لتعلم الرسم ، تتقمص شخصية (قمر) ، الهدوء والرزانة والرسم والقراءة فقط !!
مرت أيام و أيام .. وكل يوم كانت تتحسن حالة (شمس) .. الكل سعيد بعودتها للحياة .. ويدعون لها دائما براحة البال ، ودوام السعادة والاستقرار .
ذات يوم .. قلقت الأم عندما لم تخرج (شمس) من حجرتها لتناول العشاء .. نادتها .. لم تسمع إجابة .. ذهبت إلى الحجرة .. لم تجدها بالغرفة أصابها الخوف .. يطمئنها زوجها فلعلها خرجت للتنزه قليلا ، لا داعي للقلق ويجب ألا تضيقِ عليها بعد أن منَ الله عليها بالخروج من عزلتها ، و دعيها تكتشف الحياة بنفسها ! تنقضي ساعات وتعود (شمس) ، وقد بدا عليها الإجهاد و التعب ، وتحمل في يدها .. حقيبة ملابس .. عللت غيابها بأنها كانت تتسوق .. رفضت الطعام و أخبرت أمها بأنها تناولت بعض الشطائر .. وليست جائعة و توجهت لتستريح في غرفتها . في الصباح تفتح الحقيبة فتعتريها الدهشة .. وتتعجب مما تجده فيها .. ملابس مثيرة و اكسسوارات وأشياء لا تدري كيف وصلت لها !!؟ فهي لا تجرأ علي ارتدائها حتى داخل حجرتها .. فكيف وصلت إليها ؟! ومن أين ؟! ومتى ؟!
تحاول أن تتذكر ما حدث ليلة أمس ، تشعر بصداع رهيب ، تتناول الافطار مع والديها ، تشعر والدتها بحالتها وتعبها .. تسألها عما بها .. وهل تشعر بألم ما ؟! .. تجيبها بالنفي .. إلا إن أمها تعرض عليها الذهاب للطبيب ، ترفض وتطمئن أمها .. رغم أن صداعا شديدا وألما لا يطاق يلازمنها منذ فترة .. كما تعتريها نوبات دوار بين الحين والحين ..
إلى أن يزداد الأمر سوءً عندما سقطت مغشيا عليها ذات صباح .. يفزع والدها ويستدعي الطبيب ، الذى يطلب نقلها فورا للمستشفى ، فهي في حالة وهن شديد ، تحتاج لعلاج ورعاية خاصة لا توجدان بالمنزل ..وقد تحتاج لنقل دم ويجب إدخالها الرعاية المركزة ..
يمر يومان و(شمس) ترقد في الإنعاش غائبة عن الوعي تماما ، تظهر نتيجة التحاليل والأشعة ، لتُصعق الجميع : ˝ شمس حامل ˝ !!!؟
يصاب والدها بارتفاع الضغط الدم وأمها تسقط أرضا ، يتم اسعافهما وينصحهما الطبيب بوجوب الهدوء والتعامل بحكمة مع الأمر ! فهي بالإضافة إلى الحمل ، تعاني من انفصام الشخصية ، تجعلها تتقمص شخصيتين معا !
تتذكر والدتها خروجها ليلا .. والألم والصداع الذي كانت تعاني منهما منذ فترة . تستعيد (شمس) وعيها ، يحاول والديها تمالك نفسهما ، والتماسك من أجلها ، فهي لا تتذكر شيئا .
تظل أيامًا بالمستشفى تخضع فيها للعلاج جسديًا .. وبعدما تحسنت حالتها قليلا .. بدأ العلاج النفسي .. تروي (شمس) للطبيبة النفسية ما حدث منذ غرق (قمر) وإحساسها بالذنب ، فهي تتصور إنها القاتلة لذلك تعاقب نفسها بعزلتها عن كل متع الحياة ، وكل ما تحب و تتقمص شخصية (قمر) وتكبت شخصية (شمس) التي هي عكس (قمر) تحب الخروج والانطلاق !! عاشت صراعًا دائمًا وشديدًا داخلها بين (شمس) و(قمر) .. بين الشروق والغروب ، الهدوء والصخب ، بين الموت والحياة ، هذا الكبت سبب انفجارا لديها ، تأتي بتصرفات لا تدري عنها شيئا ..
هدأت الطبيبة من روعها .. وطمأنتها .. فهي في طريقها إلى الشفاء بإذن الله .. تلتقي الطبيبة بوالديها .. تطالبهما بالتروي في معاملتها .. فهي .. نتيجة إحساسها بالذنب .. أصبحت تعيش في النهار قمر وفي الليل شمس . بل إن زيادة إحساسها بهذا الذنب .. وهي لم ترتكبه .. تعاقب نفسها .. فانحرفت وارتادت الملاهي الليلية و اصطياد الرجال ، ممارسة الرذيلة معهم .. لذلك فلابد من التريث والصبر ، وعدم إخبارها بالحمل
ويستمر علاج (شمس) .. ويلجأ الوالدان إلى الله يدعوان لها .. بعدما عرفا إنها غير مسئولة عن تصرفاتها !!
#غربة روح. ❝ ⏤صفاء فوزي
❞ شروق وغروب
فرحة عارمة تعم منزل الحاج (عدلي) ، رجل الأعمال المعروف .. الأنوار والزينات تحيل الليل نهارا .. وقد امتلأت الموائد داخل سرادق ضخم بألوان الطعام والحلوى والمشروبات المثلجة .. ووزعت علب (الملبس) المليئة بالحمص واللوز وأغلى أنواع الشيكولاتة ، على كل الحاضرين صغارا وكبارا .. فقد رزقه الله بعد عشر سنين عجاف طفلتين توأم .. ( شمس وقمر) كانتا ريحانتي العائلة كلها .
تمضي السنين وتصبحان فتاتين يافعتين جميلتين .. لا يستطيع أحد التفريق بينهما لتشابهما التام ! ، إلا إن شمس كانت أكثر نشاطا وخفة .. لا تكف عن الضحك والمزاح .. بينما كانت قمر رزينة هادئة ، تهوى القراءة والرسم ، تقضي معظم الوقت في البيت مما جعل (شمس) تطلق عليها (بيوتية) وكانت دائما ما تداعبها وتمازحها قائلة : أنتِ (قمر) .. والقمر لا يظهر إلا ليلًا !! أما أنا فأظهر نهارا لأنير الدنيا لأنني (شمس) !! وتنطلق ضاحكة مرحة .. بينما (قمر) تبتسم ساخرة منها .. ألا إن الحب يجمعهما .. ويتجسد هذا الحب عندما تجتمع الأسرة كلها .. في سعادة وبهجة
كانت شمس تعشق المغامرات ، تتدرب علي (الكونغو فو) وتلعب كرة القدم ، تخرج بصحبة أبيها تمارس هواية صيد السمك .. تركب الخيل .. تجوب بالدراجة أنحاء البلدة .. وتطارد الفراشات في الحدائق ، لا تدع لعبة أو هواية .. إلا مارستها ، وكأنها تسرق من العمر عمرا !! الشيء الوحيد الذي تمنت ممارسته .. هو السباحة ! وأخبرت أبيها بذلك .. لكنه رفض رفضًا تامًا خوفا عليها ، ولعدم وجود مكان مخصص لتعليم الفتيات السباحة بالنادي .
ظل هذا الحلم يراودها .. وأصرت .. في قرارة نفسها أن تحققه .. أثناء تنزهها مع أختها على شاطىء النيل .. غافلتها وأسرعت تتسلق إحدى الشجرات المطلة علي النيل ، مهددة بإلقاء نفسها في الماء ، إن لم يوافق أبوهما على تعلمها السباحة أخذت (قمر) الأمرعلى إنه مزحة لأنها تعرف أن (شمس) تعشق الحياة !! ولن تفعلها أبدا تصعد (قمر) إليها مرددة :ما دمتِ تصرين على ذلك .. فإما أن نموت معا أو نعيش معا !!
لم يتحمل فرع الشجرة ثقلهما فينكسر، وتسقط (قمر) في النيل ، بينما يعلق ثوب (شمس) بالشجرة ، تصرخ (شمس) تستغيث لعل أحدا ينقذهما ! فيهرع بعض المارة إليها .. منهم من ألقى بنفسه في الماء لإنقاذ (قمر) التي كانت تصارع الأمواج .. لكن الأمواج تصرعها وتغرق !! قبل أن يصل إليها أحد .. ويخرجونها جثة هامدة ، ومنهم من تسلق الشجرة لنجدة (شمس) و إنزالها .. وقد انهارت وخارت قواها وظلت تصرخ وتبكي وتولول في هيستريا مفزعة !!
يأتي الأب على صوت الضجيج والصراخ .. مستطلعا .. ليفاجأ بما حدث .. يصرخ دون وعي : ابنتي .. ابنتي !! ويسقط مغشيا عليه من هول الصدمة !
كان موت (قمر) صدمة مفجعة ( لشمس) ، وجميع أفراد الأسرة .. لا يصدقون أن (قمر) ماتت !! إلا إنهم في النهاية يسلمون الأمر لله .. فالموت حق .. ولكن الصدمة قوية .. وظلت (شمس) تعاني من نوبات بكاء وصراخ ، وكلما حاولت النوم يأتيها طيف شقيقتها .. تراها ممدة بجانبها تحاول احتضانها .. فلا تحتضن إلا الفراغ .. تصرخ : ˝ قمر .. قمر ˝ ! إلى أين ذهبتِ ..ارجعي يا قمر !! .. وتروح في نوبة بكاء حار !! إلى أن يغلبها النوم !!
خيم الظلام و الحزن علي المنزل ، الذي كان يشع ضوءً و حياة ، فقدغابت (قمر) وانطفأت (شمس) حزنًا عليها ..
تمر سنوات ولا جديد غير إن (شمس) علي قيد الحياة ، لكنها لم تعد (شمس) التي كانت قبل موت أختها ..تلجأ إلى الصمت وتعكف على القراءة كما كانت تفعل ( قمر) .. و دموعها لا تفارقها ليل نهار، تتوقف عن الدراسة .. تنعزل عن المجتمع ..تشعر بالذنب فلولا تهورها ما ماتت (قمر) !!
يحاول والدها التسرية عنها ، وإخراجها من تلك العزلة القاتلة .. لكن الحزن لا يغيب والجراح لا تبرأ !!
هدأت نفسها بعض الشيء .. قررت ان تكمل دراستها ، التحقت بمعهد الفنون لتعلم الرسم ، تتقمص شخصية (قمر) ، الهدوء والرزانة والرسم والقراءة فقط !!
مرت أيام و أيام .. وكل يوم كانت تتحسن حالة (شمس) .. الكل سعيد بعودتها للحياة .. ويدعون لها دائما براحة البال ، ودوام السعادة والاستقرار .
ذات يوم .. قلقت الأم عندما لم تخرج (شمس) من حجرتها لتناول العشاء .. نادتها .. لم تسمع إجابة .. ذهبت إلى الحجرة .. لم تجدها بالغرفة أصابها الخوف .. يطمئنها زوجها فلعلها خرجت للتنزه قليلا ، لا داعي للقلق ويجب ألا تضيقِ عليها بعد أن منَ الله عليها بالخروج من عزلتها ، و دعيها تكتشف الحياة بنفسها ! تنقضي ساعات وتعود (شمس) ، وقد بدا عليها الإجهاد و التعب ، وتحمل في يدها .. حقيبة ملابس .. عللت غيابها بأنها كانت تتسوق .. رفضت الطعام و أخبرت أمها بأنها تناولت بعض الشطائر .. وليست جائعة و توجهت لتستريح في غرفتها . في الصباح تفتح الحقيبة فتعتريها الدهشة .. وتتعجب مما تجده فيها .. ملابس مثيرة و اكسسوارات وأشياء لا تدري كيف وصلت لها !!؟ فهي لا تجرأ علي ارتدائها حتى داخل حجرتها .. فكيف وصلت إليها ؟! ومن أين ؟! ومتى ؟!
تحاول أن تتذكر ما حدث ليلة أمس ، تشعر بصداع رهيب ، تتناول الافطار مع والديها ، تشعر والدتها بحالتها وتعبها .. تسألها عما بها .. وهل تشعر بألم ما ؟! .. تجيبها بالنفي .. إلا إن أمها تعرض عليها الذهاب للطبيب ، ترفض وتطمئن أمها .. رغم أن صداعا شديدا وألما لا يطاق يلازمنها منذ فترة .. كما تعتريها نوبات دوار بين الحين والحين ..
إلى أن يزداد الأمر سوءً عندما سقطت مغشيا عليها ذات صباح .. يفزع والدها ويستدعي الطبيب ، الذى يطلب نقلها فورا للمستشفى ، فهي في حالة وهن شديد ، تحتاج لعلاج ورعاية خاصة لا توجدان بالمنزل ..وقد تحتاج لنقل دم ويجب إدخالها الرعاية المركزة ..
يمر يومان و(شمس) ترقد في الإنعاش غائبة عن الوعي تماما ، تظهر نتيجة التحاليل والأشعة ، لتُصعق الجميع : ˝ شمس حامل ˝ !!!؟
يصاب والدها بارتفاع الضغط الدم وأمها تسقط أرضا ، يتم اسعافهما وينصحهما الطبيب بوجوب الهدوء والتعامل بحكمة مع الأمر ! فهي بالإضافة إلى الحمل ، تعاني من انفصام الشخصية ، تجعلها تتقمص شخصيتين معا !
تتذكر والدتها خروجها ليلا .. والألم والصداع الذي كانت تعاني منهما منذ فترة . تستعيد (شمس) وعيها ، يحاول والديها تمالك نفسهما ، والتماسك من أجلها ، فهي لا تتذكر شيئا .
تظل أيامًا بالمستشفى تخضع فيها للعلاج جسديًا .. وبعدما تحسنت حالتها قليلا .. بدأ العلاج النفسي .. تروي (شمس) للطبيبة النفسية ما حدث منذ غرق (قمر) وإحساسها بالذنب ، فهي تتصور إنها القاتلة لذلك تعاقب نفسها بعزلتها عن كل متع الحياة ، وكل ما تحب و تتقمص شخصية (قمر) وتكبت شخصية (شمس) التي هي عكس (قمر) تحب الخروج والانطلاق !! عاشت صراعًا دائمًا وشديدًا داخلها بين (شمس) و(قمر) .. بين الشروق والغروب ، الهدوء والصخب ، بين الموت والحياة ، هذا الكبت سبب انفجارا لديها ، تأتي بتصرفات لا تدري عنها شيئا ..
هدأت الطبيبة من روعها .. وطمأنتها .. فهي في طريقها إلى الشفاء بإذن الله .. تلتقي الطبيبة بوالديها .. تطالبهما بالتروي في معاملتها .. فهي .. نتيجة إحساسها بالذنب .. أصبحت تعيش في النهار قمر وفي الليل شمس . بل إن زيادة إحساسها بهذا الذنب .. وهي لم ترتكبه .. تعاقب نفسها .. فانحرفت وارتادت الملاهي الليلية و اصطياد الرجال ، ممارسة الرذيلة معهم .. لذلك فلابد من التريث والصبر ، وعدم إخبارها بالحمل
ويستمر علاج (شمس) .. ويلجأ الوالدان إلى الله يدعوان لها .. بعدما عرفا إنها غير مسئولة عن تصرفاتها !!
يا سادة يا كرام ..
أغلى شيء في الدنيا هو العلم .
والإنسان لا يتعلم مجانًا .
و إنما يستخلص المعرفة بالألم والمعاناة.
من مكتبة الحياة نأخذ علمنا الحقيقي، وليس من الكتب والأسفار .
وأقدم لكم نفسي أولًا .. دكتور توفيق زكي .. دكتوراه في الذرة والعلوم النووية من أمريكا، أب لولدين وزوج للمرة الثانية.
وحكاية المرة الثانية هي الموضوع ..
وكالعادة كانت هناك مرة ثانية لأن الزواج الأول فشل بجدارة .
وكانت فكرتي في الزواج الأول هي البحث عن ست بيت وأم وامرأة تقدّس الحياة الأسرية، لا يهم الثقافة ولا التعليم ولا الشهادات، واخترتها ساقطة إبتدائية تكاد تفك الخط، لكن طباخة ممتازة وأستاذة في تسبيك الصواني والطواجن، وتنفيض السجاجيد وإرضاع الأطفال.
لكن كالمعتاد وبعد الشهور الأولى وبعد أن شَبَعت المعدة وامتلأت الأمعاء، وأصبحت المسألة الطريفة حكاية مكررة كل ليلة، بدأ النكد يدخل إلى البيت السعيد، وبدأت أشعر بالفجوة الهائلة بيني وبينها وبدأنا نختلف كل يوم في كل شيء .. وأصبح الشارع يسمع صراخنا كل ليلة .
وبرغم نومنا متعانقين في فراش واحد كنت أشعر بأن بيننا قارات، وأن كل واحد فينا يسبح في محيط.
لم يكن هناك أي شيء مشترك يجمعنا سوى طاجن البطاطس بالفرن، وصواني المحشي وأطباق الكوسة بالباشاميل، فإذا غسلت يدي بعد الغداء عدت إلى الوحدة والغربة وكأني مجرد نزيل في فندق أجنبي.
عجزت تمامًا عن أن أشدّها إلى أي إهتمام مشترك، حتى لو إلى الصحيفة اليومية وأعمدة الأخبار وحوادث الأسبوع.
كانت إنسانة عقلها مُغلق على ثلاث غرف وصالة، لا يهمها ما يجري في فيتنام وكمبوديا ونيكاراجوا، ولا يعنيها ما يجري في جارة عربية قريبة مثل فلسطين.
ويستوي عندها أن تحترق لبنان، أو تندك بغداد أو تنفجر دمشق أو يخرج الشاه من إيران، ويحكمها خوميني أو خلقلي أو بازرجان ما دامت قد وجدت البصل في الجمعية التعاونية، والأرز عند البقال والجرجير عند الخضري.
فإذا حاولت أن أفتح معها هذه الموضوعات أسكتتني بغلظة، فإذا حاولت أن أتلطف ناولتني لكمة وهي تقول:
نام بلا وجع دماغ أنا ما صدقت نيمت الواد!
وتصوروا ما يحدث لي يا سادة في هذه الوحدة والغربة والخواء حينما أتعرف بالأخرى د. شهيرة سرور الأستاذة في الكونسرفتوار وعازفة البيانو، والحائزة على ماجستير ودكتوراه في التوزيع الكورالي وفي الهارموني من باريس.
السيدة الناعمة الحريرة التي تكاد تذوب في الفم من فرط نعومتها، والمتحدثة الرقيقة الودودة والفنانة الأنثى والنجمة التي لا ينطفيء لها تألق.
ويمكن لكم أن تتصوروا كيف أصبحت مكالماتنا في التليفون تمتد إلى خمس وست ساعات ولا نشبع، فنلتقي على النيل ثم تأخذني إلى بيتها لتسمعني معزوفة رقيقة على البيانو، ثم تحكي لي تاريخ هذه المعزوفة وكيف ومتى كتبها بيتهوفن .
نسيت أن أقول لكم أنها طُلّقت بعد زواج فاشل.
وهذا طبيعي .. فمن يستطيع أن يفهم ويقدر هذه التحفة الجمالية النادرة .. ومن يستطيع أن يُعاشر هذا الفن الرفيع إلا إنسان ذوّاقة.
ولقد كنت أنا ذلك الذواقة.
ولقد جُننت بها حبًا .. وإمتلكتني حتى ملأت علي أقطار حياتي وأصبحت لا أرى سواها، ولا آكل سواها ولا أشرب سواها ولا أتنفس سواها.
وكان طبيعيًا أن يرتمي كل منا في حضن الآخر كأنه يتيم وجد أمه، وأن نغرق في حمى من الانصهار العذب الذي لا تجدونه إلا في الكتب والأشعار والسيمفونيات.
وكان طبيعيًا جدًا أن أطلق زوجتي وأتزوجها وأنا أحلم بأقصى الراحة، وبأني قد وجدت أخيرًا شقة خالية في صدر امرأة.
ولكن القدر خلاف الظنون، والدنيا التي أرادها الله تعبًا للكل ما لبثت أن قدمت صورة أخرى من زواج طريف غاية الطرافة.
واسمعوا معي نموذج من هذا الحوار الذي يجري بيننا.
الوقت صباحًا، وأنا أميل عليها وأمسح على شعرها في حنان وأهمس في أذنها:
- إيه رأيك يا حبيبتي نأكل إيه النهاردة .
- زي امبارح يا حبيبي.
- احنا مكلناش امبارح يا حبيبتي .
- لحقت تنسى سندوتشات الأمريكانا اللي جبتهالك معايا.
- نفسي تعملي لي الملوخية بتاعتك.. ده انتي ملوخيتك تجنن.. أنا قربت أنساها بقالك شهر مطبختليش حاجة.
وأخذها معي إلى الهرم.
ونطوف حول مقابر الأسرة السادسة ونحن نستمع إلى معزوفة القمر لشوبان، ونسرح في التاريخ والجغرافيا والحكيم أمحوتب.
وتكلمني طويلًا عن الحكيم أمحوتب .
وأقطع حديثها محاولًا أن أكون رقيقًا غاية الرقة .
- ولكن أظن أن أمحوتب يا حبيبتي كان يأكل .. وكانت زوجته الحبيبة تصنع له أشهى الأطعمة.
- لا أظن .. أنت تخلط يا حبيبي بين أمحوتب وبين أبو شقرا ..
عيبك أنك لا تقرأ كفاية في التاريخ.
- لقد قرأت وقرأت حتى جعت من كثرة القراءة.
ونشتري كنتاكي في الطريق ونعود إلى البيت .
وتتمدد على الفراش وتسرح ..
ثم تبتلع حبة فاليوم .. ثم حبة ليبريوم .. وأحاول أن أتقرب منها فتقول في فتور :
- سيبني شوية.
- مالك ؟
- جوايا تعبان .. حاسة جوايا بكآبة وضلمة وعتمة. وليل الدنيا جوايا عتمة أوي.
- أنا يا حبيبتي أنورها لك.
فتنظر إلي نظرة فارغة كأنها لا تعرفني إطلاقًا .
وكأني رجل لقيط التقت به صدفة، وأخذته إلى بيتها و قدمت إليه طعامًا على سبيل الإحسان .. و أن عليه الآن أن يرحل وأن يعود إلى حال سبيله دون كلمة.
وأقترب أكثر وأهمس في حنان:
- حبيبتي أنا جنبك .
- أنا عندي صداع يا توفيق أنا مش شايفاك. ولا شايفة حد.
وأهتف في أعماقي : يا نهار أسود عليك يا توفيق وعلى بختك .. ثم أعود فأتودد إليها.
- أجيب لك كولونيا تنعش ..
- سيبني لوحدي .. نفسي أقعد سنين لوحدي.
سنين .. سنين .. نفسي أحط الحمل اللي على كتفي وأنام.
- حطيه على كتفي أنا.
- جوايا كلام كتير مش عاوز يطلع .. كياني مسروق مني .. بدور على عنوان نفسي مش لاقياه .. متهيأ لي إني مشيت في الشارع الغلط.
- أنا مش فاهمك.
- أنا اخترتك من أربعين مليون إنسان عشان تصورت إنك حتفهمني وحا تحس بي .
- حا أحس بإيه يا حبيبتي ده إنتي معيشاني في ألغاز .. دنا بنام مع أينشتين .. أنا الدكتور في الذرة والعلوم النووية و اللي مسكت الإلكترون مش قادر أمسك أفكارك!
- نفسي نبعد عن بعض شوية يا توفيق .
- نعم .. ؟
- يعني كده تسافر لك كام يوم إسكندرية تغير جو عشان توحشني شوية.
- كمان .. أكثر من كده .. ده إحنا بقالنا شهرين مقربناش لبعض .
- كمان شهر .. ما يجراش حاجة .
- ده أنا بقالي خمسة أشهر بقوللك إعملي لي كيكة تبصي لي كأني باتكلم مالطي أو هيروغليفي .
- ياه ده أنا نسيت خالص حكاية الكيكة دي .. عجيبة .. الله يضحكك يا شيخ.
- وكل ده وإحنا في شهور العسل أمال بعدين هنعمل ايه .. ده إنتي بتكلمي البيانو أكثر مني .. بتعرفي عن فطور شوبان و مزاجه الشخصي أكثر من اللي بتعرفيه عني.
كل يوم برجع تعبان بعد يوم مرهق من الشغل المتواصل في العمل ألاقيكي بتقوليلي عندي انغلاق ذاتي وتقلص نفسي وانكماش روحي .. .. أجي ألمسك تقوليلي سيبني شوية حاسة الشمس بتغرب جوايا .. عاوزة أموت .. أتلاشى .. و مرة تقوليلي سقف عقلي وقع، و أن جدران قلبي أتهدت .. وفيه حاجة بتسويني بالأرض ومرة تقوليلي العصافير بتغني في صدري..
ومرة تقوليليي عاوزة كل الرجالة يبوسوني، وأشد شعر من الجنون فتقوليلي :
- ما هو كل الرجالة يعني إنت يا حبيبي .. من إمتى وأنا حبيبك ؟ و إنتي عايشة في فلك وأنا في فلك .. توصلني منك كلمة بالتلكس وتضيع ألف .. أنا وحيد يا شهيرة .. وحيد .
- وأنا وحيدة أكتر منك يا حبيبي .
- أمال احنا في حضن بعض ازاي .
- ساكنين بالصدفة سوا في نفس الشقة على النيل وبنبص احنا الاثنين للسقف.
- بالضبط هو ده الشيء الوحيد المشتركين فيه .. للدرجة دي ممكن يتغير الناس .. أمال فين الدموع والآهات .. فين أغاني الحب .. كانت معزوفة بيانو .. عمود شعر في صحيفة يومية اتقطعت مع الأيام وبقت ورق تواليت .. ساعات بحس إن مش بس لازم نبعد كام يوم .. أبدًا .. ده إحنا لازم نتعرف على بعض من جديد .. لازم نقابل بعض صدفة في الصالون الأخضر .. و أعزمك على شاي في جروبي و اسألك على نمرة تيليفونك .. و أقوللك اسمك ايه يا مدام .
- صحيح فعلًا .
- احنا مش متجوزين يا حبيبتي .. احنا متطلقين جدًا .
- صحيح فعلًا متطلقين .
وهكذا طلقت الثقافة الرفيعه و الدكتوراه والماجستير في الهارموني والتحفة الجمالية .. د. شهيرة سرور .. لأني لم أعرف ماذا تريد ولا ماذا تحب .. ولا ماذا يرضيها .. ظننت في لحظة أن أقصى أملها أن تعيش معي .. فلما عاشت معي رأيتها تهرب مني وتعيش في غيبوبة الفاليوم .. وتنطوي على نفسها حتى تشبه قوقعة حزن.
وشككت في عقلي وتفكيري، وعدت أشد شعري من الوحدة والبؤس.
يا سادة يا كرام . .
أنا أبحث الآن عن بائعة فجل أو بائعة جرجير .. مجرد إنسانة على الفطرة لأتزوجها وأعيش معها على الفطرة البسيطة التي خلقها الله.
امرأة تنظر إلى زوجها على أنه ربها وتغسل له رجليه وتطهو طعامه، وتشاركه مشاركة التوأم في كل ما يُشركها فيه دون جدل.
امرأة تنظر إلى كل ما ينطق بها زوجها على أنه سماوي ومقدس ، وتحبه لأنها لابد أن تحبه وليس لأن عندها انفتاحًا ذاتيًا وانغلاقًا استبطانيا، يا سادة يا كرام .. أنا أعلن على الملأ أني رجل رجعي وبدائي .. وأرى للأسف الشديد أن عصر الرجل انتهى!. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ البحث عن زوجة ..
يا سادة يا كرام ..
أغلى شيء في الدنيا هو العلم .
والإنسان لا يتعلم مجانًا .
و إنما يستخلص المعرفة بالألم والمعاناة.
من مكتبة الحياة نأخذ علمنا الحقيقي، وليس من الكتب والأسفار .
وأقدم لكم نفسي أولًا .. دكتور توفيق زكي .. دكتوراه في الذرة والعلوم النووية من أمريكا، أب لولدين وزوج للمرة الثانية.
وحكاية المرة الثانية هي الموضوع ..
وكالعادة كانت هناك مرة ثانية لأن الزواج الأول فشل بجدارة .
وكانت فكرتي في الزواج الأول هي البحث عن ست بيت وأم وامرأة تقدّس الحياة الأسرية، لا يهم الثقافة ولا التعليم ولا الشهادات، واخترتها ساقطة إبتدائية تكاد تفك الخط، لكن طباخة ممتازة وأستاذة في تسبيك الصواني والطواجن، وتنفيض السجاجيد وإرضاع الأطفال.
لكن كالمعتاد وبعد الشهور الأولى وبعد أن شَبَعت المعدة وامتلأت الأمعاء، وأصبحت المسألة الطريفة حكاية مكررة كل ليلة، بدأ النكد يدخل إلى البيت السعيد، وبدأت أشعر بالفجوة الهائلة بيني وبينها وبدأنا نختلف كل يوم في كل شيء .. وأصبح الشارع يسمع صراخنا كل ليلة .
وبرغم نومنا متعانقين في فراش واحد كنت أشعر بأن بيننا قارات، وأن كل واحد فينا يسبح في محيط.
لم يكن هناك أي شيء مشترك يجمعنا سوى طاجن البطاطس بالفرن، وصواني المحشي وأطباق الكوسة بالباشاميل، فإذا غسلت يدي بعد الغداء عدت إلى الوحدة والغربة وكأني مجرد نزيل في فندق أجنبي.
عجزت تمامًا عن أن أشدّها إلى أي إهتمام مشترك، حتى لو إلى الصحيفة اليومية وأعمدة الأخبار وحوادث الأسبوع.
كانت إنسانة عقلها مُغلق على ثلاث غرف وصالة، لا يهمها ما يجري في فيتنام وكمبوديا ونيكاراجوا، ولا يعنيها ما يجري في جارة عربية قريبة مثل فلسطين.
ويستوي عندها أن تحترق لبنان، أو تندك بغداد أو تنفجر دمشق أو يخرج الشاه من إيران، ويحكمها خوميني أو خلقلي أو بازرجان ما دامت قد وجدت البصل في الجمعية التعاونية، والأرز عند البقال والجرجير عند الخضري.
فإذا حاولت أن أفتح معها هذه الموضوعات أسكتتني بغلظة، فإذا حاولت أن أتلطف ناولتني لكمة وهي تقول:
نام بلا وجع دماغ أنا ما صدقت نيمت الواد!
وتصوروا ما يحدث لي يا سادة في هذه الوحدة والغربة والخواء حينما أتعرف بالأخرى د. شهيرة سرور الأستاذة في الكونسرفتوار وعازفة البيانو، والحائزة على ماجستير ودكتوراه في التوزيع الكورالي وفي الهارموني من باريس.
السيدة الناعمة الحريرة التي تكاد تذوب في الفم من فرط نعومتها، والمتحدثة الرقيقة الودودة والفنانة الأنثى والنجمة التي لا ينطفيء لها تألق.
ويمكن لكم أن تتصوروا كيف أصبحت مكالماتنا في التليفون تمتد إلى خمس وست ساعات ولا نشبع، فنلتقي على النيل ثم تأخذني إلى بيتها لتسمعني معزوفة رقيقة على البيانو، ثم تحكي لي تاريخ هذه المعزوفة وكيف ومتى كتبها بيتهوفن .
نسيت أن أقول لكم أنها طُلّقت بعد زواج فاشل.
وهذا طبيعي .. فمن يستطيع أن يفهم ويقدر هذه التحفة الجمالية النادرة .. ومن يستطيع أن يُعاشر هذا الفن الرفيع إلا إنسان ذوّاقة.
ولقد كنت أنا ذلك الذواقة.
ولقد جُننت بها حبًا .. وإمتلكتني حتى ملأت علي أقطار حياتي وأصبحت لا أرى سواها، ولا آكل سواها ولا أشرب سواها ولا أتنفس سواها.
وكان طبيعيًا أن يرتمي كل منا في حضن الآخر كأنه يتيم وجد أمه، وأن نغرق في حمى من الانصهار العذب الذي لا تجدونه إلا في الكتب والأشعار والسيمفونيات.
وكان طبيعيًا جدًا أن أطلق زوجتي وأتزوجها وأنا أحلم بأقصى الراحة، وبأني قد وجدت أخيرًا شقة خالية في صدر امرأة.
ولكن القدر خلاف الظنون، والدنيا التي أرادها الله تعبًا للكل ما لبثت أن قدمت صورة أخرى من زواج طريف غاية الطرافة.
واسمعوا معي نموذج من هذا الحوار الذي يجري بيننا.
الوقت صباحًا، وأنا أميل عليها وأمسح على شعرها في حنان وأهمس في أذنها:
إيه رأيك يا حبيبتي نأكل إيه النهاردة .
زي امبارح يا حبيبي.
احنا مكلناش امبارح يا حبيبتي .
لحقت تنسى سندوتشات الأمريكانا اللي جبتهالك معايا.
نفسي تعملي لي الملوخية بتاعتك.. ده انتي ملوخيتك تجنن.. أنا قربت أنساها بقالك شهر مطبختليش حاجة.
وأخذها معي إلى الهرم.
ونطوف حول مقابر الأسرة السادسة ونحن نستمع إلى معزوفة القمر لشوبان، ونسرح في التاريخ والجغرافيا والحكيم أمحوتب.
وتكلمني طويلًا عن الحكيم أمحوتب .
وأقطع حديثها محاولًا أن أكون رقيقًا غاية الرقة .
ولكن أظن أن أمحوتب يا حبيبتي كان يأكل .. وكانت زوجته الحبيبة تصنع له أشهى الأطعمة.
لا أظن .. أنت تخلط يا حبيبي بين أمحوتب وبين أبو شقرا ..
عيبك أنك لا تقرأ كفاية في التاريخ.
لقد قرأت وقرأت حتى جعت من كثرة القراءة.
ونشتري كنتاكي في الطريق ونعود إلى البيت .
وتتمدد على الفراش وتسرح ..
ثم تبتلع حبة فاليوم .. ثم حبة ليبريوم .. وأحاول أن أتقرب منها فتقول في فتور :
سيبني شوية.
مالك ؟
جوايا تعبان .. حاسة جوايا بكآبة وضلمة وعتمة. وليل الدنيا جوايا عتمة أوي.
أنا يا حبيبتي أنورها لك.
فتنظر إلي نظرة فارغة كأنها لا تعرفني إطلاقًا .
وكأني رجل لقيط التقت به صدفة، وأخذته إلى بيتها و قدمت إليه طعامًا على سبيل الإحسان .. و أن عليه الآن أن يرحل وأن يعود إلى حال سبيله دون كلمة.
وأقترب أكثر وأهمس في حنان:
حبيبتي أنا جنبك .
أنا عندي صداع يا توفيق أنا مش شايفاك. ولا شايفة حد.
وأهتف في أعماقي : يا نهار أسود عليك يا توفيق وعلى بختك .. ثم أعود فأتودد إليها.
أجيب لك كولونيا تنعش ..
سيبني لوحدي .. نفسي أقعد سنين لوحدي.
سنين .. سنين .. نفسي أحط الحمل اللي على كتفي وأنام.
حطيه على كتفي أنا.
جوايا كلام كتير مش عاوز يطلع .. كياني مسروق مني .. بدور على عنوان نفسي مش لاقياه .. متهيأ لي إني مشيت في الشارع الغلط.
أنا مش فاهمك.
أنا اخترتك من أربعين مليون إنسان عشان تصورت إنك حتفهمني وحا تحس بي .
حا أحس بإيه يا حبيبتي ده إنتي معيشاني في ألغاز .. دنا بنام مع أينشتين .. أنا الدكتور في الذرة والعلوم النووية و اللي مسكت الإلكترون مش قادر أمسك أفكارك!
نفسي نبعد عن بعض شوية يا توفيق .
نعم .. ؟
يعني كده تسافر لك كام يوم إسكندرية تغير جو عشان توحشني شوية.
كمان .. أكثر من كده .. ده إحنا بقالنا شهرين مقربناش لبعض .
كمان شهر .. ما يجراش حاجة .
ده أنا بقالي خمسة أشهر بقوللك إعملي لي كيكة تبصي لي كأني باتكلم مالطي أو هيروغليفي .
ياه ده أنا نسيت خالص حكاية الكيكة دي .. عجيبة .. الله يضحكك يا شيخ.
وكل ده وإحنا في شهور العسل أمال بعدين هنعمل ايه .. ده إنتي بتكلمي البيانو أكثر مني .. بتعرفي عن فطور شوبان و مزاجه الشخصي أكثر من اللي بتعرفيه عني.
كل يوم برجع تعبان بعد يوم مرهق من الشغل المتواصل في العمل ألاقيكي بتقوليلي عندي انغلاق ذاتي وتقلص نفسي وانكماش روحي .. .. أجي ألمسك تقوليلي سيبني شوية حاسة الشمس بتغرب جوايا .. عاوزة أموت .. أتلاشى .. و مرة تقوليلي سقف عقلي وقع، و أن جدران قلبي أتهدت .. وفيه حاجة بتسويني بالأرض ومرة تقوليلي العصافير بتغني في صدري..
ومرة تقوليليي عاوزة كل الرجالة يبوسوني، وأشد شعر من الجنون فتقوليلي :
ما هو كل الرجالة يعني إنت يا حبيبي .. من إمتى وأنا حبيبك ؟ و إنتي عايشة في فلك وأنا في فلك .. توصلني منك كلمة بالتلكس وتضيع ألف .. أنا وحيد يا شهيرة .. وحيد .
وأنا وحيدة أكتر منك يا حبيبي .
أمال احنا في حضن بعض ازاي .
ساكنين بالصدفة سوا في نفس الشقة على النيل وبنبص احنا الاثنين للسقف.
بالضبط هو ده الشيء الوحيد المشتركين فيه .. للدرجة دي ممكن يتغير الناس .. أمال فين الدموع والآهات .. فين أغاني الحب .. كانت معزوفة بيانو .. عمود شعر في صحيفة يومية اتقطعت مع الأيام وبقت ورق تواليت .. ساعات بحس إن مش بس لازم نبعد كام يوم .. أبدًا .. ده إحنا لازم نتعرف على بعض من جديد .. لازم نقابل بعض صدفة في الصالون الأخضر .. و أعزمك على شاي في جروبي و اسألك على نمرة تيليفونك .. و أقوللك اسمك ايه يا مدام .
صحيح فعلًا .
احنا مش متجوزين يا حبيبتي .. احنا متطلقين جدًا .
صحيح فعلًا متطلقين .
وهكذا طلقت الثقافة الرفيعه و الدكتوراه والماجستير في الهارموني والتحفة الجمالية .. د. شهيرة سرور .. لأني لم أعرف ماذا تريد ولا ماذا تحب .. ولا ماذا يرضيها .. ظننت في لحظة أن أقصى أملها أن تعيش معي .. فلما عاشت معي رأيتها تهرب مني وتعيش في غيبوبة الفاليوم .. وتنطوي على نفسها حتى تشبه قوقعة حزن.
وشككت في عقلي وتفكيري، وعدت أشد شعري من الوحدة والبؤس.
يا سادة يا كرام . .
أنا أبحث الآن عن بائعة فجل أو بائعة جرجير .. مجرد إنسانة على الفطرة لأتزوجها وأعيش معها على الفطرة البسيطة التي خلقها الله.
امرأة تنظر إلى زوجها على أنه ربها وتغسل له رجليه وتطهو طعامه، وتشاركه مشاركة التوأم في كل ما يُشركها فيه دون جدل.
امرأة تنظر إلى كل ما ينطق بها زوجها على أنه سماوي ومقدس ، وتحبه لأنها لابد أن تحبه وليس لأن عندها انفتاحًا ذاتيًا وانغلاقًا استبطانيا، يا سادة يا كرام .. أنا أعلن على الملأ أني رجل رجعي وبدائي .. وأرى للأسف الشديد أن عصر الرجل انتهى! . ❝