❞ نشرَت جريدة الصنداي تايمز، هذا النهار، خبر تسرب شعاع غامض من مدينة أدرنَّة التركية على الحدود اليونانية، وتكهّن مواطن يوناني الْتقتهُ مراسلة الصحيفة، بأنهم على الحدّ الفاصل لليونان، شاهدوا ليومين متتاليين، أشِعّة أرجوانية اللون، غامضة تومض لدقائق ثم تنْساب على مدَى الأفق وكأنها طيفٌ خيالي، تبعتها رياح مُغْبّرة، وما زادَ الأمر تعقيدًا، إصابة كلّ من صادف تواجدهُ تلك الساعة بالمنطقة، بحكّة جلْدية شرِسة، وتوَسّعت المراسلة الصحفية في الخبر، بالتحقيق مع سكان المنطقتين من كلا الجانبين، ما أفضى بالنهاية، لتوْقيفها من قبل السلطات التركية ومصادرة الكاميرا ولكنها تمكّنت من تسريب صور التحقيق...
لم يلفت ذلك الخبر نظر العالم الذي كان مشغولاً بأخبار الأمير هاري وميغان، وحتى خبر الصنداي حول الشعاع الأرجواني نُشر بصفحةٍ داخلية، وغطى عليه بذات اليوم، خبر اغتيال قاسم سليماني...وحدهُ القرمزي، الذي قرأ الجريدة في المساء، متأخرًا عن عادة قراءتها في الصباح، بينما كان يحتسي قهوته السوداء في رصيف مقهى ميدان الكاتدرائيّة...
قربّ السفارة البحرينية في لندن نهار اليوم التالي، كان ثمّة بضعة عشرات من متظاهرين احتشدوا تحت رذاذ المطر، حملوا يافطات ورقية هزيلة مسَحَت قطرات المطر حِبرها، مطالبين بديمقراطية، بينمّا كان واحدٌ منهم يحمل صورة القتيل قاسم سليماني...كانت فجْوَة غير مُنصفة تلك اللحظة التي ضاع فيها خبر الصنداي، وعلى الضفة الأخرى من الشارع، تدخل البوليس لتفريق مجموعة مُتعرّية، حملت شعاراتٍ بيئية، كان الطقس ضبابيًا وحركة السير مرتبكة...
˝لا أستطيع دخول السفارة هذا اليوم، سوف الْفتُ الأنظار، وأخشى لو سلَمت الجواز لتجديده، تتم مصادرته، ما رأيكِ أوليفيا؟ هل استمر؟˝
وقف ناصر رجب، مرتديًا بدلة سوداء فضفاضة، متخفيًا بجهٍةٍ من الشارع، بجانب ثلاثة أجانب رجل وامرأتين يحاولون جرّ أحد الكلاب، قاوم رغبتهم في السير...كان يتحدّث في الهاتف ويحاول جاهدًا استراق النظر نحو ما يجري قربّ السفارة...
كانت أوليفيا روي على الطرفِ الآخر، من الهاتف تقبع بركنٍ من مطعم صغير، يطلّ على ساحل بُحَيرة، تحتجز بطرفِها عدّة قواربّ صغيرة، بعضها شراعي، وثمّة زبائن آخرين يحلِّقون على موائد الرصيف، وكان هنالك نباح كلب يأتي من مسافة...كانت تتحدّث بالهاتف وسرعان ما أنْهَت المكالمة لدي دخول بسام داوود الأسود...كان يحمل معه حقيبة رجل أعمال ويرتدي قميصًا أبيض ومعطفًا كحلي، مع سروال أسود، أبقى نظارته السوداء رغم الطقس الغائم...جلس مقابلاً لها، وعلت وجههُ ابتسامة صفراء...
˝أوليفيا˝
قال ذلك وهو يشير لنادل صغير السِنّ، أمْهَق البشرة، ضيق العينين، أقتربّ منه حالمّا لمح إشارته...
˝متى وصَلت َلوغانو؟˝
سألته المرأة السويسرية، وهي تُشير للنادل أن ينتظر لحظة...
˝الآن˝
أجابها وعادَ للنادل، طلب نبيذًا أحمر، التفتَ للمرأة يسألها بحِيرةٍ بدت على وجهه.
˝ماذا تأكلين؟˝
˝بيتزا˝
أجابتهُ.
عادَ للنادل وقال وهو يحُكّ ذقنه مفكرًا...
˝لا شيء، فقط نبيذ احمر˝
˝كنت على الهاتف منذ لحظة مع ناصر رجب، يواجه مشكلة انتهاء صلاحية جواز سفره، لهذا تأخر بالمجيء إلى ميلانو˝
بدت عليه العصبية، زفَر بحدّة وقال بنبرةٍ يائِسة...
˝هذا الأحمق لا يعرف كيف يتدَبر أمره بتاتًا، كيف تمكّن من الإثراء؟!
تنهّد ثانية واستدرك وهو ينظر لسيدة مُسِنّة دخلت المطعم وهي تواجه صعوبة في إغلاق مظلة المطر...
˝كيف تثقين به؟ ألا تخشين أن يورّطكِ؟˝
قطع تركيزه اصطدام إحدى النادلات بأحد الزبائن قادم من جهة الحمام كما يبدو، تصاعدَت رائحة شواء من الداخل، نظر الأسود إلى حقيبته بجانبه قربّ عمود الطاولة ثم التفت وراءه، وعاد ينظر للمرأة، كانت تحدّق بكوب القهوة أمامها...
˝أُفضل أن تسوي القضية معهم خارج المحكمة، مُجرّد ذهابكَ للمحاكمة سيشوِّش عليك، أنت تحت الأنظار منذ قضية الورق. اشْتر بعض المساهمين، وأضْمَن أنك ستكْسب أضعافًا لأنّني سأكون حرّة في عقد صفقات خارجية، دون إثارة الرأي العام في بلدك...˝
ارْجَع ظهره للوراء، قهقه بازدراءٍ وقال بنبرةِ مقت...
˝هؤلاء جشعون، لن يرضوا بالقليل، مع أنهم مفلسون ولا أصدق تعنتهم وعدم بيعهم للأسهم˝
وفجأة خرجت مُنفلِتة إحدى النادلات وهي تهرول، ولَحِق بها أحد الزبائن...انتصب بعض الرواد قربّ سياج المكان وراحوا يحدقون من النافذة بفضول ...
˝ماذا يجري في الخارج؟˝
سأل بسام الأسود باهتمام...
˝لوغانو أهدأ مكان على الأرض، لا تهتم˝
في الخارج كان يدور جدَل بين بعض الأفراد، وهناك على بعد مسافة أمتار بمحاذاة البحر طفق تجمعٌ يرْصدُ الأفق، كانت سيارات متنوِّعة تعبُر الشارع البحري من الجهتين، وثمّة أشخاصٌ يحاولون العبور، نحو الحشد الذي كان يتَطلَّع نحو لا شيء! الوقت قبل الغروب، والسماء غائِمة، ونسمات هواء باردة تُحرك أوراق الأشجار التي تساقط بعضها، صفراء على الأرض.
˝مجرّد وميضٍ خريفي من ذلك الذي يسْبقُ فترة تباين الفصول، الناس في المدينة الناعِسة، تهتم بتفاصيل رتيبة لعدمِ وجود ما يثير هنا، أي شيءٍ تافه ولو انتحار نحلة يحرك الناس!˝
قالت أوليفيا ذلك بنغمةٍ لا مبالية لدى انتهاء لقائهما... وقبل أن ينفصلا عند واجهة رصيف المطعم، سأل الأسود أحد المارَّة، وفي نظرتهِ فضول تجاه بقايا التجمع عند مرفأ البحر، مقابل شارع رئيسي، لم تتوقف عليه حركة السيارات، بكلّا الاتجاهين...
˝يقال وميض شمسي حاد قصَف بعض من كانوا يتنزهون على الساحل˝
أجاب رجل متوسط العمر تبدو عليه ملامح جنوب آسيا...ثم مضى في سبيله.
˝غريب˝
قال الأسود بعدمِ مبالاة
˝ ما وجهُ الغرابة؟˝
سألَت أوليفيا روي وهي تهم بالانصراف وقد تدَلّت حقيبة بيضاء بكتفِها، فيما حمل الأسود حقيبة رجل الأعمال بيده اليسرى.
˝ألم تسمعِ منذ أيام خبر الصنداي تايمز؟˝!!
مطّت شفتيها، بمُجرّد مغادرتهِ، سارَت بتمَهُّلٍ نحو رصيف الشارع، توقفَت عند نافورة مياه، أشعلَت سيجارة، وتلفَّتَت حوْلها، لمحَت زوجين عجوزين، يقبِّلان بعضهما، بينما شابين مراهقين، يتشاجران برتابةٍ مُمِلّة، مقابلهما...بدت حائرة حتى نطَّ فجأة بجانبِها طفلٌ بسنِّ الخامسة أفلَتَ من يدِ والده الخمسيني العمر، الذي انْشغل بتَملُّقِ فتاة تصْغرهُ سنّا ونسي طفلهُ...تعلَّق بأوليفيا وخاطبَها ببراءةٍ ورأسه لفوْق يحدّق بها...
˝تشبهين جدتي˝
مطاردة هزيلة
بداية موْسِم خريفي، زخَرت فيه سماء مدينة ميلانو، بطقْسٍ رمادي اللون، ملأّت أرصفتها وريقاتٌ صفراء، بكثافةٍ، وفاحَت طرقاتها بنكهةِ الأشجار والأزهار، امْتزَجت بروائح عطر المارَّة من سكانها، صادف أحمد القرمزي، مرّة أخرى، غازي فلاح في ساحة ميركاتي تبعه خلال تجوّلهُ بشارع فيا دانتي، حتى حديقة بريرا! كان قد جَمدَ بالبدءِ في مكانه لومضةٍ خاطفة...شعر بأنهُ إن تأخر عن متابعتهِ سوف يتيه الرجل منهُ بزحْمة الشارع بذلك المساء الذي سبق غروب الشمس التي كانت في الأصلِ شحيحة منذ بداية النهار...
خرج القرمزي مرتديًا قميصًا أزرق قطنيًا سميكًا اعتقد أنه سيكْفيه بتلك الأمسية، حتى اصطدم ببرودة الطقس الغائم جزئيًا، كما شعر بضيقِ سرواله الجينز، ممّا زاده ضيقًا، ظنًا منه أنه ثَخُن، حتى تبيّن له أنّهُ بعد الغسْل يختلف ويضيق عن ارتدائه للمرّة الأولى، ما أزاح عنه شعور الاكتئاب المُباغت وصرف نظره عن العودّة للشَقّة، وفيما كان يمضي بالسيّر نحو مقهاه المسائي، في جوْلة قرّر خلالها الاكتفاء بالبطالة والبدء في العمل...فاجأه العقيد غازي فلاح يتمَشّى وقد ارتدي زيًا رياضيًا وبيده قارورة مياه صغيرة...بدا حيويًا نقيض المرّة السابقة التي صادفهُ فيها، ما أوْحَى إليه أن الرجل، لم يتلاشَ ضمير الجلاد منهُ...
كلمّا لمحهُ استيقظَت في رأسهِ صور ومشاهد وحوارات، جميعها مشحونةٌ بإهاناتٍ وإذلال أذاقهُ إياه لسنواتٍ...هل يريد الانتقام منه؟ أم مواجهته فقط والاكتفاء بتذكّيره...
˝لن أُسامحهُ بالطبع، وإلا محوْتُ ذاتي حين أتتني فرصة استعادتها˝
سار خلفه بخطواتٍ مُتلافي الاقتراب منه، كان قلبه يخفق كما في كلّ مرّة يراه، بل ولمُجرّد تذكّره، لا يعْرفُ الهدف من ملاحقتهِ، وإن كان يدفعه فضولٌ قوي، لمعْرفّة أينّ وصلَ الرجل في حياتهِ...كيف يعيش؟ ماذا يفعل؟ هل تغيّر؟ ما الذي يفعله في إيطاليا؟ هل هي صُدفة أن يتواجدا على أرضٍ واحدة بعد سنوات الجمْر؟ أو هو قدَرٌ أن يلقاه لتصفية حسابه معه...؟ لا يمكن للحياة أن تتناهَى بهما عند نقطة المُنْعطَف هذه إلا وقد رسَمَت هدفًا إلهيًا وربّمّا إنسانيًا من ذلك...هكذا فكَّر حين بلغ معه طرف الحديقة حيث توقَف الرجل، وتلفّت حوْلهُ ثم سار نحو البوابة، وهناك توقف...
أدرك القرمزي أنه لم يقْصدَ الحديقة النباتية التي كانت تفتح لفتراتٍ محدّدةٍ، من شهر سبتمبر حتى أكتوبر، برسومٍ أو مجانًا بحسَب الظّروف... سبق له واستمتع مرّات عدّة بأجوائِها التي تعجُ بأشجارٍ وأزهار خيالية وبأشكالٍ غيْر مسبوقة، وثمّة قصر وتماثيل...ترك تفكّيره في الحديقة وشدّدَ انتباههُ إلى صاحبه الذي كان بالانتظار...
خلال دقائق، وصلت سيارة فولكس واجن صفراء، توَقَّفت عند رصيف الطريق، توجّه غازي فلاح نحوها...فتح الباب ووَلَجَ...لم يتحرك السائق بدا ثمّة حديث بينه وبين سائقها، بعد فترة خرج الاثنان، انتصبا بجانب السيارة وراحا يدخنان بصمتٍ...
برز سائق السيارة، شابٌ ثلاثيني، ذو وجه صغير مستطيل عظْميّ، وأنْف مدبّب يشبه حبّة الّلوْز، بشرته جافَة، لونها نبيذي فاتح، متوسّط القامَة، نحيف لدرجة الضمور ...تساءل في داخله عن هوية الشاب، وعلاقته بكهلٍ جلاد؟ كانت أفكاره تعود به إلى سجن دياره، فترة الجَمْر، ثم سرعان ما يتَسلّل شريطُ الأحداث ويفْسد عليه خياره بانتقاء ميلانو ملجأ راحة واسترخاء وعمل، ليلاحقه كابوسٌ فرَّ منه في الأصل ليتبعه إلى هنا، تذكّر ليلاف سعيد، وما روَتهُ له في إحدى فضْفضَتها الشجيّة، عن وجود جودت باور ضابط الجيش التركي... الذي يعيش سرًا، تحت اسم مستعار، أنيس أبيك X وهو مُعذِبُها مع آلاف الأكراد خلال غزْو عفرين...
˝ترى تحت أي اسم مستعار، ينام غازي فلاح، هنا في ميلانو؟˝!!
تساءل وهو يُحدّق فيه وقد بدا بصحةٍ وحيوية، ولو تقوّس ظهره قليلاً، وتدلت كتفاه وظهر بسحنةِ النهاية، لكن ما فتِئ َتنبثق من عينيه، جمْرة التعذيب المجنون الذي سقاهُ إياه...
شعر، أنه أفْسَد مساءهُ بهذه المطاردة التي أحسَّ بها هزيلَة، ولن توْصلهُ إلى نتيجة، طالما ظلّ يكتفي بمطاردته كلمّا صادفه...
˝لابد من خطّة لمواجهتهِ˝
إلى متى سيظلّ يكتفي بتسْمِيم حياته حتى وهو هنا، هاربّا من كوابيس دياره، ليجد نفسه، في دوامة الماضي المُعْتم؟
مرّت خمس دقائق ولعلّها أكثر، دون حوار بين الاثنين، لكنه لمح في نهايتها، قيام السائق الشاب بتسليم ورقة صغيرة للجلاد، مقابل أوراق لم يتبيّن ماهيتها، إن كانت أوراقًا مالية، أو شيئًا آخر...عندما غادر السائق المكان، التفَّ فلاح منكفئًا من ذات الطريق...زَفَر القرمزي وتبعه...!
***. ❝ ⏤احمد جمعه
❞ نشرَت جريدة الصنداي تايمز، هذا النهار، خبر تسرب شعاع غامض من مدينة أدرنَّة التركية على الحدود اليونانية، وتكهّن مواطن يوناني الْتقتهُ مراسلة الصحيفة، بأنهم على الحدّ الفاصل لليونان، شاهدوا ليومين متتاليين، أشِعّة أرجوانية اللون، غامضة تومض لدقائق ثم تنْساب على مدَى الأفق وكأنها طيفٌ خيالي، تبعتها رياح مُغْبّرة، وما زادَ الأمر تعقيدًا، إصابة كلّ من صادف تواجدهُ تلك الساعة بالمنطقة، بحكّة جلْدية شرِسة، وتوَسّعت المراسلة الصحفية في الخبر، بالتحقيق مع سكان المنطقتين من كلا الجانبين، ما أفضى بالنهاية، لتوْقيفها من قبل السلطات التركية ومصادرة الكاميرا ولكنها تمكّنت من تسريب صور التحقيق...
لم يلفت ذلك الخبر نظر العالم الذي كان مشغولاً بأخبار الأمير هاري وميغان، وحتى خبر الصنداي حول الشعاع الأرجواني نُشر بصفحةٍ داخلية، وغطى عليه بذات اليوم، خبر اغتيال قاسم سليماني...وحدهُ القرمزي، الذي قرأ الجريدة في المساء، متأخرًا عن عادة قراءتها في الصباح، بينما كان يحتسي قهوته السوداء في رصيف مقهى ميدان الكاتدرائيّة...
قربّ السفارة البحرينية في لندن نهار اليوم التالي، كان ثمّة بضعة عشرات من متظاهرين احتشدوا تحت رذاذ المطر، حملوا يافطات ورقية هزيلة مسَحَت قطرات المطر حِبرها، مطالبين بديمقراطية، بينمّا كان واحدٌ منهم يحمل صورة القتيل قاسم سليماني...كانت فجْوَة غير مُنصفة تلك اللحظة التي ضاع فيها خبر الصنداي، وعلى الضفة الأخرى من الشارع، تدخل البوليس لتفريق مجموعة مُتعرّية، حملت شعاراتٍ بيئية، كان الطقس ضبابيًا وحركة السير مرتبكة...
˝لا أستطيع دخول السفارة هذا اليوم، سوف الْفتُ الأنظار، وأخشى لو سلَمت الجواز لتجديده، تتم مصادرته، ما رأيكِ أوليفيا؟ هل استمر؟˝
وقف ناصر رجب، مرتديًا بدلة سوداء فضفاضة، متخفيًا بجهٍةٍ من الشارع، بجانب ثلاثة أجانب رجل وامرأتين يحاولون جرّ أحد الكلاب، قاوم رغبتهم في السير...كان يتحدّث في الهاتف ويحاول جاهدًا استراق النظر نحو ما يجري قربّ السفارة...
كانت أوليفيا روي على الطرفِ الآخر، من الهاتف تقبع بركنٍ من مطعم صغير، يطلّ على ساحل بُحَيرة، تحتجز بطرفِها عدّة قواربّ صغيرة، بعضها شراعي، وثمّة زبائن آخرين يحلِّقون على موائد الرصيف، وكان هنالك نباح كلب يأتي من مسافة...كانت تتحدّث بالهاتف وسرعان ما أنْهَت المكالمة لدي دخول بسام داوود الأسود...كان يحمل معه حقيبة رجل أعمال ويرتدي قميصًا أبيض ومعطفًا كحلي، مع سروال أسود، أبقى نظارته السوداء رغم الطقس الغائم...جلس مقابلاً لها، وعلت وجههُ ابتسامة صفراء...
˝أوليفيا˝
قال ذلك وهو يشير لنادل صغير السِنّ، أمْهَق البشرة، ضيق العينين، أقتربّ منه حالمّا لمح إشارته...
˝متى وصَلت َلوغانو؟˝
سألته المرأة السويسرية، وهي تُشير للنادل أن ينتظر لحظة...
˝الآن˝
أجابها وعادَ للنادل، طلب نبيذًا أحمر، التفتَ للمرأة يسألها بحِيرةٍ بدت على وجهه.
˝ماذا تأكلين؟˝
˝بيتزا˝
أجابتهُ.
عادَ للنادل وقال وهو يحُكّ ذقنه مفكرًا...
˝لا شيء، فقط نبيذ احمر˝
˝كنت على الهاتف منذ لحظة مع ناصر رجب، يواجه مشكلة انتهاء صلاحية جواز سفره، لهذا تأخر بالمجيء إلى ميلانو˝
بدت عليه العصبية، زفَر بحدّة وقال بنبرةٍ يائِسة...
˝هذا الأحمق لا يعرف كيف يتدَبر أمره بتاتًا، كيف تمكّن من الإثراء؟!
تنهّد ثانية واستدرك وهو ينظر لسيدة مُسِنّة دخلت المطعم وهي تواجه صعوبة في إغلاق مظلة المطر...
˝كيف تثقين به؟ ألا تخشين أن يورّطكِ؟˝
قطع تركيزه اصطدام إحدى النادلات بأحد الزبائن قادم من جهة الحمام كما يبدو، تصاعدَت رائحة شواء من الداخل، نظر الأسود إلى حقيبته بجانبه قربّ عمود الطاولة ثم التفت وراءه، وعاد ينظر للمرأة، كانت تحدّق بكوب القهوة أمامها...
˝أُفضل أن تسوي القضية معهم خارج المحكمة، مُجرّد ذهابكَ للمحاكمة سيشوِّش عليك، أنت تحت الأنظار منذ قضية الورق. اشْتر بعض المساهمين، وأضْمَن أنك ستكْسب أضعافًا لأنّني سأكون حرّة في عقد صفقات خارجية، دون إثارة الرأي العام في بلدك...˝
ارْجَع ظهره للوراء، قهقه بازدراءٍ وقال بنبرةِ مقت...
˝هؤلاء جشعون، لن يرضوا بالقليل، مع أنهم مفلسون ولا أصدق تعنتهم وعدم بيعهم للأسهم˝
وفجأة خرجت مُنفلِتة إحدى النادلات وهي تهرول، ولَحِق بها أحد الزبائن...انتصب بعض الرواد قربّ سياج المكان وراحوا يحدقون من النافذة بفضول ...
˝ماذا يجري في الخارج؟˝
سأل بسام الأسود باهتمام...
˝لوغانو أهدأ مكان على الأرض، لا تهتم˝
في الخارج كان يدور جدَل بين بعض الأفراد، وهناك على بعد مسافة أمتار بمحاذاة البحر طفق تجمعٌ يرْصدُ الأفق، كانت سيارات متنوِّعة تعبُر الشارع البحري من الجهتين، وثمّة أشخاصٌ يحاولون العبور، نحو الحشد الذي كان يتَطلَّع نحو لا شيء! الوقت قبل الغروب، والسماء غائِمة، ونسمات هواء باردة تُحرك أوراق الأشجار التي تساقط بعضها، صفراء على الأرض.
˝مجرّد وميضٍ خريفي من ذلك الذي يسْبقُ فترة تباين الفصول، الناس في المدينة الناعِسة، تهتم بتفاصيل رتيبة لعدمِ وجود ما يثير هنا، أي شيءٍ تافه ولو انتحار نحلة يحرك الناس!˝
قالت أوليفيا ذلك بنغمةٍ لا مبالية لدى انتهاء لقائهما... وقبل أن ينفصلا عند واجهة رصيف المطعم، سأل الأسود أحد المارَّة، وفي نظرتهِ فضول تجاه بقايا التجمع عند مرفأ البحر، مقابل شارع رئيسي، لم تتوقف عليه حركة السيارات، بكلّا الاتجاهين...
˝يقال وميض شمسي حاد قصَف بعض من كانوا يتنزهون على الساحل˝
أجاب رجل متوسط العمر تبدو عليه ملامح جنوب آسيا...ثم مضى في سبيله.
˝غريب˝
قال الأسود بعدمِ مبالاة
˝ ما وجهُ الغرابة؟˝
سألَت أوليفيا روي وهي تهم بالانصراف وقد تدَلّت حقيبة بيضاء بكتفِها، فيما حمل الأسود حقيبة رجل الأعمال بيده اليسرى.
˝ألم تسمعِ منذ أيام خبر الصنداي تايمز؟˝!!
مطّت شفتيها، بمُجرّد مغادرتهِ، سارَت بتمَهُّلٍ نحو رصيف الشارع، توقفَت عند نافورة مياه، أشعلَت سيجارة، وتلفَّتَت حوْلها، لمحَت زوجين عجوزين، يقبِّلان بعضهما، بينما شابين مراهقين، يتشاجران برتابةٍ مُمِلّة، مقابلهما...بدت حائرة حتى نطَّ فجأة بجانبِها طفلٌ بسنِّ الخامسة أفلَتَ من يدِ والده الخمسيني العمر، الذي انْشغل بتَملُّقِ فتاة تصْغرهُ سنّا ونسي طفلهُ...تعلَّق بأوليفيا وخاطبَها ببراءةٍ ورأسه لفوْق يحدّق بها...
˝تشبهين جدتي˝
مطاردة هزيلة
بداية موْسِم خريفي، زخَرت فيه سماء مدينة ميلانو، بطقْسٍ رمادي اللون، ملأّت أرصفتها وريقاتٌ صفراء، بكثافةٍ، وفاحَت طرقاتها بنكهةِ الأشجار والأزهار، امْتزَجت بروائح عطر المارَّة من سكانها، صادف أحمد القرمزي، مرّة أخرى، غازي فلاح في ساحة ميركاتي تبعه خلال تجوّلهُ بشارع فيا دانتي، حتى حديقة بريرا! كان قد جَمدَ بالبدءِ في مكانه لومضةٍ خاطفة...شعر بأنهُ إن تأخر عن متابعتهِ سوف يتيه الرجل منهُ بزحْمة الشارع بذلك المساء الذي سبق غروب الشمس التي كانت في الأصلِ شحيحة منذ بداية النهار...
خرج القرمزي مرتديًا قميصًا أزرق قطنيًا سميكًا اعتقد أنه سيكْفيه بتلك الأمسية، حتى اصطدم ببرودة الطقس الغائم جزئيًا، كما شعر بضيقِ سرواله الجينز، ممّا زاده ضيقًا، ظنًا منه أنه ثَخُن، حتى تبيّن له أنّهُ بعد الغسْل يختلف ويضيق عن ارتدائه للمرّة الأولى، ما أزاح عنه شعور الاكتئاب المُباغت وصرف نظره عن العودّة للشَقّة، وفيما كان يمضي بالسيّر نحو مقهاه المسائي، في جوْلة قرّر خلالها الاكتفاء بالبطالة والبدء في العمل...فاجأه العقيد غازي فلاح يتمَشّى وقد ارتدي زيًا رياضيًا وبيده قارورة مياه صغيرة...بدا حيويًا نقيض المرّة السابقة التي صادفهُ فيها، ما أوْحَى إليه أن الرجل، لم يتلاشَ ضمير الجلاد منهُ...
كلمّا لمحهُ استيقظَت في رأسهِ صور ومشاهد وحوارات، جميعها مشحونةٌ بإهاناتٍ وإذلال أذاقهُ إياه لسنواتٍ...هل يريد الانتقام منه؟ أم مواجهته فقط والاكتفاء بتذكّيره...
˝لن أُسامحهُ بالطبع، وإلا محوْتُ ذاتي حين أتتني فرصة استعادتها˝
سار خلفه بخطواتٍ مُتلافي الاقتراب منه، كان قلبه يخفق كما في كلّ مرّة يراه، بل ولمُجرّد تذكّره، لا يعْرفُ الهدف من ملاحقتهِ، وإن كان يدفعه فضولٌ قوي، لمعْرفّة أينّ وصلَ الرجل في حياتهِ...كيف يعيش؟ ماذا يفعل؟ هل تغيّر؟ ما الذي يفعله في إيطاليا؟ هل هي صُدفة أن يتواجدا على أرضٍ واحدة بعد سنوات الجمْر؟ أو هو قدَرٌ أن يلقاه لتصفية حسابه معه...؟ لا يمكن للحياة أن تتناهَى بهما عند نقطة المُنْعطَف هذه إلا وقد رسَمَت هدفًا إلهيًا وربّمّا إنسانيًا من ذلك...هكذا فكَّر حين بلغ معه طرف الحديقة حيث توقَف الرجل، وتلفّت حوْلهُ ثم سار نحو البوابة، وهناك توقف...
أدرك القرمزي أنه لم يقْصدَ الحديقة النباتية التي كانت تفتح لفتراتٍ محدّدةٍ، من شهر سبتمبر حتى أكتوبر، برسومٍ أو مجانًا بحسَب الظّروف... سبق له واستمتع مرّات عدّة بأجوائِها التي تعجُ بأشجارٍ وأزهار خيالية وبأشكالٍ غيْر مسبوقة، وثمّة قصر وتماثيل...ترك تفكّيره في الحديقة وشدّدَ انتباههُ إلى صاحبه الذي كان بالانتظار...
خلال دقائق، وصلت سيارة فولكس واجن صفراء، توَقَّفت عند رصيف الطريق، توجّه غازي فلاح نحوها...فتح الباب ووَلَجَ...لم يتحرك السائق بدا ثمّة حديث بينه وبين سائقها، بعد فترة خرج الاثنان، انتصبا بجانب السيارة وراحا يدخنان بصمتٍ...
برز سائق السيارة، شابٌ ثلاثيني، ذو وجه صغير مستطيل عظْميّ، وأنْف مدبّب يشبه حبّة الّلوْز، بشرته جافَة، لونها نبيذي فاتح، متوسّط القامَة، نحيف لدرجة الضمور ...تساءل في داخله عن هوية الشاب، وعلاقته بكهلٍ جلاد؟ كانت أفكاره تعود به إلى سجن دياره، فترة الجَمْر، ثم سرعان ما يتَسلّل شريطُ الأحداث ويفْسد عليه خياره بانتقاء ميلانو ملجأ راحة واسترخاء وعمل، ليلاحقه كابوسٌ فرَّ منه في الأصل ليتبعه إلى هنا، تذكّر ليلاف سعيد، وما روَتهُ له في إحدى فضْفضَتها الشجيّة، عن وجود جودت باور ضابط الجيش التركي... الذي يعيش سرًا، تحت اسم مستعار، أنيس أبيك X وهو مُعذِبُها مع آلاف الأكراد خلال غزْو عفرين...
˝ترى تحت أي اسم مستعار، ينام غازي فلاح، هنا في ميلانو؟˝!!
تساءل وهو يُحدّق فيه وقد بدا بصحةٍ وحيوية، ولو تقوّس ظهره قليلاً، وتدلت كتفاه وظهر بسحنةِ النهاية، لكن ما فتِئ َتنبثق من عينيه، جمْرة التعذيب المجنون الذي سقاهُ إياه...
شعر، أنه أفْسَد مساءهُ بهذه المطاردة التي أحسَّ بها هزيلَة، ولن توْصلهُ إلى نتيجة، طالما ظلّ يكتفي بمطاردته كلمّا صادفه...
˝لابد من خطّة لمواجهتهِ˝
إلى متى سيظلّ يكتفي بتسْمِيم حياته حتى وهو هنا، هاربّا من كوابيس دياره، ليجد نفسه، في دوامة الماضي المُعْتم؟
مرّت خمس دقائق ولعلّها أكثر، دون حوار بين الاثنين، لكنه لمح في نهايتها، قيام السائق الشاب بتسليم ورقة صغيرة للجلاد، مقابل أوراق لم يتبيّن ماهيتها، إن كانت أوراقًا مالية، أو شيئًا آخر...عندما غادر السائق المكان، التفَّ فلاح منكفئًا من ذات الطريق...زَفَر القرمزي وتبعه...!
أنا كما يراني الناس من الخارج فتاة عادية في التاسعة عشر ..
مرحة منطلقة .. الكثيرون يحسدونني على انطلاقي .. فأنا أبداً دائماً ضاحكة عابثة .. و لكن قلبي من الداخل يدمي .. و لا أحد يعلم ما أعانيه ..
أحببت منذ ثلاث سنوات .. و كان حباً أكبر من عمري .. و كان هو في الثلاثين .. أكبر مني بأربعة عشر عاماً .. و علمني كل شيء .. كنت كتاباً مقفولاً و موضوعاً على الرف و جاء هو و فتحه و قرأ كل سطر فيه .. و كل كلمة فيه .. و كنت سعيدة
السنة الماضية في مثل هذا الوقت كنت أسعد مخلوقة في الوجود .. فأنا جميلة ، خفيفة الظل ، محبوبة من الجميع ، و من عائلة غنية .. أستطيع الحصول على جميع طلباتي .. و أهم من هذا كله .. كان هو بجانبي .. حبيبي .
كنا شبه مخطوبين أمام الناس و شبه متزوجين أمام أنفسنا و أمام الله .. عرفت معه كل متع الحب .. و كل مسراته .. و قد حرصنا معاً على ألا يتجاوز عبثنا الحدود .. فظللت عذراء .. و لكنه في آخر لحظة تركني و هجرني إلى غير رجعة ..
قال إنه لا يستطيع أن يعصي أمر والدته .. و قد اختارت له والدته ابنة أختها اليتيمة .. و خطَبَتها له .. و هو لا يستطيع أن يرفض لها طلباً فهو وحيدها .
و تعذبْت .. و مَرِضْت .. ثلاثة شهور ..
ثم بدأت أضمد جراحي و أقاوم عذابي .. و أرسم الضحكة على شفتي .. و أغتصب الإبتسامة .. و بدأت أعود إلى الحياة .
و عرفت أحد زملائي في الكلية .. و صاحبته ..
و لم يكن حباً هذه المرة .. فأنا أعلم أني لا أحبه .. و أنه لا يحبني .
و لكني كنت أبحث عن سلوى .
و نحن نذهب إلى السينما حيث نقضي الساعات .. لا نرى الفيلم .. و لا نرى ما حولنا .. و إنما نظل نتبادل القبلات و العناق حتى يضيء النور ..
و في حمى الشباب تأخذنا نشوة المراهقة التي نمر بها نحن الإثنان فيشعر كلانا بأننا نقضي ساعات لذيذة .
و لكن بعد ذلك .. و بعد أن تمضي هذه الساعات .. يبدأ عذاب الضمير .. و أراني أصرخ في نفسي .. إني ساقطة .. مجرمة بدون أخلاق .. مذنبة مصيرها جهنم .
و لكني أعود فأسأل نفسي .. و ما ذنبنا إذا كانت هذه غرائزنا التي ركبت فينا .. و رغباتنا التي خلقت معنا .
إني لو لم أفعل هذه الأشياء .. فسوف أظل مشغولة الذهن طول الوقت أفكر و أتمنى أن أعملها .. و هذا ألعن ..
ما ذنبنا إذا كانت هذه طبيعتنا ..
و أبكي .. و أصلي .. و أصوم .. ثم أعود إلى فعل هذه الأشياء .. و أنا أسأل نفسي في حيرة .. ما الفرق بين ما يفعله المتزوجون و غير المتزوجين .. إنها ورقة .. مجرد ورقة ..
و لماذا يَعتبِر الناس تلامس اليدين في المصافحة عملاً عادياً لا غُبارعليه .. و تلامس الشفاه في القبلة عملاً فاضحاً شائناً .. أليست كلها أجزاء جسم واحد ..
و ما معنى الفضيلة هنا ؟! ..
و كيف يكون تحريم أشياء هي في صميم طبيعتنا فضيلة .. ؟!
لماذا لا نعيش على الطبيعة بدون تعقيد .. و بدون كبت .. و بدون تحريم ؟! .
***************
رد الدكتور على القارئة صاحبة الرسالة :
قصدك لماذا لا نعيش كالحيوانات فننطلق مع غرائزنا بلا ضابط .. و بلا نظام .. و بلا هدف سوى هاتف اللحظة .. و لذة الساعة ..
مستحيل طبعاً فهذا معناه أن نتخلى عن إنسانيتنا تماماً .. و نعود إلى عصر الغابة .
فالآدمية لا تبدأ إلا من هذه اللحظة .. من اللحظة التي يحكم فيها الإنسان رغبته ، و يكبح غضبه ، و يلجم شهواته ، و يتصرف بمقتضى أهداف سامية .. كالرحمة ، و الإخاء ، و الشجاعة ، و التضحية ، و البذل في سبيل الآخرين ، و العمل على إقامة نظام ، و الإنقطاع للعلم و التحصيل ، و المعرفة و خدمة الناس ..
أما إذا انقلب الوضع و أصبحت لذَّات الجسد العابرة ، و نزوات الغريزة مفضلة على هذه الأغراض السامية فإن الإنسان يفقد إنسانيته و ينقلب حيواناً .. و النظام الإجتماعي ينهار كله من أساسه ..
و الزواج ليس مجرد ورقة كما تقولين .. الزواج تنظيم اجتماعي للغرائز حتى يكون لكل إبن يولد أب مسئول عنه .. و حتى لا تتحول العلاقات الجنسية إلى فوضى بلا رابط .. و تختلط الأحساب و الأنساب .. و لا يعرف الإبن أباه ..
و الواقع أن الإنسان حينما يضبط رغبته و يكبح شهوته .. فإنه لا يمكن أن يُقال إنه يكبت طبيعته .. فإنه في الحقيقة يخرِس صوت الغريزة .. و لكنه في نفس الوقت يُطلِق صوت العقل .. و هو يشد اللجام على الحيوان الهائج في نفسه ، و لكنه يطلق العنان للوجدان و العاطفة و الفكر .
و لا يمكن أن يُقال في أمر طبيعتنا إنها مجرد رغبات حيوانية .
فإن العقل أيضاً من طبيعتنا .. ، و العاطفة و الوجدان و الروح هي صميمنا ..
و هي أكثر أصالة في طبيعتنا من نزوة الجنس و صرخة الحيوان الجائع .
أما حكاية تلامس الشفتين في القبلة و تلامس اليدين في المصافحة .. فهي مغالطة واضحة .. و لن أحاول أن أناقشها .. فأنت تعرفين جيداً الفرق بين ما تفعله القبلة و بين ما تفعله المصافحة .. و مفيش داعي نكذب على بعض .
أما حكايتك مع صاحبك .. فهي حكاية يجب أن تنتهي .. فأنتِ باعترافك لا تحبينه و هو لا يحبك .. فالعلاقة إذن علاقة حيوانية لإشباع نزوات عارضة .. و هي علاقة تخلو من عنصر الصدق .. علاقة يُهين كل منكما فيها جسمه .. و يُهين نفسه .. و هي لهذا يجب أن تتوقف .. لا بسبب الدين وحده .. و لا خوفاً من جهنم .. و لكن بدافع من الإنسانية و من احترام كل منكما لجسمه و نفسه أيضاً .
من كتاب / إعترافات عشاق
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الحيــاة بـدون كبــت ...
أنا كما يراني الناس من الخارج فتاة عادية في التاسعة عشر ..
مرحة منطلقة .. الكثيرون يحسدونني على انطلاقي .. فأنا أبداً دائماً ضاحكة عابثة .. و لكن قلبي من الداخل يدمي .. و لا أحد يعلم ما أعانيه ..
أحببت منذ ثلاث سنوات .. و كان حباً أكبر من عمري .. و كان هو في الثلاثين .. أكبر مني بأربعة عشر عاماً .. و علمني كل شيء .. كنت كتاباً مقفولاً و موضوعاً على الرف و جاء هو و فتحه و قرأ كل سطر فيه .. و كل كلمة فيه .. و كنت سعيدة
السنة الماضية في مثل هذا الوقت كنت أسعد مخلوقة في الوجود .. فأنا جميلة ، خفيفة الظل ، محبوبة من الجميع ، و من عائلة غنية .. أستطيع الحصول على جميع طلباتي .. و أهم من هذا كله .. كان هو بجانبي .. حبيبي .
كنا شبه مخطوبين أمام الناس و شبه متزوجين أمام أنفسنا و أمام الله .. عرفت معه كل متع الحب .. و كل مسراته .. و قد حرصنا معاً على ألا يتجاوز عبثنا الحدود .. فظللت عذراء .. و لكنه في آخر لحظة تركني و هجرني إلى غير رجعة ..
قال إنه لا يستطيع أن يعصي أمر والدته .. و قد اختارت له والدته ابنة أختها اليتيمة .. و خطَبَتها له .. و هو لا يستطيع أن يرفض لها طلباً فهو وحيدها .
و تعذبْت .. و مَرِضْت .. ثلاثة شهور ..
ثم بدأت أضمد جراحي و أقاوم عذابي .. و أرسم الضحكة على شفتي .. و أغتصب الإبتسامة .. و بدأت أعود إلى الحياة .
و عرفت أحد زملائي في الكلية .. و صاحبته ..
و لم يكن حباً هذه المرة .. فأنا أعلم أني لا أحبه .. و أنه لا يحبني .
و لكني كنت أبحث عن سلوى .
و نحن نذهب إلى السينما حيث نقضي الساعات .. لا نرى الفيلم .. و لا نرى ما حولنا .. و إنما نظل نتبادل القبلات و العناق حتى يضيء النور ..
و في حمى الشباب تأخذنا نشوة المراهقة التي نمر بها نحن الإثنان فيشعر كلانا بأننا نقضي ساعات لذيذة .
و لكن بعد ذلك .. و بعد أن تمضي هذه الساعات .. يبدأ عذاب الضمير .. و أراني أصرخ في نفسي .. إني ساقطة .. مجرمة بدون أخلاق .. مذنبة مصيرها جهنم .
و لكني أعود فأسأل نفسي .. و ما ذنبنا إذا كانت هذه غرائزنا التي ركبت فينا .. و رغباتنا التي خلقت معنا .
إني لو لم أفعل هذه الأشياء .. فسوف أظل مشغولة الذهن طول الوقت أفكر و أتمنى أن أعملها .. و هذا ألعن ..
ما ذنبنا إذا كانت هذه طبيعتنا ..
و أبكي .. و أصلي .. و أصوم .. ثم أعود إلى فعل هذه الأشياء .. و أنا أسأل نفسي في حيرة .. ما الفرق بين ما يفعله المتزوجون و غير المتزوجين .. إنها ورقة .. مجرد ورقة ..
و لماذا يَعتبِر الناس تلامس اليدين في المصافحة عملاً عادياً لا غُبارعليه .. و تلامس الشفاه في القبلة عملاً فاضحاً شائناً .. أليست كلها أجزاء جسم واحد ..
و ما معنى الفضيلة هنا ؟! ..
و كيف يكون تحريم أشياء هي في صميم طبيعتنا فضيلة .. ؟!
لماذا لا نعيش على الطبيعة بدون تعقيد .. و بدون كبت .. و بدون تحريم ؟! .
رد الدكتور على القارئة صاحبة الرسالة :
قصدك لماذا لا نعيش كالحيوانات فننطلق مع غرائزنا بلا ضابط .. و بلا نظام .. و بلا هدف سوى هاتف اللحظة .. و لذة الساعة ..
مستحيل طبعاً فهذا معناه أن نتخلى عن إنسانيتنا تماماً .. و نعود إلى عصر الغابة .
فالآدمية لا تبدأ إلا من هذه اللحظة .. من اللحظة التي يحكم فيها الإنسان رغبته ، و يكبح غضبه ، و يلجم شهواته ، و يتصرف بمقتضى أهداف سامية .. كالرحمة ، و الإخاء ، و الشجاعة ، و التضحية ، و البذل في سبيل الآخرين ، و العمل على إقامة نظام ، و الإنقطاع للعلم و التحصيل ، و المعرفة و خدمة الناس ..
أما إذا انقلب الوضع و أصبحت لذَّات الجسد العابرة ، و نزوات الغريزة مفضلة على هذه الأغراض السامية فإن الإنسان يفقد إنسانيته و ينقلب حيواناً .. و النظام الإجتماعي ينهار كله من أساسه ..
و الزواج ليس مجرد ورقة كما تقولين .. الزواج تنظيم اجتماعي للغرائز حتى يكون لكل إبن يولد أب مسئول عنه .. و حتى لا تتحول العلاقات الجنسية إلى فوضى بلا رابط .. و تختلط الأحساب و الأنساب .. و لا يعرف الإبن أباه ..
و الواقع أن الإنسان حينما يضبط رغبته و يكبح شهوته .. فإنه لا يمكن أن يُقال إنه يكبت طبيعته .. فإنه في الحقيقة يخرِس صوت الغريزة .. و لكنه في نفس الوقت يُطلِق صوت العقل .. و هو يشد اللجام على الحيوان الهائج في نفسه ، و لكنه يطلق العنان للوجدان و العاطفة و الفكر .
و لا يمكن أن يُقال في أمر طبيعتنا إنها مجرد رغبات حيوانية .
فإن العقل أيضاً من طبيعتنا .. ، و العاطفة و الوجدان و الروح هي صميمنا ..
و هي أكثر أصالة في طبيعتنا من نزوة الجنس و صرخة الحيوان الجائع .
أما حكاية تلامس الشفتين في القبلة و تلامس اليدين في المصافحة .. فهي مغالطة واضحة .. و لن أحاول أن أناقشها .. فأنت تعرفين جيداً الفرق بين ما تفعله القبلة و بين ما تفعله المصافحة .. و مفيش داعي نكذب على بعض .
أما حكايتك مع صاحبك .. فهي حكاية يجب أن تنتهي .. فأنتِ باعترافك لا تحبينه و هو لا يحبك .. فالعلاقة إذن علاقة حيوانية لإشباع نزوات عارضة .. و هي علاقة تخلو من عنصر الصدق .. علاقة يُهين كل منكما فيها جسمه .. و يُهين نفسه .. و هي لهذا يجب أن تتوقف .. لا بسبب الدين وحده .. و لا خوفاً من جهنم .. و لكن بدافع من الإنسانية و من احترام كل منكما لجسمه و نفسه أيضاً .
من كتاب / إعترافات عشاق
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ التسامح :
التسامح صفة راقية فهي ما تجعل النفس صافية لا تحمل أي حقد أو ضغينة تجاه أي شخص بسبب موقف معين اتخذه ضده ، فعلى الجميع محاولة التحلي بها بقدر الإمكان حتى يتمكنوا من الحياة بشكل راقٍ بعيداً عن كل المشكلات التي تنشأ من حين لآخر لأسباب تافهة أو تراكم بعض المشاعر المُسبَقة داخل النفس ، فلقد أمرنا الله بالعفو والصفح عن الآخرين حتى لا تبقى بيننا ذرة كراهية تمحو سنوات الود والمحبة التي سعى إليها الطرفان فلهذا كان عليهما أنْ يعلما أن تلك السمة هي ما تجعل الحياة تسير بين البشر فلولاها لصارت النفوس متضاربة وكأنها تتعارك وتتصارع طوال الوقت لجلب الحقوق ومحاولة رد الإساءة بمثلها بل وأفظع منها وبأساليب طاحنة أكثر قسوةً تؤدي إلى توليد الكراهية والتشاحن الدائم الذي لا يتوقف بين بني البشر ، فإذا نظرنا وفكرنا ملياً فسندرك أن أي سمة أمرنا الله بالاتصاف بها أو زرعها في نفوسنا هي في الأصل لصالحنا ولنشر المودة في القلوب التي تُزْهِر بالكلمة الطيبة التي إنْ قِيلت عقب أي مشكلة لحُلَّت دون مماطلة أو إطناب فيها بدون داعٍ ، فقلوب البشر بسيطة رقيقة تحتاج لمَنْ يشعر بها ويحاول إرضاءها بشتى الطرق التي كلما كانت أبسط كلما وصل أثرها بشكل أسرع دون جهد مُكثَّف أو طاقة جبارة ، فديننا دين يسر يُعطِي الحلول لأي أمور قد يحتار فيها المرء ولا يتمكن من اتخاذ قرار فيها فإنْ اعتمدنا عليه في كل أمور حياتنا لن نضل أو نشعر بالتيه الذي يسيطر على أي امرئ دون تفرقة بين كونه غنياً أو فقيراً ، قوياً أو ضعيفاً ، فلنحاول تطبيق تلك القيم والتمسك بالشيم التي حثنا الله عليها علَّنا نجد راحتنا وتستقر نفوسنا وتهدأ قليلاً من الصراعات التي تنشأ بسبب أمور لو دققنا النظر فيها لوجدناها لا تستحق مضيعة الوقت فيها من الأساس ، فلنحاول الحفاظ على علاقتنا ببعضنا البعض وإنجاز أمور مختلفة في تلك الأوقات التي نُهدِرها في مشاحنات فارغة لأسباب غير واضحة على الإطلاق ، فلنجعل العقل هو المُسِّير الأساسي لنا في تفادي حدوث تلك المشكلات الدونية التي تنشب بين البشر وكذا القلب فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية فالمزج بينهما هو ما يُنْشِئ شخصية متزنة هادئة غير مشتتة أو مذبذبة مطلقاً ...
#خلود_أيمن #مقالات #KH. ❝ ⏤Kholoodayman1994 Saafan
❞ التسامح :
التسامح صفة راقية فهي ما تجعل النفس صافية لا تحمل أي حقد أو ضغينة تجاه أي شخص بسبب موقف معين اتخذه ضده ، فعلى الجميع محاولة التحلي بها بقدر الإمكان حتى يتمكنوا من الحياة بشكل راقٍ بعيداً عن كل المشكلات التي تنشأ من حين لآخر لأسباب تافهة أو تراكم بعض المشاعر المُسبَقة داخل النفس ، فلقد أمرنا الله بالعفو والصفح عن الآخرين حتى لا تبقى بيننا ذرة كراهية تمحو سنوات الود والمحبة التي سعى إليها الطرفان فلهذا كان عليهما أنْ يعلما أن تلك السمة هي ما تجعل الحياة تسير بين البشر فلولاها لصارت النفوس متضاربة وكأنها تتعارك وتتصارع طوال الوقت لجلب الحقوق ومحاولة رد الإساءة بمثلها بل وأفظع منها وبأساليب طاحنة أكثر قسوةً تؤدي إلى توليد الكراهية والتشاحن الدائم الذي لا يتوقف بين بني البشر ، فإذا نظرنا وفكرنا ملياً فسندرك أن أي سمة أمرنا الله بالاتصاف بها أو زرعها في نفوسنا هي في الأصل لصالحنا ولنشر المودة في القلوب التي تُزْهِر بالكلمة الطيبة التي إنْ قِيلت عقب أي مشكلة لحُلَّت دون مماطلة أو إطناب فيها بدون داعٍ ، فقلوب البشر بسيطة رقيقة تحتاج لمَنْ يشعر بها ويحاول إرضاءها بشتى الطرق التي كلما كانت أبسط كلما وصل أثرها بشكل أسرع دون جهد مُكثَّف أو طاقة جبارة ، فديننا دين يسر يُعطِي الحلول لأي أمور قد يحتار فيها المرء ولا يتمكن من اتخاذ قرار فيها فإنْ اعتمدنا عليه في كل أمور حياتنا لن نضل أو نشعر بالتيه الذي يسيطر على أي امرئ دون تفرقة بين كونه غنياً أو فقيراً ، قوياً أو ضعيفاً ، فلنحاول تطبيق تلك القيم والتمسك بالشيم التي حثنا الله عليها علَّنا نجد راحتنا وتستقر نفوسنا وتهدأ قليلاً من الصراعات التي تنشأ بسبب أمور لو دققنا النظر فيها لوجدناها لا تستحق مضيعة الوقت فيها من الأساس ، فلنحاول الحفاظ على علاقتنا ببعضنا البعض وإنجاز أمور مختلفة في تلك الأوقات التي نُهدِرها في مشاحنات فارغة لأسباب غير واضحة على الإطلاق ، فلنجعل العقل هو المُسِّير الأساسي لنا في تفادي حدوث تلك المشكلات الدونية التي تنشب بين البشر وكذا القلب فيما يتعلق بالعلاقات الإنسانية فالمزج بينهما هو ما يُنْشِئ شخصية متزنة هادئة غير مشتتة أو مذبذبة مطلقاً ...
خلود_أيمن مقالات KH . ❝