دليل الكتب والمؤلفين ودور النشر والفعاليات الثقافيّة ، اقتباسات و مقتطفات من الكتب ، أقوال المؤلفين ، اقتباسات ومقاطع من الكتب مصنّفة حسب التخصص ، نصيّة وصور من الكتب ، وملخصات للكتب فيديو ومراجعات وتقييمات 2024
❞ كتابة: هبة زمان.
غيابهم ظلامٌ يلفّ العالمَ كأنه ينذرُ بنهايةِ الزمان. توقفتْ عقاربُ الساعةِ، ارتدتْ ثوبَ الحدادِ الباهتَ، وتسارعتْ الرياحُ لتمسحَ آخرَ أثرٍ لهم.
ظننتُ حينها أنّني لن أتخطّى هذه المحنةَ ما حييتُ، سأبقى أسيرةَ ذكرياتهم الجميلةِ، خالدةً في واحةِ الحزنِ والمأساةِ. خشيتُ أن أعتزلَ الحياةَ، وأن أصنعَ لنفسي زاويةً صغيرةً تليقُ بالحزنِ، وأنْ تصبحَ أحلامي درجًا مائلًا وعتيقًا، وأنني عند أولِ خطوةٍ سأخطوها سأسقطُ في جوفِ العدمِ القاتمِ.
أصبحتُ كيمامةٍ فقدتْ رفيقَها، فتاهتْ في خضمِّ الحياةِ الغريبةِ، تلك الحياةِ التي سرقتْ مني كلَّ عزيزٍ. لم يبقَ لي منهم إلّا الذكرى، فقلتُ في نفسي: من أنا دونَهم؟
لستُ إلّا بقايا ذكرياتهم، بقايا إنسانٍ دون روحٍ، جسدٍ هامدٍ ينتظرُ اللقاءَ الأبديّ. من أنا حتى أبقى خلفَهم وحيدةً، لتقتلَ مخيلتي شظايا لحظاتِ وجودِهم السعيدةِ، المختلطةَ بلحظاتِ رحيلِهم القاسيةِ؟
لكنّني تذكرتُ جملةَ والدتي، التي كانتْ كتغريدةِ طائرِ العندليبِ العذبةِ:
˝لتكونَ سنواتُ حياتي وقوتي وثباتي هديةً لكم، لأني على يقينٍ أنّني أنجبتُ زهورًا تفوحُ رائحةُ الشجاعةِ والثباتِ والقوةِ منهم عطرًا فواحًا، وأنّ زوابعَ الحياةِ أمامَهم ليست إلّا بعضَ الأشواكِ الطفيفةِ.˝
كانتْ تلك الجملةُ كافيةً لتُبدّلَ اليأسَ إلى أملٍ، والضعفَ إلى قوةٍ، والعجزَ إلى إصرارٍ وإرادةٍ.
أصبحَ سلاحي جملةً مكونةً من ثلاثين كلمةً، كلماتٍ كبلسمٍ على داءِ الفقد . ❝
❞ كتابة: هبة زمان...
رحيل الأمل
تعلقتُ بهِ، كان أولَ محبّي، أولَ من أبصرتْهُ عيناي، لدرجةٍ تراودُ مخيّلتي شكوكًا أنّ الحياةَ قبلهِ كانتْ منعدمةً. كان ذا ابتسامةٍ فريدةٍ، تَحلّقُ الفراشاتُ مع قهقهاتِ ضحكاتهِ المتعالية.
وإنْ توسمَ لي، اتّسعتْ حدقاتُ عينهِ ليثبتَ أنّهُ يتأملُني كأعظمِ ما امتلكَ.
ناداني يومًا بصوتٍ خافتٍ وهو على مسافةٍ ليستْ بقريبةٍ، يرتدي كساءً واسعًا مشقوقًا من الأمام، نسمّيهِ عباءةً. كمْ لاقَتْ بهِ فأصبحَ كأميرٍ دونَ حصانهِ الأبيضِ. لا أعلمُ، لكنّني شعرتُ كأنّ نحلةً صغيرةً لسعتْ قلبي.
أحسستُ بقبضةٍ طفيفةٍ، اقتربَ بخطى متثاقلةٍ - ليسَ عادتهُ أن يكونَ في حركتهِ كسولًا - جلسَ بهدوءٍ وأمسكَ ذراعي بحنوٍ لأجلسَ بجانبهِ.
وضعتُ رأسي على كتفهِ الأيسر مردّدةً مقولتي الشهيرة: ˝دعني أكونَ أقربَ إلى قلبكَ، فأنا أعلمُ أنّ القلبَ في منتصفِ الرئتينِ لكنّهُ يميلُ إلى الجانبِ الأيسرِ.˝
يحاولُ جاهداً أن يُباعدَ عينيهِ لتجنّبَ النظرةِ المباشرةِ، وأنا كلي ثقةٌ أنّ هناك أمرًا يخفيهِ. وأخيرًا استسلمَ للوقتِ، فالوقتِ يمضي ولعلّ الغدّ يأتي سريعًا.
نطقَ بحرفِ الألفِ وأكملَ: ˝أنا أخشى عليكِ، أخشى أن يتلاشى الأملُ في قلبكِ الصغيرِ، أخشى أن ينطفئَ بريقُ عينيكِ، وأن يصمتَ صوتُ إصراركِ المُجدّ.˝
قاطعتهُ: ˝وكيفَ يسكنُني الخوفُ وأنا أتظلّلُ بقامتكَ الباذخةِ؟˝
توقّفَ لثوانٍ معدودةٍ ثمّ تابعَ: ˝وهل ظلي دائمٌ؟ فكلّ شيءٍ في الحياةِ يزولُ.˝
قلتُ: ˝وترافقَ جملتي ابتسامةُ ثقةٍ: ˝إلا أنتَ، حاضرٌ في كلّ وقتٍ. فالوقتٍ دونك اعتبرهُ كالّغبارٍ على غيثارٍ قديمٍ أزيلهُ عند حضوركَ لأعزفَ بهِ أجملَ الألحانِ.˝
عانقني للحظةٍ وهو يطوّلُ شهيقهِ وزفيرهِ. ذاكَ الشهيقُ بهِ سرٌّ غريبٌ.
˝وإنْ قلتُ لكِ أنّني راحلٌ، أنّني مُرغمٌ على الرحيلِ، أنّني مجبرٌ على تركِ قطعةٍ من روحي في مكانٍ يملأهُ نفوسٌ خبيثةٌ.˝
قلتُ: ˝فإذاً نرحلُ معًا.˝
نهضتُ وأمسكتُ يديهِ: ˝هيا يا سببَ وجودي، دونك لا وجودَ لي.˝
نهضَ وكانتْ تغزو ملامحهِ سهامُ الحزنِ اللعينةِ، وحاجباهِ يقتربانِ من بعضهما البعضِ. اقتربَ مني أكثرَ ثمّ قبلَ برفقٍ جبيني: ˝كوني على يقينٍ أنّني سأحاولُ جاهداً على أن أُشرقَ شمسَ يقينكِ وأنْ أُشعلَ شمعةَ الأملِ في نفسكِ. أنا معكِ أينَ ما حطّتْ عليهِ قدميكِ، أنا معكِ كروحٍ لا تفارقُ الجسدَ. سأرحلُ دونكِ، لمْ يأنِ الأوانُ لتأتي معي، لكنّ روحي مرافقةٌ لكِ للأبدِ. لنْ أدعَ سقيعَ العالمِ يجمدَ قلبكِ الدافئ.˝
وذهبَ. حاولتُ أن أمنعهُ، لكنّهُ رحلَ وهاجرَ قلبي. تركهُ وحيدًا يواجهُ غياهبَ الظنّ.
سقطتُ أرضًا وأنا أصرخُ: ˝عد يا أبي، عدّ لي ولا تُحملني ما لا طاقةَ لي بهِ!˝
لكنّني استيقظتُ، وكانتْ الصدمةُ العارمةُ: حلمٌ. كانَ أبي حلمًا، كنتُ أحلمُ. ويا ليتَ الحلمَ كانَ مُطولًا دونَ نهايةٍ . ❝