آسر وسر مذكرات أمه
في خضم أيام الإجازة، ومع مرور كل يوم، ظلَّ آسر متأرجحاً بين الحلم والواقع. كان يقترب من لحظة عودته إلى مدرسته بينما في داخله صراعٌ مرير، لم يكن قادرًا على التهرب منه.
أما عايدة، فقد كانت تتعمد، دون رحمة، أن تسلب من آسر كل شعور بالراحة والطمأنينة التي قد تكون لديه، ولسانها اللامتوقف كان كالسيف يقطع كل خيط أمل في قلبه.
كلما دخلت عايدة إلى غرفة آسر، كانت تجد الصغير غارقًا في شروده، وعينيه مسمرتين على صورة والدته. كان يعاني من الغياب، وهو لا يزال يتذكر آخر لحظات مع والدته التي رحلت عنه، ولا يزال يرتدي الحزن كعباءة ثقيلة.
دخلت عايدة الغرفة ذات يوم، وبنبرة حادة:
"إنت قاعد تعمل إيه؟ يلا نام، الإجازة خلصت، بكرة في مدرسة. ولا هو يعني علشان هتاخد بقيت السنة إجازة، هتلعب من أولها؟ يلا."
آسر، بصوت خافت:
"حاضر يا نانا."
عايدة، بتفويض صارم:
"يلا."
قام آسر إلى سريره، وهو يحاول يضع في ذهنه أن كل ما يفعله هو مجرد حالة من الانتظار للعودة إلى حياته الطبيعية، لكن كلما حاول أن ينام، كان وجه والدته يلاحقه في أحلامه، وتذكره برفق الصورة التي يحتفظ بها في حضنه.
مرت الأيام كالساعات، وتوالت الأسابيع. كان آسر يذهب إلى المدرسة ويعود إلى أجواء المنزل التي تطغى عليها قسوة عايدة وكلماتها السامة.
عادت عادته بعد المدرسة، حيث يذهب إلى غرفته، ويجلس ممسكًا بصور والدته ووالده، مُستمدًا من هذه الصور بعض السكينة قبل أن يخلد إلى النوم.
في أحد الأيام، بعد عودته من المدرسة، دخلت عايدة الغرفة مرة أخرى:
"إنت لسه قاعد هنا؟"
آسر، بهدوء مكتوم:
"لا يا نانا، أنا بعمل الواجب."
عايدة، بشدة:
"يلا، خلص وانام."
آسر بخوف:
"حاضر."
بعدما خرجت عايدة، قام آسر بإنهاء واجباته المدرسية بسرعة. كان الوقت يمر ببطء شديد، وبالتأكيد كانت عايدة على وشك الدخول مجددًا، فاستعجل في إنهاء ما عليه. بعد أن أتم الواجب، أخرج صور والديه من حقيبته، وأخذها في حضنه، مستعدًا للنوم، وهو يحاول إغلاق عينيه.
هذه الليلة، لم يكن عاطفياً كما في الليالي السابقة. كان لديه تصميم جديد؛ سمع من عايدة حديثاً عن خطة محاكة ضد أصدقاء والدته وعمه زين.
هذا ما جعله يقرر أن يتخذ خطوة جريئة.كان يعتقد أن قراءة مذكرات والدته، التي كانت تحتوي على كل أسرار حياتها، قد تكون مفتاحًا لفهم الحقيقية واسترجاع حقها.
قبل أن يبدأ في قراءة المذكرات، سمع صوت عايدة خارج الغرفة. سارع إلى سريره، وتظاهر بالنوم، وهو يشعر بقلبه يخفق بسرعة.
كانت عايدة واقفة عند الباب، وكان خائفًا أن تكتشف أنه لم يكن نائمًا بعد. ظل مغطى بغطاء السرير، وعينيه مغلقتين بشدة، حتى شعر بالنعاس يغلب عليه.
في قلبه كان يدعو الله أن يكشف له الحقيقة، وأن يعيده إلى نقطة توازن، حتى يتمكن من استرداد حقوق والدته، والانتقام من أولئك الذين ظلموها.
في صباح اليوم التالي، تسللت خيوط الشمس إلى الغرفة عبر النوافذ، بينما كان آسر غارقًا في سبات عميق. لكن فجأة، صرخ من وقع الماء البارد الذي صبته عايدة عليه، وهو يصرخ:
"آه، آه، آه، في إيه؟"
عايدة، بعصبية:
"كل دا نوم؟ قوم، المدرسة. لو كنت بتنام بدري، كنت صحيت بدري. وبعدين، تعال هنا، كنت بتقول إيه وإنت نايم؟"
آسر، وهو لا يزال في حالة من الارتباك، حاول استيعاب ما يحدث:
"نانا، أنا..."
عايدة بغضب وحده:
"إنت مش سامعني؟ بلاش تأتأ، اتكلم!"
آسر، غير قادر على فهم الموقف بالكامل، حاول أن يوضح:
"أنا مش عارف في إيه، أنا كنت نايم والله يا نانا، ما عملتش حاجة."
عايدة، بتجاهل تام لمشاعره، أضافت ببرود:
"يلا، اغور، وعمل حسابك، ما فيش فطار."
آسر، وهو يمسح دموعه التي اختلطت مع الماء الذي غسلت به وجهه، تمتم لنفسه:
"هو أنا يعني كنت بفطر؟ أنا باكل بقايا الأكل. ربنا يسامحك يا نانا."
بكى بشدة، وكانت دموعه تتساقط وتختلط بالماء الذي كان يغسل به وجهه، وكأن حزنه يفيض مع كل قطرة. ثم ذهب ليجهز نفسه للمدرسة، بينما استمر يومه كالعادة، دون تغيير يذكر، متجاوزًا كل محنة جديدة بمشاعر مدفونة عميقًا.
وفي مساء، دخل آسر غرفة بعد أن انهى طعامه.
كانت خطواته ثقيلة، لكنه حاول ألا يظهر حزنه. بمجرد دخوله غرفته، أسرع نحو الدولاب، وسحب منه دفتر مذكرات والدته.
جلس على سريره، قلبه يخفق بتسارع، وبدأ يقرأ أولى صفحاتها.
كانت الكلمات مكتوبة بعناية، تحمل بين السطور ذكريات وأحلام وحنين.
شعر وكأنه يغوص في عالم آخر، حيث تلتقي الذكريات القديمة بالواقع الحاضر، ليجد في تلك الكلمات عزاءً لروحه المتعبة.
كان آسر جالسًا على سريره، والقمر يرسل خيوطه الفضية عبر النافذة، لكنها لم تكن كافية لتبدد الظلام الذي أحاط بقلبه وهو يمسك بدفتر مذكرات والدته.
فتحه بيدين مرتجفتين، وكانت الصفحة الأولى تحمل صورة قديمة، تجمع والدته وجدته وجده عندما كانت صغيرة.
تلك الصورة كانت مألوفة له، فقد رأها من قبل حين كانت والدته تُظهرها له، ولكن ما أحزنه أكثر أنه لم يرَ أصحابها في الحقيقة، حتى ولو في صور أخرى.
بدأ يقرأ ببطء، وكأن كل كلمة كانت تثقل قلبه أكثر:
"عارف إنك دلوقتي بتقرأ مذاكراتي، ماتزعلش مني لو كنت قصرت في حقك. إنتا عارف إنك أغلى شخص في حياتي إنتا وأحمد، وأنا قررت إني أكتبلكم حياتي وكل حاجة عني. مش عارفة مين فينا هيموت بس قررت إني أكتبها؛ أحمد على طول مسافر علشان شغله، وإنتا دلوقتي تميت السنتين. وأنا بكون لوحدي، وهما وحشوني أوي ونفسي يرجعوا. حبيت أكتبلك حياتهم معايا. وازاي عرفتهم، هتحبهم أوي. عارف إنك عمرك ما شفتهم، بس أحمد عرفهم كويس. عارف يا أحمد إنك هتزعل مني، بس أرجوك سامحني، عاوزه ابني يعرفهم حتى لو من خلال مذكراتي. فأرجوك لو أنا فارقت الحياة الأول، إنك تسمح لآسر يقرأها على الأقل علشاني أنا. دي أمنيتي الوحيدة بعد موتي أرجوك نفذها."
بينما كان يقرأ، شعر آسر بدموعه تنهمر بصمت، كان يعرف أن هذه الكلمات كتبت بحب وألم، وكان يعلم أن والدته كتبتها وهي تفكر في المستقبل الذي لم تكن متأكدة من أنها ستكون جزءًا منه. قلب الصفحة ببطء، وكأنه يخشى ما سيقرأ بعد ذلك:
"حبيبي ماتزعلش أنا موجودة على طول جنبك في كل مكان إنتا فيه أنا معاك وهفضل معاك على طول. خالي بالك من الكتاب دا فيه أحلى حاجة في حياتي."
ضمت يديه الكتاب إلى صدره بشدة، وكأنه يحاول أن يحتفظ بجزء من والدته الحبيبة. بكى وهو يقبل الكتاب، متمنيًا لو كانت هنا لتحتضنه. بعد لحظات من الهدوء، مسح دموعه وأعاد فتح الكتاب ليكمل القراءة:
"عارف يا آسر. أنا كمان زيك حبيبي، وحيدة أبويا وأمي، ملهمش غيري. ولا أنا ليّا غيرهم، حياتنا كانت عادية جدًا. أمي كانت ربة منزل بتشتغل من البيت بتعمل أكل وحلويات وتقعد قدام البيت بتبيعهم؛ وأبوي كان أرزقي على الله كل يوم شغلانة شكل، ويوم يلاقي ويوم لاء، وحياتنا كانت ماشية والحمد لله. أنا كان نفسي أكمل تعليمي، وبابا كان فرحان بيّا أوي لما قولته نفسي أكون دكتورة؛ كان بيشجعني على طول هو وماما. لكن جدتي وأعمامي لاء، مش بيحبوني ولا بيحبوا أمي، زي جدتك كدا مش بتحبني. كانوا بيتدخلوا في كل حاجة، ودايما بيقولوا إيه لازمة التعليم خليها في البيت وجوزها لابن عمها. لكن بابا كان أول مرة يرفض ليهم طلب، وأصر إني أكمل ورفض إني أتزوج ابن عمي. كنت فرحانة أوي من قراره دا. أنا كمان مش بحبهم ومش عاوزة أكون وسطهم؛ نفسي نبعد عنهم، لكن للأسف بابا اللي بعد عنّا للأبد."
شعر آسر بألم في قلبه وهو يقرأ عن والدته، وعن أحلامها التي كانت بسيطة ولكنها ذات معنى عميق. كانت تتحدث عن رغبتها في الهروب من واقع ضيق، عن شغفها بالتعلم، وعن دعم والدها لها. لكنه شعر بثقل الفراق الذي أحاط بتلك الكلمات.
ثم وصل إلى الجزء الذي أخبرته فيه عن ذلك اليوم المشؤوم:
"كان معايا الصبح وهو بيوصّلني للمدرسة؛ كان عندي امتحان جبر وإنجليزي. كنت في سنة ثالثة إعدادي ودا امتحان آخر السنة، بعد لما وصلني قالي؛. هروح أشوف الشغلانة اللي عمي فهمي جابهاله؛ كانت في منطقة بعيدة عنّا بأكتر من ساعتين؛ هاشتغل معاه عامل تحميل طوب و أسمنت، راح معاه وللأسف ما رجعش.خلصت إمتحان و روحت على البيت. فضلت مستنيه. لكن هو إتأخر أوي، خرجت أنا وماما نسأل مرات عم فهمي عليه.قالت انها متعرفش حاجه عن زوجها من وقت لما خرج الصبح وقال هيعدي على بابا عند المدرسة.
رجعنا البيت ومش عارفين نتصرف إزاي. الوقت تأخر والعشاء هتأذن وبابا لسه مارجعش."
هنا، لم يستطع آسر منع دموعه من السقوط بغزارة، شعر بالحزن العميق على جدّه الذي لم يكن يعرفه، وعلى والدته التي فقدت سندها في الحياة في عمر صغير.
كانت هذه اللحظات التي كتب فيها تلك المذكرات مليئة بالأسى والحزن، ولكنهما كانا مفعمين أيضًا بالحب والأمل الذي كانت تسعى لنقله إلى ابنها الصغير، الذي كان يقرأ الآن بين السطور ذكريات وحنين شخصيات لم يعرفها إلا من خلال تلك الكلمات المكتوبة بحبر الألم.
"" "" جلست صفية على عتبة بابها، وألمها يكاد يفترس قلبها. كانت تبكي بحرقة، ترفع يديها إلى السماء وتدعوا الله بحرقة أن يعيد لها زوجها سالمًا. في تلك اللحظات، شعرت وكأن الحياة كلها توقفت، وكل ما تبقى لها هو الدعاء والتوسل. شعور العجز سيطر عليها، وكانت دموعها تحمل معها كل آلامها ومخاوفها.
إيمان كانت تتحرك بقلق أمام المنزل، تتنقل من جانب إلى آخر، تضرب يدها في بعضها بحركة عصبية. كانت في صراع داخلي بين خوفها على والدها وغضبها من الوضع الذي وجدوا أنفسهم فيه. لم تستطع تحمل الانتظار أكثر، فاقتربت من والدتها، التي كانت تجلس على العتبة وتبدو ضائعة في حزنها، وسألتها بصوت مليء بالقلق:
"هنعمل إيه يا ماما؟"
صفية نظرت إلى ابنتها بعينين مليئتين بالدموع، وقالت بصوت متحشرج:
"والله ما عارفة يا بنتي... ربنا يردك ليا يا أبو إيمان، يا رب."
إيمان، التي لم تكن تطيق الوقوف دون فعل شيء، ردت بإصرار:
"احنا هنفضل قاعدين كدا؟ يلا نروح عند مرات عم فهمي نسألها، ممكن تكون كلمت زوجها ولا حاجة. ما احنا لو كان عندنا تلفون كنا عرفنا أخباره."
تحتضن صفية نفسها بذراعيها بينما تسيل الدموع على وجنتيها. كانت عيناها تنظران إلى السماء بتوسل، والشفتان تتحركان بالدعاء بصوت خافت، "وهنكلمه على اي يا عين أمك، هو أبوكي يفهم فيه. ولا يعرف يمسكه."
إيمان، التي لم تستطع الجلوس طويلاً، بدأت تتحرك ذهابًا وإيابًا أمام المنزل. كان القلق يغمر وجهها، وكانت تضرب يديها ببعضهما في محاولة لتهدئة نفسها. فجأة، قررت دون تفكير أن الوقت ليس مناسبًا للانتظار. نهضت بحدة، تمسك بيد أمها بقوة وكأنها تستمد منها الشجاعة:
"طب يلا نروح. يلا يا ماما."
لكن عندما بدأتا بالتحرك، توقفت إيمان فجأة عند سماع صوت خلفها.
صوت ذو نبرة ساخرة مليئة بالاحتقار، جعلها تشعر بالدماء تغلي في عروقها. التفتت ببطء، وعيناها تمتلئان بالغضب المكبوت، لتواجه ابن عمها، الذي كان يقف متكئًا على الحائط، يلاعب ذقنه البارزة قليلًا ويرفع حاجبه بتحدٍ:
"علي فين يا مرات عمي انتي والسنيوره، اي هو علشان راجل البيت لسه بره. الحريم هتلف على حل شعرها والا اي؟"
نطق الكلمات من فمه كسهام مسمومة، تتساقط على إيمان لتزيد من اشتعال غضبها. قلبها كان ينبض بقوة، لكن صوتها جاء حادًا وصارمًا:
"ابعد عن طريقي، وما لكش دعوه بينا."
ابن العم، بابتسامة مائلة تضمنت مزيجًا من السخرية والتهديد، اقترب خطوة للأمام، وكأن تقدمه يهدف إلى فرض سيطرته بالقوة.
"نعم يا حلوى، اعمل اي، شيفه تربيتك يا مرات عمي. ولا عال، وكمان بتبجحي، يلا ادخلى جوه، ومافيش خروج بره البيت لحد لما عمي يرجع. يلا يا مرات عمي، ومش هفضل هتكلم كتير أنا."
كان صوته يغلفه التهديد والابتزاز العاطفي.
صفية، التي شعرت بالعجز والخوف يلتفان حول قلبها، تمتمت بصوت متردد:
"عمك هيرجع منين بس، دا عمره ما تأخركدا، استر يارب."
لكن ابن العم لم يكن مستعدًا لتخفيف حدة كلامه، بل زاد في تهكمه قائلاً:
"هيستر ان شاءالله، يلا ادخلوا انتوا بس، وبعدين هتلاقيه بشتغل شغلانه كمان ولا حاجة، مش السنيوره عوزه تكون دكتوره، وراح وجايه من المدرسة، تهز طولها وتفرج الناس عليها."
لم تتحمل إيمان أكثر من ذلك. شعرت بالغضب يشتعل في صدرها وكأنه نار تحرقها من الداخل.
وقفت أمامه بكل قوتها، تنظر إليه بجرأة لم تعهدها في نفسها من قبل:
"انتا عاوز اي، ابعد عن طريقنا، وبعدين من امتا وبابا كان يهمك، انتا ولا علتك، ابعد خليني ادور عليه."
نظر إليها ابن العم بدهشة ممزوجة بالغضب، وكأنها تجرأت على تخطي حدودها، "اي دا! القطه بقت بتخربش، بس ورحمت أمي لأخليكي تخافي من خيالك، بس الصبر بكره تيجي تحت لرجلي."
شعرت صفية وكأن التهديد موجّه لها ولابنتها في الوقت ذاته.
نهضت بسرعة، وملامحها تحولت إلى قوة لم تتوقعها، "رجلك دي انا هكسرهالك يا ابن نفسيه؛ يلا امشي من هنا، ومالكش دعوه ببنتي."
لم يكن في ابن العم سوى الابتسامة الساخرة وهو يتراجع ببطء، يهمس بكلمات مليئة بالاحتقار:
"أنا ماشي، ان شاءالله تولعوا."
إيمان، التي شعرت بالغضب يفيض من قلبها، صرخت خلفه بكلماتها الأخيرة قبل أن يبتعد: "غور ربنا يأخدك."
ثم التفتت إلى أمها، محاولًا تهدئتها وسحبها بعيدًا عن المشهد الذي تراه أمامها:
"يلا يا ماما."
صفية كانت تمشي بخطى ثقيلة، وكأن ثقل العالم يجثم على كتفيها. كانت الدموع تموج في عينيها، لكنها كانت تحاول أن تبقيها حبيسة، مستعينة بإيمانها الهش الذي تماسكته بصعوبة. نظرت إلى ابنتها التي كانت تمشي بجانبها، تقاوم انهيارها، تحاول أن تكون قوية لأجلها.
"ماشي يا بنتي... يلا."
قالتها بصوت شبه مكسور، ولكنه يحمل في طياته قوة لا تنفك تستجمعها من حبها لأبنتها.
لكن فجأة، تعالت صرخات مدوية في الهواء، أوقفت خطواتهما، وجعلتهما تلتفتان بسرعة نحو مصدر الصوت. كانت الصرخات تعبر عن خوف وألم شديد، وكأنها تنذر بحدوث شيء سيء.
تبادلتا النظرات، وقلوبهما مليئة بالخوف والقلق، وكأن هذا الصوت هو إنذار لشيء خطير سيحدث.
عيون صفية اتسعت بصدمة، وقلبها خفق بقوة كأنه يريد الخروج من صدرها.
"إي الصريخ دا... جاي من بيت جدتك؟"
سألت بارتباك، لكن بداخلها كانت تعرف الجواب دون أن تحتاج إلى تأكيد.
إيمان، التي كانت دائماً تندفع نحو الحلول السريعة، لم تستطع السيطرة على غضبها المكبوت. صرخت بغضب مكبوت:
"يلا يا ماما، ان شاء الله يموتوا كلهم، يلا."
كانت كلماتها حادة مثل السكاكين، تعكس الألم والغضب الذي لم تجد له متنفساً آخر.
لكن صفية، برغم كل شيء، لم تستطع تجاهل إحساسها الأمومي، الذي جعلها تهمس بحذر:
"استني يا بنتي بس... يلا نشوف في إيه."
كان عقلها مشوشًا، لكنها لم تستطع تجاهل الشعور بالمسؤولية.
اقتربتا من المنزل الذي يبتعد قليلاً عنهما، وعندما وصلتاه، كان مشهد الجدة سعدية وهي تصيح وتضرب وجهها بمثابة الصاعقة التي حطمت ما تبقى من تماسك. كانت الجدة تصرخ وتنادي على ابنها، وكأنها تحاول استدعاءه من الموت. وعندما سمعت إيمان اسم أبيها، هرولت نحو الجدة، تمسكها بقوة وتصرخ بوجهها، محاولًة أن توقف هذا الجنون:
"بابا ماله؟ ردي عليا، بتصرخي ليه؟"
الجدة سعدية، بعينين غائرتين من الحزن واليأس، كانت تبدو كأنها تعيش كابوسًا لا نهاية له، صرخت بألم يغمر كل كلمة: "ابني مات، يالهوي، يا حبيبي،اه،ياني اه، ابني."
كلماتها كانت تخرج من قلبها المنكسر، محملة بعبء الألم الذي لا يُطاق.
إيمان شعرت بأن الحياة تنسحب منها، وكأن الأرض قد تفتحت تحت قدميها لتهوي بها إلى أعماق الجحيم.
انقضت الجدة عليها بقوة، وكأنها تحملها مسؤولية هذا الفقدان الرهيب، صرخت في وجهها بغضب محموم:
"ابعدي عني. انتي السبب انتي وأمك، هو راح بشتغل علشان مين؟ ومش انتي والله هموتك."
كان كل حرف يخرج من فمها وكأنه سكين يغرز في قلب حفيدتها.
الجدة سعدية، التي لم تعد تملك سوى الألم والغضب، لم تتمالك نفسها وأمسكت بشعر إيمان، تضربها بقوة على وجهها، وكأنها تحاول أن تنقل لها جزءًا من الألم الذي يعصف بها.
"آه آه، الحقيني يا ماما!" صرخت إيمان وهي تشعر بأن الألم ليس جسديًا فقط، بل هو ألم عاطفي يعصف بكل ذرة من كيانها.
صفية، التي لم تستطع تحمل رؤية ابنتها تُضرب، هرعت لتفصل بينهما، صارخة بألم وغضب:
"ابعدي عن بنتي، ابعدي. إيه ربنا على الظالم والمفتري، بدل ما تقفوا جمبها، وانتوا بتقولوا أبوها مات. ربنا يسامحكم. عمر ما جاه من وراكم خير أبدًا، حسبنا الله ونعم الوكيل فيكم." كانت كلماتها مليئة بالمرارة واليأس، وكأنها تلقي بلعنتها على هذا القدر الظالم.
الجدة سعدية لم تعد تحتمل، كانت عيناها تحترقان بالغضب والشعور بالظلم، صرخت بقوة: "اخرجوا انتي وبنتك من بيتي؛ موتوا ابني."
كان غضبها يفيض من قلبها، ولم تعد قادرة على التفكير بعقلانية.
العم رأفت، الذي حاول التدخل للحفاظ على الهدوء، قال بصوت منخفض لكنه كان يحمل ترددًا واضحًا:
"بس يا أما... الناس بتتفرج علينا."
لكن الجدة سعدية لم تهتم، دفعت ابنها بعيدًا وكأنها لا تريد سماع صوته:
"ابعد عني، والله ما هخليكي تشوفي يوم حلو، يا بنت صفية."
كانت كلماتها تحمل تهديدًا واضحًا، وكأنها عازمة على الانتقام بأي ثمن.
إيمان، التي لم تعد تستطيع التحكم في غضبها، صرخت بجرأة:
"أنا بنت محمد. وأبويا موجود، ومش من حق حد يحرمني من اسمه، حتى لو انتي."
كان صوتها مليئًا بالقوة، لكنها كانت تخفي خلف هذه القوة ألمًا عميقًا.
الجدة سعدية، وكأن كلمات إيمان أشعلت فيها نارًا لم تعد تستطيع إخمادها، صرخت وهي تلوح بيدها في الهواء:
"ورحمة ابني اللي لسه ما اندفن، لأكسر شوكتك، وخليكي تتمني الموت."
كان تهديدها قاتمًا، يعبر عن حقد دفين لا يمكن محوه.
ابتعدت صفية وابنتها عنهم، وكانتا تقفان أمام منزلهما، منتظرتين بقلوب منكسرة، تنتظران زوجها الذي علمتا بموته منذ قليل، ولا تعرفان ماذا تفعلان أو كيف تتحققان من هذا الخبر.
بعد فترة قصيرة جدًا، رأت صفية سيارة الشرطة تقف أمام المنزل. كانت تسأل عنها، فاقتربت بخطى مترددة، وحاولت أن تبقي صوتها ثابتًا: "خير يا بيه."
الضابط، بنبرة رسمية مليئة بالجدية، قال:
"انتي مرات محمد عبود؟" كانت عينه تبحث عن أي علامة تدل على أنها قادرة على تحمل ما سيخبرها به.
ردت صفيةوهي تكاد تلتقط أنفاسها:
"أيوه يا بيه، ودي بنتي."
الضابط، بحذر واضح، قال: "تعالي معانا على المستشفى، علشان تستلمي الجثة."
كان يحاول أن يخفف من وقع كلماته، لكن الحقيقة كانت قاسية جدًا.
خرجت صرخة قوية من فم إيمان، وكأنها طلقة نارية تخترق السكون.
وضعت صفية يدها بسرعة على فم ابنتها، محاولة تهدئتها، "حرام أوعي تعملي كده... سمعه. ادعي ربنا هو دلوقتي بين إيديه."
كانت تحاول أن تبقى قوية، لكن صوتها كان مليئًا بالوجع الذي تحاول قمعه.
ثم نظرت للضابط مرة أخرى، تجمع ما تبقى من شجاعتها لتنطق بثبات ظاهري فقط: "جوزي مات إزاي يا بيه؟"
كان قلبها ينبض بقوة، وكأنها تعرف أنها لن تحتمل سماع الجواب.
الضابط، بنبرة محايدة لكنها مليئة بالتفهم، قال:
"وقع عليه جدار من الدور الثالث، القضية مفتوحة ما تخافيش. حق جوزك هيرجع. يلا اتفضلي معانا."
كان يحاول أن يخفف من حدة الألم الذي يعرف أنه لا يمكن التخفيف منه.
ركبت صفية وابنتها السيارة مع الشرطة، توجهتا للمستشفى. عند وصولهما، لاحظت صفية أهل زوجها الذين سبقوها إلى هناك، كانوا في انتظارها، يعلمون أنها من ستستلم الجثمان.
استلمت صفية الجثة بصمت مطبق، وكأنها تحمل في يديها ثقل العالم.
تم الصلاة على الجنازة في صلاة الفجر، ثم الدفن. كانت تشعر وكأنها تعيش في كابوس لا ينتهي، كل لحظة كانت تثقل عليها كأنها ألف عام.
في الأيام الثلاثة التالية، كانت صفية تجلس مع ابنتها في البيت الصغير الذي يعيشون فيه، وكانت نساء القرية يأتين لتقديم واجب العزاء. كان الحزن يلف المكان كغيمة سوداء، لكن صفية كانت تحاول التماسك من أجل ابنتها.
لكن إيمان التى كانت منهارة، لم تخرج من غرفتها، وظلت مدة ثلاث أيام.
تدخل صفيه غرفة ابنتها، وبنبرة حزينه على حال ابنتها، وما حل بهم تقول:
"قومي يا ضنايا "
ترفع إيمان رأسها وتنطق بحزن:
"اعمل اي يا ماما، خلاص بابا راح. هنعمل اي من بعده"
في اللحظة التي نطقت فيها إيمان بتلك الكلمات، كان صوتها يحمل وزنًا ثقيلاً من الحزن والعجز، كما لو كانت تسحب نفسها من بئر عميقة لا نهاية له.
جلست صفية بجوار ابنتها على الفراش، تشعر بألم قلب ابنتها الذي ينعكس في عيونها الدامعة. كل كلمة تنطق بها صفية كانت مملوءة بمحاولة بائسة لاحتضان ابنتها داخل دفء الأمل، لكنها كانت تعلم أن قلب إيمان مثقل بفقدان والدها.
صفية بحنان الأم وألمها:
"ربك موجود يا بنتي... يلا قومي."
كانت كلماتها ناعمة، تحمل في طياتها مزيجًا من القوة والعجز في آن واحد.
كانت يدها التي أزاحت شعر إيمان عن وجهها مليئة بالحنان الذي لم يفارقها أبدًا، حتى في أصعب اللحظات.
لكن إيمان، تلك الفتاة التي أضحت تحمل همومًا أكبر من عمرها، دفعت يد أمها عنها برفق وهي تقول بصوت متهدج بين شهقاتها المتقطعة:
"سبيني والنبي يا ماما... مش عاوزه أكل ولا أشرب... عاوزه بابا بس."
كل كلمة كانت كالسكين تغرز في قلب الأم، التي كانت ترى في عيون ابنتها صدى آلامها.
صفية بمحاولة للتشجيع: "أبوكي عند اللي أحسن مني ومنك... وأحن عليه من الدنيا اللي قاسية علينا دي."
حاولت صفية أن تجد في تلك الكلمات قوة لترفع من معنويات ابنتها، لكن ابتسامتها الهادئة لم تكن كافية لمحو الألم من قلب إيمان.
صفية بلمحة من الأمل:
"يلا قومي يا دكتورة... لسه عندك امتحان بكره... ولا مش عاوزه تحققي حلم أبوكي... وتشمتي فينا اعمامك."
كانت هذه الكلمات بمثابة الشرارة التي حاولت صفية أن تشعل بها روح العزم في قلب ابنتها.
لكن إيمان لم تستطع إلا أن تهز رأسها ببطء، وقالت بصوت مبحوح:
"ما ليش نفس أمسك كتاب."
صفية بتحدٍ مستميت:
"لا، قومي... صلي وادعي ربنا كدا... كل لما تمسكيه تفتكري دا حلمه... لازم تحقيقيه واوعي تتنازلي عنه."
كان صوت صفية مليئًا بالإصرار، وكأنها تحاول بث روح المقاومة في قلب ابنتها.
لكن إيمان، ما زالت تتساءل بقلق:
"وهنعمل ايه في المصاريف؟"
صفية بإيمان عميق:
"ربك هيدبرها... وهو القضية بيقولوا فيها تعويض... قرشين يا بنتي... ربنا على الظالم."
شعرت إيمان ببعض الراحة، لكن فكرة أن تأخذ تعويضًا عن والدها لم تكن شيئًا يمكنها أن تقبله بسهولة.
"هنأخد تعويض عن أبوي؟" سألتها وهي تحاول كبح دموعها.
صفية بحكمة وألم:
"والله لو عليا، ما قبلته ولا اتنازل... بس اعمل ايه؟ جدتك الله يسامحها اتنازلت هي واعمامك عن القضية وقبلوه... والرجال قالوا أنا اللي هستلمه... واهو قرشين أمنك بيهم وعلمك... 50 ألف جنيه... هيساعدوا نعمل مشروع صغير يصرف علينا والباقي أعلمك بيهم."
كانت كلماتها مليئة بالحسرة على قرار لم يكن بيدها تغييره.
إيمان بشعور مختلط بين العجز والغضب:
"وهما هيسكتوا؟"
سألتها بتردد، تشعر بمرارة الظلم.
صفية بتحدٍ وعزم:
"والله، على ما فخليهم يركبوه... لو انتي هتتنازلي عن حلم أبوكي، أنا مش هتنازل عن حقه... وأخدهم واطلع بيهم عمرة... أنا وانتي... وكدا يبقى انتي اللي حكمتي على نفسك تتجوزي وخلاص."
إيمان بإصرار مفاجئ:
"أنا مش هتنازل."
نطقت بهذه الكلمات وهي تمسح دموعها بقوة، تشعر بأن العزيمة بدأت تتسلل إلى قلبها.
صفية بتأكيد وثبات:
"يبقى تقومي، وإوعي حد يحاول يكسرك... يلا، إحنا صحيح ضهرنا مات، بس ربك موجود."
كانت هذه الكلمات بمثابة النور الذي بدأ يضيء طريق إيمان المظلم.
قامت إيمان بعد تلك الكلمات المشجعة، توضأت وصلت، وهي تدعو الله بدموعها أن يرحم أباها ويساعدها في تحقيق حلمه.
كانت مشاعرها متناقضة بين الحزن والأمل، بين الفقدان والعزم.
جلست بجوار أمها، تمسك بكتابها، وتحاول أن تذاكر، لكن دموعها كانت تغرق الصفحات. كل حرف كانت تدرسه كان يحمل في طياته ذكرى لوالدها، وكان هذا الألم دافعًا لها للمضي قدمًا.
صفية بحنان الأم ودعواتها، مسحت دموع ابنتها، وضعت يدها على رأسها، وظلت تدعو الله بأن يمدها بالقوة والصبر. حتى عندما غفت إيمان على قدمها، كانت صفية تشعر بأنها بحاجة لمزيد من الصبر والإيمان لتحمل هذه الأيام الصعبة.
كانت لحظة من السكون تعم الغرفة، لكن قلوبهم كانت تعج بالألم والعزم على التمسك بالحياة، رغم كل ما فقدوه.
في صباح اليوم التالي، استيقظت إيمان على صوت أمها، صفية، وهي تناديها بلهجة قلقة ومتشبثة. كان يبرز من صوتها قلق الأم وحبها العميق، وهي تخشى أن تتأخر ابنتها على امتحانها الهام. لم يكن هناك وقت للكسل، وها هي إيمان تنهض مسرعة، تتوضأ، وتستعد بسرعة.
بينما كانت صفية تعد الطعام، نادت على إيمان:
"يلا يا إيمان هتتأخري."
أجابت إيمان بسرعة، وهي تحاول إنهاء آخر التحضيرات:
"حاضر خلصت اهوه."
خرجت إيمان من غرفتها، وتوجهت نحو الباب وهي تحادث أمها بتجاعيد القلق على وجهها:
"يلا أنا راحة."
ردت صفية، محذرة بصوت ملئ بالحرص:
"اقعدي افطري الأول، وبعدين روحي، وما تنسيش دا حلم أبوكي، وبلاش تسمعي لحد، ولا ليكي دعوة بالناس مفهوم؟"
أجابت إيمان بلهجة توحي بأنها تستوعب نصائح أمها، ولكنها متلهفة للذهاب:
"حاضر."
صوت صفية، الذي كان يتخلله الإلحاح، ازداد حدة:
"يلا اقعدي."
جلست إيمان بسرعة لتناول الإفطار، وهي تهم بالخروج. وكان دعاء أمها لها بالنجاح يملأ المكان بالدفء والأمل.
لم تبتعد إيمان عن المنزل إلا قليلاً، حتى اعترض طريقها شاب ذو جسد ضخم ونبرة غليظة مملوءة بالسخرية. كانت عينيه مليئتين بالاستفزاز:
"ألا الحلوة راح فين؟"
أجابت إيمان بغضب متزايد، موجهة له نظرات حادة:
"وانت مالك؟ ابعد عن طريقي."
عقب ذلك، أمسكها الشاب من شعرها بقوة، محاولاً إهانتها:
"لا يا روح أمك، مش أنا اللي تقولي كده. يلا انجري على البيت، مافيش مدرسة. يلا."
صرخت إيمان، وهي تشعر بالخوف والألم، محاولاً التخلص من قبضته:
"ابعد عني يا حيوان، سيب شعري! آه يا ماما!"
فزعت من صراخ ابنتها إيمان، فركضت نحوها، سحبتها من يد الشاب، وصاحت في وجهه بلهجة ملؤها الغضب والحماية:
"انت مين عشان تضرب بنتي؟"
رد ابن العم، مصمماً على موقفه، واثقاً من نفسه:
"أنا ابن عمها، وهكون جوزها، ومش هتخرج بره البيت تاني، ويلا انتا وهي على جوه."
صفية، معبرة عن غضبها واستنكارها، صاحت بشدة:
"ابعد عن طريق بنتي! وجواز إيه يا أبو جواز؟ أبوها قبل كده رفضك. انت مش شايف نفسك يا طور؟ دا فرق السن اللي بينك وبنها، لو كنت خلفت، كان زمانك عندك قدها، بس نقول إيه؟"
رد ابن العم بتحدي وسخرية، محاولاً إظهار نفسه القوي:
"قولي، يا مرات عمي، أغلطي، وأنا عاوزك تغلطي، علشان لما أوقفك عند حدك، ما حدش يلومني."
اقترب شيخ القرية، الشيخ حسين، مخاطباً ابن العم بلهجة تتسم بالحكمة والصرامة:
"خير،يا داغر يا ابني. عيب اللي بيحصل دا. عمك لسه مات من أيام، وانت بتأكل في لحمه."
رد داغر بتهكم، مشيراً إلى الوضع:
"أنت مش شايف يا شيخ حسين؟ بنته خارجة وقالت إنها رايحة المدرسة، وأبوها ميت من ثلاث أيام، عالم مش مكسوبة من نفسها. نتكسف إحنا ليها."
تدخل الشيخ حسين بلهجة أكثر حدة، محاولاً حل المشكلة:
"حقها يا ابني. وبعدين، النهارده آخر يوم في الامتحانات. سبها يا ابني، ربنا يهديك."
داغر، محبطاً، ختم حديثه بلهجة قاطعة، ثم تركهم:
"علشانك انت بس يا شيخنا، بس قدامك اهوه. ما فيش مدارس تاني، خلصت على كده. أمين."
ترك الشيخ حسين قائلاً بتمني:
"ربنا يهديك يا ابني."
ثم توجه إلى إيمان، قائلاً بلطف:
"يلا يا بنتي روحي."
ردت إيمان، وهي تشعر بالغضب والحزن:
"ربنا يخده."
قال الشيخ حسين، محاولاً تهدئة الأوضاع:
"عيب يا إيمان، دا انتا يا بنتي ما يطلعش منك العيبة. يلا، ربنا يهديكي."
ردت إيمان بتمرد، مصممة على استكمال تعليمها، رغم التهديدات:
"انت مش شايف يا شيخ عميلة، وأنا هكمل تعليمي ومش هسمع كلامه."
قالت صفية، محذرة وفي نفس الوقت عازمة على تحقيق حلم زوجها الراحل:
"ايوه يا شيخ، كلامك على عيني ورأسي، بس بنتي هتكمل لحد لما تحقق حلم أبوها."
الشيخ حسين، متفهماً الوضع، وعد بحل المشكلة:
"هتكلم معاهم يا أم إيمان، وإن شاء الله نلاقي حل."
قالت صفية، وهي تدفع إيمان للرحيل:
"يلا انتي يا إيمان هتتأخري."
تجري إيمان وتذهب للمدرسة ،
وتدخل بعد توزيع الورق، تتأسف المراقبة وهي تبكي علي التأخير، تسمح لها وتعطيها الورقه ، وتبدأ بالحل، يمر الوقت سريعا، وتنتهي من الامتحان وتعود إلي بيتها.
... تمر الأيام، وتنتهي من
الامتحانات،تجلس في غرفتها وهي تشعر بالقلق مصاحب باستغراب.
فبتعاد ابن عمها عنها بهذه السهولة لم يرح بالها، اتجهت إلى أمها الجالسة بغرفتها، استأذنت ودخلت.
عند دخولها، تركت أمها ما بيدها، وقالت وهي تشير لها بالجلوس بجانبها
"تعالي يا بنتي"
تجلس بجانبها على الفراش وتنطق بقلق
"خايفة اوي يا ماما"
ارتعبت صفيه ونطقت بخوف:
"من اي حبيبتي"
تنهدت إيمان بقوه ثم أجابتها:
"يعني جدتي و أعمالي، من أخر مره داغر وقفني بعد وفاة بابا، وهما سكتين، دا مش من طبعهم"
اعتدلت صفيه مره اخرى على الفراش وهي تجيبها بنبرة غاضبه تملؤها الكره:
"ربنا يريحنا منهم، دول عالم سم، وانتي بتفكري فيهم ليه"
إيمان بخوف أجابت:
"يعني مش غريبه يا ماما، بقالهم اربع شهور على الحال دا، ودلوقتي انا قدمت في ثانوي، وهما عرفوا مش غريبه دي كمان، إن ما حدش ادخل"
ابتسمت صفيه بسخرية على طيبة ابنتها وقالت:
"لاء يابنتي، علشان هما المهم عندهم الفلوس"
إيمان بتذكار:
"ايوه صحيح هو الراجل جبهملك"
اجابت صفيه:
"ايوه بس أنا رفضت، وقولت له يصرف عليكى وعلى علامك الاول، وبعد لما تدخلي الكليه يدفع الفلوس،والراجل كتر خيره وافق، وقالي كل المصاريف عليه، ولما تدخلي الكليه هيكون المبلغ زي ما هو ما ينقص منه شئ بالعكس هيزيد"
إيمان باستغراب:
"ازاي يعني، اومال هيصرف عليا من فين"
رد صفيه بحيره تسكن قلبها:
"سألته، قالي دا بره الموضوع، وكمان هيزودهم، وهيكونوا 100الف جنيه"
إيمان بسعادة:
"ايه"
اكملت صفيه حديثها بهدوء
"فأنا خلتهم باسمك، ومش هتخديهم غير لما تدخلي الكليه ودا شرطي عليه. علشان كدا بقولك، ما تستغربيش منهم، لازم تدخلي، ولا مش هيطولوا قرش، عرفتي ليه هما بعدوا عننا"
إيمان بكره:
"ايوه يا ماما عرفت، دول تعبانين، وأنا اللي فكرتهم قلبهم حن عليا"
صفيه بسخرية:
"دول عندهم قلب، دول منشار فلوس، يبيعوا دمهم علشان القرش.يلا سيبك منهم، وركزي في مستقبلك، أنا كلمت المدرسين هنا هتروحي الدروس، وفلوسهم هتوصلهم أول كل شهر،الراجل بردوا، عامل لينا مصروف شهري5ألاف جنيه"
إيمان بالإرتياح:
"كويس اوي"
نطقت صفيه بسعادة من اجل ابنتها:
"يلا المهم تتعلمي يا دكتوره"
تخرج وتتجه لغرفتها تذاكر حتي تنهي، وينتهي اليوم أيضاً.
تمر الأيام ويليها الشهور والحال كما هو عليه. حتي تنتهي من عامها التاني الثانوي،
تنتظر النتيجة هي وامها بفارغ الصبر، ظهرت و تأهلت للصف الثالث، كانت تغني وترقص لكن أمها تبتسم فقد ولم تقدر على القيام.لاحظت ذلك اقتربت منها وهي تردف بقلق
"مالك يا ماما، فيكي اي"
لم تستطع الرد عليها،تتألم وتخفي ذلك لكن لم تصمد طويلاً وصرخت بقوه،و تمسك بجانبها الأيمن.
تبكي إيمان بخوف عليها،
تجري للخارج وتنادي على الجيران والشيخ حسين،
الذي خرج واتجه إليها بسرعه، وطلب من ابنه زيدان الاتصال بالاسعاف.
انصاغ لطلب أبيه فورا واتجه إليه. وأخذوا صفيه للمستشفى.
دخلت غرفة العمليات. وبعد ساعه خرج الطبيب وهو يقول:
"حالتها صعبه الكلي تعبانه، فيها ورم واتم استئصالها"
صاحت إيمان بصدمه:
"اي، ليه، دي أول مره تشتكي منها"
الدكتور مراد بهدوء وخبث:
"لاء واضح انها تعبانه من فتره كبيره، الكلي مدمره"
طالعت الطبيب بصدمه ونظرت للشيخ برجاء وتحدثه بنبره بيطيئه مصاحبه بصراخ
"لا يا شيخ، والله عمرها ما أخدت علاج، غير لتعب عادي، برد وكدا، عمرها ما اشتكت من جنبها ولا اي حاجه،امي حصلها اي"
الدكتور مراد بتوتر:
"قولتلك، إنها مدمره، ولو كنت سبتها كانت هتموت، كلها ساعه وهتفوق، عن اذنكوا"
هرول بعدها لمكتبه وهو يمسح حبات العرق من التوتر.
دخل عليه مساعده ذراعه اليمين.
"اقعد يا يحيي"
تكلم يحيي باستغراب من حالته المغزيه:
"في اي بره، البنت دي، لو فضلت تقول كدا، هتلفت النظر لينا"
الدكتور مراد بضيق واضح:
"اطمن دي عيله صغيره، ومن الصدمه بس، لازم تخرج وتتكلم مع الشيخ اللي بره، وتشرح له حالتها وتهول الموضوع، مش عاوز حد يشك في حاجة"
دكتور يحيى بمكر:
"اطمن يعني دي اول مره"
الدكتور مراد ابتسم بخبث مع غمزه عين:
"يلا روح"
يخرج يحيى ثم يتجه إليهم و يحدثهم عن حالت امها
يظل الدكتور مراد في غرفته، يلعب بالقلم بأصابعه وهو يفكر في الحاله، وكيف يبقيها في المستشفى، لكي يأخذ منها ما يريد، فهي مطابقه للمواصفات التي يريدها، ويجب الا تضيع من يده.
لكن ابنتها هى العائق، فلابد من تعب الام المتواصل لكي تاتي بها لهنا. فاق من تفكيره على رنين الهاتف، رفع وتحدث وهو يجاوب على سيده ويقول له خطته،ثم يغلقه، ويخرج لإيمان والشيخ.
يقف ويتكلم بغموض وكلمات تهول الموضوع، أرعبت إيمان على امها،تشبكت بالشيخ، وهي تبكي بقوه غير مصدقه لما يحدث:
"ازاي دا حصل، دي كانت كويسه، كل التعب دا فيها وما مش دريانه بيها، ازاى"
بدأ الشيخ حسين حديثه بحزن مكتوم، صوته هادئ لكنه مشبع بالهموم، وكأن كل كلمة تخرج من فمه تحمل ثقل ما يخفيه قلبه:
"اهدي يا بنتي، ووحدي الله. كل ما يصيبنا هو مما كتبه الله لنا، ادعيلها، وربنا هيشفيها."
إيمان رفعت يديها للسماء باندفاع، وكأنها ترفع معهما كل آلامها وأوجاعها، عيناها تفيض بالدعاء الصادق:
"يا رب..."
الشيخ حسين التفت نحوها، وعيناه تحملان حزناً عميقاً، لكنها اختبأت خلف هدوء ظاهر:
"يلا على البيت، الدكتور قال ممنوع حد يفضل هنا."
صرخت إيمان بقوة، صوتها ممزوج بالخوف والعجز، وكأنها ترفض الانصياع للواقع المؤلم:
"لا، مش هسيب أمي!"
حاول الشيخ تهدئتها، صوته الناعم كان كالنسيم الذي يحاول عبثاً تهدئة عاصفة مشاعرها:
"يا بنتي، قعادك هنا مش هيعمل حاجة، يلا."
استسلمت لرغبة الشيخ حسين على مضض، لتعود معه إلى البيت، لكن روحها بقيت عالقة في الغرفة التي ترقد فيها والدتها.
دخلت غرفتها، أغلقت الباب عليها، لتترك العنان لدموعها التي انهمرت بلا توقف حتى بزوغ الفجر.
عند الصباح، اندفعت إيمان نحو المستشفى، قلبها يسبح بين الرجاء والخوف. جلست بجانب والدتها التي بدأت تستعيد وعيها ببطء. صفيه فتحت عينيها بصعوبة، وأخرجت كلماتها المتعبة:
"إيمان... إيه اللي حصل لي يا بنتي؟"
ابتلعت إيمان دموعها بصعوبة، وحاولت إخفاء ألمها، ناطقة بكلمات مليئة بالحنان والطمأنينة:
"اطمني يا ماما، الدكتور قال إنك هتكوني كويسة، الكلى تعبت واطروا يشيلوها."
تنهدت صفية بإيمان ورضا:
"لا حول ولا قوة إلا بالله... أنا هخرج امتى من هنا؟"
ارتعشت إيمان بين الخوف والحزن وهي ترد:
"بيقول مش أقل من أسبوعين، لما تتحسني شويه."
نظرت صفية لابنتها بقلق يملأ عينيها وسألتها بصوت مليء بالحنان:
"وانتي هتعملي إيه؟"
ردت إيمان بحزن:
"هقعد معاكي."
لكن صفية رفضت بقوة، خوفها على ابنتها يفوق خوفها على نفسها:
"لاء حبيبتي، روحي البيت، و عاوزاكي تركزي كويس السنادي مهمه أوي، فهمه، دا حلم أبوكي حقيقة، حلمي أنا كمان"
همست إيمان وكأنها تحاول تغيير الموضوع:
"الراجل جه ودفع فلوس العملية."
أجابت صفية ببساطة:
"كتر خيره."
ابتعدت إيمان قليلاً وقالت بقلق:
"أنادي للدكتور، شكلك تعبانه."
ردت صفية وهي تغمض عينيها:
"لا، أنا هنام. روحي انتي دروسك يلا، ولما تخلصي تعالي."
تركت إيمان والدتها لتذهب، لكن قلبها بقي مرتبطاً بها.
مع مرور الأيام، استمرت إيمان في روتينها المضني؛ تذهب إلى المستشفى كل صباح لتجلس بجانب أمها صفية، تتبادل معها الكلمات القليلة التي تسمح بها حالتها الصحية، بينما تحاول إخفاء قلقها وحزنها خلف ابتسامات صغيرة، ثم تسرع إلى دروسها وهي تحمل على عاتقها ثقل همين، أحدهما أكاديمي والآخر عاطفي.
ورغم ذلك، كانت تعود كل مساء لتنام بجانب والدتها، وكأن وجودها بجوارها هو الملاذ الوحيد الذي يهدئ روع قلبها.