تكملية (دقهلية "" "وسيناوي)
كانت دقهلية تغفو في هدوء، متعبة من يوم طويل من الحفظ والمذاكرة، تفيق عندما سمعت صوت الشيخ سيد، ينادي عليها بلطف. فتحت عينيها ببطء، شعرت بالراحة حينما تذكرت أنه قد حان وقت تسميع وردها.
ابتسم بفرحه،فهي دائماً تتذكر وعدها لشيخ حسان.
نهضت من مكانها واتجهت إليه، تسير بخطوات ثابتة. كان هناك صف من الطلاب، ولم يتبقَ سوى ثلاثة منهم، بما فيهم هي.
شعرت بنبضات قلبها تتسارع قليلاً، ليس خوفاً، بل رغبة في إثبات نفسها أمام الشيخ الذي أثرت كلماته في روحها بعمق.
عندما جاء دورها، جلست أمام الشيخ، متماسكة وواثقة، وبدأت تسمع وردها بصوت مملوء بالتحدي والإصرار. كان في عينيها بريق خاص وهي تقرأ، وكأن كل كلمة تحفظها تعني لها شيئًا عظيمًا.
انتهت من وردها، وانتقلت إلى زميلها محمد، الذي كان دائمًا يكمل لها تسميع ما فات.
محمدكان ينظر إليها نظرة مليئة بالدهشة، مستغرباً من التحول الذي طرأ عليها. أخيرًا، سألها بنبرة مشوبة بالاستفهام والفضول:
"هتصحي ايه النهارده؟ صفحة واحدة؟"
شعرت دقهلية بشيء من الفخر يملأ قلبها، لكنها حاولت إخفاءه بنبرة عادية، وقالت بثقة:
"لاء، السورة كلها."
اتسعت عينا محمد بدهشة، لم يكن يتوقع هذه الإجابة، فهز رأسه قليلاً وكأنه يحاول استيعاب ما قالته للتو:
"السورة كبيرة، هتنسي بسرعة، وبعدين انتي بقالك أسبوعين من يوم شيخ سيناء كان هنا، وانتي بتحفظي. هو قالك إيه؟"
شعرت دقهلية بتغير في ملامحها، كأن شيئًا يخصها بشدة تم الاقتراب منه، وردت بنبرة دفاعية، لكنها مملوءة بالغموض:
"وانت مالك؟ وبعدين مش بحفظ وبسمع."
استمر محمد في النظر إليها، يحاول فك لغز التغير السريع الذي طرأ عليها:
"ايوه، ما انا مستغرب. انتي كنتي في الجزء التاني، سورتك القيامة، وفضلتي شهور فيها. وأول لما هو كلمك، تاني يوم أخدتيها كلها، وكل يوم بتصحي سورة كاملة، أو سورتين، والغريبة إنك بتحفظي."
نظرت دقهلية إلى الأرض للحظة، ثم رفعت رأسها بسرعة، وكأنها قد قررت ألا تخفي شعورها بالفخر:
"عادي، ما كنتش عاوزة. ودلوقتي مهتمة أوي، وهختم القرآن. انت خايف لأسبقك مش كدا؟ يعني الفرق من أسبوعين كان كبير، أومال دلوقتي لاء، أربع أجزاء بس."
نظر محمد إليها بنوع من التحدي، لكن بداخل هذا التحدي كان هناك اعتراف بأنه يشعر بشيء من الفخر بها، وربما أيضًا غيرة طفيفة:
"طب ياختي، خدي السورة كلها."
ابتسمت دقهلية بخفة، كانت تلك الابتسامة تفيض بالثقة والتحدي:
"أيوه."
أخذ محمد نفسًا عميقًا، ثم نظر إليها بنظرة تشير إلى أنه يدرك الآن أنها تغيرت حقًا، وقال بنبرة أكثر جدية:
"طب اقرئي."
بدأت دقهلية تقرأ بصوت هادئ لكنه مليء بالإصرار، وكأنها تؤكد لنفسها قبل الآخرين أنها قادرة على فعل ما ظنته يومًا مستحيلاً:
"بسم الله الرحمن الرحيم
حمٓ ( 1 ) وَٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَٰرَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ( 3 ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 5 ) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ( 6 ) رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ( 7 ) لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلْأَوَّلِينَ ( 8 ) بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ ( 9 ) فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ( 10 ) يَغْشَى ٱلنَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 11 ) رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ( 12 ) أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ( 13 ) ثُمَّ تَوَلَّوْا۟ عَنْهُ وَقَالُوا۟ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ( 14 ) إِنَّا كَاشِفُوا۟ ٱلْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ ( 15 ) يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰٓ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ( 16 ) ۞ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( 17 ) أَنْ أَدُّوٓا۟ إِلَىَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ۖ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( 18 )
ظلت دقهلية تقرأ بصوت هادئ ومسترسل، غارقة في بحر من السكينة، بينما محمد يصحح لها الأخطاء الصغيرة التي تتسلل أحيانًا في تلاوتها. كانت تعيد الآيات مرارًا حتى تتقنها تمامًا. وعندما انتهت أخيرًا من السورة، همست بصوت مملوء بالتقوى والخشوع:
"صدق الله العظيم."
ابتسم محمد برضا واضح على وجهه، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم قال بنبرة مازحة لكنها مليئة بالفخر:
"كويس كده خلصتي."
لم ترد دقهلية، بل اكتفت بابتسامة صغيرة، كانت تشعر برضى داخلي يعمق في قلبها، كأنها قطعت خطوة أخرى نحو تحقيق ما كانت تراه يومًا مستحيلًا. نهضت من مكانها، واتجهت نحو الخارج، متجهة إلى بيتها بخطوات واثقة وثابتة.
خلال الفترة التالية، ظلت دقهلية على هذا الحال، تسهر الليالي وهي مجتهدة في المذاكرة وحفظ القرآن، حتى أنها كانت تتأمل الآيات بتدبر، محاولة أن تفهم المعاني العميقة التي تحملها كل كلمة. كانت تسعى بجد لملء قلبها بالقرآن، وكأنها تبحث عن نور يهديها في ظلمات الحياة.
مع انتهاء الامتحانات، بدأت منال، والدة دقهلية، تلاحظ التغيير الجذري الذي طرأ على ابنتها.
كانت تراقبها بصمت وهي تتحول من تلك الفتاة الهادئة المترددة إلى شابة مفعمة بالثقة والإصرار. لم يكن التغيير يقتصر على الهدوء والكلام المتزن، بل تعداه ليشمل اهتمام دقهلية الكبير بالقرآن، شيء كان يبهر منال ويثير فيها شعورًا عميقًا بالفخر.
كان الشيخ سيد يتصل بمنال مرارًا، يمدح في ابنتها التي أصبحت نموذجًا يحتذى به بين طلابه.
أخبرها بأن دقهلية تفوقت بشكل ملحوظ على جميع زملائها، وأنها إذا استمرت على هذا النهج، فسوف تتمكن من المشاركة في المسابقة القرآنية الكبرى في القاهرة.
كانت كلمات الشيخ تملأ قلب منال بالسعادة، ولكنها كانت تعلم أن الفضل يعود في ذلك إلى إصرار ابنتها وصبرها.
في يوم من الأيام، دخلت منال على دقهلية في غرفتها، كانت دقهلية منهمكة في حفظ القرآن، تردد الآيات بصوت منخفض، تحاول أن تراجع ما حفظته.
وقفت منال على عتبة الباب، تراقب ابنتها بصمت، تملؤها السعادة والاعتزاز.
كانت الابتسامة تعلو وجه منال، شعرت بدمعة صغيرة تترقرق في عينيها، دمعة الفخر بابنتها التي بدأت تجد طريقها نحو النور.
تركت منال ابنتها تكمل حفظها دون أن تقاطعها، ثم انسحبت بهدوء من الغرفة، وهي تحمل في قلبها دعاءً صادقًا بأن يوفق الله دقهلية ويثبتها على طريق الحق.
مرّت الأيام حتى ظهرت النتيجة، وعمّ الفرح أرجاء البيت. العائلة كلها تجمعت لتهنئة دقهلية وأخيها، إذ أصبح حلمها أقرب للتحقق. شعرت دقهلية بأن هذا هو الوقت الذي عليها أن تعد العزم فيه لبدء أول خطوة في تحقيق حلمها. كانت في قمة سعادتها عندما رافقها والدها لتقديم ملفها في الثانوية. استمرت في حفظ القرآن والتفوق في دراستها، لكن موعد المسابقة كان يقترب، وكانت تعلم أن هذا هو التحدي الأكبر.
مع اقتراب موعد المسابقة، بدأت تظهر المخاوف لدى والدها، الذي رفض في البداية سفرها. شعرت دقهلية بالخيبة وهي ترى أحلامها مهددة، لكن الشيخ'سيد'تدخل، وبدأ بمحاولة إقناع والدها. حتى الأهل وقفوا بجانبها، وخاصة خالاتها اللواتي لم يتوانين عن دعمها. لكن الدور الأكبر كان لوالدتها منال، التي أظهرت إصرارًا شديدًا على إقناع والدها. لولاها، لم يكن ليوافق. بدأ قلب دقهلية ينبض بالحماس، إذ شعرت بأنها تقترب من تحقيق حلمها الكبير.
كانت تعد نفسها للسفر عند الفجر مع باقي زملائها. عاشت كل لحظة بحماس وقلق، وتخيلت نفسها في المسابقة، وهي تنافس وتثبت قدرتها. فبعد عودتها من المسابقة، العائلة تستعد لحفل كبير يقام لها و لزميلها محمد ولصديقتها ماجدة، احتفالًا بختمهم للقرآن الكريم. لم تكن دقهلية تصدق نفسها؛ فقد أوفت بوعدها، وخلال شهور قليلة حفظت القرآن كاملاً.
ذلك اليوم كان أسعد يوم في حياتها. ليس لأنها ستسافر إلى المسابقة فحسب، بل لأنها ستلتقي سيناوي، التي لم تعرفها من قبل، إلا من خلال حديث الشيخ حسان عنها. كان حماس دقهلية يتضاعف كلما فكرت في هذه المقابلة. وقبل الفجر بقليل، أوصلها والدها إلى المكتب حيث كان عليها أن تنطلق مع زملائها إلى القاهرة.
كانت السعادة تغمرها طوال الطريق. لم تفارق الابتسامة وجهها، وكانت تغمض عينيها بين الحين والآخر لتستمتع بشعور الحرية، وكأنها تتنفس أحلامها وهي تتحقق. عندما وصلوا إلى مسجد الأزهر، شعرت بذهول. كانت تشعر وكأنها خرجت أخيرًا إلى عالم جديد، عالم من الفرص والإنجازات.
عندما نزلت من الحافلة، شعرت بأنها تخرج من شرنقتها إلى نور الحياة. كانت تدور حول نفسها، تفتح ذراعيها وكأنها تستقبل هذا العالم الجديد بابتسامة عريضة. تنفست بعمق وابتسمت، وشعرت بأن السعادة تغمر قلبها.
رغم حماسها، كانت تشعر ببعض القلق وهي تبحث بعينيها عن الشيخ حسان بين الحضور. لكنها لم تجده. جلست بجانب زملائها، ووضعت يدها على خدها، والدموع تترقرق في عينيها. لم تكن تعرف إن كانت دموع الحزن أم الفرح، لكن ما كانت تعرفه هو أنها قطعت شوطًا كبيرًا في حياتها، وأنها قريبة من تحقيق حلمها.
بعد فترة، رأت بائع غزل البنات يمر، فاستأذنت من المسؤول عنها أن تذهب لشرائه، لكنه رفض بشدة. جلست بحزن وهي تنظر إلى البائع يبتعد. لكن عندما انشغل المسؤول عنها بالحديث مع الآخرين، لم تستطع مقاومة الرغبة، فانطلقت هي وزميلتها هاجر للحاق بالبائع. شعرت بالمرح والطفولة تعود إليها للحظة، وركضتا حتى تمكنتا من اللحاق بالبائع وشراء ما أرادتاه.
كانت تسير مع هاجر حتى صادفت فتاة سمراء تمر بجانبها. كان جمال الفتاة يلفت الأنظار، فوقفوا ينظرون إليها بدهشة. همسوا لبعضهم حول جمال الفتاة وعينيها الساحرتين. لكن عندما حاولوا العودة إلى المسجد، اكتشفوا أنهم أضاعوا الطريق. بدأ الخوف يتسلل إلى قلوبهم، وبكت الفتاة السمراء معهم.
دقهلية، بحيرة القلق تملأ صوتها، قالت:
"إنتي ضايعة إنتي كمان؟"
ردت الفتاة السمراء بحزن وارتباك:
"آه، دي أول مرة أجي القاهرة ومش عارفة أرجع إزاي."
هاجر قالت بخوف:
"إحنا كمان أول مرة نيجي القاهرة."
سألتهم الفتاة السمراء بقلق:
"طب هنعمل إيه دلوقتي؟"
بدأت دقهلية تلتفت يمينًا ويسارًا بقلق، حتى رأت سيارة جيش قريبة. صاحت بفرح:
"في عربية جيش هناك! تعالوا."
توجهوا نحو السيارة، وسألت دقهلية الضابط عن طريق العودة إلى المسجد الأزهر. لكنه نظر إليهم بسخرية بسبب مظهرهم. ملابسهم كانت واسعة وغير مرتبة، وأياديهم كانت تحمل غزل البنات. أجابهم الضابط ببرود وسخرية:
"وإنتوا تايهين؟"
ردت هاجر بحزن:
"آه، مش عارفين نرجع."
ضحك الضابط بقوة وهو يشير إلى غزل البنات في أيديهم:
"أكيد مش هتعرفوا، ما إنتوا عيال، ودا اللي في إيدكم إيه؟!"
نظرت الفتيات إلى بعضهن بصمت، وشعرن بالخجل. لكن الضابط لم يتوقف عن الضحك حتى جاء قائده. سمع القائد حديث الضابط، فصاح فيه بغضب:
"إيه اللي بيحصل هنا؟!"
رد الضابط بتوتر:
"يا فندم، دول تايهين."
صاح القائد بغضب، وعيونه تلمع بالغضب:
"أنا بتكلم على كلامك معاهم، مش عليهم! دا أسلوب تتعامل بيه؟ لجأوا ليك عشان تساعدهم، ودورك إنك تحميهم، مش تتريق عليهم!"
خفض الضابط رأسه احترامًا واعتذر بصوت مليء بالندم:
"آسف يا فندم."
لم يعيره القائد أي اهتمام،ولم يقبل اعتذاره،نظره غاضبه اكتفى بها.ثم التفت للفتيات.ءغ
بينما كان القائد جاسر يسير بجوار الفتيات، لم تفارق الابتسامة وجهه، رغم أنه لاحظ الحزن والقلق المرتسم على ملامحهن. كان يتساءل عن سبب حزنهن ولكنه اختار أن يبادر بابتسامة هادئة، محاولًا تخفيف التوتر.
"انتوا عايزين إيه يا حلوين؟" قال بصوت ناعم وعينين مليئتين بالدفء.
نطقت الفتاة السمراء أولًا، مترددة بعض الشيء، لكن بملامح مليئة بالامتنان:
"عاوزين المسجد الأزهر."
ابتسم القائد بهدوء واستدار في اتجاههن، مشيرًا بيده نحو الطريق:
"يلا، وأنا هوصلكم. هو مش بعيد. رايحين تصلوا؟"
أجابت دقهليه بصوت مطمئن قليلاً، وقد هدأ القلق الذي كان يعتريها:
"احنا جاين المسابقة القرآن."
تملكت القائد مشاعر الفخر وهو ينظر إليهن نظرة احترام، ثم قال:
"بجد ربنا يحميكم. اسمكوا إيه بقى؟"
أجابته الفتيات في نفس الوقت وكأنهن متفقات مسبقاً:
"ياسمين."
اندهش قليلاً من تزامن ردهما وضحك في سره، ثم تابعت دقهليه بحماسة وهي تشير إلى سيناوي:
"سيناوي!"
ردت سيناوي بفرح أكبر وقد أضاءت عيناها بشعور خاص:
"إيه بجد، انتي دقهليه؟"
أجابت دقهليه بحماس مماثل:
"أيوه."
ردت سيناوي بفخر وهي تضحك:
"أنا سيناوي، حفيدة الشيخ حسان."
نظرت دقهليه إلى سيناوي بدهشة وقالت:
"احلفي!"
ابتسمت سيناوي وأضافت بحنان:
"أنا مبسوطة إني شوفتك."
دقهليه، وقد بدأت تفهم مدى خصوصية هذا اللقاء، سألتها بفضول:
"هو قالك على الإسم؟"
أجابتها سيناوي وهي تومئ برأسها بابتسامة واسعة:
"أيوه، فرحت بيه أوي. انتي توأمي، هو قال لي كده."
ابتسمت دقهليه وأخذتها بين ذراعيها بعاطفة جياشة، تحتضنها بشدة كأنها قد عثرت على نصفها الآخر المفقود.
كان القائد جاسر يراقب مشهد الفرح الذي امتلأ به الجو بين الفتيات، ورغم أنه لم يفهم سبب تلك السعادة الكبيرة أو الأسماء التي يتبادلنها، إلا أنه لم يستطع إخفاء فضوله. سألهم مازحًا:
"إيه حكاية سيناوي ودقهليه دي بقى؟"
أجابته الفتاتان مرة أخرى في نفس اللحظة، مما جعله يبتسم بشكل أوسع:
"أنا هقولك."
ضحك بصوت عالٍ وأردف قائلاً:
"طيب، واحدة واحدة. هتقولوا مع بعض إزاي؟"
ثم أضاف بابتسامة وهو يعرّف نفسه:
"أعرفكوا بنفسي الأول، أنا القائد جاسر."
ردت دقهليه بثقة:
"وأنا ياسمين."
نظر إلى هاجر، التي كانت صامتة طوال الوقت، وسأل:
"والقمر اسمه إيه؟"
أجابت بخجل:
"هاجر."
ابتسم لها القائد وقال:
"تمام، يلا معايا واسمع قصتكم في الطريق."
بينما كنّ يسردن قصصهن للقائد، كانت دقهليه تروي تفاصيل حياتها ثم تقاطعها سيناوي، ويستمر الحديث بينهن بطريقة عفوية، مليئة بالحيوية والبهجة. استمرت الرحلة وسط الضحكات والتعليقات الطريفة، حتى وجدوا أنفسهم قد وصلوا بسرعة.
عندما قالت دقهليه بنبرة حزينة:
"وصلنا."
رد عليها القائد جاسر بابتسامة مائلة وقال:
"فعلاً، الطريق خلص بسرعة أوي."
ثم أضاف بابتسامة جذابة:
"وبما إنكم وفيتوا بالوعد، أنا كمان هأوعدكم."
نظرت ياسمين بلهفة وسألت:
"بإيه؟"
ضحك القائد قائلاً:
"واحدة واحدة تتكلم، مش إنتوا الاتنين!"
ضحكوا جميعًا بصوت عالٍ، ثم قال مازحًا:
"ماشي يا عم! المهم، وعدي ليكم إنكم لما تدخلوا كلية طب، أنا هعلمكم الدفاع عن النفس. إيه رأيكم؟"
صاحوا بفرحة كبيرة:
"موافقين!"
قال القائد بنبرة محبة:
"يلا يا قردة، لما تخلصوا المسابقة تعالوا عليا تفرحوني ماشي؟"
ردت دقهليه بقلق:
"بس الشيخ مش هيوافق."
أجابها القائد بلهجة مطمئنة:
"خلاص، أنا اللي هاجي ليكم. يلا روحوا، في حد بيشاورلك يا دقهليه."
نظرت دقهليه ورأت الشيخ وقالت:
"أيوه، دا الشيخ. سلام يا قائد."
رد عليها بابتسامة ودية:
"سلام يا وردة الياسمين."
ابتسمت دقهليه وقالت وهي تشعر بسعادة غامرة:
"حلو الاسم ده."
أجابها بابتسامة دافئة:
"وأنا هناديكي بيه. يلا بسرعة روحي."
نظرت إليه دقهليه وقالت بجدية:
"هرجعلك تاني، وعد."
ابتسم القائد وقال وهو يلوّح لها:
"وأنا هستناكي."
بعد أن تهرولت نحو الشيخ، تغيرت الأجواء فجأة. كانت ملامح الشيخ غاضبة، عنفه بقوة وكاد أن يضربها هي وهاجر على تأخرهما وابتعادهما دون إذن.
في زاوية بعيدة عن الضجيج والأنظار، وقفت سيناوي بملامح قلقة، تجمع بين الاحترام والتوتر، بجوار القائد جاسر الذي لم يمضِ على معرفتهما سوى دقائق معدودة. كان الجو من حولهما هادئًا، فيما تنتظر ظهور جدها الشيخ حسان.
كلما مرت لحظة دون أن تراه، زاد نبض قلبها تسارعًا، كأن الخوف والقلق يتجسدان في دقات قلبها المضطربة.
وأخيرًا، بعد لحظات بدت وكأنها ساعات، ظهر الشيخ حسان. خطواته كانت واثقة، لكنه عندما اقترب منها، عانقت عيناه نظرات عتاب صارمة. وكأن عينيه كانتا تقولان كل شيء دون الحاجة إلى كلمات.
سيناوي لم تستطع مواجهة نظراته، فخفضت رأسها نحو الأرض ببطء، وكأنها تحمل على كتفيها ثقل الخطأ الذي ارتكبته. تساقطت دموعها بصمت، تمزج بين الندم والخوف، لتغرق وجهها الصغير الذي ارتسم عليه الحزن.
اقترب منها جدها بحنان غير متوقع، وصوته كان هادئًا لكنه مليء بالألم:
"زعلى منك خوف عليكي، لو ما كانش راجل كويس ما كنتوش هنا، وانتوا أول مرة تسافروا، وامانة في رقبتنا."
كانت كلماته كبلسمٍ على جرح قلبها. رفعت رأسها قليلاً وهي تشعر أن الجد، رغم عتابه، كان قلقًا عليها أكثر من أي شيء آخر.
القائد جاسر الذي كان يراقب هذا المشهد من بعيد، لم يستطع إلا أن يشعر بمزيج من الاحترام والتقدير للشيخ. بادر قائلاً بنبرة مليئة بالاحترام والاعتراف:
"عندك حق يا شيخ، وأنا قولت لهم كده، بس الشيخ اللي مع دقهليه كان بيعاملها بعنف جامد."
قالها وهو يشير نحو دقهليه التي كانت في مسافة غير بعيدة، متجمدة في مكانها تحت وطأة غضب شيخها.
نظر الشيخ حسان نحو دقهليه، ورأى دموعها وارتعاشها، فاشتعل قلبه بعاطفة جياشة:
"أنا هروح أكلمه، حبيت البنت دي أوي ويعز عليا دموعها، زي حفيدتي بالظبط."
ابتسم القائد جاسر بصدق، وعيناه تكشفان عن مشاعر أخوة غير متوقعة:
"وأنا والله شوفت فيها أختي وبنتي."
هز الشيخ حسان رأسه موافقًا، ثم استأذن قائلاً:
"راجع ليك يا ولدي، هروح أشوف دقهليه."
القائد جاسر نظر إليه بود وأجاب بأسف:
"آسف يا شيخ، عندي خدمة لازم أرجع لها. بس بعد المسابقة هكون هنا علشان أسلم عليكوا."
هز الشيخ حسان رأسه بتفهم:
"تمام يا ولدي، اسمك إيه؟"
ابتسم القائد وقال بفخر:
"جاسر، مقدم في الجيش."
ابتسم الشيخ حسان بدعاء من قلبه:
"مع السلامة يا ولدي، ربنا يحميك. ولينا كلام مع بعض كتير."
أجاب القائد وهو يلوح له بابتسامة ودية:
"أكيد، اتشرفت بمعرفتك. سلام، روح شوفها."
ثم ألقى القائد جاسر التحية الأخيرة قبل أن يختفي من المشهد، تاركًا وراءه أثرًا من الاحترام والطمأنينة في نفوس الجميع.
الشيخ حسان ألقى نظرة أخيرة على القائد جاسر قبل أن يلتفت نحو دقهليه، مصممًا على تهدئة الوضع وإعادة الابتسامة إلى وجه الفتاة التي أثرت في قلبه.
توجه الشيخ حسان نحو دقهليه وهاجر، اللتين كانتا تقفان متوترتين، والدموع تغمر وجوههما. لم تستطع دقهليه حبس دموعها بعد العنف الذي تعرضت له من شيخها، وشعرت أنها لم تعد قادرة على التنفس بسبب الخوف والحزن. كانت تحاول أن تبدو قوية، لكن قلبها كان ينهار.
وصل الشيخ حسان واقترب منهما بخطوات هادئة وواثقة، حاملاً معه إحساساً بالطمأنينة. بمجرد أن وصل إليهما، وضع يده بلطف على كتف دقهليه، التي لم تستطع منع نفسها من النظر إلى الأرض، وكأنها تتمنى أن تختفي.
قال بصوت مليء بالحزم والحنان في آنٍ واحد:
"ما تزعليش يا بنتي، أنا هنا، شيخيك اللي زعقلك بيعرف غلطك. أنتِ زي بنتي، وأنا مش هرضى حد يعاملك بالشكل ده."
رفعت دقهليه ببطء رأسها، وابتسمت ابتسامة حزينة، لكنها كانت ممتنة لكلماته. أما هاجر، فقد كانت تمسك بيدها بقوة، وكأنها تحاول نقل الأمان إليها.
اقترب الشيخ حسان من الشيخ سيد الذي كان واقفاً على مسافة، وقال له بحدة، لكن بصوت منخفض كي لا يجذب الأنظار:
"البنات دول أمانة في رقبتنا، وما يصحش نعاملهم بالشكل ده. هاتلي دقهليه وهاتلي هاجر، وهفهم هما ليه جايين هنا. بهدوء الغلط، عمر ما كان حله بالصوت العال والضرب. "
الشيخ سيد، الذي كان لا يزال غاضباً بعض الشيء، أومأ برأسه دون أن يتحدث. كانت ملامحه تدل على أنه أدرك خطأه، لكنه لم يكن يريد الاعتراف بذلك علناً.
عاد الشيخ حسان إلى الفتاتين وقال بصوت دافئ:
"يلا يا بنات، خلاص، الأمور اتصلحت. ادخلوا واتطمنوا، الشيخ مش هيزعق تاني."
ابتسمت دقهليه وهاجر له، وشعرتا بأن الأمور بدأت تتحسن، وأن الألم الذي شعرتا به بدأ يتلاشى ببطء.
أثناء مغادرتهن، التفتت دقهليه نحو الشيخ حسان وقالت له بصوت مرتعش لكنه مليء بالامتنان:
"شكراً يا جدي، وعد مني إني مش هخيب ظنك."
ابتسم الشيخ حسان وأجابها برقة:
"عارف يا بنتي، وأنا واثق فيكي."
ثم توجهت الفتاتان نحو وجهتهما، وقلوبهما مليئة بالطمأنينة والثقة، مستعدتين لمواجهة المسابقة، وهما تعلمان أن لديهما من يدعمهما ويحميهما.
كانت الشمس تسكب نورها على الأرض بحنان، كما لو أنها تهمس للسماء بلطف قبل أن تشتد وتصل إلى ذروتها. أشعتها تلامس الأفق برفق، تنساب فوق الحقول والطرقات، فتغمر العالم بضوء ذهبي ناعم يتسلل عبر الأشجار ويعانق المباني. كان الهواء يحمل دفء الشمس، ولكن دون أن يكون حارًا، وكأن الطبيعة بأسرها تستيقظ من سباتها الليلي على وقع هذا الضوء الذي ينمو تدريجيًا. السماء صافية، تمتد بصفاء أزرق عميق، وكأنها ساحة واسعة تنتظر ما سيأتي. في تلك اللحظات الهادئة في المسجد الأزهري الشامخ. تجمعت الفتيات في صفوف منظمة بجوار شيوخهن، استعدادًا لبداية المسابقة. سيناوي وقفت بجانب جدها، تتطلع بنظرات مليئة بالتفاؤل، بينما كان قلبها ينبض بحماس وثقة. إلى جوارها، كانت دقهليه تتنفس بعمق، متوترة بعض الشيء، لكنها تحاول الحفاظ على هدوئها.
عندما نظر إليها الشيخ حسان بعينين مليئتين بالثقة والحنان، شعرت بقليل من الراحة تتسرب إلى قلبها، رغم أن قلبها لم يتوقف عن الخفقان بسرعة.
بدأت المسابقة، وبدأت سيناوي تتلو القرآن بصوت هادئ ورخيم. كلماتها تملأ القاعة بسمفونية روحانية أذهلت الجميع، بينما كان جدها ينظر إليها بفخر لا يمكن إخفاؤه. انتهت سيناوي من تلاوتها بنجاح، وابتسامة الرضا على وجهها تشع كالشمس التي تشرق بعد ليلة طويلة.
جلست بجوار جدها تنتظر دور دقهليه، التي بدأت هي الأخرى في التلاوة. كانت الكلمات تنساب من فمها، تحمل معها كل توترها ورغبتها في النجاح.
مرت دقائق المسابقة وكأنها ساعات طويلة على دقهليه. عندما انتهت، جلست بجوار سيناوي، والتوتر يغادر جسدها شيئًا فشيئًا، لتحل محله الراحة والانتظار المشوب بالأمل.
بعد انتهاء المسابقة وإعلان النتائج، انفجرت الفتيات بالفرح عندما عرفن مراكزهما: سيناوي حازت على المركز الأول، بينما حصلت دقهليه على المركز الخامس. كانت الفتاتان تقفزان فرحًا، تمسك دقهليه بيد سيناوي بقوة، وكأنها لا تصدق ما حدث.
الركض في ساحات الأزهر، وأصوات ضحكاتهما المتداخلة، كان كأنهما عادتا طفلتين صغيرتين.
مرَّ الشيخ حسان عليهما بابتسامة مطمئنة، وتوجه نحو الشيخ الذي كان مع دقهليه ليطلب إذنه بأخذها في نزهة قصيرة مع حفيدته.
بعد موافقة الشيخ، قادهم الشيخ حسان إلى مكان خاص حيث كان القائد جاسر ينتظر. كان واقفًا هناك، يبدو عليه أنه ينتظر الفتاتين بفارغ الصبر. عندما رآهما، ابتسم ابتسامة عريضة وقال:
"أهلاً، ألف مبروك يا أبطال."
دقهليه ابتسمت بتواضع وقالت بخجل:
"شكراً يا قائد."
القائد جاسر، بروح الأبوة والأخوة التي غمرت حديثه:
"دا أقل واجب يا وردة الياسمين. يلا، انتي وهيا، سجلي رقمي."
نظرت دقهليه إلى الهاتف الجديد الذي أهداهما إياه القائد، ثم تساءلت بارتباك:
"بس هو مش فيه خط."
ضحك القائد جاسر قائلاً وهو يهز رأسه:
"لاء، فيه كل حاجة. وكمان رصيد. وعملت لكل واحدة صفحة خاصة بيها، وممنوع تغيروا الرقم، مفهوم؟"
سألت سيناوي بدهشة وحيرة، وهي ترفع حاجبيها:
"يعني ايه الصفحة دي؟ مش فاهمة."
رد القائد جاسر، بابتسامة مرحة، لكنه جدي في نفس الوقت:
"بعد إذن الشيخ طبعاً، أنا عملت كده علشان تقدروا تتواصلوا بسهولة. تعالى بقى، هعلمكوا عليها، وأعرفكوا كل حاجة. يلا."
جلسوا معًا لمدة ساعة ونصف تقريبًا، والوقت يمر بسرعة وكأنهم في عالم آخر، بعيد عن الضغوط والمسابقة.
كان القائد جاسر يشرح لهما كيفية استخدام الهواتف، بينما كانت الفتاتان تتابعانه بتركيز وحماس، وكأنهما تستعدان لمرحلة جديدة من حياتهما.
لكن كل شيء جميل لابد أن ينتهي. جاء موعد الرحيل، وبدأ الوداع يخيم على الأجواء. سيناوي، التي كانت تشعر ببعض الحزن، ودعت دقهليه بعناق دافئ، واعتذرت عن عدم قدرتها على حضور حفل تكريمها.
في البداية، شعرت دقهليه بالحزن، لكن الشيخ حسان طمأنها ووعدها بأن اللقاء سيتجدد في وقت قريب.
كما أنه أكد لها أن سيناوي ستتمكن من مهاتفتها كل يوم، مما أعاد بعض الراحة إلى قلبها.
ودعوا بعضهم بوعد اللقاء مرة أخرى، وانطلقت كل واحدة إلى بلدها، تاركتين وراءهما ذكرى جميلة لا تُنسى.
القائد جاسر عاد إلى عمله، محملًا بالذكريات والوعود التي قطعها للفتيات، وتاركًا أثرًا عميقًا في نفوس الجميع.
كان الليل قد خيّم تماماً عندما وصلت سيناوي مع جدها إلى القرية بعد رحلة طويلة.
استيقظت بصوت هادئ لجدها يناديها بلطف لتسير نحو البيت. كانت تشعر بثقل النوم على جفونها، لكن حبها لجدها جعلها تفيق بسرعة وتمشي بجانبه. أنس، الذي كان ينتظر عند مدخل البيت، جاء لمساعدتهم في حمل الأغراض مع أخيه.
في الصباح، استيقظت سيناوي على رنين هاتفها، فتحته بلهفة ورأت رسالة من دقهليه تتمنى لها التوفيق في يومها. شعرت بالامتنان والفرح، وسرعان ما ردّت عليها بابتسامة متفائلة. وعدتها دقهليه بأن ترسل فيديو الحفلة ليشاهدها الجدّ عبر الهاتف، وأغلقت المكالمة بعد أن اتفقتا على التفاصيل.
نهضت سيناوي بعد الصلاة، مليئة بالطاقة، وركضت بسرعة نحو خيمة جدها. وبينما كانت تمر بالقرب من أنس، الذي كان جالسًا يقرأ في كتاب الله، لم تلتفت إليه بل واصلت ركضها نحو الداخل.
أنس لم يكن يستطيع إخفاء شعور الضيق الذي تملكه، فقد كان ينتظر منها ولو نظرة، ولكنها مرت كأنها لم تره.
عندما وصلت إلى داخل الخيمة، وجدت جدها يقرأ القرآن بصوت هادئ ومطمئن. وضعت سيناوي نفسها بجواره، وقبلت رأسه، وبدأت تحكي له عن المكالمة التي جرت بينها وبين دقهليه. أثناء حديثها، سمعا صوتاً يستأذن بالدخول. توقف الحديث للحظة، ثم سمح الجدّ للزائر بالدخول.
دخل أنس وهو يحمل في عينيه بعضاً من الحيرة والضيق، وجلس بجوار الجد، يبارك لـ سيناوي على نجاحها.
كانت سيناوي تشكره بصوت خافت، لكن لم يكن بإمكانها إخفاء ضيقها. لاحظ أنس هذا في نبرة صوتها، كما لاحظ أنها لم تنطق باسمه أثناء الحديث، مما زاد من شعوره بالاضطراب.
نظر أنس إلى الهاتف الذي كان في يدها، وسأل الجد بتوتر:
"اي دا يا جدي؟"
أجابه الجد بهدوء:
"محمول يا ولدي، كان هدية ليها عن النجاح."
أنس، الذي بدا عليه بعض الحيرة، سأل بحدة:
"وليه جبتهولها؟"
ابتسم الشيخ حسان بحنان وقال:
"مش أنا اللي جبتهولها، دا كان هدية من شخص غالي."
أنس، وقد ازداد فضوله:
"هو مين الشخص الغالي دا؟ أنا اعرفه؟"
أجابه الجد بابتسامة مريحة:
"لاء، ما تعرفوش، أنا يدوب عرفته يومها."
شعر أنس ببعض الغيرة وقال:
"ولحق بقا غالي؟"
ضحك الشيخ حسان بلطف وأجاب:
"أنا عندي نظرة في الناس، هتشككش في كلامي ولا إيه."
تراجع أنس وقال بأسف:
"لاء، حقك عليا يا جدي، أنا ما قصدتش."
لكن الجد، الذي لاحظ انزعاجه، حاول تهدئته:
"ما تشيلش هم، أنا قادر أحميها، وانت ركز في حياتك وبس."
قال أنس بنبرة هادئة:
"ما فيش حاجة يا جدي، بس كنت عايز أبارك لبنت عمي، وكنت هقولها بره، لكنها دخلت على طول من غير سلام."
كان أنس ينظر إلى سيناوي، التي أدارت وجهها بعيداً عنه، وكأنها تهرب من أي مواجهة.
وقف أنس واستأذن:
"بالإذن أنا، سلام."
ودعه الجد قائلاً:
"سلام يا ولدي."
التفت الجد نحو سيناوي وقال لها بحنان:
"ليه كدا يا بنتي؟"
أجابت وهي تنظر إلى الأرض:
"انت عارف يا جدي، أنا ما اقدرش اخبي مشاعري، ودا أحسن ليا وليه."
هز الجد رأسه بحكمة وقال:
"طيب، هاتي المصحف من وراكي علشان نقرا مع بعض، يكون جدتك حضرت الفطور."
أخذت سيناوي المصحف وبدأت تقرأ بصوت خاشع إلى جانب جدها، حتى دخلت الجدة، وقطعت القراءة مؤقتاً لتناول الطعام. بعد أن أنهوا وجبتهم، عادوا لمواصلة تلاوة القرآن معاً، حيث عمّت السكينة والهدوء أرجاء الخيمة.
.............
بمجرد أن انتهى القائد جاسر من مهمته في المنطقة، كان قد استعاد نوعاً من الروتين والانضباط العسكري. استمر في أداء واجباته بكامل التفاني، مع حرصه على الحفاظ على الروح العالية بين رجاله. كانت الأيام تمر بوتيرة سريعة، بين الاجتماعات الميدانية والتنسيق مع باقي الوحدات. لم يكن يفكر في الرحيل بشكل جدي حتى قرب موعد انتهاء خدمته.
كان القائد جاسر شخصية محبوبة ومحترمة بين رجاله. قادهم بحكمة وحزم، وكان دوماً يستمع إلى مشاكلهم ويحرص على أن يشعروا بأنهم ليسوا فقط جنوداً، بل جزءاً من عائلته العسكرية.
في اليوم الأخير من خدمته في المنطقة، وقف جاسر أمام رجاله في الساحة، متأملاً الوجوه التي أصبحت مألوفة بالنسبة له. حمل في عينيه نظرة عميقة، مزيجاً من الاعتزاز والحنين.
تحدث إلى رجاله بكلمات بسيطة لكنها كانت تحمل معانٍ كبيرة:
"الوقت اللي قضيناه هنا كان مليان تحديات، لكن بفضل الله، وبفضلكم كلكم، قدرنا نعدّيها. اليوم حان وقت إني أرجع للقطاع، بس عايزكم تفضلوا بنفس القوة والروح اللي عرفتها فيكم."
رجاله وقفوا أمامه في صفوف منتظمة، وكانوا يعلمون أن رحيله يعني غياب قائد كان سنداً لهم. بعد الانتهاء من كلماته، قام بتحية عسكرية، وتقدموا نحوه ليودعوه واحداً تلو الآخر.
بعد ساعات قليلة، انطلق جاسر مع فرقته نحو القطاع، حيث كانت تنتظره مهمات جديدة، وربما تحديات أكبر. لكنه كان مستعداً لأي شيء، فخدمته لوطنه كانت دائماً في المقدمة. ورغم أنه غادر المكان، إلا أن أثره بقي محفوراً في قلوب رجاله، الذين تعلموا منه الكثير.
بعودته إلى القطاع، شعر القائد جاسر بامتنان كبير لتلك الفترة التي قضاها، لكنها لم تكن نهاية لرحلته العسكرية.
..........................
في تلك الليلة الهادئة، عادت دقهليه إلى منزلها، متعبة ولكن مليئة بالفرح لما حققته من نجاح. استقبلتها والدتها بنظرات فضولية، تنتظر أن تسمع تفاصيل يومها. بدأت دقهليه تخبرها بكل شيء، عن الحفل والهدايا والتكريم، لكنها تجنبت ذكر لقائها بالقائد. كانت تعلم أن والدتها لن ترضى بذلك.
عندما لاحظت والدتها أن ابنتها أخفت جزءاً من القصة، بدأت تعنفها قائلة:
"ليه ما قلتيش كل حاجة؟
ومين اللي جبلك التلفون. ومين القائد اللي بيرن عليكى دا، ويسأل وصلتى ولا لاء، ليه خبيتى عني مقابلتك للقائد؟"
دقهليه، التي شعرت ببعض التوتر، حاولت تهدئتها قائلة:
"يا أمي، دي كانت هدية زي باقي الهدايا، خدت لابتوب ومبلغ مالي، وكمان هدايا تانية."
ثم تنفست بعمق و قصت عليها كيف تعرفت بالقائد.
استمرت الأم في توبيخها قليلاً، لكنها في النهاية قبلت عذر دقهليه وتركت الأمر يمر.
مر اليوم التالي بسعادة وهدوء، حتى بزغ الصباح الذي طالما انتظرته دقهليه.
كانت متحمسة للغاية، فاليوم هو يوم تكريمها وحفل القرآن. قفزت من فراشها بسرعة، واندفعت نحو والدتها كي تتناول إفطارها وتستعد للذهاب إلى المكتب لتحضير نفسها لهذا اليوم المميز.
بعد فترة قصيرة، كانت دقهليه تخرج من البيت، تركض بسرعة في الشوارع، متجاهلة نظرات الناس المندهشة من اندفاعها. لم تكن تهتم كثيرًا بما يفكر فيه الآخرون، بل كانت تركز فقط على تحقيق حلمها. وصلت بسرعة إلى مكان التجمع، حيث كان الجميع يستعدون للمشاركة في الحفل.
وقفت في الصف الأول بجوار ماجدة ومحمد، اللذين كانا بدورهما متحمسين لهذا اليوم. كان الجو مليئًا بالتوقعات والترقب. مع اقتراب موعد بدء الحفل، اصطف الطلاب في صفوف متساوية ومنظمة، وهم يهتفون بالأناشيد الدينية، ويحملون لوحات مكتوبة عليها آيات قرآنية وأسماء الطلاب المكرمين.
تحركت المسيرة باتجاه مكان الحفل، الذي أقيم أمام المسجد الكبير في المنطقة. حضر كبار الشخصيات من الحي، بما في ذلك المحافظ ونائب مجلس الشعب، بالإضافة إلى الأهالي الذين تجمعوا لمشاهدة الحفل. كان الجو مليئًا بالحماس والفخر.
بدأ الحفل بتلاوة القرآن الكريم، ثم بدأت اختبارات الطلاب الذين تم تكريمهم، حيث تلى كل منهم بصوته الجميل، أو ألقى خطبة دينية، في أجواء من الروحانية والإجلال. بعد ذلك، بدأت فقرات الحفل الأخرى التي شارك فيها بقية الطلاب.
عند نهاية الحفل، قام المحافظ وكبار الحي بتوزيع الجوائز القيمة على الطلاب المتفوقين، وتكريمهم أمام الجميع. كما تم توزيع هدايا صغيرة على جميع الطلاب الذين حفظوا كتاب الله، وسط أجواء من الفخر والفرح.
بعد انتهاء الحفل، اصطحب الأهالي أبناءهم إلى منازلهم، يحملون الهدايا التي حصلوا عليها. دقهليه كانت قد حصلت على سرير، غسالة، مبلغ مالي، براويز، مصحف، وشهادة تقدير، وهو نفس ما حصل عليه ماجدة ومحمد.
عندما عادت دقهليه إلى المنزل، اتفقت مع والدتها على ترتيب الهدايا، لكنها فوجئت بشرط والدتها:
"هتاخدي السرير ليكي، لكن الغرفة تفضليها لأخواتك."
ابتسمت دقهليه على الفور ووافقت دون تردد. كانت سعيدة بأن تستقل بغرفتها الصغيرة، خاصة بعد أن قامت والدتها بإخراج الكراسي منها لتوفير مساحة أكبر لها. شعرت أخيرًا أن لديها مكانًا خاصًا بها، مكانًا تستقر فيه وتفكر في مستقبلها.
مرت أيام دقهلية بسعادة تامة، تنبض بالحيوية والأمل في كل لحظة. كانت تشعر بأن حياتها قد بدأت تأخذ مسارًا أكثر وضوحًا بعد نجاحها في حفل التكريم واحتفاظها بعلاقتها الوثيقة مع سيناوي وجدها. لكن المفاجآت لم تتوقف.
ذات يوم، وبينما كانت تتصفح صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بها، لفت نظرها رسالة غريبة من فتاة تبحث عن توأم لها.
استغربت دقهلية في البداية، لكنها شعرت باندفاع غريب للاطلاع على محتوى الرسالة. بدأت تقرأ الكلمات بعناية، وكلما تعمقت أكثر، زادت دهشتها وفرحتها. لم تكن دقهلية وحدها هي وسيناوي، بل يبدو أن هناك فتاة أخرى تبحث عنهم. أصبحوا الآن ثلاثًا، لكن المفاجأة لم تتوقف هنا.
كان آسر يقلب الصفحة وهو مفعم بالحماس، متشوقًا لمعرفة من تكون الفتاة الثالثة وما قصتها، وكيف ستتشابك حياتها مع سيناوي ودقهلية. تدفقت الأسئلة في ذهنه: ما الذي سيحدث؟ ما دور كل من سيناوي ودقهلية؟ هل هناك مزيد من الأسرار المخفية في تلك المذكرة؟
بينما كانت تلك الأفكار تسيطر عليه، شعر جسده يضعف من التعب. السهر المتواصل وقلة الطعام استنزفته بشدة، ولم يعد لديه الطاقة لمواصلة القراءة. كان عقله يشتعل بالفضول، لكن جسده أثقلته الحاجة إلى الراحة. قرر، على مضض، أن يؤجل اكتشاف باقي القصة حتى الصباح، مطمئنًا بأن الغد يوم الجمعة، يوم الإجازة.
قبل أن يخلد إلى النوم، راودته فكرة: "هل سيتصل بي عمي زين غدًا؟ أم أنه سيظل مختفيًا كما كان طوال هذا الأسبوع؟" كانت تلك التساؤلات تحوم حوله بينما استلقى على فراشه. غياب عمه طوال الأسبوع أثار قلقه، فقد اعتاد سماع صوته بانتظام. استسلم آسر للنوم على أمل أن يحمل الغد إجابات ليس فقط عن المذكرة، بل أيضًا عن عمه الغائب.
استيقظ آسر فجأة على صوت جدته العالي يتردد في أرجاء المنزل. كانت تصرخ بصوت حاد أشبه بالخناجر تخترق الهدوء الذي كان يحاول العثور عليه في نومه:
"يلا قوم! طول الليل نايم ومفيش فايدة منك! قوم شوف وراك إيه بدل ما تفضل نايم!"
كان صوته داخله يرتجف، لكن تعود على هذا النمط من حياتها، تلك الحدة التي لا تخفف عنها أبدًا. نهض من فراشه بتثاقل، عيناه لا تزالان تبحثان عن بقايا حلمٍ لم يكتمل. تجاهل صوتها المرتفع وهو يمشي نحو المطبخ ليشرب بعض الماء، في محاولة لتهدئة نفسه.
بعد قليل، بينما يجلس وحيدًا على الأريكة في غرفة المعيشة، رن هاتفه فجأة. نظر إلى الشاشة، فإذا بالاسم يظهر: "زين". زين، صديق والده، الوحيد الذي اعتاد أن يسأله عن أحواله ويطمئن عليه دائمًا. رفع الهاتف وفتح الخط:
"آلو، عمه زين؟"
قال آسر بصوتٍ منخفض، يحاول إخفاء تعب اليوم.
أجابه زين بحنان:
"إزايك يا آسر؟ وحشتني. كل حاجة كويسة معاك؟ طمني عليك."
ابتسم آسر ابتسامة صغيرة، رغم أنه يعلم أن الحياة لم تكن على ما يرام مؤخرًا. لكنه لم يعرف كيف يخبره عما بداخله.
وتلك الجدته تجلس أمامه تستمع لما يقول بعيون تشع غضب.
"أنا بخير يا عمه زين، كله تمام. شكراً ليك إنك بتسأل."
أجابه آسر بهدوء.
رد زين بجديه:
"لو في حاجة عاوز تقولها، أنا موجود يا آسر. ما تنساش إني هنا دايمًا."
"عارف يا عمه زين، شكرًا بجد. هكلمك بعدين."
أنهى آسر المكالمة بلطف وأغلق الهاتف.
بعد انتهاء المكالمة، أحس آسر بثقل يضغط على صدره. استجمع شتات نفسه واتجه نحو غرفته، أغلق الباب خلفه بإحكام، وكأن هذا الباب هو الحاجز الوحيد بينه وبين العالم الخارجي. جلس على طرف سريره، ثم مد يده إلى المذكرة التي تركها في الليلة السابقة.
أمسك المذكرة بين يديه بحذر، كأنها مفتاح لحياة أخرى. تنهد بعمق وفتح الصفحة حيث توقف.
قلب الصفحة ببطء، وعيناه متسمرتان على الكلمات التي كانت تنتظره. عاد ذلك الفضول ليشتعل بداخله، وعاد السؤال يراوده: من تكون "الفتاة الثالثة"؟ وهل ستكمل المذكرة ما بدأته أمه، أم ستتركه يبحث عن الأجوبة في سيل من الصفحات الفارغة؟
بدأ يقرأ بحذر واهتمام، منتظرًا أن تكشف المذكرة له أسرارها.