أفرغ الرجل كأس الخمر الرديئة في جوفه و شرع يبكي و يتمتم... 💬 أقوال مصطفى محمود 📖 كتاب نقطة الغليان
- 📖 من ❞ كتاب نقطة الغليان ❝ مصطفى محمود 📖
█ أفرغ الرجل كأس الخمر الرديئة جوفه شرع يبكي يتمتم نادماَ تُبت إليك يا رب لا أعود إلى شربها أبداً أعاهدك أستغفرك و بعد لحظات كان يملأ كأساً أخرى ليلقيها ليعود فيستفغر باكيا مغمغماً سامحني هذه اخر مرة تبت رجعت أنبت ثم ما تلبث الغفلة أن تسيطر عليه يعاوده ضعفه فيغالبه فيغلبه فينكب ثم يعود فيقف تائباً باكياً بالباب ذلك هو الشيخ مبروك كانوا يسمونه " من باب السخرية بحاله ستون سنة لكن هيكله المضعضع يوحي بأنه جاوز المائة جاء الدنيا لقيطاً ملقى الرصيف لفة قضى صباه ملجأ للأيتام سجن للأحداث لم يدع منكراً إلا قارفه مخاضة أو حال انغرس فيها كان يخرج ليدخل سجناً تخشيبة ليلقى انتهى حاله أصبح حارساً قرافة ينام يأكل يشرب يسكن مع الموتى يحرس القبور نهاراً فينبشها ليلا ليبيع الجثث لطلبة الطب مقابل جنيهات قليلة يسكر بها صاحب ملف السوابق الحافل لكنه طراز خاص المجرمين مجرما غلباناً دائم البكاء الندم منكسر الوجه الأرض يلازمه الشعور حشرة يستحق شعاع الشمس الذي يطلعه كتاب نقطة الغليان مجاناً PDF اونلاين 2025 تأليف الدكتور مصطفى محمود وهو عبارة عن مجموعة قصصية يدور محورها الرئيس حول الهداية والإيمان بالله العلي القدير وبأقداره وبما قسمه للإنسان صورت القصص يشعر به الإنسان المعاصر ضياع وعدمية وفقدان لمعنى الحياة وجوهرها وقدمت يكون سعيدا بغير هداية الله له الطريق الصحيح؛ فلا سعادة بمال حب سلطة دون التوجه تعالى والتقرب منه وإليه
❞ أفرغ الرجل كأس الخمر الرديئة في جوفه و شرع يبكي و يتمتم نادماَ . تُبت إليك يا رب . لا أعود إلى شربها أبداً أعاهدك و أستغفرك . و بعد لحظات كان يملأ كأساً أخرى ليلقيها في جوفه ليعود فيستفغر باكيا مغمغماً . سامحني يا رب . هذه اخر مرة . تبت إليك و رجعت إليك و أنبت إليك . ثم ما تلبث الغفلة أن تسيطر عليه و يعاوده ضعفه فيغالبه فيغلبه فينكب على كأس أخرى . ثم يعود فيقف تائباً باكياً بالباب .
ذلك هو الشيخ مبروك . و كانوا يسمونه ˝ الشيخ ˝ من باب السخرية بحاله . ستون سنة و لكن هيكله المضعضع يوحي بأنه جاوز المائة . جاء إلى الدنيا لقيطاً ملقى على الرصيف في لفة و قضى صباه في ملجأ للأيتام ثم في سجن للأحداث . لم يدع منكراً إلا قارفه و لا مخاضة أو حال إلا انغرس فيها . كان يخرج من سجن ليدخل سجناً و يخرج من تخشيبة ليلقى في تخشيبة و انتهى حاله إلى ان أصبح حارساً في قرافة . ينام و يأكل و يشرب و يسكن مع الموتى . يحرس القبور نهاراً ثم يعود فينبشها ليلا ليبيع الجثث لطلبة الطب في مقابل جنيهات قليلة يسكر بها .
ذلك هو ˝ الشيخ مبروك ˝ صاحب ملف السوابق الحافل . و لكنه طراز خاص من المجرمين .كان مجرما ˝ غلباناً ˝ دائم البكاء دائم الندم منكسر الوجه إلى الأرض يلازمه الشعور بأنه حشرة و بأنه لا يستحق شعاع الشمس الذي يطلعه الله عليه و لا نسمة الهواء التي يتنفسها و لا اللقمة الجافة التي يأكلها . و لم يكن يرتكب ذنباً إلا كانت وراءه ضرورة ملحة تدفعه . و حياته كلها كانت محاولة مستمرة للاستقامة دون جدوي . فهو يغالب طبعه و طبعه يغلبه . و يغالب ضعفه و ضعفه يغلبه . ثم يبكي في النهاية و يشعر بالخزي و الهوان . و يحاول أن ينسي ذلك الهوان بالشرب فيزداد بالشرب هوانا .
يشعر دائماً ان الله يراه . و لا يدري من أين يأتيه ذلك الشعور . و لا كيف يفعل ما يفعل أمام عين الله التي لا تنام . شعوره الدائم الذي لا يفارقه هو الإشمئزاز من نفسه . و هو شعور ملازم له كالتنفس لا خلاص منه . و كأنه صرصور غارق في مستنقع من الصمف كلما حاول الخلاص ازداد غرقا . لا ينجيه من الموت يأسا إلا إيمانه بأن ذنوبه مهما عظمت فإن عفو الله اعظم . و إن الله لا تنفعه طاعتنا و لا تضره ذنوبنا . فهو غني بنفسه عن العالمين . و هو الذي وسع كل شيء رحمة و علما . و هو الوهاب الذي لا يحتاج لأحد .
لا يكف عن البكاء . و لا يكف عن الوقوف بباب الرحمة و إن كان يشعر بأن يديه ملطختان بالآثام . يعرف الناس تاريخه ويسخرون منه و لكنهم يعطفون عليه . و البعض يقول له . ادع لنا يا شيخ مبروك فيقول لهم . يدعو لكم الشيخ مبروك . و لكن لا أنا شيخ و لا أنا مبروك و يبكي و يمد يده المرتجفة تحت جلبابه ليخرج الزجاجة فيشربها ممزوجة بدموعه ثم يمضي يحث الخطى لائذاً بالجدران منكس الوجه إلى الارض ليختفي في ظلمة المقابر . و هو يستغفر و يطلب العفو .
و اليوم كان على الشيخ مبروك أن يفتح حوش الحاج إبراهيم للمرة الخامسة ليلتقي الإبن الخامس للحاج . تلك القصة التي كانت تتكرر كل عام . كلما أنجب الحاج إبنا شق له لحداً . و كان قلب الشيخ مبروك ينفطر حزناً على ذلك الأب الواله الغارق في دموعه .
قال الحاج و هو يبكي : ذلك هو إبني الخامس . بنتي الوحيده أصابها شلل الأطفال من شهور و أصبحت كسيحة تتحرك على كرسي بعجلات . و بالأمس قال الطبيب . إنه لا فائدة . تآكلت جذور الأعصاب و لم يعد ينفع طب و لا دواء . عن قريب نشق لها لحداً آخرا يا شيخ مبروك . عن قريب آتي بها إليك محمولة . يا رب رجمتك .
و ألقى الرجل بنفسه على صدر الشيخ مبروك وراح يبكي و ينهنه كطفل يتيم .
قال الحاج في دموعه : أدع لها بالشفاء يا شيخ مبروك . لعل الله يشفيها بدعوتك .
قال الشيخ مبروك و الخزي يملأ نبراته : أنت اولى بالدعوة يا حاج . أنت حجيت بيت الله . و زرت النبي . أما أنا فحجي كان إلي السجون و زياراتى للملاجئ و الأحداث و حظى من تقوى الله هو ما تري . فكيف أجرؤ أن أرفع وجهى إليه بدعاء .
فعاد الحاج يقول باكيا : بُحَّ صوتي بالدعاء و جاهدت نفسي صلاة و صوما فما استمعت السماء لدعائي . ادع لها انت يا شيخ مبروك فالله رب قلوب . بحق الله ادع لها ولاتخيب رجاء اب ملكوم .
فرفع الشيخ مبروك يديه إلي السماء واجماً خزيان وتوجه إلي الله بتظرات خجلى وتمتم بدعوى مخضلة بالدمع متهدجة بالانكسار: يا رب اشفها لا شاف سواك و عافها فلا معاف سواك . و بكى الرجلان كما لم يبكيا منذ وُلِدا .
و في اليوم التالي شهدت القرافة الحاج ابراهيم يبحث عن الشيخ مبروك . و يفتش عنه كالمجنون و هويقول لكل من يلقاه :أين الشيخ مبروك ؟ . أين الشيخ مبروك دلوني على مكانه . بنتي شفيت من الشلل . قامت من كرسيها و مشت وحدها و قال الدكتور هي معجزة.أين الشيخ مبروك . أين أجد الشيخ مبروك .
و لكن الشيخ مبروك كان قد مات و لقى ربه في فجر ذلك اليوم و دفن حيث لفظ أنفاسه و هو يتمتم باكياً كعادته كلما وضع خده لينام . رب اغفر لي فمن يغفر الذنوب إلا انت . رب إن ذنوبي و إن كثرت فانها لن تضرك و طاعاتي و ان كثرت فانها لن تنفعك فانت الغني عن العالمين . رب مهما عظمت ذنوبي فان عفوك أعظم و مهما كبرت آثامي فان إحسانك أكبر . سبحانك وسعت كل شيء رحمة و علما . فارحم ضعفي وعجزي وفاقتي و انت القائل : ˝ وَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ˝ (28) النساء
رب اقبلني من المنكسرين الخائفين المشفقين الوجلين . يا رب انت الرب و انا العبد . انت الوجود و انا العدم . سبحانك لا أملك من نفسي شيئا و لا املك لنفسي شيئا.رب اسلمت نفسي اليك . و أسلمت ضعفي اليك . و أسلمت حقيقتي اليك . و اسلمت ارادتى اليك . و أسلمت روحى إليك . لا حول و لا قوة إلا بكك . بك أحيا و بك أموت و بك أُبعَث . و بك أنال المغفرة و بك أدخل الجنة .
و طلع فجر ذلك اليوم معه آخر أنفاس الشيخ مبروك يسلمها إلي ربه .
و انتهت قصة رجل من الخطائين كان أقرب إلي الله من كثير من الطائعين من أهل الغرور بطاعتهم .
رجل غفر الله له لأنه عرف مقامه . و كانت حياته كلها إنحناءً و إنكساراً و دخولاً من الباب الضيق .
قصة / المبروك من كتاب / نقطة الغليان للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ أفرغ الرجل كأس الخمر الرديئة في جوفه و شرع يبكي و يتمتم نادماَ .. تُبت إليك يا رب .. لا أعود إلى شربها أبداً أعاهدك و أستغفرك .. و بعد لحظات كان يملأ كأساً أخرى ليلقيها في جوفه ليعود فيستفغر باكيا مغمغماً .. سامحني يا رب .. هذه اخر مرة .. تبت إليك و رجعت إليك و أنبت إليك .. ثم ما تلبث الغفلة أن تسيطر عليه و يعاوده ضعفه فيغالبه فيغلبه فينكب على كأس أخرى .. ثم يعود فيقف تائباً باكياً بالباب . ذلك هو الشيخ مبروك .. و كانوا يسمونه " الشيخ " من باب السخرية بحاله . ستون سنة و لكن هيكله المضعضع يوحي بأنه جاوز المائة .. جاء إلى الدنيا لقيطاً ملقى على الرصيف في لفة و قضى صباه في ملجأ للأيتام ثم في سجن للأحداث . لم يدع منكراً إلا قارفه و لا مخاضة أو حال إلا انغرس فيها . كان يخرج من سجن ليدخل سجناً و يخرج من تخشيبة ليلقى في تخشيبة و انتهى حاله إلى ان أصبح حارساً في قرافة .. ينام و يأكل و يشرب و يسكن مع الموتى .. يحرس القبور نهاراً ثم يعود فينبشها ليلا ليبيع الجثث لطلبة الطب في مقابل جنيهات قليلة يسكر بها . ذلك هو " الشيخ مبروك " صاحب ملف السوابق الحافل . و لكنه طراز خاص من المجرمين ..كان مجرما " غلباناً " دائم البكاء دائم الندم منكسر الوجه إلى الأرض يلازمه الشعور بأنه حشرة و بأنه لا يستحق شعاع الشمس الذي يطلعه الله عليه و لا نسمة الهواء التي يتنفسها و لا اللقمة الجافة التي يأكلها . و لم يكن يرتكب ذنباً إلا كانت وراءه ضرورة ملحة تدفعه .. و حياته كلها كانت محاولة مستمرة للاستقامة دون جدوي . فهو يغالب طبعه و طبعه يغلبه . و يغالب ضعفه و ضعفه يغلبه . ثم يبكي في النهاية و يشعر بالخزي و الهوان . و يحاول أن ينسي ذلك الهوان بالشرب فيزداد بالشرب هوانا . يشعر دائماً ان الله يراه .. و لا يدري من أين يأتيه ذلك الشعور .. و لا كيف يفعل ما يفعل أمام عين الله التي لا تنام . شعوره الدائم الذي لا يفارقه هو الإشمئزاز من نفسه . و هو شعور ملازم له كالتنفس لا خلاص منه .. و كأنه صرصور غارق في مستنقع من الصمف كلما حاول الخلاص ازداد غرقا . لا ينجيه من الموت يأسا إلا إيمانه بأن ذنوبه مهما عظمت فإن عفو الله اعظم .. و إن الله لا تنفعه طاعتنا و لا تضره ذنوبنا .. فهو غني بنفسه عن العالمين .. و هو الذي وسع كل شيء رحمة و علما .. و هو الوهاب الذي لا يحتاج لأحد . لا يكف عن البكاء . و لا يكف عن الوقوف بباب الرحمة و إن كان يشعر بأن يديه ملطختان بالآثام .. يعرف الناس تاريخه ويسخرون منه و لكنهم يعطفون عليه .. و البعض يقول له .. ادع لنا يا شيخ مبروك فيقول لهم .. يدعو لكم الشيخ مبروك .. و لكن لا أنا شيخ و لا أنا مبروك و يبكي و يمد يده المرتجفة تحت جلبابه ليخرج الزجاجة فيشربها ممزوجة بدموعه ثم يمضي يحث الخطى لائذاً بالجدران منكس الوجه إلى الارض ليختفي في ظلمة المقابر .. و هو يستغفر و يطلب العفو . و اليوم كان على الشيخ مبروك أن يفتح حوش الحاج إبراهيم للمرة الخامسة ليلتقي الإبن الخامس للحاج .. تلك القصة التي كانت تتكرر كل عام .. كلما أنجب الحاج إبنا شق له لحداً . و كان قلب الشيخ مبروك ينفطر حزناً على ذلك الأب الواله الغارق في دموعه . قال الحاج و هو يبكي : ذلك هو إبني الخامس .. بنتي الوحيده أصابها شلل الأطفال من شهور و أصبحت كسيحة تتحرك على كرسي بعجلات .. و بالأمس قال الطبيب .. إنه لا فائدة .. تآكلت جذور الأعصاب و لم يعد ينفع طب و لا دواء .. عن قريب نشق لها لحداً آخرا يا شيخ مبروك .. عن قريب آتي بها إليك محمولة .. يا رب رجمتك . و ألقى الرجل بنفسه على صدر الشيخ مبروك وراح يبكي و ينهنه كطفل يتيم . قال الحاج في دموعه : أدع لها بالشفاء يا شيخ مبروك .. لعل الله يشفيها بدعوتك .. قال الشيخ مبروك و الخزي يملأ نبراته : أنت اولى بالدعوة يا حاج .. أنت حجيت بيت الله .. و زرت النبي .. أما أنا فحجي كان إلي السجون و زياراتى للملاجئ و الأحداث و حظى من تقوى الله هو ما تري .. فكيف أجرؤ أن أرفع وجهى إليه بدعاء . فعاد الحاج يقول باكيا : بُحَّ صوتي بالدعاء و جاهدت نفسي صلاة و صوما فما استمعت السماء لدعائي .. ادع لها انت يا شيخ مبروك فالله رب قلوب .. بحق الله ادع لها ولاتخيب رجاء اب ملكوم . فرفع الشيخ مبروك يديه إلي السماء واجماً خزيان وتوجه إلي الله بتظرات خجلى وتمتم بدعوى مخضلة بالدمع متهدجة بالانكسار: يا رب اشفها لا شاف سواك و عافها فلا معاف سواك .. و بكى الرجلان كما لم يبكيا منذ وُلِدا . و في اليوم التالي شهدت القرافة الحاج ابراهيم يبحث عن الشيخ مبروك .. و يفتش عنه كالمجنون و هويقول لكل من يلقاه :أين الشيخ مبروك ؟ .. أين الشيخ مبروك دلوني على مكانه .. بنتي شفيت من الشلل .. قامت من كرسيها و مشت وحدها و قال الدكتور هي معجزة.أين الشيخ مبروك .. أين أجد الشيخ مبروك . و لكن الشيخ مبروك كان قد مات و لقى ربه في فجر ذلك اليوم و دفن حيث لفظ أنفاسه و هو يتمتم باكياً كعادته كلما وضع خده لينام . رب اغفر لي فمن يغفر الذنوب إلا انت . رب إن ذنوبي و إن كثرت فانها لن تضرك و طاعاتي و ان كثرت فانها لن تنفعك فانت الغني عن العالمين . رب مهما عظمت ذنوبي فان عفوك أعظم و مهما كبرت آثامي فان إحسانك أكبر . سبحانك وسعت كل شيء رحمة و علما .. فارحم ضعفي وعجزي وفاقتي و انت القائل : " وَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا " (28) النساء رب اقبلني من المنكسرين الخائفين المشفقين الوجلين .. يا رب انت الرب و انا العبد .. انت الوجود و انا العدم .. سبحانك لا أملك من نفسي شيئا و لا املك لنفسي شيئا.رب اسلمت نفسي اليك .. و أسلمت ضعفي اليك .. و أسلمت حقيقتي اليك .. و اسلمت ارادتى اليك .. و أسلمت روحى إليك .. لا حول و لا قوة إلا بكك .. بك أحيا و بك أموت و بك أُبعَث .. و بك أنال المغفرة و بك أدخل الجنة . و طلع فجر ذلك اليوم معه آخر أنفاس الشيخ مبروك يسلمها إلي ربه . و انتهت قصة رجل من الخطائين كان أقرب إلي الله من كثير من الطائعين من أهل الغرور بطاعتهم . رجل غفر الله له لأنه عرف مقامه .. و كانت حياته كلها إنحناءً و إنكساراً و دخولاً من الباب الضيق . قصة / المبروك من كتاب / نقطة الغليان للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ أفرغ الرجل كأس الخمر الرديئة في جوفه و شرع يبكي و يتمتم نادماَ . تُبت إليك يا رب . لا أعود إلى شربها أبداً أعاهدك و أستغفرك . و بعد لحظات كان يملأ كأساً أخرى ليلقيها في جوفه ليعود فيستفغر باكيا مغمغماً . سامحني يا رب . هذه اخر مرة . تبت إليك و رجعت إليك و أنبت إليك . ثم ما تلبث الغفلة أن تسيطر عليه و يعاوده ضعفه فيغالبه فيغلبه فينكب على كأس أخرى . ثم يعود فيقف تائباً باكياً بالباب .
ذلك هو الشيخ مبروك . و كانوا يسمونه ˝ الشيخ ˝ من باب السخرية بحاله . ستون سنة و لكن هيكله المضعضع يوحي بأنه جاوز المائة . جاء إلى الدنيا لقيطاً ملقى على الرصيف في لفة و قضى صباه في ملجأ للأيتام ثم في سجن للأحداث . لم يدع منكراً إلا قارفه و لا مخاضة أو حال إلا انغرس فيها . كان يخرج من سجن ليدخل سجناً و يخرج من تخشيبة ليلقى في تخشيبة و انتهى حاله إلى ان أصبح حارساً في قرافة . ينام و يأكل و يشرب و يسكن مع الموتى . يحرس القبور نهاراً ثم يعود فينبشها ليلا ليبيع الجثث لطلبة الطب في مقابل جنيهات قليلة يسكر بها .
ذلك هو ˝ الشيخ مبروك ˝ صاحب ملف السوابق الحافل . و لكنه طراز خاص من المجرمين .كان مجرما ˝ غلباناً ˝ دائم البكاء دائم الندم منكسر الوجه إلى الأرض يلازمه الشعور بأنه حشرة و بأنه لا يستحق شعاع الشمس الذي يطلعه الله عليه و لا نسمة الهواء التي يتنفسها و لا اللقمة الجافة التي يأكلها . و لم يكن يرتكب ذنباً إلا كانت وراءه ضرورة ملحة تدفعه . و حياته كلها كانت محاولة مستمرة للاستقامة دون جدوي . فهو يغالب طبعه و طبعه يغلبه . و يغالب ضعفه و ضعفه يغلبه . ثم يبكي في النهاية و يشعر بالخزي و الهوان . و يحاول أن ينسي ذلك الهوان بالشرب فيزداد بالشرب هوانا .
يشعر دائماً ان الله يراه . و لا يدري من أين يأتيه ذلك الشعور . و لا كيف يفعل ما يفعل أمام عين الله التي لا تنام . شعوره الدائم الذي لا يفارقه هو الإشمئزاز من نفسه . و هو شعور ملازم له كالتنفس لا خلاص منه . و كأنه صرصور غارق في مستنقع من الصمف كلما حاول الخلاص ازداد غرقا . لا ينجيه من الموت يأسا إلا إيمانه بأن ذنوبه مهما عظمت فإن عفو الله اعظم . و إن الله لا تنفعه طاعتنا و لا تضره ذنوبنا . فهو غني بنفسه عن العالمين . و هو الذي وسع كل شيء رحمة و علما . و هو الوهاب الذي لا يحتاج لأحد .
لا يكف عن البكاء . و لا يكف عن الوقوف بباب الرحمة و إن كان يشعر بأن يديه ملطختان بالآثام . يعرف الناس تاريخه ويسخرون منه و لكنهم يعطفون عليه . و البعض يقول له . ادع لنا يا شيخ مبروك فيقول لهم . يدعو لكم الشيخ مبروك . و لكن لا أنا شيخ و لا أنا مبروك و يبكي و يمد يده المرتجفة تحت جلبابه ليخرج الزجاجة فيشربها ممزوجة بدموعه ثم يمضي يحث الخطى لائذاً بالجدران منكس الوجه إلى الارض ليختفي في ظلمة المقابر . و هو يستغفر و يطلب العفو .
و اليوم كان على الشيخ مبروك أن يفتح حوش الحاج إبراهيم للمرة الخامسة ليلتقي الإبن الخامس للحاج . تلك القصة التي كانت تتكرر كل عام . كلما أنجب الحاج إبنا شق له لحداً . و كان قلب الشيخ مبروك ينفطر حزناً على ذلك الأب الواله الغارق في دموعه .
قال الحاج و هو يبكي : ذلك هو إبني الخامس . بنتي الوحيده أصابها شلل الأطفال من شهور و أصبحت كسيحة تتحرك على كرسي بعجلات . و بالأمس قال الطبيب . إنه لا فائدة . تآكلت جذور الأعصاب و لم يعد ينفع طب و لا دواء . عن قريب نشق لها لحداً آخرا يا شيخ مبروك . عن قريب آتي بها إليك محمولة . يا رب رجمتك .
و ألقى الرجل بنفسه على صدر الشيخ مبروك وراح يبكي و ينهنه كطفل يتيم .
قال الحاج في دموعه : أدع لها بالشفاء يا شيخ مبروك . لعل الله يشفيها بدعوتك .
قال الشيخ مبروك و الخزي يملأ نبراته : أنت اولى بالدعوة يا حاج . أنت حجيت بيت الله . و زرت النبي . أما أنا فحجي كان إلي السجون و زياراتى للملاجئ و الأحداث و حظى من تقوى الله هو ما تري . فكيف أجرؤ أن أرفع وجهى إليه بدعاء .
فعاد الحاج يقول باكيا : بُحَّ صوتي بالدعاء و جاهدت نفسي صلاة و صوما فما استمعت السماء لدعائي . ادع لها انت يا شيخ مبروك فالله رب قلوب . بحق الله ادع لها ولاتخيب رجاء اب ملكوم .
فرفع الشيخ مبروك يديه إلي السماء واجماً خزيان وتوجه إلي الله بتظرات خجلى وتمتم بدعوى مخضلة بالدمع متهدجة بالانكسار: يا رب اشفها لا شاف سواك و عافها فلا معاف سواك . و بكى الرجلان كما لم يبكيا منذ وُلِدا .
و في اليوم التالي شهدت القرافة الحاج ابراهيم يبحث عن الشيخ مبروك . و يفتش عنه كالمجنون و هويقول لكل من يلقاه :أين الشيخ مبروك ؟ . أين الشيخ مبروك دلوني على مكانه . بنتي شفيت من الشلل . قامت من كرسيها و مشت وحدها و قال الدكتور هي معجزة.أين الشيخ مبروك . أين أجد الشيخ مبروك .
و لكن الشيخ مبروك كان قد مات و لقى ربه في فجر ذلك اليوم و دفن حيث لفظ أنفاسه و هو يتمتم باكياً كعادته كلما وضع خده لينام . رب اغفر لي فمن يغفر الذنوب إلا انت . رب إن ذنوبي و إن كثرت فانها لن تضرك و طاعاتي و ان كثرت فانها لن تنفعك فانت الغني عن العالمين . رب مهما عظمت ذنوبي فان عفوك أعظم و مهما كبرت آثامي فان إحسانك أكبر . سبحانك وسعت كل شيء رحمة و علما . فارحم ضعفي وعجزي وفاقتي و انت القائل : ˝ وَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ˝ (28) النساء
رب اقبلني من المنكسرين الخائفين المشفقين الوجلين . يا رب انت الرب و انا العبد . انت الوجود و انا العدم . سبحانك لا أملك من نفسي شيئا و لا املك لنفسي شيئا.رب اسلمت نفسي اليك . و أسلمت ضعفي اليك . و أسلمت حقيقتي اليك . و اسلمت ارادتى اليك . و أسلمت روحى إليك . لا حول و لا قوة إلا بكك . بك أحيا و بك أموت و بك أُبعَث . و بك أنال المغفرة و بك أدخل الجنة .
و طلع فجر ذلك اليوم معه آخر أنفاس الشيخ مبروك يسلمها إلي ربه .
و انتهت قصة رجل من الخطائين كان أقرب إلي الله من كثير من الطائعين من أهل الغرور بطاعتهم .
رجل غفر الله له لأنه عرف مقامه . و كانت حياته كلها إنحناءً و إنكساراً و دخولاً من الباب الضيق .
قصة / المبروك من كتاب / نقطة الغليان للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ -ماذا فعلت بنفسك ؟ - أردت أن أقتل نفسي لأستريح. - ومن أين لك العلم بأنك سوف تستريح، أعلمت بما ينتظرك بعد الموت؟ -إنه على أي حال أفضل من حالي في الدنيا. -هذا ظنك.. ولا يقتل الناس أنفسهم بالظن. - وماذا كنت أستطيع أن أفعل.. وماذا بقي لى ؟ - أن تصبر وتنتظر أمرنا - صبرت - تصبر يوما آخر إلى غد. - سيكون غدا مشئوما مثل سالفه. كيف علمت.. هل أنت الذي خلقت الأيام.. هل أنت الذي خلقت -نفسك؟ -لا - فكيف تحكم على ما لا تعلم وكيف تتصرف فيما لا تملك -هذا عمري وقد ضقت به. - أتعلم ماذا نخفي لك غدا؟ - لا. - إذن فهو ليس عمرك. - لا أريد أن أعيش.. خلوا بيني وبين الموت.. دعوني.. ارحمونی - لو تركناك فما رحمناك.. إنما نحول بينك وبين رغبتك رحمة وفضلا ولو تخلينا عنك لهلكت. - يا مرحبا بالهلاك.. ما أريد إلا الهلاك.. يا أهلا بالهلاك. - لن يكون الهلاك رقدة مطمئنة تحت التراب كما تتصور. - أريد أن أخرج مما أنا فيه وكفی. -ولو إلى النار -وهل هناك نار غير هذه؟ اتصورت أنه لا وجود، إلا ما يقع تحت حسك من جنة ونار أظننت أنه لا جنة ونار إلا نعيمكم وعذابكم.. أظننتنا فقراء لا يتسع ملكنا إلا لهذا العالم.. أتصورت أنه ليس عندنا لك إلا هذه الشقة في المعادي وليس عند رب العالمين غير هذه الكرة الأرضية المعلقة كذرة غبار في الفضاء.. بئس ما خيل لك بصرك الضرير عن فقرنا. - ضقت ذرعا مما أنا فيه.. انسدت أمامي المسالك.. انطبقت السماء على الأرض.. اختنقت.. . أريد الخروج.. أريد الخروج. - ألا تصبر لحظات أخرى.. أترفض عطيتنا في الغد قبل أن تراها؟ - رأيت منها ما يكفيني. - هذا رفض لنا ويأس منا واتهام لحكمتنا وسوء ظن بتدبيرنا وانتقاص لملكنا.. بئس ما قررت لنفسك.. اذهب.. رفضناك كما رفضتنا وحرمناك ما حرمت نفسك.. خلوا بينه وبين الموت.. وفي تلك الليلة شنق الرجل نفسه بملاءة الفراش.. ومات في هذه المحاولة الرابعة.. وفشلت كل الإسعافات في إنقاذه. وجاء الغد.. فطلعت صفحات الجرائد الأولى بخبر مثير عن اكتشاف علاج جديد حاسم للمرض الذي كان يشكو منه. ولكنه كان قد ذهب لم ينتظر العطية ظلم المعطى والعطية وظلم نفسه وظلم الغد ااذى لم يره واتهم الرحيم فى رحمته وأنكر على المدبر تدبيره. وخرج إلى حيث لا رحمة .. ولا .. عودة. . ❝ ⏤مصطفى محمود
❞
- ماذا فعلت بنفسك ؟
- أردت أن أقتل نفسي لأستريح.
- ومن أين لك العلم بأنك سوف تستريح، أعلمت بما ينتظرك
بعد الموت؟
- إنه على أي حال أفضل من حالي في الدنيا.
- هذا ظنك. ولا يقتل الناس أنفسهم بالظن.
- وماذا كنت أستطيع أن أفعل. وماذا بقي لى ؟
- أن تصبر وتنتظر أمرنا
- صبرت
- تصبر يوما آخر إلى غد.
- سيكون غدا مشئوما مثل سالفه.
كيف علمت. هل أنت الذي خلقت الأيام. هل أنت الذي خلقت
- نفسك؟
- لا
- فكيف تحكم على ما لا تعلم وكيف تتصرف فيما لا تملك
- هذا عمري وقد ضقت به.
- أتعلم ماذا نخفي لك غدا؟
- لا.
- إذن فهو ليس عمرك.
- لا أريد أن أعيش. خلوا بيني وبين الموت. دعوني. ارحمونی
- لو تركناك فما رحمناك. إنما نحول بينك وبين رغبتك رحمة
وفضلا ولو تخلينا عنك لهلكت.
- يا مرحبا بالهلاك. ما أريد إلا الهلاك. يا أهلا بالهلاك.
- لن يكون الهلاك رقدة مطمئنة تحت التراب كما تتصور.
- أريد أن أخرج مما أنا فيه وكفی.
- ولو إلى النار
- وهل هناك نار غير هذه؟
اتصورت أنه لا وجود، إلا ما يقع تحت حسك من جنة ونار أظننت أنه لا جنة ونار إلا نعيمكم وعذابكم. أظننتنا فقراء لا يتسع ملكنا إلا لهذا العالم. أتصورت أنه ليس عندنا لك إلا هذه الشقة في المعادي وليس عند رب العالمين غير هذه الكرة الأرضية المعلقة كذرة غبار في الفضاء. بئس ما خيل لك بصرك الضرير عن فقرنا.
- ضقت ذرعا مما أنا فيه. انسدت أمامي المسالك. انطبقت
السماء على الأرض. اختنقت. . أريد الخروج. أريد الخروج.
- ألا تصبر لحظات أخرى. أترفض عطيتنا في الغد قبل أن
تراها؟
- رأيت منها ما يكفيني.
- هذا رفض لنا ويأس منا واتهام لحكمتنا وسوء ظن بتدبيرنا
وانتقاص لملكنا. بئس ما قررت لنفسك. اذهب. رفضناك كما رفضتنا وحرمناك ما حرمت نفسك. خلوا بينه وبين الموت. وفي تلك الليلة شنق الرجل نفسه بملاءة الفراش. ومات في هذه المحاولة الرابعة. وفشلت كل الإسعافات في إنقاذه. وجاء الغد. فطلعت صفحات الجرائد الأولى بخبر مثير عن اكتشاف علاج جديد حاسم للمرض الذي كان يشكو منه. ولكنه كان قد ذهب لم ينتظر العطية ظلم المعطى والعطية وظلم نفسه وظلم الغد ااذى لم يره واتهم الرحيم فى رحمته وأنكر على المدبر تدبيره. وخرج إلى حيث لا رحمة . ولا . عودة. ❝