الخـــروج . . . كان يزدرد الطعام كأنه يزدرد كُرات من... 💬 أقوال مصطفى محمود 📖 كتاب نقطة الغليان
- 📖 من ❞ كتاب نقطة الغليان ❝ مصطفى محمود 📖
█ الخـــروج كان يزدرد الطعام كأنه كُرات من العجين يُلقي بها جوفه دون تَلذُذ كان الهواء راكداً ثقيلاً كل شيء راكد ثقيل صفحة النهار تبدو كليلٍ بلا نجوم و لم يكن يدري كم الوقت قد مضى عليه هو جالس كُرسيه مقهى الروف بأعلى البرج ربما بِضع ساعات يجلس نفس الجلسة يُحرك إصبعاً ربما بنفس النظرة الذاهلة المحملقة أن يختلج له جفن كأنما تسمرت نفسه بات عقله مصلوباً فكرة واحدة لا يبرحها يتخلص حياته مريض شفاء يتنقل طبيب إلى دواء مُخدِر مخدر أمل ثم تذوي الآمال يكتشف أنه يبق إلا الصبر البيت وحده فِراش بارد مائدة عليها عشرات العقاقير خِطابات يجف حبرها تجري سطورها اللاهِثة بنداء واحد يهدأ : سوزان سوزان عودي أحبك أستطيع أحيا بدونك أموت حياتي ليل بدون ضوء عينيك و دائماً تُرسَل الخطابات تسافر عبر البحر يأتي لها رد يُسمَع صَدى الزوجة الأوروبية عادت بلادها بقلب ينزف تركت وراءها قلباً آخر ذلك الصمت الشبيه بالصراخ يعيش تلك الغرفة المُترَفة الوثيرة ذات الديكورات الغالية كتاب نقطة الغليان مجاناً PDF اونلاين 2025 تأليف الدكتور مصطفى محمود وهو عبارة عن مجموعة قصصية يدور محورها الرئيس حول الهداية والإيمان بالله العلي القدير وبأقداره وبما قسمه للإنسان صورت هذه القصص ما يشعر به الإنسان المعاصر ضياع وعدمية وفقدان لمعنى الحياة وجوهرها وقدمت يكون سعيدا بغير هداية الله الطريق الصحيح؛ فلا سعادة بمال أو حب سلطة التوجه تعالى والتقرب منه وإليه
كان يزدرد الطعام كأنه يزدرد كُرات من العجين يُلقي بها في جوفه دون تَلذُذ . و كان الهواء راكداً ثقيلاً . و كل شيء راكد ثقيل . و صفحة النهار تبدو كليلٍ بلا نجوم . و لم يكن يدري كم من الوقت قد مضى عليه و هو جالس في كُرسيه في مقهى الروف بأعلى البرج . ربما بِضع ساعات و هو يجلس نفس الجلسة لم يُحرك إصبعاً . و ربما بنفس النظرة الذاهلة المحملقة في الهواء دون أن يختلج له جفن ، و كأنما تسمرت نفسه و بات عقله مصلوباً على فكرة واحدة لا يبرحها . أن يتخلص من حياته .
مريض بلا شفاء . يتنقل من طبيب إلى طبيب . و من دواء إلى دواء . و من مُخدِر إلى مخدر . و من أمل إلى أمل . ثم تذوي الآمال ثم يكتشف أنه لم يبق له إلا الصبر . و في البيت وحده . و فِراش بارد . و مائدة عليها عشرات العقاقير، و خِطابات لا يجف حبرها . تجري سطورها اللاهِثة بنداء واحد لا يهدأ :
سوزان . . سوزان . . عودي . أحبك . لا أستطيع أن أحيا بدونك . و لا أن أموت بدونك . حياتي ليل بدون ضوء عينيك .
و دائماً تُرسَل الخطابات و تسافر عبر البحر . و لا يأتي لها رد ، و لا يُسمَع لها صَدى . الزوجة الأوروبية عادت إلى بلادها بقلب ينزف ، و تركت وراءها قلباً آخر ينزف .
و في ذلك الصمت الشبيه بالصراخ يعيش . و في تلك الغرفة المُترَفة الوثيرة ذات الديكورات الغالية يتقلب . و كأنما يتقلب على صحراء مُوحِشة تسرح فيها الأفاعي . ثم ينفد الصبر . و تنقطع حِبال الإنتظار . و لا تبقى في ذهنه إلا فكرة واحدة . أن يتخلص من حياته . تأتيه الفكرة في البداية زائرة ثم تصبح طَوّافة ثم تُلِح عليه ثم تُقيم في رأسه ثم تتحول إلى حصار ثم تغدو كابوساً قهرياً يحتويه و يجثم عليه و يخنقه رويداً رويداً .
و يتحرك أخيراً . فينظر إلى ساعته .
لقد مضت أربع سنوات و هو مُتجمد في كُرسيه كتمثال ، و شيء في داخله ينخر في بنيانه و يأكل جوفه . و بنظرة سريعة عبر الشرفة يطل على الناس الذين يبدون كالنمل الصغير أسفل البرج . و تتسمر عيناه على الهُوّة التي تَفغُر فاها تحت قدميه .
ثم في لحظة يرمي بنفسه من شاهِق .
و يتجمع الناس أسفل البرج . و هُم يحكون في ذهول . هناك رجل رمى بنفسه من أعلى البرج فسقط على كتفي عامل فقتله لساعته . أما هو فلم يُصَب بخدش .
و حينما أفاق الرجل من صدمته و أدرك ما فعل . إنكَبَّ على شفرة حديد صَدِئة إلتقطها من الطريق و قطع شرايينه .
و حملوه إلى المستشفى و هو ينزف . و أسعفوه .
و حينما فتح عينيه و اكتشف أنه لم يمُت بعد . إبتلع زجاجة الأقراص المنومة كلها في غفلة من الممرضة .
و لكنهم غسلوا معدته ، و أعطوه شيئاً . و أنقذوه .
و فتح عينيه من جديد ليجد أنه لم يمت بعد ثلاث محاولات قاتلة . قتل فيها رجل آخر و لم يَمُت . و سقط مغشياً عليه . و في النوم و بين لحظات الخدر ، و فيما يشبه الرؤيا شاهد الرجل نوراً و سمع صوتاً يقول له : ●● ماذا فعلت بنفسك ؟
● أردت أن أقتل نفسي لأستريح .
●● و من أين لك العلم بأنك سوف تستريح . أعلِمت بما ينتظرك بعد الموت ؟
● إنه على أي حال أفضل من حالي في الدنيا .
●● هذا ظنك . و لا يقتُل الناس أنفسهم بالظن .
● و ماذا كنت أستطيع أن أفعل . و ماذا بقيَ لي ؟
●● أن تصبر و تنتظر أمرنا .
● صبِرت .
●● تصبر يوماً آخر إلى غَد .
● سيكون غداً مشئوماً مثل سالفه .
●● كيف علمت . هل أنت الذي خلقت الأيام . هل أنت الذي خلقت نفسك ؟
● لا .
●● فكيف تحكم على ما لا تعلم ، و كيف تتصرف فيما لا تملك ؟
● هذا عمري و قد ضقت به .
●● أتعلم ماذا نُخفي لك غداً ؟
● لا .
●● إذاً فهو ليس عُمرك .
● لا أريد أن أعيش . خلوا بيني و بين الموت . دعوني . ارحموني .
●● لو تركناك فما رحمناك . إنما نحول بينك و بين رغبتك رحمةً مِنا و فضلاً ، و لو تخلينا عنك لهلَكت .
● يا مرحباً بالهلاك . ما أريد إلا الهلاك . يا أهلاً بالهلاك .
●● لن يكون الهلاك رقدة مُطمَئنة تحت التراب كما تتصور .
● أريد أن أخرج مما أنا فيه و كَفَى .
●● و لو إلى النار ؟
● و هل هناك نار غير هذه ؟
●● أتصَوَّرت أنه لا وجود إلا لما يقع تحت حسك من جنة و نار . أظننت أنه لا جنة و لا نار إلا نعيمكم و عذابكم . أظننتنا فقراء لا يتسع ملكنا إلا لهذا العالَم . أتصَوَّرتَ أنه ليس عندنا لك إلا هذه الشقة في المعادي . و ليس عند رب العالمين غير هذه الكرة الأرضية المعلقة كذرة غبار في الفضاء . ؟ بئس ما خَيَّل لك بَصرُك الضرير عن فقرنا .
● ضقت ذرعاً مما أنا فيه . إنسدت أمامي المسالك . إنطبقت السماء على الأرض . إختنقْت . أريد الخروج . أريد الخروج .
●● ألا تصبر لحظات أخرى . أترفض عطيّتنا في الغد قبل أن تراها ؟
● رأيت منها ما يكفيني .
●● هذا رفض لنا و يأس مِنّا و اتهام لحكمتنا و سوء ظن بتدبيرنا و انتقاص لملكنا . بئس ما قررت لنفسك . إذهب . رفضناك كما رفضتنا ، و حرمناك ما حرمت نفسك . خَلّوا بينه و بين الموت .
و في تلك الليلة شنق الرجل نفسه بملاءة الفراش . و مات في هذه المحاولة الرابعة . و فشلت كل الإسعافات في إنقاذه .
و جاء الغــد . .
فطلعت صفحات الجرائد الأولى بخبر مثير عن اكتشاف علاج جديد حاسم للمرض الذي كان يشكو منه .
و جاءت سوزان تدق بابه في شوق و في يدها بضع زجاجات من هذا الترياق الجديد و قلبها يطفح بالحب و الأمل .
و لكنه كان قد ذهب . لم ينتظر العطية . ظلم المُعطي و العَطيّة و ظلم نفسه و ظلم الغد الذي لم يره و اتهم الرحيم في رحمته و أنكر على المدبر تدبيره .
و خـــرج . .
إلى حيــث لا رحمـــة . . و لا عــودة . .
. قصة : الخروج من كتـــاب / نقطــة الغليـــان للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ الخـــروج . . . كان يزدرد الطعام كأنه يزدرد كُرات من العجين يُلقي بها في جوفه دون تَلذُذ .. و كان الهواء راكداً ثقيلاً .. و كل شيء راكد ثقيل .. و صفحة النهار تبدو كليلٍ بلا نجوم .. و لم يكن يدري كم من الوقت قد مضى عليه و هو جالس في كُرسيه في مقهى الروف بأعلى البرج .. ربما بِضع ساعات و هو يجلس نفس الجلسة لم يُحرك إصبعاً .. و ربما بنفس النظرة الذاهلة المحملقة في الهواء دون أن يختلج له جفن ، و كأنما تسمرت نفسه و بات عقله مصلوباً على فكرة واحدة لا يبرحها .. أن يتخلص من حياته . مريض بلا شفاء .. يتنقل من طبيب إلى طبيب .. و من دواء إلى دواء .. و من مُخدِر إلى مخدر .. و من أمل إلى أمل .. ثم تذوي الآمال ثم يكتشف أنه لم يبق له إلا الصبر . و في البيت وحده .. و فِراش بارد .. و مائدة عليها عشرات العقاقير، و خِطابات لا يجف حبرها .. تجري سطورها اللاهِثة بنداء واحد لا يهدأ : سوزان . . سوزان . . عودي .. أحبك .. لا أستطيع أن أحيا بدونك .. و لا أن أموت بدونك . حياتي ليل بدون ضوء عينيك . و دائماً تُرسَل الخطابات و تسافر عبر البحر .. و لا يأتي لها رد ، و لا يُسمَع لها صَدى . الزوجة الأوروبية عادت إلى بلادها بقلب ينزف ، و تركت وراءها قلباً آخر ينزف . و في ذلك الصمت الشبيه بالصراخ يعيش .. و في تلك الغرفة المُترَفة الوثيرة ذات الديكورات الغالية يتقلب .. و كأنما يتقلب على صحراء مُوحِشة تسرح فيها الأفاعي .. ثم ينفد الصبر .. و تنقطع حِبال الإنتظار . و لا تبقى في ذهنه إلا فكرة واحدة .. أن يتخلص من حياته . تأتيه الفكرة في البداية زائرة ثم تصبح طَوّافة ثم تُلِح عليه ثم تُقيم في رأسه ثم تتحول إلى حصار ثم تغدو كابوساً قهرياً يحتويه و يجثم عليه و يخنقه رويداً رويداً . و يتحرك أخيراً .. فينظر إلى ساعته . لقد مضت أربع سنوات و هو مُتجمد في كُرسيه كتمثال ، و شيء في داخله ينخر في بنيانه و يأكل جوفه .. و بنظرة سريعة عبر الشرفة يطل على الناس الذين يبدون كالنمل الصغير أسفل البرج .. و تتسمر عيناه على الهُوّة التي تَفغُر فاها تحت قدميه . ثم في لحظة يرمي بنفسه من شاهِق . و يتجمع الناس أسفل البرج .. و هُم يحكون في ذهول .. هناك رجل رمى بنفسه من أعلى البرج فسقط على كتفي عامل فقتله لساعته .. أما هو فلم يُصَب بخدش .. و حينما أفاق الرجل من صدمته و أدرك ما فعل .. إنكَبَّ على شفرة حديد صَدِئة إلتقطها من الطريق و قطع شرايينه . و حملوه إلى المستشفى و هو ينزف .. و أسعفوه .. و حينما فتح عينيه و اكتشف أنه لم يمُت بعد .. إبتلع زجاجة الأقراص المنومة كلها في غفلة من الممرضة .. و لكنهم غسلوا معدته ، و أعطوه شيئاً .. و أنقذوه .. و فتح عينيه من جديد ليجد أنه لم يمت بعد ثلاث محاولات قاتلة .. قتل فيها رجل آخر و لم يَمُت .. و سقط مغشياً عليه .. و في النوم و بين لحظات الخدر ، و فيما يشبه الرؤيا شاهد الرجل نوراً و سمع صوتاً يقول له : ●● ماذا فعلت بنفسك ؟ ● أردت أن أقتل نفسي لأستريح . ●● و من أين لك العلم بأنك سوف تستريح .. أعلِمت بما ينتظرك بعد الموت ؟ ● إنه على أي حال أفضل من حالي في الدنيا . ●● هذا ظنك .. و لا يقتُل الناس أنفسهم بالظن . ● و ماذا كنت أستطيع أن أفعل .. و ماذا بقيَ لي ؟ ●● أن تصبر و تنتظر أمرنا .. ● صبِرت . ●● تصبر يوماً آخر إلى غَد . ● سيكون غداً مشئوماً مثل سالفه . ●● كيف علمت .. هل أنت الذي خلقت الأيام .. هل أنت الذي خلقت نفسك ؟ ● لا . ●● فكيف تحكم على ما لا تعلم ، و كيف تتصرف فيما لا تملك ؟ ● هذا عمري و قد ضقت به . ●● أتعلم ماذا نُخفي لك غداً ؟ ● لا . ●● إذاً فهو ليس عُمرك . ● لا أريد أن أعيش .. خلوا بيني و بين الموت .. دعوني .. ارحموني . ●● لو تركناك فما رحمناك .. إنما نحول بينك و بين رغبتك رحمةً مِنا و فضلاً ، و لو تخلينا عنك لهلَكت . ● يا مرحباً بالهلاك .. ما أريد إلا الهلاك .. يا أهلاً بالهلاك . ●● لن يكون الهلاك رقدة مُطمَئنة تحت التراب كما تتصور . ● أريد أن أخرج مما أنا فيه و كَفَى . ●● و لو إلى النار ؟ ● و هل هناك نار غير هذه ؟ ●● أتصَوَّرت أنه لا وجود إلا لما يقع تحت حسك من جنة و نار .. أظننت أنه لا جنة و لا نار إلا نعيمكم و عذابكم .. أظننتنا فقراء لا يتسع ملكنا إلا لهذا العالَم .. أتصَوَّرتَ أنه ليس عندنا لك إلا هذه الشقة في المعادي .. و ليس عند رب العالمين غير هذه الكرة الأرضية المعلقة كذرة غبار في الفضاء .. ؟ بئس ما خَيَّل لك بَصرُك الضرير عن فقرنا . ● ضقت ذرعاً مما أنا فيه .. إنسدت أمامي المسالك .. إنطبقت السماء على الأرض .. إختنقْت .. أريد الخروج .. أريد الخروج . ●● ألا تصبر لحظات أخرى .. أترفض عطيّتنا في الغد قبل أن تراها ؟ ● رأيت منها ما يكفيني . ●● هذا رفض لنا و يأس مِنّا و اتهام لحكمتنا و سوء ظن بتدبيرنا و انتقاص لملكنا .. بئس ما قررت لنفسك .. إذهب .. رفضناك كما رفضتنا ، و حرمناك ما حرمت نفسك .. خَلّوا بينه و بين الموت .. و في تلك الليلة شنق الرجل نفسه بملاءة الفراش .. و مات في هذه المحاولة الرابعة .. و فشلت كل الإسعافات في إنقاذه . و جاء الغــد . . فطلعت صفحات الجرائد الأولى بخبر مثير عن اكتشاف علاج جديد حاسم للمرض الذي كان يشكو منه . و جاءت سوزان تدق بابه في شوق و في يدها بضع زجاجات من هذا الترياق الجديد و قلبها يطفح بالحب و الأمل . و لكنه كان قد ذهب . لم ينتظر العطية . ظلم المُعطي و العَطيّة و ظلم نفسه و ظلم الغد الذي لم يره و اتهم الرحيم في رحمته و أنكر على المدبر تدبيره . و خـــرج . . إلى حيــث لا رحمـــة . . و لا عــودة . . .. قصة : الخروج من كتـــاب / نقطــة الغليـــان للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الخـــروج . . .
كان يزدرد الطعام كأنه يزدرد كُرات من العجين يُلقي بها في جوفه دون تَلذُذ . و كان الهواء راكداً ثقيلاً . و كل شيء راكد ثقيل . و صفحة النهار تبدو كليلٍ بلا نجوم . و لم يكن يدري كم من الوقت قد مضى عليه و هو جالس في كُرسيه في مقهى الروف بأعلى البرج . ربما بِضع ساعات و هو يجلس نفس الجلسة لم يُحرك إصبعاً . و ربما بنفس النظرة الذاهلة المحملقة في الهواء دون أن يختلج له جفن ، و كأنما تسمرت نفسه و بات عقله مصلوباً على فكرة واحدة لا يبرحها . أن يتخلص من حياته .
مريض بلا شفاء . يتنقل من طبيب إلى طبيب . و من دواء إلى دواء . و من مُخدِر إلى مخدر . و من أمل إلى أمل . ثم تذوي الآمال ثم يكتشف أنه لم يبق له إلا الصبر . و في البيت وحده . و فِراش بارد . و مائدة عليها عشرات العقاقير، و خِطابات لا يجف حبرها . تجري سطورها اللاهِثة بنداء واحد لا يهدأ :
سوزان . . سوزان . . عودي . أحبك . لا أستطيع أن أحيا بدونك . و لا أن أموت بدونك . حياتي ليل بدون ضوء عينيك .
و دائماً تُرسَل الخطابات و تسافر عبر البحر . و لا يأتي لها رد ، و لا يُسمَع لها صَدى . الزوجة الأوروبية عادت إلى بلادها بقلب ينزف ، و تركت وراءها قلباً آخر ينزف .
و في ذلك الصمت الشبيه بالصراخ يعيش . و في تلك الغرفة المُترَفة الوثيرة ذات الديكورات الغالية يتقلب . و كأنما يتقلب على صحراء مُوحِشة تسرح فيها الأفاعي . ثم ينفد الصبر . و تنقطع حِبال الإنتظار . و لا تبقى في ذهنه إلا فكرة واحدة . أن يتخلص من حياته . تأتيه الفكرة في البداية زائرة ثم تصبح طَوّافة ثم تُلِح عليه ثم تُقيم في رأسه ثم تتحول إلى حصار ثم تغدو كابوساً قهرياً يحتويه و يجثم عليه و يخنقه رويداً رويداً .
و يتحرك أخيراً . فينظر إلى ساعته .
لقد مضت أربع سنوات و هو مُتجمد في كُرسيه كتمثال ، و شيء في داخله ينخر في بنيانه و يأكل جوفه . و بنظرة سريعة عبر الشرفة يطل على الناس الذين يبدون كالنمل الصغير أسفل البرج . و تتسمر عيناه على الهُوّة التي تَفغُر فاها تحت قدميه .
ثم في لحظة يرمي بنفسه من شاهِق .
و يتجمع الناس أسفل البرج . و هُم يحكون في ذهول . هناك رجل رمى بنفسه من أعلى البرج فسقط على كتفي عامل فقتله لساعته . أما هو فلم يُصَب بخدش .
و حينما أفاق الرجل من صدمته و أدرك ما فعل . إنكَبَّ على شفرة حديد صَدِئة إلتقطها من الطريق و قطع شرايينه .
و حملوه إلى المستشفى و هو ينزف . و أسعفوه .
و حينما فتح عينيه و اكتشف أنه لم يمُت بعد . إبتلع زجاجة الأقراص المنومة كلها في غفلة من الممرضة .
و لكنهم غسلوا معدته ، و أعطوه شيئاً . و أنقذوه .
و فتح عينيه من جديد ليجد أنه لم يمت بعد ثلاث محاولات قاتلة . قتل فيها رجل آخر و لم يَمُت . و سقط مغشياً عليه . و في النوم و بين لحظات الخدر ، و فيما يشبه الرؤيا شاهد الرجل نوراً و سمع صوتاً يقول له : ●● ماذا فعلت بنفسك ؟
● أردت أن أقتل نفسي لأستريح .
●● و من أين لك العلم بأنك سوف تستريح . أعلِمت بما ينتظرك بعد الموت ؟
● إنه على أي حال أفضل من حالي في الدنيا .
●● هذا ظنك . و لا يقتُل الناس أنفسهم بالظن .
● و ماذا كنت أستطيع أن أفعل . و ماذا بقيَ لي ؟
●● أن تصبر و تنتظر أمرنا .
● صبِرت .
●● تصبر يوماً آخر إلى غَد .
● سيكون غداً مشئوماً مثل سالفه .
●● كيف علمت . هل أنت الذي خلقت الأيام . هل أنت الذي خلقت نفسك ؟
● لا .
●● فكيف تحكم على ما لا تعلم ، و كيف تتصرف فيما لا تملك ؟
● هذا عمري و قد ضقت به .
●● أتعلم ماذا نُخفي لك غداً ؟
● لا .
●● إذاً فهو ليس عُمرك .
● لا أريد أن أعيش . خلوا بيني و بين الموت . دعوني . ارحموني .
●● لو تركناك فما رحمناك . إنما نحول بينك و بين رغبتك رحمةً مِنا و فضلاً ، و لو تخلينا عنك لهلَكت .
● يا مرحباً بالهلاك . ما أريد إلا الهلاك . يا أهلاً بالهلاك .
●● لن يكون الهلاك رقدة مُطمَئنة تحت التراب كما تتصور .
● أريد أن أخرج مما أنا فيه و كَفَى .
●● و لو إلى النار ؟
● و هل هناك نار غير هذه ؟
●● أتصَوَّرت أنه لا وجود إلا لما يقع تحت حسك من جنة و نار . أظننت أنه لا جنة و لا نار إلا نعيمكم و عذابكم . أظننتنا فقراء لا يتسع ملكنا إلا لهذا العالَم . أتصَوَّرتَ أنه ليس عندنا لك إلا هذه الشقة في المعادي . و ليس عند رب العالمين غير هذه الكرة الأرضية المعلقة كذرة غبار في الفضاء . ؟ بئس ما خَيَّل لك بَصرُك الضرير عن فقرنا .
● ضقت ذرعاً مما أنا فيه . إنسدت أمامي المسالك . إنطبقت السماء على الأرض . إختنقْت . أريد الخروج . أريد الخروج .
●● ألا تصبر لحظات أخرى . أترفض عطيّتنا في الغد قبل أن تراها ؟
● رأيت منها ما يكفيني .
●● هذا رفض لنا و يأس مِنّا و اتهام لحكمتنا و سوء ظن بتدبيرنا و انتقاص لملكنا . بئس ما قررت لنفسك . إذهب . رفضناك كما رفضتنا ، و حرمناك ما حرمت نفسك . خَلّوا بينه و بين الموت .
و في تلك الليلة شنق الرجل نفسه بملاءة الفراش . و مات في هذه المحاولة الرابعة . و فشلت كل الإسعافات في إنقاذه .
و جاء الغــد . .
فطلعت صفحات الجرائد الأولى بخبر مثير عن اكتشاف علاج جديد حاسم للمرض الذي كان يشكو منه .
و جاءت سوزان تدق بابه في شوق و في يدها بضع زجاجات من هذا الترياق الجديد و قلبها يطفح بالحب و الأمل .
و لكنه كان قد ذهب . لم ينتظر العطية . ظلم المُعطي و العَطيّة و ظلم نفسه و ظلم الغد الذي لم يره و اتهم الرحيم في رحمته و أنكر على المدبر تدبيره .
و خـــرج . .
إلى حيــث لا رحمـــة . . و لا عــودة . .
. قصة : الخروج من كتـــاب / نقطــة الغليـــان للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ الطريق من القاهرة إلى مرسى مطروح بالسيارة طريق طويل ممل تتشابه فيه المناظر على مدى ساعات .. آفاق ممتدة من الرمال و شريط أزرق من البحر يبدو و يختفي .. و اهتزازات صاعدة هابطة تهبط منها الأحشاء ، و يُصاب الرأس بالدوار .. و لولا ذلك الرفيق الثِرثار ربما كان السائق قد أغفَى على مقعد القيادة نائماً من فرط الرتابة . و في مثل هذه المسافات الطويلة تحلو الثرثرة .. و صاحبنا الثرثار رجل قلِق متوتر لا يعجبه شيء و لا يرى من الإنسان إلا عيوبه ، و لا يرى في الدنيا إلا جوانبها السالبة و لا يرى في الكون شيئاً جديراً بالحمد .. فالكون مشروع فاشل ، و الحياة صفقة خاسرة نهايتها الموت .. و العَطَب و الفساد يكتنف كل شيء .. فالورد يذبُل .. و الشمس تأفُل .. و الجسد يشيخ .. و الأرض تتبدل .. و لا شيء يبقى على حاله .. و الإنسان يشرب دموعه مع كل ضحكة .. فأين الحكمة .. و أين الإبداع .. و أين الجمال .. و علام ذلك التسبيح شكراً و حمداً .. و علام تعفير الجباه سجوداً و ركوعاً .. و كيف نشكر الخالق على الميكروب و السرطان و الزلزال و الموت غرقاً و حرقاً .. أما صاحبنا الآخر فهو على النقيض ، رجل مطمئن تكسوه دائماً ملامح الرضا و الحمد و القناعة .. و في رأيه أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان .. و أن الله خلق الكون و الإنسان على أحسن صورة .. و أن الموت و الشيخوخة و المرض .. هي ظِلال لابد منها لكمال الصورة .. فما كانت الصحة لِتُعرَف لولا المرض .. بل إن المرض يعطي للإنسان فيما يُعطي .. المناعة و الحصانة .. كما أنه يعلمه الصبر و الجَلَد .. ثم هو الذي يخلق المناسبة للرحمة و التعاطف و البذل بين الناس .. و حُكمِهِ حُكم لَسعَة البرد و الحر التي تنبه الجسد و تستفزه ليحتشد .. و لو أخلد الإنسان إلى إعتدال دائم لاسترخت خلايا جسده و هلكت من الخمول و الترف .. و شُكراً للميكروب فهو يخلق للعقل وظيفة عاجلة ليفكر و يبتكر و يحتال على الإنقاذ .. و هل البنسلين و الكلورميسين و الأريومسين و كافة عائلة المضادات الحيوية إلا مخلفات ميكروبات .. ! و هل يحصل النبات على سماده الطبيعي إلا بميكروبات في درنات الجذور تثبت النيتروجين و تسلمه لنبات سماداً جاهزاً .. ! ** إن للشر دائماً وجهاً آخر خَفيّاً .. هو عين الخير . و لولا الزلازل و البراكين التي تُنَفِس عن الضغط الزائد في باطن الأرض لانفجرت الأرض بِمَن عليها من ملاين السنين . و كما يقول الفيلسوف الحكيم أبو حامد الغزالي : كلما ازداد القوس إعوجاجاً أعطى السهم تَوتُراً و اندِفاعاً أكثر ليصيب هدفه ، و ذلك هو الكمال الذي يَخفَى في باطن النقص . و لهذا قال الغزالي : إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، و أن الدنيا بما فيها من نقص هي أكمل مثال لدنيا زائلة . ● قال الرجل الثِرثار : كل هذا كلام في كلام .. و أُحِب أن أرى الآن لو كُسِرَت ذراعُك أو كُفَ بَصرُك .. ماذا تقول .. ؟ ● قال الرجل الهادئ : أقول الحمد لله لطفت يا رب في قضائك و أبقيت لي ذراعاً سليمة .. و أخذت بصري و أبقيت سمعي .. فشكراً على ما أبقيت .. و لك الحكمة فيما أخذت . ● قال الثرثار : هذا دجل صريح .. و أراهن أنك أكبر دجال فيما تقول .. و أُراهن أن الموقف سوف يختلف كثيراً إذا أصابك شيء من هذا .. و أنك سوف تَسُب الدين و المِلّة . ● قال الرجل المطمئن : حاشا لله أن أفعل شيئاً من ذلك .. و أنا أُحسِن الظن بالله .. و أرى جماله في كل شيء .. و أرى رحمته تسبق عدله .. و لُطفِه يسبق رحمته في كل قضاء .. و لا أراه ظالِماً أبداً .. تعالى ربي عن الظُلم عُلُواً كبيراً . و لم يُجِب الرجل الثِرثار .. فقد وقعت العربة في مطب فجأة و انحرفت عجلة القيادة .. و ظهرت عربة قادمة بسرعة من الإتجاه الآخر .. و فقد السائق السيطرة على توجيه عربته تماماً .. و رآها تخرج من يده إلى خارج الطريق المرصوف ثم تميل ميلاً شديداً لتنقلب و تبدأ في الدوران حول نفسها عدة مرات لتستقر على بعد مائة متر في الرمال . و خرج الرجل الثرثار شاحِباً يرتجف و هو يتحسس نفسه و يدهش كيف لم يُصَب بِخدش .. أما الرجل المطمئن فكان فاقد الوعي يتنفس بصعوبة و يخرج من فمه شخير . و انطلق الرجل في فزع إلى أقرب نقطة مرور و اتصل تليفونياً بأقرب وحدة صحية ، و كانت وحدة العلمين على بُعد عشرة كيلو مترات . و جاءت عربة الإسعاف .. و قال طبيب الوحدة بعد الفحص الأوَلي إن هناك تمزُقاً بالكلية اليُمنى و نزيفاً ، و إن الحل الوحيد هو نقل المصاب فوراً إلى الإسكندرية و إجراء جراحة إستئصال عاجلة للكلية .. و في الغُرفة رقم "7" بعنبر الجراحة بمستشفى الجامعة .. كان المُصاب مسجى على فراشه بعد أن خرج من غرفة العمليات .. و كان لا يزال في غفوة البنج . و إلى جواره جلس صديقه الثرثار في انتظار اللحظة التي يفتح فيها عينيه ، و كان أول ما قال الرجل حينما فتح عينيه : ● الحمد لله . و كان الرجل الثرثار يجلس مبهوتاً ، و كان لا يزال يرتجف من هول ما رأى و ما سَمِع و هو يتأرجح على عتبة الموت .. و كان لا يزال يتحسس جسده السليم و لا يُصدِق كيف خرج سليماً ، و كان الطبيب يتحدث بالتليفون إلى قسم الباثولوجي . و وضع الطبيب التليفون و ظهرت على وجهه دهشة لا حد لها .. قال الطبيب و قد اتسعت حدقتاه : ● هذا أمر عجيب .. أمرٌ لا يُصَدَق .! ● قال الرجل الثرثار .. كيف .. ماذا تعني .. ماذا حدث ؟ ● قال الطبيب و هو يبتلع لعابه من الإنفعال : الكلية التي أستُئصِلَت .. ● قال الرجل الثرثار في فضول : ما خطبها .. ؟ ● قال الطبيب : يقول تقرير الباثولوجي .. إنه كان بها سرطان وليد في أول مراحله . و خيَّم الصمت على الثلاثة برهة و كأن على رؤسهم الطير .. ● ثم استأنف الطبيب الكلام : لولا هذا الحادث الذي إستأصلنا بسببه الكلية لكان المصاب سيهلك بالسرطان حتماً .. هذا عجيب .. هذا حادث إنقاذ .. هذا حادث مُلاطَفة .. و ليس نكبة . إن ما حدث كان خيراً لا حد له .. ● و ابتسم الرجل المطمئن إبتسامة واهنة في فراشه و قال : الحمد لله . إن الله يعاملني بنياتي ، فقد كنت دائماً أُحسِن الظن به . و التفت إلى صاحبه الثرثار قائلا : أرأيت يا صديقي .. فذلك هو الخير الباطن في الشر .. و سكت الطبيب ساهِماً . و بُهِتَ الذي كَفَر .. فلم يجد ما يقول .. ***** قصة / ملاطفة من كتـــاب / نقـطــة الغـليــان للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الطريق من القاهرة إلى مرسى مطروح بالسيارة طريق طويل ممل تتشابه فيه المناظر على مدى ساعات . آفاق ممتدة من الرمال و شريط أزرق من البحر يبدو و يختفي . و اهتزازات صاعدة هابطة تهبط منها الأحشاء ، و يُصاب الرأس بالدوار . و لولا ذلك الرفيق الثِرثار ربما كان السائق قد أغفَى على مقعد القيادة نائماً من فرط الرتابة .
و في مثل هذه المسافات الطويلة تحلو الثرثرة .
و صاحبنا الثرثار رجل قلِق متوتر لا يعجبه شيء و لا يرى من الإنسان إلا عيوبه ، و لا يرى في الدنيا إلا جوانبها السالبة و لا يرى في الكون شيئاً جديراً بالحمد . فالكون مشروع فاشل ، و الحياة صفقة خاسرة نهايتها الموت . و العَطَب و الفساد يكتنف كل شيء . فالورد يذبُل . و الشمس تأفُل . و الجسد يشيخ . و الأرض تتبدل . و لا شيء يبقى على حاله . و الإنسان يشرب دموعه مع كل ضحكة . فأين الحكمة . و أين الإبداع . و أين الجمال . و علام ذلك التسبيح شكراً و حمداً . و علام تعفير الجباه سجوداً و ركوعاً . و كيف نشكر الخالق على الميكروب و السرطان و الزلزال و الموت غرقاً و حرقاً .
أما صاحبنا الآخر فهو على النقيض ، رجل مطمئن تكسوه دائماً ملامح الرضا و الحمد و القناعة . و في رأيه أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان . و أن الله خلق الكون و الإنسان على أحسن صورة . و أن الموت و الشيخوخة و المرض . هي ظِلال لابد منها لكمال الصورة . فما كانت الصحة لِتُعرَف لولا المرض . بل إن المرض يعطي للإنسان فيما يُعطي . المناعة و الحصانة . كما أنه يعلمه الصبر و الجَلَد . ثم هو الذي يخلق المناسبة للرحمة و التعاطف و البذل بين الناس . و حُكمِهِ حُكم لَسعَة البرد و الحر التي تنبه الجسد و تستفزه ليحتشد . و لو أخلد الإنسان إلى إعتدال دائم لاسترخت خلايا جسده و هلكت من الخمول و الترف . و شُكراً للميكروب فهو يخلق للعقل وظيفة عاجلة ليفكر و يبتكر و يحتال على الإنقاذ . و هل البنسلين و الكلورميسين و الأريومسين و كافة عائلة المضادات الحيوية إلا مخلفات ميكروبات . ! و هل يحصل النبات على سماده الطبيعي إلا بميكروبات في درنات الجذور تثبت النيتروجين و تسلمه لنبات سماداً جاهزاً . !
* إن للشر دائماً وجهاً آخر خَفيّاً . هو عين الخير .
و لولا الزلازل و البراكين التي تُنَفِس عن الضغط الزائد في باطن الأرض لانفجرت الأرض بِمَن عليها من ملاين السنين .
و كما يقول الفيلسوف الحكيم أبو حامد الغزالي : كلما ازداد القوس إعوجاجاً أعطى السهم تَوتُراً و اندِفاعاً أكثر ليصيب هدفه ، و ذلك هو الكمال الذي يَخفَى في باطن النقص .
و لهذا قال الغزالي : إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان ، و أن الدنيا بما فيها من نقص هي أكمل مثال لدنيا زائلة .
● قال الرجل الثِرثار : كل هذا كلام في كلام . و أُحِب أن أرى الآن لو كُسِرَت ذراعُك أو كُفَ بَصرُك . ماذا تقول . ؟
● قال الرجل الهادئ : أقول الحمد لله لطفت يا رب في قضائك و أبقيت لي ذراعاً سليمة . و أخذت بصري و أبقيت سمعي . فشكراً على ما أبقيت . و لك الحكمة فيما أخذت .
● قال الثرثار : هذا دجل صريح . و أراهن أنك أكبر دجال فيما تقول . و أُراهن أن الموقف سوف يختلف كثيراً إذا أصابك شيء من هذا . و أنك سوف تَسُب الدين و المِلّة .
● قال الرجل المطمئن : حاشا لله أن أفعل شيئاً من ذلك . و أنا أُحسِن الظن بالله . و أرى جماله في كل شيء . و أرى رحمته تسبق عدله . و لُطفِه يسبق رحمته في كل قضاء . و لا أراه ظالِماً أبداً . تعالى ربي عن الظُلم عُلُواً كبيراً .
و لم يُجِب الرجل الثِرثار . فقد وقعت العربة في مطب فجأة و انحرفت عجلة القيادة . و ظهرت عربة قادمة بسرعة من الإتجاه الآخر . و فقد السائق السيطرة على توجيه عربته تماماً . و رآها تخرج من يده إلى خارج الطريق المرصوف ثم تميل ميلاً شديداً لتنقلب و تبدأ في الدوران حول نفسها عدة مرات لتستقر على بعد مائة متر في الرمال .
و خرج الرجل الثرثار شاحِباً يرتجف و هو يتحسس نفسه و يدهش كيف لم يُصَب بِخدش . أما الرجل المطمئن فكان فاقد الوعي يتنفس بصعوبة و يخرج من فمه شخير . و انطلق الرجل في فزع إلى أقرب نقطة مرور و اتصل تليفونياً بأقرب وحدة صحية ، و كانت وحدة العلمين على بُعد عشرة كيلو مترات .
و جاءت عربة الإسعاف . و قال طبيب الوحدة بعد الفحص الأوَلي إن هناك تمزُقاً بالكلية اليُمنى و نزيفاً ، و إن الحل الوحيد هو نقل المصاب فوراً إلى الإسكندرية و إجراء جراحة إستئصال عاجلة للكلية .
و في الغُرفة رقم ˝7˝ بعنبر الجراحة بمستشفى الجامعة . كان المُصاب مسجى على فراشه بعد أن خرج من غرفة العمليات . و كان لا يزال في غفوة البنج . و إلى جواره جلس صديقه الثرثار في انتظار اللحظة التي يفتح فيها عينيه ، و كان أول ما قال الرجل حينما فتح عينيه :
● الحمد لله .
و كان الرجل الثرثار يجلس مبهوتاً ، و كان لا يزال يرتجف من هول ما رأى و ما سَمِع و هو يتأرجح على عتبة الموت . و كان لا يزال يتحسس جسده السليم و لا يُصدِق كيف خرج سليماً ، و كان الطبيب يتحدث بالتليفون إلى قسم الباثولوجي . و وضع الطبيب التليفون و ظهرت على وجهه دهشة لا حد لها . قال الطبيب و قد اتسعت حدقتاه :
● هذا أمر عجيب . أمرٌ لا يُصَدَق .!
● قال الرجل الثرثار . كيف . ماذا تعني . ماذا حدث ؟
● قال الطبيب و هو يبتلع لعابه من الإنفعال : الكلية التي أستُئصِلَت .
● قال الرجل الثرثار في فضول : ما خطبها . ؟
● قال الطبيب : يقول تقرير الباثولوجي . إنه كان بها سرطان وليد في أول مراحله .
و خيَّم الصمت على الثلاثة برهة و كأن على رؤسهم الطير .
● ثم استأنف الطبيب الكلام : لولا هذا الحادث الذي إستأصلنا بسببه الكلية لكان المصاب سيهلك بالسرطان حتماً . هذا عجيب . هذا حادث إنقاذ . هذا حادث مُلاطَفة . و ليس نكبة . إن ما حدث كان خيراً لا حد له .
● و ابتسم الرجل المطمئن إبتسامة واهنة في فراشه و قال : الحمد لله . إن الله يعاملني بنياتي ، فقد كنت دائماً أُحسِن الظن به . و التفت إلى صاحبه الثرثار قائلا : أرأيت يا صديقي . فذلك هو الخير الباطن في الشر .
و سكت الطبيب ساهِماً .
و بُهِتَ الذي كَفَر . فلم يجد ما يقول .
*****
قصة / ملاطفة من كتـــاب / نقـطــة الغـليــان للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝