❞ الدين ليس حرفة و لا يصلح لأن يكون حرفة .
و لا توجد في الإسلام وظيفة اسمها رجل دين .
و مجموعة الشعائر و المناسك التي يؤديها المسلم يمكن أن تؤدى في روتينية مكررة فاترة خالية من الشعور
, فلا تكون من الدين في شيء .
و ليس عندنا زي اسمه زي إسلامي .. و الجلباب و السروال و الشمروخ و اللحية أعراف و عادات يشترك فيها المسلم و البوذي و المجوسي و الدرزي .. و مطربو الديسكو و الهيبي لحاهم أطول .. و أن يكون اسمك محمدا أو عليا أو عثمان
, لا يكفي لتكون مسلما .
و ديانتك على البطاقة هي الأخرى مجرد كلمة .
و السبحة و التمتمة و الحمحمة
, و سمت الدراويش و تهليلة المشايخ أحيانا يباشرها الممثلون بإجادة أكثر من أصحابها .
و الرايات و اللافتات و المجامر و المباخر و الجماعات الدينية أحيانا يختفي وراءها التآمر و المكر السياسي و الفتن و الثورات التي لا تمت إلى الدين بسبب.
ما الدين إذن ... ؟!
الدين حالة قلبية .. شعور .. إحساس باطني بالغيب .. و إدراك مبهم
, لكن مع إبهامه شديد الوضوح بأن هناك قوة خفية حكيمة مهيمنة عليا تدبر كل شيء .
إحساس تام قاهر بأن هناك ذاتا عليا .. و أن المملكة لها ملك .. و أنه لا مهرب لظالم و لا إفلات لمجرم .. و أنك حر مسئول لم تولد عبثا و لا تحيا سدى و أن موتك ليس نهايتك .. و إنما سيعبر بك إلى حيث لا تعلم .. إلى غيب من حيث جئت من غيب .. و الوجود مستمر .
و هذا الإحساس يورث الرهبة و التقوى و الورع
, و يدفع إلى مراجعة النفس و يحفز صاحبه لأن يبدع من حياته شيئا ذا قيمة و يصوغ من نفسه وجودا أرقى و أرقى كل لحظة متحسبا لليوم الذي يلاقي فيه ذلك الملك العظيم .. مالك الملك .
هذه الأزمة الوجودية المتجددة و المعاناة الخلاقة المبدعة و الشعور المتصل بالحضور أبدا منذ قبل الميلاد إلى ما بعد الموت .. و الإحساس بالمسئولية و الشعور بالحكمة و الجمال و النظام و الجدية في كل شيء .. هو حقيقة الدين .
إنما تأتي العبادات و الطاعات بعد ذلك شواهد على هذه الحالة القلبية .. لكن الحالة القلبية هي الأصل .. و هي عين الدين و كنهه و جوهره .
و ينزل القرآن للتعريف بهذا الملك العظيم .. ملك الملوك .. و بأسمائه الحسنى و صفاته و أفعاله و آياته و وحدانيته .
و يأتي محمد عليه الصلاة و السلام ليعطي المثال و القدوة .
و ذلك لتوثيق الأمر و تمام الكلمة .
و لكن يظل الإحساس بالغيب هو روح العبادة و جوهر الأحكام و الشرائع
, و بدونه لا تعني الصلاة و لا تعني الزكاة شيئا .
و لقد أعطى محمد عليه الصلاة و السلام القدوة و المثال للمسلم الكامل
, كما أعطى المثال للحكم الإسلامي و المجتمع الإسلامي .. لكن محمدا عليه الصلاة و السلام و صحبه كانوا مسلمين في مجتمع قريش الكافر .. فبيئة الكفر
, و مناخ الكفر لم يمنع أيا منهم من أن يكون مسلما تام الإسلام .
و على المؤمن أن يدعو إلى الإيمان
, و لكن لا يضره ألا يستمع أحد
, و لا يضره أن يكفر من حوله
, فهو يستطيع أن يكون مؤمنا في أي نظام و في أي بيئة .. لأن الإيمان حالة قلبية
, و الدين شعور و ليس مظاهرة
, و المبصر يستطيع أن يباشر الإبصار و لو كان كل الموجودين عميانا
, فالإبصار ملكة لا تتأثر بعمى الموجودين
, كما أن الإحساس بالغيب ملكة لا تتأثر بغفلة الغافلين و لو كثروا بل سوف تكون كثرتهم زيادة في ميزانها يوم الحساب .
إن العمدة في مسألة الدين و التدين هي الحالة القلبية .
ماذا يشغل القلب .. و ماذا يجول بالخاطر ؟
و ما الحب الغالب على المشاعر ؟
و لأي شيء الأفضلية القصوى ؟
و ماذا يختار القلب في اللحظة الحاسمة ؟
و إلى أي كفة يميل الهوى ؟
تلك هي المؤشرات التي سوف تدل على الدين من عدمه .. و هي أكثر دلالة من الصلاة الشكلية
, و لهذا قال القرآن .. و لذكر الله أكبر .. أي أن الذكر أكبر من الصلاة .. برغم أهمية الصلاة .
و لذلك قال النبي عليه الصلاة و السلام لصحابته عن أبي بكر .. إنه لا يفضلكم بصوم أو بصلاة و لكن بشيء وقر في قلبه .
و بهذا الشيء الذي وقر في قلب كل منا سوف نتفاضل يوم القيامة بأكثر مما نتفاضل بصلاة أو صيام .
إنما تكون الصلاة صلاة بسبب هذا الشيء الذي في القلب .
و إنما تكتسب الصلاة أهميتها القصوى في قدرتها على تصفية القلب و جمع الهمة و تحشيد الفكر و تركيز المشاعر .
و كثرة الصلاة تفتح هذه العين الداخلية و توسع هذا النهر الباطني
, و هي الجمعية الوجودية مع الله التي تعبر عن الدين بأكثر مما يعبر أي فعل .
و هي رسم الإسلام الذي يرسمه الجسم على الأرض
, سجودا
, و ركوعا و خشوعا و ابتهالا
, و فناء .. يقول رب العالمين لنبيه :
(( اسجد و اقترب )) .
و بسجود القلب يتجسد المعنى الباطني العميق للدين
, و تنعقد الصلة بأوثق ما تكون بين العبد و الرب .
و بالحس الديني
, يشهد القلب الفعل الإلهي في كل شيء .. في المطر و الجفاف
, في الهزيمة و النصر
, في الصحة و المرض
, في الفقر و الغنى
, في الفرج و الضيق .. و على اتساع التاريخ يرى الله في تقلب الأحداث و تداول المقادير .
و على اتساع الكون يرى الله في النظام و التناسق و الجمال
, كما يراه في الكوارث التي تنفجر فيها النجوم و تتلاشى في الفضاء البعيد .
و في خصوصية النفس يراه فيما يتعاقب على النفس من بسط و قبض
, و أمل و حلم
, و فيما يلقى في القلب من خواطر و واردات .. حتى لتكاد تتحول حياة العابد إلى حوار هامس بينه و بين ربه طول الوقت ..
حوار بدون كلمات ..
لأن كل حدث يجري حوله هو كلمة إلهية و عبارة ربانية
, و كل خبر مشيئة
, و كل جديد هو سابقة في علم الله القديم .
و هذا الفهم للمشيئة لا يرى فيه المسلم تعطيلا لحريته
, بل يرى فيه امتدادا لهذه الحرية .. فقد أصبح يختار بربه
, و يريد بربه
, و يخطط بربه
, و ينفذ بربه .. فالله هو الوكيل في كل أعماله .
بل هو يمشي به
, و يتنفس به
, و يسمع به
, و يبصر به
, و يحيا به .. و تلك قوة هائلة و مدد لا ينفد للعابد العارف
, كادت أن تكون يده يد الله و بصره بصره
, و سمعه سمعه
, و إرادته إرادته .
إن نهر الوجود الباطني داخله قد اتسع للإطلاق .. و في ذلك يقول الله في حديثه القدسي :
(( لم تسعني سماواتي و لا أرضي و وسعني قلب عبدي المؤمن )) .
هذا التصعيد الوجودي
, و العروج النفسي المستمر هو المعنى الحقيقي للدين .. و تلك هي الهجرة إلى الله كدحا .
(( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )) .
و لا نجد غير الكدح كلمة تعبر عن هذه المعاناة الوجودية الخلاقة
, و الجهاد النفسي صعودا إلى الله .
هذا هو الدين .. و هو أكبر بكثير من أن يكون حرفة أو وظيفة أو بطاقة أو مؤسسة أو زيا رسميا
مقال/ الدين ما هو
من كتاب / الإسلام ما هو
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝