❞ كل شيء كان متوتراً في مكة وقتذاك!
دعوة يتيم بني هاشم ـ كما كان يحلو لقريش أن تنادي به النبي ـ قد زادت حرارة الصحراء سخونة
, وتدبير كبراء القوم من أجل إيقاف زحف الدعوة الناشئة كان مستمراً
, وكان من جملة ما فكرت فيه قريش أن تشغل النبي بشأنه الخاص
, وتنقل المعركة إلى داخل بيته!.
بنات الرجل هم الهدف الآن
, لنرسلهم له منكسرين
, عل رؤيته لهم وقد هُدمت حياتهم يكون باعثاً له على مراجعة حساباته
, واستشعار خسائره
, وعليه أمر أبو لهب ولديه " عتبه وعتيبة" والمتزوجين من رقية وأم كلثوم بنات محمد أن يطلقوهما
, وعندما تم له الأمر حمل خبثه وذهب إلى أبا العاص بن الربيع
, زوج زينب كبرى بنات النبي
, كي يطلقها هو الآخر
, غير أن الرجل كان صارماً في رفضه
, فهو وإن كان ثابتاً على دين قريش رافضاً للدين الجديد
, إلا أن علاقته بزينب شأن آخر لا يقبل فيه نقاشاً أو حديث!
وكان من خبر نبي الإسلام ما كان
, اضطهاد له ولأصحابه
, دفعه لأن يترك مكة مهاجراً إلى المدينة المنورة
, تاركاً خلفه زينب
, داعياً الله أن يحفظها بحفظه وعنايته.
وعندما بدأت المواجهة الأولى في غزوة بدر بين جيش المسلمين وقريش كان أبا العاص واحداً ممن وقعوا في الأسر
, وحينما أرسل أهل الأسرى ما يفتدون به أسراهم لمح النبي قلادة عرفها
, إنها قلادة زوجته خديجة والتي احتفظت بها زينب بعد وفاة أمها
, وها هي ترسلها اليوم فداء لأبي العاص
, تأمل النبي القلادة في تأثر
, ثم قال لأصحابه في نبرة تحمل شجناً لا يمكن تجاهله: "إن رأيتم أن تردوا لزينب أسيرها وقلادتها؟"
, وقد كان
, بيد أن النبي طلب من أبا العاص أن يعيد له زينب عند عودته
, فوعده الرجل وأوفى بوعده.
سنوات تمر وزينب في بيت أبيها في المدينة
, هناك بصحبة الأب العظيم
, وثمة وجع ساكن في ركن قصي من القلب على زوجها الذي لم يطع نداء الحق والحقيقة
, وجع منبعه معرفتها بمعدن الرجل الذي فارقته
, ونبل أخلاقه وفضائله والتي تعجب كيف لم تلق به حتى اليوم في جانب الصواب.
وذات مساء وإذ بطارق يطرق باب دارها
, وما إن فتحته إلا ووجدت رفيق الماضي أمامها وقد أتى متخفياً بعدما تعرضت له سرية من سرايا المسلمين وهو عائد بتجارة من الشام
, وأخبرها أنه لم يجد مهرباً له إلا بيتها
, ولا يثق بجوار يمكن أن يحميه إلا جوارها
, وكانت زينب عند ظنه فأدخلته إلى الدار ثم خرجت من فورها إلى المسجد
, حتى إذا ما أذن لصلاة الفجر وصلاها المسلمين خلف نبيهم
, إذ قالت بصوت أسمع من في المسجد: أنا زينب بنت محمد
, وقد أجرت أبا العاص بن الربيع"!
عقدت الدهشة ألسنة الناس
, فتوجهوا بأنظارهم إلى إمامهم.
وما بين قولها وتعقيب النبي مرت لحظات من الصمت
, صمت خيمت عليه سحب التوتر من قوم كانوا حتى عهد قريب لا يقيمون للمرأة وزناً ولا حساباً
, صمت بدده النبي بقوله "هل سمعتم ما سمعت!؟
, والذي نفسي بيده ما علمت بشيء حتى سمعت ما سمعتم
, وإنه يجير على المسلمين أدناهم".
ثم قام محمد الأب متجهاً إلى كبرى بناته وقد أطلق وجهه مبدداً ما قد يعتريها من وحشة أو توتر
, الكل يعلم أن هذا موقف عاطفة قلما يرى العرب مثله
, تبسم الأب العظيم في وجه ابنته قائلاً بحنان بالغ: "أي بنية
, أكرمي مثواه
, ولا يقربك فإنك لا تحلين له".
ليس هذا فحسب
, بل ذهب نبينا إلى قادة السرية التي طاردت الرجل
, واستأذنهم في أن يردوا له حاجته إكراماً لمكانته
, وهو ما كان له عميق الأثر كي يعود أبا العاص ثانية إلى المدينة
, لكن مسلماً هذا المرة.
القصة الماضية تحتاج لأن تقرأها بعين قلبك
, وحدقة وعيك
, وتقف أمامها كثيراً
, موقف يستتبع سؤالا حائراً عن طبيعة ذلك النبي.
هذا رجل عظيم بإنسانيته
, عظيم بتفهمه للمشاعر
, عظيم بعمق إحساسه بحالات الضعف البشري
, عظيم بتقديره لنبل الدوافع والمقاصد
, هذا رجل يحترم العاطفة ويؤمن بالحب!.
نعم يؤمن بالحب
, وظني أنه لم يصلك نبأ من جاء يسأله عن ابنة أخيه اليتيمة التي تهوى فقيراً معدماً
, بينما يريد لها أن تتزوج غنيا موسوراً
, فما كان من النبي إلا أن أمره بأن يزوجها بمن تحب
, مطلقاً في سماء تعنتنا أن "لا يرى للمتحابين مثل النكاح".
معظمنا يسأل عن "حُكم الدين" حينما يود أن يقطع حكماً فقهياً
, لكننا للأسف لا نشد الرحال إلى الدين نفسه
, لنرى إجابته على أسئلة النفس الحائرة
, نضرب صفحاً ـ غير مبرر ـ عن فهم دين صار انتماؤنا إليه تهمة نُتهم بها!
والنتيجة أننا لا نعرف عن الدين إلا ما أخبرونا هم به عنه
, ولم نقف على حدود شخصية النبي إلا بمقدار ما رسموه لنا من شخصيته
, والأدهى أن صار في نفوس البعض ثمة شيء من تعاليم الدين
, وصار جزءاً من استقلالية بعضهم الفكرية وأحد دلائل تحرره أن يعطي ظهره لهذا الكلام المُعلب المحفوظ
, صراحة أو تلميحاً!
وليس ذنب العظيم أن ورثته ضعاف مهازيل
, ولا يطعن في رسالته أن من احتكروها غلبوا مزاجهم النكد عليها
, لكن الذنب سيصبح ذنبنا إذا لم نعيد النظر في إرثنا الديني
, مدانون نحن حقاً إذا لم ندخل بلا وصاية إلى عالم محمد الإنسان
, ونقف على معالم شخصيته الحقيقة
, ونقرأ تعاليمه بوضوح وتؤدة
, ففوق أن هذا التأمل والتدبر هو ما أمرتنا به رسالته
, إلا أنه فوق ذلك سيكشف لنا عن عمق أو اهتراء تعاطينا مع دين شئنا أم أبينا هو جزء من شخصيتنا
, ونحاكم على انتمائنا له.
وأكرر يا صديقي أن قضية كل ما يربطك بها الإرث لن يمكنك يوماً نصرتها أو الدفاع عنها. ❝