˝ لا يكتمل إيمان المرء حتى يدرك أن كل ما يحدث له من خير... 💬 أقوال مصطفى محمود 📖 كتاب تأملات فى دنيا الله
- 📖 من ❞ كتاب تأملات فى دنيا الله ❝ مصطفى محمود 📖
█ " لا يكتمل إيمان المرء حتى يدرك أن كل ما يحدث له من خير وشر هو شفرة يقول بها الله شيئًا وهمسة يهمس أذنه
وإن يكن الميكروب الذي يُمرضُ الظاهر فإن أرسل وكلفه بما فعل الحقيقة فلا شيء الكون خلسة وراء خالق
وطُفيل الملاريا فم البعوضة جاء مكلفًا
والسقف انهار السكان ذلك بميقات معلوم وكان الممكن ينهار والبيت خال سكانه ولكنه فعلها وهم نيام فقتلهم ميقات ولم يقتل الرضيع حضن أمه لحكمة مراده واللبيب يفهم الإشارة ويلتقط العبارة
والمرض سجن وهو أحيانًا مؤقت وأحيانًا طويل مؤبد والسجين الملهم يعرف لماذا أصدر أمرًا بسجنه ولماذا خفف عنه الحكم عفا فالخلية السرطانية تنشط إلا بأمر ربها ولا تتوقف آخر منه والجينات التي تحكم الخلية هي مجرد أسباب ظاهرة يعلم أحد إلى الآن يكمن الجين ينام يصحو ويدمر ومتى يفعل هذا ؟؟!!
ذاك ؟!
والمؤمن يرد مشيئة ربه يراه ممسكاً بمقاليد ويرى بيده حركات الذرة والمجرة والفلك الأعظم وما فيه ومن
ويراه المُريد الأوحد فوق إرادات المريدين
ويرى كتاب تأملات فى دنيا مجاناً PDF اونلاين 2024 اكثر الكتب اثرت فهو به بعض المقولات توصف حالنا الآن:
" الماضي كان يوقظ خلقه بالرسل والأنبياء واليوم يوقظهم بالكوارث والزلازل والأعاصير والسيول فاذا لم تجد معهم تلك النذر شيئا ألقى بهم المجازر والحروب يأكل بعضهم بعضا ويفني البعض"
" ولأن الفن سلاح قاتل يصح يكون حرا حرية مطلقة وحرية الفنان دعاوي غير صحيحة فالفنان حر مسئول محاسب وكحامل اي يمكن تسحب رخصة استعماله اذا اساء الاستعمال
واذا يطالبنا بان نحميه فالجمهور القارئ والمشاهد لهم هم الاخرون حق الحماية الاسفاف يعرض عليه"
❞ " لا يكتمل إيمان المرء حتى يدرك أن كل ما يحدث له من خير وشر هو شفرة يقول بها الله شيئًا
, وهمسة يهمس بها في أذنه .. وإن يكن الميكروب هو الذي يُمرضُ في الظاهر
, فإن الله هو الذي أرسل الميكروب وكلفه بما فعل في الحقيقة
, فلا شيء يحدث في الكون خلسة من وراء خالق الكون ..
وطُفيل الملاريا في فم البعوضة جاء مكلفًا .. والسقف الذي انهار على السكان فعل ذلك بميقات معلوم وكان من الممكن أن ينهار والبيت خال من سكانه ولكنه فعلها وهم نيام
, فقتلهم في ميقات معلوم ولم يقتل الرضيع في حضن أمه لحكمة مراده .. واللبيب هو من يفهم الإشارة
, ويلتقط العبارة ..
والمرض سجن وهو أحيانًا سجن مؤقت وأحيانًا سجن طويل وأحيانًا سجن مؤبد .. والسجين الملهم هو الذي يعرف لماذا أصدر الله أمرًا بسجنه ولماذا خفف عنه الحكم ولماذا عفا عنه .. فالخلية السرطانية لا تنشط إلا بأمر من ربها ولا تتوقف إلا بأمر آخر منه .. والجينات التي تحكم الخلية هي مجرد أسباب ظاهرة .. ولا يعلم أحد إلى الآن لماذا يكمن الجين و ينام ولماذا يصحو ويدمر ومتى يفعل هذا ؟؟!! ومتى يفعل ذاك ؟!
والمؤمن يرد كل شيء إلى مشيئة ربه و يراه ممسكاً بمقاليد كل شيء ويرى بيده حركات الذرة والمجرة والفلك الأعظم وما فيه ومن فيه .. ويراه المُريد الأوحد فوق إرادات كل المريدين .. ويرى كل ما يجري عليه من مقادير .. رسالة خاصة .. وشفرة يخاطبه بها .. ويرى كل شر يصيبه .. في باطنه خير .. وكل بلاء ينزل به في مضمونه حكمة .. إن لم تظهر الآن فسوف تظهر غداً
, أو بعد غد ..
ذلك هو الرحمن جل جلاله الذي قال : سبقت رحمتي غضبي .
❞ واضحكوا معي على الغلاء الطاحن !!
مع رُخص الناس، و رخص الفن، وانعدام القيم، وتفاهة البضاعة.
إننا معاقبون يا سادة بهذا الضنك ..
و تأملوا كلمات ربكم:
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ( طه - 124 )
أليس عالَم اليوم قد تلخص كله في هذه الكلمة البليغة .. ˝ الضنك ˝ .. ˝ و الإعراض ˝ ؟!
أليس العالَم قد أعرض تمامًا عن كل ما هو رباني و غرق تمامًا في كل ما هو علماني ومادي ودنيوي وشهواني وعاجل وزائل .. و الكلام على مستوى العالَم كله !
الكل متعجل يريد أن يغنم شيئًا و أن يلهف شيئًا ..
لا أحد ينظر فيما بعد .. و لا فيما وراء ..
الموت لا يخطر ببال أحد ..
وما بعد الموت خرافة ..
والجنة والنار أساطير ..
والحساب حدوتة عجائز ..
والذين يحملون الشعارات الدينية ..
البعض منهم موتور والبعض مأجور ..
والمخلِص منهم لا يبرح سجادته ويمشي إلى جوار الحائط .. فهو ليس مع أحد .. و ليس لأحد ..
وإنما هو مشدود ومنفصل عن الركب .. ومشفق من العاقبة .. وهو قد أغلق فمه واحتفظ بعذابه في داخله .. و اكتفى بالفُرجة .
والناس في ضنك ..
وكل العالَم أغنيائه وفقرائه ..
كلهم فقراء إلى الحقيقة ..
فقراء إلى الحكمة .. فقراء إلى النُبل .
وأكثر الأنظار متعلقة بالزائل والعاجل والهالِك .
والدنيــا ملهــاة .
وهي سائرة إلى مجزرة ..
فالله في الماضي كان يوقظ خلقه بالرسل والأنبياء ..
واليوم هو يوقظهم بالكوارث والزلازل والأعاصير والسيول ..
فإن لم تُجْدِ معهم تلك النُذُر شيئًا ألقَى بهم إلى المجازر والحروب يأكل بعضهم بعضًا ويُفني بعضهم بعضًا.
وحروب المستقبل حروب فناء ..
تأكل الأخضر واليابس وتدع المدن العامرة خرابًا بلقعا.
ونحن على حافة الرعب والصراع المُفني ..
وماذا يهم ؟! ماذا يهم ؟!. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ واضحكوا معي على الغلاء الطاحن !!
مع رُخص الناس، و رخص الفن، وانعدام القيم، وتفاهة البضاعة.
إننا معاقبون يا سادة بهذا الضنك ..
و تأملوا كلمات ربكم:
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ( طه 124 )
أليس عالَم اليوم قد تلخص كله في هذه الكلمة البليغة .. ˝ الضنك ˝ .. ˝ و الإعراض ˝ ؟!
أليس العالَم قد أعرض تمامًا عن كل ما هو رباني و غرق تمامًا في كل ما هو علماني ومادي ودنيوي وشهواني وعاجل وزائل .. و الكلام على مستوى العالَم كله !
الكل متعجل يريد أن يغنم شيئًا و أن يلهف شيئًا ..
لا أحد ينظر فيما بعد .. و لا فيما وراء ..
الموت لا يخطر ببال أحد ..
وما بعد الموت خرافة ..
والجنة والنار أساطير ..
والحساب حدوتة عجائز ..
والذين يحملون الشعارات الدينية ..
البعض منهم موتور والبعض مأجور ..
والمخلِص منهم لا يبرح سجادته ويمشي إلى جوار الحائط .. فهو ليس مع أحد .. و ليس لأحد ..
وإنما هو مشدود ومنفصل عن الركب .. ومشفق من العاقبة .. وهو قد أغلق فمه واحتفظ بعذابه في داخله .. و اكتفى بالفُرجة .
والناس في ضنك ..
وكل العالَم أغنيائه وفقرائه ..
كلهم فقراء إلى الحقيقة ..
فقراء إلى الحكمة .. فقراء إلى النُبل .
وأكثر الأنظار متعلقة بالزائل والعاجل والهالِك .
والدنيــا ملهــاة .
وهي سائرة إلى مجزرة ..
فالله في الماضي كان يوقظ خلقه بالرسل والأنبياء ..
واليوم هو يوقظهم بالكوارث والزلازل والأعاصير والسيول ..
فإن لم تُجْدِ معهم تلك النُذُر شيئًا ألقَى بهم إلى المجازر والحروب يأكل بعضهم بعضًا ويُفني بعضهم بعضًا.
وحروب المستقبل حروب فناء ..
تأكل الأخضر واليابس وتدع المدن العامرة خرابًا بلقعا.
ونحن على حافة الرعب والصراع المُفني ..
وماذا يهم ؟! ماذا يهم ؟! . ❝
❞ كنت أجلس وحدي .. الساعة تدق الثالثة بعد منتصف الليل .. و المائدة أمامي عليها بقايا أكواب .. و أعقاب سجائر .. و فُتات خبز .. و كراسي الطقم مبعثرة في فوضى ..
و الجو فيه رائحة الناس الذين كانوا حولي منذ لحظة .. و أصوات قهقهة مازالت في أذني .. و آخر ابتسامات .. و آخر كلمات ما زالت تسحب في ذاكرتي ذيلاً طويلاً .
إنتهت السهرة ..
وقع الأقدام خارجة .. ما زالت على الدَرَج .. و الباب و هو يُغلَق .. و الأسانسير و هو ينزل .. حاملاً معه آخر هاللو .. أحلام سعيدة .. و تصبح على خير .
و خطر لي أن أدير جهاز التسجيل .. و أستمع إلى السهرة من جديد .. و كنت أشعر بلذة و أنا أتتبع الأصوات المختلطة و أتبين كل واحد منها على حِدة .. هذا فلان .. و هذا فلان .. و هذا أنا .
و أصغى إلى صوتي و أنا أقهقه .. و أقول .. كمان .. و النبي كمان .. حلو قوي يا خويا .. و يبدو صوتي في أذني خشناً و كأنه صوت رجل آخر .. و أتطلع بأذني إلى نبراتي كأني أتطلع إلى صورة غريبة عني لا أعرفها و لا يعجبني صوتي .
و أنظر إلى الجهاز الذي استطاع أن يفصل قطعة قطعة من نفسي و يسجلها ، ماذا يحدث لو استطاع العلم أن يُخرِج عقلي من مخي و يسجله على شريط ، و يُخرِج عواطفي و يصورها .. و يطبع من ضميري كارت بوستال 9x6 .
ها هنا في هذا الجهاز أصواتنا كلها معبأة في شريط أقل من ملليمتر .. منقوشة على ذرات .. على هباء .
ها هو اختراع جعل المادة طيعة لينة قابلة للتشكل قادرة على نقل أدق الصور و التعبيرات و السمات الإنسانية .
جهاز يجمع الإلكترونات و ينثرها و يرسم منها حروفاً و نغمات و تونات طِبق الأصل كما نطق بها صاحبها .. إلى هذا الحد وصلنا في ميدان الإختراع و المعرفة .. و الإبتكار .. !
و تذكرت آخر كتاب كنت أقرأه عن العصر الحجري منذ ستة آلاف سنة .. و كيف كنا نعيش في ذلك الوقت في غابات البردي الكثيفة تمرح حولنا جواميس البحر و الفيلة و الدببة و الضباع و الغزلان و الخيول و التماسيح و وحيد القرن و الثور و القرد و الحمار ..
نأوي في البرد إلى الكهوف .. و في الحر إلى خيام نصنعها من جلد الماعز .. و نقضي نهارنا ننحت أسلحتنا من الحجر الصوّان .. خناجر و سكاكين و رءوس للحراب و بُلَط و أزاميل و حِراب و عِصيّ من الخشب ، و نِصال ذوات أسنان ، و دبابيس من العظم و العاج و القرن ..
في ذلك الوقت كانت أعظم اختراعاتنا .. هي الفأس و المِحراث .. و المقلاع .. و السهم و القوس .
و أعظم مبتكراتنا التي قلبنا بها وجه التاريخ .. فِلاحة الأرض .. و تربية الدواجن .
و أغنى أغنيائنا .. رجل يملك كوخاً من الطين و البوص و قطيعاً من الخنازير .. و طقماً من الأواني الفخارية .
كان الفخار في تلك الأيام شيئاً كالذهب .. و كوخ الطين شيئاً مثل قصر على شاطئ الريفيرا .
و اليوم ..
و ما أبعد اليوم عن الأمس ..
اليوم .. الرجل العادي يسكن عمارة فيها أسانسير و ماء و نور .. و يدخل سينما فيها تكييف .. و يحمل في جيبه راديو ترانزستور .. و يأكل أقراص فيتامينات .. و يقرأ الصحف .. و يشاهد التليفزيون .. و يتكلم في التليفون .. و يركب القطار .. و يشكو من الفقر .. !
أما الغني .. فإنه يستطيع أن يطير في الهواء على طائرته الخاصة و ينطلق في البحر على ظهر باخرته الملاكي .
شيء رهيب ..
إننا بالنسبة لأهل ذلك العصر .. سَحَرة .. مَرَدة .. شياطين .. آلهة .. إنهم لو بُعِثوا من قبورهم .. و شاهدونا .. يركعون سُجداً .. من الرهبة .. و الدهشة .. و الإجلال .. لو استمعوا إلى أصواتهم و هي تُسجَل على أشرِطة و تُبعَث من جديد حية نابضة .
لو شاهدوا صورهم و هي تُسجَل في التليفزيون .. و تتحرك كأن بها مَسّاً .
إن التدرُج البطيء الذي حدثت به هذه الحوادث في الزمان هو الذي أطفأ جدتها و جعلها تبدو مألوفة .. و لكنها في الواقع خارقة و مُدهِشة ، و إذا أدركنا أنه بينما الإنسان قد قفز بعقله هذه القفزة الهائلة .. فإن جميع الحيوانات حواليه مازالت على عهدها كما ألِفها منذ ستة آلاف سنة ..
مازال القرد يأكل بنفس الطريقة ،و يقفز بنفس الطريقة من شجرة إلى شجرة بدون هليكوبتر ..
و النمل ما زال يخزن مئونته من فتات الطعام بنفس الطريقة البدائية بدون ثلاجات ..
و الجواميس ما زالت ترعى الكلأ .. لم تفكر مرة أن تصنع منه سلاطة أو تطهيه بالمايونيز .. أو تتعاطاه أقراصاً .
كل شيء واقف مكانه .. بينما الإنسان وحده يقفز .. و يطير ..
إذا أدركنا هذا .. فإننا سنشعر بأننا ننفصل و نبتعد بسرعة عن أصلنا .. كسُلالة متفوقة .. و خَلفَنا حيوانات تنقرض و تضمها المتاحف و الحفريات في ثنايا الصخر .
نجري إلى الأمام بسرعة .. إلى الفضاء .. و ما وراء الفضاء .. و وراءنا الحياة ما زالت تأكل الطين و تعض في الحجر .
نحن في حالة هجرة أبدية مبتعدين عن جذورنا الحيوانية و أرضنا .. مغتربين أبداً عن أسرتنا الأولى التي عاصرناها منذ فجر التطور .. حينما كنا نسبح متجاورين معاً في مستنقع واحد .. و نتسلق الشجر مع القِردَة في عصرنا الحجري .
إن أحفاد أحفاد أحفادنا الذين ستُلقي بهم عقولهم المتفوقة إلى ما وراء الفضاء .. سوف ينسون أصلهم و تاريخهم .. و سوف يبدأون صفحة جديدة على كوكب جديد و كأنهم ملائكة بلا ماضٍ .
ذلك الماضي البعيد الذي كانوا يعضون فيه الحجر و ينهشون اللحم نيئاً ، و يتعشون هم و كلابهم على مائدة واحدة من عظام الحيوانات التي اصطادوها .
ذلك الماضي الذي يحكي لهم اصلهم الواطي .. لن يذكره أحد منهم .. هؤلاء المحظوظون الذين ستفتح لهم الجنة أبوابها على مصراعيها .. إنها حدوتة عجيبة .. كحواديت ألف ليلة و ليلة .. و خيال أبعد من كل الخيالات التي تخيلها مؤلفو الخرافة .
و لكنها الحقيقة برغم هذا .
و حينما أدير جهاز التسجيل .. و أستمع إلى أصواتنا التي حفرها ذلك الحفّار الكهربي على الذرات و رسمها على الهباء .. و نقشها على الإلكترونات أشعر بأنها الحقيقة .. فهذا أنا .. أنا الذي أتكلم .. و هذه ضحكتي .. و قد خَرجْت من ظلام المادة العمياء .. من نعش الإلكترونات و ذريرات الهباء .
و هذا هو العقل الرائع الذي يحمله الإنسان القزم بين كتفيه .. و يبتعد به بعيداً عن أصله .. و يقفز به في كل لحظة .. سنوات و أجيالاً إلى الأمام ..
و هو العقل الذي سوف يرمي به في رمية واحدة إلى أطراف الكون .. حيث يعيش و يتكاثر و ينعم .. و ينسانا .. و ينكِرنا ..
نحن أجداده الذين حملنا الطين على أكتافنا لنبني له غرفات مهده التي وُلِد فيها .
مقال / حدوتة
من كتاب / تأملات في دنيا الله
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ كنت أجلس وحدي .. الساعة تدق الثالثة بعد منتصف الليل .. و المائدة أمامي عليها بقايا أكواب .. و أعقاب سجائر .. و فُتات خبز .. و كراسي الطقم مبعثرة في فوضى ..
و الجو فيه رائحة الناس الذين كانوا حولي منذ لحظة .. و أصوات قهقهة مازالت في أذني .. و آخر ابتسامات .. و آخر كلمات ما زالت تسحب في ذاكرتي ذيلاً طويلاً .
إنتهت السهرة ..
وقع الأقدام خارجة .. ما زالت على الدَرَج .. و الباب و هو يُغلَق .. و الأسانسير و هو ينزل .. حاملاً معه آخر هاللو .. أحلام سعيدة .. و تصبح على خير .
و خطر لي أن أدير جهاز التسجيل .. و أستمع إلى السهرة من جديد .. و كنت أشعر بلذة و أنا أتتبع الأصوات المختلطة و أتبين كل واحد منها على حِدة .. هذا فلان .. و هذا فلان .. و هذا أنا .
و أصغى إلى صوتي و أنا أقهقه .. و أقول .. كمان .. و النبي كمان .. حلو قوي يا خويا .. و يبدو صوتي في أذني خشناً و كأنه صوت رجل آخر .. و أتطلع بأذني إلى نبراتي كأني أتطلع إلى صورة غريبة عني لا أعرفها و لا يعجبني صوتي .
و أنظر إلى الجهاز الذي استطاع أن يفصل قطعة قطعة من نفسي و يسجلها ، ماذا يحدث لو استطاع العلم أن يُخرِج عقلي من مخي و يسجله على شريط ، و يُخرِج عواطفي و يصورها .. و يطبع من ضميري كارت بوستال 9x6 .
ها هنا في هذا الجهاز أصواتنا كلها معبأة في شريط أقل من ملليمتر .. منقوشة على ذرات .. على هباء .
ها هو اختراع جعل المادة طيعة لينة قابلة للتشكل قادرة على نقل أدق الصور و التعبيرات و السمات الإنسانية .
جهاز يجمع الإلكترونات و ينثرها و يرسم منها حروفاً و نغمات و تونات طِبق الأصل كما نطق بها صاحبها .. إلى هذا الحد وصلنا في ميدان الإختراع و المعرفة .. و الإبتكار .. !
و تذكرت آخر كتاب كنت أقرأه عن العصر الحجري منذ ستة آلاف سنة .. و كيف كنا نعيش في ذلك الوقت في غابات البردي الكثيفة تمرح حولنا جواميس البحر و الفيلة و الدببة و الضباع و الغزلان و الخيول و التماسيح و وحيد القرن و الثور و القرد و الحمار ..
نأوي في البرد إلى الكهوف .. و في الحر إلى خيام نصنعها من جلد الماعز .. و نقضي نهارنا ننحت أسلحتنا من الحجر الصوّان .. خناجر و سكاكين و رءوس للحراب و بُلَط و أزاميل و حِراب و عِصيّ من الخشب ، و نِصال ذوات أسنان ، و دبابيس من العظم و العاج و القرن ..
في ذلك الوقت كانت أعظم اختراعاتنا .. هي الفأس و المِحراث .. و المقلاع .. و السهم و القوس .
و أعظم مبتكراتنا التي قلبنا بها وجه التاريخ .. فِلاحة الأرض .. و تربية الدواجن .
و أغنى أغنيائنا .. رجل يملك كوخاً من الطين و البوص و قطيعاً من الخنازير .. و طقماً من الأواني الفخارية .
كان الفخار في تلك الأيام شيئاً كالذهب .. و كوخ الطين شيئاً مثل قصر على شاطئ الريفيرا .
و اليوم ..
و ما أبعد اليوم عن الأمس ..
اليوم .. الرجل العادي يسكن عمارة فيها أسانسير و ماء و نور .. و يدخل سينما فيها تكييف .. و يحمل في جيبه راديو ترانزستور .. و يأكل أقراص فيتامينات .. و يقرأ الصحف .. و يشاهد التليفزيون .. و يتكلم في التليفون .. و يركب القطار .. و يشكو من الفقر .. !
أما الغني .. فإنه يستطيع أن يطير في الهواء على طائرته الخاصة و ينطلق في البحر على ظهر باخرته الملاكي .
شيء رهيب ..
إننا بالنسبة لأهل ذلك العصر .. سَحَرة .. مَرَدة .. شياطين .. آلهة .. إنهم لو بُعِثوا من قبورهم .. و شاهدونا .. يركعون سُجداً .. من الرهبة .. و الدهشة .. و الإجلال .. لو استمعوا إلى أصواتهم و هي تُسجَل على أشرِطة و تُبعَث من جديد حية نابضة .
لو شاهدوا صورهم و هي تُسجَل في التليفزيون .. و تتحرك كأن بها مَسّاً .
إن التدرُج البطيء الذي حدثت به هذه الحوادث في الزمان هو الذي أطفأ جدتها و جعلها تبدو مألوفة .. و لكنها في الواقع خارقة و مُدهِشة ، و إذا أدركنا أنه بينما الإنسان قد قفز بعقله هذه القفزة الهائلة .. فإن جميع الحيوانات حواليه مازالت على عهدها كما ألِفها منذ ستة آلاف سنة ..
مازال القرد يأكل بنفس الطريقة ،و يقفز بنفس الطريقة من شجرة إلى شجرة بدون هليكوبتر ..
و النمل ما زال يخزن مئونته من فتات الطعام بنفس الطريقة البدائية بدون ثلاجات ..
و الجواميس ما زالت ترعى الكلأ .. لم تفكر مرة أن تصنع منه سلاطة أو تطهيه بالمايونيز .. أو تتعاطاه أقراصاً .
كل شيء واقف مكانه .. بينما الإنسان وحده يقفز .. و يطير ..
إذا أدركنا هذا .. فإننا سنشعر بأننا ننفصل و نبتعد بسرعة عن أصلنا .. كسُلالة متفوقة .. و خَلفَنا حيوانات تنقرض و تضمها المتاحف و الحفريات في ثنايا الصخر .
نجري إلى الأمام بسرعة .. إلى الفضاء .. و ما وراء الفضاء .. و وراءنا الحياة ما زالت تأكل الطين و تعض في الحجر .
نحن في حالة هجرة أبدية مبتعدين عن جذورنا الحيوانية و أرضنا .. مغتربين أبداً عن أسرتنا الأولى التي عاصرناها منذ فجر التطور .. حينما كنا نسبح متجاورين معاً في مستنقع واحد .. و نتسلق الشجر مع القِردَة في عصرنا الحجري .
إن أحفاد أحفاد أحفادنا الذين ستُلقي بهم عقولهم المتفوقة إلى ما وراء الفضاء .. سوف ينسون أصلهم و تاريخهم .. و سوف يبدأون صفحة جديدة على كوكب جديد و كأنهم ملائكة بلا ماضٍ .
ذلك الماضي البعيد الذي كانوا يعضون فيه الحجر و ينهشون اللحم نيئاً ، و يتعشون هم و كلابهم على مائدة واحدة من عظام الحيوانات التي اصطادوها .
ذلك الماضي الذي يحكي لهم اصلهم الواطي .. لن يذكره أحد منهم .. هؤلاء المحظوظون الذين ستفتح لهم الجنة أبوابها على مصراعيها .. إنها حدوتة عجيبة .. كحواديت ألف ليلة و ليلة .. و خيال أبعد من كل الخيالات التي تخيلها مؤلفو الخرافة .
و لكنها الحقيقة برغم هذا .
و حينما أدير جهاز التسجيل .. و أستمع إلى أصواتنا التي حفرها ذلك الحفّار الكهربي على الذرات و رسمها على الهباء .. و نقشها على الإلكترونات أشعر بأنها الحقيقة .. فهذا أنا .. أنا الذي أتكلم .. و هذه ضحكتي .. و قد خَرجْت من ظلام المادة العمياء .. من نعش الإلكترونات و ذريرات الهباء .
و هذا هو العقل الرائع الذي يحمله الإنسان القزم بين كتفيه .. و يبتعد به بعيداً عن أصله .. و يقفز به في كل لحظة .. سنوات و أجيالاً إلى الأمام ..
و هو العقل الذي سوف يرمي به في رمية واحدة إلى أطراف الكون .. حيث يعيش و يتكاثر و ينعم .. و ينسانا .. و ينكِرنا ..
نحن أجداده الذين حملنا الطين على أكتافنا لنبني له غرفات مهده التي وُلِد فيها .
مقال / حدوتة
من كتاب / تأملات في دنيا الله
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝