❞ الفصل الأول في محافظةِ الإسكندريةِ السّاحرةِ، عروسُ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ، وفي أحدِ أطرافِها المتراميَة، في مدينةٍ صغيرةٍ ساحرةٍ، موقعُها خرافيٌّ، تتوسّطُ ثلاثَ محافظاتٍ، تُطّلُ على النّيلِ والبحرِ المتوسّطِ معًا منظرٌ ساحرٌ، وطبيعةٌ مبهرَةٌ، حيثُ الحدائق والأزهار، والجّوُ المعتدلُ، والمناظرُ الخلابةٌ، هنَا يقعُ منزلٌ هادئ جميلٌ، حيثُ يعيشُ الأَخَوَان: عبد الله وعبد القادر، وأسرتيهما الصغيرتان: سناء زوجة عبد الله، وابنهما أحمد، وسميحة زوجة عبد القادر، الّتي وهبها الله تعالى طفلة أسمتها ﴿سمر﴾ بعد خمس سنوات من الزواج. اليوم موعد حفلة استقبال المولودة الجديدة﴿سمر﴾، ستكونُ أجملَ الحفلاتِ، ستُذبحُ الذبّائحُ، وتُعلقُ الزينّاتُ، وتُوزعُ الهدايَا، فرحًا بالصّغيرةِ الّتي وُلدتْ، بعد صبرِ سنينَ عجافَ. الكلُّ يستعدُ بفرحٍ وسرورٍ، أمّا أحمد فقدْ كانتِ فرحتُه وشغفُه يفوقان الجميع، فقدْ طال به الانتظار خمسَ سنواتٍ حيث احتلتْه الوحدةُ، هناكَ في منزلِهم الكبيرِ، وأخيرًا سيكونُ له رفيقةٌ و صديقةٌ تفهمُه، وتشاركُه اللّعبَ والحياةَ. تلهف أحمد لرؤية الصغيرة وطلب من والدته مرافقتها للغرفة، ولكنها رفضت بشدّة، وذلك لأن سمر أُصيبت بمرض الصفراء، ومنَع عنها الطبيب الزيارة وحَظر الإضاءة، ليتم تعافيها سريعا. لم يعِ أحمدُ كلّ هذا، مازال صغيرا، ورغبته في رؤية سمر، كانت مُلّحة، وأقوى من أي أعذار، اغتاظ أحمد من رد فعل والدته، وهمَّ يفكرُ في طريقةٍ لرؤيةِ سمر دونَ أن ينتبِه له أحدٌ طالتْ جلسةُ التفكيرِ الخاصةِ به وبعدَ مدٍ وجزرٍ قرّرَ النزولَ للشارعِ، وراحَ ينفذُ خطتَه المبتكرَة ظنًّا منه أنّهَا ستنجحُ لكن وا أسفاه خابَ ظنّهُ وخانَه عقلُه المدبرُ، حيثُ أنّه قدْ استندَ على قامةِ كرسي وثبّتَه أسفلَ نافذةِ سمر الّتي كانَ جزءٌ منها مفتوحٌ وأخذَ يتحركُ على الكرسي ذاتِ اليمينِ والشّمالِ محاولًا بثَ نظراتِه التّفحصيةِ داخلَ الغرفةِ وإرسالِ جنودَ العينِ منْ وراءِ فتحةٍ صغيرةٍ بالنّافذةِ، في هذه الأثناء انزلقتْ رجلُه وراحَ طريحًا على الأرضِ، بعدهَا صدرتْ أصواتُ التأوهِ والألمِ منه فهرولَ إليه والدُه وحملَه للداخلِ وهو يتألمُ من شّدةِ الوقعةِ الّتي وقعَها، في هذه الأثناء استبدلَ أحمد ملامحَ الإصرارِ والسّعادة والأمل لرؤية سمر بملامح كئيبةٍ اعتلتْ وجهَه المصّفرِ الّذي حملَ مزيجًا من خيبةِ أملٍ في تحقيقِ الرغبةِ، وخجل من الموجودين حوله، كأنّهُ ارتكبَ جريمةً وكُشِفَ أمرُه قبلَ أن تكتملَ خطتَه. كانتْ إصابةُ أحمد بليغة جدًا راحَ ضحيتَها قدمه ممَا استدعَى مراجعةً طبيّةً له ولفَ القدمْ بالجبسِ، لم يسعدْ أحمدُ لهذَا الأمرْ إطلاقًا لأنّه من هذَا اليوم أصبحَ رهينةً بالبيتِ ولا يسعُه الخروجُ ولا المشي، الآن كيف له أن يحققَ رغبتَه في رؤية سمر؟. بعد فترةٍ من الزمنِ قد تكونُ أسبوعًا كاملًا استوطنَ المللُ على أحمد وخيمتْ الكآبةُ والوحدةُ داخلَه نتيجةَ ملازمتِه الفراشَ طولَ هذه المدة، في يومِ من أيّامِ خيبتِه دقَّ جرسُ البابِ، فتحتْ والدةُ أحمد، وكانتْ المفاجأة حضرتْ سميحَة زوجةُ عمّهِ ومعهَا سمر ليطمئنُوا على أحمد. مَا إن رأى أحمد سمرَ حتَّى فتحَ فاههُ دهشةً وفرحًا، وراحتْ سميحة تضعُها بين يديه؛ فرح فرحةً كبيرةً لا توصفُ واحمرَ خجلًا ما إنْ رددتْ سميحة قولَها: - ها هي عروسُك بين يديك متلهفةٌ لك مثلمَا أنتَ متلهفٌ لرؤيتِها. قالتْ قولَها هذا محاولةً التحسينَ من مزاجِه ومواساة آلامِه. تفحصَ أحمد بنظراتِه البريئة الّتي حملتْ كمًا هائلًا من الفرحِ والسّعادةِ والأملِ لا تصفُه الكلماتُ ولَا تعيه الحروفُ فإنّها المؤنسُ الّذي سيكسرُ روتين الوحدةِ داخلَه ويؤنسُ روحَه الظّليلة هنا وهناك، إنّها الملاكُ الّذي سيلفُه بعباءةِ الطمأنينة في كل ابتسامة ونظرة، والنورُ الّذي سينيرُ حياتَه المظلمةَ، بعدمَا كان يشعرُ بالمللِ ساعات طويلةٍ؛ لا يجدُ من يشاركُه حياتَه، إنّها الحياةُ الجديدة والحياة الأجملُ الّتي طالمَا تمناهَا وبحثَ عنهَا في رحلاتِه الطّويلةِ. توالتْ الأيّامُ واللّيالي وسابقَنا الزمنُ فمرتْ سنواتٌ عديدةٌ وكبرُ كلٌّ من سمر وأحمد وكانَا لا يفترقَان البتة دائمًا ما تخطفُك أصواتُ ضحكاتِهما المتّعاليةِ في الأرجاءِ وهمَا يتواثبانِ هنا وهناك يتشاركان اللّعبَ ولحظات السّعادةِ والمرحِ، وما زاد قوةَ علاقتهِما هو تلكَ الشّجارات الّتي تنشبُ بينهُما من فترةٍ لأخرَى بسببِ اختلاف رأيٍ أو ما شابهَ، مثالٌ للبراءةٍ هما تعلمَا الحبوَ على بساطِ الطّفولةِ معًا ولم يتركَا يدَ بعضهِما أبدًا، كلّ هذا كانَ في كنفِ عائلةِ محبةٍ ولطيفةٍ تحبُ العطاءَ والاحترامَ أفرادُها طيبُوا القلوب. بعد فترةٍ من الزّمنِ حملتْ سميحة والدةَ سمر مرة أخرى، ووضعتْ في حملِها هذا توأم ﴿ حسن وحسين﴾ لكن لسوءِ الحظِ قد أصابتْها مضاعفاتٍ بعد الولادةِ وتعبتْ تعبًا شديدًا، وتعبَ معهَا المولودَان الجديدَان أيضًا، في هذه الأثناءِ شمرتْ الأحزانُ عن صاعديْها لتنهشَ من لحمِ هذه العائلةِ، وعمَ الخوفُ والقلقُ الشّديدُ على سميحة والولدين، لم تسلمْ سمر من جندِ الخوفِ وشيطانِه بلْ أنّه قد أكلَ من قلبِها الطيّبِ نصيبًا وافرًا واعتلتْ وجههَا صفرةٌ شديدةٌ وامتنعتْ عن الأكلِ؛ ذلكَ من شدةِ خوفِها وقلقِها على والدتِها وإخوتِها الصّغار. وبعدَ فترةٍ من الزمنِ تلوى فيهَا الجميعُ علىَ بساطِ القلقِ والخوفِ، عادتْ سميحةُ والأطفالُ للمنزلِ بعدمَا تماثلُوا للشفاءِ، ولكن سميحة لم تتعافَ تمامًا فهي لازالتْ تشعرُ بالتّعبِ؛ هذا ما دفعَ الطبيبَ إلى إخضاعِها لمجموعةٍ من التّحاليل الطّبية والأشعةِ وللأسفِ هذه الأخيرة أظهرتْ أنّهَا قد أصيبتْ بمرضِ بالقلبِ، ونتيجةَ هذا خرتْ قواهَا وضَعُفَ جسمُها ووهنتْ فلم تعدْ تقوَى على أداءِ أشغالِ البيتِ ولا رعايةِ الأطفالِ، فَهّمَ الجميعُ لمساعدتِها دونَ ترددٍ خاصّةً سناء أمّ أحمد الّتي كانتْ تقومُ بأعمالِ البيتِ عنهَا وترعَى الأطفالَ دونَ مللٍ ولا كللٍ. حاولتْ سميحةُ الانتظامَ في أخذِ العلاجِ والأدويةِ دونَ تهاونٍ في ذلك، لكنْ هذَا لمْ يخففْ من خوفِ سمر على والدتِها فهيَ كانتْ تخافُ فكرةَ أن تفقدَ والدتَها على حينِ غرةٍ فكانتْ تدعُو لهَا بالشّفاءِ أناءَ الّليلِ وأطرافَ النّهار، فهي لا تقوَى علَى أن تعيشَ دونَها. كبرتْ سمر وحانَ موعدُ التحاقِها بالمدرسةِ، أخيرًا ستلتحقُ بالصّف الأوّل لكنَها لم تكنْ سعيدةً بهذَا فاعتلتْ وجهَها ملامحُ الشحوبِ والاصفرارِ وضاقتْ عينيهَا ممَّا يدلُ على استيائِها لدخولِ المدرسةِ، وكانَ حزنُها لأسبابٍ أولّها مرضُ والدتِها وتعذر مرافقتِها للمدرسةِ أمّا السببُ الثّاني فهو سفرُ والدِها خارجَ البلدةِ ممّا يمنعُه من مرافقتِها كمَا كانتْ تحلمُ دائمًا؛ بدأتْ هستيريَا البكاءِ عندَ سمر ورفضتْ التّوقفَ عن ذلك ممَا مزّقَ قلبَ أحمد عليهَا وجعلًه يشعرُ بالسوءْ لحالِها. لمْ يتخلَ أحمد عنْ سمر لحظةً واحدةً ولمْ يتركْ يدهَا بل أنّه تشبثَ بها بقوةٍ واصطحبَها معه إلى المدرسةِ وحاولَ بطرقٍ جهيدةٍ طيلةَ الطّريقِ على أن يرسمَ الضحكةَ على وجههِا ويمسحَ الدموعَ من عينيها. لكن هذا لمْ يجدِ نفعًا حيثُ ما إنْ وطأتْ أقدامُ سمر بوابةَ المدرسةِ حتّى رأتْ كلّ التّلاميذ مع أبائهم يتبادلُون الحديثَ ويتمازحُون ويودعُون بعضَهم عندَ البابِ؛ هنا عادتْ سمر لحالتِها الأولى وباشرتْ البكاءَ من جديد لأنّها وجدتْ نفسَها وحيدةً في غيابِ والديهَا. توالتْ الأيّام وتعاقبتْ السنين ولازالَ الحالُ على ما هوَ عليه، فعّمَ الهدوءُ المنزلَ طيلةَ هذه المدةِ لكنَ مرضُ سميحة لازالَ يزدادُ يومًا بعدَ يومٍ وحالتِها في استياءٍ من يومٍ لأخر؛ ممَّا دفعَها لمراجعةِ طبيّةٍ عندَ مختلفِ الأطباءِ لكن ذهبَت هذه الجهودُ في مهبِ الرّيحِ. اختلسَ أحمدُ السمعَ لجلسةِ والدِه ووالدتِه وهمَا يتحدثَان عن حالةِ سميحة وعنْ الأطّباءِ الّذين زارتْهم، وأنهَت حديثَها بالتّأسفِ والبكاءِ ممّا دفعَ أحمدُ للبكاءِ أيضًا خوفًا على فراقِ سميحة وعلى سمر ومَا ستؤولُ إليه بعدَ هذا، لكنْ ما جالَ بخاطرِه وزادَ من خوفِه، قلقَه على سمر منْ أن تُصابَ بالمرضِ نفسِه ذاتَ يومٍ. طَالَ به الحالُ وهو يفكرُ في حالةِ سمر ولمْ ينتبِه حتّى سمعَ آذانَ الصّلاة، فقامَ يجرُ قدميه بتثاقلٍ شديدٍ كمنْ يحملُ ثقلَ أسفارٍ طالَ بها المرتحلُ، توضَأَ ونزلَ للمسجدِ معَ والدِه و تقابلَا معَ عمّه وحسنَ وحسين وأصرّت سمر أن تذهبَ أيضًا معهم، كانتْ المساجدُ في أبهَى زينتِها استعدادًا لشهر رمضان المبارك وما يميز هذه الأيّام ويزيدُها جمالًا هو لعب الأطفالِ وهم يتواثبُون هنا وهناكَ وصوتُ الشعائرِ الدينيةِ الّتي تريحُ النفس وتطمئنُ لها القلوبُ، وزينةُ الشوارعِ والمساجدِ الّتي جعلتْها تبدُو بأحلَى حلةٍ كأنّها عروسٌ زينَتْ ليلةَ حِنَتِهَا. أدَى الجميعُ صلاتَهم بالمسجدِ ثمّ عادُوا فرحينَ إلى البيتِ، ما إن وصلُوا دقَ حسنُ جرسَ البابِ مراتٍ ومراتِ لكنْ لمْ يفتحْ أحد ظنُوا أنَّ سميحةَ قد غفتْ، لكن عمّه قد نسّيَ حملَ المفاتيح معهُ فاضطرُوا لكسرِ البابِ وما إنْ ولجُوا البيتَ حتّى وجدُوا سميحة ملقاة علَى الأرضِ، فاقدةً الوعيَ بمنظرٍ مرعبٍ؛ ما إنْ رأتْها سمر حتّى راحتْ تعلِي صرخاتِها ونواحَها من شّدةِ الفزعِ والهلعِ على والدتِها.
❞ الفصل الأول في محافظةِ الإسكندريةِ السّاحرةِ، عروسُ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ، وفي أحدِ أطرافِها المتراميَة، في مدينةٍ صغيرةٍ ساحرةٍ، موقعُها خرافيٌّ، تتوسّطُ ثلاثَ محافظاتٍ، تُطّلُ على النّيلِ والبحرِ المتوسّطِ معًا منظرٌ ساحرٌ، وطبيعةٌ مبهرَةٌ، حيثُ الحدائق والأزهار، والجّوُ المعتدلُ، والمناظرُ الخلابةٌ، هنَا يقعُ منزلٌ هادئ جميلٌ، حيثُ يعيشُ الأَخَوَان: عبد الله وعبد القادر، وأسرتيهما الصغيرتان: سناء زوجة عبد الله، وابنهما أحمد، وسميحة زوجة عبد القادر، الّتي وهبها الله تعالى طفلة أسمتها {سمر} بعد خمس سنوات من الزواج. اليوم موعد حفلة استقبال المولودة الجديدة{سمر}، ستكونُ أجملَ الحفلاتِ، ستُذبحُ الذبّائحُ، وتُعلقُ الزينّاتُ، وتُوزعُ الهدايَا، فرحًا بالصّغيرةِ الّتي وُلدتْ، بعد صبرِ سنينَ عجافَ. الكلُّ يستعدُ بفرحٍ وسرورٍ، أمّا أحمد فقدْ كانتِ فرحتُه وشغفُه يفوقان الجميع، فقدْ طال به الانتظار خمسَ سنواتٍ حيث احتلتْه الوحدةُ، هناكَ في منزلِهم الكبيرِ، وأخيرًا سيكونُ له رفيقةٌ و صديقةٌ تفهمُه، وتشاركُه اللّعبَ والحياةَ. تلهف أحمد لرؤية الصغيرة وطلب من والدته مرافقتها للغرفة، ولكنها رفضت بشدّة، وذلك لأن سمر أُصيبت بمرض الصفراء، ومنَع عنها الطبيب الزيارة وحَظر الإضاءة، ليتم تعافيها سريعا. لم يعِ أحمدُ كلّ هذا، مازال صغيرا، ورغبته في رؤية سمر، كانت مُلّحة، وأقوى من أي أعذار، اغتاظ أحمد من رد فعل والدته، وهمَّ يفكرُ في طريقةٍ لرؤيةِ سمر دونَ أن ينتبِه له أحدٌ طالتْ جلسةُ التفكيرِ الخاصةِ به وبعدَ مدٍ وجزرٍ قرّرَ النزولَ للشارعِ، وراحَ ينفذُ خطتَه المبتكرَة ظنًّا منه أنّهَا ستنجحُ لكن وا أسفاه خابَ ظنّهُ وخانَه عقلُه المدبرُ، حيثُ أنّه قدْ استندَ على قامةِ كرسي وثبّتَه أسفلَ نافذةِ سمر الّتي كانَ جزءٌ منها مفتوحٌ وأخذَ يتحركُ على الكرسي ذاتِ اليمينِ والشّمالِ محاولًا بثَ نظراتِه التّفحصيةِ داخلَ الغرفةِ وإرسالِ جنودَ العينِ منْ وراءِ فتحةٍ صغيرةٍ بالنّافذةِ، في هذه الأثناء انزلقتْ رجلُه وراحَ طريحًا على الأرضِ، بعدهَا صدرتْ أصواتُ التأوهِ والألمِ منه فهرولَ إليه والدُه وحملَه للداخلِ وهو يتألمُ من شّدةِ الوقعةِ الّتي وقعَها، في هذه الأثناء استبدلَ أحمد ملامحَ الإصرارِ والسّعادة والأمل لرؤية سمر بملامح كئيبةٍ اعتلتْ وجهَه المصّفرِ الّذي حملَ مزيجًا من خيبةِ أملٍ في تحقيقِ الرغبةِ، وخجل من الموجودين حوله، كأنّهُ ارتكبَ جريمةً وكُشِفَ أمرُه قبلَ أن تكتملَ خطتَه. كانتْ إصابةُ أحمد بليغة جدًا راحَ ضحيتَها قدمه ممَا استدعَى مراجعةً طبيّةً له ولفَ القدمْ بالجبسِ، لم يسعدْ أحمدُ لهذَا الأمرْ إطلاقًا لأنّه من هذَا اليوم أصبحَ رهينةً بالبيتِ ولا يسعُه الخروجُ ولا المشي، الآن كيف له أن يحققَ رغبتَه في رؤية سمر؟. بعد فترةٍ من الزمنِ قد تكونُ أسبوعًا كاملًا استوطنَ المللُ على أحمد وخيمتْ الكآبةُ والوحدةُ داخلَه نتيجةَ ملازمتِه الفراشَ طولَ هذه المدة، في يومِ من أيّامِ خيبتِه دقَّ جرسُ البابِ، فتحتْ والدةُ أحمد، وكانتْ المفاجأة حضرتْ سميحَة زوجةُ عمّهِ ومعهَا سمر ليطمئنُوا على أحمد. مَا إن رأى أحمد سمرَ حتَّى فتحَ فاههُ دهشةً وفرحًا، وراحتْ سميحة تضعُها بين يديه؛ فرح فرحةً كبيرةً لا توصفُ واحمرَ خجلًا ما إنْ رددتْ سميحة قولَها: - ها هي عروسُك بين يديك متلهفةٌ لك مثلمَا أنتَ متلهفٌ لرؤيتِها. قالتْ قولَها هذا محاولةً التحسينَ من مزاجِه ومواساة آلامِه. تفحصَ أحمد بنظراتِه البريئة الّتي حملتْ كمًا هائلًا من الفرحِ والسّعادةِ والأملِ لا تصفُه الكلماتُ ولَا تعيه الحروفُ فإنّها المؤنسُ الّذي سيكسرُ روتين الوحدةِ داخلَه ويؤنسُ روحَه الظّليلة هنا وهناك، إنّها الملاكُ الّذي سيلفُه بعباءةِ الطمأنينة في كل ابتسامة ونظرة، والنورُ الّذي سينيرُ حياتَه المظلمةَ، بعدمَا كان يشعرُ بالمللِ ساعات طويلةٍ؛ لا يجدُ من يشاركُه حياتَه، إنّها الحياةُ الجديدة والحياة الأجملُ الّتي طالمَا تمناهَا وبحثَ عنهَا في رحلاتِه الطّويلةِ. توالتْ الأيّامُ واللّيالي وسابقَنا الزمنُ فمرتْ سنواتٌ عديدةٌ وكبرُ كلٌّ من سمر وأحمد وكانَا لا يفترقَان البتة دائمًا ما تخطفُك أصواتُ ضحكاتِهما المتّعاليةِ في الأرجاءِ وهمَا يتواثبانِ هنا وهناك يتشاركان اللّعبَ ولحظات السّعادةِ والمرحِ، وما زاد قوةَ علاقتهِما هو تلكَ الشّجارات الّتي تنشبُ بينهُما من فترةٍ لأخرَى بسببِ اختلاف رأيٍ أو ما شابهَ، مثالٌ للبراءةٍ هما تعلمَا الحبوَ على بساطِ الطّفولةِ معًا ولم يتركَا يدَ بعضهِما أبدًا، كلّ هذا كانَ في كنفِ عائلةِ محبةٍ ولطيفةٍ تحبُ العطاءَ والاحترامَ أفرادُها طيبُوا القلوب. بعد فترةٍ من الزّمنِ حملتْ سميحة والدةَ سمر مرة أخرى، ووضعتْ في حملِها هذا توأم { حسن وحسين} لكن لسوءِ الحظِ قد أصابتْها مضاعفاتٍ بعد الولادةِ وتعبتْ تعبًا شديدًا، وتعبَ معهَا المولودَان الجديدَان أيضًا، في هذه الأثناءِ شمرتْ الأحزانُ عن صاعديْها لتنهشَ من لحمِ هذه العائلةِ، وعمَ الخوفُ والقلقُ الشّديدُ على سميحة والولدين، لم تسلمْ سمر من جندِ الخوفِ وشيطانِه بلْ أنّه قد أكلَ من قلبِها الطيّبِ نصيبًا وافرًا واعتلتْ وجههَا صفرةٌ شديدةٌ وامتنعتْ عن الأكلِ؛ ذلكَ من شدةِ خوفِها وقلقِها على والدتِها وإخوتِها الصّغار. وبعدَ فترةٍ من الزمنِ تلوى فيهَا الجميعُ علىَ بساطِ القلقِ والخوفِ، عادتْ سميحةُ والأطفالُ للمنزلِ بعدمَا تماثلُوا للشفاءِ، ولكن سميحة لم تتعافَ تمامًا فهي لازالتْ تشعرُ بالتّعبِ؛ هذا ما دفعَ الطبيبَ إلى إخضاعِها لمجموعةٍ من التّحاليل الطّبية والأشعةِ وللأسفِ هذه الأخيرة أظهرتْ أنّهَا قد أصيبتْ بمرضِ بالقلبِ، ونتيجةَ هذا خرتْ قواهَا وضَعُفَ جسمُها ووهنتْ فلم تعدْ تقوَى على أداءِ أشغالِ البيتِ ولا رعايةِ الأطفالِ، فَهّمَ الجميعُ لمساعدتِها دونَ ترددٍ خاصّةً سناء أمّ أحمد الّتي كانتْ تقومُ بأعمالِ البيتِ عنهَا وترعَى الأطفالَ دونَ مللٍ ولا كللٍ. حاولتْ سميحةُ الانتظامَ في أخذِ العلاجِ والأدويةِ دونَ تهاونٍ في ذلك، لكنْ هذَا لمْ يخففْ من خوفِ سمر على والدتِها فهيَ كانتْ تخافُ فكرةَ أن تفقدَ والدتَها على حينِ غرةٍ فكانتْ تدعُو لهَا بالشّفاءِ أناءَ الّليلِ وأطرافَ النّهار، فهي لا تقوَى علَى أن تعيشَ دونَها. كبرتْ سمر وحانَ موعدُ التحاقِها بالمدرسةِ، أخيرًا ستلتحقُ بالصّف الأوّل لكنَها لم تكنْ سعيدةً بهذَا فاعتلتْ وجهَها ملامحُ الشحوبِ والاصفرارِ وضاقتْ عينيهَا ممَّا يدلُ على استيائِها لدخولِ المدرسةِ، وكانَ حزنُها لأسبابٍ أولّها مرضُ والدتِها وتعذر مرافقتِها للمدرسةِ أمّا السببُ الثّاني فهو سفرُ والدِها خارجَ البلدةِ ممّا يمنعُه من مرافقتِها كمَا كانتْ تحلمُ دائمًا؛ بدأتْ هستيريَا البكاءِ عندَ سمر ورفضتْ التّوقفَ عن ذلك ممَا مزّقَ قلبَ أحمد عليهَا وجعلًه يشعرُ بالسوءْ لحالِها. لمْ يتخلَ أحمد عنْ سمر لحظةً واحدةً ولمْ يتركْ يدهَا بل أنّه تشبثَ بها بقوةٍ واصطحبَها معه إلى المدرسةِ وحاولَ بطرقٍ جهيدةٍ طيلةَ الطّريقِ على أن يرسمَ الضحكةَ على وجههِا ويمسحَ الدموعَ من عينيها. لكن هذا لمْ يجدِ نفعًا حيثُ ما إنْ وطأتْ أقدامُ سمر بوابةَ المدرسةِ حتّى رأتْ كلّ التّلاميذ مع أبائهم يتبادلُون الحديثَ ويتمازحُون ويودعُون بعضَهم عندَ البابِ؛ هنا عادتْ سمر لحالتِها الأولى وباشرتْ البكاءَ من جديد لأنّها وجدتْ نفسَها وحيدةً في غيابِ والديهَا. توالتْ الأيّام وتعاقبتْ السنين ولازالَ الحالُ على ما هوَ عليه، فعّمَ الهدوءُ المنزلَ طيلةَ هذه المدةِ لكنَ مرضُ سميحة لازالَ يزدادُ يومًا بعدَ يومٍ وحالتِها في استياءٍ من يومٍ لأخر؛ ممَّا دفعَها لمراجعةِ طبيّةٍ عندَ مختلفِ الأطباءِ لكن ذهبَت هذه الجهودُ في مهبِ الرّيحِ. اختلسَ أحمدُ السمعَ لجلسةِ والدِه ووالدتِه وهمَا يتحدثَان عن حالةِ سميحة وعنْ الأطّباءِ الّذين زارتْهم، وأنهَت حديثَها بالتّأسفِ والبكاءِ ممّا دفعَ أحمدُ للبكاءِ أيضًا خوفًا على فراقِ سميحة وعلى سمر ومَا ستؤولُ إليه بعدَ هذا، لكنْ ما جالَ بخاطرِه وزادَ من خوفِه، قلقَه على سمر منْ أن تُصابَ بالمرضِ نفسِه ذاتَ يومٍ. طَالَ به الحالُ وهو يفكرُ في حالةِ سمر ولمْ ينتبِه حتّى سمعَ آذانَ الصّلاة، فقامَ يجرُ قدميه بتثاقلٍ شديدٍ كمنْ يحملُ ثقلَ أسفارٍ طالَ بها المرتحلُ، توضَأَ ونزلَ للمسجدِ معَ والدِه و تقابلَا معَ عمّه وحسنَ وحسين وأصرّت سمر أن تذهبَ أيضًا معهم، كانتْ المساجدُ في أبهَى زينتِها استعدادًا لشهر رمضان المبارك وما يميز هذه الأيّام ويزيدُها جمالًا هو لعب الأطفالِ وهم يتواثبُون هنا وهناكَ وصوتُ الشعائرِ الدينيةِ الّتي تريحُ النفس وتطمئنُ لها القلوبُ، وزينةُ الشوارعِ والمساجدِ الّتي جعلتْها تبدُو بأحلَى حلةٍ كأنّها عروسٌ زينَتْ ليلةَ حِنَتِهَا. أدَى الجميعُ صلاتَهم بالمسجدِ ثمّ عادُوا فرحينَ إلى البيتِ، ما إن وصلُوا دقَ حسنُ جرسَ البابِ مراتٍ ومراتِ لكنْ لمْ يفتحْ أحد ظنُوا أنَّ سميحةَ قد غفتْ، لكن عمّه قد نسّيَ حملَ المفاتيح معهُ فاضطرُوا لكسرِ البابِ وما إنْ ولجُوا البيتَ حتّى وجدُوا سميحة ملقاة علَى الأرضِ، فاقدةً الوعيَ بمنظرٍ مرعبٍ؛ ما إنْ رأتْها سمر حتّى راحتْ تعلِي صرخاتِها ونواحَها من شّدةِ الفزعِ والهلعِ على والدتِها. رواية الوفاء في زمن الخيانة. ❝ ⏤صفاء فوزي
❞ الفصل الأول في محافظةِ الإسكندريةِ السّاحرةِ، عروسُ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ، وفي أحدِ أطرافِها المتراميَة، في مدينةٍ صغيرةٍ ساحرةٍ، موقعُها خرافيٌّ، تتوسّطُ ثلاثَ محافظاتٍ، تُطّلُ على النّيلِ والبحرِ المتوسّطِ معًا منظرٌ ساحرٌ، وطبيعةٌ مبهرَةٌ، حيثُ الحدائق والأزهار، والجّوُ المعتدلُ، والمناظرُ الخلابةٌ، هنَا يقعُ منزلٌ هادئ جميلٌ، حيثُ يعيشُ الأَخَوَان: عبد الله وعبد القادر، وأسرتيهما الصغيرتان: سناء زوجة عبد الله، وابنهما أحمد، وسميحة زوجة عبد القادر، الّتي وهبها الله تعالى طفلة أسمتها ﴿سمر﴾ بعد خمس سنوات من الزواج. اليوم موعد حفلة استقبال المولودة الجديدة﴿سمر﴾، ستكونُ أجملَ الحفلاتِ، ستُذبحُ الذبّائحُ، وتُعلقُ الزينّاتُ، وتُوزعُ الهدايَا، فرحًا بالصّغيرةِ الّتي وُلدتْ، بعد صبرِ سنينَ عجافَ. الكلُّ يستعدُ بفرحٍ وسرورٍ، أمّا أحمد فقدْ كانتِ فرحتُه وشغفُه يفوقان الجميع، فقدْ طال به الانتظار خمسَ سنواتٍ حيث احتلتْه الوحدةُ، هناكَ في منزلِهم الكبيرِ، وأخيرًا سيكونُ له رفيقةٌ و صديقةٌ تفهمُه، وتشاركُه اللّعبَ والحياةَ. تلهف أحمد لرؤية الصغيرة وطلب من والدته مرافقتها للغرفة، ولكنها رفضت بشدّة، وذلك لأن سمر أُصيبت بمرض الصفراء، ومنَع عنها الطبيب الزيارة وحَظر الإضاءة، ليتم تعافيها سريعا. لم يعِ أحمدُ كلّ هذا، مازال صغيرا، ورغبته في رؤية سمر، كانت مُلّحة، وأقوى من أي أعذار، اغتاظ أحمد من رد فعل والدته، وهمَّ يفكرُ في طريقةٍ لرؤيةِ سمر دونَ أن ينتبِه له أحدٌ طالتْ جلسةُ التفكيرِ الخاصةِ به وبعدَ مدٍ وجزرٍ قرّرَ النزولَ للشارعِ، وراحَ ينفذُ خطتَه المبتكرَة ظنًّا منه أنّهَا ستنجحُ لكن وا أسفاه خابَ ظنّهُ وخانَه عقلُه المدبرُ، حيثُ أنّه قدْ استندَ على قامةِ كرسي وثبّتَه أسفلَ نافذةِ سمر الّتي كانَ جزءٌ منها مفتوحٌ وأخذَ يتحركُ على الكرسي ذاتِ اليمينِ والشّمالِ محاولًا بثَ نظراتِه التّفحصيةِ داخلَ الغرفةِ وإرسالِ جنودَ العينِ منْ وراءِ فتحةٍ صغيرةٍ بالنّافذةِ، في هذه الأثناء انزلقتْ رجلُه وراحَ طريحًا على الأرضِ، بعدهَا صدرتْ أصواتُ التأوهِ والألمِ منه فهرولَ إليه والدُه وحملَه للداخلِ وهو يتألمُ من شّدةِ الوقعةِ الّتي وقعَها، في هذه الأثناء استبدلَ أحمد ملامحَ الإصرارِ والسّعادة والأمل لرؤية سمر بملامح كئيبةٍ اعتلتْ وجهَه المصّفرِ الّذي حملَ مزيجًا من خيبةِ أملٍ في تحقيقِ الرغبةِ، وخجل من الموجودين حوله، كأنّهُ ارتكبَ جريمةً وكُشِفَ أمرُه قبلَ أن تكتملَ خطتَه. كانتْ إصابةُ أحمد بليغة جدًا راحَ ضحيتَها قدمه ممَا استدعَى مراجعةً طبيّةً له ولفَ القدمْ بالجبسِ، لم يسعدْ أحمدُ لهذَا الأمرْ إطلاقًا لأنّه من هذَا اليوم أصبحَ رهينةً بالبيتِ ولا يسعُه الخروجُ ولا المشي، الآن كيف له أن يحققَ رغبتَه في رؤية سمر؟. بعد فترةٍ من الزمنِ قد تكونُ أسبوعًا كاملًا استوطنَ المللُ على أحمد وخيمتْ الكآبةُ والوحدةُ داخلَه نتيجةَ ملازمتِه الفراشَ طولَ هذه المدة، في يومِ من أيّامِ خيبتِه دقَّ جرسُ البابِ، فتحتْ والدةُ أحمد، وكانتْ المفاجأة حضرتْ سميحَة زوجةُ عمّهِ ومعهَا سمر ليطمئنُوا على أحمد. مَا إن رأى أحمد سمرَ حتَّى فتحَ فاههُ دهشةً وفرحًا، وراحتْ سميحة تضعُها بين يديه؛ فرح فرحةً كبيرةً لا توصفُ واحمرَ خجلًا ما إنْ رددتْ سميحة قولَها: - ها هي عروسُك بين يديك متلهفةٌ لك مثلمَا أنتَ متلهفٌ لرؤيتِها. قالتْ قولَها هذا محاولةً التحسينَ من مزاجِه ومواساة آلامِه. تفحصَ أحمد بنظراتِه البريئة الّتي حملتْ كمًا هائلًا من الفرحِ والسّعادةِ والأملِ لا تصفُه الكلماتُ ولَا تعيه الحروفُ فإنّها المؤنسُ الّذي سيكسرُ روتين الوحدةِ داخلَه ويؤنسُ روحَه الظّليلة هنا وهناك، إنّها الملاكُ الّذي سيلفُه بعباءةِ الطمأنينة في كل ابتسامة ونظرة، والنورُ الّذي سينيرُ حياتَه المظلمةَ، بعدمَا كان يشعرُ بالمللِ ساعات طويلةٍ؛ لا يجدُ من يشاركُه حياتَه، إنّها الحياةُ الجديدة والحياة الأجملُ الّتي طالمَا تمناهَا وبحثَ عنهَا في رحلاتِه الطّويلةِ. توالتْ الأيّامُ واللّيالي وسابقَنا الزمنُ فمرتْ سنواتٌ عديدةٌ وكبرُ كلٌّ من سمر وأحمد وكانَا لا يفترقَان البتة دائمًا ما تخطفُك أصواتُ ضحكاتِهما المتّعاليةِ في الأرجاءِ وهمَا يتواثبانِ هنا وهناك يتشاركان اللّعبَ ولحظات السّعادةِ والمرحِ، وما زاد قوةَ علاقتهِما هو تلكَ الشّجارات الّتي تنشبُ بينهُما من فترةٍ لأخرَى بسببِ اختلاف رأيٍ أو ما شابهَ، مثالٌ للبراءةٍ هما تعلمَا الحبوَ على بساطِ الطّفولةِ معًا ولم يتركَا يدَ بعضهِما أبدًا، كلّ هذا كانَ في كنفِ عائلةِ محبةٍ ولطيفةٍ تحبُ العطاءَ والاحترامَ أفرادُها طيبُوا القلوب. بعد فترةٍ من الزّمنِ حملتْ سميحة والدةَ سمر مرة أخرى، ووضعتْ في حملِها هذا توأم ﴿ حسن وحسين﴾ لكن لسوءِ الحظِ قد أصابتْها مضاعفاتٍ بعد الولادةِ وتعبتْ تعبًا شديدًا، وتعبَ معهَا المولودَان الجديدَان أيضًا، في هذه الأثناءِ شمرتْ الأحزانُ عن صاعديْها لتنهشَ من لحمِ هذه العائلةِ، وعمَ الخوفُ والقلقُ الشّديدُ على سميحة والولدين، لم تسلمْ سمر من جندِ الخوفِ وشيطانِه بلْ أنّه قد أكلَ من قلبِها الطيّبِ نصيبًا وافرًا واعتلتْ وجههَا صفرةٌ شديدةٌ وامتنعتْ عن الأكلِ؛ ذلكَ من شدةِ خوفِها وقلقِها على والدتِها وإخوتِها الصّغار. وبعدَ فترةٍ من الزمنِ تلوى فيهَا الجميعُ علىَ بساطِ القلقِ والخوفِ، عادتْ سميحةُ والأطفالُ للمنزلِ بعدمَا تماثلُوا للشفاءِ، ولكن سميحة لم تتعافَ تمامًا فهي لازالتْ تشعرُ بالتّعبِ؛ هذا ما دفعَ الطبيبَ إلى إخضاعِها لمجموعةٍ من التّحاليل الطّبية والأشعةِ وللأسفِ هذه الأخيرة أظهرتْ أنّهَا قد أصيبتْ بمرضِ بالقلبِ، ونتيجةَ هذا خرتْ قواهَا وضَعُفَ جسمُها ووهنتْ فلم تعدْ تقوَى على أداءِ أشغالِ البيتِ ولا رعايةِ الأطفالِ، فَهّمَ الجميعُ لمساعدتِها دونَ ترددٍ خاصّةً سناء أمّ أحمد الّتي كانتْ تقومُ بأعمالِ البيتِ عنهَا وترعَى الأطفالَ دونَ مللٍ ولا كللٍ. حاولتْ سميحةُ الانتظامَ في أخذِ العلاجِ والأدويةِ دونَ تهاونٍ في ذلك، لكنْ هذَا لمْ يخففْ من خوفِ سمر على والدتِها فهيَ كانتْ تخافُ فكرةَ أن تفقدَ والدتَها على حينِ غرةٍ فكانتْ تدعُو لهَا بالشّفاءِ أناءَ الّليلِ وأطرافَ النّهار، فهي لا تقوَى علَى أن تعيشَ دونَها. كبرتْ سمر وحانَ موعدُ التحاقِها بالمدرسةِ، أخيرًا ستلتحقُ بالصّف الأوّل لكنَها لم تكنْ سعيدةً بهذَا فاعتلتْ وجهَها ملامحُ الشحوبِ والاصفرارِ وضاقتْ عينيهَا ممَّا يدلُ على استيائِها لدخولِ المدرسةِ، وكانَ حزنُها لأسبابٍ أولّها مرضُ والدتِها وتعذر مرافقتِها للمدرسةِ أمّا السببُ الثّاني فهو سفرُ والدِها خارجَ البلدةِ ممّا يمنعُه من مرافقتِها كمَا كانتْ تحلمُ دائمًا؛ بدأتْ هستيريَا البكاءِ عندَ سمر ورفضتْ التّوقفَ عن ذلك ممَا مزّقَ قلبَ أحمد عليهَا وجعلًه يشعرُ بالسوءْ لحالِها. لمْ يتخلَ أحمد عنْ سمر لحظةً واحدةً ولمْ يتركْ يدهَا بل أنّه تشبثَ بها بقوةٍ واصطحبَها معه إلى المدرسةِ وحاولَ بطرقٍ جهيدةٍ طيلةَ الطّريقِ على أن يرسمَ الضحكةَ على وجههِا ويمسحَ الدموعَ من عينيها. لكن هذا لمْ يجدِ نفعًا حيثُ ما إنْ وطأتْ أقدامُ سمر بوابةَ المدرسةِ حتّى رأتْ كلّ التّلاميذ مع أبائهم يتبادلُون الحديثَ ويتمازحُون ويودعُون بعضَهم عندَ البابِ؛ هنا عادتْ سمر لحالتِها الأولى وباشرتْ البكاءَ من جديد لأنّها وجدتْ نفسَها وحيدةً في غيابِ والديهَا. توالتْ الأيّام وتعاقبتْ السنين ولازالَ الحالُ على ما هوَ عليه، فعّمَ الهدوءُ المنزلَ طيلةَ هذه المدةِ لكنَ مرضُ سميحة لازالَ يزدادُ يومًا بعدَ يومٍ وحالتِها في استياءٍ من يومٍ لأخر؛ ممَّا دفعَها لمراجعةِ طبيّةٍ عندَ مختلفِ الأطباءِ لكن ذهبَت هذه الجهودُ في مهبِ الرّيحِ. اختلسَ أحمدُ السمعَ لجلسةِ والدِه ووالدتِه وهمَا يتحدثَان عن حالةِ سميحة وعنْ الأطّباءِ الّذين زارتْهم، وأنهَت حديثَها بالتّأسفِ والبكاءِ ممّا دفعَ أحمدُ للبكاءِ أيضًا خوفًا على فراقِ سميحة وعلى سمر ومَا ستؤولُ إليه بعدَ هذا، لكنْ ما جالَ بخاطرِه وزادَ من خوفِه، قلقَه على سمر منْ أن تُصابَ بالمرضِ نفسِه ذاتَ يومٍ. طَالَ به الحالُ وهو يفكرُ في حالةِ سمر ولمْ ينتبِه حتّى سمعَ آذانَ الصّلاة، فقامَ يجرُ قدميه بتثاقلٍ شديدٍ كمنْ يحملُ ثقلَ أسفارٍ طالَ بها المرتحلُ، توضَأَ ونزلَ للمسجدِ معَ والدِه و تقابلَا معَ عمّه وحسنَ وحسين وأصرّت سمر أن تذهبَ أيضًا معهم، كانتْ المساجدُ في أبهَى زينتِها استعدادًا لشهر رمضان المبارك وما يميز هذه الأيّام ويزيدُها جمالًا هو لعب الأطفالِ وهم يتواثبُون هنا وهناكَ وصوتُ الشعائرِ الدينيةِ الّتي تريحُ النفس وتطمئنُ لها القلوبُ، وزينةُ الشوارعِ والمساجدِ الّتي جعلتْها تبدُو بأحلَى حلةٍ كأنّها عروسٌ زينَتْ ليلةَ حِنَتِهَا. أدَى الجميعُ صلاتَهم بالمسجدِ ثمّ عادُوا فرحينَ إلى البيتِ، ما إن وصلُوا دقَ حسنُ جرسَ البابِ مراتٍ ومراتِ لكنْ لمْ يفتحْ أحد ظنُوا أنَّ سميحةَ قد غفتْ، لكن عمّه قد نسّيَ حملَ المفاتيح معهُ فاضطرُوا لكسرِ البابِ وما إنْ ولجُوا البيتَ حتّى وجدُوا سميحة ملقاة علَى الأرضِ، فاقدةً الوعيَ بمنظرٍ مرعبٍ؛ ما إنْ رأتْها سمر حتّى راحتْ تعلِي صرخاتِها ونواحَها من شّدةِ الفزعِ والهلعِ على والدتِها.
❞ \"سجن البتار\": رقصة الألم في قفص الزمان والمكان *بقلم الكاتب والناقد المغربي جمال كريم* ✏️📝🖊🔖 حين تتجلى آلام الفتيات في صمت الرواية، تصبح هذه الآلام كالشعلة التي تلتهم جذور الحقيقة، وتذيب الأسطورة في أسئلة مريرة عن الحرية والاغتراب. سجن البتار للكاتبة صفاء فوزي ليست مجرد سرد لحياة فتاة تبحث عن الخلاص، بل هي رحلة بين المتناقضات، حيث يقبع الألم في كل زاوية، وتنكسر الحياة بين يدَي المال والسلطة. 1. \"في قلب السجن، سكنت الحرية\" كل شيء في الرواية يبدو كأنما يسبح في مستنقع من الهمسات الجريحة. البطلة، التي تُجبر على أن تعيش في عالم من القهر والذل، لا تملك سوى أن تتنفس في صمت. ولكن هذا الصمت، الذي يُظن أنه قاتل، هو في الحقيقة صوت صراخ داخلي لا يُسمع. سجن البتار يشبه قفصًا كبيرًا، لكن في قلبه تكمن الحرية المعذبة التي تُحارب كل يوم في غياهب الأسئلة الوجودية عن الذات والآخر. كم هو مرير أن يُفرض عليك عالم لا خيار لك فيه، وأن تكون أسيرًا في سجن ليس فقط جسديًا بل نفسيًا وروحيًا. 2. \"بين المال والأنوثة: لعنة الوجود\" الشخصيات في الرواية، على اختلافها، تجسد التناقضات في أسلوب الحياة، وتحمل في دواخلها أسئلة عن المعنى والتكامل. الشخصية الرئيسة، التي تضطر للقبول بالذل تحت وطأة المال لإنقاذ والدتها، تذوق طعم الحياة الممزقة بين الاضطرار والاختيار. وتبدو حياتها كما لو كانت مشهدًا في مسرح الحياة، حيث كل قرار يتطلب تضحية. المال في هذه الرواية لا يعدو كونه سرابًا في صحراء الروح، يسرق منها براءتها ويحولها إلى آلة صماء. فبينما يُعطي المال، فإنه يسلب كل شيء عميق، بما في ذلك قدرة الحب على النجاة. 3. \"سجّانٌ في قفص الحب\" وإذا كانت الفتاة أسيرة في سجن المال، فإن السجّان لا يقل عن تلك الأسيرة في تجارب قاسية. ففي عوالمه، يسكن حبٌ مختلط بالندم والتوبة، وقدرٌ يتنقل بين الخيبة والرجاء. كما يقال في الرواية، حين ينقلب السجّان إلى عاشقٍ يتحطم قلبه على أسوار الواقع: \"أنت لن تتغير أبدًا. المال، الثروة، والنفوذ جعلتك تسحق الضعفاء بلا شفقة.\" كلماتها تندفع كسهام في قلبه، ويغرق هو في بحر من التوبة التي لا تجدي نفعًا. هو الآخر، مثل أسير في سجنٍ داخلي، يظل يلاحق الذكريات محاولة إصلاح ما أفسده الزمن. لكن الزمن، الذي يسعى لتجديد الأحلام، يتسلل منه دون أن يدركه. 4. \"في كل عذوبة ألم\" وتبقى سجن البتار، من خلال تدفقاتها السردية، كنهرٍ عميق يحمل أوجاع الحياة العصرية. في كل كلمة، يبدو الألم كخنجر يغرز في القلب، يرافقه شعور بالخذلان. الكاتبة صفاء فوزي هنا تُظهِر لنا أن الألم لا يُقاس بمدى شدة الألم الجسدي، بل بمقدار ما يخلفه من جروح في القلب والنفس. سجن البتار هي قصة تعيد بناء العلاقات البشرية بطريقة جديدة، حيث الحب لا يأتي أبدًا خاليًا من الألم، وحيث الأمل لا يكاد يشرق حتى يغمره الظلام مرة أخرى. 5. \"الحرية في مهب الريح\" ما بين سجن المال وقيود الحب، تسير الرواية بخطى وئيدة نحو نهايتها غير المنتظرة. الهروب، الذي تحاول البطلة أن تحقق من خلاله معجزات صغيرة، هو الهروب من قيودٍ أكبر من أن تُرى. الحب هنا ليس سوى وعدٍ مؤجل، وأملٍ يظل على حافة الهاوية. كل هروب من سجن الحياة يبدو كأنه هروب إلى الموت. فالرواية، إذًا، ليست فقط عن القفص، بل عن تلك اللحظة التي يواجه فيها الإنسان نفسه في مرآة غير واضحة. وهل سنجد الخلاص في الهروب؟ أم أن الهروب هو السجن ذاته؟ في النهاية، رواية سجن البتار تعكس معركة الإنسان مع ذاته، وبين ملذات الوجود ومتاهات الحياة. تساؤلاتها تمس جروح الواقع، وأحلام البطلة هي مرآة لآمالنا التي تظل معلقة بين الحقيقة والتوقعات.. ❝ ⏤صفاء فوزي
❞ ˝سجن البتار˝: رقصة الألم في قفص الزمان والمكان *بقلم الكاتب والناقد المغربي جمال كريم* ✏️📝🖊🔖
حين تتجلى آلام الفتيات في صمت الرواية، تصبح هذه الآلام كالشعلة التي تلتهم جذور الحقيقة، وتذيب الأسطورة في أسئلة مريرة عن الحرية والاغتراب. سجن البتار للكاتبة صفاء فوزي ليست مجرد سرد لحياة فتاة تبحث عن الخلاص، بل هي رحلة بين المتناقضات، حيث يقبع الألم في كل زاوية، وتنكسر الحياة بين يدَي المال والسلطة.
1. ˝في قلب السجن، سكنت الحرية˝
كل شيء في الرواية يبدو كأنما يسبح في مستنقع من الهمسات الجريحة. البطلة، التي تُجبر على أن تعيش في عالم من القهر والذل، لا تملك سوى أن تتنفس في صمت. ولكن هذا الصمت، الذي يُظن أنه قاتل، هو في الحقيقة صوت صراخ داخلي لا يُسمع. سجن البتار يشبه قفصًا كبيرًا، لكن في قلبه تكمن الحرية المعذبة التي تُحارب كل يوم في غياهب الأسئلة الوجودية عن الذات والآخر. كم هو مرير أن يُفرض عليك عالم لا خيار لك فيه، وأن تكون أسيرًا في سجن ليس فقط جسديًا بل نفسيًا وروحيًا.
2. ˝بين المال والأنوثة: لعنة الوجود˝
الشخصيات في الرواية، على اختلافها، تجسد التناقضات في أسلوب الحياة، وتحمل في دواخلها أسئلة عن المعنى والتكامل. الشخصية الرئيسة، التي تضطر للقبول بالذل تحت وطأة المال لإنقاذ والدتها، تذوق طعم الحياة الممزقة بين الاضطرار والاختيار. وتبدو حياتها كما لو كانت مشهدًا في مسرح الحياة، حيث كل قرار يتطلب تضحية. المال في هذه الرواية لا يعدو كونه سرابًا في صحراء الروح، يسرق منها براءتها ويحولها إلى آلة صماء. فبينما يُعطي المال، فإنه يسلب كل شيء عميق، بما في ذلك قدرة الحب على النجاة.
3. ˝سجّانٌ في قفص الحب˝
وإذا كانت الفتاة أسيرة في سجن المال، فإن السجّان لا يقل عن تلك الأسيرة في تجارب قاسية. ففي عوالمه، يسكن حبٌ مختلط بالندم والتوبة، وقدرٌ يتنقل بين الخيبة والرجاء. كما يقال في الرواية، حين ينقلب السجّان إلى عاشقٍ يتحطم قلبه على أسوار الواقع: ˝أنت لن تتغير أبدًا. المال، الثروة، والنفوذ جعلتك تسحق الضعفاء بلا شفقة.˝ كلماتها تندفع كسهام في قلبه، ويغرق هو في بحر من التوبة التي لا تجدي نفعًا. هو الآخر، مثل أسير في سجنٍ داخلي، يظل يلاحق الذكريات محاولة إصلاح ما أفسده الزمن. لكن الزمن، الذي يسعى لتجديد الأحلام، يتسلل منه دون أن يدركه.
4. ˝في كل عذوبة ألم˝
وتبقى سجن البتار، من خلال تدفقاتها السردية، كنهرٍ عميق يحمل أوجاع الحياة العصرية. في كل كلمة، يبدو الألم كخنجر يغرز في القلب، يرافقه شعور بالخذلان. الكاتبة صفاء فوزي هنا تُظهِر لنا أن الألم لا يُقاس بمدى شدة الألم الجسدي، بل بمقدار ما يخلفه من جروح في القلب والنفس. سجن البتار هي قصة تعيد بناء العلاقات البشرية بطريقة جديدة، حيث الحب لا يأتي أبدًا خاليًا من الألم، وحيث الأمل لا يكاد يشرق حتى يغمره الظلام مرة أخرى.
5. ˝الحرية في مهب الريح˝
ما بين سجن المال وقيود الحب، تسير الرواية بخطى وئيدة نحو نهايتها غير المنتظرة. الهروب، الذي تحاول البطلة أن تحقق من خلاله معجزات صغيرة، هو الهروب من قيودٍ أكبر من أن تُرى. الحب هنا ليس سوى وعدٍ مؤجل، وأملٍ يظل على حافة الهاوية. كل هروب من سجن الحياة يبدو كأنه هروب إلى الموت. فالرواية، إذًا، ليست فقط عن القفص، بل عن تلك اللحظة التي يواجه فيها الإنسان نفسه في مرآة غير واضحة. وهل سنجد الخلاص في الهروب؟ أم أن الهروب هو السجن ذاته؟
في النهاية، رواية سجن البتار تعكس معركة الإنسان مع ذاته، وبين ملذات الوجود ومتاهات الحياة. تساؤلاتها تمس جروح الواقع، وأحلام البطلة هي مرآة لآمالنا التي تظل معلقة بين الحقيقة والتوقعات. ❝