عن كتاب الرخصة في القانون الاداري: الترخيص الإداري
سعيد نحيلي
تكفل الدساتير مجموعة من الحريات العامة والحقوق الأساسية للأفراد وتقوم بتنظيم ممارستها من خلال توجيه رسالة للمشرّع ترخص له من خلالها القيام بتنظيم هذه الحريات بشيء من التفصيل مع مراعاة ما يقتضيه التنظيم التشريعي عادة من عدم جواز مصادرة أصل الحق أو الانتقاص منه تحت شعار التنظيم. وتقوم السلطة الإدارية بتنفيذ مضمون النص التشريعي الذي يحدد لها الوسائل المتاحة قانوناً لتنظيم حرية من الحريات حيث تنقل القيود التشريعية إلى حيز الواقع الفعلي ويتم ذلك عادة عن طريق مجموعة من التدخلات الإدارية التي تهدف للحفاظ على النظام العام وحقوق الجوار. وتجدر الإشارة إلى أن مدى سلطة الإدارة في التدخل في حرية الأفراد وحقوقهم إنما يرتبط بالضرورة بماهية الحرية وطريقة تنظيمها قانوناً. فإذا كانت حرية من الحريات التي ضمنها القانون وحدد شروط ممارستها فإن سلطة الإدارة تكون ضيقة في هذه الحالة ويقتصر تدخلها على الحالات التي سمح بها المشرّع، أي إن ممارسة هذا النوع من الحريات لا يحتاج أصلاً إلى إذن أو موافقة مسبّقة أو ترخيص Autorisation administrative من السلطة الإدارية المختصة. ومن أمثلة هذا النوع من الحريات حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية وحرية الانتقال.
بيد أن الحال يختلف في صدد ممارسة طائفة أخرى من الحريات التي تؤدي ممارستها إلى الإضرار بالنظام العام، مع العلم أن لفظة النظام العام لم تعد تقتصر على العناصر التقليدية
(الهدوء العام والصحة العامة والأمن العام) بل امتدت لتشمل عناصر أخرى ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية. ومن هنا يمكن القول: إن المشرع راح ينظم ممارسة بعض الحريات الفردية ولاسيما المرتبطة بحق الملكية والمنبثقة منه، وعلق ممارسة بعضها على شرط الحصول على إذن أو ترخيص من السلطة الإدارية المختصة. بيد أن هذا التنظيم التشريعي يخضع بطبيعة الحال للقيود الدستورية التي ترسم الحدود التي يسمح فيها للمشرع العادي التحرك ضمنها عند تنظيم الحرية، معتبراً أن أي تجاوز لهذه الحدود إنما يعد اعتداء على الحقوق والحريات الأساسية جزاؤه البطلان.
أولاً: آلية تنظيم الحقوق والحريات الفردية:
يقوم المشرع أحياناً بتنظيم بعض الحريات الفردية بشيء من التفصيل ويحدد على نحو مباشر الشروط المناسبة للحصول على الإذن المسبق لممارستها، كما يسمح المشرع للسلطة الإدارية بتنظيم هذه الحريات من خلال لوائح تنظيمية تتضمن قواعد عامة ومجردة كما هو الحال في لوائح المرور ولوائح مراقبة الأغذية. ونظراً لما لهذه اللوائح من خطر على الحقوق والحريات أحاطها المشرع بمجموعة من الضمانات: أهمها أن تستند اللوائح إلى نص قانوني سابق يخول الإدارة صلاحية إصدارها صراحة، وأن يتم نشرها وفقاً للأصول القانونية، وأن تخضع للرقابة القضائية. ومن مظاهر تنظيم النشاط بواسطة اللوائح:
الحظر الجزئي والمؤقت
(كما في حال حظر تشغيل بعض المصانع في وقت معين)، والحصول على الإذن السابق على ممارسة النشاط
(مثل استخراج رخصة قيادة سيارة أو إقامة مبنى أو مصنع، أو فتح صيدلية أو مشفى لعلاج المرضى)، والإخطار والتوجيه. وما يهم هنا هو الوقوف وقفة معمقة عند موضوع الترخيص
(الإذن السابق) نظراً لأهميته العلمية والعملية. وسيدرس بجميع جوانبه القانونية بدءاً من تعريفه، مروراً بتحديد آثار منحه والمنازعات المتعلقة بالترخيص وانتهاء بدراسة وضع التراخيص في سورية.
ثانياً: الجوانب القانونية للترخيص الإداري:
1- تعريف الترخيص الإداري: الترخيص الإداري هو إذن أو موافقة السلطة الإدارية المختصة التي تشرف على ممارسة نشاط ما يمنح لطالبه إذا تحققت فيه الشروط القانونية. والترخيص الإداري بهذه الماهية يدخل ضمن الوسائل الرقابية الوقائية التي يخولها المشرع للسلطة الإدارية بغية تنظيم بعض الحريات الفردية إذ لا يمكن ممارسة هذه الحريات إلا بعد الحصول على الموافقة المسبقة للسلطة الإدارية. وهذه الفكرة بالتحديد هي التي تصنع الفارق بين الترخيص الإداري وغيره من المفاهيم القانونية المشابهة له؛ لذا من الضروري أن يقارن الترخيص الإداري بغيره من المفاهيم المشابهة له.
2- التفريق بين الترخيص الإداري وإخطار السلطة الإدارية: الترخيص الإداري هو وسيلة رقابية ذات هدف وقائي حيث يكون النشاط محظوراً على الفرد مادام غير حاصل على موافقة السلطة الإدارية المسبقة.
لذا يتوجب على من يرغب في ممارسة النشاط المعلقة إمكانية ممارسته على إذن مسبق من الإدارة المختصة أن يتقدم بطلب إلى السلطة الإدارية المختصة قانوناً يعبّر فيه عن رغبته في ممارسة النشاط وتقوم الإدارة بدراسة هذا الطلب ومدى توافر الشروط القانونية سواء الشروط الشخصية المتعلقة بطالب الترخيص
(سيرة حياته وأخلاقه) أم الشروط الموضوعية المتعلقة بمكان المشروع والعناصر البيئية والتشغيلية والمناطقية… إلخ. وإذا خلصت الدراسة إلى أن الشروط بنوعيها الشخصي والموضوعي متحققة يتوجب على الإدارة عندئذٍ منح الترخيص الإداري. فسلطة الإدارة في هذه الحالة سلطة مقيدة ولا تملك أي خيار آخر سوى منح الترخيص، وأساس ذلك هو احترام مبدأ المشروعية الذي يلزم السلطة الإدارية بأن تحترم مبدأ تدرج القواعد القانونية بدءاً من الدستور وانتهاءً باللوائح تحت طائلة اعتبار أي قرار مخالف لمبدأ المشروعية قراراً قابلاً للإبطال. كما يتعين على الإدارة الالتزام بمبدأ المساواة الذي يلزم الإدارة أن تعامل الأفراد أصحاب المراكز القانونية المتساوية معاملة متساوية.
ومن المجالات الشائعة لتطبيق مبدأ الترخيص الإداري الشؤون المتعلقة بإقامة الأجانب وممارسة المهن والسينما، والشؤون المتعلقة باستعمال حق الملكية مثل: رخصة البناء وكل أشكال إشغال الأراضي
(الهدم، بناء المرآبات، قطع الأشجار… إلخ).
وبهذه الماهية يختلف الترخيص الإداري عن إخطار السلطة الإدارية الذي يعدّ أخف من صورة الترخيص، حيث يعد النشاط الفردي في هذه الحالة غير محظور أصلاً ولا يشترط الحصول على إذن سابق من السلطة المختصة قبل ممارسته إلا أنه صيانة للنظام العام يتطلب الأمر إخطار السلطة الإدارية المختصة بالرغبة في ممارسة هذا النشاط لكي تستطيع هذه أن تتخذ ما يلزم من إجراءات
(كما في حالة إعلام الشرطة حول تنظيم الحفلات في الصالات وتنظيم المباريات والمهرجانات الرياضية) لحماية النظام العام، ومنع ما يخل أو يعوق النظام العام في الوقت الملائم والمناسب، وتتدخل السلطة الإدارية في هذه الحالة على نحو لاحق وعلاجي لتصحيح الخلل الذي نجم عن ممارسة النشاط.
فالإخطار من حيث الماهية إنما يعد وسيلة أقل خطراً على الحريات من الترخيص من حيث إن القضاء حريص جداً في مجال الحريات الأساسية، وهذا ما دفع المجلس الدستوري الفرنسي إلى منع المشرّع من إدخال النظام الوقائي
(الترخيص المسبق) في تشريعات حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب والصحافة.
كما يختلف الترخيص الإداري عن نظام التوجيه الذي يتعلق بتنظيم النشاط الفردي ويهدف فقط إلى تنظيم الحرية والنشاط بغية الحيلولة دون ارتكاب مخالفات وممارسات ضد النظام العام فلا يتوجب هنا على الأفراد الحصول على موافقة الإدارة قبل ممارسة النشاط، بل تعد التوجيهات بمنزلة دليل استرشادي ملزم للأفراد مثل نص لائحة المرور على مواصفات معينة للسيارات أو قواعد معينة تجب مراعاتها للسير في شوارع المدن.
3- الطبيعة القانونية للترخيص الإداري: تفيد هذه الدراسة من الناحية العملية، ولا تقتصر فائدتها على الناحية الفقهية النظرية؛ إذ يتوقف تحديد نوع المنازعة الإدارية على طبيعة التصرف الإداري. والسؤال هنا هل تحققت عناصر القرار الإداري وأركانه في الترخيص الإداري؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من العودة إلى تعريف القرار الإداري وفق اجتهادات القضاء الإداري. فقد عرفته محكمة القضاء الإداري السورية في حكمها الصادر في القضية رقم 132 لعام 1960 بأنه
«إفصاح الإدارة عن إرادتها الملزمة للأفراد بناء على سلطتها العامة بمقتضى القوانين واللوائح… حين تتجه إرادتها إلى إنشاء مركز قانوني…».
وبمحاولة إسقاط عناصر القرار الإداري على الترخيص الإداري يتبين أن الترخيص الإداري لا يعدو أن يكون عملاً قانونياً فردياً تقوم به سلطة إدارية مختصة بقصد إحداث أثر حقوقي متى كان هذا جائزاً من الناحية القانونية. وكما يلاحظ فهذه هي ذاتها العناصر القانونية للقرار الإداري، إذ يدخل الترخيص الإداري ضمن الأوامر الفردية التي تملكها الإدارة بوصفه وسيلة أساسية من وسائل تحقيق المصلحة العامة الاجتماعية حيث إن منح الترخيص لمزاولة نشاط فردي معين إنما يعد من القرارات الإدارية الفردية التي تصدرها الإدارة عند توافر الشروط التي وضعها المشرع والمثال على ذلك: الترخيص بفتح محل لأحد المواطنين، والترخيص الإداري لمزاولة مهنة الطب والصيدلة والترخيص الإداري لأحد الأفراد بحمل سلاح ناري والترخيص بفتح مدرسة خاصة، والترخيص بفتح جامعة خاصة أو مشفى خاص… إلخ).
وإذا تم التسليم بأن الترخيص الإداري لا يعدو أن يكون قراراً إدارياً توافرت فيه جميع عناصر القرار الإداري فلا بد أن يستجمع الترخيص الإداري كل أركان القرار الإداري وشروط صحته تحت رقابة القضاء الإداري؛ لذا فمن الطبيعي أن يقوم القضاء الإداري بالتأكد من شروط صحة القرار الإداري عندما تثار أمامه قضية ما تتعلق بالترخيص الإداري حيث يتعين على القضاء الإداري أن يتأكد من شروط المشروعية الشكلية والموضوعية المتعلقة بالترخيص الإداري لجهة المحل والسبب والغاية والشكل والاختصاص.
4- الآثار القانونية لمنح الترخيص: سبق أن تم التوصل إلى نتيجة هي استجماع الترخيص الإداري لكل أركان القرار الإداري بما في ذلك محل القرار. وقد جرى الفقه والقضاء على تعريف محل القرار بأنه الأثر القانوني الذي يترتب على القرار على نحو آني ومباشر أي من دون أي عمل قانوني آخر يكون وسيطاً بين القرار والآثار التي تترتب عليه باستثناء الإجراءات التنفيذية اللازمة لوضع القرار موضع التنفيذ الفعلي. ويشترط أن يكون الأثر القانوني المتولد عن القرار الإداري ممكناً من الناحيتين الواقعية والقانونية. وإذا تمت محاولة تحديد الآثار القانونية لمنح الترخيص الإداري يتبين أن منح الترخيص الإداري يؤدي إلى إزالة الحظر الذي كان يحيط بالحرية أو النشاط محل الترخيص. أي إن منح الترخيص الإداري يعد من قبيل القرارات الإدارية المنشئة وليس الكاشفة؛ لكونه يرتب أثراً قانونياً جديداً لم يكن قائماً قبل صدور القرار
(مثال: قرار منح رخصة مبانٍ، قرار منح رخصة قيادة سيارة، قرار منح رخصة سلاح ناري… إلخ). وأبعد من ذلك يعد قرار منح الترخيص من القرارات الإدارية التي تثري المركز القانوني للمرخص له على النقيض من قرار سحب الترخيص الإداري أو إلغائه الذي ينتمي إلى القرارات الإدارية التي تؤثر سلباً في المركز القانوني للأفراد، وتؤدي إلى إفقار المركز القانوني للفرد المعني. غير أن منح الترخيص أو رفضه أو سحبه أو إلغاءه بعد منحه إنما يدخل ضمن نطاق السلطة المقيدة للإدارة حيث يتوجب على الإدارة عند معالجة طلب الترخيص أن تتقيد بالشروط التي حددها المشرّع على سبيل الحصر ولم يترك للإدارة أي فسحة للتقدير والاجتهاد. ولا يتغير الحال بخصوص قرارات سحب الترخيص أو إلغائه حيث يخضع هذا الموضوع للشروط التي حددها المشرّع محاطاً بالقيود التي طورها الفقه والقضاء بشأن زوال آثار الترخيص عن طريق الإدارة سحباً أو إلغاءً. حيث تطبق هنا القواعد العامة التي تقوم على أساس التفريق بين القرارات المعيبة والقرارات السليمة. فلا يجوز للإدارة أن تمتنع عن منح ترخيص توافرت الشروط القانونية في طالبه كما لا يجوز لها أن تسحب أو تلغي ترخيصاً بيد صاحبه إذا لم تتحقق شروط السحب أو الإلغاء. مع الإشارة إلى أن المرجع الأساسي للحكم فيما لو تحققت شروط السحب والإلغاء إنما هو التشريع الذي ينظم المهنة. والمثال على ذلك هو ما ورد في المادة /15/ من نظام مهنة المطاعم الألماني التي تشدد على توافر شرط الثقة والمصداقية في طالب الترخيص، فإذا تبين للسلطة الإدارية المختصة أن صاحب المنشأة قد أساء إلى هذا الشرط فإن من حق الإدارة إلغاء الترخيص. وتجدر الإشارة -في صدد الحديث عن الآثار القانونية المترتبة على منح الترخيص- إلى أن قيام فرد ما بممارسة نشاط أو حرية مقيدة ممارستها بالحصول على الترخيص قبل الحصول على الترخيص المطلوب إنما يستوجب تدخل الإدارة، إذ يعد ذلك مخالفة صريحة للقانون، الأمر الذي يسوغ للسلطة الإدارية المختصة التدخل من خلال الأمر بوقف ممارسة النشاط أو تعليقه إلى أجل لاحق وإيقاع العقوبات القانونية.
بعبارة أخرى عندما يقوم المشرع بمنع ممارسة نشاط معين قبل الحصول على إذن مسبّق من السلطة الإدارية لا يعني ذلك منعاً دائماً للنشاط والفعالية بل يمكن تكييفه قانوناً بأنه بمنزلة تنظيم للمهنة أو الفعالية بحيث يتحول المنع إلى سماح إذا توافرت الشروط القانونية في طالب الترخيص.
ولعل المثال التقليدي الذي يوضح هذه الحالة هو رخصة البناء، فمن حيث المبدأ هناك حرية في البناء مستمدة من حق الملكية المصون دستورياً في جميع دساتير دول العالم المعاصر
(المادة /14/ فقرة /1/ من القانون الأساسي الألماني لعام 1949 والمادة /14/ فقرة /3/ من الدستور السوري الدائم لعام 1973).
غير أنه انطلاقاً من مصلحة الجوار والمصلحة العامة يجوز بل ينبغي أن يخضع موضوع ترخيص البناء لعدة قيود، وعلى المشرع أن يحدد هذه القيود مباشرة، وعلى السلطة الإدارية المختصة احترام هذه القيود التي حددها المشرع وأن تعمل جاهدة على وضعها موضع التطبيق العملي.
وإذا امتنعت السلطة الإدارية عن القيام بواجبها في ممارسة الرقابة المسبقة على البناء قبل إنشائه، وحاولت أن تبحث في مشروعيته بعد الإنشاء فهي تضع نفسها عندئذٍ أمام أحد احتمالين هما:
إما أن تأمر بهدم البناء كلياً أو جزئياً، وإما الإبقاء عليه رغم مخالفته للقوانين والأنظمة. وكلا الاحتمالين يبدو أنه غير مقنع لذا من الطبيعي والمنطقي القيام بالرقابة القانونية على مشروعية البناء قبل إنشائه. والأداة التي تستخدمها الإدارة من أجل التأكد من مشروعية البناء أو عدم مشروعيته هي الرخصة
(الترخيص الإداري).
5- نهاية الترخيص الإداري بغير عمل الإدارة: يعد الترخيص من القرارات الإدارية التي تستدعي طبيعتها استمرارها مدة طويلة من الزمن كالقرار الصادر بترخيص محل، حيث لا ينتهي مفعول القرار بمجرد إنشاء المحل، بل يستمر مادام المستفيد من الترخيص مزاولاً لنشاطه، إلا إذا تدخلت الإدارة وقامت بسحب الترخيص أو إلغائه لمقتضيات المصلحة العامة أو لمخالفة المستفيد لشروط الاستفادة منه. غير أنه توجد حالات يمكن أن يكون فيها الترخيص محدّد المدة ابتداءً، كما هو الحال بالترخيص بالإقامة لأجنبي مدة معينة، أو قرار منح جواز سفر أو قرار منح إجازة سوق أو قرار منح ترخيص باستعمال المال العام استعمالاً خاصاً
(مركز بيع صحف على الرصيف)، ففي هذه الحالات ينتهي القرار
(موضوع الترخيص) بانتهاء المدة المحددة سلفاً نظراً لنفاذ الترخيص.
كما يمكن أن ينتهي القرار المتضمن منح ترخيص إداري بزوال الحالة الواقعية أو القانونية التي تعلق عليها استمرار نفاذ القرار الإداري كما لو منحت الإدارة الأجنبي الترخيص بالإقامة لأنه يعمل في جهة أو مصلحة حكومية فإذا انتهت خدمته في هذه الجهة انتهى معها الترخيص له بالإقامة أي لم يعد في هذه الحالة للقرار سبب صحيح يقوم عليه وبالتالي ينتفي ركن من أركان القرار وينتهي بالتالي القرار بالتبعية. كما يمكن أن ينتهي الترخيص بسبب استحالة تنفيذ الشيء محل الترخيص، وقد تكون هذه الاستحالة مادية؛ كما لو توفي المستفيد من الرخصة
(خصوصاً في التراخيص الشخصية) أي إن مصير القرار
(الترخيص) ارتبط بمصير من صدر لمصلحتهم إلا إذا كان هناك استمرار لمفعول القرار بالنسبة للورثة ولم يكن من التراخيص المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بشخص المرخص له. كما يمكن أن تكون الاستحالة قانونية كما لو أصبح النشاط المرخص له سابقاً من المحظورات بموجب نص قانوني
(كتحريم حمل السلاح من قبل الأفراد المدنيين تحريماً مطلقاً). وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشروط المتعلقة بمنح الترخيص تأخذ عادة صورتين:
الأولى: الشروط الشخصية: وهي تلك المتعلقة بطالب الرخصة حيث يعطى الترخيص في هذه الحالة لشخص محّدد بذاته وهو يلزم حامله فقط ويستفيد منه حامله فقط. وعليه إذا أراد شخص آخر أن يستثمر المنشأة بعد الشخص المرخص له فعليه أن يحصل على ترخيص شخصي جديد. ومن أمثلة الشروط الشخصية: الثقة والمصداقية التي ينبغي أن يتمتع بها المرخص له في استثمار مطعم.
الثانية: الشروط الموضوعية: وهي شروط مادية بحتة ترتبط بالمشروع والفعالية ولا ترتبط بشخص المستثمر. ومن أمثلة هذه الشروط: تلك المتعلقة بالموقع وجهوزية المكان، والشروط البيئية، فالموضوع يتعلق بترخيص مادي وهذا يعني أن الرخصة المادية تصبح ملزمة للخلف كما أنها تصبح حقاً له.
6- منازعات التراخيص الإدارية: تضع الدساتير ومنها الدستور السوري الدائم لعام 1973 الضمانات اللازمة لحماية الحريات من خلال مبادئ دستورية مهمة، منها ما يتعلق بكفالة حق التقاضي وفقاً لنص المادة /28/ فقرة /4/ من الدستور الدائم لعام 1973 فضلاً عن تقرير الولاية الشاملة لقضاء إداري ينشأ ويشمل في اختصاصه ولايتي الإلغاء والتعويض.
ومن المعروف أن القضاء الإداري يختص بالفصل في جميع المنازعات الإدارية التي تنشأ بين الدولة والأفراد. وقد جرى تقسيم المنازعات الإدارية إلى نوعين اثنين من الدعاوى هما: دعوى الإلغاء
(الإبطال)، ودعوى القضاء الكامل
(التعويض).
ولا يختلف اثنان حول اعتبار الدعاوى المتعلقة بالتراخيص الإدارية إنما تأتي في صدارة الدعاوى التي يواجهها القضاء الإداري، لما لها من علاقة مباشرة بالحقوق والحريات الأساسية؛ لذا سيدرس موضوع المنازعات الإدارية التي تنشأ بين الإدارة والأفراد في معرض قيام الإدارة بممارسة سلطتها الرقابية على كل ألوان النشاط الفردي من خلال استخدامها تقنية الترخيص الإداري على أن يتم التركيز على الصور المختلفة لمنازعات التراخيص الإدارية وتطبيق عيوب عدم المشروعية عليها.
أ- الصور المختلفة للمنازعات المتعلقة بالتراخيص الإدارية:
يدخل في اختصاص محكمة القضاء الإداري النظر في جميع المنازعات المتعلقة بالترخيص الإداري. وتأخذ هذه المنازعات عدة صور:
q فقد تستهدف الدعوى الحصول على الترخيص عندما تمتنع الإدارة عن منح الترخيص بغير سندٍ قانوني صحيح.
q وقد تستهدف الدعوى طلب إلغاء قرار الإدارة بسحب الترخيص بعد الشروع في استخدامه بما يترتب على ذلك من آثار، كما لو قامت الإدارة بسحب ترخيص بناء بعد الشروع فيه أصولاً.
q وقد تستهدف الدعوى طلب إلغاء رخصة منحت للغير، كما لو طلب أحد الأفراد إلغاء رخصة بيع مسكرات بحي إسلامي يقطن فيه مستنداً إلى أحكام المرسوم رقم /180/ لعام 1952 بشأن بيع المسكرات قريباً من أماكن العبادة، أو كما لو طلب أحد الأفراد فتح صيدلية استناداً إلى أحكام المرسوم /12/ لعام 1970 الناظم لمزاولة المهن الطبيّة والصيدليّة.
q كما يمكن أن تأخذ الدعوى صورة طلب مواطن إلغاء ترخيص فتح مشفى بجوار مسكنه استناداً لأحكام نظام المشافي الخاصة رقم /968/ لعام 1953.
ويتبيّن من خلال استعراض الصور المختلفة للدعاوى الإدارية التي يمكن تصورها في معرض منازعات التراخيص الإدارية أن المدِّعي في هذه الدعاوى يمكن أن يكون طالب الترخيص أو صاحبه أو شخصاً ثالثاً لحق به الضرر نتيجة منح الترخيص.
ب- تطبيق عيوب عدم المشروعية على قرارات التراخيص الإدارية:
عند دراسة الطبيعة القانونية للترخيص الإداري تبيَّن أن الترخيص الإداري يعد من الناحية القانونية قراراً إدارياً نهائياً تكاملت أركانه وفق اجتهادات القضاء الإداري.
وينطبق هذا أيضاً على حالة منح الترخيص أو رفضه. إذ إن رفض منح الترخيص إنما يعد وفق ما هو سائد فقهاً وقضاءً أنه قرار إداري سلبي يتجلى في امتناع الإدارة عن اتخاذ موقف معين في أحد الموضوعات التي يلزمها القانون اتخاذ موقف بشأنه. وهذا ما يؤكده ذيل المادة /8/ من قانون مجلس الدولة السوري رقم /55/ لعام 1955 حيث عدت هذه المادة في حكم القرارات الإدارية رفض السلطات الإدارية أو امتناعها عن اتخاذ قرار كان من الواجب عليها اتخاذه وفقاً للقوانين واللوائح.
أما عيوب عدم المشروعية التي يمكن أن تشوب قرارات الإدارة هي عيب عدم الاختصاص وعيب الشكل والإجراءات، وعيب مخالفة القوانين والخطأ في تطبيقها أو تأويلها، وعيب إساءة استعمال السلطة
(ذيل المادة /8/ من قانون مجلس الدولة السوري رقم /55/ لعام 1955).
وبما أن موضوع منح الترخيص الإداري أو رفضه ليس من الموضوعات التي تدخل في نطاق السلطة التقديرية للإدارة، بل في نطاق سلطتها المقيدة فيستنتج أن العيب الأكثر شيوعاً والأكثر تطبيقاً من الناحية العملية في قضايا التراخيص الإدارية هو عيب مخالفة القانون بمعناه الضيق أو الخطأ في تطبيقه أو تفسيره، على حساب انحسار بقية أنواع العيوب. ومن الثابت فقهاً وقضاءً أن عيب مخالفة القانون بالمعنى الضيق إنما يصيب القرار الإداري في ركن المحل.
وأخيراً لابد من الإشارة إلى أن المنازعات المتعلقة بالتراخيص الإدارية يمكن أن تدخل في نطاق قضاء الإلغاء، أو نطاق القضاء الكامل
(التعويض) حيث يمكن إثبات مسؤولية الإدارة التقصيرية القائمة على أساس الخطأ والمطالبة بالتعويض عن الضرر الناجم عن خطأ الإدارة إذا استطاع المدَّعي أن يثبت خطأ الإدارة والضرر الذي لحق به.
ومما يجدر بالإشارة أن القانون الذي ينظم صلاحيات الإدارة التي تتضمن تدخلاً في الحقوق الأساسية للأفراد ينبغي أن يتضمن في الوقت ذاته محل التقييد والغرض منه وحجم التدخل وبالشكل الذي تكون القيود فيه ظاهرة وواضحة ومتوقعة. إذ إن الاعتداء على الحرية وعلى حق الملكية إنما ينبغي أن يستند بالمطلق إلى مستند قانوني، ويجد هذا القيد أساسه ليس فقط في مبدأ المشروعية التقليدي، بل تمتد جذوره إلى الحقوق الأساسية ذاتها المصانة دستورياً.
ومن الناحية الموضوعية يبدو دور الترخيص بأن من شأنه أن يعيد حرية التصرف للفرد مجدّداً من خلال أن الترخيص يعطيه ما هو ثابت له أصلاً في الدستور، والشيء ذاته يطبق على حالة رفض منح الترخيص حيث يعد رفض منح الترخيص من الناحية الموضوعية بمنزلة اعتداء على حرية التصرف. لذا فإن رفض منح الترخيص يخضع لأقصى الشروط القانونية التي تخضع لها عادة القرارات الإدارية السلبية.
كما أن عبء الإثبات يقع في نطاق رفض منح الترخيص على الإدارة، أي توجد قرينة قانونية لمصلحة الأفراد بأن نشاطهم صحيح من الناحية القانونية ويستحقون الترخيص، فإذا عجزت الإدارة عن إثبات أن رفضها منح الترخيص كان مبنياً على أسس قانونية سليمة فعلى الإدارة أن تمنح الترخيص؛ إذ إن رفض منح الترخيص خصوصاً رفض منح رخص البناء) يعد إجراءً مشابهاً لإجراء نزع الملكية ويعطي المالك الحق في المطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق به جراء ذلك.
ثالثاً- التراخيص الإدارية في سورية:
يعد موضوع الترخيص الإداري من الموضوعات الرئيسية التي تدرس في فقه القانون الإداري. وقد بينت الدراسة أعلاه أن للترخيص الإداري عدة جوانب قانونية مستقاة من التكييف القانوني للترخيص الإداري بأنه قرار إداري، وبالتالي فإن ما تمَّ عرضه من أحكام وتفاصيل بشأن الترخيص الإداري إنما يأخذ صفة العموم والشمول وبالتالي فهو يلقى التطبيق العملي في مختلف النظم القانونية لدول العالم المعاصر ومنها سورية، وليس هناك أي خصوصية تذكر للقانون السوري.
ففي سورية يسود في نطاق الحريات العامة المبدأ القائل: إن الأصل في الأشياء الإباحة، وإن الخروج على الأصل يقتضي النص الصريح عليه. أي إن دور الدولة من حيث المبدأ هو دور معقب على إساءة استخدام الحريات والتعسف في ممارستها.
وإذا كان هناك اختلاف بين الدول بخصوص ممارسة الحريات العامة فإن هذا الاختلاف يقتصر على النواحي المتعلقة بالتنظيم، ولا ينسحب على الجوهر، وذلك تجاوباً مع الاتجاهات العالمية الحديثة في تأكيد الحريات الأساسية بدءاً من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948 ومروراً بمواثيق الاتحاد الأوربي وميثاق الجامعة العربية، وقبل ذلك وبعده انسجاماً مع التطور الديمقراطي الذي شهدته سورية إثر صدور دستورها الحالي.
أخيراً بقي التذكير بالتصنيفات الرئيسية لأنظمة التراخيص في التشريعات المختلفة النافذة في سورية:
q حيث هناك تراخيص في قطاع الصحة مثل: إجازة فتح مستودع أدوية، أو ترخيص محل نظارات طبية أو ترخيص مشفى خاص، أو ترخيص فتح معمل أدوية.
q وهناك تراخيص في قطاع الإعلام مثل: ترخيص إذاعة مسموعة، أو ترخيص دار نشر.
q وهناك تراخيص في القطاع الزراعي مثل: ترخيص معمل لإنتاج الأدوية البيطرية.
q وهناك ترخيص حمل الأسلحة.
q وهناك التراخيص الإدارية المتعلقة بممارسة المهن المنصوص عليها في جداول التصنيف بوصفها مهنة