█ _ محمد رشيد رضا 1936 حصريا كتاب ❞ تفسير سورة يوسف ❝ عن دار المنار 2024 يوسف: وصف pdfتاليف رضا (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن)آية مليئة بالمعاني الكثيرة التي تيبن أروع حدثت تعرض سيدنا لظلم من إخوته حتي يقربوا أباهم منهم لأن الشيطان أوهمهم أنه بعيد عنهم ولكن كان لذالك القصة حكمة الله وهو نشر الدين بلاد مصر حتى تحقق أمر بفضله وإرادته إسلامية متنوعة مجاناً PDF اونلاين مكتبة الكتب الاسلاميه المتنوعه التى يوجد بها موضوعات كثيره فى شتى فروع الاسلامى وتشمل ( الملائكة المقدسة الرسل والأنبياء يوم القيامة القضاء والقدر شعائر وعبادات أركان الإسلام الإحسان أخرى الجهاد الآداب والطعام الشريعة والفقه الإسلامي مصادر التشريع المذاهب الفقهية الكبرى التاريخ العصر النبوى عصر الخلفاء الراشدين الأموي العبّاسي العثماني ما بعد دور العبادة الأسرة رجال واليهودية والمسيحية والعقائد الشرقية رأي غير المسلمين ) كلمة : في اللغة المقصود الاستسلام والانقياد أما معناها شرعاً فهو: والخضوع لله تعالى وأنّ المُسلم يُسِلّم أمره كُله الواحد القهار والإسلام ديانة إبراهيمية سماوية إلهية وآخر الديانات السماوية وهي ثاني حيث عدد المعتنقين الديانة المسيحيّة ولكنها أكثر مُنتشرة جغرافيّاً وجه الكُرة الأرضيّة وأنزل عز وجل القرآن الكريم آخر أنزله وحفظه ليكون صالحاً كل مكان وزمان المسلمون يؤمنون بأنّ عبادة وعدم الشرك به فرض عليهم مع تصديق الرسول صل عليه وسلم والإيمان بالقرآن وقراءته وتدبره واتباعه الواجبات يؤمن بالدين الإسلاميّ أركان : نطق الشهادتين "أشهد أن لا اله الا وأشهد محمداً رسول الله الصلاة خمس صلوات اليوم الزكاة إعطاء مال للمساكين والفُقراء صوم رمضان صوم شهر كُل سنة حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً زيارة مكة المُكرمة وأداء مناسك الحج وقد فُرض مرة العُمر قال تعالى: (وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمرَةَ لِلّهِ ) أركان الإيمان بالله نؤمن بوحدانيّة إشراك أحد معه الربوبية الإيمان بالملائكة الترتيب الثاني الله الإيمان باليوم الآخر يجب يكون إيمانه الإيمان بالقدر خيره وشره أساسيات بربوبية
❞ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
قوله تعالى : قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون
قوله تعالى : قال إني ليحزنني أن تذهبوا به في موضع رفع ; أي ذهابكم به . أخبر عن حزنه لغيبته .
وأخاف أن يأكله الذئب وذلك أنه رأى في منامه أن الذئب شد على يوسف ، فلذلك خافه عليه ; قاله الكلبي . وقيل : إنه رأى في منامه كأنه على ذروة جبل ، وكأن يوسف في بطن الوادي ، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله ، فدرأ عنه واحد ، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام ; فكانت العشرة إخوته ، لما تمالئوا على قتله ، والذي دافع عنه أخوه الأكبر يهوذا ، وتواريه في الأرض هو مقامه في الجب ثلاثة أيام . وقيل : إنما قال ذلك لخوفه منهم عليه ، وإنه أرادهم بالذئب ; فخوفه إنما كان من قتلهم له ، فكنى عنهم بالذئب مساترة لهم ; قال ابن عباس : فسماهم ذئابا . وقيل : ما خافهم عليه ، ولو خافهم لما أرسله معهم ، وإنما خاف الذئب ; لأنه أغلب ما يخاف في الصحاري . والذئب مأخوذ من تذاءبت الريح إذا جاءت من كل وجه ; كذا قال أحمد بن يحيى ; قال : والذئب مهموز لأنه يجيء من كل وجه . وروى ورش عن نافع ˝ الذيب ˝ بغير همز ، لما كانت الهمزة ساكنة وقبلها كسرة فخففها صارت ياء .
وأنتم عنه غافلون أي مشتغلون بالرعي . ❝
❞ وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
قوله تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض قال الخليل وسيبويه : هي " أي " دخل عليها كاف التشبيه وبنيت معها ، فصار في الكلام معنى كم ، وقد مضى في " آل عمران " القول فيها مستوفى . ومضى القول في آية السماوات والأرض في " البقرة " . وقيل : الآيات آثار عقوبات الأمم السالفة ; أي هم غافلون معرضون عن تأملها . وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد " والأرض " رفعا ، ابتداء وخبره " يمرون عليها " . وقرأ السدي " والأرض " نصبا بإضمار فعل ، والوقف على هاتين القراءتين على السماوات . وقرأ ابن مسعود : " يمشون عليها " . ❝
❞ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
قوله تعالى : قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين فيه سبع مسائل الأولى : قوله تعالى : نستبق نفتعل ، من ، المسابقة . وقيل : أي ننتضل ; وكذا في قراءة عبد الله ˝ إنا ذهبنا ننتضل ˝ وهو نوع من المسابقة ; قاله الزجاج . وقال الأزهري : النضال في السهام ، والرهان في الخيل ، والمسابقة تجمعهما . قال القشيري أبو نصر : نستبق أي في الرمي ، أو على الفرس ; أو على الأقدام ; والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو ، لأنه الآلة في قتال العدو ، ودفع الذئب عن الأغنام . وقال السدي وابن حبان : نستبق نشتد جريا لنرى أينا أسبق . قال ابن العربي : المسابقة شرعة في الشريعة ، وخصلة بديعة ، وعون على الحرب ; وقد فعلها - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وبخيله ، وسابق عائشة - رضي الله عنها - على قدميه فسبقها ; فلما كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابقها فسبقته ; فقال لها : هذه بتلك .
قلت : وسابق سلمة بن الأكوع رجلا لما رجعوا من ذي قرد إلى المدينة فسبقه سلمة ; خرجه مسلم .
الثانية : وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق ، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها ; وهذا الحديث مع صحته في هذا الباب تضمن ثلاثة شروط ; فلا تجوز المسابقة بدونها ، وهي : أن المسافة لا بد أن تكون معلومة . الثاني : أن تكون الخيل متساوية الأحوال . الثالث : ألا يسابق المضمر مع غير المضمر في أمد واحد وغاية واحدة . والخيل التي يجب أن تضمر ويسابق عليها ، وتقام هذه السنة فيها هي الخيل المعدة لجهاد العدو لا لقتال المسلمين في الفتن .
الثالثة : وأما المسابقة بالنصال والإبل ; فروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ، ومنا من ينتضل ، وذكر الحديث . وخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر . وثبت ذكر النصل من حديث ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع عن أبي هريرة ، ذكره النسائي ; وبه يقول فقهاء الحجاز والعراق . وروى البخاري عن أنس قال : كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة تسمى العضباء لا تسبق - قال حميد : أو لا تكاد تسبق - فجاء أعرابي على قعود فسبقها ، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه ; فقال : حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه .
الرابعة : أجمع المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف ، والحافر والنصل ; قال الشافعي : ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار . وقد زاد أبو البختري القاضي في حديث الخف والحافر والنصل ˝ أو جناح ˝ وهي لفظة وضعها للرشيد ، فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته ; فلا يكتب العلماء حديثه بحال . وقد روي عن مالك أنه قال : لا سبق إلا في الخيل والرمي ، لأنه قوة على أهل الحرب ; قال : وسبق الخيل أحب إلينا من سبق الرمي . وظاهر الحديث يسوي بين السبق على النجب والسبق على الخيل . وقد منع بعض العلماء الرهان في كل شيء إلا في الخيل ; لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها . وروي عن عطاء أن المراهنة في كل شيء جائزة ; وقد تؤول قوله ; لأن حمله على العموم في كل شيء يؤدي إلى إجازة القمار ، وهو محرم باتفاق .
الخامسة : لا يجوز السبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم ، كما ذكرنا ، وكذلك الرمي لا يجوز السبق فيه إلا بغاية معلومة ورشق معلوم ، ونوع من الإصابة ; مشترط خسقا أو إصابة بغير شرط . والأسباق ثلاثة : سبق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله متطوعا فيجعل للسابق شيئا معلوما ; فمن سبق أخذه . وسبق يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه ، فإن سبقه صاحبه أخذه ، وإن سبق هو صاحبه أخذه ، وحسن أن يمضيه في الوجه الذي أخرجه له ، ولا يرجع إلى ماله ; وهذا مما لا خلاف فيه . والسبق الثالث : اختلف فيه ; وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه ، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه ; وهذا الوجه لا يجوز حتى يدخلا بينهما محللا لا يأمنا أن يسبقهما ; فإن سبق المحلل أحرز السبقين جميعا وأخذهما وحده ، وإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه ; ولا شيء للمحلل فيه ، ولا شيء عليه . وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما . وقال أبو علي بن خيران - من أصحاب الشافعي - : وحكم الفرس المحلل أن يكون مجهولا جريه ; وسمي محللا لأنه يحلل السبق للمتسابقين أو له . واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلل واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه أنه قمار ، ولا يجوز . وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار . وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال : ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلل ، فإن سبق أخذ السبق ، وإن سبق لم يكن عليه شيء ; وبهذا قال الشافعي وجمهور أهل العلم . واختلف في ذلك قول مالك ; فقال مرة لا يجب المحلل في الخيل ، ولا نأخذ فيه بقول سعيد ، ثم قال : لا يجوز إلا بالمحلل ; وهو الأجود من قوله .
السادسة : ولا يحمل على الخيل والإبل في المسابقة إلا محتلم ، ولو ركبها أربابها كان أولى ; وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : لا يركب الخيل في السباق إلا أربابها . وقال الشافعي : وأقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه ; أو بالكفل أو بعضه . والسبق من الرماة على هذا النحو عنده ; وقول محمد بن الحسن في هذا الباب نحو قول الشافعي .
السابعة : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سابق أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - فسبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى أبو بكر وثلث عمر ; ومعنى وصلى أبو بكر : يعني أن رأس فرسه كان عند صلا فرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصلوان موضع العجز .
قوله تعالى : وتركنا يوسف عند متاعنا أي عند ثيابنا وأقمشتنا حارسا لها .
فأكله الذئب وذلك أنهم لما سمعوا أباهم يقول : وأخاف أن يأكله الذئب أخذوا ذلك من فيه فتحرموا به ; لأنه كان أظهر المخاوف عليه .
وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق .
˝ ولو كنا ˝ أي وإن كنا ; قاله المبرد وابن إسحاق . ˝ صادقين ˝ في قولنا ; ولم يصدقهم يعقوب لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه على ما يأتي بيانه . وقيل : ولو كنا صادقين أي ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا ، ولاتهمتنا في هذه القضية ، لشدة محبتك في يوسف ; قال معناه الطبري والزجاج وغيرهما . ❝
❞ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
قوله تعالى : قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون
قوله تعالى : قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف أي قال له ولده : تالله تفتأ تذكر يوسف قال الكسائي : فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت . وزعم الفراء أن ˝ لا ˝ مضمرة ; أي لا تفتأ ، وأنشد :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي لا أبرح ; قال النحاس : والذي قال حسن صحيح . وزعم الخليل وسيبويه أن ˝ لا ˝ تضمر في القسم ، لأنه ليس فيه إشكال ; ولو كان واجبا لكان باللام والنون ; وإنما قالوا له ذلك لأنهم علموا باليقين أنه يداوم على ذلك ; يقال : ما زال يفعل كذا ، وما فتئ وفتأ فهما لغتان ، ولا يستعملان إلا مع الجحد قال الشاعر :
فما فتئت حتى كأن غبارها سرادق يوم ذي رياح ترفع
أي ما برحت فتفتأ تبرح . وقال ابن عباس : تزال .
حتى تكون حرضا أي تالفا . وقال ابن عباس ومجاهد : دنفا من المرض ، وهو ما دون الموت ; قال الشاعر :
سرى همي فأمرضني وقدما زادني مرضا
كذاك الحب قبل اليو م مما يورث الحرضا
وقال قتادة : هرما . الضحاك : باليا داثرا . محمد بن إسحاق : فاسدا لا عقل لك . الفراء : الحارض الفاسد الجسم والعقل ; وكذا الحرض . ابن زيد : الحرض الذي قد رد إلى أرذل العمر . الربيع بن أنس : يابس الجلد على العظم . المؤرج : ذائبا من الهم . وقال الأخفش : ذاهبا . ابن الأنباري : هالكا ، وكلها متقاربة . وأصل الحرض الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم ، عن أبي عبيدة وغيره ; وقال العرجي :
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم
قال النحاس : يقال حرض حرضا وحرض حروضا وحروضة إذا بلي وسقم ، ورجل حارض وحرض ; إلا أن حرضا لا يثنى ولا يجمع ، ومثله قمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان . الثعلبي : ومن العرب من يقول حارض للمذكر ، والمؤنثة حارضة ; فإذا وصف بهذا اللفظ ثنى وجمع وأنث . ويقال : حرض يحرض حراضة فهو حريض وحرض . ويقال : رجل محرض ، وينشد :
طلبته الخيل يوما كاملا ولو ألفته لأضحى محرضا
وقال امرؤ القيس :
أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا كإحراض بكر في الديار مريض
قال النحاس : وحكى أهل اللغة أحرضه الهم إذا أسقمه ، ورجل حارض أي أحمق . وقرأ أنس : ˝ حرضا ˝ بضم الحاء وسكون الراء ، أي مثل عود الأشنان . وقرأ الحسن بضم الحاء والراء . قال الجوهري : الحرض والحرض الأشنان .
أو تكون من الهالكين أي الميتين ، وهو قول الجميع ; وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه ، وإن كانوا السبب في ذلك . ❝
❞ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
قوله تعالى : واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم
قوله تعالى : واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : واستبقا الباب قالت العلماء : وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني ; وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا ، هي لترده إلى نفسها ، وهو ليهرب عنها ، فأدركته قبل أن يخرج .
وقدت قميصه من دبر أي من خلفه ; قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه ، ونزل التخريق إلى أسفل القميص . والاستباق طلب السبق إلى الشيء ; ومنه السباق . والقد القطع ، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا ; قال النابغة :
تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب
والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا . وقال المفضل بن حرب : قرأت في مصحف " فلما رأى قميصه عط من دبره " أي شق . قال يعقوب : العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح .
وحذفت الألف من استبقا في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها ; كما يقال : جاءني عبد الله في التثنية ; ومن العرب من يقول : جاءني عبدا الله بإثبات الألف بغير همز ، يجمع بين ساكنين ; لأن الثاني مدغم ، والأول حرف مد ولين . ومنهم من يقول : عبدا الله بإثبات الألف والهمز ، كما تقول في الوقف .
الثانية : في الآية دليل على القياس والاعتبار ، والعمل بالعرف والعادة ; لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا ، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم ; وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة ، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة ، وهذا هو الأغلب .
قوله تعالى : وألفيا سيدها لدى الباب أي وجدا العزيز عند الباب ، وعني بالسيد الزوج ، والقبط يسمون الزوج سيدا . يقال : ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه كله بمعنى واحد ;
فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت ف قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا أي زنى .
إلا أن يسجن أو عذاب أليم تقول : يضرب ضربا وجيعا . و " ما جزاء " ابتداء ، وخبره " أن يسجن " . " أو عذاب " عطف على موضع " أن يسجن " لأن المعنى : إلا السجن . ويجوز أو عذابا أليما بمعنى : أو يعذب عذابا أليما ; قاله الكسائي . ❝
❞ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)
قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون نزلت في قوم أقروا بالله خالقهم وخالق الأشياء كلها ، وهم يعبدون الأوثان ; قاله الحسن ، ومجاهد وعامر والشعبي وأكثر المفسرين . وقال عكرمة هو قوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ثم يصفونه بغير صفته ويجعلون له أندادا ; وعن الحسن أيضا : أنهم أهل كتاب معهم شرك وإيمان ، آمنوا بالله وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ; فلا يصح إيمانهم ; حكاه ابن الأنباري . وقال ابن عباس : نزلت في تلبية مشركي العرب : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . وعنه أيضا أنهم النصارى . وعنه أيضا أنهم المشبهة ، آمنوا مجملا وأشركوا مفصلا . وقيل : نزلت في المنافقين ; المعنى : وما يؤمن أكثرهم بالله أي باللسان إلا وهو كافر بقلبه ; ذكره الماوردي عن الحسن أيضا . وقال عطاء : هذا في الدعاء ; وذلك أن الكفار ينسون ربهم في الرخاء ، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء ; بيانه : وظنوا أنهم أحيط بهم الآية . وقوله : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه الآية . وفي آية أخرى : وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض . وقيل : معناها أنهم يدعون الله ينجيهم من الهلكة ، فإذا أنجاهم قال قائلهم : لولا فلان ما نجونا ، ولولا الكلب لدخل علينا اللص ، ونحو هذا ; فيجعلون نعمة الله منسوبة إلى فلان ، ووقايته منسوبة إلى الكلب .
قلت : وقد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين ; ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وقيل : نزلت هذه الآية في قصة الدخان ; وذلك أن أهل مكة لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون فذلك إيمانهم ، وشركهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب ; بيانه قوله : إنكم عائدون والعود لا يكون إلا بعد ابتداء ; فيكون معنى : إلا وهم مشركون أي إلا وهم عائدون إلى الشرك ، والله أعلم . ❝
❞ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قوله تعالى : قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه خاطبوه باسم العزيز إذ كان في تلك اللحظة بعزل الأول أو موته . وقولهم : إن له أبا شيخا كبيرا أي كبير القدر ، ولم يريدوا كبر السن ; لأن ذلك معروف من حال الشيخ . فخذ أحدنا مكانه أي عبدا بدله ; وقد قيل : إن هذا مجاز ; لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل من قد أحكمت السنة عندهم رقه ; وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وكذا ، وأنت لا تريد أن يقتلك ، ولكنك مبالغ في استنزاله . ويحتمل أن يكون قولهم : فخذ أحدنا مكانه حقيقة ; وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يروا استرقاق حر ، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة ; أي خذ أحدنا مكانه . حتى ينصرف إليك صاحبك ; ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ; ويعرف يعقوب جلية الأمر ; فمنع يوسف - عليه السلام - من ذلك ، إذ الحمالة في الحدود ونحوها - بمعنى إحضار المضمون فقط - جائزة مع التراضي ، غير لازمة إذا أبى الطالب ; وأما الحمالة في مثل هذا على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة ، فلا يجوز إجماعا . وفي ˝ الواضحة ˝ : إن الحمالة في الوجه فقط في جميع الحدود جائزة ، إلا في النفس . وجمهور الفقهاء على جواز الكفالة في النفس . واختلف فيها عن الشافعي ; فمرة ضعفها ، ومرة أجازها .
قوله تعالى : إنا نراك من المحسنين يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم ، ويحتمل أن يريدوا : إنا نرى لك إحسانا علينا في هذه اليد إن أسديتها إلينا ; وهذا تأويل ابن إسحاق . ❝
❞ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ ۖ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
قوله تعالى : قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : أضغاث أحلام قال الفراء : ويجوز أضغاث أحلام قال النحاس : النصب بعيد ، لأن المعنى : لم تر شيئا له تأويل ، إنما هي أضغاث أحلام ، أي أخلاط . وواحد الأضغاث ضغث ، يقال لكل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما ضغث ; قال الشاعر :
كضغث حلم غر منه حالمه
وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين قال الزجاج : المعنى بتأويل الأحلام المختلطة ، نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له ، لا أنهم نفوا عن أنفسهم علم التأويل . وقيل : نفوا عن أنفسهم علم التعبير . والأضغاث على هذا الجماعات من الرؤيا التي منها صحيحة ومنها باطلة ، ولهذا قال الساقي : أنا أنبئكم بتأويله فعلم أن القوم عجزوا عن التأويل ، لا أنهم ادعوا ألا تأويل لها . وقيل : إنهم لم يقصدوا تفسيرا ، وإنما أرادوا محوها من صدر الملك حتى لا تشغل باله ، وعلى هذا أيضا فعندهم علم . والأحلام جمع حلم ، والحلم بالضم ما يراه النائم ، تقول منه حلم بالفتح واحتلم ، وتقول : حلمت ، بكذا وحلمته ، قال :
فحلمتها وبنو رفيدة دونها لا يبعدن خيالها المحلوم
أصله الأناة ، ومنه الحلم ضد الطيش ; فقيل لما يرى في النوم حلم لأن النوم حالة أناة وسكون ودعة .
الثانية : وفي الآية دليل على بطلان قول من يقول : إن الرؤيا على أول ما تعبر ، لأن القوم قالوا : أضغاث أحلام ولم تقع كذلك ; فإن يوسف فسرها على سني الجدب والخصب ، فكان كما عبر ; وفيها دليل على فساد أن الرؤيا على رجل طائر ، فإذا عبرت وقعت . ❝
❞ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
ولقد همت به وهم بها الآية ، قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ; كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها . وقال أحمد بن يحيى : أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة ، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به ; فبين الهمتين فرق ، ذكر هذين القولين الهروي في كتابه . قال جميل :
هممت بهم من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا
آخر :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
فهذا كله حديث نفس من غير عزم . وقيل : هم بها تمنى زوجيتها . وقيل : هم بها أي بضربها ودفعها عن نفسه ، والبرهان كفه عن الضرب ; إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها . وقيل : إن هم يوسف كان معصية ، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته ، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم ، فيما ذكر القشيري أبو نصر ، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم . قال ابن عباس : حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن ، وعنه : استلقت على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه . وقال سعيد بن جبير : أطلق تكة سراويله . وقال مجاهد : حل السراويل حتى بلغ الأليتين ، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته . قال ابن عباس : ولما قال : ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال له جبريل : ولا حين هممت بها يا يوسف ؟ ! فقال عند ذلك : وما أبرئ نفسي . قالوا : والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص ، وأعظم للثواب .
قلت : وهذا كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل حسب ما يأتي بيانه في [ ص ] إن شاء الله تعالى . وجواب لولا على هذا محذوف ; أي لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به ; ومثله كلا لو تعلمون علم اليقين وجوابه لم تتنافسوا ; قال ابن عطية : روي هذا القول عن ابن عباس وجماعة من السلف ، وقالوا : الحكمة في ذلك أن يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلى عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب ، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخاء وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو ذلك ، وهي قد استلقت له ; حكاه الطبري . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها ، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه ، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم . وقال الحسن : إن الله - عز وجل - لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها ; ولكنه ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة . قال الغزنوي : مع أن لزلة الأنبياء حكما : زيادة الوجل ، وشدة الحياء بالخجل ، والتخلي عن عجب العمل ، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل ، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل . قال القشيري أبو نصر : وقال قوم جرى من يوسف هم ، وكان ذلك الهم حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل ; وما كان من هذا القبيل لا يؤخذ به العبد ، وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد ; وتناول الطعام اللذيذ ; فإذا لم يأكل ولم يشرب ، ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس ; والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزما مصمما .
قلت : هذا قول حسن ; وممن قال به الحسن . قال ابن عطية : الذي أقول به في هذه الآية إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح ، ولا تظاهرت به رواية ; وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما ، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة ; وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو خاطر ، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكته ونحوه ; لأن العصمة مع النبوة . وما روي من أنه قيل له : تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء . فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد .
قلت : ما ذكره من هذا التفصيل صحيح ; لكن قوله تعالى : وأوحينا إليه يدل على أنه كان نبيا على ما ذكرناه ، وهو قول جماعة من العلماء ; وإذا كان نبيا فلم يبق إلا أن يكون الهم الذي هم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر ; وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق ، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه ; ويكون قوله : وما أبرئ نفسي - إن كان من قول يوسف - أي من هذا الهم ، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف ، لمخالفة النفس لما زكي به قبل وبرئ ; وقد أخبر الله تعالى عن حال يوسف من حين بلوغه فقال : ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما على ما تقدم بيانه ; وخبر الله تعالى صدق ، ووصفه صحيح ، وكلامه حق ; فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنا ومقدماته ; وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله ; فما تعرض لامرأة العزيز ، ولا أجاب إلى المراودة ، بل أدبر عنها وفر منها ; حكمة خص بها ، وعملا بمقتضى ما علمه الله . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي . وقال - عليه السلام - مخبرا عن ربه : إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة . فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب ; وفي الصحيح : إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به وقد تقدم . قال ابن العربي : كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية - وأي إمام - يعرف بابن عطاء ! تكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه ; فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال : يا شيخ ! يا سيدنا ! فإذا يوسف هم وما تم ؟ قال : نعم ! لأن العناية من ثم . فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم ، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله ، وجواب العالم في اختصاره واستيفائه ; ولذلك قال علماء الصوفية : إن فائدة قوله : ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما إنما أعطاه ذلك إبان غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة .
قلت : وإذا تقررت عصمته وبراءته بثناء الله تعالى عليه فلا يصح ما قال مصعب بن عثمان : إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها ، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكرها ، فقالت : إن لم تفعل لأشهرنك ; فخرج وتركها ، فرأى في منامه يوسف الصديق - عليه السلام - جالسا فقال : أنت يوسف ؟ فقال : أنا يوسف الذي هممت ، وأنت سليمان الذي لم تهم ؟ ! فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوة وهو محال ; ولو قدرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية ، فيكون محفوظا كهو ; ولو غلقت على سليمان الأبواب ، وروجع في المقال والخطاب ، والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه الفتنة ، وعظيم المحنة ، والله أعلم .
قوله تعالى : لولا أن رأى برهان ربه " أن " في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه والجواب محذوف . لعلم السامع ; أي لكان ما كان . وهذا البرهان غير مذكور في القرآن ; فروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن زليخاء قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب ، فقال : ما تصنعين ؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني في هذه الصورة ; فقال يوسف : أنا أولى أن أستحي من الله ; وهذا أحسن ما قيل فيه ، لأن فيه إقامة الدليل . وقيل : رأى مكتوبا في سقف البيتولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا . وقال ابن عباس : بدت كف مكتوب عليها وإن عليكم لحافظين وقال قوم : تذكر عهد الله وميثاقه . وقيل : نودي يا يوسف ! أنت مكتوب في ديوان الأنبياء وتعمل عمل السفهاء ؟ ! وقيل : رأى صورة يعقوب على الجدران عاضا على أنملته يتوعده فسكن ، وخرجت شهوته من أنامله ; قاله قتادة ومجاهد والحسن والضحاك . وأبو صالح وسعيد بن جبير . وروى الأعمش عن مجاهد قال : حل سراويله فتمثل له يعقوب ، وقال له : يا يوسف ! فولى هاربا . وروى سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير قال : مثل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله ، قال مجاهد : فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكرا إلا يوسف لم يولد له إلا غلامان ، ونقص بتلك الشهوة ولده ; وقيل غير هذا . وبالجملة : فذلك البرهان آية من آيات الله أراها الله يوسف حتى قوي إيمانه ، وامتنع عن المعصية .
قوله تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء الكاف من كذلك يجوز أن تكون رفعا ، بأن يكون خبر ابتداء محذوف ، التقدير : البراهين كذلك ، ويكون نعتا لمصدر محذوف ; أي أريناه البراهين رؤية كذلك . والسوء الشهوة ، والفحشاء المباشرة . وقيل : السوء الثناء القبيح ، والفحشاء الزنا . وقيل : السوء خيانة صاحبه ، والفحشاء ركوب الفاحشة . وقيل : السوء عقوبة الملك العزيز .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر " المخلصين " بكسر اللام ; وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله . وقرأ الباقون بفتح اللام ، وتأويلها : الذين أخلصهم الله لرسالته ; وقد كان يوسف - صلى الله عليه وسلم - بهاتين الصفتين ; لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى ، مستخلصا لرسالة الله تعالى . ❝
❞ ارْجِعُوا إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ
قاله الذي قال : ˝ فلن أبرح الأرض ˝ .فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ
وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين ˝ إن ابنك سرق ˝ النحاس : وحدثني محمد بن أحمد بن عمر قال حدثنا ابن شاذان قال حدثنا أحمد بن أبي سريج البغدادي قال : سمعت , الكسائي يقرأ : ˝ يا أبانا إن ابنك سرق ˝ بضم السين وتشديد الراء مكسورة ; على ما لم يسم فاعله ; أي نسب , إلى السرقة ورمي بها ; مثل خونته وفسقته وفجرته إذا نسبته إلى هذه الخلال .
وقال الزجاج : ˝ سرق ˝ يحتمل معنيين : أحدهما : علم منه السرق , والآخر : اتهم بالسرق .
قال الجوهري : والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق , والمصدر يسرق سرقا بالفتح .سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا
فيه أربع مسائل : الأولى : قوله تعالى : ˝ وما شهدنا إلا بما علمنا ˝ يريدون ما شهدنا قط إلا بما علمنا , وأما الآن فقد شهدنا بالظاهر وما نعلم الغيب ; كأنهم وقعت لهم تهمة من قول بنيامين : دس هذا في رحلي من دس بضاعتكم في رحالكم ; قال معناه ابن إسحاق .
وقيل المعنى : ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من دينك ; قاله ابن زيد .
الثانية : تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها ; فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا , فلا تسمع إلا ممن علم , ولا تقبل إلا منهم , وهذا هو الأصل في الشهادات ; ولهذا قال أصحابنا : شهادة الأعمى جائزة , وشهادة المستمع جائزة , وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة ; وكذلك الشهادة على الخط - إذا تيقن أنه خطه أو خط فلان - صحيحة فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه ; قال الله تعالى : ˝ إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ˝ [ الزخرف : 86 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بخير الشهداء خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) وقد مضى في ˝ البقرة ˝ .
الثالثة : اختلف قول مالك في شهادة المرور ; وهو أن يقول : مررت بفلان فسمعته يقول كذا فإن استوعب القول شهد في أحد قوليه , وفي القول الآخر لا يشهد حتى يشهداه .
والصحيح أداء الشهادة عند الاستيعاب ; وبه قال جماعة العلماء , وهو الحق ; لأنه قد حصل المطلوب وتعين عليه أداء العلم ; فكان خير الشهداء إذا أعلم المشهود له , وشر الشهداء إذا كتمها والله أعلم ,
الرابعة : إذا ادعى رجل شهادة لا يحتملها عمره ردت ; لأنه ادعى باطلا فأكذبه العيان ظاهرا .عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ
أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه .
وقال مجاهد وقتادة : ما كنا نعلم أن ابنك يسترق ويصير أمرنا إلى هذا , وإنما قلنا : نحفظ أخانا فيما نطيق .
وقال ابن عباس : يعنون أنه سرق ليلا وهم نيام , والغيب هو الليل بلغة حمير ; وعنه : ما كنا نعلم ما يصنع في ليله ونهاره وذهابه وإيابه .
وقيل : ما دام بمرأى منا لم يجر خلل , فلما غاب عنا خفيت عنا حالاته .
وقيل معناه : قد أخذت السرقة من رحله , ونحن أخرجناها وننظر إليها , ولا علم لنا بالغيب , فلعلهم سرقوه ولم يسرق . ❝
❞ قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32)
قوله تعالى : قالت فذلكن الذي لمتنني فيه لما رأت افتتانهن بيوسف أظهرت عذر نفسها بقولها : ˝ لمتنني فيه ˝ أي بحبه ، و ذلك بمعنى ˝ هذا ˝ وهو اختيار الطبري . وقيل : الهاء للحب ، و ذلك على بابه ، والمعنى : ذلكن الحب الذي لمتنني فيه ، أي حب هذا هو ذلك الحب . واللوم الوصف بالقبيح .
ثم أقرت وقالت : ولقد راودته عن نفسه فاستعصم أي امتنع . وسميت العصمة عصمة لأنها تمنع من ارتكاب المعصية . وقيل : استعصم أي استعصى ، والمعنى واحد .
ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن عاودته المراودة بمحضر منهن ، وهتكت جلباب الحياء ، ووعدت بالسجن إن لم يفعل ، وإنما فعلت هذا حين لم تخش لوما ولا مقالا خلاف أول أمرها إذ كان ذلك بينه وبينها .
وليكونا من الصاغرين أي الأذلاء . وخط المصحف ˝ وليكونا ˝ بالألف وتقرأ بنون مخففة للتأكيد ; ونون التأكيد تثقل وتخفف والوقف على قوله : ليسجنن بالنون لأنها مثقلة ، وعلى ليكونا بالألف لأنها مخففة ، وهي تشبه نون الإعراب في قولك : رأيت رجلا وزيدا وعمرا ، ومثله قوله : لنسفعا بالناصية ونحوها الوقف عليها بالألف ، كقول الأعشى :
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
أي أراد فاعبدا ، فلما وقف عليه كان الوقف بالألف . ❝
❞ حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
قوله تعالى : حتى إذا استيأس الرسل تقدم القراءة فيه ومعناه . وظنوا أنهم قد كذبوا هذه الآية فيها تنزيه الأنبياء وعصمتهم عما لا يليق بهم . وهذا الباب عظيم ، وخطره جسيم ، ينبغي الوقوف عليه لئلا يزل الإنسان فيكون في سواء الجحيم . المعنى : وما أرسلنا قبلك يا محمد إلا رجالا ثم لم نعاقب أممهم بالعذاب . حتى إذا استيأس الرسل أي يئسوا من إيمان قومهم . " وظنوا أنهم قد كذبوا " بالتشديد ; أي أيقنوا أن قومهم كذبوهم . وقيل المعنى : حسبوا أن من آمن بهم من قومهم كذبوهم ، لا أن القوم كذبوا ، ولكن الأنبياء ظنوا وحسبوا أنهم يكذبونهم ; أي خافوا أن يدخل قلوب أتباعهم شك ; فيكون وظنوا على بابه في هذا التأويل . وقرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو جعفر بن القعقاع والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف " كذبوا " بالتخفيف ; أي ظن القوم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ، ولم يصدقوا . وقيل : المعنى ظن الأمم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من نصرهم . وفي رواية عن ابن عباس ; ظن الرسل أن الله أخلف ما وعدهم . وقيل : لم تصح هذه الرواية ; لأنه لا يظن بالرسل هذا الظن ، ومن ظن هذا الظن لا يستحق النصر ; فكيف قال : جاءهم نصرنا ؟ ! قال القشيري أبو نصر : ولا يبعد إن صحت الرواية أن المراد خطر بقلوب الرسل هذا من غير أن يتحققوه في نفوسهم ; وفي الخبر : إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم ينطق به لسان أو تعمل به . ويجوز أن يقال : قربوا من ذلك الظن ; كقولك : بلغت المنزل ، أي قربت منه . وذكر الثعلبي والنحاس عن ابن عباس قال : كانوا بشرا فضعفوا من طول البلاء ، ونسوا وظنوا أنهم أخلفوا ; ثم تلا : حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله . وقال الترمذي الحكيم : وجهه عندنا أن الرسل كانت تخاف بعد ما وعد الله النصر ، لا من تهمة لوعد الله ، ولكن لتهمة النفوس أن تكون قد أحدثت حدثا ينقض ذلك الشرط والعهد الذي عهد إليهم ; فكانت إذا طالت عليهم المدة دخلهم الإياس والظنون من هذا الوجه . وقال المهدوي عن ابن عباس : ظنت الرسل أنهم قد أخلفوا على ما يلحق البشر ; واستشهد بقول إبراهيم - عليه السلام - : رب أرني كيف تحي الموتى الآية . والقراءة الأولى أولى . وقرأ مجاهد وحميد - " قد كذبوا " بفتح الكاف والذال مخففا ; على معنى : وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا ، لما رأوا من تفضل الله - عز وجل - في تأخير العذاب . ويجوز أن يكون المعنى : ولما أيقن الرسل أن قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم جاء الرسل نصرنا . وفي البخاري عن عروة عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله - عز وجل - : حتى إذا استيئس الرسل قال قلت : أكذبوا أم كذبوا ؟ قالت عائشة : كذبوا . قلت : فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن ؟ قالت : أجل ! لعمري ! لقد استيقنوا بذلك ; فقلت لها : وظنوا أنهم قد كذبوا قالت : معاذ الله ! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها . قلت : فما هذه الآية ؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، فطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصرنا عند ذلك . وفي قوله تعالى : جاءهم نصرنا قولان : أحدهما : جاء الرسل نصر الله ; قال مجاهد . الثاني : جاء قومهم عذاب الله ; قاله ابن عباس .
فنجي من نشاء قيل : الأنبياء ومن آمن معهم . وروي عن عاصم فنجي من نشاء بنون واحدة مفتوحة الياء ، و " من " في موضع رفع ، اسم ما لم يسم فاعله ; واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنها في مصحف عثمان ، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة . وقرأ ابن محيصن " فنجا " فعل ماض ، و " من " في موضع رفع لأنه الفاعل ، وعلى قراءة الباقين نصبا على المفعول .
ولا يرد بأسنا أي عذابنا .
عن القوم المجرمين أي الكافرين المشركين . ❝
❞ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
قوله تعالى : قال إنما أشكو بثي حقيقة البث في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيأ له أن يخفيها ; وهو من بثثته أي فرقته ، فسميت المصيبة بثا مجازا ، قال ذو الرمة :
وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه
وقال ابن عباس : بثي همي . الحسن : حاجتي . وقيل : أشد الحزن ، وحقيقة ما ذكرناه .
وحزني إلى الله معطوف عليه ، أعاده بغير لفظه .
وأعلم من الله ما لا تعلمون أي أعلم أن رؤيا يوسف صادقة ، وأني سأسجد له . قاله ابن عباس . إني أعلم من إحسان الله تعالى إلي ما يوجب حسن ظني به . وقيل : قال يعقوب لملك الموت هل قبضت روح يوسف ؟ قال : لا ، فأكد هذا رجاءه . وقال السدي : أعلم أن يوسف حي ، وذلك أنه لما أخبره ولده بسيرة الملك وعدله وخلقه وقوله أحست نفس يعقوب أنه ولده فطمع ، وقال : لعله يوسف . وقال : لا يكون في الأرض صديق إلا نبئ . وقيل : أعلم من إجابة دعاء المضطرين ما لا تعلمون . ❝
❞ فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
قوله تعالى : فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه لما عرف بنيامين أنه يوسف قال له : لا تردني إليهم ، فقال : قد علمت اغتمام يعقوب بي فيزداد غمه ، فأبى بنيامين الخروج ; فقال يوسف : لا يمكن حبسك إلا بعد أن أنسبك إلى ما لا يجمل بك : فقال : لا أبالي ! فدس الصاع في رحله ; إما بنفسه من حيث لم يطلع عليه أحد ، أو أمر بعض خواصه بذلك . والتجهيز التسريح وتنجيز الأمر ; ومنه جهز على الجريح أي قتله ، ونجز أمره . والسقاية والصواع شيء واحد ; إناء له رأسان في وسطه مقبض ، كان الملك يشرب منه من الرأس الواحد ، ويكال الطعام بالرأس الآخر ; قاله النقاش عن ابن عباس ، وكل شيء يشرب به فهو صواع ; وأنشد :
نشرب الخمر بالصواع جهارا
واختلف في جنسه ; فروى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان صواع الملك شيئا من فضة يشبه المكوك ، من فضة مرصعا بالجوهر ، يجعل على الرأس ; وكان للعباس واحد في الجاهلية ، وسأل نافع بن الأزرق ما الصواع ؟ قال : الإناء ; قال فيه الأعشى :
له درمك في رأسه ومشارب وقدر وطباخ وصاع وديسق
وقال عكرمة : كان من فضة . وقال عبد الرحمن بن زيد : كان من ذهب ; وبه كال طعامهم مبالغة في إكرامهم . وقيل : إنما كان يكال به لعزة الطعام . والصاع يذكر ويؤنث ; فمن أنثه قال : أصوع ; مثل أدور ، ومن ذكره قال أصواع ; مثل أثواب . وقال مجاهد وأبو صالح : الصاع الطرجهالة بلغة حمير . وفيه قراءات : ˝ صواع ˝ قراءة العامة ; و ˝ صوغ ˝ بالغين المعجمة ، وهي قراءة يحيى بن يعمر ; قال : وكان إناء أصيغ من ذهب . ˝ وصوع ˝ بالعين غير المعجمة قراءة أبي رجا . ˝ وصوع ˝ بصاد مضمومة وواو ساكنة وعين غير معجمة قراءة أبي . ˝ وصياع ˝ بياء بين الصاد والألف ; قراءة سعيد بن جبير . ˝ وصاع ˝ بألف بين الصاد والعين ; وهي قراءة أبي هريرة .
قوله تعالى : ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون أي نادى مناد وأعلم . وأذن للتكثير ; فكأنه نادى مرارا أيتها العير . والعير ما امتير عليه من الحمير والإبل والبغال . قال مجاهد : كان عيرهم حميرا . قال أبو عبيدة : العير الإبل المرحولة المركوبة ; والمعنى : يا أصحاب العير ، كقوله : واسأل القرية ويا خيل الله اركبي : أي يا أصحاب خيل الله ، وسيأتي . وهنا اعتراضان : الأول : إن قيل : كيف رضي بنيامين بالقعود طوعا وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن ، ووافقه على ذلك يوسف ؟ وكيف نسب يوسف السرقة إلى إخوته وهم براء وهو - الثاني - فالجواب عن الأول : أن الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثر فيه فقد بنيامين كل التأثير ، أولا تراه لما فقده قال : يا أسفى على يوسف ولم يعرج على بنيامين ; ولعل يوسف إنما وافقه على القعود بوحي ; فلا اعتراض . وأما نسبة يوسف السرقة إلى إخوته فالجواب : أن القوم كانوا قد سرقوه من أبيه فألقوه في الجب ، ثم باعوه ; فاستحقوا هذا الاسم بذلك الفعل ، فصدق إطلاق ذلك عليهم . جواب آخر - وهو أنه أراد أيتها العير حالكم حال السراق ; والمعنى : إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه . جواب آخر - وهو أن ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه ، وفصله عنهم إليه ، وهذا بناء على أن بنيامين لم يعلم بدس الصاع في رحله ، ولا أخبره بنفسه . وقد قيل : إن معنى الكلام الاستفهام ; أي أوإنكم لسارقون ؟ كقوله : وتلك نعمة أي أوتلك نعمة تمنها علي ؟ والغرض ألا يعزى إلى يوسف - صلى الله عليه وسلم - الكذب . ❝
❞ فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
قوله تعالى : فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن قيل : قال لها ذلك العزيز عند قولها : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا . وقيل : قاله لها الشاهد . والكيد : المكر والحيلة ، وقد تقدم في [ الأنفال ]
إن كيدكن عظيم وإنما قال عظيم لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن . وقال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا وقال : إن كيدكن عظيم . ❝
❞ ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
قوله تعالى : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون
قوله تعالى : ذلك من أنباء الغيب ابتداء وخبر . نوحيه إليك خبر ثان . قال الزجاج : ويجوز أن يكون " ذلك " بمعنى الذي ، " نوحيه إليك " خبره ; أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك ; يعني هو الذي قصصنا عليك يا محمد من أمر يوسف من أخبار الغيب نوحيه إليك أي نعلمك بوحي هذا إليك .
وما كنت لديهم أي مع إخوة يوسف
إذ أجمعوا أمرهم في إلقاء يوسف في الجب .
وهم يمكرون أي بيوسف في إلقائه في الجب . وقيل : يمكرون بيعقوب حين جاءوه بالقميص ملطخا بالدم ; أي ما شاهدت تلك الأحوال ، ولكن الله أطلعك عليها . ❝
❞ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33)
قوله تعالى : قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين
قوله تعالى : قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه أي دخول السجن ، فحذف المضاف ; قاله الزجاج والنحاس . ˝ أحب إلي ˝ أي أسهل علي وأهون من الوقوع في المعصية ; لا أن دخول السجن مما يحب على التحقيق . وحكي أن يوسف - عليه السلام - لما قال : السجن أحب إلي أوحى الله إليه ˝ يا يوسف ! أنت حبست نفسك حيث قلت السجن أحب إلي ، ولو قلت العافية أحب إلي لعوفيت ˝ . وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قرأ : ˝ السجن ˝ بفتح السين وحكي أن ذلك قراءة ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن الأعرج ويعقوب ; وهو مصدر سجنه سجنا .
وإلا تصرف عني كيدهن أي كيد النسوان . وقيل : كيد النسوة اللاتي رأينه ؟ فإنهن أمرنه بمطاوعة امرأة العزيز ، وقلن له : هي مظلومة وقد ظلمتها . وقيل : طلبت كل واحدة أن تخلو به للنصيحة في امرأة العزيز ; والقصد بذلك أن تعذله في حقها ، وتأمره بمساعدتها ، فلعله يجيب ; فصارت كل واحدة تخلو به على حدة فتقول له : يا يوسف ! اقض لي حاجتي فأنا خير لك من سيدتك ; تدعوه كل واحدة لنفسها وتراوده ; فقال : يا رب كانت واحدة فصرن جماعة . وقيل : كيد امرأة العزيز فيما دعته إليه من الفاحشة ; وكنى عنها بخطاب الجمع إما لتعظيم شأنها في الخطاب ، وإما ليعدل عن التصريح إلى التعريض . والكيد الاحتيال والاجتهاد ; ولهذا سميت الحرب كيدا لاحتيال الناس فيها ; قال عمر بن لجأ :
تراءت كي تكيدك أم بشر وكيد بالتبرج ما تكيد
أصب إليهن جواب الشرط ، أي أمل إليهن ، من صبا يصبو - إذا مال واشتاق - صبوا وصبوة ; قال :
إلى هند صبا قلبي وهند مثلها يصبي
أي إن لم تلطف بي في اجتناب المعصية وقعت فيها .
وأكن من الجاهلين أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم ، أو ممن يعمل عمل الجهال ; ودل هذا على أن أحدا لا يمتنع عن معصية الله إلا بعون الله ; ودل أيضا على قبح الجهل والذم لصاحبه . ❝
❞ تعرض سيدنا يوسف لظلم من إخوته حتي يقربوا أباهم منهم لأن الشيطان أوهمهم أنه بعيد عنهم ولكن كان لذالك القصة حكمة من الله وهو نشر الدين في بلاد مصر حتى تحقق أمر الله بفضله وإرادته . ❝
❞ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10)
قوله تعالى : قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين فيه ثلاث عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف القائل هو يهوذا ، وهو أكبر ولد يعقوب ; قاله ابن عباس . وقيل : روبيل ، وهو ابن خالته ، وهو الذي قال : ˝ فلن أبرح الأرض ˝ الآية . وقيل : شمعون .
وألقوه في غيابة الجب قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة في غيابة الجب . وقرأ أهل المدينة ˝ في غيابات الجب ˝ واختار أبو عبيد التوحيد ; لأنه على موضع واحد ألقوه فيه ، وأنكر الجمع لهذا . قال النحاس : وهذا تضييق في اللغة ; ˝ وغيابات ˝ على الجمع يجوز من وجهين : حكى سيبويه سير عليه عشيانات وأصيلانات ، يريد عشية وأصيلا ، فجعل كل وقت منها عشية وأصيلا ; فكذا جعل كل موضع مما يغيب غيابة . والآخر - أن يكون في الجب غيابات ( جماعة ) . ويقال : غاب يغيب غيبا وغيابة وغيابا ; كما قال الشاعر :
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث أنا ذاكما قد غيبتني غيابيا
قال الهروي : والغيابة شبه لجف أو طاق في البئر فويق الماء ، يغيب الشيء عن العين . وقال ابن عزيز : كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة . قلت : ومنه قيل للقبر غيابة ; قال الشاعر :
فإن أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
والجب الركية التي لم تطو ، فإذا طويت فهي في بئر ; فقال الأعشى :
لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
وسميت جبا لأنها قطعت في الأرض قطعا ; وجمع الجب جببة وجباب وأجباب ; وجمع بين الغيابة والجب لأنه أراد ألقوه في موضع مظلم من الجب حتى لا يلحقه نظر الناظرين . قيل : هو بئر بيت المقدس ، وقيل : هو بالأردن ; قاله وهب بن منبه . مقاتل : وهو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب .
الثانية : قوله تعالى : يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين جزم على جواب الأمر . وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن وقتادة : ˝ تلتقطه ˝ بالتاء ، وهذا محمول على المعنى ; لأن بعض السيارة سيارة ; وقال سيبويه : سقطت بعض أصابعه ، وأنشد :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وقال آخر :
أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال
ولم يقل شرق ولا أخذت . والسيارة الجمع الذي يسيرون في الطريق للسفر ; وإنما قال القائل هذا حتى لا يحتاجوا إلى حمله إلى موضع بعيد ويحصل المقصود ; فإن من التقطه من السيارة يحمله إلى موضع بعيد ; وكان هذا وجها في التدبير حتى لا يحتاجوا إلى الحركة بأنفسهم ، فربما لا يأذن لهم أبوهم ، وربما يطلع على قصدهم .
الثالثة : وفي هذا ما يدل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء لا أولا ولا آخرا ; لأن الأنبياء لا يدبرون في قتل مسلم ، بل كانوا مسلمين ، فارتكبوا معصية ثم تابوا . وقيل : كانوا أنبياء ، ولا يستحيل في العقل زلة نبي ، فكانت هذه زلة منهم ; وهذا يرده أن الأنبياء معصومون من الكبائر على ما قدمناه . وقيل : ما كانوا في ذلك الوقت أنبياء ثم نبأهم الله ; وهذا أشبه ، والله أعلم .
الرابعة : قال ابن وهب قال مالك : طرح يوسف في الجب وهو غلام ، وكذلك روى ابن القاسم عنه ، يعني أنه كان صغيرا ; والدليل عليه قوله تعالى : لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة قال : ولا يلتقط إلا الصغير ; وقوله : وأخاف أن يأكله الذئب وذلك أمر يختص بالصغار ; وقولهم : أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون .
الخامسة : الالتقاط تناول الشيء من الطريق ; ومنه اللقيط واللقطة ، ونحن نذكر من أحكامها ما دلت عليه الآية والسنة ، وما قال في ذلك أهل العلم واللغة ; قال ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب ، ومنه قوله تعالى : يلتقطه بعض السيارة أي يجده من غير أن يحتسبه . وقد اختلف العلماء في اللقيط ; فقيل : أصله الحرية لغلبة الأحرار على العبيد ; وروي عن الحسن بن علي أنه قضى بأن اللقيط حر ، وتلا وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وإلى هذا ذهب أشهب صاحب مالك ; وهو قول عمر بن الخطاب ، وكذلك روي عن علي وجماعة . وقال إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك ، وإن نوى الحسبة فهو حر . وقال مالك في موطئه : الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر ، وأن ولاءه لجماعة المسلمين ، هم يرثونه ويعقلون عنه ، وبه قال الشافعي ; واحتج بقوله - عليه السلام - : وإنما الولاء لمن أعتق قال : فنفى الولاء عن غير المعتق . واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن اللقيط لا يوالي أحدا ، ولا يرثه أحد بالولاء . وقال أبو حنيفة وأصحابه وأكثر الكوفيين : اللقيط يوالي من شاء ، فمن والاه فهو يرثه ويعقل عنه ; وعند أبي حنيفة له أن ينتقل بولائه حيث شاء ، ما لم يعقل عنه الذي والاه ، فإن عقل عنه جناية لم يكن له أن ينتقل عنه بولائه أبدا . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن علي - رضي الله عنه - : المنبوذ حر ، فإن أحب أن يوالي الذي التقطه والاه ، وإن أحب أن يوالي غيره والاه ; ونحوه عن عطاء ، وهو قول ابن شهاب وطائفة من أهل المدينة ، وهو حر . قال ابن العربي : إنما كان أصل اللقيط الحرية لغلبة الأحرار على العبيد ، فقضى بالغالب ، كما حكم أنه مسلم أخذا بالغالب ; فإن كان في قرية فيها نصارى ومسلمون ، قال ابن القاسم : يحكم بالأغلب ; فإن وجد عليه زي اليهود فهو يهودي ، وإن وجد عليه زي النصارى فهو نصراني ، وإلا فهو مسلم ، إلا أن يكون أكثر أهل القرية على غير الإسلام . وقال غيره : لو لم يكن فيها إلا مسلم واحد قضي للقيط بالإسلام تغليبا لحكم الإسلام الذي يعلو ولا يعلى عليه ، وهو مقتضى قولأشهب ; قال أشهب : هو مسلم أبدا ، لأني أجعله مسلما على كل حال ، كما أجعله حرا على كل حال . واختلف الفقهاء في المنبوذ تدل البينة على أنه عبد ; فقالت طائفة من أهل المدينة : لا يقبل قولها في ذلك ، وإلى هذا ذهب أشهب لقول عمر : هو حر ; ومن قضي بحريته لم تقبل البينة في أنه عبد . وقال ابن القاسم : تقبل البينة في ذلك وهو قول الشافعي والكوفي .
السادسة : قال مالك في اللقيط : إذا أنفق عليه الملتقط ثم أقام رجل البينة أنه ابنه فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا ، وإن لم يكن طرحه ولكنه ضل منه فلا شيء على الأب ، والملتقط متطوع بالنفقة . وقال أبو حنيفة : إذا أنفق على اللقيط فهو متطوع ، إلا أن يأمره الحاكم . وقال الأوزاعي : كل من أنفق على من لا تجب عليه نفقة رجع بما أنفق . وقال الشافعي : إن لم يكن للقيط مال وجبت نفقته في بيت المال ، فإن لم يكن ففيه قولان : أحدهما - يستقرض له في ذمته . والثاني - يقسط على المسلمين من غير عوض .
السابعة : وأما اللقطة والضوال فقد اختلف العلماء في حكمهما ; فقالت طائفة من أهل العلم : اللقطة والضوال سواء في المعنى ، والحكم فيهما سواء ; وإلى هذا ذهب أبو جعفر الطحاوي ، وأنكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام - أن الضالة لا تكون إلا في الحيوان واللقطة في غير الحيوان - وقال هذا غلط ; واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الإفك للمسلمين : إن أمكم ضلت قلادتها فأطلق ذلك على القلادة .
الثامنة : أجمع العلماء على أن اللقطة ما لم تكن تافها يسيرا أو شيئا لا بقاء لها فإنها تعرف حولا كاملا ، وأجمعوا أن صاحبها إن جاء فهو أحق بها من ملتقطها إذا ثبت له أنه صاحبها ، وأجمعوا أن ملتقطها إن أكلها بعد الحول وأراد صاحبها أن يضمنه فإن ذلك له ، وإن تصدق بها فصاحبها مخير بين التضمين وبين أن ينزل على أجرها ، فأي ذلك تخير كان ذلك له بإجماع ; ولا تنطلق يد ملتقطها عليها بصدقة ، ولا تصرف قبل الحول . وأجمعوا أن ضالة الغنم المخوف عليها له أكلها .
التاسعة : واختلف الفقهاء في الأفضل من تركها أو أخذها ; فمن ذلك أن في الحديث دليلا على إباحة التقاط اللقطة وأخذ الضالة ما لم تكن إبلا . وقال في الشاة : ( لك أو لأخيك أو للذئب ) يحضه على أخذها ، ولم يقل في شيء دعوه حتى يضيع أو يأتيه ربه . ولو كان ترك اللقطة أفضل لأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال في ضالة الإبل ، والله أعلم . وجملة مذهب أصحاب مالك أنه في سعة ، إن شاء أخذها وإن شاء تركها ; هذا قول إسماعيل بن إسحاق - رحمه الله - . وقال المزني عن الشافعي : لا أحب لأحد ترك اللقطة إن وجدها إذا كان أمينا عليها ; قال : وسواء قليل اللقطة وكثيرها .
العاشرة : روى الأئمة مالك وغيره عن زيد بن خالد الجهني قال : جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن اللقطة فقال : اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها قال : فضالة الغنم يا رسول الله ؟ قال : لك أو لأخيك أو للذئب قال : فضالة الإبل ؟ قال : ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها . وفي حديث أبي قال : احفظ عددها ووعاءها ووكاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها ففي هذا الحديث زيادة العدد ; خرجه مسلم وغيره . وأجمع العلماء أن عفاص اللقطة ووكاءها من إحدى علاماتها وأدلها عليها ; فإذا أتى صاحب اللقطة بجميع أوصافها دفعت له ; قال ابن القاسم : يجبر على دفعها ; فإن جاء مستحق يستحقها ببينة أنها كانت له لم يضمن الملتقط شيئا ، وهل يحلف مع الأوصاف أو لا ؟ قولان : الأول لأشهب ، والثاني لابن القاسم ، ولا تلزمه بينة عند مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وغيرهم . وقال أبو حنيفة والشافعي : لا تدفع له إلا إذا أقام بينة أنها له ; وهو بخلاف نص الحديث ; ولو كانت البينة شرطا في الدفع لما كان لذكر العفاص والوكاء والعدد معنى ; فإنه يستحقها بالبينة على كل حال ; ولما جاز سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فإنه تأخير البيان عن وقت الحاجة . والله أعلم .
الحادية عشرة : نص الحديث على الإبل والغنم وبين حكمهما ، وسكت عما عداهما من الحيوان . وقد اختلف علماؤنا في البقر هل تلحق بالإبل أو بالغنم ؟ قولان ; وكذلك اختلف أئمتنا في التقاط الخيل والبغال والحمير ، وظاهر قول ابن القاسم أنها تلتقط ، وقال أشهب وابن كنانة : لا تلتقط ; وقول ابن القاسم أصح ; لقوله - عليه السلام - : احفظ على أخيك المؤمن ضالته .
الثانية عشرة : واختلف العلماء في النفقة على الضوال ; فقال مالك فيما ذكر عنه ابن القاسم : إن أنفق الملتقط على الدواب والإبل وغيرها فله أن يرجع على صاحبها بالنفقة ، وسواء أنفق عليها بأمر السلطان أو بغير أمره ; قال : وله أن يحبس بالنفقة ما أنفق عليه ويكون أحق به كالرهن . وقال الشافعي : إذا أنفق على الضوال من أخذها فهو متطوع ; حكاه عنه الربيع . وقال المزني عنه : إذا أمره الحاكم بالنفقة كانت دينا ، وما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدا . وقال أبو حنيفة : إذا أنفق على اللقطة والإبل بغير أمر القاضي فهو متطوع ، وإن أنفق بأمر القاضي فذلك دين على صاحبها إذا جاء ، وله أن يحبسها إذا حضر صاحبها ، والنفقة عليها ثلاثة أيام ونحوها ، حتى يأمر القاضي ببيع الشاة وما أشبهها ويقضي بالنفقة .
الثالثة عشرة : ليس في قوله - صلى الله عليه وسلم - في اللقطة بعد التعريف : فاستمتع بها أو فشأنك بها أو فهي لك أو فاستنفقها أو ثم كلها أو فهو مال الله يؤتيه من يشاء على ما في صحيح مسلم وغيره ، ما يدل على التمليك ، وسقوط الضمان عن الملتقط إذا جاء ربها ; فإن في حديث زيد بن خالد الجهني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء صاحبها يوما من الدهر فأدها إليه في رواية ثم كلها ، فإن جاء صاحبها فأدها إليه . خرجه البخاري ومسلم . وأجمع العلماء على أن صاحبها متى جاء فهو أحق بها ، إلا ما ذهب إليه داود من أن الملتقط يملك اللقطة بعد التعريف ; لتلك الظواهر ، ولا التفات لقوله ; لمخالفة الناس ، ولقوله - عليه السلام - : فأدها إليه . ❝
❞ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ۖ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ۖ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
قوله تعالى : فلما استيأسوا منه أي يئسوا ; مثل عجب واستعجب ، وسخر واستسخر . ˝ خلصوا ˝ أي انفردوا وليس هو معهم . ˝ نجيا ˝ نصب على الحال من المضمر في خلصوا وهو واحد يؤدي عن جمع ، كما في هذه الآية ; ويقع على الواحد كقوله تعالى : وقربناه نجيا وجمعه أنجية ; قال الشاعر :
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه واضطرب القوم اضطراب الأرشيه
هناك أوصيني ولا توصي بيه
وقرأ ابن كثير : ˝ استايسوا ˝ ˝ ولا تايسوا ˝ ˝ إنه لا يايس ˝ ˝ أفلم يايس ˝ بألف من غير همز على القلب ; قدمت الهمزة وأخرت الياء ، ثم قلبت الهمزة ألفا لأنها ساكنة قبلها فتحة ; والأصل قراءة الجماعة ; لأن المصدر ما جاء إلا على تقديم الياء - يأسا - والإياس ليس بمصدر أيس ; بل هو مصدر أسته أوسا وإياسا أي أعطيته . وقال قوم : أيس ويئس لغتان ; أي فلما يئسوا من رد أخيهم إليهم تشاوروا فيما بينهم لا يخالطهم غيرهم من الناس ، يتناجون فيما عرض لهم . والنجي فعيل بمعنى المناجي .
قوله تعالى : قال كبيرهم قال قتادة : وهو روبيل ، كان أكبرهم في السن . مجاهد : هو شمعون ، كان أكبرهم في الرأي . وقال الكلبي : يهوذا ; وكان أعقلهم . وقال محمد بن كعب وابن إسحاق : هو لاوي ، وهو أبو الأنبياء .
ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله أي عهدا من الله في حفظ ابنه ، ورده إليه .
ومن قبل ما فرطتم في يوسف ˝ ما ˝ في محل نصب عطفا على أن والمعنى : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ، وتعلموا تفريطكم في يوسف ; ذكره النحاس وغيره . و ˝ من ˝ في قوله : ˝ ومن قبل ˝ متعلقة ب ˝ تعلموا ˝ . ويجوز أن تكون ما زائدة ; فيتعلق الظرفان اللذان هما ˝ من قبل ˝ و ˝ في يوسف ˝ بالفعل وهو ˝ فرطتم ˝ . ويجوز أن تكون ما والفعل مصدرا ، و ˝ من قبل ˝ متعلقا بفعل مضمر ; التقدير : تفريطكم في يوسف واقع من قبل ; فما والفعل في موضع رفع بالابتداء ، والخبر هو الفعل المضمر الذي يتعلق به ˝ من قبل ˝ .
فلن أبرح الأرض أي ألزمها ، ولا أبرح مقيما فيها ; يقال : برح براحا وبروحا أي زال ، فإذا دخل النفي صار مثبتا .
حتى يأذن لي أبي بالرجوع فإني أستحي منه .
أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين بالممر مع أخي فأمضي معه إلى أبي . وقيل : المعنى أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب وآخذ أخي ، أو أعجز فأنصرف بعذر ، وذلك أن يعقوب قال : لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ومن حارب وعجز فقد أحيط به ; وقال ابن عباس : وكان يهوذا إذا غضب وأخذ السيف فلا يرد وجهه مائة ألف ; يقوم شعره في صدره مثل المسال فتنفذ من ثيابه . وجاء في الخبر أن يهوذا قال لإخوته - وكان أشدهم غضبا - : إما أن تكفوني الملك ومن معه أكفكم أهل مصر ; وإما أن تكفوني أهل مصر أكفكم الملك ومن معه ; قالوا : بل اكفنا الملك ومن معه نكفك أهل مصر ، فبعث واحدا من إخوته فعدوا أسواق مصر فوجدوا فيها تسعة أسواق ، فأخذ كل واحد منهم سوقا ; ثم إن يهوذا دخل على يوسف وقال : أيها الملك ! لئن لم تخل معنا أخانا لأصيحن صيحة لا تبقي في مدينتك حاملا إلا أسقطت ما في بطنها ; وكان ذلك خاصة فيهم عند الغضب ، فأغضبه يوسف وأسمعه كلمة ، فغضب يهوذا واشتد غضبه ، وانتفجت شعراته ; وكذا كان كل واحد من بني يعقوب ; كان إذا غضب ، اقشعر جلده ، وانتفخ جسده ، وظهرت شعرات ظهره ، من تحت الثوب ، حتى تقطر من كل شعرة قطرة دم ; وإذا ضرب الأرض برجله تزلزلت وتهدم البنيان ، وإن صاح صيحة لم تسمعه حامل من النساء والبهائم والطير إلا وضعت ما في بطنها ، تماما أو غير تمام ; فلا يهدأ غضبه إلا أن يسفك دما ، أو تمسكه يد من نسل يعقوب ; فلما علم يوسف أن غضب أخيه يهوذا قد تم وكمل كلم ولدا له صغيرا بالقبطية ، وأمره أن يضع يده بين كتفي يهوذا من حيث لا يراه ; ففعل فسكن غضبه وألقى السيف فالتفت يمينا وشمالا لعله يرى أحدا من إخوته فلم يره ; فخرج مسرعا إلى إخوته وقال : هل حضرني منكم أحد ؟ قالوا : لا ! قال : فأين ذهب شمعون ؟ قالوا : ذهب إلى الجبل ; فخرج فلقيه ، وقد احتمل صخرة عظيمة ; قال : ما تصنع بهذه ؟ قال أذهب إلى السوق الذي وقع في نصيبي أشدخ بها رءوس كل من فيه ; قال : فارجع فردها أو ألقها في البحر ، ولا تحدثن حدثا ; فوالذي اتخذ إبراهيم خليلا ! لقد مسني كف من نسل يعقوب . ثم دخلوا على يوسف ، وكان يوسف أشدهم بطشا ، فقال : يا معشر العبرانيين ! أتظنون أنه ليس أحد أشد منكم قوة ، ثم عمد إلى حجر عظيم من حجارة الطاحونة فركله برجله فدحا به من خلف الجدار - الركل الضرب بالرجل الواحدة ; وقد ركله يركله ; قال الجوهري - ثم أمسك يهوذا بإحدى يديه فصرعه لجنبه ، وقال : هات الحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم وأضرب أعناقهم ، ثم صعد على سريره وجلس على فراشه ، وأمر بصواعه فوضع بين يديه ، ثم نقره نقرة فخرج طنينه ، فالتفت إليهم وقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ! قال : فإنه يقول : إنه ليس على قلب أبي هؤلاء هم ولا غم ولا كرب إلا بسببهم ، ثم نقر نقرة ثانية وقال : إنه يخبرني أن هؤلاء أخذوا أخا لهم صغيرا فحسدوه ونزعوه من أبيهم ثم أتلفوه ; فقالوا : أيها العزيز ! استر علينا ستر الله عليك ، وامنن علينا من الله عليك ; فنقره نقرة ثالثة وقال إنه يقول : إن هؤلاء طرحوا صغيرهم في الجب ، ثم باعوه بيع العبيد بثمن بخس ، وزعموا لأبيهم أن الذئب أكله ; ثم نقره رابعة وقال : إنه يخبرني أنكم أذنبتم ذنبا منذ ثمانين سنة لم تستغفروا الله منه ; ولم تتوبوا إليه ، ثم نقره خامسة وقال إنه يقول : إن أخاهم الذي زعموا أنه هلك لن تذهب الأيام حتى يرجع فيخبر الناس بما صنعوا ; ثم نقره سادسة وقال إنه يقول : لو كنتم أنبياء أو بني أنبياء ما كذبتم ولا عققتم والدكم ; لأجعلنكم نكالا للعالمين . ايتوني بالحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم ، فتضرعوا وبكوا وأظهروا التوبة وقالوا : لو قد أصبنا أخانا يوسف إذ هو حي لنكونن طوع يده ، وترابا يطأ علينا برجله ; فلما رأى ذلك يوسف من إخوته بكى وقال لهم : اخرجوا عني ! قد خليت سبيلكم إكراما لأبيكم ، ولولا هو لجعلتكم نكالا . ❝