█ _ عثمان مكاوي 2023 حصريا قصة ❞ 19 يناير ❝ عن دار بدائل للنشر والتوزيع 2024 يناير: لا تدور المجموعة القصصية فلك واحد أو خط فهي تتضمن قصصا رومانسية اجتماعية نفسية سياسية فانتازيا تراجيدي كوميدي تتكون من اثنين عشرين أصغرها "البسطة" أكبرها " الشيخ الجني" و يتعدد الأبطال ما بين الشاب المكافح أجل لقمة العيش الرومانسي الذي يبحث حبه الضائع كلما تعرف فتاة وجدها تشبه احدى الفنانات أيضا القاتل محبوبته دفاعه نفسه ذكريات البيت الكبير القرية يتغلب الجني تلبس جسد جميلة دميانة التي تغادر بيت عائلتها خالتها تعدي زوج عليها قتلها ثم إلقائها مياه النيل العرافة تقرأ الودع تتحقق أمنية الوالدين بإنجاب طفل موته لأن والده لم ينفذ وصية العرافة روايات ذات طابع دينى مجاناً PDF اونلاين محترمة
❞ قالت وهي تختلس النظر لأصابع يدي:
˝اعتن بنفسك، وبلّغ سلامي لشقيقك وشقيقتك وكل أحبائنا˝
بكيتُ، شهقتُ، وصِحتُ:
˝لا، لا تتركيني وحيدًا، خذيني معك˝
راحت تضمني في حنان، وفجأة بينما تضمني ينبُت لها جناحان، ويُزهر وجهها، فيضيء المكان وينشق سقف الشقة، وراحت تُحلّق لأعلى.
ازداد نحيبي وأنا أسألها:
˝أين ستذهبين وتتركيني؟˝
فأشارت بيدها نحو السماء..
مكثتُ أبكي بينما تلوّح لي بيدها مودعة ومشفقة عليّ،
رجوتها أن تعودني مرات كثير، فأومأت وقالت:
˝كل يوم 19 يناير˝ . ❝
❞ منذ قليل أعلنوا في المساجد عن موت علي وزة، الذي يسكن بالقرب منا، وأن تشييع جنازته بعد صلاة العصر.
لم يكن من السكان القدامى في الحي، لا أحد يعرف أصله من فصله، إنما هبط الرجل علينا ذات يوم، منذ عشرة أعوام، وراح ينشد مواويلاً حزينة، كانت النسوة يذرفن الدموع كلما سمعنه ينشد عن البلاء والمرض ووحشة الدنيا وافتقاد الأحباب وعقوق الأبناء . ❝
❞ اقتربتُ من الباب مرة أخرى والتصقت به، فلم أسمع شيئًا وبينما أُدخل المفتاح في ثقب الباب، تناهى إلى سمعي صوت يأتي كما خمّنتُ من غرفة أمي، الصوت يتطابق تمامًا مع صوتها.
حال تشويش تملكتني، ولا يمكن أن أغادر المكان، ماذا ساُخبر أي جارٍ لي إذا سألني عن سبب نزولي المفاجئ مرة أخرى؟ استجمعتُ شجاعتي بعدما كادت تَفرُّ مني، وحرّكتُ المفتاح داخل الثقب، وفتحت الباب، فوجدتُ غرفة أمي منيرة وبابها مواربًا، توجهتُ إليها في حذر، نَظَرَت لي مبتهجة، وضمّت أطراف بنانها في إشارة لي كي أصبر حتى تُتم مكالمتها الهاتفية.
في تلك اللحظة بدوت كما لو أصابني فقدان الذاكرة، فلم يخطر على بالي مطلقًا أنها ماتت وتركتني، وهُيئ لي أن الزمن قد توقف عند 18 يناير، ولم تتتابع الأيام والشهور بعده لمدة عامين . ❝
❞ في الشتاء، الهدوء يلفُّ المقهى بعباءة الصمت، ولا تسمع في هدأة الليل إلا خربشة الحشرات، ولا يخرق السكون غير أبواق القطارات جيئةً وذهابًا، تنعق كما تنعق البوم.
يتكئ عم مطاوع على حافات المقاعد ليصل إلى مكان الراديو؛ ليديره فموعد الست قد أوشك. تغني لنا السيدة أم كلثوم أغنية ˝هو صحيح الهوى غلاب˝ من كلمات الشاعر بيرم التونسي وألحان الأستاذ محمد القصبجي، هكذا أعلن مذيع الحفل.
من أجمل أغاني كوكب الشرق التي سمعتُها وطربت لها، كلما سمعتُها أثارت فيَّ الاشتياق، وذكرى الماضي، ولوعة الحب . ❝
❞ عم مطاوع يكاد ينكفئ وهو يقدم المشروبات للزبائن، مما يجعلهم يهبون فزعًا حتى يُعينوه قبل أن يهوي على الأرض.
بالقرب من مدخل المقهى يوجد مذياع محفوظ داخل صندوق خشبي موضوع على لوح خشبي مُثبَّت على الحائط، لا يُشغِّله عم مطاوع إلا عندما يحين موعد إذاعة حفل أم كلثوم؛ يعشقها بجنون، أكثر الأوقات استمتاعًا بالسِّت عندما يخلو المقهى من بعض الغرباء الذين يجلسون فيه انتظارًا لوصول القطار أو إقلاعه، عندما يُودِّعون قريبًا أو صديقًا لهم، فيختلي بي عم مطاوع، ليحكي بصوتٍ خافت بعض الجرائم التي حدثت في الماضي البعيد، أصغيتُ له جيدًا عندما حدثني، في هدأة الليل، عن جريمة قتلٍ قد وقعت في الماضي بالقرب من المقهى، وأنَّ مَن قاموا بها ظلوا بضعة أيام يترددون على المقهى ليترصدوا القتيل، قصَّ عليَّ أنه كلما اقترب منهم , و هو يحمل صينية الشاي، كفُّوا عن الحديث بعد أن يُشير أحدُهم بيده أن يصمتوا، وحين يبتعد عنهم تُعاوِد وجوهُهم الاقتراب مرة أخرى كضباعٍ تفترس مِيتة، وفي اليوم الموعود رأى واحدًا منهم وهو يُخرج فَرْدًا روسيًّا، ويطلق مقذوفًا ناريًّا في رأس القتيل، فيفلقها فلقتين، فتتناثر قِطع صغيرة من لحمه تسيل منها الدماء، ويهرب إلى داخل محطة القطار، ويجري بين قضبانها، وبينما ينظر إلى الخلف خوفًا من الإيقاع به، فجأة ظهر قطار بضاعة ألجمه، ظل متجمدًا في مكانه كالمصلوب، فدهسه على الفور ، يمضغ عم مطاوع ريقه ثُمَّ يكمل، إن التحريات كشفت أن القتيل من مدينة فرشوط، وقد لجأ إلى مدينتنا بعد أن قتل ابن عمه بسبب استلاب الأخير منه عشرة أسهم من أرضه، فضربه بالفأس، فشجَّ رأسه نصفين كالبطيخة، وقد حُكم عليه غيابيًّا بالأشغال الشاقة المؤبدة، وهو في مدينتنا منذ خمسة عشر عامًا. بعدما صمت برهة، تنهد وضرب كفيه أخماسًا في أسداس وقال: ˝يا ولدي، من قتل يُقتَل ولو بعد حين˝ . ❝
❞ اعتدتُ الجلوس في ˝مقهى الشرق˝، مقهى قديم يقع في شارع الجلاء بوسط المدينة، وذلك كلما داهمتني الأحزان، أشعر بأُلفة في الأماكن القديمة، أتشمَّم عَبقَ تاريخها، ألتمسُ الطمأنينة فيها، أستعيد الماضي، وهذا حال كثير من الناس، كلما تملَّكهم الإحباط من الحاضر يستحضرون عبق الماضي عبر الأماكن العتيقة.
المقهى عمره تجاوز الخمسين عامًا، يبدو ذلك من جدرانه المُشبعة بالرطوبة، وبعض قطع الجير المنهارة من السقف المرتفع أربعة أمتار وربما خمسة، تتوسطه مروحة تُصدِر هديرًا مزعجًا، لا يزال صاحب المقهى يستخدم المقاعد المصنوعة معظمها من الخوص والغاب، والتي كادت تبلى، أصرَّ على بقائه كما كان في الماضي، مُعلَّقٌ على أحد جدرانه بروازٌ بداخله منقوشة المعوذتان، ورفٌّ خشبي عليه أنواع المشروبات الساخنة، وبجانب الحائط المقابل مرصوصة على الأرض أنواع من الجوزة المختلفة، متلألئة كفتيات يعرضن أجسادهن خلف فاترينات، مساحة المقهى كبيرة تقريبًا، ثلاثة أمتار عرضها في عشرة أمتار طولها، بوفيه رخامي يصبُّ عليه الأسطى المياه الساخنة داخل الأكواب، توجد ثلاجة تبتعد مسافة خطوات عن البوفيه في الجانب المقابل له، تحوي بداخلها المشروبات الباردة؛ اشتراها المعلم صابر بعدما داهم البلاد صيف لافح في العقد الأخير . ❝
❞ أرحتُ ظهري على المقعد، تلفتُّ بعيني على ما حولي الذي غطته عتمة الليل إلا من بقايا خيوط ضوء القمر تشاكسه بعض الهوام، نور القمر ازدانت به صفحة السماء والملتصق في سقفها الرحب نجوم تشع ضوءًا يُشبه ضوء لمبة السهاري. تعلَّق بصري بالقمر. تارة أرى وجه ربــاب الرائق منعكسًا عليه، الماضي يسحبني إليه، وتارة أخرى يجذبني الحاضر إلى الثلاثينية المتزوجة، فأرى مُحيَّاها الجميل الذي يبدو كالقمر وإن بدت عليه لمسةُ حزنٍ، كأن بنات الحور قد خنقنه . ❝
❞ قل لي: كيف تقهر.. هذي الأقانيم الثلاثة كيف تُقهر؟
قلتُ لها:
- عندما ألقت رباب القصيدة تفاعل الحاضرون معها، حازت تصفيقًا حادًّا، وجنتاها تبللتا بالعَبَرَاتِ.
كانت تستمتع بسماع صوت عبد الحليم، وتعشق فيروز. أما أنا فكنت أستمتع بأغاني أم كلثوم وحليم ونجاة. كان بعض الزملاء والزميلات المقربين منا يشبهون علاقتنا بعلاقة علي سليم البدري وزُهرة سليمان غانم، في المسلسل الرائع ˝ليالي الحلمية˝.
ربــاب، هي من تذهب معي إلى محال الملابس، فتختار لي على ذوقها، لون القمصان التي تتماشى مع لون البنطلونات، كنت لا أمتلك هذه الميزة. كانت تستشيرني في شكل الحذاء ولونه، أتمتع بشهادة الكثير في اختياري للون الحذاء وتصميمه، ذهبت معها لشراء حذاء من محل ˝السمالوطي˝، حاولت مرة أن أمسك قدمها وأدخل الحذاء فيه، احمرَّ وجهها، رفضت خجلًا، لاحظت ذلك سيدة مهندمة، تقترب من نهاية العقد السادس، يبدو من جِلستها بالقرب من مكتب، أنها صاحبة المحل، أو ربما زبونة، ابتسمت لنا، ولمَّا شعرت بخجل ربــاب، التفتت بعينيها بعيدًا عنا. ونحن خارجان من المحال، ابتسمت لها مرة أخرى وأشارت إليها أن تقترب منها، ولما دنت ربــاب منها أومأت السيدة برأسها ونصحتها، وهي تشير إليَّ، ولمَّا خرجنا من المحل سألتها:
- ماذا قالت لكِ هذه السيدة؟
ابتسمت وهي تخبرني،
قالت لي:
- حافظي عليه؛ إنه هدية السماء لـكِ . ❝