تكملية (دقهلية "" "وسيناوي) : كانت دقهلية تغفو في هدوء، متعبة من يوم طويل من الحفظ والمذاكرة، تفيق عندما سمعت صوت الشيخ سيد، ينادي عليها بلطف. فتحت عينيها ببطء، شعرت بالراحة حينما تذكرت أنه قد حان وقت تسميع وردها.
ابتسم بفرحه،فهي دائماً تتذكر وعدها لشيخ حسان.
نهضت من مكانها واتجهت إليه، تسير بخطوات ثابتة. كان هناك صف من الطلاب، ولم يتبقَ سوى ثلاثة منهم، بما فيهم هي.
شعرت بنبضات قلبها تتسارع قليلاً، ليس خوفاً، بل رغبة في إثبات نفسها أمام الشيخ الذي أثرت كلماته في روحها بعمق.
عندما جاء دورها، جلست أمام الشيخ، متماسكة وواثقة، وبدأت تسمع وردها بصوت مملوء بالتحدي والإصرار. كان في عينيها بريق خاص وهي تقرأ، وكأن كل كلمة تحفظها تعني لها شيئًا عظيمًا.
انتهت من وردها، وانتقلت إلى زميلها محمد، الذي كان دائمًا يكمل لها تسميع ما فات.
محمدكان ينظر إليها نظرة مليئة بالدهشة، مستغرباً من التحول الذي طرأ عليها. أخيرًا، سألها بنبرة مشوبة بالاستفهام والفضول:
"هتصحي ايه النهارده؟ صفحة واحدة؟"
شعرت دقهلية بشيء من الفخر يملأ قلبها، لكنها حاولت إخفاءه بنبرة عادية، وقالت بثقة:
"لاء، السورة كلها."
اتسعت عينا محمد بدهشة، لم يكن يتوقع هذه الإجابة، فهز رأسه قليلاً وكأنه يحاول استيعاب ما قالته للتو:
"السورة كبيرة، هتنسي بسرعة، وبعدين انتي بقالك أسبوعين من يوم شيخ سيناء كان هنا، وانتي بتحفظي. هو قالك إيه؟"
شعرت دقهلية بتغير في ملامحها، كأن شيئًا يخصها بشدة تم الاقتراب منه، وردت بنبرة دفاعية، لكنها مملوءة بالغموض:
"وانت مالك؟ وبعدين مش بحفظ وبسمع."
استمر محمد في النظر إليها، يحاول فك لغز التغير السريع الذي طرأ عليها:
"ايوه، ما انا مستغرب. انتي كنتي في الجزء التاني، سورتك القيامة، وفضلتي شهور فيها. وأول لما هو كلمك، تاني يوم أخدتيها كلها، وكل يوم بتصحي سورة كاملة، أو سورتين، والغريبة إنك بتحفظي."
نظرت دقهلية إلى الأرض للحظة، ثم رفعت رأسها بسرعة، وكأنها قد قررت ألا تخفي شعورها بالفخر:
"عادي، ما كنتش عاوزة. ودلوقتي مهتمة أوي، وهختم القرآن. انت خايف لأسبقك مش كدا؟ يعني الفرق من أسبوعين كان كبير، أومال دلوقتي لاء، أربع أجزاء بس."
نظر محمد إليها بنوع من التحدي، لكن بداخل هذا التحدي كان هناك اعتراف بأنه يشعر بشيء من الفخر بها، وربما أيضًا غيرة طفيفة:
"طب ياختي، خدي السورة كلها."
ابتسمت دقهلية بخفة، كانت تلك الابتسامة تفيض بالثقة والتحدي:
"أيوه."
أخذ محمد نفسًا عميقًا، ثم نظر إليها بنظرة تشير إلى أنه يدرك الآن أنها تغيرت حقًا، وقال بنبرة أكثر جدية:
"طب اقرئي."
بدأت دقهلية تقرأ بصوت هادئ لكنه مليء بالإصرار، وكأنها تؤكد لنفسها قبل الآخرين أنها قادرة على فعل ما ظنته يومًا مستحيلاً:
"بسم الله الرحمن الرحيم
حمٓ ( 1 ) وَٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَٰرَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ( 3 ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 5 ) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ( 6 ) رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ( 7 ) لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلْأَوَّلِينَ ( 8 ) بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ ( 9 ) فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ( 10 ) يَغْشَى ٱلنَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 11 ) رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ( 12 ) أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ( 13 ) ثُمَّ تَوَلَّوْا۟ عَنْهُ وَقَالُوا۟ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ( 14 ) إِنَّا كَاشِفُوا۟ ٱلْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ ( 15 ) يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰٓ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ( 16 ) ۞ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( 17 ) أَنْ أَدُّوٓا۟ إِلَىَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ۖ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( 18 )
ظلت دقهلية تقرأ بصوت هادئ ومسترسل، غارقة في بحر من السكينة، بينما محمد يصحح لها الأخطاء الصغيرة التي تتسلل أحيانًا في تلاوتها. كانت تعيد الآيات مرارًا حتى تتقنها تمامًا. وعندما انتهت أخيرًا من السورة، همست بصوت مملوء بالتقوى والخشوع:
"صدق الله العظيم."
ابتسم محمد برضا واضح على وجهه، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم قال بنبرة مازحة لكنها مليئة بالفخر:
"كويس كده خلصتي."
لم ترد دقهلية، بل اكتفت بابتسامة صغيرة، كانت تشعر برضى داخلي يعمق في قلبها، كأنها قطعت خطوة أخرى نحو تحقيق ما كانت تراه يومًا مستحيلًا. نهضت من مكانها، واتجهت نحو الخارج، متجهة إلى بيتها بخطوات واثقة وثابتة.
خلال الفترة التالية، ظلت دقهلية على هذا الحال، تسهر الليالي وهي مجتهدة في المذاكرة وحفظ القرآن، حتى أنها كانت تتأمل الآيات بتدبر، محاولة أن تفهم المعاني العميقة التي تحملها كل كلمة. كانت تسعى بجد لملء قلبها بالقرآن، وكأنها تبحث عن نور يهديها في ظلمات الحياة.
مع انتهاء الامتحانات، بدأت منال، والدة دقهلية، تلاحظ التغيير الجذري الذي طرأ على ابنتها.
كانت تراقبها بصمت وهي تتحول من تلك الفتاة الهادئة المترددة إلى شابة مفعمة بالثقة والإصرار. لم يكن التغيير يقتصر على الهدوء والكلام المتزن، بل تعداه ليشمل اهتمام دقهلية الكبير بالقرآن، شيء كان يبهر منال ويثير فيها شعورًا عميقًا بالفخر.
كان الشيخ سيد يتصل بمنال مرارًا، يمدح في ابنتها التي أصبحت نموذجًا يحتذى به بين طلابه.
أخبرها بأن دقهلية تفوقت بشكل ملحوظ على جميع زملائها، وأنها إذا استمرت على هذا النهج، فسوف تتمكن من المشاركة في المسابقة القرآنية الكبرى في القاهرة.
كانت كلمات الشيخ تملأ قلب منال بالسعادة، ولكنها كانت تعلم أن الفضل يعود في ذلك إلى إصرار ابنتها وصبرها.
في يوم من الأيام، دخلت منال على دقهلية في غرفتها، كانت دقهلية منهمكة في حفظ القرآن، تردد الآيات بصوت منخفض، تحاول أن تراجع ما حفظته.
وقفت منال على عتبة الباب، تراقب ابنتها بصمت، تملؤها السعادة والاعتزاز.
كانت الابتسامة تعلو وجه منال، شعرت بدمعة صغيرة تترقرق في عينيها، دمعة الفخر بابنتها التي بدأت تجد طريقها نحو النور.
تركت منال ابنتها تكمل حفظها دون أن تقاطعها، ثم انسحبت بهدوء من الغرفة، وهي تحمل في قلبها دعاءً صادقًا بأن يوفق الله دقهلية ويثبتها على طريق الحق.
مرّت الأيام حتى ظهرت النتيجة، وعمّ الفرح أرجاء البيت. العائلة كلها تجمعت لتهنئة دقهلية وأخيها، إذ أصبح حلمها أقرب للتحقق. شعرت دقهلية بأن هذا هو الوقت الذي عليها أن تعد العزم فيه لبدء أول خطوة في تحقيق حلمها. كانت في قمة سعادتها عندما رافقها والدها لتقديم ملفها في الثانوية. استمرت في حفظ القرآن والتفوق في دراستها، لكن موعد المسابقة كان يقترب، وكانت تعلم أن هذا هو التحدي الأكبر.
مع اقتراب موعد المسابقة، بدأت تظهر المخاوف لدى والدها، الذي رفض في البداية سفرها. شعرت دقهلية بالخيبة وهي ترى أحلامها مهددة، لكن الشيخ'سيد'تدخل، وبدأ بمحاولة إقناع والدها. حتى الأهل وقفوا بجانبها، وخاصة خالاتها اللواتي لم يتوانين عن دعمها. لكن الدور الأكبر كان لوالدتها منال، التي أظهرت إصرارًا شديدًا على إقناع والدها. لولاها، لم يكن ليوافق. بدأ قلب دقهلية ينبض بالحماس، إذ شعرت بأنها تقترب من تحقيق حلمها الكبير.
كانت تعد نفسها للسفر عند الفجر مع باقي زملائها. عاشت كل لحظة بحماس وقلق، وتخيلت نفسها في المسابقة، وهي تنافس وتثبت قدرتها. فبعد عودتها من المسابقة، العائلة تستعد لحفل كبير يقام لها و لزميلها محمد ولصديقتها ماجدة، احتفالًا بختمهم للقرآن الكريم. لم تكن دقهلية تصدق نفسها؛ فقد أوفت بوعدها، وخلال شهور قليلة حفظت القرآن كاملاً.
ذلك اليوم كان أسعد يوم في حياتها. ليس لأنها ستسافر إلى المسابقة فحسب، بل لأنها ستلتقي سيناوي، التي لم تعرفها من قبل، إلا من خلال حديث الشيخ حسان عنها. كان حماس دقهلية يتضاعف كلما فكرت في هذه المقابلة. وقبل الفجر بقليل، أوصلها والدها إلى المكتب حيث كان عليها أن تنطلق مع زملائها إلى القاهرة.
كانت السعادة تغمرها طوال الطريق. لم تفارق الابتسامة وجهها، وكانت تغمض عينيها بين الحين والآخر لتستمتع بشعور الحرية، وكأنها تتنفس أحلامها وهي تتحقق. عندما وصلوا إلى مسجد الأزهر، شعرت بذهول. كانت تشعر وكأنها خرجت أخيرًا إلى عالم جديد، عالم من الفرص والإنجازات.
عندما نزلت من الحافلة، شعرت بأنها تخرج من شرنقتها إلى نور الحياة. كانت تدور حول نفسها، تفتح ذراعيها وكأنها تستقبل هذا العالم الجديد بابتسامة عريضة. تنفست بعمق وابتسمت، وشعرت بأن السعادة تغمر قلبها.
رغم حماسها، كانت تشعر ببعض القلق وهي تبحث بعينيها عن الشيخ حسان بين الحضور. لكنها لم تجده. جلست بجانب زملائها، ووضعت يدها على خدها، والدموع تترقرق في عينيها. لم تكن تعرف إن كانت دموع الحزن أم الفرح، لكن ما كانت تعرفه هو أنها قطعت شوطًا كبيرًا في حياتها، وأنها قريبة من تحقيق حلمها.
بعد فترة، رأت بائع غزل البنات يمر، فاستأذنت من المسؤول عنها أن تذهب لشرائه، لكنه رفض بشدة. جلست بحزن وهي تنظر إلى البائع يبتعد. لكن عندما انشغل المسؤول عنها بالحديث مع الآخرين، لم تستطع مقاومة الرغبة، فانطلقت هي وزميلتها هاجر للحاق بالبائع. شعرت بالمرح والطفولة تعود إليها للحظة، وركضتا حتى تمكنتا من اللحاق بالبائع وشراء ما أرادتاه.
كانت تسير مع هاجر حتى صادفت فتاة سمراء تمر بجانبها. كان جمال الفتاة يلفت الأنظار، فوقفوا ينظرون إليها بدهشة. همسوا لبعضهم حول جمال الفتاة وعينيها الساحرتين. لكن عندما حاولوا العودة إلى المسجد، اكتشفوا أنهم أضاعوا الطريق. بدأ الخوف يتسلل إلى قلوبهم، وبكت الفتاة السمراء معهم.
دقهلية، بحيرة القلق تملأ صوتها، قالت:
"إنتي ضايعة إنتي كمان؟"
ردت الفتاة السمراء بحزن وارتباك:
"آه، دي أول مرة أجي القاهرة ومش عارفة أرجع إزاي."
هاجر قالت بخوف:
"إحنا كمان أول مرة نيجي القاهرة."
سألتهم الفتاة السمراء بقلق:
"طب هنعمل إيه دلوقتي؟"
بدأت دقهلية تلتفت يمينًا ويسارًا بقلق، حتى رأت سيارة جيش قريبة. صاحت بفرح:
"في عربية جيش هناك! تعالوا."
توجهوا نحو السيارة، وسألت دقهلية الضابط عن طريق العودة إلى المسجد الأزهر. لكنه نظر إليهم بسخرية بسبب مظهرهم. ملابسهم كانت واسعة وغير مرتبة، وأياديهم كانت تحمل غزل البنات. أجابهم الضابط ببرود وسخرية:
"وإنتوا تايهين؟"
ردت هاجر بحزن:
"آه، مش عارفين نرجع."
ضحك الضابط بقوة وهو يشير إلى غزل البنات في أيديهم:
"أكيد مش هتعرفوا، ما إنتوا عيال، ودا اللي في إيدكم إيه؟!"
نظرت الفتيات إلى بعضهن بصمت، وشعرن بالخجل. لكن الضابط لم يتوقف عن الضحك حتى جاء قائده. سمع القائد حديث الضابط، فصاح فيه بغضب:
"إيه اللي بيحصل هنا؟!"
رد الضابط بتوتر:
"يا فندم، دول تايهين."
صاح القائد بغضب، وعيونه تلمع بالغضب:
"أنا بتكلم على كلامك معاهم، مش عليهم! دا أسلوب تتعامل بيه؟ لجأوا ليك عشان تساعدهم، ودورك إنك تحميهم، مش تتريق عليهم!"
خفض الضابط رأسه احترامًا واعتذر بصوت مليء بالندم:
"آسف يا فندم."
لم يعيره القائد أي اهتمام،ولم يقبل اعتذاره،نظره غاضبه اكتفى بها.ثم التفت للفتيات.ءغ
بينما كان القائد جاسر يسير بجوار الفتيات، لم تفارق الابتسامة وجهه، رغم أنه لاحظ الحزن والقلق المرتسم على ملامحهن. كان يتساءل عن سبب حزنهن ولكنه اختار أن يبادر بابتسامة هادئة، محاولًا تخفيف التوتر.
"انتوا عايزين إيه يا حلوين؟" قال بصوت ناعم وعينين مليئتين بالدفء.
نطقت الفتاة السمراء أولًا، مترددة بعض الشيء، لكن بملامح مليئة بالامتنان:
"عاوزين المسجد الأزهر."
ابتسم القائد بهدوء واستدار في اتجاههن، مشيرًا بيده نحو الطريق:
"يلا، وأنا هوصلكم. هو مش بعيد. رايحين تصلوا؟"
أجابت دقهليه بصوت مطمئن قليلاً، وقد هدأ القلق الذي كان يعتريها:
"احنا جاين المسابقة القرآن."
تملكت القائد مشاعر الفخر وهو ينظر إليهن نظرة احترام، ثم قال:
"بجد ربنا يحميكم. اسمكوا إيه بقى؟"
أجابته الفتيات في نفس الوقت وكأنهن متفقات مسبقاً:
"ياسمين."
اندهش قليلاً من تزامن ردهما وضحك في سره، ثم تابعت دقهليه بحماسة وهي تشير إلى سيناوي:
"سيناوي!"
ردت سيناوي بفرح أكبر وقد أضاءت عيناها بشعور خاص:
"إيه بجد، انتي دقهليه؟"
أجابت دقهليه بحماس مماثل:
"أيوه."
ردت سيناوي بفخر وهي تضحك:
"أنا سيناوي، حفيدة الشيخ حسان."
نظرت دقهليه إلى سيناوي بدهشة وقالت:
"احلفي!"
ابتسمت سيناوي وأضافت بحنان:
"أنا مبسوطة إني شوفتك."
دقهليه، وقد بدأت تفهم مدى خصوصية هذا اللقاء، سألتها بفضول:
"هو قالك على الإسم؟"
أجابتها سيناوي وهي تومئ برأسها بابتسامة واسعة:
"أيوه، فرحت بيه أوي. انتي توأمي، هو قال لي كده."
ابتسمت دقهليه وأخذتها بين ذراعيها بعاطفة جياشة، تحتضنها بشدة كأنها قد عثرت على نصفها الآخر المفقود.
كان القائد جاسر يراقب مشهد الفرح الذي امتلأ به الجو بين الفتيات، ورغم أنه لم يفهم سبب تلك السعادة الكبيرة أو الأسماء التي يتبادلنها، إلا أنه لم يستطع إخفاء فضوله. سألهم مازحًا:
"إيه حكاية سيناوي ودقهليه دي بقى؟"
أجابته الفتاتان مرة أخرى في نفس اللحظة، مما جعله يبتسم بشكل أوسع:
"أنا هقولك."
ضحك بصوت عالٍ وأردف قائلاً:
"طيب، واحدة واحدة. هتقولوا مع بعض إزاي؟"
ثم أضاف بابتسامة وهو يعرّف نفسه:
"أعرفكوا بنفسي الأول، أنا القائد جاسر."
ردت دقهليه بثقة:
"وأنا ياسمين."
نظر إلى هاجر، التي كانت صامتة طوال الوقت، وسأل:
"والقمر اسمه إيه؟"
أجابت بخجل:
"هاجر."
ابتسم لها القائد وقال:
"تمام، يلا معايا واسمع قصتكم في الطريق."
بينما كنّ يسردن قصصهن للقائد، كانت دقهليه تروي تفاصيل حياتها ثم تقاطعها سيناوي، ويستمر الحديث بينهن بطريقة عفوية، مليئة بالحيوية والبهجة. استمرت الرحلة وسط الضحكات والتعليقات الطريفة، حتى وجدوا أنفسهم قد وصلوا بسرعة.
عندما قالت دقهليه بنبرة حزينة:
"وصلنا."
رد عليها القائد جاسر بابتسامة مائلة وقال:
"فعلاً، الطريق خلص بسرعة أوي."
ثم أضاف بابتسامة جذابة:
"وبما إنكم وفيتوا بالوعد، أنا كمان هأوعدكم."
نظرت ياسمين بلهفة وسألت:
"بإيه؟"
ضحك القائد قائلاً:
"واحدة واحدة تتكلم، مش إنتوا الاتنين!"
ضحكوا جميعًا بصوت عالٍ، ثم قال مازحًا:
"ماشي يا عم! المهم، وعدي ليكم إنكم لما تدخلوا كلية طب، أنا هعلمكم الدفاع عن النفس. إيه رأيكم؟"
صاحوا بفرحة كبيرة:
"موافقين!"
قال القائد بنبرة محبة:
"يلا يا قردة، لما تخلصوا المسابقة تعالوا عليا تفرحوني ماشي؟"
ردت دقهليه بقلق:
"بس الشيخ مش هيوافق."
أجابها القائد بلهجة مطمئنة:
"خلاص، أنا اللي هاجي ليكم. يلا روحوا، في حد بيشاورلك يا دقهليه."
نظرت دقهليه ورأت الشيخ وقالت:
"أيوه، دا الشيخ. سلام يا قائد."
رد عليها بابتسامة ودية:
"سلام يا وردة الياسمين."
ابتسمت دقهليه وقالت وهي تشعر بسعادة غامرة:
"حلو الاسم ده."
أجابها بابتسامة دافئة:
"وأنا هناديكي بيه. يلا بسرعة روحي."
نظرت إليه دقهليه وقالت بجدية:
"هرجعلك تاني، وعد."
ابتسم القائد وقال وهو يلوّح لها:
"وأنا هستناكي."
بعد أن تهرولت نحو الشيخ، تغيرت الأجواء فجأة. كانت ملامح الشيخ غاضبة، عنفه بقوة وكاد أن يضربها هي وهاجر على تأخرهما وابتعادهما دون إذن.
في زاوية بعيدة عن الضجيج والأنظار، وقفت سيناوي بملامح قلقة، تجمع بين الاحترام والتوتر، بجوار القائد جاسر الذي لم يمضِ على معرفتهما سوى دقائق معدودة. كان الجو من حولهما هادئًا، فيما تنتظر ظهور جدها الشيخ حسان.
كلما مرت لحظة دون أن تراه، زاد نبض قلبها تسارعًا، كأن الخوف والقلق يتجسدان في دقات قلبها المضطربة.
وأخيرًا، بعد لحظات بدت وكأنها ساعات، ظهر الشيخ حسان. خطواته كانت واثقة، لكنه عندما اقترب منها، عانقت عيناه نظرات عتاب صارمة. وكأن عينيه كانتا تقولان كل شيء دون الحاجة إلى كلمات.
سيناوي لم تستطع مواجهة نظراته، فخفضت رأسها نحو الأرض ببطء، وكأنها تحمل على كتفيها ثقل الخطأ الذي ارتكبته. تساقطت دموعها بصمت، تمزج بين الندم والخوف، لتغرق وجهها الصغير الذي ارتسم عليه الحزن.
اقترب منها جدها بحنان غير متوقع، وصوته كان هادئًا لكنه مليء بالألم:
"زعلى منك خوف عليكي، لو ما كانش راجل كويس ما كنتوش هنا، وانتوا أول مرة تسافروا، وامانة في رقبتنا."
كانت كلماته كبلسمٍ على جرح قلبها. رفعت رأسها قليلاً وهي تشعر أن الجد، رغم عتابه، كان قلقًا عليها أكثر من أي شيء آخر.
القائد جاسر الذي كان يراقب هذا المشهد من بعيد، لم يستطع إلا أن يشعر بمزيج من الاحترام والتقدير للشيخ. بادر قائلاً بنبرة مليئة بالاحترام والاعتراف:
"عندك حق يا شيخ، وأنا قولت لهم كده، بس الشيخ اللي مع دقهليه كان بيعاملها بعنف جامد."
قالها وهو يشير نحو دقهليه التي كانت في مسافة غير بعيدة، متجمدة في مكانها تحت وطأة غضب شيخها.
نظر الشيخ حسان نحو دقهليه، ورأى دموعها وارتعاشها، فاشتعل قلبه بعاطفة جياشة:
"أنا هروح أكلمه، حبيت البنت دي أوي ويعز عليا دموعها، زي حفيدتي بالظبط."
ابتسم القائد جاسر بصدق، وعيناه تكشفان عن مشاعر أخوة غير متوقعة:
"وأنا والله شوفت فيها أختي وبنتي."
هز الشيخ حسان رأسه موافقًا، ثم استأذن قائلاً:
"راجع ليك يا ولدي، هروح أشوف دقهليه."
القائد جاسر نظر إليه بود وأجاب بأسف:
"آسف يا شيخ، عندي خدمة لازم أرجع لها. بس بعد المسابقة هكون هنا علشان أسلم عليكوا."
هز الشيخ حسان رأسه بتفهم:
"تمام يا ولدي، اسمك إيه؟"
ابتسم القائد وقال بفخر:
"جاسر، مقدم في الجيش."
ابتسم الشيخ حسان بدعاء من قلبه:
"مع السلامة يا ولدي، ربنا يحميك. ولينا كلام مع بعض كتير."
أجاب القائد وهو يلوح له بابتسامة ودية:
"أكيد، اتشرفت بمعرفتك. سلام، روح شوفها."
ثم ألقى القائد جاسر التحية الأخيرة قبل أن يختفي من المشهد، تاركًا وراءه أثرًا من الاحترام والطمأنينة في نفوس الجميع.
الشيخ حسان ألقى نظرة أخيرة على القائد جاسر قبل أن يلتفت نحو دقهليه، مصممًا على تهدئة الوضع وإعادة الابتسامة إلى وجه الفتاة التي أثرت في قلبه.
توجه الشيخ حسان نحو دقهليه وهاجر، اللتين كانتا تقفان متوترتين، والدموع تغمر وجوههما. لم تستطع دقهليه حبس دموعها بعد العنف الذي تعرضت له من شيخها، وشعرت أنها لم تعد قادرة على التنفس بسبب الخوف والحزن. كانت تحاول أن تبدو قوية، لكن قلبها كان ينهار.
وصل الشيخ حسان واقترب منهما بخطوات هادئة وواثقة، حاملاً معه إحساساً بالطمأنينة. بمجرد أن وصل إليهما، وضع يده بلطف على كتف دقهليه، التي لم تستطع منع نفسها من النظر إلى الأرض، وكأنها تتمنى أن تختفي.
قال بصوت مليء بالحزم والحنان في آنٍ واحد:
"ما تزعليش يا بنتي، أنا هنا، شيخيك اللي زعقلك بيعرف غلطك. أنتِ زي بنتي، وأنا مش هرضى حد يعاملك بالشكل ده."
رفعت دقهليه ببطء رأسها، وابتسمت ابتسامة حزينة، لكنها كانت ممتنة لكلماته. أما هاجر، فقد كانت تمسك بيدها بقوة، وكأنها تحاول نقل الأمان إليها.
اقترب الشيخ حسان من الشيخ سيد الذي كان واقفاً على مسافة، وقال له بحدة، لكن بصوت منخفض كي لا يجذب الأنظار:
"البنات دول أمانة في رقبتنا، وما يصحش نعاملهم بالشكل ده. هاتلي دقهليه وهاتلي هاجر، وهفهم هما ليه جايين هنا. بهدوء الغلط، عمر ما كان حله بالصوت العال والضرب. "
الشيخ سيد، الذي كان لا يزال غاضباً بعض الشيء، أومأ برأسه دون أن يتحدث. كانت ملامحه تدل على أنه أدرك خطأه، لكنه لم يكن يريد الاعتراف بذلك علناً.
عاد الشيخ حسان إلى الفتاتين وقال بصوت دافئ:
"يلا يا بنات، خلاص، الأمور اتصلحت. ادخلوا واتطمنوا، الشيخ مش هيزعق تاني."
ابتسمت دقهليه وهاجر له، وشعرتا بأن الأمور بدأت تتحسن، وأن الألم الذي شعرتا به بدأ يتلاشى ببطء.
أثناء مغادرتهن، التفتت دقهليه نحو الشيخ حسان وقالت له بصوت مرتعش لكنه مليء بالامتنان:
"شكراً يا جدي، وعد مني إني مش هخيب ظنك."
ابتسم الشيخ حسان وأجابها برقة:
"عارف يا بنتي، وأنا واثق فيكي."
ثم توجهت الفتاتان نحو وجهتهما، وقلوبهما مليئة بالطمأنينة والثقة، مستعدتين لمواجهة المسابقة، وهما تعلمان أن لديهما من يدعمهما ويحميهما.
كانت الشمس تسكب نورها على الأرض بحنان، كما لو أنها تهمس للسماء بلطف قبل أن تشتد وتصل إلى ذروتها. أشعتها تلامس الأفق برفق، تنساب فوق الحقول والطرقات، فتغمر العالم بضوء ذهبي ناعم يتسلل عبر الأشجار ويعانق المباني. كان الهواء يحمل دفء الشمس، ولكن دون أن يكون حارًا، وكأن الطبيعة بأسرها تستيقظ من سباتها الليلي على وقع هذا الضوء الذي ينمو تدريجيًا. السماء صافية، تمتد بصفاء أزرق عميق، وكأنها ساحة واسعة تنتظر ما سيأتي. في تلك اللحظات الهادئة في المسجد الأزهري الشامخ. تجمعت الفتيات في صفوف منظمة بجوار شيوخهن، استعدادًا لبداية المسابقة. سيناوي وقفت بجانب جدها، تتطلع بنظرات مليئة بالتفاؤل، بينما كان قلبها ينبض بحماس وثقة. إلى جوارها، كانت دقهليه تتنفس بعمق، متوترة بعض الشيء، لكنها تحاول الحفاظ على هدوئها.
عندما نظر إليها الشيخ حسان بعينين مليئتين بالثقة والحنان، شعرت بقليل من الراحة تتسرب إلى قلبها، رغم أن قلبها لم يتوقف عن الخفقان بسرعة.
بدأت المسابقة، وبدأت سيناوي تتلو القرآن بصوت هادئ ورخيم. كلماتها تملأ القاعة بسمفونية روحانية أذهلت الجميع، بينما كان جدها ينظر إليها بفخر لا يمكن إخفاؤه. انتهت سيناوي من تلاوتها بنجاح، وابتسامة الرضا على وجهها تشع كالشمس التي تشرق بعد ليلة طويلة.
جلست بجوار جدها تنتظر دور دقهليه، التي بدأت هي الأخرى في التلاوة. كانت الكلمات تنساب من فمها، تحمل معها كل توترها ورغبتها في النجاح.
مرت دقائق المسابقة وكأنها ساعات طويلة على دقهليه. عندما انتهت، جلست بجوار سيناوي، والتوتر يغادر جسدها شيئًا فشيئًا، لتحل محله الراحة والانتظار المشوب بالأمل.
بعد انتهاء المسابقة وإعلان النتائج، انفجرت الفتيات بالفرح عندما عرفن مراكزهما: سيناوي حازت على المركز الأول، بينما حصلت دقهليه على المركز الخامس. كانت الفتاتان تقفزان فرحًا، تمسك دقهليه بيد سيناوي بقوة، وكأنها لا تصدق ما حدث.
الركض في ساحات الأزهر، وأصوات ضحكاتهما المتداخلة، كان كأنهما عادتا طفلتين صغيرتين.
مرَّ الشيخ حسان عليهما بابتسامة مطمئنة، وتوجه نحو الشيخ الذي كان مع دقهليه ليطلب إذنه بأخذها في نزهة قصيرة مع حفيدته.
بعد موافقة الشيخ، قادهم الشيخ حسان إلى مكان خاص حيث كان القائد جاسر ينتظر. كان واقفًا هناك، يبدو عليه أنه ينتظر الفتاتين بفارغ الصبر. عندما رآهما، ابتسم ابتسامة عريضة وقال:
"أهلاً، ألف مبروك يا أبطال."
دقهليه ابتسمت بتواضع وقالت بخجل:
"شكراً يا قائد."
القائد جاسر، بروح الأبوة والأخوة التي غمرت حديثه:
"دا أقل واجب يا وردة الياسمين. يلا، انتي وهيا، سجلي رقمي."
نظرت دقهليه إلى الهاتف الجديد الذي أهداهما إياه القائد، ثم تساءلت بارتباك:
"بس هو مش فيه خط."
ضحك القائد جاسر قائلاً وهو يهز رأسه:
"لاء، فيه كل حاجة. وكمان رصيد. وعملت لكل واحدة صفحة خاصة بيها، وممنوع تغيروا الرقم، مفهوم؟"
سألت سيناوي بدهشة وحيرة، وهي ترفع حاجبيها:
"يعني ايه الصفحة دي؟ مش فاهمة."
رد القائد جاسر، بابتسامة مرحة، لكنه جدي في نفس الوقت:
"بعد إذن الشيخ طبعاً، أنا عملت كده علشان تقدروا تتواصلوا بسهولة. تعالى بقى، هعلمكوا عليها، وأعرفكوا كل حاجة. يلا."
جلسوا معًا لمدة ساعة ونصف تقريبًا، والوقت يمر بسرعة وكأنهم في عالم آخر، بعيد عن الضغوط والمسابقة.
كان القائد جاسر يشرح لهما كيفية استخدام الهواتف، بينما كانت الفتاتان تتابعانه بتركيز وحماس، وكأنهما تستعدان لمرحلة جديدة من حياتهما.
لكن كل شيء جميل لابد أن ينتهي. جاء موعد الرحيل، وبدأ الوداع يخيم على الأجواء. سيناوي، التي كانت تشعر ببعض الحزن، ودعت دقهليه بعناق دافئ، واعتذرت عن عدم قدرتها على حضور حفل تكريمها.
في البداية، شعرت دقهليه بالحزن، لكن الشيخ حسان طمأنها ووعدها بأن اللقاء سيتجدد في وقت قريب.
كما أنه أكد لها أن سيناوي ستتمكن من مهاتفتها كل يوم، مما أعاد بعض الراحة إلى قلبها.
ودعوا بعضهم بوعد اللقاء مرة أخرى، وانطلقت كل واحدة إلى بلدها، تاركتين وراءهما ذكرى جميلة لا تُنسى.
القائد جاسر عاد إلى عمله، محملًا بالذكريات والوعود التي قطعها للفتيات، وتاركًا أثرًا عميقًا في نفوس الجميع.
كان الليل قد خيّم تماماً عندما وصلت سيناوي مع جدها إلى القرية بعد رحلة طويلة.
استيقظت بصوت هادئ لجدها يناديها بلطف لتسير نحو البيت. كانت تشعر بثقل النوم على جفونها، لكن حبها لجدها جعلها تفيق بسرعة وتمشي بجانبه. أنس، الذي كان ينتظر عند مدخل البيت، جاء لمساعدتهم في حمل الأغراض مع أخيه.
في الصباح، استيقظت سيناوي على رنين هاتفها، فتحته بلهفة ورأت رسالة من دقهليه تتمنى لها التوفيق في يومها. شعرت بالامتنان والفرح، وسرعان ما ردّت عليها بابتسامة متفائلة. وعدتها دقهليه بأن ترسل فيديو الحفلة ليشاهدها الجدّ عبر الهاتف، وأغلقت المكالمة بعد أن اتفقتا على التفاصيل.
نهضت سيناوي بعد الصلاة، مليئة بالطاقة، وركضت بسرعة نحو خيمة جدها. وبينما كانت تمر بالقرب من أنس، الذي كان جالسًا يقرأ في كتاب الله، لم تلتفت إليه بل واصلت ركضها نحو الداخل.
أنس لم يكن يستطيع إخفاء شعور الضيق الذي تملكه، فقد كان ينتظر منها ولو نظرة، ولكنها مرت كأنها لم تره.
عندما وصلت إلى داخل الخيمة، وجدت جدها يقرأ القرآن بصوت هادئ ومطمئن. وضعت سيناوي نفسها بجواره، وقبلت رأسه، وبدأت تحكي له عن المكالمة التي جرت بينها وبين دقهليه. أثناء حديثها، سمعا صوتاً يستأذن بالدخول. توقف الحديث للحظة، ثم سمح الجدّ للزائر بالدخول.
دخل أنس وهو يحمل في عينيه بعضاً من الحيرة والضيق، وجلس بجوار الجد، يبارك لـ سيناوي على نجاحها.
كانت سيناوي تشكره بصوت خافت، لكن لم يكن بإمكانها إخفاء ضيقها. لاحظ أنس هذا في نبرة صوتها، كما لاحظ أنها لم تنطق باسمه أثناء الحديث، مما زاد من شعوره بالاضطراب.
نظر أنس إلى الهاتف الذي كان في يدها، وسأل الجد بتوتر:
"اي دا يا جدي؟"
أجابه الجد بهدوء:
"محمول يا ولدي، كان هدية ليها عن النجاح."
أنس، الذي بدا عليه بعض الحيرة، سأل بحدة:
"وليه جبتهولها؟"
ابتسم الشيخ حسان بحنان وقال:
"مش أنا اللي جبتهولها، دا كان هدية من شخص غالي."
أنس، وقد ازداد فضوله:
"هو مين الشخص الغالي دا؟ أنا اعرفه؟"
أجابه الجد بابتسامة مريحة:
"لاء، ما تعرفوش، أنا يدوب عرفته يومها."
شعر أنس ببعض الغيرة وقال:
"ولحق بقا غالي؟"
ضحك الشيخ حسان بلطف وأجاب:
"أنا عندي نظرة في الناس، هتشككش في كلامي ولا إيه."
تراجع أنس وقال بأسف:
"لاء، حقك عليا يا جدي، أنا ما قصدتش."
لكن الجد، الذي لاحظ انزعاجه، حاول تهدئته:
"ما تشيلش هم، أنا قادر أحميها، وانت ركز في حياتك وبس."
قال أنس بنبرة هادئة:
"ما فيش حاجة يا جدي، بس كنت عايز أبارك لبنت عمي، وكنت هقولها بره، لكنها دخلت على طول من غير سلام."
كان أنس ينظر إلى سيناوي، التي أدارت وجهها بعيداً عنه، وكأنها تهرب من أي مواجهة.
وقف أنس واستأذن:
"بالإذن أنا، سلام."
ودعه الجد قائلاً:
"سلام يا ولدي."
التفت الجد نحو سيناوي وقال لها بحنان:
"ليه كدا يا بنتي؟"
أجابت وهي تنظر إلى الأرض:
"انت عارف يا جدي، أنا ما اقدرش اخبي مشاعري، ودا أحسن ليا وليه."
هز الجد رأسه بحكمة وقال:
"طيب، هاتي المصحف من وراكي علشان نقرا مع بعض، يكون جدتك حضرت الفطور."
أخذت سيناوي المصحف وبدأت تقرأ بصوت خاشع إلى جانب جدها، حتى دخلت الجدة، وقطعت القراءة مؤقتاً لتناول الطعام. بعد أن أنهوا وجبتهم، عادوا لمواصلة تلاوة القرآن معاً، حيث عمّت السكينة والهدوء أرجاء الخيمة.
.............
بمجرد أن انتهى القائد جاسر من مهمته في المنطقة، كان قد استعاد نوعاً من الروتين والانضباط العسكري. استمر في أداء واجباته بكامل التفاني، مع حرصه على الحفاظ على الروح العالية بين رجاله. كانت الأيام تمر بوتيرة سريعة، بين الاجتماعات الميدانية والتنسيق مع باقي الوحدات. لم يكن يفكر في الرحيل بشكل جدي حتى قرب موعد انتهاء خدمته.
كان القائد جاسر شخصية محبوبة ومحترمة بين رجاله. قادهم بحكمة وحزم، وكان دوماً يستمع إلى مشاكلهم ويحرص على أن يشعروا بأنهم ليسوا فقط جنوداً، بل جزءاً من عائلته العسكرية.
في اليوم الأخير من خدمته في المنطقة، وقف جاسر أمام رجاله في الساحة، متأملاً الوجوه التي أصبحت مألوفة بالنسبة له. حمل في عينيه نظرة عميقة، مزيجاً من الاعتزاز والحنين.
تحدث إلى رجاله بكلمات بسيطة لكنها كانت تحمل معانٍ كبيرة:
"الوقت اللي قضيناه هنا كان مليان تحديات، لكن بفضل الله، وبفضلكم كلكم، قدرنا نعدّيها. اليوم حان وقت إني أرجع للقطاع، بس عايزكم تفضلوا بنفس القوة والروح اللي عرفتها فيكم."
رجاله وقفوا أمامه في صفوف منتظمة، وكانوا يعلمون أن رحيله يعني غياب قائد كان سنداً لهم. بعد الانتهاء من كلماته، قام بتحية عسكرية، وتقدموا نحوه ليودعوه واحداً تلو الآخر.
بعد ساعات قليلة، انطلق جاسر مع فرقته نحو القطاع، حيث كانت تنتظره مهمات جديدة، وربما تحديات أكبر. لكنه كان مستعداً لأي شيء، فخدمته لوطنه كانت دائماً في المقدمة. ورغم أنه غادر المكان، إلا أن أثره بقي محفوراً في قلوب رجاله، الذين تعلموا منه الكثير.
بعودته إلى القطاع، شعر القائد جاسر بامتنان كبير لتلك الفترة التي قضاها، لكنها لم تكن نهاية لرحلته العسكرية.
..........................
في تلك الليلة الهادئة، عادت دقهليه إلى منزلها، متعبة ولكن مليئة بالفرح لما حققته من نجاح. استقبلتها والدتها بنظرات فضولية، تنتظر أن تسمع تفاصيل يومها. بدأت دقهليه تخبرها بكل شيء، عن الحفل والهدايا والتكريم، لكنها تجنبت ذكر لقائها بالقائد. كانت تعلم أن والدتها لن ترضى بذلك.
عندما لاحظت والدتها أن ابنتها أخفت جزءاً من القصة، بدأت تعنفها قائلة:
"ليه ما قلتيش كل حاجة؟
ومين اللي جبلك التلفون. ومين القائد اللي بيرن عليكى دا، ويسأل وصلتى ولا لاء، ليه خبيتى عني مقابلتك للقائد؟"
دقهليه، التي شعرت ببعض التوتر، حاولت تهدئتها قائلة:
"يا أمي، دي كانت هدية زي باقي الهدايا، خدت لابتوب ومبلغ مالي، وكمان هدايا تانية."
ثم تنفست بعمق و قصت عليها كيف تعرفت بالقائد.
استمرت الأم في توبيخها قليلاً، لكنها في النهاية قبلت عذر دقهليه وتركت الأمر يمر.
مر اليوم التالي بسعادة وهدوء، حتى بزغ الصباح الذي طالما انتظرته دقهليه.
كانت متحمسة للغاية، فاليوم هو يوم تكريمها وحفل القرآن. قفزت من فراشها بسرعة، واندفعت نحو والدتها كي تتناول إفطارها وتستعد للذهاب إلى المكتب لتحضير نفسها لهذا اليوم المميز.
بعد فترة قصيرة، كانت دقهليه تخرج من البيت، تركض بسرعة في الشوارع، متجاهلة نظرات الناس المندهشة من اندفاعها. لم تكن تهتم كثيرًا بما يفكر فيه الآخرون، بل كانت تركز فقط على تحقيق حلمها. وصلت بسرعة إلى مكان التجمع، حيث كان الجميع يستعدون للمشاركة في الحفل.
وقفت في الصف الأول بجوار ماجدة ومحمد، اللذين كانا بدورهما متحمسين لهذا اليوم. كان الجو مليئًا بالتوقعات والترقب. مع اقتراب موعد بدء الحفل، اصطف الطلاب في صفوف متساوية ومنظمة، وهم يهتفون بالأناشيد الدينية، ويحملون لوحات مكتوبة عليها آيات قرآنية وأسماء الطلاب المكرمين.
تحركت المسيرة باتجاه مكان الحفل، الذي أقيم أمام المسجد الكبير في المنطقة. حضر كبار الشخصيات من الحي، بما في ذلك المحافظ ونائب مجلس الشعب، بالإضافة إلى الأهالي الذين تجمعوا لمشاهدة الحفل. كان الجو مليئًا بالحماس والفخر.
بدأ الحفل بتلاوة القرآن الكريم، ثم بدأت اختبارات الطلاب الذين تم تكريمهم، حيث تلى كل منهم بصوته الجميل، أو ألقى خطبة دينية، في أجواء من الروحانية والإجلال. بعد ذلك، بدأت فقرات الحفل الأخرى التي شارك فيها بقية الطلاب.
عند نهاية الحفل، قام المحافظ وكبار الحي بتوزيع الجوائز القيمة على الطلاب المتفوقين، وتكريمهم أمام الجميع. كما تم توزيع هدايا صغيرة على جميع الطلاب الذين حفظوا كتاب الله، وسط أجواء من الفخر والفرح.
بعد انتهاء الحفل، اصطحب الأهالي أبناءهم إلى منازلهم، يحملون الهدايا التي حصلوا عليها. دقهليه كانت قد حصلت على سرير، غسالة، مبلغ مالي، براويز، مصحف، وشهادة تقدير، وهو نفس ما حصل عليه ماجدة ومحمد.
عندما عادت دقهليه إلى المنزل، اتفقت مع والدتها على ترتيب الهدايا، لكنها فوجئت بشرط والدتها:
"هتاخدي السرير ليكي، لكن الغرفة تفضليها لأخواتك."
ابتسمت دقهليه على الفور ووافقت دون تردد. كانت سعيدة بأن تستقل بغرفتها الصغيرة، خاصة بعد أن قامت والدتها بإخراج الكراسي منها لتوفير مساحة أكبر لها. شعرت أخيرًا أن لديها مكانًا خاصًا بها، مكانًا تستقر فيه وتفكر في مستقبلها.
مرت أيام دقهلية بسعادة تامة، تنبض بالحيوية والأمل في كل لحظة. كانت تشعر بأن حياتها قد بدأت تأخذ مسارًا أكثر وضوحًا بعد نجاحها في حفل التكريم واحتفاظها بعلاقتها الوثيقة مع سيناوي وجدها. لكن المفاجآت لم تتوقف.
ذات يوم، وبينما كانت تتصفح صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بها، لفت نظرها رسالة غريبة من فتاة تبحث عن توأم لها.
استغربت دقهلية في البداية، لكنها شعرت باندفاع غريب للاطلاع على محتوى الرسالة. بدأت تقرأ الكلمات بعناية، وكلما تعمقت أكثر، زادت دهشتها وفرحتها. لم تكن دقهلية وحدها هي وسيناوي، بل يبدو أن هناك فتاة أخرى تبحث عنهم. أصبحوا الآن ثلاثًا، لكن المفاجأة لم تتوقف هنا.
كان آسر يقلب الصفحة وهو مفعم بالحماس، متشوقًا لمعرفة من تكون الفتاة الثالثة وما قصتها، وكيف ستتشابك حياتها مع سيناوي ودقهلية. تدفقت الأسئلة في ذهنه: ما الذي سيحدث؟ ما دور كل من سيناوي ودقهلية؟ هل هناك مزيد من الأسرار المخفية في تلك المذكرة؟
بينما كانت تلك الأفكار تسيطر عليه، شعر جسده يضعف من التعب. السهر المتواصل وقلة الطعام استنزفته بشدة، ولم يعد لديه الطاقة لمواصلة القراءة. كان عقله يشتعل بالفضول، لكن جسده أثقلته الحاجة إلى الراحة. قرر، على مضض، أن يؤجل اكتشاف باقي القصة حتى الصباح، مطمئنًا بأن الغد يوم الجمعة، يوم الإجازة.
قبل أن يخلد إلى النوم، راودته فكرة: "هل سيتصل بي عمي زين غدًا؟ أم أنه سيظل مختفيًا كما كان طوال هذا الأسبوع؟" كانت تلك التساؤلات تحوم حوله بينما استلقى على فراشه. غياب عمه طوال الأسبوع أثار قلقه، فقد اعتاد سماع صوته بانتظام. استسلم آسر للنوم على أمل أن يحمل الغد إجابات ليس فقط عن المذكرة، بل أيضًا عن عمه الغائب.
استيقظ آسر فجأة على صوت جدته العالي يتردد في أرجاء المنزل. كانت تصرخ بصوت حاد أشبه بالخناجر تخترق الهدوء الذي كان يحاول العثور عليه في نومه:
"يلا قوم! طول الليل نايم ومفيش فايدة منك! قوم شوف وراك إيه بدل ما تفضل نايم!"
كان صوته داخله يرتجف، لكن تعود على هذا النمط من حياتها، تلك الحدة التي لا تخفف عنها أبدًا. نهض من فراشه بتثاقل، عيناه لا تزالان تبحثان عن بقايا حلمٍ لم يكتمل. تجاهل صوتها المرتفع وهو يمشي نحو المطبخ ليشرب بعض الماء، في محاولة لتهدئة نفسه.
بعد قليل، بينما يجلس وحيدًا على الأريكة في غرفة المعيشة، رن هاتفه فجأة. نظر إلى الشاشة، فإذا بالاسم يظهر: "زين". زين، صديق والده، الوحيد الذي اعتاد أن يسأله عن أحواله ويطمئن عليه دائمًا. رفع الهاتف وفتح الخط:
"آلو، عمه زين؟"
قال آسر بصوتٍ منخفض، يحاول إخفاء تعب اليوم.
أجابه زين بحنان:
"إزايك يا آسر؟ وحشتني. كل حاجة كويسة معاك؟ طمني عليك."
ابتسم آسر ابتسامة صغيرة، رغم أنه يعلم أن الحياة لم تكن على ما يرام مؤخرًا. لكنه لم يعرف كيف يخبره عما بداخله.
وتلك الجدته تجلس أمامه تستمع لما يقول بعيون تشع غضب.
"أنا بخير يا عمه زين، كله تمام. شكراً ليك إنك بتسأل."
أجابه آسر بهدوء.
رد زين بجديه:
"لو في حاجة عاوز تقولها، أنا موجود يا آسر. ما تنساش إني هنا دايمًا."
"عارف يا عمه زين، شكرًا بجد. هكلمك بعدين."
أنهى آسر المكالمة بلطف وأغلق الهاتف.
بعد انتهاء المكالمة، أحس آسر بثقل يضغط على صدره. استجمع شتات نفسه واتجه نحو غرفته، أغلق الباب خلفه بإحكام، وكأن هذا الباب هو الحاجز الوحيد بينه وبين العالم الخارجي. جلس على طرف سريره، ثم مد يده إلى المذكرة التي تركها في الليلة السابقة.
أمسك المذكرة بين يديه بحذر، كأنها مفتاح لحياة أخرى. تنهد بعمق وفتح الصفحة حيث توقف.
قلب الصفحة ببطء، وعيناه متسمرتان على الكلمات التي كانت تنتظره. عاد ذلك الفضول ليشتعل بداخله، وعاد السؤال يراوده: من تكون "الفتاة الثالثة"؟ وهل ستكمل المذكرة ما بدأته أمه، أم ستتركه يبحث عن الأجوبة في سيل من الصفحات الفارغة؟
بدأ يقرأ بحذر واهتمام، منتظرًا أن تكشف المذكرة له أسرارها.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
كانت دقهلية تغفو في هدوء، متعبة من يوم طويل من الحفظ والمذاكرة، تفيق عندما سمعت صوت الشيخ سيد، ينادي عليها بلطف. فتحت عينيها ببطء، شعرت بالراحة حينما تذكرت أنه قد حان وقت تسميع وردها.
ابتسم بفرحه،فهي دائماً تتذكر وعدها لشيخ حسان.
نهضت من مكانها واتجهت إليه، تسير بخطوات ثابتة. كان هناك صف من الطلاب، ولم يتبقَ سوى ثلاثة منهم، بما فيهم هي.
شعرت بنبضات قلبها تتسارع قليلاً، ليس خوفاً، بل رغبة في إثبات نفسها أمام الشيخ الذي أثرت كلماته في روحها بعمق.
عندما جاء دورها، جلست أمام الشيخ، متماسكة وواثقة، وبدأت تسمع وردها بصوت مملوء بالتحدي والإصرار. كان في عينيها بريق خاص وهي تقرأ، وكأن كل كلمة تحفظها تعني لها شيئًا عظيمًا.
انتهت من وردها، وانتقلت إلى زميلها محمد، الذي كان دائمًا يكمل لها تسميع ما فات.
محمدكان ينظر إليها نظرة مليئة بالدهشة، مستغرباً من التحول الذي طرأ عليها. أخيرًا، سألها بنبرة مشوبة بالاستفهام والفضول:
"هتصحي ايه النهارده؟ صفحة واحدة؟"
شعرت دقهلية بشيء من الفخر يملأ قلبها، لكنها حاولت إخفاءه بنبرة عادية، وقالت ....... [المزيد]
سيناوي... دقهلية: مع غروب الشمس، استيقظ آسر من نومه على وقع معدته الخاوية.
شعر بالجوع الشديد، فنهض من فراشه بكسل واتجه إلى الحمام ليغتسل سريعًا. بعدها، توجه نحو المطبخ بحثًا عن شيء يسد به جوعه، لكن عبثًا، لم يجد شيئًا. أحس بخيبة أملٍ وهو يتنقل بنظراته بين الأرفف الفارغة والثلاجة المغلقة، فقرر التوجه إلى جدته، رغم إدراكه لحدة استقبالها.
ما إن دخل غرفتها حتى صاحت بغضب:
"بتعمل إيه عندك؟!"
أجابها بصوتٍ خافت، لكنه يحمل في طياته انكسارًا:
"بدور على حاجة أكلها، جعان."
نظرت إليه نظرة مليئة بالكره والتذمر، قبل أن تتجه ببطء نحو الثلاجة وتفتحها بعنف. أخرجت بعض بقايا الطعام وألقته أمامه قائلة بلهجة قاسية:
"كل أحسن تموت وتجبلي مصيبة. مش ناقصة زين وقرفه على المساء. يلا خلّص أكل واغسلهم وادخل أوضتك، يلا!"
استجاب آسر لأوامرها دون أن ينبس بكلمة، كانت كلماته تذوب تحت ثقل جوعه. جلس على الطاولة وبدأ يتناول الطعام بشراسة، وكأن معدته قد نسيت طعم الطعام لزمن طويل. بعد انتهائه، قام بتنظيف الأطباق بدقةٍ كما أمرته، ثم عاد إلى غرفته كأنه كان يهرب من العالم.
بخطواتٍ هادئة، دخل غرفته وفتح درج مكتبه بهدوء، وأخرج صورة والديه. ضمها إلى صدره بشوقٍ لا يمكن وصفه، وكأنه يستمد منها القوة والحنين في آنٍ واحد. قبل الصورة برفق، كما لو كان يحيي ذكرى لن تموت داخله، ثم وضعها جانبًا.
أخذ حقيبته المدرسية وأخرج كراسات الواجب، جلس لينهى فروضه بهدوء وتركيز، غير راغب في ترك أي شيء معلق. بعد إنهاء واجباته، رتب أغراضه بعناية، ثم توجه نحو خزانته وأخرج مذكرة أمه.
جلس على فراشه، ينظر إلى الغروب من نافذته، كانت الشمس تختفي ببطء وراء الأفق، مما زاد المشهد جمالًا هادئًا. اتكأ بذراعيه على النافذة، مستمتعًا بتلك اللحظات القصيرة من السكينة، وهو يضم مذكرة بين يديه.
بعد فترة قصيرة، اعتدل على فراشه وفتح المذكرة ببطء، متأملًا كل صفحة كأنها تحمل بين طياتها سرًا دفينًا. قلب عدة صفحات حتى وصل إلى آخر ما قرأ.
قلب الصفحة ببطء، ليقرأ الكلمات المكتوبة بعناية:
"دي قصة أحلى والوردات 12 وردة من محافظات مختلفة. هتعيش معاهم حياة جميلة، زي، ما هما في نفس سني. هعرفك بيهم واحدة واحدة، يلا نبدأ."
قلب الصفحة التالية، ولم يجد سوى كلمة واحدة تحتل منتصف الصفحة:
"سيناوي."
توقف عند الاسم، مشوشًا ومستغربًا، لكنه تابع القراءة، محاولًا أن يفهم سر هذا الاسم الغريب.
.....................
في صحراء سيناء، تحت شمسها الحارقة توجد ورده امتنع عنها الماء، كادت أن تدوب فقد ابتعد راويها عنها، وتركها بمفردها هنا تجلس وحيده شارده، عينها تلمع في الشمس بلونها الجذاب كعيون جدها، وشعرها البني الحرير ووجها الصافي، فكانت عروس سيناء الجميلة، كل من رآها يعشقها ويعشق سمارها،
تجلس منتظره جدها، في لا تمتلك غيره، بعد وفاة والدها وأمها على يد الارهابين.
تمسك عصا في يدها وتلقب بها الرمال،اقترب منها عمها سليمان
وجلس بجانبها و يضع يده على شعرها، خاطبها بنبرة يملؤها الحنان:
"مالك يا بنتي قاعده لحالك ليه"
ياسمين، عند سماعها لأخبار سفر جدها، شعرت بمرارة قاسية تغمر قلبها كالشوكة:
"ما فيش يا عمي، مستنيه جدي".
نطقت بالكلمات بصوت خافت يملؤه الخيبة، وكانت عيناها تتأمل الأفق بترقب جامد.
استمدت ياسمين عزيمتها من فكرة عودته، رغم معرفتها أنه قد يكون تأخر، فكانها تُلقي بكل قلقها على أمل عودته القريب.
بصوت هادئ، مفعم بحكمة الأب الذي لم يعُد يملك قدرة التدخل في أقدار الآخرين، قال العم سليمان:
"ما انتي عرفه، هو سافر مع الشيخ عبدالله، والشيخ صالح القاهرة، علشان التكريم حفظة كتاب الله".
كانت نبرته مشبعة بالواقع، محملة بمسؤولية وحرص، وهو ينظر إلى ياسمين بتعاطف خفي، كمن يحاول أن يخفف من وقع الكلمات على قلبها المتألم.
"عرفه يا عمي، وهو قالي قبل ما يسافر".
أجابت بصوت يكاد يكون همساً، ممتلئاً بالاستياء الخفي من صمتها الطويل.
كان الألم في عينيها يتجلى، وقد جمدت على أمل خائب بأن يبقى لها جزء من الوجود الذي كانت تظن أنه في متناول يدها.
"طيب قومي من الشمس دي، صعبه عليكي، لو عوزه تقعدي، روحي تحت الخيمه هناك مع بنت عمك وبنت الشيخ صلاح".
قالها العم سليمان وهو يوجهها بنبرة مزيج من الرأفة والأمر، يدرك تماماً كيف يمكن أن تؤثر حرارة الشمس على راحتها. إلا أن نبرة صوته كانت مشوبة بالقلق الذي لم يُفصح عنه، لكونه يعلم جيداً معنى الانتظار الطويل في مثل هذه الظروف.
"لاء مش عوزة، عوزه افضل لحالي هنا، روح انتا وما تقلش عليا انا كويسه".
ردت ياسمين بصوت يعبق بالإصرار والحزن. كان قلبها يفيض بالاستقلالية التي تبحث عنها، ورغبتها في الانعزال تعكس ألمه الداخلي من الافتقار إلى الأمان والاحتواء. عيناها اللامعتان كانت تعبران عن رغبتها في أن تُركَ وحيدة، تعيش صراعها بعيداً عن العيون المتطفلة.
"على راحتك يا بنت اخويا، بس لما جدك يرجع، ليا كلام معاه"
قال العم سليمان بصوت هادئ لكن محمل بالجدية.
كان تعبيره يُظهر قلقه العميق حول حالة ياسمين، ولكنه أيضاً يعكس التزامه بالاحترام الموروث، مما يجعل صوته ينم عن حكمة وتجربة، وكان يرى فيها تلك الفتاة الصغيرة التي تحتاج إلى دعم لا ينقطع.
تركها العم سليمان ومشى بعيداً، بينما جلست ياسمين بمفردها تحت أشعة الشمس الحارقة، تجلس في صمت مضطرب. "ماشي يا جدي بقا تسبني هنا، لحالى كدا، طيب لما ترجع، انى مش هتكلم وياك تاني."
كان حديثها إلى نفسها مفعماً بالمرارة والقرار الصارم، تعبر عن مشاعر الخيبة والاستياء من وضعها الحالي.
أعادت النظر إليهم عدة مرات، عيناها تتنقلان بين المشهد الذي يمر أمامها وضحك ابن عمها، الذي كان يصل صوته بوضوح إلى مسامعها رغم المسافة.
.. كسرت العصا نصفين ووقفت بضيق، وانطلقت إليهم وعيناها لم ترى غير ضحته وهو واقف مع تلك القصيرة...، مشهد الضحك الذي لم تستطع تحمله أشعل فيها نار الغضب، فكانت خطواتها مليئة بالعناد والانزعاج.
عندما اقتربت ياسمين، تحول وجه أنس من الضحك إلى تجاعيد القلق، وبدت عليه ملامح الاستفهام والضيق. "خير يا ياسمين عوزه اي".
قالها بنبرة متجهمة ومثقلة، كمن يتوقع توجيه اتهام له، بينما كان يعاني من الانزعاج الذي يظهره الوضع الحالي.
"انتا واقف بتضحك كدا ليه معاها".
صرخت ياسمين بنبرة ممزوجة بالغيرة والاستفهام. كان غضبها يتصاعد كبركان خامد، بينما تراقب تصرفات أنس التي لا تتوافق مع مشاعرها المتأججة، مما جعل صوتها ينفجر بالتساؤل الذي يخترق صمتها.
"أنا واقف مع اختي، اي مش شيفاها، والا شيفه بس رغد".
كان رد أنس حافلاً بالتبرير، لكنه لم يخفِ القلق الذي بدأ يظهر على وجهه. كان يحاول أن يهدئ من نفسه بينما يواجه غضب ياسمين، وكأنه يضع جداراً بينه وبين عاصفة المشاعر التي اجتاحت اللقاء.
"بس انتا بتضحك مع دي، مش اختك، وبعدين انتا".
قالتها ياسمين بحدة، وكأن كلماتها كانت سكاكين تنغرز في قلب أنس. كانت تريد أن تفهم، بل أن تصرخ في وجهه بكل الألغاز التي تملأ رأسها، في محاولة يائسة لكسر الصمت الذي يشكل بينها وبين الحقيقة.
بضيق ملحوظ، أجاب أنس: "وانتي مالك، اضحك اعيط انتي عاوزه اي، مش كل لما تشوفيني تيحي تجري عليا، وتفضلي تحققي معايا، انتي اختي بلاش اشيلك من مكانتك دي، علشان ما عنديش غيرها ليكي، تمام يلا روحي العبي يا صغير".
كان صوته مشوباً بالاستفزاز والاستياء، وكأنه يحاول دفعها بعيداً عن دائرة تأثيره.
بينما كان أنس يغادر غاضباً، بدأت سميحة ورغد يتفحصان ياسمين من بعيد، وضحكهما الصاخب يملأ الفضاء.
"دارت سميحة حول ياسمين وهي توكزها في ذراعها، وتتكلم بنبرة متأخرة بسخرية، قالت سميحة:
"يا حرام كل يوم من دا". ضحكت بصوت مرتفع وهي تضرب يدها في يد رغد، مما جعل مشاعر ياسمين تتصاعد إلى قمة الانهيار.
"انتي مش بتحرمي كل يوم يهينك، وبيفهمك انك اخته، اكيد مش زي، بس اخته محرمه عليه بس، وبس انتي بقا بتحلمي باكتر من كدا، وكل دا مافيش منه فيده، علشان مش هيتجوزك يا ياسمين ريحي نفسك، ولو حصل هيكون شفقه".
قالت سميحة بصوت متعجرف، في حين كانت ضحكتها وصوتها الساخر يضيفان جرحاً آخر إلى قلب ياسمين، ويجعلانها تعيش خيبة أمل مريرة.
"ابعدي عن أنس علشان هو ليا أنا، وقريب أوي، هنتجوز، يعني ما لكيش مكان وصتنا، يلا يا سميحة، المكان دا بقا كاتم على نفسي".
قالت رغد بنبرة مليئة بالفخر والتمرد، وكأنها تخبر ياسمين بمكانتها الجديدة وتضع حداً للتحديات التي تواجهها.
"يلا حبيتي، باي ياسمين". أضافت سميحة، وقد أصبحت نبرتها تحمل توديعاً باردًا، وكأنها تحاول دفع ياسمين بعيداً عن مشهدها المزعج، وتركها في حالة من الانهيار العاطفي.
جلست ياسمين على الأرض تحت الخيمة، تبكي بحرقة، بينما اقتربت منها جدتها زينب بحنان عميق.
"مالك يا بنت مختار، حالك مش عجبني، فيكي اي".
سألت زينب بصوت ملئه القلق والاحتواء، وكانها تبحث عن سبب لتلك الدموع التي تذرف دون توقف.
"مافيش يا جدتي انا كويسة، بس جدي وحشتيني، وكنت عوزاه يرجع".
أجابت ياسمين بصوت مهزوز، تعكس كلماتها إحساسًا بالافتقاد والوحشة، وهي تحاول أن تُخفى أوجاعها في محاولة للتماسك.
"سميحة ورغد عملولك حاجه" سألت الجدة زينب بقلق متزايد، وكأنها تبحث عن أسباب مباشرة لحالة ياسمين، عسى أن تجد شيئاً يعيد لها هدوءها.
"لاء".
أجابت ياسمين بشدة، محاولة كبت مشاعرها حتى لا تكشف عن المزيد من أوجاعها.
"أمال مالك".
سألت زينب، وقد اتسعت عيناها بشعور من الإشفاق والاهتمام، حيث كانت تحاول أن تستفسر بعمق عن السبب الحقيقي لتلك الحالة.
"قولت ما فيش"
ردت ياسمين محبطة، وهي تحاول أن تبعد عن نفسها أي مشكلة إضافية.
"طب تعالي معايا يلا، نروح نصلي، ونقرأ قرآن لحد لما جدتك يرجع".
اقترحت زينب، وقد بدا في صوتها قدر كبير من الحنان والعطاء، وكأنها تحاول تقديم طوق نجاة لياسمين، لإخراجها من أزمتها النفسية.
قامت ياسمين مع جدتها ودخلوا المنزل، بعيداً عن الخيمة التي كانت تشعر فيها بالقلق. أمضت الليل مع جدتها، مستهدفةً الراحة التي لم تجدها في غيرها.
وفي صباح اليوم التالي، كانت تنتظر بقلق وصول جدها، الذي لم يصل بعد.
حين عاد الجد حسان إلى الخيمة، اكتشف ياسمين نائمة، فطلب من أنس الخروج بهدوء وجلس بجوارها. عند استيقاظ ياسمين من لمسته، احتضنته قائلة:
"جدي وحشتيني".
وقد امتلأ صوتها بالحنين والحب، محاولةً التمسك بشعور الأمان الذي كان يشع منها.
"إنتي كمان يا سيناوي".
قالها الجد بحنان، ولكن عندما نطق الاسم الغريب، استفسرت ياسمين باندهاش:
"اي الاسم دا ياجدي".
كان اهتمامها بالحقيقة العائلية يظهر من خلال عينيها المتسائلتين.
"دا اسمك، اختارته ليكي اختك، ولا اقول توئمك وشبهك".
قال الجد حسان بلهجة مليئة بالحب والحنان، كاشفًا عن تفاصيل كانت خافية على ياسمين.
تأثرت ياسمين بشدة، وكانت الدهشة والارتباك يسيطران على ملامح وجهها، حتى انفجرت بصراخ مليء بالصدمة: "بابا كان متجوزه!".
فجاء صرخها كصرخة استنكار من عمق المشاعر المخبأة.
ضحك الجد حسان بصوت عميق ومريح، بينما سحبها بلطف لتجلس بجانبه بعد وقوفها المفاجئ. بدأ يتحدث بهدوء، كما لو كان يخفف من وقع الصدمة، قائلاً:
"اقعدي بس وأنا هقولك". عينيه مليئتان بالود، وهو يهدئ من روعها ويستعد لقص القصة التي ستعيد لها توازنها النفسي.
قص عليها كل شيء بوضوح، بدءًا من خروجه من سيناء، مرورًا بما حدث في الطريق، والتكريم الذي ناله، ومقابلته بأختها كما دعا واتفاقه معها.
"دا كل اللي حصل، وهي اللي اختار الاسم دا ليكي".
أنهى حديثه بطمأنينة، مؤكدًا أن كل شيء كان بتوجيه من الأخت.
"وهي هيكون اسمها إي بقا؟". سألت ياسمين بفضول، وقد امتلأت عيناها بالأمل والحماس.
"دقهليه"، أكمل الجد حسان بتأكيد محبب.
"يعني أنا هشوفها يوم المسابقة".
قالت ياسمين بحماسة شديدة، كأنها تستعد للقاء يشبع جوعها العاطفي ويعوض فقدانها.
"أيوه، دا لو ختمت القرآن، أنا وصيت عليها الشيخ إنه يهتم بيها، ويساعدها ولو نفذت الوعد وختمت، يجبها المسابقة بأي طريقة، أصل قال إن أبوها صعب إنه يوافق إنها تسافر".
قال الجد بحماس، مشيرًا إلى أهمية الوفاء بالوعد، وكأن هذا الوعاء من الأمل هو بمثابة مفاتيح الأمل التي تفتح أمام ياسمين أبواب المستقبل.
"أنا هدعي كل يوم ربنا، إنها تنفذ وعدها وأبوها يوافق".
قالت سيناوي بعزم وإصرار، وكأن دعاءها هو السلاح الذي ستواجه به العقبات.
"وانتي بقا حصل اي معاكي". انتقل الجد حسان إلى موضوع آخر، محاولًا فهم حالة سيناوي.
"أنا". بدأت سيناوي بتردد، ثم قررت أن تفتح قلبها.
"أيوه انتي، عمك قالي وأنا داخل وكمان أنس".
قال الجد حسان بلهجة مليئة بالقلق، محاولًا أن يخفف من وطأة الحديث.
انزلت سيناوي رأسها بحزن عميق، فتقدم الجد حسان ليرفع رأسها برفق، قائلاً بنبرة حنونة:
"مالك يا قلب جدك، بتبكي ليه؟"
"أصل يا جدي اللى حصل". بدأت سيناوي في سرد ما جرى بتفاصيله، وكأنها تفرغ كل همومها وآلامها، تحدثت عن مشاعرها بصدق وعفوية، فقد كان الجد حسان ليس مجرد جد، بل صديقها قبل أن يكون ولي أمرها.
نصحها الجد حسان بابتعادها عن أنس وأخته سميحه ورغد، وأكد على أهمية الاهتمام بدروسها، حيث الامتحانات بعد أسبوعين.
وافقت سيناوي على الفور، وقد غمرتها السعادة كأنها تجد طريقًا للخلاص من مشكلاتها، وتحمل في قلبها الأمل في الغد الأفضل.
مر الوقت بسرعة، وها هي سيناوي تنتهي من آخر امتحاناتها، شعور بالإنجاز يملأ قلبها.
دخلت الخيمة وهي تنادي بصوت عالٍ، محملة بالأمل في سماع صوت جدها الحبيب.
"جدي! جدي!".
ارتفعت نبرات صوتها بفرح وهي تبحث عن وجهه بين الحضور. وقفت فجأة، عيناها تتسلقان الوجوه حتى استقرت على أنس، الذي كان جالسًا بجانب جدها. لم يكن قد ظهر منذ آخر مرة، عندما كانت تحاول تجنبه، ولم يسأل عنها بدوره.
لاحظ الجد حسان نظرة سيناوي، فأعطاها إشارة واضحة:
"تعالى يا سيناوي".
توجه أنس نحو الجد، قائلاً باستغراب:
"أي يا جدي؟"
الجد حسان بهدوء:
"في أي يا ولدي، بنادي عليها".
أنس مندهش:
"بس أنت قلت سيناوي".
الجد حسان اجابه مؤكدا:
"أيوه، دا اسمها الجديد. أختها اختارته ليها، وأنا وافقت عليه". أنهى كلامه وهو يمسك بيد سيناوي، بلمسة دافئة، ويقول: "تعالى حبيبتي".
جلست سيناوي بجوار جدها، عيناها تتفحص أنس، وقالت بضيق:
"أنت بس يا جدي اللي من حقك تقولي كدا، مش حد تاني، حتى لو أخويا".
"كويس لأنه مش عجبني، بعد إذنك يا جدي".
قالها أنس بحنق، مستديرًا ليفتح مسافة بينه وبين سيناوي.
رد الجد حسان بهدوء:
"مع السلامة يا ولدي".
ثم نظر إلى سيناوي بجدية: "تعالي هنا، ليه قلتي كدا، لابن عمك يا بنتي عيب".
"أي يا جدي، إحنا هنفضل نتكلم عنه طول اليوم؟"
ردت، وهي تحاول تغيير مجرى الحديث، مشيرة إلى أنها تريد التركيز على شيء آخر.
"لا، عملتي إيه؟"
سأل الشيخ حسان بفضول، محاولًا معرفة تفاصيل يومها.
سردت سيناوي لجدها كل ما حدث خلال اليوم، ومرت اللحظات بين الضحك واللعب، حيث انضمت إليهم الجدّة زينب، مضيفةً لمسة من الحنان والعطاء. أسرت لحظات السعادة قلب سيناوي، وقد جعلتها هذه اللحظات تشعر بالانتماء والراحة وسط عائلتها المحبة.
مرّت الأيام بسرعة بينما كانت سيناوي منشغلة بالتحضير للمسابقة، وهي تتجنب أنس وتغمر نفسها في المذاكرة والدعاء. كان قلبها يخفق بانتظار اليوم الكبير، اليوم الذي حلمت به طوال الشهور الماضية. كان اليوم الذي ستتأكد فيه من قدرتها على الوفاء بوعدها وإثبات نفسها.
في صباح يوم المسابقة، كانت سيناوي قد استعدت مبكرًا، مفعمة بالحماس والتوتر.
نظرها كان يتنقل بين حقيبتها المجهزة بعناية وبين وجه جدها، الذي بدا متحمسًا ومساندًا.
هما الاثنان كانا يعلمون أن الرحلة طويلة ومتعبة، حيث سيستغرق الوصول إلى القاهرة عدة ساعات، إلا أن الأمل في الفوز والمنافسة كان يدفعها للمضي قدمًا دون أن تشعر بالتعب.
عندما وصلا إلى القاهرة، استضافهم الشيخ مصطفى في بيته. كانت الليلة هادئة، ولكنها حملت في طياتها مشاعر مختلطة بين القلق والترقب.
نامت سيناوي بصعوبة، حيث لم يكن بمقدورها إيقاف تفكيرها في الغد؛ اليوم الذي سيجمعها بأختها التي لم ترها من قبل.
مع أول إشراقة للشمس في اليوم التالي، قفزت سيناوي من سريرها بحماس شديد، تستنشق الهواء بعمق وكأن اليوم هو بداية جديدة في حياتها. كانت ترتدي ملابسها بسرعة، وسمعت صوت جدها يناديها، فقفزت نحو الباب لتلحق به. ابتسامة سعادة لم تفارق وجهها وهي تمشي بجانب جدها نحو المسجد الذي سيعقد فيه المسابقة. قلبها كان ينبض بالحماسة، ولكن خلف تلك الحماسة كان هناك توتر خفي لا تستطيع تجاهله.
عند وصولهم إلى المسجد، امتلأ المكان بالمتسابقين والحضور. نظرت سيناوي حولها، بحثًا بعينيها عن شخص يشبهها، عن توأمها الذي لطالما حلمت برؤيتها. التفت إليها جدها ولاحظ توترها وقال بلطف: "لسه ما جاتش، الشيخ سيد لسه على وصول".
سيناوي بلهفة:
"هيتأخروا؟"
الجد حسان مطمئنًا:
"لاء، على وصول إن شاء الله. تعالى اقعدي هنا مع زمايلك".
سيناوي بتردد:
"أنا ما أعرفش حد هنا يا جدي".
ابتسم الجد وهو يشير نحو مجموعة من الطلاب:
"دول زمايلك، سلمي عليهم. أنا هروح مع الشيخ مصطفى جوه وساعة وراجع".
سيناوي بحزن طفيف:
"ماشي يا جدي".
شعرت بوحدة مفاجئة تغمر قلبها، وهي تراقب جدها يغادرها لتبقى وحيدة وسط حشد من الغرباء.
بدأت تمرّ اللحظات ببطء شديد، وكلما وصلت حافلة جديدة أمام المسجد، تدور بعينيها باحثة عن وجه تعرفه، عن أختها. لكن مع كل مرة، تشعر بخيبة الأمل، فقد كانت كل تلك الوجوه غريبة عليها. شعرت بأنها محاصرة بين الأمل واليأس، ولم يكن هناك شيء يخفف عنها.
بعد فترة من الانتظار، قررت سيناوي أن تمشي قليلاً لتتخلص من توترها. خطت خطوات بطيئة، متأملة في الأجواء من حولها، إلى أن لفت انتباهها بائع غزل البنات، وهناك فتاتان تشتريان منه. دون أن تدري، اندفعت نحو البائع بسرعة، واصطدمت بإحدى الفتيات دون قصد، مما جعلها تعتذر بخجل.
بمجرد أن أخذت غزل البنات، شعرت بالسعادة تغمرها وكأن شيئًا بسيطًا قد أعاد لها الأمل، ولكن تلك الفرحة لم تدم طويلًا؛ فقد ضاعت بين الزحام ولم تعرف كيف تعود إلى المسجد. بدأت تنظر حولها بتوتر، متمنية أن تجد طريق العودة.
في تلك اللحظة، رأت الفتاتين اللتين اصطدمت بهما في السابق تتجهان نحوها."
شعرت بالاطمئنان. ولا تعرف لماذا؟ فقد ارتاحت لهم.
التقت عيناهما، وكان الشعور بالاندهاش ممزوجًا بالفرح الذي لا يوصف. سعادة سيناوي كانت غامرة، وكأنها قد وجدت جزءًا مفقودًا من روحها.
..................
أنهى آسر قراءة قصة "سيناوي"، لكنه لم يشعر بالرضا الكامل، بل ازداد فضوله. تملكه إحساس بالارتباك وهو ينظر إلى المذكرة بين يديه، فتساءل بصوتٍ خافت: "أين باقي القصة؟ لماذا كتبت أمي نصفها فقط؟ أريد أن أعرف من تكون دقهلية؟ وكيف يمكن أن تكون توأمها؟"
في تلك اللحظة، شعر وكأن المذكرة تحمل أسرارًا أكثر مما كان يتصور. بقلبٍ مفعم بالفضول، بدأ يقلب الصفحات مجددًا، باحثًا عن أي إشارة أخرى. قلب الصفحة التالية، لكنه لم يعثر على شيء، كانت الصفحة فارغة تمامًا. حاول ألا يستسلم للإحباط وواصل تقليب الصفحات بحماس متزايد.
فجأة، رأى كلمة واحدة مكتوبة بخط واضح في منتصف الصفحة التالية: "دقهلية."
ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، وفرح بشدة وكأن تلك الكلمة الصغيرة كانت المفتاح الذي ينتظره. انتابه شعور بأن المغامرة بدأت بالفعل. بدون تردد، قلب الصفحة التالية بشغف ليكتشف ما تخفيه المذكرة عن "دقهلية" وقصتها.
.................
في أحد الأحياء الشعبية، كان هناك بيت كبير يمتزج فيه الصخب بصمت أركانه.
في غرفة مشتركة، تجلس وردة حزينة، الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعاً، وقد أظلمت عينيها بدموعها. تأمل كتابها بوجه شاحب، نالت منه صفحاتها المتجعدة من كثرة الاستخدام. كان الامتحان النهائي للعام الدراسي قد حلّ على أبواب الصباح، وهي في الصف الثالث الإعدادي. تئن من تحت وطأة الوقت الذي يتسرب كالرمل بين أصابعها، يحطم حلمها في أن تصبح طبيبة، حلم يوشك على التلاشي بسبب تهاونها وتأجيلها.
بصوت عالٍ، انفجرت تلك الوردة بالبكاء، دموعها تنهمر على وسادتها، قلقها يشتد كلما تذكرت حجم المذاكرة المتراكمة.
أطلق صوت نحيبها صرخات صامتة عبر أركان البيت، كأنها تدعو المساعدة في زمن ضائع.
دخلت الأم منال، قلقها يظهر في كل حركة من حركاتها، عيونها المتعبة تبحث عن الكلمات التي قد تسهم في تهدئة ابنتها. لقد نصحتها مراراً، لكنها لم تصغِ، ظنت تلك الوردة أن والدتها لا تحبها، بسبب شدة نصائحها وإصرارها. ولكن الآن، بعد أن ضاع الوقت، تغيرت مشاعر منال من الغضب إلى الضعف. حاولت أن تجد الكلمات الصحيحة، لكن محاولاتها كانت دائماً تبوء بالفشل.
جلست الأم بجانب ابنتها، محاولة أن تمنحها دفء حضورها. بلهجة حانية، قالت:
"مالكِ، في أي؟"
أجابت دقهليه بصعوبة، بين شهقاتها ودموعها:
"الوقت خلص مني، وأنا لسه ماخلصتش مذاكرة، وكل اللي ذاكرته نسيته."
تنهدت منال وقالت بحنو:
"طيب قومي صلي ركعتين وادعي ربنا في صلاتك، كدا بخشوع، وإن شاء الله هتفهمي. يلا، وبعدين أنا قولت لك ذاكري، بتقولي أي، أنا بذاكر اهو، أنا بعمل، أنا عارفة أنا بعمل إيه، مش دا كلامك؟"
زاد بكاء دقهليه، دفنت وجهها في فراشها، بينما وضعت الأم يدها على شعرها الأسود الطويل المتموج، وقالت بحزم لطيف:
"يلا قومي استحمي، عشان تفوقي، وتصلي، وتعالي اسرح لك شعرك، وتأكلي لقمة، وبعدين تذاكري ساعتين، وتقومي تنامي، وأنا هصحيكي قبل الفجر بساعة، تصلي وتفضلي تذاكري لحد معاد الامتحان."
أجابت دقهلية بنبرة مكتئبة:
"مش هتلحق."
ردت الأم بصوت مشجع:
"لاء، هتلحقي، استعيني بالله، يلا يا حبيبتي قومي، بلاش تتعبي قلبي معاكي."
لم يتوقف صوت البكاء، وشهقاتها تتعالى. أمسكَت الأم يد ابنتها برفق، قادتْها إلى الحمام، ووجهت إليها نصائحها بصوت حازم:
"يلا خلصي، ومتعيطيش في الحمام، أحسن والله العظيم هادخلك بالمقشة."
أجابت دقهليه بصوت باكٍ:
"حاضر."
ردت الأم بلهجة تهدئ من روعها:
"حاضر، وانتي بتعيطي يا حبيبتي."
ردت دقهلية بحزن.
"حاضر يا ماما، هجيب هدومي."
أجابتها الأم، وهي تذهب لتحضر ملابس لها:
"ادخلي وأنا هجيبلك."
عادت الأم، وهي تنادي على دقهلية، وصوتها مفعم بالقلق:
"يلا يا ياسمين بسرعة، لسه سمعاكي بتعيطي ليه؟"
دقهلية، وهي تخرج من الحمام، ردت بصوت شبه هادئ:
"مش بعيط، خلاص، أنا طالعة."
توجهت الأم لإعداد الطعام لأطفالها، بينما أبنها الأكبر قادم من المدرسة، في الصف الأول الثانوي. بعد لحظات، خرجت دقهلية نحو أمها، تخاطبها بنبرة هادئة:
"أنا خلصت، هروح أصلي."
بعد أن انتهت من الاستحمام، خرجت إلى المطبخ حيث كانت أمها، منال، قد أعدت لها العشاء. وقفت أمام أمها، التي تقدمت إليها وهي تحمل الاطباق، قالت لها بحنان:
"يلا يكون خلصت الأكل؛ تاكلي وأنا بعملك شعرك."
أجابت دقهلية بصوت متعب:
"ماشي."
توجهت دقهلية إلى غرفتها، حيث كانت أخواتها الصغرى يلعبن. نادت على ريهام، أختها الصغيرة، وقالت:
"ريهام، خدي سعاد ونور وريم وخرجي بره، عايزة أصلي."
ردت ريهام، وهي تقفز بمرح:
"حاضر، بس بسرعة، عايزة أكمل لعب."
أجابت ورده بنبرة حازمة:
"يلا، اخرجي بلا لعب، يلا يا أختي، نقصه هي."
اعترضت ريهام بشيء من التذمر:
"إيه، مش خلص امتحانات؟ وبكره هكبر زيك علشان هروح الإعدادي."
قالت دقهلية بصوت جاد:
"انتي مش خلصتي."
ردت ريهام بتحدٍ:
"أيوه، خلصت."
صرخت دقهلية، وهي توجه نداءً إلى والدتها:
"ماما، شوفي بنتك مش عايزة تخرج."
أجابت الأم بصوت صارم:
"ريهام."
"نعم، يا ماما."
الأم، وهي ترفع صوتها أكثر:
"هتخري ولا أجيلك؟"
أجابت ريهام، وهي تتوجه إلى الخارج مع أخواتها:
"هخرج، يلا يا سعاد."
بدأت سعاد بالاعتراض:
"عاوزة ألعب."
فأجابت ريهام، وهي تسحب سعاد بيدها:
"أنتي حرة، لما تتضربي."
ركضت ريهام مع أخواتها إلى الخارج، تاركة دقهلية في هدوء نسبى. ريهام التي كانت تبلغ من العمر اثني عشر عاماً، وسعاد تسع سنوات، ونور سبع سنوات، وريم خمس سنوات.
انتهت من صلاتها. وخرجت كي تتناول طعامها. وعندنا انتهت أمها من تمشيط شعرها، قامت كي تذاكر قليلا.
بعد فتره وجيزه؛ تدخل الأم منال، وتقف بجوارها وهي تخاطبها:
"يلا قومي نامي' والفجر تكملي يلا"
إستمعت لكلام أمها، وقامت كي ترتاح قليلا.
وضعت رأسها على الوسادة وغطت في نوم عميق حتى الفجر.
قامت قبل أمها،بعد أن انتهت دقهلية من صلاتها، خرجت لتناول طعام الإفطار الذي أعدته والدتها، منال. جلست دقهلية على الطاولة، وابتسمت الأم قائلة:
"ذاكرتي كويس؟"
أجابت دقهلية:
"أيوه، يا ماما، خلصت."
ردت منال بتركيز ودعم:
"أيوه، امسكي، كلي براحتك. المدرسة مش بتعدى؛ دا خطوتين، وركزي كويس، واعملي اللي عليكي، وسيبي الباقي على ربنا."
قالت دقهلية، وهي تنهض:
"حاضر، أنا خلصت. راحة مع السلامة."
ردت منال، وهي تودع ابنتها:
"في رعاية الله، يا بنتي. ربنا ينجحك أنتِ وكل مسلم، يا رب."
مرت ساعات قليلة، وعادت دقهلية إلى البيت، مغمورة بفرحها، وقد تأكدت من نجاحها. رحبت الأم بفرحها، وقالت لها:
"يلا، غيري، وقعدي ذاكري. لسه عندك كم امتحان."
أجابت دقهلية:
"بعد بكره جبر وإنجليزي، وآخر يوم دراسات ودين."
قالت الأم منال، وهي تجهز نفسها للقيام:
"يلا، روحي ذاكري."
أجابت دقهلية:
"لا، أنا هروح المكتب الأول، أسمع، وبعدين أجي أذاكر."
قالت منال، بتفهم:
"ماشي."
دخلت دقهلية إلى غرفتها لتغير ملابسها، وأخذت مصحفها، متجهة إلى الكتاب لحفظ كتاب الله. بعد فترة قصيرة، دخلت إلى المكتب، وقفت في دورها لتسمع للشيخ، وكان هناك الكثير أمامها. جلست على الأرض، تراجع ما حفظته، تسارع الزمن، وهي تتمنى أن يأتي دورها بسرعة.
تجولت بذاكرتها في الأيام القليلة الماضية، وتذكرت كيف تغيرت حياتها بفضل هذا الشيخ الجليل. كل شيء بدا مختلفاً الآن، فقد جاء الوقت الذي ستضع فيه لمسات جديدة على مستقبلك.
...................
كان الصياح يملأ الأجواء في البيت، وصرخات ياسمين تتعالى في كل أرجاء المنزل، متسربة من داخل غرفتها. منال، الأم، تتقدّم نحوها، مشبوبة بالغضب، ويدها ترتفع لتصفع وجه ابنتها بقوة، مما جعلها تقع على الأرض. كانت منال تلتقط شعر ياسمين وتضغط بقبضتها، متفجرة بالحنق:
"إيه، إيه، أنتي مفكرة نفسك كبرتي عليا ولا إيه؟ شوية العيال اللي ماشية معاهم دول، وحيات اللي جابوك، لو لمحتك بتكلميهم تاني لأموتك. سمعه؟"
استجابت ياسمين، بينما دموعها تتساقط بحرقة، بصوت متردد:
"هما مش وحشين، وهكلمهم."
أضافت منال بغلظة، وهي تشد شعر ابنتها:
"أنتي بتردي عليا يا كلبة؟ وطيب خذي بقى."
أجابت ياسمين، وهي تتألم:
"آه، آه، حرام عليكي. إنتي بتكرهيني كدا ليه؟ آه، علشان مش بتحبي العلية، وأنا شبهة كرهتيني. أنا عارفة إنك عمرك ما حبّيتيني."
ابتعدت منال عن ابنتها، والصدمة تعلو وجهها. ثم نطقت بحزن، تنفث ما في صدرها:
"أنا، يا ياسمين، بكرهك؟ ليه؟ عملتلك إيه علشان تفكري كدا؟ علشان خايفة عليكي، وعوزاكي تكوني ناجحة. أبقى بكرهك؟ وهما اللي بيحبّوك، مش كدا؟ وعايزينك تتجوزي بدري بدري زي عيالهم، وأنا عايزاكي تكوني دكتورة، بلاش، يا ستي، مدرسة. أي حاجة، المهم تتعلمي. الجهل وحش. أنا قدامك، ما حدش علمي. نفسي اتعلم. قولت يا بت، تعالى على نفسك، واقفي في ظهر عيالك دول اللي ليكي. هما حيقوا اللي انتي ما عرفتيش تعمليه، ولا حد رضي يعملولك دا جزاتي. عايزاكي تكوني نظيفة، تتجوزي جوازة نظيفة. شوفيني، وشوفي خالتك. شوفي الفرق. شوفي أبوكي بيعمل إيه فيا وفيكم، وشوفي أزواجهم بيعملوا إيه. العلام هما اتعلموا، أقل وحدة فيهم مش محتاجة جوزها يصرف عليها، بتشتغل وبتصرف على نفسها. وهوا اللي بيحتاجها. عايزاكم تكونوا أحسن منهم كمان. وإنتي عايزة ترمي نفسك في الأرض، ماشية مع شوية ناس، مش بتفكر غير في الجواز والحب والهيافة. وهتعملي إيه في الامتحان اللي بعد أسبوعين دا؟ وهتعملي إيه، وإنتي مش بتفتحي كتاب؟ وتقولين بضربك ليه؟ دا هكسر عضمك، ويلا على المكتب، ما تقعديش في الدار، يلا."
صرخت ياسمين، وهي تمسح دموعها:
"مش رايحة، مش عايزة أروح، أنا كبرت. هروح أعمل إيه؟ هقرأ من هنا، في البيت، مش راح مكان، هيه."
صرخت منال، وهي تتوعدها:
"يامين بالله إن ما خرجتي دلوقتي وروحتي، لأقوم أخلص عليكي النهاردة. أصل إنتي قليلة الأدب، وعايزة تتربي من أول وجديد."
دخلت ياسمين إلى المطبخ، وهي تبرطم بكلمات غاضبة، صاحت الأم منال:
"إنتي بتعملي إيه عندك جوة؟"
أجابت ياسمين، وهي ترتب الأكل:
"هاكل، إيه، ما كلتش كمان."
ردت منال، وهي تتصاعد غضباً:
"اطفحي ويلا غوري."
أخرجت ياسمين الزيت ووضعته على النار، غير منتبهة أن الزيت أوقعته على يدها، فصرخت بقوة. ركضت منال إليها، ممسكةً بيدها المصابة، ووضعتها في الماء المثلج، ثم اصطحبتها إلى الوحدة الصحية.
كان الحرق من الدرجة الأولى، وسوف يلتئم قريباً مع العلاج المناسب.
عادت منال إلى المنزل، وأعطت ياسمين المصحف، قائلة:
"يلا على المكتب."
أخذت ياسمين المصحف، وسارت بصمت، كانت تمشي قليلاً وتوقف كثيراً حتى وصلت متأخرة جداً. كان الجميع قد انتهى من التسميع ويجلسون حول الشيخ، وكان هناك عدد كبير من المشايخ أيضاً.
كان شكلهم وملابسهم غريبين عليها، وشعرت بالقلق من مواجهة هذا العدد الكبير.
وقفت ياسمين بعيداً في زاوية الغرفة، منتظرةً إشارات الشيخ. بعد لحظات، أشار لها الشيخ بالوقوف على جانب، وأرسل إليها زميلًا أكبر منها بقليل، فقد كان يفوقها في عدد أجزاء القرآن التي حفظها، وإن كان ليس في السن. وقف زميلها أمامها، مزمجراً ومتجهم الوجه، ونطق بغضب:
"اقعدي علشان أسمعلك، ناقصك أنا أف. أنا ما صدقت أخلص، والله لو غلطي غلطة واحدة، لأقوله إنك مش حافظه. عاوز أروح أكمل الحفلة، يا باي."
أجابت ياسمين، وهي تحاول ضبط أعصابها:
"بقولك إيه، أنا على آخر نقطة. وبعدين والله، هروح أقول للشيخ على كلامك دا، وشوف هو هيعمل فيك إيه قدامهم. طب أنا إيدي اتعورت، وكنت عند الدكتورة علشان كدا تأخرت، إيه بقى حجتك على كلامك دا؟"
رد زميلها بحدة، وهو يضغط على أعصابه:
"اسكتي يا بت، واخلصي سمعي. عارف إن لسانك طويل، يلا قولي."
بدأت ياسمين تتلو ما تحفظه، ولكنها كانت مرتبكة، ولم تكن قد حفظت بشكل كامل. حاولت معه كثيراً رغم تذمره، لكنه كان غير صبور، فقرر أن يتركها ويتوجه نحو الشيخ قائلاً:
"مش حافظه."
كان يجلس بجوار الشيخ شيخ ذو لحية بيضاء وعيون عميقة، جميلة، لا تعرف لونها. نظرت ياسمين إلى الشيخ باهتمام واستغراب، فابتسم لها الشيخ الآخر وأشار إليها برفق. عندما همَّ الشيخ بالخروج، لحقه الشيخ الأكبر وهو يقول:
"بعد إذنك يا شيخنا."
رد الشيخ، وهو يلتفت إلى الشيخ حسان:
"اتفضل يا شيخ حسان."
في تلك الزاويه هادئة تحت ضوء خافت يتراقص على جدرانها القديمة،
جلس الشيخ حسان بوجهه المتجعد الذي يحمل سنينًا من الحكمة والتجارب، إلى جوار الشيخ سيد. كانت ياسمين واقفة بجوارهم، عينها على الأرض، وقد أطبق الصمت على شفتيها. كانت تحاول أن تخفي توترها، لكن اهتزاز أطرافها الخفيف كان يفضح ما بداخلها.
الشيخ بحركة بطيئة ووقار، نظر إلى الشيخ حسان وقال بصوت منخفض يحمل في طياته احترامًا عميقًا:
"تفضل يا شيخ حسان."
ابتسم الشيخ حسان بهدوء، ابتسامة كانت تحمل مزيجًا من الحنان والاحترام، وقال بصوت هادئ ولكنه مليء بالقوة: "غصب عني سمعت حديثك مع هذا الفتى. جلوسي جوراكم كان بيخليني أسمع كل كلمة، وتسمح لي بأن أتكلم معاها قليلاً؟"
تردد الشيخ لثوانٍ، ثم أومأ برأسه وقال بإيجاز:
"تفضل."
لكن الشيخ حسان، بشفتيه المتحركتين بخفة، أضاف: "يستحسن على انفراد."
مرة أخرى، أومأ الشيخ موافقًا وأشار بيده إلى زاوية الغرفة وقال:
"هنجلس هنا."
نادى الشيخ على الفتى محمد الذي كان واقفًا عند الباب، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الاهتمام والحرص على تنفيذ الأوامر. "محمد، هات كرسي للشيخ حسان."
تحرك محمد على الفور، جلب كرسيًا ووضعه في المكان الذي أشار إليه الشيخ. كل هذا كان يجري أمام عيني ياسمين، التي كانت تراقب كل شيء دون أن تجرؤ على رفع رأسها. كانت تشعر بثقل كبير على كتفيها، وكأن نظراتهم المثقلة بالأسئلة قد زادت من وزن العالم على روحها.
جلس الشيخ حسان بهدوء، ثم طلب كرسيًا آخر لها لتجلس بجواره. محمد أطاع دون تردد، ووضع الكرسي بجانب الشيخ حسان.
نظر الشيخ حسان إلى ياسمين بعينيه اللتين تشعان بحكمة العمر وقال بلطف:
"اقعدي يا بنتي."
رفعت ياسمين رأسها ببطء، وعيناها تلمعان بخوف وقلق، وقالت بصوت خافت:
"عليه."
بابتسامة تشجيع من الشيخ حسان، قال:
"أيوه، يلا اقعدي."
جلست ياسمين بتردد، ويديها ترتجفان قليلاً، وكأنها تخشى أن يقرأ الشيخ حسان أفكارها المبعثرة.
"اسمك إيه بقى؟"
سأل الشيخ حسان بصوت دافئ.
همست ياسمين وهي تحاول أن تخفي ارتباكها:
"ياسمين."
ابتسم الشيخ حسان ابتسامة واسعة، وكأن هذا الاسم قد أضاء شيئًا في قلبه، وقال: "اسمك جميل، تعرفي إن اسمك على اسم حفيدتي؟"
نظرت ياسمين إليه باندهاش، وعيناها اتسعتا قليلاً، وقالت: "بجد؟"
ضحك الشيخ حسان بخفة وأجاب:
"أيوه، وضحك عليكي ليه؟"
احمرّ وجه ياسمين من الحرج، وكأنها شعرت بالخجل من نفسها، وقالت بصوت منخفض: "مش قصدي بس..."
قاطعه الشيخ حسان بلطف: "بس إيه؟"
تنهدت ياسمين ببطء، وكأنها تحمل همًا ثقيلًا على صدرها وقالت:
"أنا مش بحب اسمي أصلاً."
نظرة الشيخ حسان أصبحت أكثر دفئًا، وقال بصوت مفعم بالعاطفة:
"ليه كده بس؟ دا اسم جميل، دا أنا بنفسي اللي مختار الاسم دا لحفيدتي."
أحست ياسمين بأن هذه الكلمات تحمل دفئًا غريبًا يخفف من حدة مشاعرها المتضاربة، وقالت وهي تحاول أن تخفي ابتسامتها:
"يعني زي..."
لم يكمل الشيخ حسان جملته، بل نظر إليها مباشرة وقال بحكمة:
"إزاي بقى؟"
ردت ياسمين بصوت منخفض وكأنها تتحدث إلى نفسها: "علشان جدي هو اللي مسميني."
ضحك الشيخ حسان ضحكة قصيرة وقال بتقدير:
"فعلاً، تبقى زيك. وتعرفي إن في حاجات كمان مشتركة بينكم غير اسمك؟"
نظرت ياسمين إليه بتساؤل، وقالت:
"إيه هي؟"
أخذ الشيخ حسان نفسًا عميقًا وقال بصوت متزن:
"عنادك وعصبيتك. طريقة كلامك مع محمد زميلك من شوية، ونظرتك ليه، فكرتني بيها أوي، كأنها هي اللي واقفة قدامي."
لم تستطع ياسمين أن تخفي ابتسامة صغيرة تسللت إلى شفتيها وقالت بخجل:
"أنا شكلي هحبها أوي."
ابتسم الشيخ حسان بحنان وقال:
"وهي كمان هتفرح أوي إن في حد زيها."
أحست ياسمين في تلك اللحظة أنها قد وجدت شيئًا كانت تفتقده بشدة، شيئًا يشبه الدفء العائلي الذي لطالما حلمت به، وكأن الشيخ حسان قد نجح في بناء جسر من الثقة بينها وبينه، بل بينها وبين نفسها.
نظرت ياسمين إلى الشيخ حسان بنظرة حائرة، وقالت بصوت يحمل خيطًا من التردد: "إنتَ من فين يا شيخ؟ أصل كلامك غريب شوية... وكمان شكلك."
ضحك الشيخ حسان ضحكة قصيرة، مليئة بالود والتسامح، وقال بصوت رزين:
"أنا من سيناء."
تغيرت ملامح ياسمين فجأة، وبدت الابتسامة تلمع على وجهها كأنها وجدت شيئًا مألوفًا بين غموض الكلمات، وقالت بحماس:
"بجد؟"
أومأ الشيخ حسان برأسه بثقة، وقال بنبرة لا تخلو من الدفء: "أيوه، مالك وقفتي ليه كده؟ وإيه سر الفرحة دي؟"
شعرت ياسمين بتدفق مفاجئ من المشاعر داخلها، ذكريات قديمة ربما أو أحلام كانت قد دفنتها في قلبها الصغير. قالت بصوت مليء بالفضول:
"يعني بتشوف الضباط على طول، مش كده؟"
ابتسم الشيخ حسان بحزن خفيف، وقال ببطء:
"أيوه، وابني مختار... أبو ياسمين، كان متطوع في الجيش."
سكت الشيخ للحظة، كأنه يستجمع قواه ليتابع، بينما عينا ياسمين امتلأتا بتساؤلات لا تنتهي. استجمعت شجاعتها وسألته بحذر:
"قصدك إيه بـ كان؟"
تنهد الشيخ حسان بصوت عميق، شعرت معه ياسمين بأن ثقلًا كبيرًا قد انزاح عن صدره. قال بنبرة ثقيلة تعكس عمق الحزن في قلبه:
"اقعدي الأول."
ترددت ياسمين لوهلة، ثم جلست بهدوء، وقد تملكتها مشاعر مختلطة بين الترقب والخوف مما سيقوله. تابع الشيخ حسان بنبرة تحمل مزيجًا من الحزن والفخر:
"ابني استشهد وهو في الخدمة. الإرهابيين هجموا على الكمين، وماتوا كلهم من سنتين. وياريت كده وبس، لأ، في ناس كتير من أهالي سيناء ماتوا بسبب الهجوم، ومنهم سعاد، مرات ولدي مختار، ماتت بعديه بأسبوع."
وضعت ياسمين يدها على قلبها، وهي تهمس بحزن:
"الله يرحمهم. يعني هي دلوقتي يتيمة."
ارتسمت على وجه الشيخ حسان نظرة حازمة، وكأن كلمتها أيقظت فيه إحساس المسؤولية العميقة تجاه حفيدته. قال بلهجة قاطعة: "يتيمة وأنا موجود؟ كيف؟ أنا أبوها وأمها والدنيا كلها."
أحست ياسمين بالخجل، وكأنها قد تسببت دون قصد في جرح مشاعره. قالت وهي تحاول إصلاح ما بدر منها:
"مش قصدي، آسفة... ربنا يخليك ليها."
تبدلت ملامح الشيخ حسان إلى مزيج من الحنان والدفء، وقال بلطف:
"عندك كام سنة يا بنتي؟"
ردت ياسمين بصوت خافت: "15 سنة."
ظهرت على وجه الشيخ حسان ابتسامة مفاجئة، وكان يحاول كتم ضحكة غير متوقعة، وقال ممازحًا:
"إنتِ بتضحكي على إيه؟"
تلعثمت ياسمين وهي تحاول أن تفهم سبب ضحكته وقالت: "قصدك يعني علشان جسمي مليان وسني صغير؟"
هز الشيخ حسان رأسه نافيًا، وقال وهو يبتسم:
"لأ يا بنتي."
لم تستطع ياسمين كتمان فضولها أكثر، فسألته بصوت مليء بالاستغراب:
"أمال إيه؟"
أجابها الشيخ حسان بهدوء: "علشان هي قدك بالتمام."
فتحت ياسمين عينيها على وسعهما وقالت بذهول:
"بجد؟"
ابتسم الشيخ حسان وأومأ برأسه وقال:
"أيوه، عندها 15 سنة هي كمان."
سألت ياسمين بحماس:
"هي مولودة إمتى؟"
رد الشيخ حسان وهو يتذكر يوم ولادة حفيدته:
"يوم 3/8."
قالت ياسمين بسرعة وكأنها تتحدث مع نفسها:
"آه هي."
لاحظ الشيخ حسان حماسها المتزايد، فمال نحوها وقال بحزم:
"صوتك يا بنتي، المشايخ بيبصوا علينا."
تلعثمت ياسمين وهي تشعر بالإحراج، وقالت بصوت منخفض:
"آسفة، والله آسفة."
أومأ الشيخ حسان برأسه وقال برفق:
"اقعدي."
جلست ياسمين مرة أخرى، لكن الفرحة التي كانت تغمر قلبها لم تتوقف، وقالت وهي تبتسم: "علشان في حاجة كمان مشتركة بينا."
رفع الشيخ حسان حاجبيه متسائلًا وقال:
"وإيه هي بقى؟"
قالت ياسمين بفرح واضح: "يعني أنا وهي توأم... اتولدنا في نفس اليوم."
ابتسم الشيخ حسان بحرارة، وقال مداعبًا:
"يبقى أنا كمان جدك، وهتسمعي كلامي، بس بشرط."
ردت ياسمين بسرعة وبحماس: "موافقة عليه!"
ابتسم الشيخ حسان بمكر وقال: "مش لسه تسمعيه الأول؟"
قالت ياسمين بثقة:
"موافقة عليه من غير ما أسمع."
ضحك الشيخ حسان وقال: "إنتِ في الجزء الكام؟"
أجابت ياسمين بتردد:
"التاني."
ارتسمت على وجه الشيخ حسان ملامح العتاب وقال بلطف:
"ليه كده؟ هزعل منك. هي بقى أشطر منك وختمته كله مرتين."
ردت ياسمين بتحدي:
"أنا هسبقها وهختمه أكتر منها، وأكون أنا الأول."
ابتسم الشيخ حسان بفخر وقال:
"يلا وريني همتك. ودا شرطي إنك تختمي القرآن في أسرع وقت قبل رمضان، علشان هيكون في مسابقة في مصر، وهي هتكون فيها. وأعرفكوا على بعض. قولتي إيه؟"
أومأت ياسمين بحماس، وعيناها تلمعان بالتصميم، وشعرت في تلك اللحظة أنها قد وجدت في الشيخ حسان شيئًا لم تكن تعلم أنها تبحث عنه؛ مرشدًا وروحًا حانية، تقودها نحو طريق أكثر وضوحًا وثقة.
أجابت بحزن وخوف:
"بس رمضان بعد ست شهور،هلحق إزاى"
تحدث الشيخ حسان بنبرة مشجعه مليئة بالحنان والإصرار:
"لاء هتلحقي، انا هقولك ازاي تنظمي وقتك، بس قبل اي حاجه تعالي نحضر الحفله"
سألته باستغراب:
"ايوه دي حفلة اي"
الشيخ حسان رد عليها بحنان:
"دا مولد النبوي الشريف، وكمان في اربع ختموا القرآن،وفي حفله صغيره، كدا ليهم بعد آذان العصر"
سألته بخوف والدموع تملأ عيناها و الحزن مختلط في نبرة صوتها:
"انت هتدخل،مش كدا"
فهم الشيخ حسان مقصدها فقال بحنان وهو يمسك يدها:"
أكيد هدخل،بس وانت معايا،وبعدين بعد الحفلة، عاوز اتكلم معاكي،وتحكي عن اصابة ايدك،وعن حزن اللي في قلبك، والخوف اللي في عينك"
أنزلت رأسها بأسى وحزن وقالت:
"دي حكاية طويلة... اوي"
ابتسم لها بحنان وقال:
"وأنا جاهز اسمعها كلها بعد الحفلة يلا بينا"
يمسك بيدها بأحكام، وهو يدخل الساحه الكبيره مره اخري،جلس في مكانه مره ثانيه،و اجلسها أمامه ابتعد الفتاه قليلا كي تسمح لها بالجلوس،تحت استغراب جميع الطلاب،فكانت تجلس في مقدمة الصف الاول،امام قدمه.
تم توزيع الهدايا،والحلوى على الجميع.وكان لها نصيب أكبر،رأت أختيها الصغيرتان في آخر صف،ذهبت لهم وأخذتهم ومعها في الأمام.ابتسم لها الشيخ وأعطى لكل واحده حصتها من الحلوي والهدايا،
رغم ان الهدايا كانت المتفوقين،لكنه أعطى لها كنوع من التشجيع.
رفع أذان العصر نزلوا للمسجد وبعد انتهاء من الصلاه أقيمت الحفله بداخل المسجد، فكانت جميلة جدا مليئة بذكر الله وأصوات المشايخ الرائعة في التلاوي، تم توزيع الهدايا لهم والفرحة تعم المسجد بأكملة.
في تلك الزاوية البعيدة من المسجد، حيث تجتمع الروحانية والسكون في مكان واحد، كان الشيخ حسان يجلس بهدوء على كرسيه الخشبي المتين، وتحيط به هالة من الهيبة التي تشع من وجهه الهادئ وعينيه الثاقبتين. كانت ياسمين تجلس أمامه، تشعر بمزيج من الفضول والقلق يتصارع داخلها، فهذه المرة الأولى التي تتحدث فيها مع رجل بمثل هذه الخبرة والحكمة. كان شعورها أشبه بمن يقف على حافة عالم مجهول، لا يعرف ماذا ينتظره.
تبادلا الحديث بحرية أكبر، وتنامى بينهما شعور بالراحة والانفتاح. كانت ياسمين تشعر بأنها وجدت شخصاً يمكنها أن تثق به وتفتح له قلبها.
تقدم الشيخ حسان منها، وقدم لها هديه كانت تنظر له
باستغراب.
"دا ايه"
الشيخ حسان بحنان:
"دا مصحف كان لابني مختار، كان معاه وقت الاستشهاد، علشان كدا تلاقي عليه دمه، انا بقرأ فيه، وما فيش معايا أغلى منه، علشان كدا، دا هديتك، هأخدها منك يوم المسابقة، تكوني ختمتي القرآن."
عندما قدم لها الشيخ حسان المصحف، شعرت بأن حياتها قد تغيرت. لقد أصبحت تحمل مسؤولية جديدة وكأنها وُلدت من جديد.
وعدته بصوت مليء بالإصرار: "أوعدك إني أختمه قبل المعاد كمان."
تنفس بعمق ثم أضافت:
"بس المصحف دا هيفضل معايا لحد لما اجيلك بنفسي"
الشيخ حسان باستغراب:
"هتيجي فين"
ياسمين بجديه وعزم:
"سيناء وقتها بس هرده ليك"
الشيخ حسان بحب ونبرة مشجعه:
"وانا هستناكي يا ياسمين"
"بس هتجي بس علشان تجبيه"
تغمض عيناه وتتذكر حلمها ثم تنفست بهدوء وقالت بعزيمه:
"لاء علشان هحقق حلمي، وأكون دكتورة، واشتغل هناك"
نظر إليها الشيخ حسان بعينيه اللتين تملأهما الحكمة، وقال بهدوء:
"وأنا هستناكي يا دكتوره. ودي كمان حاجة مشتركة بينكم"
ثم، وكأنهما جزء من قصة مشتركة، قالت ياسمين بابتسامة:
"قولها إنها هتوحشني، وبتمني اليوم دا يجي بسرعة، ونتقابل."
ابتسم الشيخ حسان وقال برقة:
"السلام وصل، وأنا مستنيكي... سلام يا ياسمين."
ردت عليها بدعابه ومكر:
"دا ليها ولا ليها"
ابتسم لها بهدوء، فنطقت مع ابتسامة جميلة:
"يعني لازم تفرق بينا، مثل نادي عليا ب دقهليه، وانا قهولها يا سيناوي"
ضحك بصوت عال، التفت المشايخ على صوته،فقال لها:
"حلو الاسم دا، أنا هقولها عليه
سلام يا دقهليه"
دقهليه بحزن على فراقة:
"سلام يا شيخنا"
وقفت دقهلية لتغادر، لكن قلبها كان مليئًا بالأمل والتطلع إلى المستقبل. كانت تشعر بأنها ليست وحدها، وأن هناك من ينتظرها، ليس فقط لتحقيق حلمها، ولكن أيضًا لبناء حياة جديدة مليئة بالإنجازات والمحبة.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
مع غروب الشمس، استيقظ آسر من نومه على وقع معدته الخاوية.
شعر بالجوع الشديد، فنهض من فراشه بكسل واتجه إلى الحمام ليغتسل سريعًا. بعدها، توجه نحو المطبخ بحثًا عن شيء يسد به جوعه، لكن عبثًا، لم يجد شيئًا. أحس بخيبة أملٍ وهو يتنقل بنظراته بين الأرفف الفارغة والثلاجة المغلقة، فقرر التوجه إلى جدته، رغم إدراكه لحدة استقبالها.
ما إن دخل غرفتها حتى صاحت بغضب:
"بتعمل إيه عندك؟!"
أجابها بصوتٍ خافت، لكنه يحمل في طياته انكسارًا:
"بدور على حاجة أكلها، جعان."
نظرت إليه نظرة مليئة بالكره والتذمر، قبل أن تتجه ببطء نحو الثلاجة وتفتحها بعنف. أخرجت بعض بقايا الطعام وألقته أمامه قائلة بلهجة قاسية:
"كل أحسن تموت وتجبلي مصيبة. مش ناقصة زين وقرفه على المساء. يلا خلّص أكل واغسلهم وادخل أوضتك، يلا!"
استجاب آسر لأوامرها دون أن ينبس بكلمة، كانت كلماته تذوب تحت ثقل جوعه. جلس على الطاولة وبدأ يتناول الطعام بشراسة، وكأن معدته قد نسيت طعم الطعام لزمن طويل. بعد انتهائه، قام بتنظيف الأطباق بدقةٍ كما أمرته، ثم عاد إلى غرفته كأنه كان يهرب من العالم.
بخطواتٍ هادئة، دخل غرفته ....... [المزيد]
الوداع الاخير : تقدم زين نحو الغرفة الذي كان يرقد فيها أحمد للمرة الأخيرة. كانت خطواته ثقيلة، محملة بالوجع والحزن.
دخل الغرفة ببطء، واقترب من جثمان صديقه الذي كان يرتدي زيه العسكري الملطخ بالدماء. مدّ يده المرتعشة نحو جيب أحمد، وأخرج منه الورقة التي تركها له.
قبل رأس أحمد للمرة الأخيرة، وودعه بدموع حارقة لم تتوقف عن الانهمار.
شعر بثقل الفراق في كل جزء من كيانه، وكأن الروح تغادر جسده مع رحيل أحمد.
أمسك بالورقة بيده المرتعشة، كانت مبللة بالدماء، وخرج من الغرفة بخطوات مثقلة نحو القطاع.
لم يكن قادراً على فتح الورقة في البداية، كان خائفاً مما سيجده بين السطور.
لكن في النهاية، استجمع قوته وفتحها ببطء.
بدأت عينيه بالقراءة، بينما كان قلبه يخفق بقوة مع كل كلمة.
في البداية، قرأ الآية القرآنية:
"بسم الله الرحمن الرحيم.
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون ) صدق الله العظيم."
شعر زين بوخز في قلبه، وكأن أحمد يخاطبه من مكان بعيد، يطمئنه أنه ما زال موجودًا بطريقة ما. استمر في القراءة، وكل جملة كانت تنحت في روحه، تاركة آثارًا لا تمحى:
"حبيت أبدا كلامي بها علشان ديما تفتكري إني ديما معاكي، ودا مش كلامي دا كلام ربنا سبحانه وتعالى. عاوزك دايما تكوني متأكدة إني هكون معاكي في كل لحظة موجود؛ في قلبك وعقلك، وموجود في ذكرياتنا سوا، موجود في كل مكان في بيتنا. وكمان سيبلك نسخة مني ابننا، مش انتي دايما تقولي إنه نسخة مني؟ خالي بالك من نفسك ومن آسر وكمان أنا بعتذر عن كل حاجة قصرت فيها وعن أمي."
كان زين يشعر بدموعه تتساقط على الورقة وهو يقرأ كلمات أحمد، كل جملة كانت تزيد من ثقل الفراق عليه. أكمل القراءة:
"أنا آسف يا إيماني، أنا عارف إني غلط. أرجوكي سامحيني ما كانش لازم أخيرك بيني وبينهم. بس ما كانش في إيدي حاجة وقتها، الاختيار كان صعب بينهم وبين أمي، وأنا مش هقدر أشوفهم يهينوها وأسكت؛ حتى لو أمي هي اللي غلطانة. هما ما تخلوش عنك زي ما انتي فاهمة، أنا كذبت عليكي وعليهم للأسف. كنت مفكر دا في مصلحتك، لكن لقيت نفسي بضرك وبسلمك لأمي وأختي يؤذوك، وأنا مش عارف حتى أساعدك ولا أجبلك حقك. أيوه عارف إنه الوقت تأخر على الكلام دا وعارف قد إيه هما تعبوا علشانك، بس كمان عارف إنهم أول لما يعرفوا إني بموت مش هيتأخروا عندك لحظة، ولا على ابننا وهقدروا يعملوا اللي ما قدرتش أعمله. سامحيني وقولهم سامحوني."
شعر زين بالألم يعتصر قلبه أكثر مع كل اعتراف يخرج من سطور أحمد، وعينيه تتسعان بينما يكمل:
"كمان أنا قلت لهم إن ابننا مات، وأنا اللي قلتلك تأجهضي، وإني مش عاوزهم. عارف إني كذبت عليهم، قوللهم يسامحوني، وانتي كمان سامحيني. قولهم ابننا عايش، وكمان سميته آسر، زي ما كانوا عاوزين."
كان زين بالكاد يستطيع مواصلة القراءة، لكنه استمر:
"دا الجزء خاص يبكى، الباقي لزين، انتي عارفة هو اللي هيساعدك فيه، وهيحميكي، ويساعدك إن كل حاجة ترجع أحسن من الأول. أنا موافق إني أدفن في مقابر (ورد الياسمين)، عارف إن أمي مش هتوافق، علشان كده زين هيساعدك تحققي حلمك، إننا نكون سوا مع بعض بعد عمر طويل. لا إله إلا الله.
حبيبك أحمد."
انتهى زين من قراءة الوصية، وكان يشعر بأن قلبه قد تهشم إلى قطع صغيرة. أغلق الورقة بقوة، وضرب بقبضته على مكتبه بعنف، كأن الألم داخله كان يحتاج إلى مخرج مادي.
دموعه لم تتوقف، بل كانت تتدفق بغزارة. لم يكن يريد أن يرى أحد ضعفه، لذا مسح دموعه بسرعة عندما سمع طرقات على الباب.
أمر بالدخول، ولم يكن الشخص الذي دخل سوى صديقه عماد.
بعد أن أنهى زين قصة وفاة أحمد لعايدة، كانت عيونها مسمرة على الأرض، مستغرقة في أفكارها بينما كانت تسمع كلماته.
لم يخبرها بكل ما سمعه من أحمد قبل استشهاده، لم يذكر خوف أحمد على زوجته من والدته ورغبته في حمايتها منها.
فقط روى لها موقف استشهاده وأوصيته له بالعناية بزوجته وابنه، وأنه يرغب في أن يُدفن في مقبرة "ورد الياسمين"، وأن ورد الياسمين علموا أن آسر لا يزال على قيد الحياة.
عائدة، بصوت متهدج ومشوب بالصدمه، بدأت تتحدث:
"يعني ابني مش عاوز ابنه يكون معايا؟ عاوز يحرمني منه هو كمان؟"
كانت كلماتها تحمل مزيجاً من الصدمة واليأس، وضربت على صدرها بقوة، وظهر على وجهها تعبير لا يوصف من الحزن والخوف.
زين، بنبرة حاول أن تكون هادئة رغم شعوره بالعجز: "أحمد كان يعرف منين إن مراته هتموت معاه؟ دا قضاء الله وقدره. هو وصاني، وأنا لازم أبلغهم."
في عقل عائدة كانت الأفكار تتسارع، تشعر بالقلق من أن آسر إذا تكلم أو تم أخذه، قد يكشف كل شيء ويهدد حياتها. كانت تعلم أن عليها إيجاد حل سريع لتجنب الكارثة التي تلوح في الأفق.
زين كان لا يزال يتحدث، محاولاً طمأنتها، لكنه تفاجأ بسحبها ليده وتقبيلها. كان هذا التصرف غير متوقع بالنسبة له، فشعر بالضيق وسحب يده بسرعة، متحدثاً بنبرة حادة رغم حزنها:
"إيه دا يا أمي، أنا اللي أبوس إيدك، مش إنتِ."
انحنى وقبل رأسها ويدها احترامًا لها. رأت عائدة في هذا الوضع فرصة، فاستغلتها لصالحها.
انفجرت في البكاء، تتوسل إليه بألم، طالبة منه أن يترك آسر معها وألا يحرمها منه، فهو كل ما تبقى لها من أحمد.
عائدة، بكلمات مليئة بالدموع والضعف الظاهري:
"علشان خاطري يا ابني، علشان خاطري، ما تبعدوش عني. ما اقدرش أعيش من غيره، دا هو اللي فاضلي من ريحة الغالي. أبوس إيدك."
زين، متأثراً بدموعها، حاول تهدئتها قائلاً:
"يا أمي إيه اللي هيبعده عنك بس؟ أنا كمان هكون مسؤول عنه، وهيكون معاكي، مش هيبعد عنك أبداً. اهدي إنتي بس."
لكن عائدة لم تتوقف عند هذا الحد، وبدأت تخاطبه بنبرة مليئة بالتوتر والقلق:
"إنتا مش فاهم حاجة يا ابني. دا لو المرحومة كانت لسه عايشة، كانوا هيفضلوا هنا. لكن هما عايشين بره مصر، في بلد مش عارفه اسمها، هما سافروا من خمس سنين، وكلهم بنات عزاب، إزاي هيقدروا ياخدوا بالهم من عيل صغير؟"
وقف زين محتارًا، مشوشًا بين وصية صديقه ودموع والدته. كانت الأفكار تتصارع في رأسه، ووجد نفسه في موقف لا يُحسد عليه.
بعد فترة من الصمت والتفكير، تكلم بصوت محمل بالحيرة:
"آسر حالته دلوقتي مش كويسة. أنا هاخده معايا البلد كام يوم. يكون العزاء خلصت وقدرتوا تهتمي بيه، وكمان تكون أعصابكم هدت. وصدقيني مش هخليه يبعد عنك. ولو هما عاوزينه يفضل هنا، ما كانش أنا أقدر اهتم بيه. وبعدين لحد دلوقتي لسه ما حدش فيهم ظهر."
عائدة، تحاول أن تجد مخرجاً، تمتمت بصوت منخفض:
"أكيد لسه ما يعرفوش."
رد زين بحزم:
"لاء، أحمد أكد لي إنهم كانوا دايمًا بيراقبوا إيمان من بعيد، علشان هو مانعهم يتكلموا معاها. وكمان الغفير دلوقتي بلغهم... شكله على اتصال بيهم. كل دا هنعرفه بعدين، وأنا مش هسكت غير لما أعرف هما مين ورد الياسمين."
كلماته كانت كافية لتزيد من رعب عايدة، تلك التي شعرت بأن كل كلمة كانت تضيف ثقلًا جديدًا على قلبها المتعب.
كانت تخشى من أن يكشف زين الحقيقة كاملة، ويكتشف ما تحاول إخفاءه بأي ثمن. فمراقبة إيمان أشبه بصفعة قوية هزت أعماقها. ارتجفت أطرافها، لكنها حاولت التحكم في تعابير وجهها، رغم أن زين كان يراقبها بدقة، يحاول قراءة كل حركة وكل ارتعاش.
زين كان عازمًا على كشف الحقيقة، غير مدرك للمخاوف التي كانت تعصف بعقل عايدة. بالنسبة له، كان الأمر يتعلق بالوفاء لوصية صديقه الراحل وكشف الغموض الذي يحيط بورد الياسمين.
تكلمت بصوت متحشرج، يغلبه القلق والرهبة:
"ماشي يا ابني... اللي تشوفه صح اعمله."
أومأ زين برأسه، مظهرًا تفهمه لطلبها.
"أنا هروح دلوقتي، وهاجي بليل علشان العزاء."
ردت عايدة بإيماءة سريعة وعينين متعبتين:
"سلام."
حمل زين الطفل الصغير، آسر، واتجه به نحو سيارته، مصممًا على السفر إلى بلدته في سوهاج، حيث يسكن مع عائلته الكبيرة.
بينما كانت عايدة وسمر وعيسى يذهبون إلى البيت لتحضير مراسم العزاء، كل منهم كان غارقًا في أفكاره المظلمة، محاولين جاهدين إيجاد حلول للمصائب التي أحاطت بهم.
........... ......... ............
في السيارة، استيقظ آسر بمجرد أن وضعه زين في المقعد الخلفي. كانت عيناه مليئتين بالحزن، وجسده يرتجف بينما تساقطت عبراته الصغيرة.
نظر إليه زين بتعاطف وحزن عميقين، غير معتاد على مواساة طفل، فهو رجل صارم، حاد الطباع، يكره كل ما يضعفه أو يشغل باله. كان دائمًا يتجنب العواطف والمشاعر العميقة، خاصة بعد خذلانه من أقرب الأشخاص إليه.
ظل آسر على حاله طوال الطريق، يبكي ويئن حتى استسلم للتعب ونام.
كانت المسافة بين القاهرة وسوهاج طويلة، وطوال الرحلة، لم يتوقف زين عن التفكير في الصعوبات التي تنتظره في الأيام القادمة، وهو يتحمل مسؤولية حماية هذا الطفل الصغير، ويواجه الحقائق المرعبة التي تتكشف أمامه.
كان زين يقود سيارته في صمت مهيب، وعقله غارق في دوامة من الأفكار. كان التفكير في الصغير آسر، وما قالته جدته، وأيضًا الوصية الثقيلة التي يحملها، يشغل كل تفكيره. لم يشعر بطول الطريق الذي كان يسلكه، ولم يكن يعلم أين كان يذهب. فقط كان ذهنه منشغلًا بمسؤولياته الثقيلة وقرار لا بد من أخذه. حاول أن يقنع نفسه مرارًا بأن ما يفعله هو الصواب، أمسك بهاتفه، وضغط على بعض الأرقام وانتظر الرد.
........ ............ ..........
في القصر الكبير الذي يزدان بالفخامة، كانت الخادمة الشابة تركض بخفة نحو الهاتف بعد أن سمعت رنينه. توجهت بسرعة نحو سيدها الصغير، متحدثة بنبرة احترام واهتمام.
"ألو، أيوه زين بيه."
زين بصوت هادئ لكنه بنبرة جادة:
"جولي للحاجة إني جاى على البلد، وكملها دجايج، ووصل، وكمان معايا ضيف، هيكون مسجول منيها. مفهوم كلامي؟"
كانت كلمات زين مشبعة بالصرامة والجديّة، تخللتها نبرة حازمة تجعل من الصعب تجاهلها.
ردت الخادمة هنيه بكل احترام، محاولة أن تظل متفهمة ومتجاوبة:
"مفهوم يا زين بيه، مفهوم حاضر، هجولها."
أجاب زين دون إكثار:
"سلام."
أنهى المكالمة ثم أغلق الهاتف، ليواصل الطريق نحو بلدته.
كان الصغير، آسر، نائمًا بجواره، يغفو في سكون عميق.
لم يكن زين يركز على المناظر التي تمر بجواره، كان كل تركيزه على المهمة التي تنتظره.
أخيرًا، وصل إلى بلدته مع غروب الشمس، وقد أخذت الألوان الذهبية والبرتقالي تتداخل في الأفق.
قرر أنه سيترك آسر مع عائلته، ليقوموا برعايته، ثم يعود بعد ذلك لأداء واجب العزاء.
لقد كان النهار طويلًا ومليئًا بالأحداث، لكن المهم الآن هو تأدية ما عليه من واجبات وتحمل المسؤوليات التي فرضها عليه الراحل أحمد.
عند وصول زين إلى بوابة القصر الكبيرة، كان الغفير، عم متولي، يقف على البوابة بملابس العمل التقليدية.
كان يراقب وصوله من بعيد.
حينما رآه زين، ركض نحو السيارة بسرعة، ووجهه يشرق بالترحاب، وكانت ملامح وجهه توحي بالراحة لرؤية زين، كأنه كان ينتظر قدومه بفارغ الصبر.
عم متولي، بصوت حار:
"أهلاً يا زين بيه، افتح يا ولد زين بيه، وصل!"
زين، بابتسامة خفيفة:
"إزيك يا عم متولي؟"
عم متولي، بلهجة عفوية:
"بخير يا بيه، اتفضل اتفضل."
فتح عم متولي البوابة، وعندما دخل زين، بدأت المشاهد تتكشف أمامه: الطريق الكبير الذي يمتد بين الزهور والأشجار،كان يحيط بالقصر، وكل شيء يبدو هادئاً ومليئاً بالسكينة. وصل أمام باب القصر، وأوقف سيارته بلطف، ثم نزل منها ليجد جدّه عبد الحميد وأمه فاطمة في استقباله.
توجه زين إلى جدّه، وقبل يده، وكان يعبر عن شوقه بلمسة حانية، وتبادل معه كلمات دافئة تفيض بالحنين.
زين، بابتسامة مشبعة بالعاطفة: "إزيك يا جدي."
الجد عبد الحميد، وهو يضع يده على كتف زين:
رح"أهلاً بيك انتا يا ولدي."
ثم انتقل زين إلى أمه، ضمها إلى صدره وقبّل يدها وجبهتها، وكانت مشاعره تتراوح بين الحزن والحنين.
زين، بصوت خافت مليء بالمشاعر:
"اتوحشتك يا ما."
الأم فاطمة، بدموع في عينيها: "اتوحشتك جوى، جوى، يا ولدي."
ظل زين يحتضن أمه، وكأنه يستمد قوتها ليواصل رحلته، ثم اعتدل وسأل بجدية.
زين، بنبرة جادة:
"بعد إذنك يا جدي، وأنتِ كمان يا ما، كنت حابب إن آسر يفضل هنا كام يوم لحد يعني."
الجد عبد الحميد، وهو ينظر إلى زين بجدية وحنان:
"دا بيتك يا ولدي، وضيفك هيكون في عينينا، ويقعد الوقت اللي هو رايده، إن شاء الله العمر كله."
زين، وهو يقبل يد الجد مجدداً: "تسلميلي يا جدي، وأنا ما لقيتش مكان أمان لآسر غير هنا."
الجد، بطمأنينة:
"روح هات ضيفك يا ولدي."
توجه زين نحو السيارة، حمل الصغير النائم، وصعد به إلى الداخل.
نادت الحاجة فاطمة على هنية، الخادمة.
"بت يا هنية، انتي يا بت!"
كانت هنية مشغولة في إعداد الطعام، وعندما سمعت نداء الحاجة فاطمة، هرولت إلى الخارج وهي تقول:
"أيوة يا ستي الحاجة."
أجابت الحاجة فاطمة:
"روحي حضري الأوضة لآسر."
أجابت هنية:
"حصل يا ستي الحاجة، جول لما زين بيه كلمني، وأنا عملت كده على طول."
توجهت هنية إلى زين، الذي كان يحمل آسر النائم بعمق. ولا يدرى بأي شئ يحدث حوله.
تتكلمت وعلى وجهها إبتسامة جميلة، وهى ترحب بسيدها الصغير، الذى يعامل الكل باحترام شديد ، كأنهم عائلة وليس خدم عنده.ساعدته في نقل الأغراض إلى غرفة الصغير.
وهي تقول بابتسامة:
"اتفضل يا زين بيه، اتفضل هات عنيك يا بيه."
رفض زين عرضها وأصر على حمل الطفل بنفسه. قال:
"لا يا هنية، أنا اللي هطلعه، هاتي أنتِ الحاجات من العربية."
ركضت هنية نحو العربية، وأخذت الأغراض إلى غرفة الصغير.
صعد زين إلى الغرفة، تركه على الفراش، خلع حذاءه، وغطيه بالوشاح، وقبّل رأسه بحب.
حينما نزل إلى الأسفل، قابل هنيه التي كانت تنقل الأغراض إلى غرفة الصغير.
قالت هنية بإحترام:
"هطلعهم فوق يا بيه."
رد زين بإبتسامة:
"أيوة، بس من غير صوت."
أجابت هنية بطاعه:
"حاضر يا بيه."
أسرع زين في مهمته، ثم نزل إلى أسفل حيث كان الجد ووالدته ينتظرانه.
وقف زين، وهو يواجههم بوجهٍ عابس حزين:
"أنا لازم أروح يا جدي علشان الحق العزاء."
الجد عبد الحميد، بقلق:
"خلي بالك من حالك يا ولدي، توصل بسلامة."
الأم فاطمة، بصوت يملأه القلق: "وهتيجي تاني هنا يا ولدي؟"
زين، بحزم:
"أيوه يا ما، لما العزاء يخلص وأعمل الواجب. اللي راح مش أي حد، دا صاحب عمري. لازم أروح. تأخرت. سلام."
الجد والحاجة فاطمة، بقلوب مليئة بالتمنيات الطيبة:
"مع السلامة يا ولدي."
صعد زين إلى سيارته، وكان وجهه يعبّر عن توتر مستمر، عينيه متجهمتين، وكأنه يحمل ثقل العالم بأسره. بينما كانت السيارة تقطع الطريق، كان عقله غارقاً في التفكير، يحاول التوصل إلى قرار حاسم بشأن الصغير وآخر التعليمات التي حصل عليها. أدرج رقماً في هاتفه المحمول وانتظر، مع كل رنين كان يتمنى أن يتلقى خبراً مريحاً.
زين، بلهجة مليئة بالترقب: "أيوه يا عماد، في جديد؟"
عندما أجاب الرائد عماد، كانت نبرة صوته تتسم بالقلق، وكأنها تنم عن توتر لا يستطيع إخفاءه.
الرائد عماد، بصوت مختنق: "أيوه يا قائد، بس لازم تيجي، مش هينفع في التليفون."
زين، محاولة للتحكم في مشاعره:
"أنا في الطريق يا عماد، أول لما العزاء يخلص هنتقابل."
الرائد عماد، بتأكيد محمّل بالقلق:
"تمام يا قائد، أنا في العزاء، أنا والرجالة."
زين، وهو ينهي المكالمة:
"تمام، سلام."
أغلق زين الهاتف، وسرعان ما زاد من سرعة سيارته، وكأنه يهرب من أفكاره القلقة.
كانت المسافة إلى القاهرة طويلة، ولكنه عزم على قطعها بأسرع ما يمكن. لم يكن يلتفت إلى مشهد الطريق أو الأصوات من حوله، كل ما كان يشغله هو الوصول في الوقت المناسب.
عندما وصل إلى موقع العزاء، كان الوقت قد بدأ يغمره ألوان الغروب الذهبية. التقى بجانب عيسى والرجال، ووقف بينهم، بينما كان الشيخ يقرأ الورد الأخير من القرآن بصوت عميق ومؤثر. بعد انتهاء القراءة، تراجع زين إلى جانب الرائد عماد، الذي بدت عليه علامات التعب والإجهاد، وكأن الأوقات الأخيرة قد أثقلت كاهله.
زين، وهو يحاول السيطرة على توتره:
"خير يا عماد، إيه اللي عرفته وما ينفعش في التليفون؟"
كانت نبرة زين تعكس قلقه العميق، وعيناه تتنقلان بين وجه عماد وكفه المتوتر.
عماد، الذي بدا عليه الشحوب والتوتر، ابتلع ريقه ببطء، وكأن الكلمات عالقة في حلقه.
عماد، بنبرة متقطعة:
"بعد ما مشيت، أنا كنت لسه عند المقابر، أنا ووائل ومصطفى، كنت راجع أقرأ الفاتحة قبل ما نمشي."
زين، وهو يحاول الحفاظ على هدوئه:
"أها، وبعدين، إيه المهم في ده يعني، اخلص يا عماد دماغي مش فايقة."
عماد، وهو يحاول ضبط نبرته المتوترة:
"حاضر يا قائد، أنا هقول."
رفع زين صوته، وكأنما يبحث عن طمأنينة وسط الضغوط، صرخ بنبرة عاتية جعلت كل الأنظار تتجه نحوه.
زين، بصوت مرتفع:
"عماد!"
عماد، وهو يبتلع ريقه بوضوح: "يا قائد، مكان ده ماكنش فيه غير المقابر دي بس."
زين، باهتمام حاد:
"يعني إيه؟"
عماد، وهو ينفث ببطء:
"دي كلها أرض كبيرة تقريباً ملك لحد، وما فيش غير البوابة دي اللي فيها 13 مقبرة وكلهم في مكان واحد زي ما أنت شفت."
زين، بتركيز:
"أها، وبعدين؟"
عماد، وهو يواصل بصوت مشحون بالتوتر:
"اللي عرفته إن الأرض دي كلها ملك (ورد الياسمين)، وهم اللي عملوا عليها الجامع اللي كنا بنصلي فيه، وكمان فيه بيت صغير للغفير هو واهله، والغفير هو المسؤول هناك."
زين، وهو يضغط على أعصابه: "وانت شفت الغفير تاني، لأن من أول لما أنا سألته وفتح البوابة وهو اختفى."
عماد، بصوت متهدج:
"أه، شوفته وأنا داخل من البوابة، بس كان ماسك التليفون وكان باين عليه القلق."
زين، بحدة:
"كان بيكلمهم؟"
عماد، بتأكيد:
"أكيد يا قائد."
ثم أضاف عماد، بترقب متوتر:
"بس في حاجة كمان."
زين،وعصبية ملحوظة تتخلل صوته :
"قُل اللي عندك على طول، مش هتنقطني بكلامك أنت."
عماد، وهو يحاول تهدئة نفسه: "أول لما دخلنا المقابر، كل المقابر كانت مفتوحة ما عدا اتنين."
قاطعه زين، وكأن الأسئلة تتزاحم في ذهنه:
"شفتهم، واحدة في النص والتانية في الآخر."
عماد، وهو يتحدث بسرعة: "أيوه، وكان في ست كبيرة قاعدة بتقرأ قرآن قدام المقبرة الأخيرة."
زين، بترقب شديد:
"عرفت هي مين؟"
عماد، بنبرة خافتة:
"بصراحة لا يا قائد."
كان الليل قد حلّ على القاهرة، وغطى الظلام المدينة بعباءته الثقيلة، مغموراً في صمت قاتم، سوى من خرير الأمطار المتناثرة على الشوارع الهادئة. الضوء الخافت من مصابيح الشوارع يعكس على الأرض لمعاناً فضياً، مما يضفي هالة من الحزن والانتظار على المشهد.
في وسط هذه الأجواء الموحشة، كان زين يواجه عماد، وهو غاضب ومشحون بالتوتر. نبرة زين كانت تعبر عن الانزعاج العميق، وجهه مشدود والعبوس يسيطر على ملامحه، وكأن أعباء العالم كله قد استقرت على كتفيه.
زين، صرخ بصوت عالٍ، كان يملؤه الإحباط والغضب:
"أمال انتا مستني إيه يا بني آدم، لما تمشي، ليه مروحتش، وعرفت هي مين؟"
الكلمات خرجت من فم زين كالصاعقة، تنفجر في أرجاء المكان. عماد، الذي كان يتصبب عرقاً من التوتر، حاول أن يلتقط أنفاسه، وهو ينظر إلى الأرض، حائراً بين محاولة تفسير الموقف وإحساسه بالفشل.
عماد، بصوت خافت وصعب:
"يا قائد."
زين، بنبرة حادة، وقد بدا عليه الغضب:
"قائد إيه، بعتمد على شوية عيال. أنت والجوز الأرجوزات اللي معاك، مش عارفين تعرفوا هي مين، ومين اللي مدفون جوه."
عماد، على وشك الانهيار، حاول أن يبرر موقفه، لكن زين كان صارماً، لم يسمح لأي حديث دفاعي.
مصطفى، الذي كان يقف بجانب عماد، حاول أن يتحدث، لكن زين لم يلتفت إليه.
مصطفى، بصوت متردد:
"أكيد أم واحدة من الـ 12 يا قائد."
زين، بلهجة ساخرة وحادة: "وممكن لأ يا خفيف، علشان كل مقبرة مقسومة أربعة أجزاء، وممكن حد تاني جوه، من عائلتها مثلاً. وبعدين أم المقدم أحمد قالت إنهم عزاب."
وائل، وهو يبدو مرهقاً:
"والله يا قائد، حياتهم كلها ألغاز."
زين، وهو ينظر إليهم بمرارة: "وأنت بقى مش عارف تحل شوية ألغاز، ولا عاوز حد يحلها لك؟"
وائل، بصوت منخفض:
"يا قائد، أنا راجل صاعقة، مش مباحث."
زين، بنبرة خافتة:
"لاء، أنتوا شوية عيال."
عماد ومصطفى ووائل، جميعهم كانوا يشيعون الرأس إلى الأرض، خجلاً من الفشل الذي ارتكبوه. زين، وهو يشعر بالإحباط الشديد، أعطى تعليماته بصرامة.
زين، بصوت عالٍ وحازم:
"من بكره، عاوزكم تعرفوا كل حاجة عن المقبرتين اللي مقفولين، سامعين؟"
الرجال، في تنازل واضح: "مفهوم يا قائد."
عماد، وهو يشعر بالقلق، حاول أن يضيف شيئاً آخر:
"واللي يعني."
زين، بحدة:
"عاوز تقول إيه يا عماد، اتكلم."
عماد، بتردد واضح:
"(ورد الياسمين)، نسأل الغفير عنهم ولا إيه؟"
زين، بتأكيد:
"لاء، الغفير دلوقتي بلغهم، وإحنا هنستنى رد فعلهم الأول، وعلى أساسه نتحرك. وأكيد لما نعرف مين اللي مات، في حاجات كتير توضح."
الرجال، بتأكيد سريع:
"تمام يا قائد."
زين، وهو يشعر بالغضب من أدائهم:
"يلا روحوا، وأنا هدخل أشوف أم المقدم أحمد قبل ما أمشي."
مصطفى، محاولاً تقديم دعمه: "راجع الصعيد يا قائد."
زين، بصرامة:
"لاء، هروح الصبح، وقبل ما أمشي لازم أشوفكم وتكونوا عرفتوا كل حاجة."
غادر زين المكان وهو يشعر بغضب شديد، غير قادر على تصديق تصرفات فريقه التي تراها ساذجة وغير كافية.
......................
صعد إلى الشقة، حيث لم يتبقى سوى المقربون، ووقف أمام عايدة وسمر، محاولاً السيطرة على مشاعره.
زين، وهو يمد يده كي يسلم على عايدة، حاول أن يظهر تعاطفه:
"البقاء لله يا أمي، شدّي حيلك، واطمئني، آسر في أمان، هو دلوقتي مع الحاجة في البيت."
عايدة، والدموع تتساقط من عينيها، بنبرة تحاول أن تكون هادئة لكنها تفيض بالحزن: "تسلم يا حبيبي. مش عارفة من غيرك كنت هعمل إيه."
زين، وهو يشعر بمدى الألم الذي تعاني منه عايدة، حاول أن يخفف من مشاعرها:
"ما تقولييش كدا يا أمي، أحمد غالي عندي قوي، ربنا اللي عالم، وانتي وابنه في عيني. وكمان أنا موجود وهكون مكانه. لو سمر احتاجت أي حاجة، تعرفي أني موجود مكان أحمد الله يرحمه. عاوزك كدا تجمدي، وتقفي على رجلك من تاني. آسر دلوقتي محتاجك أكتر من أي وقت."
عايدة، وقد امتلأت عيونها بالدموع التي لم تظهرها لزين، حاولت أن تظهر قوتها:
"حبيبي، أكيد طبعاً، أنا هكون أمه، دا حتى من الغالي."
زين، بنبرة أكثر هدوءاً لكنه لا يزال يشعر بالقلق:
"استأذن أنا، وإن شاء الله هكون عندك الصبح."
عايدة، بلهجة هادئة ولكن مشوبة بالقلق:
"ما فيش داعي يا حبيبي، أهوي عيسى موجود، ولو احتجت حاجة هكلمك على طول."
زين، بجدية:
"لا لا، ما فيش أي تعب ولا حاجة، دا واجبي."
وضع قبلة على مقدمة رأس عايدة، ثم ابتعد وهو ينظر إليها، كان وجهه مليئاً بمزيج من الشفقة والحزن، وهو غير قادر على تحديد مشاعره تماماً، هل هي شفقة، أم حزن على فراق ابنها، أم خوف منها.
عندما استدار ليخرج، قاطعته عايدة بصوت خافت، يشوبه القلق:
"هو يعني يا ابني إيه؟"
التفت زين إليها، مستفسراً: "خير يا أمي، عاوزة تسألي عن إيه، قولي."
عايدة، وقد بدت عليها علامات الخوف الشديد، حاولت أن تتحكم في صوتها المرتعش: "هو في حد منهم جاه يا ابني؟"
زين، مستفسراً:
"تقصدين (ورد الياسمين)؟"
عايدة، بلهجة تملؤها المخاوف: "أيوه."
زين، بطمأنينة لكن مع بعض القلق:
"لا يا أمي، لسه ما فيش حد ظهر، بس أكيد هيظهروا، الغفير كلمهم. وبعدين لما تشدي حيلك كدا، عاوز أتكلم معاك شوية بخصوصهم."
زاد القلق داخل عايدة، حتى كاد أن يتسبب في اختناقها، وكانت غير قادرة على التعبير عن مخاوفها:
"خير يا ابني."
زين، بنبرة أكثر حناناً:
"مش وقته يا أمي، هسيبك ترتاحي. سلام عليكم."
ألقى السلام وغادر الشقة، وهو يشعر بضغط نفسي هائل، اتجه نحو سيارته، وركبها، متجهاً إلى شقته في القاهرة، بينما كانت مشاعره مختلطة بين الحزن، والإحباط، والقلق على ما يمكن أن يحدث.
.............
في تلك الليلة، التي كانت مملوءة بصمت ثقيل يغلّف كل ركن من أركان المنزل، جلست عايدة في هدوء، لكن داخلها كان يغلي كبركان خامد.
عينيها كانتا مشدودتين إلى نقطة غير مرئية في الفضاء، وكأن كل همومها وأحزانها قد اجتمعت في تلك اللحظة لتضغط على قلبها بقوة.
كانت يدها تضغط على رأسها، محاولةً حبس الدموع التي تهدد بالانفجار، بينما كانت تنفث زفيرًا ثقيلًا، كأنها تسعى للتخلص من ضغط غير مرئي يثقل صدرها.
سمر، التي كانت تراقب والدتها بحيرة وقلق، لم تستطع تجاهل التغيير المفاجئ في تصرفات عايدة.
انبعث منها شعور بالضياع، فهي لا تفهم لماذا تبتعد والدتها فجأة، ولا كيف يمكن أن تتركها في هذا الحزن العميق دون تفسير. توجّهت نحو والدتها بقلق يملأ نبرتها، وهي تقترب منها بصوت يمزج بين الانزعاج والتأثر:
"ماما، ماما."
ردّت عايدة بلهجة مليئة بالإرهاق والغضب، وكأن كلماتها تعكس الألم العميق الذي تحاول أن تخفيه:
"في إيه يا بت، إيه الصداع دا، هو أنا ناقصة؟"
سمر، التي شعرت بضغط عاطفي غير عادي، حاولت أن تكون هادئة رغم انزعاجها، لتصل إلى والدتها بطريقة هادئة:
"ما أنتي سبّتيني قعدة برة أنا وجوزي، ودخلت أوضتك من غير حتى كلمة، من ساعة زين ما كان هنا، وأنتِ قعدة سرحانة في إيه مالك، قلبي مش مطمن."
لكن عايدة كانت في حالة من الفوضى الداخلية، وعبّرت عن ذلك بشدة عندما قالت:
"ولا أنا، أعصابي كلها وجعاني، ودماغي هتتفجر يا بت."
سمر، التي كانت محبطة من الوضع، حاولت أن تخفف من توترها وتطمئن والدتها، فقالت بصوت مليء بالحنان والتفهم:
"مالك يا ماما، سلمتك، إن شاء الله خير."
لكن عايدة، التي كانت غارقة في خوفها العميق، ردّت بتشاؤم وسوداوية:
"وهيجي الخير منين بس، ربنا يستر من اللي جاي."
سمر، التي كانت تبحث عن طريقة لتهدئة أعصاب والدتها، حاولت أن تكون صبورة وتدعمها، قائلة:
"لا بقولك إيه يا ماما، أنا مش فيا أعصاب للحرقه دي، انتِ تستهدي بالله كده علشان أطمن. آه، ما هو العمر مش بعزقه."
نطقت عايده بغضب:
"قومى يا بت، أخرجي بره لجوزك، عاوزه نام شويه، قومى"
عندما طلبت عايدة من سمر أن تخرج وتتركها، كانت هذه الحركة تعبيرًا عن رغبتها في الهروب من الضغط الذي تواجهه، مما جعل سمر ترد بحنان:
"حاضر، نامي يا ماما، نامي."
خرجت سمر إلى غرفة المعيشة، حيث كان عيسى يجلس، وعيناها كانتا تلمعان بلمحة من الغضب والضيق. عندما توجهت إليه، سألها بسخرية:
"فى اى، امك فين"
كان صوتها مليئًا بالاستياء:
"تعبانة شوية، هتنام، بتقول عاوزة ترتاح."
عيسى، الذي كان يبدو غير مكترث بحجم الكارثة، رد بسخرية مزعجة، مما زاد من قلق سمر:
"هو اللي حصل النهاردة دا كان شوية."
سمر، التي كانت قد بدأت تفقد صبرها، صرخت بقلق وتوتر، وكأن كل ضغوطها قد تفجرت في تلك اللحظة:
"على رأيك، يلا ربنا يستر من اللي جاي."
عيسى، الذي كان يضحك بسخرية، أضاف تعليقاته المزعجة، مما جعل سمر تشعر بالغضب المتزايد:
"يسترها من إيه ولا من إيه، دا لو آسر قال حاجة لزين، تعرفي كدا إن حبل المشنقة حوالين رقبتك."
سمر، التي كانت تتألم من الكلمات التي كانت تضيف إلى قلقها، صرخت بوجه عيسى، تضرب على صدرها بتوتر:
"يالهوي، لا بقولك إيه، أنت وأمي في إيه كدا؟ أنا مرعوبة لوحدي، وأنت بتزودها عليا."
عيسى، الذي كان مستهزئًا وساخرًا، ألقى بعبارته الأخيرة، مما جعل سمر تشعر بالهزيمة واليأس:
"الرعب لسه جاي، ما تستعجليش يا أختي، أنا داخل أنام جوه، كفاية عليا كدا أوي، عيلة هم."
ترك عيسى سمر في الغرفة المعيشه، ودخل غرفة نومه في منزل عايده، فهرولت سمر إلى غرفة النوم، حيث حاولت أن تجد القليل من الراحة بجانب زوجها، وهي تتلوى من الألم النفسي الذي عانت منه.
عايدة، التي لم تستطع النوم، ظلت مستيقظه في غرفتها، متشبثة بصورة ولدها وكأن وجوده هو الوحيد الذي يمكن أن يخفف من وطأة خوفها وحزنها في تلك اللحظة.
...........................
عندما بدأت الشمس تعلن عن قدوم يوم جديد، كان زين ما يزال غارقًا في نومه العميق، وكأنه يهرب من العالم بأسره. شعاع الشمس الذي تسلل عبر الستائر لم يكن كافيًا لإيقاظه، وكأن جسده وعقله استسلما معًا لحاجة ملحة للراحة. ولكن، عندما أتى وقت الظهيرة، انقطع نومه على صوت دقٍ قوي على باب شقته. كان الدق مستمرًا وصاخبًا، مما جعله يتأفف بضيق وهو يحاول أن يستعيد وعيه البطيء. قام من السرير بتكاسل شديد، وكأن كل حركة كانت تعادل جهدًا كبيرًا.
في تلك اللحظة، كانت أفكاره مشوشة ومثقلة بالإرهاق، تمتم بصوت خافت ومتعكر وهو يتجه نحو الباب، قائلاً لنفسه بنبرة مليئة بالضيق:
"في إيه كده على الصبح؟ حاضر، حاضر."
فتح الباب بنصف وعيه، ولم يكلف نفسه عناء النظر إلى الطارق. أداره ظهرة لعماد، الذي كان واقفًا هناك، وكأنه لم يكن لديه وقت أو رغبة في الحديث.
"في إيه يا عماد على الصبح؟"
عماد، الذي كان مستمتعًا برؤية زين في هذه الحالة النادرة من الإرهاق، رد عليه بابتسامة صغيرة:
"صبح إيه يا قائد، احنا في الظهر."
توقف زين للحظة، محاولًا استيعاب ما سمعه. رفع عينيه المرهقتين نحو عماد ببطء، وكأن الكلمات استغرقت وقتًا لتخترق ضباب عقله.
"أنا نمت دا كله؟"
تسللت نبرة من الاستغراب إلى صوته، وكأن نفسه لا تصدق ما يسمعه.
كان التعب والإرهاق واضحين في كل جزء من جسمه، وكان عماد يحاول كتم ضحكة صغيرة وهو يرد بخفة:
"باين كده فعلاً."
زين، الذي لم تعجبه النبرة المازحة في صوت عماد، عبس بوجهه، وأدار ظهره ودخل إلى الغرفة المعيشة، متجهًا نحو الأريكة. جلس ببطء، وأراح ظهره على الوسائد، وكأنه يحاول جمع ما تبقى من طاقته.
عماد، الذي كان يراقب تصرفات زين بصمت، ظل واقفًا حتى أمره زين:
"اقعد يا عماد، مش عارف إزاي دا حصل، أول مرة أنام لحد دلوقتي."
عماد جلس بهدوء، محاولًا أن يظهر التفهم بينما قال بلهجة هادئة:
"عادي يا قائد، اللي حصل امبارح ما كانش سهل بردو، وانت تعبت طول اليوم."
زين أومأ برأسه بإقرار، لكنه سرعان ما استعاد جديته وسأل:
"عملت إيه في اللي قلت لك عليه؟"
عماد، الذي كان مستعدًا لهذا السؤال، أخرج ملفًا من حقيبته وقدمه لزين قائلاً:
"حصل يا قائد، وده ملف فيه كل حاجة، شغل مباحث يعني ما فيش كلام."
ابتسم زين ابتسامة خفيفة، وكأن إرهاقه بدأ يتلاشى قليلاً:
"وكمان ليك نفس تهزر."
عماد ضحك بخفة، وكان حديثه مليئًا بالراحة:
"آهوه يعني يا قائد."
زين، الذي كان يشعر بأن المزاح قد يكون مريحًا في هذه اللحظة، قال بلهجة نصف جادة:
"خلاص، خلاص يا عماد، بلاش إحراج."
عماد، الذي كان قد استشعر تحسن مزاج زين قليلاً، قال:
"هعمل قهوة ليك يا قائد، إنما إيه، هتدعيلي."
زين، الذي لم يستطع منع ابتسامته هذه المرة، رد:
"خايف أدعي عليك."
عماد ضحك وهو يتجه نحو المطبخ، قائلاً بمرح:
"لا ما تقلقش، يعني هي أول مرة أعملك قهوة؟"
زين، الذي تذكر كل المرات التي أفسد فيها عماد قهوته، قال بلهجة ساخرة:
"وكل مرة أنت اللي بتشربها لوحدك."
أردف زين وهو يفتح الملف الذي كان يحمله بين يديه، وبدأ يقرأ فيه بتركيز.
وبينما كان يقرأ، تحولت ملامحه إلى جدية وحذر، وكأنه لا يصدق ما يراه.
دخل عماد عليه وهو يحمل صينية مليئة بأطعمة متنوعة، مما زاد من دهشة زين، الذي كان مفاجئًا مما يراه، قال:
"إيه ده كله؟"
عماد رد بابتسامة مريحة، وكأنه كان يعرف أن زين بحاجة إلى طاقة:
"يعني قولت أعملك حاجة تفطرها، عارف إنك ما أكلتش من امبارح."
زين، الذي كان ما يزال مستغرقًا في أفكاره وقراءاته، قال بنبرة جادة:
"ما ليش نفس بجد يا عماد، افطر أنت، أنا هاخد القهوة بس، يارب تكون كويسة."
عماد، الذي كان واثقًا من نفسه هذه المرة، رد بابتسامة مليئة بالتحدي:
"كويسة أكيد، كفاية إني أنا اللي عاملها."
كان الجو مشحونًا بمزيج من الجدية والمزاح، بينما غاص زين في قراءة الملف مرة أخرى، وعماد ينتظر رد فعل زين على قهوته، وكأن كل شيء في تلك اللحظة كان يتوقف على تلك القهوة.
بينما كانت ملامح زين تتغير بشكل ملحوظ، شعر عماد بأن هناك شيئًا ثقيلًا يجثم على صدر قائده.
رآه وهو يتصفح الملف، يزداد ضيقه وضيق عينيه، وكأن الصدمة والحزن يغمران قلبه ببطء.
ارتسمت علامات الغضب على وجهه، وعروق رقبته بدأت تبرز بشكل واضح، مما أظهر أن ما قرأه لم يكن مجرد كلمات على ورق، بل كان حقيقة مزعجة تجتاح روحه. كان عماد يعلم أن القادم لن يكون سهلًا، لكنه لم يجرؤ على قطع هذا الصمت الثقيل.
انتظر أن يتحدث زين بنفسه، وكانت تلك اللحظة مليئة بالتوتر والترقب.
أخيرًا، كسر زين الصمت بنبرة مشوبة بالمرارة:
"هو أحمد كان عارف كل دا؟ ازاي هيامن عليهم؟ معاهم دول؟ عاوزين اللي يحميهم!"
كانت الكلمات تخرج منه وكأنها طلقات مدوية، معبرة عن مزيج من الخوف والغضب. شعر عماد بأن قلب زين مثقل بالقلق، فرد بهدوء، محاولًا التخفيف عنه:
"دي بيان البداية بس يا قائد."
لكن زين لم يكن بحاجة إلى الطمأنة. كان يعرف تمامًا أن ما وراء هذا التقرير يحمل المزيد من التعقيدات. رد بحزم:
"عارف إنهم وراهم حاجات كتير."
تساءل عماد، محاولًا فهم ما يجول في ذهن قائده:
"وهنعمل إيه يا قائد؟"
توقف زين للحظة، يتأمل في الخيارات المتاحة أمامه. ثم تحدث بنبرة مليئة بالحزم:
"بعد اللي قريته دا، آسر مش هيكون في أمان هناك، وخصوصًا لو فضلوا عايشين. بره الخطر هيكون أكبر."
كان عماد يعلم مدى أهمية آسر بالنسبة لزين، لكنه سأل بقلق:
"لو فضلوا في مصر، هتقولهم؟"
زين أجاب بوضوح، كمن اتخذ قرارًا لا رجعة فيه:
"أيوه، وقتها هقدر أحمي آسر، وهيكون في أمان. لو حصل أي حاجة، هكون موجود. كمان أنا وعدت جدته إني مش هبعده عنها."
لم يكن عماد متأكدًا إن كان ما يسمعه هو القرار الصائب، فسأل بتحفظ:
"يعني أفهم من كده إنهم مش هيعرفوا بوجوده؟"
رد زين بحزم أكبر، وكأنه يقطع أي مجال للنقاش:
"أيوه، لو صمموا على السفر، مش هقول لهم على آسر."
كان عماد يشعر بأن هذه القرارات تحمل في طياتها مخاطرة كبيرة، فحاول أن يوضح موقفه:
"بس دا كده..."
لكن زين، الذي كانت عصبيته تتصاعد مع كل لحظة، قاطعه بصوت عالٍ مليء بالغضب:
"في إيه يا عماد؟ عاوزني يعني أبعده عن جدته؟ انت ما شفتهاش وهي بتترجاني! مش هقدر أكسر بخاطرها، ودا اللي فاضل ليها من ابنها. دي أم، مهما كان، وليها حق في حفيدها."
توقف زين لبرهة، وكأنه يتذكر مشهد الأم وهي تترجاه، ثم أضاف بصوت أكثر هدوءًا:
"وبعدين أحمد وصاني على مراته علشان أمه مش بتحبها، وخلاص الدكتورة الله يرحمها هي معاه دلوقتي. أما آسر، أكيد جدته مش هتأذيه."
حاول عماد أن يوضح نواياه، لكنه كان حذرًا في كلماته:
"أنا ما قصدتش يا قائد. أنا بس كنت بفكرك بالوصية."
كان زين يعلم أن عماد ليس له نية سيئة، لكنه كان يشعر بالضغط من جميع الاتجاهات. أجابه بصوت هادئ، لكنه مشحون بالمسؤولية:
"عارف يا عماد، مش ناسي. بس برضو ما ينفعش أحرمها من حفيدها وتشوفه كل كم سنة مرة. وبعدين حياتهم فيها مخاطر كتير."
أكمل زين حديثه، وهو يقذف الملف نحو عماد:
"مش دي التحريات اللي عملتها؟ شوفها كويس، شكلك انت اللي ناسي. دول أعدائهم أكتر من حبايبهم، آسر يعمل إيه في كل دا؟ أحمد حكم عليهم من أيام ما كانوا في مصر، بعد لما سافروا ما يعرفش كل دا، ولو كان يعرف ما كنش كتب الوصية دي."
كانت كلمات زين ثقيلة ومليئة بالحسرة. كان يعبر عن ألم داخلي، يعلم أن وصية أحمد وضعته في موقف صعب، ولكنه يعرف أيضًا أنه لا يمكن أن يخذل صديقه الراحل، مهما كانت العواقب.
عماد، بعدما سمع كلمات زين الأخيرة، شعر بالارتياح رغم كل التوتر الذي ساد الحوار.
كان يدرك تمامًا أن زين يتحمل عبئًا كبيرًا، وأن عليه أن يكون إلى جانبه، مهما كانت التحديات. فرد بصوت مملوء بالثقة والولاء:
"تمام يا قائد، أنا معاك في أي حاجة، قول لي بس ناوي على إيه."
زين، الذي بدا أكثر هدوءًا الآن، أجاب بحزم واضح:
"كل حاجة تمشي طبيعي، وأنا هقول لأم المقدم أحمد لو جم ما تجيبش سيرة عن آسر خالص. وأنا اللي هتصرف."
عماد، وهو ينهض من مكانه، وافق قائده بإخلاص:
"تمام يا قائد. استأذن أنا دلوقتي، لو عوزت حاجة كلمني."
زين، بنبرة أخوية تملؤها الجدية والاطمئنان، ودعه:
"مع السلامة، انت يا عماد، ومتنساش اللي قلت لك عليه. وأنا شوية وهروح لامه واخته، أشوفهم عاوزين حاجة قبل ما أسافر البلد."
عماد، بابتسامة خفيفة، ودع زين متمنيًا له السلامة:
"توصل بالسلامة يا قائد."
بعد خروج عماد، غلّق زين الباب خلفه بهدوء، ثم وقف لدقائق يستجمع فيها أفكاره.
توجه بعد ذلك إلى أداء الصلاة، محاولة منه لتهدئة النفس واستعادة التوازن الداخلي.
كان يعرف أن ما هو مقبل عليه يتطلب هدوءًا وتركيزًا كاملين. بعد انتهائه، خرج من شقته متجهًا إلى منزل المقدم أحمد.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
تقدم زين نحو الغرفة الذي كان يرقد فيها أحمد للمرة الأخيرة. كانت خطواته ثقيلة، محملة بالوجع والحزن.
دخل الغرفة ببطء، واقترب من جثمان صديقه الذي كان يرتدي زيه العسكري الملطخ بالدماء. مدّ يده المرتعشة نحو جيب أحمد، وأخرج منه الورقة التي تركها له.
قبل رأس أحمد للمرة الأخيرة، وودعه بدموع حارقة لم تتوقف عن الانهمار.
شعر بثقل الفراق في كل جزء من كيانه، وكأن الروح تغادر جسده مع رحيل أحمد.
أمسك بالورقة بيده المرتعشة، كانت مبللة بالدماء، وخرج من الغرفة بخطوات مثقلة نحو القطاع.
لم يكن قادراً على فتح الورقة في البداية، كان خائفاً مما سيجده بين السطور.
لكن في النهاية، استجمع قوته وفتحها ببطء.
بدأت عينيه بالقراءة، بينما كان قلبه يخفق بقوة مع كل كلمة.
في البداية، قرأ الآية القرآنية:
"بسم الله الرحمن الرحيم.
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون ) صدق الله العظيم."
شعر زين بوخز في قلبه، وكأن أحمد يخاطبه من مكان بعيد، يطمئنه أنه ما زال موجودًا بطريقة ما. استمر في القراءة، وكل جملة ....... [المزيد]
آسر وسر مذكرات أمه: في خضم أيام الإجازة، ومع مرور كل يوم، ظلَّ آسر متأرجحاً بين الحلم والواقع. كان يقترب من لحظة عودته إلى مدرسته بينما في داخله صراعٌ مرير، لم يكن قادرًا على التهرب منه.
أما عايدة، فقد كانت تتعمد، دون رحمة، أن تسلب من آسر كل شعور بالراحة والطمأنينة التي قد تكون لديه، ولسانها اللامتوقف كان كالسيف يقطع كل خيط أمل في قلبه.
كلما دخلت عايدة إلى غرفة آسر، كانت تجد الصغير غارقًا في شروده، وعينيه مسمرتين على صورة والدته. كان يعاني من الغياب، وهو لا يزال يتذكر آخر لحظات مع والدته التي رحلت عنه، ولا يزال يرتدي الحزن كعباءة ثقيلة.
دخلت عايدة الغرفة ذات يوم، وبنبرة حادة:
"إنت قاعد تعمل إيه؟ يلا نام، الإجازة خلصت، بكرة في مدرسة. ولا هو يعني علشان هتاخد بقيت السنة إجازة، هتلعب من أولها؟ يلا."
آسر، بصوت خافت:
"حاضر يا نانا."
عايدة، بتفويض صارم:
"يلا."
قام آسر إلى سريره، وهو يحاول يضع في ذهنه أن كل ما يفعله هو مجرد حالة من الانتظار للعودة إلى حياته الطبيعية، لكن كلما حاول أن ينام، كان وجه والدته يلاحقه في أحلامه، وتذكره برفق الصورة التي يحتفظ بها في حضنه.
مرت الأيام كالساعات، وتوالت الأسابيع. كان آسر يذهب إلى المدرسة ويعود إلى أجواء المنزل التي تطغى عليها قسوة عايدة وكلماتها السامة.
عادت عادته بعد المدرسة، حيث يذهب إلى غرفته، ويجلس ممسكًا بصور والدته ووالده، مُستمدًا من هذه الصور بعض السكينة قبل أن يخلد إلى النوم.
في أحد الأيام، بعد عودته من المدرسة، دخلت عايدة الغرفة مرة أخرى:
"إنت لسه قاعد هنا؟"
آسر، بهدوء مكتوم:
"لا يا نانا، أنا بعمل الواجب."
عايدة، بشدة:
"يلا، خلص وانام."
آسر بخوف:
"حاضر."
بعدما خرجت عايدة، قام آسر بإنهاء واجباته المدرسية بسرعة. كان الوقت يمر ببطء شديد، وبالتأكيد كانت عايدة على وشك الدخول مجددًا، فاستعجل في إنهاء ما عليه. بعد أن أتم الواجب، أخرج صور والديه من حقيبته، وأخذها في حضنه، مستعدًا للنوم، وهو يحاول إغلاق عينيه.
هذه الليلة، لم يكن عاطفياً كما في الليالي السابقة. كان لديه تصميم جديد؛ سمع من عايدة حديثاً عن خطة محاكة ضد أصدقاء والدته وعمه زين.
هذا ما جعله يقرر أن يتخذ خطوة جريئة.كان يعتقد أن قراءة مذكرات والدته، التي كانت تحتوي على كل أسرار حياتها، قد تكون مفتاحًا لفهم الحقيقية واسترجاع حقها.
قبل أن يبدأ في قراءة المذكرات، سمع صوت عايدة خارج الغرفة. سارع إلى سريره، وتظاهر بالنوم، وهو يشعر بقلبه يخفق بسرعة.
كانت عايدة واقفة عند الباب، وكان خائفًا أن تكتشف أنه لم يكن نائمًا بعد. ظل مغطى بغطاء السرير، وعينيه مغلقتين بشدة، حتى شعر بالنعاس يغلب عليه.
في قلبه كان يدعو الله أن يكشف له الحقيقة، وأن يعيده إلى نقطة توازن، حتى يتمكن من استرداد حقوق والدته، والانتقام من أولئك الذين ظلموها.
في صباح اليوم التالي، تسللت خيوط الشمس إلى الغرفة عبر النوافذ، بينما كان آسر غارقًا في سبات عميق. لكن فجأة، صرخ من وقع الماء البارد الذي صبته عايدة عليه، وهو يصرخ:
"آه، آه، آه، في إيه؟"
عايدة، بعصبية:
"كل دا نوم؟ قوم، المدرسة. لو كنت بتنام بدري، كنت صحيت بدري. وبعدين، تعال هنا، كنت بتقول إيه وإنت نايم؟"
آسر، وهو لا يزال في حالة من الارتباك، حاول استيعاب ما يحدث:
"نانا، أنا..."
عايدة بغضب وحده:
"إنت مش سامعني؟ بلاش تأتأ، اتكلم!"
آسر، غير قادر على فهم الموقف بالكامل، حاول أن يوضح:
"أنا مش عارف في إيه، أنا كنت نايم والله يا نانا، ما عملتش حاجة."
عايدة، بتجاهل تام لمشاعره، أضافت ببرود:
"يلا، اغور، وعمل حسابك، ما فيش فطار."
آسر، وهو يمسح دموعه التي اختلطت مع الماء الذي غسلت به وجهه، تمتم لنفسه:
"هو أنا يعني كنت بفطر؟ أنا باكل بقايا الأكل. ربنا يسامحك يا نانا."
بكى بشدة، وكانت دموعه تتساقط وتختلط بالماء الذي كان يغسل به وجهه، وكأن حزنه يفيض مع كل قطرة. ثم ذهب ليجهز نفسه للمدرسة، بينما استمر يومه كالعادة، دون تغيير يذكر، متجاوزًا كل محنة جديدة بمشاعر مدفونة عميقًا.
وفي مساء، دخل آسر غرفة بعد أن انهى طعامه.
كانت خطواته ثقيلة، لكنه حاول ألا يظهر حزنه. بمجرد دخوله غرفته، أسرع نحو الدولاب، وسحب منه دفتر مذكرات والدته.
جلس على سريره، قلبه يخفق بتسارع، وبدأ يقرأ أولى صفحاتها.
كانت الكلمات مكتوبة بعناية، تحمل بين السطور ذكريات وأحلام وحنين.
شعر وكأنه يغوص في عالم آخر، حيث تلتقي الذكريات القديمة بالواقع الحاضر، ليجد في تلك الكلمات عزاءً لروحه المتعبة.
كان آسر جالسًا على سريره، والقمر يرسل خيوطه الفضية عبر النافذة، لكنها لم تكن كافية لتبدد الظلام الذي أحاط بقلبه وهو يمسك بدفتر مذكرات والدته.
فتحه بيدين مرتجفتين، وكانت الصفحة الأولى تحمل صورة قديمة، تجمع والدته وجدته وجده عندما كانت صغيرة.
تلك الصورة كانت مألوفة له، فقد رأها من قبل حين كانت والدته تُظهرها له، ولكن ما أحزنه أكثر أنه لم يرَ أصحابها في الحقيقة، حتى ولو في صور أخرى.
بدأ يقرأ ببطء، وكأن كل كلمة كانت تثقل قلبه أكثر:
"عارف إنك دلوقتي بتقرأ مذاكراتي، ماتزعلش مني لو كنت قصرت في حقك. إنتا عارف إنك أغلى شخص في حياتي إنتا وأحمد، وأنا قررت إني أكتبلكم حياتي وكل حاجة عني. مش عارفة مين فينا هيموت بس قررت إني أكتبها؛ أحمد على طول مسافر علشان شغله، وإنتا دلوقتي تميت السنتين. وأنا بكون لوحدي، وهما وحشوني أوي ونفسي يرجعوا. حبيت أكتبلك حياتهم معايا. وازاي عرفتهم، هتحبهم أوي. عارف إنك عمرك ما شفتهم، بس أحمد عرفهم كويس. عارف يا أحمد إنك هتزعل مني، بس أرجوك سامحني، عاوزه ابني يعرفهم حتى لو من خلال مذكراتي. فأرجوك لو أنا فارقت الحياة الأول، إنك تسمح لآسر يقرأها على الأقل علشاني أنا. دي أمنيتي الوحيدة بعد موتي أرجوك نفذها."
بينما كان يقرأ، شعر آسر بدموعه تنهمر بصمت، كان يعرف أن هذه الكلمات كتبت بحب وألم، وكان يعلم أن والدته كتبتها وهي تفكر في المستقبل الذي لم تكن متأكدة من أنها ستكون جزءًا منه. قلب الصفحة ببطء، وكأنه يخشى ما سيقرأ بعد ذلك:
"حبيبي ماتزعلش أنا موجودة على طول جنبك في كل مكان إنتا فيه أنا معاك وهفضل معاك على طول. خالي بالك من الكتاب دا فيه أحلى حاجة في حياتي."
ضمت يديه الكتاب إلى صدره بشدة، وكأنه يحاول أن يحتفظ بجزء من والدته الحبيبة. بكى وهو يقبل الكتاب، متمنيًا لو كانت هنا لتحتضنه. بعد لحظات من الهدوء، مسح دموعه وأعاد فتح الكتاب ليكمل القراءة:
"عارف يا آسر. أنا كمان زيك حبيبي، وحيدة أبويا وأمي، ملهمش غيري. ولا أنا ليّا غيرهم، حياتنا كانت عادية جدًا. أمي كانت ربة منزل بتشتغل من البيت بتعمل أكل وحلويات وتقعد قدام البيت بتبيعهم؛ وأبوي كان أرزقي على الله كل يوم شغلانة شكل، ويوم يلاقي ويوم لاء، وحياتنا كانت ماشية والحمد لله. أنا كان نفسي أكمل تعليمي، وبابا كان فرحان بيّا أوي لما قولته نفسي أكون دكتورة؛ كان بيشجعني على طول هو وماما. لكن جدتي وأعمامي لاء، مش بيحبوني ولا بيحبوا أمي، زي جدتك كدا مش بتحبني. كانوا بيتدخلوا في كل حاجة، ودايما بيقولوا إيه لازمة التعليم خليها في البيت وجوزها لابن عمها. لكن بابا كان أول مرة يرفض ليهم طلب، وأصر إني أكمل ورفض إني أتزوج ابن عمي. كنت فرحانة أوي من قراره دا. أنا كمان مش بحبهم ومش عاوزة أكون وسطهم؛ نفسي نبعد عنهم، لكن للأسف بابا اللي بعد عنّا للأبد."
شعر آسر بألم في قلبه وهو يقرأ عن والدته، وعن أحلامها التي كانت بسيطة ولكنها ذات معنى عميق. كانت تتحدث عن رغبتها في الهروب من واقع ضيق، عن شغفها بالتعلم، وعن دعم والدها لها. لكنه شعر بثقل الفراق الذي أحاط بتلك الكلمات.
ثم وصل إلى الجزء الذي أخبرته فيه عن ذلك اليوم المشؤوم:
"كان معايا الصبح وهو بيوصّلني للمدرسة؛ كان عندي امتحان جبر وإنجليزي. كنت في سنة ثالثة إعدادي ودا امتحان آخر السنة، بعد لما وصلني قالي؛. هروح أشوف الشغلانة اللي عمي فهمي جابهاله؛ كانت في منطقة بعيدة عنّا بأكتر من ساعتين؛ هاشتغل معاه عامل تحميل طوب و أسمنت، راح معاه وللأسف ما رجعش.خلصت إمتحان و روحت على البيت. فضلت مستنيه. لكن هو إتأخر أوي، خرجت أنا وماما نسأل مرات عم فهمي عليه.قالت انها متعرفش حاجه عن زوجها من وقت لما خرج الصبح وقال هيعدي على بابا عند المدرسة.
رجعنا البيت ومش عارفين نتصرف إزاي. الوقت تأخر والعشاء هتأذن وبابا لسه مارجعش."
هنا، لم يستطع آسر منع دموعه من السقوط بغزارة، شعر بالحزن العميق على جدّه الذي لم يكن يعرفه، وعلى والدته التي فقدت سندها في الحياة في عمر صغير.
كانت هذه اللحظات التي كتب فيها تلك المذكرات مليئة بالأسى والحزن، ولكنهما كانا مفعمين أيضًا بالحب والأمل الذي كانت تسعى لنقله إلى ابنها الصغير، الذي كان يقرأ الآن بين السطور ذكريات وحنين شخصيات لم يعرفها إلا من خلال تلك الكلمات المكتوبة بحبر الألم.
"" "" جلست صفية على عتبة بابها، وألمها يكاد يفترس قلبها. كانت تبكي بحرقة، ترفع يديها إلى السماء وتدعوا الله بحرقة أن يعيد لها زوجها سالمًا. في تلك اللحظات، شعرت وكأن الحياة كلها توقفت، وكل ما تبقى لها هو الدعاء والتوسل. شعور العجز سيطر عليها، وكانت دموعها تحمل معها كل آلامها ومخاوفها.
إيمان كانت تتحرك بقلق أمام المنزل، تتنقل من جانب إلى آخر، تضرب يدها في بعضها بحركة عصبية. كانت في صراع داخلي بين خوفها على والدها وغضبها من الوضع الذي وجدوا أنفسهم فيه. لم تستطع تحمل الانتظار أكثر، فاقتربت من والدتها، التي كانت تجلس على العتبة وتبدو ضائعة في حزنها، وسألتها بصوت مليء بالقلق:
"هنعمل إيه يا ماما؟"
صفية نظرت إلى ابنتها بعينين مليئتين بالدموع، وقالت بصوت متحشرج:
"والله ما عارفة يا بنتي... ربنا يردك ليا يا أبو إيمان، يا رب."
إيمان، التي لم تكن تطيق الوقوف دون فعل شيء، ردت بإصرار:
"احنا هنفضل قاعدين كدا؟ يلا نروح عند مرات عم فهمي نسألها، ممكن تكون كلمت زوجها ولا حاجة. ما احنا لو كان عندنا تلفون كنا عرفنا أخباره."
تحتضن صفية نفسها بذراعيها بينما تسيل الدموع على وجنتيها. كانت عيناها تنظران إلى السماء بتوسل، والشفتان تتحركان بالدعاء بصوت خافت، "وهنكلمه على اي يا عين أمك، هو أبوكي يفهم فيه. ولا يعرف يمسكه."
إيمان، التي لم تستطع الجلوس طويلاً، بدأت تتحرك ذهابًا وإيابًا أمام المنزل. كان القلق يغمر وجهها، وكانت تضرب يديها ببعضهما في محاولة لتهدئة نفسها. فجأة، قررت دون تفكير أن الوقت ليس مناسبًا للانتظار. نهضت بحدة، تمسك بيد أمها بقوة وكأنها تستمد منها الشجاعة:
"طب يلا نروح. يلا يا ماما."
لكن عندما بدأتا بالتحرك، توقفت إيمان فجأة عند سماع صوت خلفها.
صوت ذو نبرة ساخرة مليئة بالاحتقار، جعلها تشعر بالدماء تغلي في عروقها. التفتت ببطء، وعيناها تمتلئان بالغضب المكبوت، لتواجه ابن عمها، الذي كان يقف متكئًا على الحائط، يلاعب ذقنه البارزة قليلًا ويرفع حاجبه بتحدٍ:
"علي فين يا مرات عمي انتي والسنيوره، اي هو علشان راجل البيت لسه بره. الحريم هتلف على حل شعرها والا اي؟"
نطق الكلمات من فمه كسهام مسمومة، تتساقط على إيمان لتزيد من اشتعال غضبها. قلبها كان ينبض بقوة، لكن صوتها جاء حادًا وصارمًا:
"ابعد عن طريقي، وما لكش دعوه بينا."
ابن العم، بابتسامة مائلة تضمنت مزيجًا من السخرية والتهديد، اقترب خطوة للأمام، وكأن تقدمه يهدف إلى فرض سيطرته بالقوة.
"نعم يا حلوى، اعمل اي، شيفه تربيتك يا مرات عمي. ولا عال، وكمان بتبجحي، يلا ادخلى جوه، ومافيش خروج بره البيت لحد لما عمي يرجع. يلا يا مرات عمي، ومش هفضل هتكلم كتير أنا."
كان صوته يغلفه التهديد والابتزاز العاطفي.
صفية، التي شعرت بالعجز والخوف يلتفان حول قلبها، تمتمت بصوت متردد:
"عمك هيرجع منين بس، دا عمره ما تأخركدا، استر يارب."
لكن ابن العم لم يكن مستعدًا لتخفيف حدة كلامه، بل زاد في تهكمه قائلاً:
"هيستر ان شاءالله، يلا ادخلوا انتوا بس، وبعدين هتلاقيه بشتغل شغلانه كمان ولا حاجة، مش السنيوره عوزه تكون دكتوره، وراح وجايه من المدرسة، تهز طولها وتفرج الناس عليها."
لم تتحمل إيمان أكثر من ذلك. شعرت بالغضب يشتعل في صدرها وكأنه نار تحرقها من الداخل.
وقفت أمامه بكل قوتها، تنظر إليه بجرأة لم تعهدها في نفسها من قبل:
"انتا عاوز اي، ابعد عن طريقنا، وبعدين من امتا وبابا كان يهمك، انتا ولا علتك، ابعد خليني ادور عليه."
نظر إليها ابن العم بدهشة ممزوجة بالغضب، وكأنها تجرأت على تخطي حدودها، "اي دا! القطه بقت بتخربش، بس ورحمت أمي لأخليكي تخافي من خيالك، بس الصبر بكره تيجي تحت لرجلي."
شعرت صفية وكأن التهديد موجّه لها ولابنتها في الوقت ذاته.
نهضت بسرعة، وملامحها تحولت إلى قوة لم تتوقعها، "رجلك دي انا هكسرهالك يا ابن نفسيه؛ يلا امشي من هنا، ومالكش دعوه ببنتي."
لم يكن في ابن العم سوى الابتسامة الساخرة وهو يتراجع ببطء، يهمس بكلمات مليئة بالاحتقار:
"أنا ماشي، ان شاءالله تولعوا."
إيمان، التي شعرت بالغضب يفيض من قلبها، صرخت خلفه بكلماتها الأخيرة قبل أن يبتعد: "غور ربنا يأخدك."
ثم التفتت إلى أمها، محاولًا تهدئتها وسحبها بعيدًا عن المشهد الذي تراه أمامها:
"يلا يا ماما."
صفية كانت تمشي بخطى ثقيلة، وكأن ثقل العالم يجثم على كتفيها. كانت الدموع تموج في عينيها، لكنها كانت تحاول أن تبقيها حبيسة، مستعينة بإيمانها الهش الذي تماسكته بصعوبة. نظرت إلى ابنتها التي كانت تمشي بجانبها، تقاوم انهيارها، تحاول أن تكون قوية لأجلها.
"ماشي يا بنتي... يلا."
قالتها بصوت شبه مكسور، ولكنه يحمل في طياته قوة لا تنفك تستجمعها من حبها لأبنتها.
لكن فجأة، تعالت صرخات مدوية في الهواء، أوقفت خطواتهما، وجعلتهما تلتفتان بسرعة نحو مصدر الصوت. كانت الصرخات تعبر عن خوف وألم شديد، وكأنها تنذر بحدوث شيء سيء.
تبادلتا النظرات، وقلوبهما مليئة بالخوف والقلق، وكأن هذا الصوت هو إنذار لشيء خطير سيحدث.
عيون صفية اتسعت بصدمة، وقلبها خفق بقوة كأنه يريد الخروج من صدرها.
"إي الصريخ دا... جاي من بيت جدتك؟"
سألت بارتباك، لكن بداخلها كانت تعرف الجواب دون أن تحتاج إلى تأكيد.
إيمان، التي كانت دائماً تندفع نحو الحلول السريعة، لم تستطع السيطرة على غضبها المكبوت. صرخت بغضب مكبوت:
"يلا يا ماما، ان شاء الله يموتوا كلهم، يلا."
كانت كلماتها حادة مثل السكاكين، تعكس الألم والغضب الذي لم تجد له متنفساً آخر.
لكن صفية، برغم كل شيء، لم تستطع تجاهل إحساسها الأمومي، الذي جعلها تهمس بحذر:
"استني يا بنتي بس... يلا نشوف في إيه."
كان عقلها مشوشًا، لكنها لم تستطع تجاهل الشعور بالمسؤولية.
اقتربتا من المنزل الذي يبتعد قليلاً عنهما، وعندما وصلتاه، كان مشهد الجدة سعدية وهي تصيح وتضرب وجهها بمثابة الصاعقة التي حطمت ما تبقى من تماسك. كانت الجدة تصرخ وتنادي على ابنها، وكأنها تحاول استدعاءه من الموت. وعندما سمعت إيمان اسم أبيها، هرولت نحو الجدة، تمسكها بقوة وتصرخ بوجهها، محاولًة أن توقف هذا الجنون:
"بابا ماله؟ ردي عليا، بتصرخي ليه؟"
الجدة سعدية، بعينين غائرتين من الحزن واليأس، كانت تبدو كأنها تعيش كابوسًا لا نهاية له، صرخت بألم يغمر كل كلمة: "ابني مات، يالهوي، يا حبيبي،اه،ياني اه، ابني."
كلماتها كانت تخرج من قلبها المنكسر، محملة بعبء الألم الذي لا يُطاق.
إيمان شعرت بأن الحياة تنسحب منها، وكأن الأرض قد تفتحت تحت قدميها لتهوي بها إلى أعماق الجحيم.
انقضت الجدة عليها بقوة، وكأنها تحملها مسؤولية هذا الفقدان الرهيب، صرخت في وجهها بغضب محموم:
"ابعدي عني. انتي السبب انتي وأمك، هو راح بشتغل علشان مين؟ ومش انتي والله هموتك."
كان كل حرف يخرج من فمها وكأنه سكين يغرز في قلب حفيدتها.
الجدة سعدية، التي لم تعد تملك سوى الألم والغضب، لم تتمالك نفسها وأمسكت بشعر إيمان، تضربها بقوة على وجهها، وكأنها تحاول أن تنقل لها جزءًا من الألم الذي يعصف بها.
"آه آه، الحقيني يا ماما!" صرخت إيمان وهي تشعر بأن الألم ليس جسديًا فقط، بل هو ألم عاطفي يعصف بكل ذرة من كيانها.
صفية، التي لم تستطع تحمل رؤية ابنتها تُضرب، هرعت لتفصل بينهما، صارخة بألم وغضب:
"ابعدي عن بنتي، ابعدي. إيه ربنا على الظالم والمفتري، بدل ما تقفوا جمبها، وانتوا بتقولوا أبوها مات. ربنا يسامحكم. عمر ما جاه من وراكم خير أبدًا، حسبنا الله ونعم الوكيل فيكم." كانت كلماتها مليئة بالمرارة واليأس، وكأنها تلقي بلعنتها على هذا القدر الظالم.
الجدة سعدية لم تعد تحتمل، كانت عيناها تحترقان بالغضب والشعور بالظلم، صرخت بقوة: "اخرجوا انتي وبنتك من بيتي؛ موتوا ابني."
كان غضبها يفيض من قلبها، ولم تعد قادرة على التفكير بعقلانية.
العم رأفت، الذي حاول التدخل للحفاظ على الهدوء، قال بصوت منخفض لكنه كان يحمل ترددًا واضحًا:
"بس يا أما... الناس بتتفرج علينا."
لكن الجدة سعدية لم تهتم، دفعت ابنها بعيدًا وكأنها لا تريد سماع صوته:
"ابعد عني، والله ما هخليكي تشوفي يوم حلو، يا بنت صفية."
كانت كلماتها تحمل تهديدًا واضحًا، وكأنها عازمة على الانتقام بأي ثمن.
إيمان، التي لم تعد تستطيع التحكم في غضبها، صرخت بجرأة:
"أنا بنت محمد. وأبويا موجود، ومش من حق حد يحرمني من اسمه، حتى لو انتي."
كان صوتها مليئًا بالقوة، لكنها كانت تخفي خلف هذه القوة ألمًا عميقًا.
الجدة سعدية، وكأن كلمات إيمان أشعلت فيها نارًا لم تعد تستطيع إخمادها، صرخت وهي تلوح بيدها في الهواء:
"ورحمة ابني اللي لسه ما اندفن، لأكسر شوكتك، وخليكي تتمني الموت."
كان تهديدها قاتمًا، يعبر عن حقد دفين لا يمكن محوه.
ابتعدت صفية وابنتها عنهم، وكانتا تقفان أمام منزلهما، منتظرتين بقلوب منكسرة، تنتظران زوجها الذي علمتا بموته منذ قليل، ولا تعرفان ماذا تفعلان أو كيف تتحققان من هذا الخبر.
بعد فترة قصيرة جدًا، رأت صفية سيارة الشرطة تقف أمام المنزل. كانت تسأل عنها، فاقتربت بخطى مترددة، وحاولت أن تبقي صوتها ثابتًا: "خير يا بيه."
الضابط، بنبرة رسمية مليئة بالجدية، قال:
"انتي مرات محمد عبود؟" كانت عينه تبحث عن أي علامة تدل على أنها قادرة على تحمل ما سيخبرها به.
ردت صفيةوهي تكاد تلتقط أنفاسها:
"أيوه يا بيه، ودي بنتي."
الضابط، بحذر واضح، قال: "تعالي معانا على المستشفى، علشان تستلمي الجثة."
كان يحاول أن يخفف من وقع كلماته، لكن الحقيقة كانت قاسية جدًا.
خرجت صرخة قوية من فم إيمان، وكأنها طلقة نارية تخترق السكون.
وضعت صفية يدها بسرعة على فم ابنتها، محاولة تهدئتها، "حرام أوعي تعملي كده... سمعه. ادعي ربنا هو دلوقتي بين إيديه."
كانت تحاول أن تبقى قوية، لكن صوتها كان مليئًا بالوجع الذي تحاول قمعه.
ثم نظرت للضابط مرة أخرى، تجمع ما تبقى من شجاعتها لتنطق بثبات ظاهري فقط: "جوزي مات إزاي يا بيه؟"
كان قلبها ينبض بقوة، وكأنها تعرف أنها لن تحتمل سماع الجواب.
الضابط، بنبرة محايدة لكنها مليئة بالتفهم، قال:
"وقع عليه جدار من الدور الثالث، القضية مفتوحة ما تخافيش. حق جوزك هيرجع. يلا اتفضلي معانا."
كان يحاول أن يخفف من حدة الألم الذي يعرف أنه لا يمكن التخفيف منه.
ركبت صفية وابنتها السيارة مع الشرطة، توجهتا للمستشفى. عند وصولهما، لاحظت صفية أهل زوجها الذين سبقوها إلى هناك، كانوا في انتظارها، يعلمون أنها من ستستلم الجثمان.
استلمت صفية الجثة بصمت مطبق، وكأنها تحمل في يديها ثقل العالم.
تم الصلاة على الجنازة في صلاة الفجر، ثم الدفن. كانت تشعر وكأنها تعيش في كابوس لا ينتهي، كل لحظة كانت تثقل عليها كأنها ألف عام.
في الأيام الثلاثة التالية، كانت صفية تجلس مع ابنتها في البيت الصغير الذي يعيشون فيه، وكانت نساء القرية يأتين لتقديم واجب العزاء. كان الحزن يلف المكان كغيمة سوداء، لكن صفية كانت تحاول التماسك من أجل ابنتها.
لكن إيمان التى كانت منهارة، لم تخرج من غرفتها، وظلت مدة ثلاث أيام.
تدخل صفيه غرفة ابنتها، وبنبرة حزينه على حال ابنتها، وما حل بهم تقول:
"قومي يا ضنايا "
ترفع إيمان رأسها وتنطق بحزن:
"اعمل اي يا ماما، خلاص بابا راح. هنعمل اي من بعده"
في اللحظة التي نطقت فيها إيمان بتلك الكلمات، كان صوتها يحمل وزنًا ثقيلاً من الحزن والعجز، كما لو كانت تسحب نفسها من بئر عميقة لا نهاية له.
جلست صفية بجوار ابنتها على الفراش، تشعر بألم قلب ابنتها الذي ينعكس في عيونها الدامعة. كل كلمة تنطق بها صفية كانت مملوءة بمحاولة بائسة لاحتضان ابنتها داخل دفء الأمل، لكنها كانت تعلم أن قلب إيمان مثقل بفقدان والدها.
صفية بحنان الأم وألمها:
"ربك موجود يا بنتي... يلا قومي."
كانت كلماتها ناعمة، تحمل في طياتها مزيجًا من القوة والعجز في آن واحد.
كانت يدها التي أزاحت شعر إيمان عن وجهها مليئة بالحنان الذي لم يفارقها أبدًا، حتى في أصعب اللحظات.
لكن إيمان، تلك الفتاة التي أضحت تحمل همومًا أكبر من عمرها، دفعت يد أمها عنها برفق وهي تقول بصوت متهدج بين شهقاتها المتقطعة:
"سبيني والنبي يا ماما... مش عاوزه أكل ولا أشرب... عاوزه بابا بس."
كل كلمة كانت كالسكين تغرز في قلب الأم، التي كانت ترى في عيون ابنتها صدى آلامها.
صفية بمحاولة للتشجيع: "أبوكي عند اللي أحسن مني ومنك... وأحن عليه من الدنيا اللي قاسية علينا دي."
حاولت صفية أن تجد في تلك الكلمات قوة لترفع من معنويات ابنتها، لكن ابتسامتها الهادئة لم تكن كافية لمحو الألم من قلب إيمان.
صفية بلمحة من الأمل:
"يلا قومي يا دكتورة... لسه عندك امتحان بكره... ولا مش عاوزه تحققي حلم أبوكي... وتشمتي فينا اعمامك."
كانت هذه الكلمات بمثابة الشرارة التي حاولت صفية أن تشعل بها روح العزم في قلب ابنتها.
لكن إيمان لم تستطع إلا أن تهز رأسها ببطء، وقالت بصوت مبحوح:
"ما ليش نفس أمسك كتاب."
صفية بتحدٍ مستميت:
"لا، قومي... صلي وادعي ربنا كدا... كل لما تمسكيه تفتكري دا حلمه... لازم تحقيقيه واوعي تتنازلي عنه."
كان صوت صفية مليئًا بالإصرار، وكأنها تحاول بث روح المقاومة في قلب ابنتها.
لكن إيمان، ما زالت تتساءل بقلق:
"وهنعمل ايه في المصاريف؟"
صفية بإيمان عميق:
"ربك هيدبرها... وهو القضية بيقولوا فيها تعويض... قرشين يا بنتي... ربنا على الظالم."
شعرت إيمان ببعض الراحة، لكن فكرة أن تأخذ تعويضًا عن والدها لم تكن شيئًا يمكنها أن تقبله بسهولة.
"هنأخد تعويض عن أبوي؟" سألتها وهي تحاول كبح دموعها.
صفية بحكمة وألم:
"والله لو عليا، ما قبلته ولا اتنازل... بس اعمل ايه؟ جدتك الله يسامحها اتنازلت هي واعمامك عن القضية وقبلوه... والرجال قالوا أنا اللي هستلمه... واهو قرشين أمنك بيهم وعلمك... 50 ألف جنيه... هيساعدوا نعمل مشروع صغير يصرف علينا والباقي أعلمك بيهم."
كانت كلماتها مليئة بالحسرة على قرار لم يكن بيدها تغييره.
إيمان بشعور مختلط بين العجز والغضب:
"وهما هيسكتوا؟"
سألتها بتردد، تشعر بمرارة الظلم.
صفية بتحدٍ وعزم:
"والله، على ما فخليهم يركبوه... لو انتي هتتنازلي عن حلم أبوكي، أنا مش هتنازل عن حقه... وأخدهم واطلع بيهم عمرة... أنا وانتي... وكدا يبقى انتي اللي حكمتي على نفسك تتجوزي وخلاص."
إيمان بإصرار مفاجئ:
"أنا مش هتنازل."
نطقت بهذه الكلمات وهي تمسح دموعها بقوة، تشعر بأن العزيمة بدأت تتسلل إلى قلبها.
صفية بتأكيد وثبات:
"يبقى تقومي، وإوعي حد يحاول يكسرك... يلا، إحنا صحيح ضهرنا مات، بس ربك موجود."
كانت هذه الكلمات بمثابة النور الذي بدأ يضيء طريق إيمان المظلم.
قامت إيمان بعد تلك الكلمات المشجعة، توضأت وصلت، وهي تدعو الله بدموعها أن يرحم أباها ويساعدها في تحقيق حلمه.
كانت مشاعرها متناقضة بين الحزن والأمل، بين الفقدان والعزم.
جلست بجوار أمها، تمسك بكتابها، وتحاول أن تذاكر، لكن دموعها كانت تغرق الصفحات. كل حرف كانت تدرسه كان يحمل في طياته ذكرى لوالدها، وكان هذا الألم دافعًا لها للمضي قدمًا.
صفية بحنان الأم ودعواتها، مسحت دموع ابنتها، وضعت يدها على رأسها، وظلت تدعو الله بأن يمدها بالقوة والصبر. حتى عندما غفت إيمان على قدمها، كانت صفية تشعر بأنها بحاجة لمزيد من الصبر والإيمان لتحمل هذه الأيام الصعبة.
كانت لحظة من السكون تعم الغرفة، لكن قلوبهم كانت تعج بالألم والعزم على التمسك بالحياة، رغم كل ما فقدوه.
في صباح اليوم التالي، استيقظت إيمان على صوت أمها، صفية، وهي تناديها بلهجة قلقة ومتشبثة. كان يبرز من صوتها قلق الأم وحبها العميق، وهي تخشى أن تتأخر ابنتها على امتحانها الهام. لم يكن هناك وقت للكسل، وها هي إيمان تنهض مسرعة، تتوضأ، وتستعد بسرعة.
بينما كانت صفية تعد الطعام، نادت على إيمان:
"يلا يا إيمان هتتأخري."
أجابت إيمان بسرعة، وهي تحاول إنهاء آخر التحضيرات:
"حاضر خلصت اهوه."
خرجت إيمان من غرفتها، وتوجهت نحو الباب وهي تحادث أمها بتجاعيد القلق على وجهها:
"يلا أنا راحة."
ردت صفية، محذرة بصوت ملئ بالحرص:
"اقعدي افطري الأول، وبعدين روحي، وما تنسيش دا حلم أبوكي، وبلاش تسمعي لحد، ولا ليكي دعوة بالناس مفهوم؟"
أجابت إيمان بلهجة توحي بأنها تستوعب نصائح أمها، ولكنها متلهفة للذهاب:
"حاضر."
صوت صفية، الذي كان يتخلله الإلحاح، ازداد حدة:
"يلا اقعدي."
جلست إيمان بسرعة لتناول الإفطار، وهي تهم بالخروج. وكان دعاء أمها لها بالنجاح يملأ المكان بالدفء والأمل.
لم تبتعد إيمان عن المنزل إلا قليلاً، حتى اعترض طريقها شاب ذو جسد ضخم ونبرة غليظة مملوءة بالسخرية. كانت عينيه مليئتين بالاستفزاز:
"ألا الحلوة راح فين؟"
أجابت إيمان بغضب متزايد، موجهة له نظرات حادة:
"وانت مالك؟ ابعد عن طريقي."
عقب ذلك، أمسكها الشاب من شعرها بقوة، محاولاً إهانتها:
"لا يا روح أمك، مش أنا اللي تقولي كده. يلا انجري على البيت، مافيش مدرسة. يلا."
صرخت إيمان، وهي تشعر بالخوف والألم، محاولاً التخلص من قبضته:
"ابعد عني يا حيوان، سيب شعري! آه يا ماما!"
فزعت من صراخ ابنتها إيمان، فركضت نحوها، سحبتها من يد الشاب، وصاحت في وجهه بلهجة ملؤها الغضب والحماية:
"انت مين عشان تضرب بنتي؟"
رد ابن العم، مصمماً على موقفه، واثقاً من نفسه:
"أنا ابن عمها، وهكون جوزها، ومش هتخرج بره البيت تاني، ويلا انتا وهي على جوه."
صفية، معبرة عن غضبها واستنكارها، صاحت بشدة:
"ابعد عن طريق بنتي! وجواز إيه يا أبو جواز؟ أبوها قبل كده رفضك. انت مش شايف نفسك يا طور؟ دا فرق السن اللي بينك وبنها، لو كنت خلفت، كان زمانك عندك قدها، بس نقول إيه؟"
رد ابن العم بتحدي وسخرية، محاولاً إظهار نفسه القوي:
"قولي، يا مرات عمي، أغلطي، وأنا عاوزك تغلطي، علشان لما أوقفك عند حدك، ما حدش يلومني."
اقترب شيخ القرية، الشيخ حسين، مخاطباً ابن العم بلهجة تتسم بالحكمة والصرامة:
"خير،يا داغر يا ابني. عيب اللي بيحصل دا. عمك لسه مات من أيام، وانت بتأكل في لحمه."
رد داغر بتهكم، مشيراً إلى الوضع:
"أنت مش شايف يا شيخ حسين؟ بنته خارجة وقالت إنها رايحة المدرسة، وأبوها ميت من ثلاث أيام، عالم مش مكسوبة من نفسها. نتكسف إحنا ليها."
تدخل الشيخ حسين بلهجة أكثر حدة، محاولاً حل المشكلة:
"حقها يا ابني. وبعدين، النهارده آخر يوم في الامتحانات. سبها يا ابني، ربنا يهديك."
داغر، محبطاً، ختم حديثه بلهجة قاطعة، ثم تركهم:
"علشانك انت بس يا شيخنا، بس قدامك اهوه. ما فيش مدارس تاني، خلصت على كده. أمين."
ترك الشيخ حسين قائلاً بتمني:
"ربنا يهديك يا ابني."
ثم توجه إلى إيمان، قائلاً بلطف:
"يلا يا بنتي روحي."
ردت إيمان، وهي تشعر بالغضب والحزن:
"ربنا يخده."
قال الشيخ حسين، محاولاً تهدئة الأوضاع:
"عيب يا إيمان، دا انتا يا بنتي ما يطلعش منك العيبة. يلا، ربنا يهديكي."
ردت إيمان بتمرد، مصممة على استكمال تعليمها، رغم التهديدات:
"انت مش شايف يا شيخ عميلة، وأنا هكمل تعليمي ومش هسمع كلامه."
قالت صفية، محذرة وفي نفس الوقت عازمة على تحقيق حلم زوجها الراحل:
"ايوه يا شيخ، كلامك على عيني ورأسي، بس بنتي هتكمل لحد لما تحقق حلم أبوها."
الشيخ حسين، متفهماً الوضع، وعد بحل المشكلة:
"هتكلم معاهم يا أم إيمان، وإن شاء الله نلاقي حل."
قالت صفية، وهي تدفع إيمان للرحيل:
"يلا انتي يا إيمان هتتأخري."
تجري إيمان وتذهب للمدرسة ،
وتدخل بعد توزيع الورق، تتأسف المراقبة وهي تبكي علي التأخير، تسمح لها وتعطيها الورقه ، وتبدأ بالحل، يمر الوقت سريعا، وتنتهي من الامتحان وتعود إلي بيتها.
... تمر الأيام، وتنتهي من
الامتحانات،تجلس في غرفتها وهي تشعر بالقلق مصاحب باستغراب.
فبتعاد ابن عمها عنها بهذه السهولة لم يرح بالها، اتجهت إلى أمها الجالسة بغرفتها، استأذنت ودخلت.
عند دخولها، تركت أمها ما بيدها، وقالت وهي تشير لها بالجلوس بجانبها
"تعالي يا بنتي"
تجلس بجانبها على الفراش وتنطق بقلق
"خايفة اوي يا ماما"
ارتعبت صفيه ونطقت بخوف:
"من اي حبيبتي"
تنهدت إيمان بقوه ثم أجابتها:
"يعني جدتي و أعمالي، من أخر مره داغر وقفني بعد وفاة بابا، وهما سكتين، دا مش من طبعهم"
اعتدلت صفيه مره اخرى على الفراش وهي تجيبها بنبرة غاضبه تملؤها الكره:
"ربنا يريحنا منهم، دول عالم سم، وانتي بتفكري فيهم ليه"
إيمان بخوف أجابت:
"يعني مش غريبه يا ماما، بقالهم اربع شهور على الحال دا، ودلوقتي انا قدمت في ثانوي، وهما عرفوا مش غريبه دي كمان، إن ما حدش ادخل"
ابتسمت صفيه بسخرية على طيبة ابنتها وقالت:
"لاء يابنتي، علشان هما المهم عندهم الفلوس"
إيمان بتذكار:
"ايوه صحيح هو الراجل جبهملك"
اجابت صفيه:
"ايوه بس أنا رفضت، وقولت له يصرف عليكى وعلى علامك الاول، وبعد لما تدخلي الكليه يدفع الفلوس،والراجل كتر خيره وافق، وقالي كل المصاريف عليه، ولما تدخلي الكليه هيكون المبلغ زي ما هو ما ينقص منه شئ بالعكس هيزيد"
إيمان باستغراب:
"ازاي يعني، اومال هيصرف عليا من فين"
رد صفيه بحيره تسكن قلبها:
"سألته، قالي دا بره الموضوع، وكمان هيزودهم، وهيكونوا 100الف جنيه"
إيمان بسعادة:
"ايه"
اكملت صفيه حديثها بهدوء
"فأنا خلتهم باسمك، ومش هتخديهم غير لما تدخلي الكليه ودا شرطي عليه. علشان كدا بقولك، ما تستغربيش منهم، لازم تدخلي، ولا مش هيطولوا قرش، عرفتي ليه هما بعدوا عننا"
إيمان بكره:
"ايوه يا ماما عرفت، دول تعبانين، وأنا اللي فكرتهم قلبهم حن عليا"
صفيه بسخرية:
"دول عندهم قلب، دول منشار فلوس، يبيعوا دمهم علشان القرش.يلا سيبك منهم، وركزي في مستقبلك، أنا كلمت المدرسين هنا هتروحي الدروس، وفلوسهم هتوصلهم أول كل شهر،الراجل بردوا، عامل لينا مصروف شهري5ألاف جنيه"
إيمان بالإرتياح:
"كويس اوي"
نطقت صفيه بسعادة من اجل ابنتها:
"يلا المهم تتعلمي يا دكتوره"
تخرج وتتجه لغرفتها تذاكر حتي تنهي، وينتهي اليوم أيضاً.
تمر الأيام ويليها الشهور والحال كما هو عليه. حتي تنتهي من عامها التاني الثانوي،
تنتظر النتيجة هي وامها بفارغ الصبر، ظهرت و تأهلت للصف الثالث، كانت تغني وترقص لكن أمها تبتسم فقد ولم تقدر على القيام.لاحظت ذلك اقتربت منها وهي تردف بقلق
"مالك يا ماما، فيكي اي"
لم تستطع الرد عليها،تتألم وتخفي ذلك لكن لم تصمد طويلاً وصرخت بقوه،و تمسك بجانبها الأيمن.
تبكي إيمان بخوف عليها،
تجري للخارج وتنادي على الجيران والشيخ حسين،
الذي خرج واتجه إليها بسرعه، وطلب من ابنه زيدان الاتصال بالاسعاف.
انصاغ لطلب أبيه فورا واتجه إليه. وأخذوا صفيه للمستشفى.
دخلت غرفة العمليات. وبعد ساعه خرج الطبيب وهو يقول:
"حالتها صعبه الكلي تعبانه، فيها ورم واتم استئصالها"
صاحت إيمان بصدمه:
"اي، ليه، دي أول مره تشتكي منها"
الدكتور مراد بهدوء وخبث:
"لاء واضح انها تعبانه من فتره كبيره، الكلي مدمره"
طالعت الطبيب بصدمه ونظرت للشيخ برجاء وتحدثه بنبره بيطيئه مصاحبه بصراخ
"لا يا شيخ، والله عمرها ما أخدت علاج، غير لتعب عادي، برد وكدا، عمرها ما اشتكت من جنبها ولا اي حاجه،امي حصلها اي"
الدكتور مراد بتوتر:
"قولتلك، إنها مدمره، ولو كنت سبتها كانت هتموت، كلها ساعه وهتفوق، عن اذنكوا"
هرول بعدها لمكتبه وهو يمسح حبات العرق من التوتر.
دخل عليه مساعده ذراعه اليمين.
"اقعد يا يحيي"
تكلم يحيي باستغراب من حالته المغزيه:
"في اي بره، البنت دي، لو فضلت تقول كدا، هتلفت النظر لينا"
الدكتور مراد بضيق واضح:
"اطمن دي عيله صغيره، ومن الصدمه بس، لازم تخرج وتتكلم مع الشيخ اللي بره، وتشرح له حالتها وتهول الموضوع، مش عاوز حد يشك في حاجة"
دكتور يحيى بمكر:
"اطمن يعني دي اول مره"
الدكتور مراد ابتسم بخبث مع غمزه عين:
"يلا روح"
يخرج يحيى ثم يتجه إليهم و يحدثهم عن حالت امها
يظل الدكتور مراد في غرفته، يلعب بالقلم بأصابعه وهو يفكر في الحاله، وكيف يبقيها في المستشفى، لكي يأخذ منها ما يريد، فهي مطابقه للمواصفات التي يريدها، ويجب الا تضيع من يده.
لكن ابنتها هى العائق، فلابد من تعب الام المتواصل لكي تاتي بها لهنا. فاق من تفكيره على رنين الهاتف، رفع وتحدث وهو يجاوب على سيده ويقول له خطته،ثم يغلقه، ويخرج لإيمان والشيخ.
يقف ويتكلم بغموض وكلمات تهول الموضوع، أرعبت إيمان على امها،تشبكت بالشيخ، وهي تبكي بقوه غير مصدقه لما يحدث:
"ازاي دا حصل، دي كانت كويسه، كل التعب دا فيها وما مش دريانه بيها، ازاى"
بدأ الشيخ حسين حديثه بحزن مكتوم، صوته هادئ لكنه مشبع بالهموم، وكأن كل كلمة تخرج من فمه تحمل ثقل ما يخفيه قلبه:
"اهدي يا بنتي، ووحدي الله. كل ما يصيبنا هو مما كتبه الله لنا، ادعيلها، وربنا هيشفيها."
إيمان رفعت يديها للسماء باندفاع، وكأنها ترفع معهما كل آلامها وأوجاعها، عيناها تفيض بالدعاء الصادق:
"يا رب..."
الشيخ حسين التفت نحوها، وعيناه تحملان حزناً عميقاً، لكنها اختبأت خلف هدوء ظاهر:
"يلا على البيت، الدكتور قال ممنوع حد يفضل هنا."
صرخت إيمان بقوة، صوتها ممزوج بالخوف والعجز، وكأنها ترفض الانصياع للواقع المؤلم:
"لا، مش هسيب أمي!"
حاول الشيخ تهدئتها، صوته الناعم كان كالنسيم الذي يحاول عبثاً تهدئة عاصفة مشاعرها:
"يا بنتي، قعادك هنا مش هيعمل حاجة، يلا."
استسلمت لرغبة الشيخ حسين على مضض، لتعود معه إلى البيت، لكن روحها بقيت عالقة في الغرفة التي ترقد فيها والدتها.
دخلت غرفتها، أغلقت الباب عليها، لتترك العنان لدموعها التي انهمرت بلا توقف حتى بزوغ الفجر.
عند الصباح، اندفعت إيمان نحو المستشفى، قلبها يسبح بين الرجاء والخوف. جلست بجانب والدتها التي بدأت تستعيد وعيها ببطء. صفيه فتحت عينيها بصعوبة، وأخرجت كلماتها المتعبة:
"إيمان... إيه اللي حصل لي يا بنتي؟"
ابتلعت إيمان دموعها بصعوبة، وحاولت إخفاء ألمها، ناطقة بكلمات مليئة بالحنان والطمأنينة:
"اطمني يا ماما، الدكتور قال إنك هتكوني كويسة، الكلى تعبت واطروا يشيلوها."
تنهدت صفية بإيمان ورضا:
"لا حول ولا قوة إلا بالله... أنا هخرج امتى من هنا؟"
ارتعشت إيمان بين الخوف والحزن وهي ترد:
"بيقول مش أقل من أسبوعين، لما تتحسني شويه."
نظرت صفية لابنتها بقلق يملأ عينيها وسألتها بصوت مليء بالحنان:
"وانتي هتعملي إيه؟"
ردت إيمان بحزن:
"هقعد معاكي."
لكن صفية رفضت بقوة، خوفها على ابنتها يفوق خوفها على نفسها:
"لاء حبيبتي، روحي البيت، و عاوزاكي تركزي كويس السنادي مهمه أوي، فهمه، دا حلم أبوكي حقيقة، حلمي أنا كمان"
همست إيمان وكأنها تحاول تغيير الموضوع:
"الراجل جه ودفع فلوس العملية."
أجابت صفية ببساطة:
"كتر خيره."
ابتعدت إيمان قليلاً وقالت بقلق:
"أنادي للدكتور، شكلك تعبانه."
ردت صفية وهي تغمض عينيها:
"لا، أنا هنام. روحي انتي دروسك يلا، ولما تخلصي تعالي."
تركت إيمان والدتها لتذهب، لكن قلبها بقي مرتبطاً بها.
مع مرور الأيام، استمرت إيمان في روتينها المضني؛ تذهب إلى المستشفى كل صباح لتجلس بجانب أمها صفية، تتبادل معها الكلمات القليلة التي تسمح بها حالتها الصحية، بينما تحاول إخفاء قلقها وحزنها خلف ابتسامات صغيرة، ثم تسرع إلى دروسها وهي تحمل على عاتقها ثقل همين، أحدهما أكاديمي والآخر عاطفي.
ورغم ذلك، كانت تعود كل مساء لتنام بجانب والدتها، وكأن وجودها بجوارها هو الملاذ الوحيد الذي يهدئ روع قلبها.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
في خضم أيام الإجازة، ومع مرور كل يوم، ظلَّ آسر متأرجحاً بين الحلم والواقع. كان يقترب من لحظة عودته إلى مدرسته بينما في داخله صراعٌ مرير، لم يكن قادرًا على التهرب منه.
أما عايدة، فقد كانت تتعمد، دون رحمة، أن تسلب من آسر كل شعور بالراحة والطمأنينة التي قد تكون لديه، ولسانها اللامتوقف كان كالسيف يقطع كل خيط أمل في قلبه.
كلما دخلت عايدة إلى غرفة آسر، كانت تجد الصغير غارقًا في شروده، وعينيه مسمرتين على صورة والدته. كان يعاني من الغياب، وهو لا يزال يتذكر آخر لحظات مع والدته التي رحلت عنه، ولا يزال يرتدي الحزن كعباءة ثقيلة.
دخلت عايدة الغرفة ذات يوم، وبنبرة حادة:
"إنت قاعد تعمل إيه؟ يلا نام، الإجازة خلصت، بكرة في مدرسة. ولا هو يعني علشان هتاخد بقيت السنة إجازة، هتلعب من أولها؟ يلا."
آسر، بصوت خافت:
"حاضر يا نانا."
عايدة، بتفويض صارم:
"يلا."
قام آسر إلى سريره، وهو يحاول يضع في ذهنه أن كل ما يفعله هو مجرد حالة من الانتظار للعودة إلى حياته الطبيعية، لكن كلما حاول أن ينام، كان وجه والدته يلاحقه في أحلامه، وتذكره برفق الصورة التي يحتفظ بها في حضنه.
مرت ....... [المزيد]
معاناة آسر: عندما وصل زين إلى منزل المقدم أحمد، كانت الهدوء يسود المكان، لكنه كان يشعر بثقل الحزن والكآبة في الأجواء.
دخل ببطء، وجلس مع عايدة التي كانت تنتظره بفارغ الصبر. تحدثا في موضوع آسر وورد الياسمين، وكانت كلماته تفيض بالمسؤولية والاهتمام.
أكد لها أن آسر سيكون بأمان معهم، وأنهم سيبقون في مصر، ما سيتيح لها رؤية حفيدها متى شاءت. كانت هذه الكلمات كبلسم على جراح قلبها المثقل بالحزن.
عايدة، بعد انتهاء الحديث، شعرت بأن حملاً ثقيلاً قد أُزيح عن كاهلها. ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، كانت تختزن في طياتها مزيجًا من الراحة والانتصار.
لقد انتهى أكبر كابوس كانت تخشاه، ولكن في داخلها كانت تتماوج أفكار أخرى، لم تكن على نفس البراءة التي بدت على ملامحها. فقد جاءت إليها فكرة شيطانية، فكرة يمكن أن تستغلها لصالحها في هذه اللحظة الحساسة.
جلست عايدة على الكرسي بهدوء، تراقب زين وهو يغادر. كانت تخطط بدقة في ذهنها، تفكر كيف يمكنها أن تستخدم هذه الفرصة لتحقق هدفًا أكبر. كانت تعلم أن أمامها فرصة لا يمكن أن تفوتها، فرصة قد تقلب الأمور لصالحها تمامًا. في تلك اللحظة، لم تكن مجرد أم حزينة على فراق ابنها، بل كانت امرأة تحمل في قلبها مزيجًا من الحزن والطموح.
عزمت على تنفيذ خطتها، وبدأت في رسم ملامحها بهدوء وذكاء، منتظرة اللحظة المناسبة للانقضاض.
.......... ......... ..........
في قصر عبد الحميد، حيث الهواء النقي يتخلل أرجاء المكان، كان الصغير آسر يستيقظ على صوت حنون بجوار أذنه.
الحاجة فاطمة كانت تجلس بجواره على الفراش، ويدها تلامس شعره الكيرلي الأسود برقة تحمل في طياتها حبًا وحنانًا لم يعرفهما إلا من والديه.
شعر بلمساتها، لكنه لم يكن قادرًا على تمييزها في البداية، فتح نصف عينه بصعوبة بسبب نور الشمس الساطع الذي ملأ الغرفة.
بعد لحظات، بدأ يميز ملامحها، لكن بدلاً من أن يشعر بالأمان، امتلأت عيناه الصغيرتان بالعبرات التي انسابت على وجهه الباكي، وبدأ جسده النحيف يرتجف بقوة كما لو كان يعبر عن خوفه العميق.
الحاجة فاطمة، التي كانت ترى تلك البراءة الممزقة في عينيه، شعرت بالقلق الشديد. بدأت تردد اسم الله وتخاطبه بحنان ورقة، صوتها كان دافئًا ومليئًا بالطمأنينة:
"بسم الله الرحمن الرحيم، مالك يا ولدي كده؟ تعالَ، ما تخافش، تعالَ حبيبي، أنا مش هأذيك يا ولدي."
لكن، بدلاً من أن يهدأ، زاد خوفه وتراجع أكثر مبتعدًا عنها. ازدادت حالته سوءًا، وبدأت الحاجة فاطمة تشعر بالعجز. غادرت الغرفة بسرعة وهي تنادي بأعلى صوتها:
"بت يا هنيه، انتي يا بت!"
هرولت هنيه من الأسفل، وصلت إلى السيدة الحاجة فاطمة وهي تلهث قليلاً:
"أيوه يا ستي الحاجة، جاية أهوه."
الحاجة فاطمة، بصوت يشوبه القلق:
"نادي على الحكيم يا بتي، الواد يا حبت عيني باين عليه تعبان جوي، مش راضي يبطل بكي."
هنيه، وهي تدرك جدية الموقف، أجابت بسرعة:
"حاضر يا ستي الحاجة، حاجة تاني؟"
الحاجة فاطمة، بهدوء ولكن بحزم:
"لا، روحي انتي."
دخلت الحاجة فاطمة إلى الغرفة مرة أخرى، محاولة تهدئة الصغير آسر الذي لم يتوقف عن البكاء.
اقتربت منه بحنان أكبر، تحاول أن تريه أنها ليست سوى حضن دافئ يمكنه الاعتماد عليه:
"مالك يا نور عيني؟ اسم الله عليك يا ولدي، قوم، قوم معايا ما تخافش، تعالَ، تعالَ حبيبي هنا."
بخوف وتردد، قام الصغير من مكانه واقترب منها، ولا يزال يرتجف. أجلسته بجوارها على طرف الفراش، وضمته بين ذراعيها، وبدأت تردد آيات من القرآن الكريم بهدوء، وكأنها تلقي السكينه تهدئ من روعه.
شيئًا فشيئًا، بدأ جسده الصغير يهدأ، وتوقف عن البكاء. رفع عينيه ليتأكد من وجودها بجواره، وكان في كل مرة يطمئن أنها لا تزال هناك.
وفي تلك اللحظات، دخلت هنيه إلى الغرفة ومعها الطبيب.
هنيه، باحترام واهتمام:
"الدكتور وصل يا ستي."
الحاجة فاطمة، بابتسامة مطمئنة:
"دخلية يا بتي."
هنيه أشارت للطبيب ليدخل:
"اتفضل يا دكتور، اتفضل."
الدكتور، بابتسامة هادئة:
"خير يا حاجة سلمتك."
الحاجة فاطمة، بابتسامة ودودة:
"الله يسلمك يا دكتور، أنا بخير، بس ولدي ده بعافية شوية، طمنا عليه يا ولدي."
الدكتور، بجدية واهتمام:
"حاضر، أكشف عليه الأول وإن شاء الله خير."
بدأ الطبيب في الكشف على آسر، الذي كان لا يزال يشعر بالخوف في البداية، لكن وجود الحاجة فاطمة بجانبه هدأ من روعه.
جلست الحاجة فاطمة بجواره، تمسك بيده الصغير، وتحاول أن تزرع فيه الطمأنينة. أنهى الطبيب الكشف، ونظرت إليه الحاجة فاطمة بقلق.
الحاجة فاطمة، بصوت منخفض يكاد يكون همسًا:
"خير يا دكتور؟"
الدكتور نظر إلى الحاجة فاطمة بجدية، قائلاً:
"خير يا حاجة، الولد عنده انهيار عصبي، شكله اتعرض لحاجة عملتله صدمة قوية، ودخوله في حالة اكتئاب هي اللي سببت الحالة دي. أنا هكتب له على العلاج، وأهم حاجة إنه ما يفضلش لوحده."
الحاجة فاطمة، بامتنان:
"أكيد يا دكتور، هنعمل كده."
الدكتور قام من مكانه وهو يقول:
"سلام عليكم."
الحاجة فاطمة:
"وعليكم السلام، هنيه، وصلي الدكتور يا بتي."
هنيه، بحماس:
"حاضر يا حجة، اتفضل يا دكتور."
بعدما خرج الطبيب، عادت الحاجة فاطمة وجلست بجوار آسر، نظرتها كانت مزيجاً من الحنان والحزن.
لم تستطع إخفاء مشاعرها، فصوتها خرج محملاً بالشجن وهي تقول:
"حبيبي يا ولدي، جول لي لما شوفتك امبارح، وأنا قلبي بيبكي عليك يا غالي، وكل لما عيوني تنظرلك بتفكرني بولدي زين وهو صغير لما عرف بموت أبوه. ألف رحمة ونور عليك يا غالي."
حاولت أن تتماسك، وتكمل بنفس النبرة الحنونة:
"ما تخافش يا ولدي، أنا جاراك أهو، هجيبلك الأكل علشان تاكل لقمة."
وقفت من جواره وهي تنوي الخروج، لكن يد الصغير تشبثت بها بقوة، كانت تلك اللمسة الصغيرة مليئة بالخوف والاحتياج. نادت بصوت مرتفع: "يا هنيه!"
هنيه، مسرعة من المطبخ:
"أيوه يا حجة، جاية أهو."
الحاجة فاطمة بحنان:
"جيبي الأكل ومعاكي يا بتي، الولد ما أكلش حاجة، يلا همّي بسرعة."
هنيه بطاعة:
"ثواني والأكل يكون جاهز."
مرت دقائق قليلة، وعادت هنيه تحمل صينية كبيرة مليئة بالأطعمة المختلفة.
وضعتها على المنضدة الصغيرة بجوار الحاجة، وبدأت الحاجة فاطمة في محاولة إطعام آسر. كان الصغير مترددًا، يرفض الأكل في البداية، لكن مع إلحاح الحاجة وحنانها، تناول قليلاً.
بعد أن انتهوا من الأكل، أخذته هنيه ليغتسل، وأحضرت له الثياب النظيفة التي سيرتديها. بعدها، نزلوا معًا إلى الحديقة الكبيرة للقصر.
جلس آسر بجانب الحاجة، صامتًا، عيناه تراقبان كل شيء حوله دون أن يبدي أي رد فعل.
جلست هنيه معهما، تحاول الحديث معه أو إضحاكه، لكن دون جدوى. لم تستطع كبح مشاعرها، فتكلمت بحزن: "صعبان عليا جوي يا حاجة."
الحاجة فاطمة، بتنهيدة:
"واني كمان يا بتي، في إيدي إيه أعمله علشان يضحك بس؟ ربنا معاه، اللي حصل كان صعب عليه جوي."
هنيه، محاولة تغيير الموضوع قليلاً:
"زين بيه جاي في الطريق، هو رن على التلفون وقت لما الدكتور كان أهنه."
الحاجة فاطمة، بتحفز:
"طب قومي يا بتي حضري الأكل عمال ما يجي، قومي."
هنيه، وهي تتحرك نحو المطبخ:
"حاضر يا حاجة."
عادت الحاجة فاطمة لتركيزها على آسر، الذي كان يجلس بجوارها بصمت.
انتظرت وصول زين، متمنية أن يكون حضوره قادرًا على تخفيف الألم الذي يثقل قلب الصغير.
كانت تعلم أن الطريق طويل، لكن مع زين، كانت تشعر بأن لديهم فرصة للبدء في شفاء الجروح العميقة التي تركتها الأحداث الأخيرة.
................
عندما وصل زين إلى القصر، دخل الحديقة الأمامية، حيث كان جده يجلس تحت ظل شجرة قديمة. تقدم بخطواته الواثقة نحوه وألقى عليه التحية، ثم علم منه مكان والدته. بدأ يسير باتجاهها بخطوات متزنة، حتى لمحها جالسة بجوار آسر في الحديقة الخلفية.
تقدم نحوها وانحنى ليقبل يدها بحب واحترام.
"إزيك يا مَاى؟"
قالها زين بصوت مليء بالحنان.
الحاجة فاطمة ابتسمت برقة وردت عليه:
"بخير يا ولدي، حمد لله على سلامتك."
جلس زين بجوارها، لكنه سرعان ما لاحظ الصغير آسر جالسًا بهدوء بجانبها. توجه إليه بابتسامة دافئة قائلاً:
"البطل الصغير عامل إيه؟"
بمجرد أن سمع آسر صوته، هرول نحوه، دموعه تملأ عينيه، واحتضنه بقوة كأنما يبحث عن الأمان الذي فقده. كان الحزن واضحًا في ملامح الحاجة فاطمة وهي ترى ابنها يبكي من جديد.
فعاتبت زين بحنان: "اكده يا ولدي، تبكيه تاني؟"
زين طمأنها وهو يمسح على ظهر آسر بحنان:
"ما تجلجيش يا مَاى، دا بطل، مش كده ولا إيه؟"
وجه كلماته الأخيرة للصغير، الذي أومأ برأسه موافقًا وهو ما زال متشبثًا به.
ابتسمت الحاجة فاطمة بسعادة وارتاح قلبها لرؤية الصغير يتعلق بابنها بهذه الطريقة، وقالت بدعاء صادق:
"ربنا يسعدك يا ولدي."
حمل زين الصغير وجلس به على المقعد بجانبه، وضعه على قدمه واستمر في الحديث مع والدته.
قص عليها كل ما حدث بالتفصيل بخصوص آسر، وما يجب عليهم فعله لحمايته.
بينما كان يتحدث، لاحظ زين أن جسد آسر بدأ يرتجف من جديد، وبشكل مفاجئ، نزل الصغير من على قدمه وابتعد عنه بخطوات مترددة.
كانت نظراته تائهة، وكأن شيئًا أثقل قلبه الصغير. اقترب زين منه بخطوات حذرة، قلقًا على ما يجول في خاطر الطفل.
قال بحزن وحيرة:
"مالك يا حبيبي، في إيه؟"
لم يرد آسر، بل استمر في الابتعاد، لكن زين لم يستسلم، اقترب منه أكثر وأمسك بذراعيه برفق، وقال بنبرة حنونة:
"إنت مش عاوز تروح هناك؟"
آسر أومأ برأسه بالموافقة، وعيناه ملأهما الخوف. ضمه زين لصدره بقوة، كأنه يحاول أن ينقل له كل الطمأنينة التي يستطيع، وقال بصوت مليء بالحنان:
"ما تقلقش يا حبيبي، مش هتروح هناك. أنا هنا، وهفضل جنبك."
ظلت الحاجة فاطمة تراقب المشهد، ودمعة حارقة سالت من عينها. شعرت بالامتنان لابنها، الذي كان يُعطي لآسر الأمان الذي يحتاجه، وكانت تعلم أن تلك اللحظات كانت بداية رحلة طويلة، لكنها كانت واثقة أن زين سيظل الدرع الحامي للصغير.
....................
بعد مرور عام كامل على يوم الوفاة، تغيرت حياة آسر بشكل ملحوظ.
كان الصبي قد اندمج في حياة زين وأسرته، محاطًا بحب واهتمام لم يعهده منذ فقد والديه.
بات يتحدث مرة أخرى، وانقشعت سحابة الصمت التي كانت تخيم على حياته، ولكن الكوابيس التي تلاحقه في الليل ما زالت تُلقي بظلالها عليه.
كان آسر يجد الأمان بين جدران هذا القصر الريفي وبين أذرع زين، والحاجة فاطمة، وجده عبد الحميد، وحتى هنيه التي كانت تعتبره ابنها الذي لم تنجبه.
أحبهم بكل قلبه، وهم بدورهم كانوا يرونه النور الذي أضاء حياتهم.
ومع اقتراب موعد دخوله المدرسة، بدأ يلوح في الأفق شبح العودة إلى القاهرة.
كان عليه أن يعود ليعيش مع جدته. تلك المرأة التي حاولت مرارًا وتكرارًا أن تقترب منه، لكن الخوف منها كان يتسلل إلى قلبه كلما اقتربت.
كان يشعر في كل مرة تُمسك بيده وكأنها تُعيده إلى كوابيسه القديمة. لم تكن مجرد جدته؛ كانت تذكِره بالألم والخسارة.
جدته، التي كانت تعيش في ظل إحساس دائم بالفشل، لم تجد مفرًا من استخدام حيلها للضغط على زين.
تلك الحيل التي بَنَت بها سورًا حول آسر، لإعادته إلى حضنها، مستغلة براءة الطفل وثقة زين التي طالما كانت عمياء عن حقيقة نواياها.
في صباح اليوم الذي كان من المقرر أن يعود فيه آسر إلى القاهرة، جلس زين مع آسر بهدوء، محاولاً أن يشرح له الأمر برفق.
كان زين يُدرك أن الرحيل من هذا المكان الذي أصبح منزله سيكسر قلب الطفل. لكنه كان مضطرًا لإقناعه.
تحدث زين بصوت ملؤه الحنان:
"حبيبي، لازم ترجع مع جدتك لفترة المدرسة. لكن مش هتكون لوحدك، أنا هكون معاك كل يوم بالتليفون، ولما تنزل إجازة هنروح سوا نشوف الحاجة فاطمة ونتفسح، تمام؟"
كانت عيون آسر الكبيرة تراقب زين بتردد. كان يشعر بشيء غامض يخيم على كلماته، كأنها خيوط وهمية تحاول أن تربطه بأمان زائف. وأخيرًا، بعد لحظات من الصمت، هز آسر رأسه بالموافقة. لم يكن مقتنعًا تمامًا، لكنه كان يثق في زين أكثر من أي شخص آخر.
وعندما أخبر زين الجدة عايده بأنه سيعيد آسر اليوم، انفجرت دموع الفرح في عينيها. كانت تلك الدموع مزيفة، فهي لم تكن تعني بها فرحها بعودة آسر بقدر ما كانت تنبع من انتصارها الشخصي.
كانت تعلم أن آسر لن يتحدث عما حدث له، وأنها بذلك نجحت في السيطرة عليه مرة أخرى.
فكان القلق ينهش قلبها بعد معرفة تحسن حالته، لذالك بدأت في خطتها الايقاع بيه في قبضتها مره أخري، لكي تضمن سكوته.
ترسم ابتسامه نصر على ثغرها، بعد العداوه التي فعلتها بين ورد الياسمين وزين. وأناه هو من يقف لهم الآن. أقنعته أنهم تخلوا عنه، وقد خانت وعدها له بعدم أخبارهم عن آسر، لكن هم رفضوه أخذه، غضب بشده وقرر عدم البحث ورائهم فلا يريد معرفة شئ بعد الان.
وقبل الرحيل، وقف آسر أمام الحاجة فاطمة.
نظرت إليه بعينين تملؤهما الحزن، وقالت بصوت يكاد ينكسر:
"هتوحشيني قوي يا ولدي."
كان صوته يخرج محملاً بكل ما تحمله من مشاعر الحب والألم والخوف من المجهول.
أجابته الحاجة فاطمة بصوت مفعم بالحزن:
"وانت كمان هتوحشني، أنا هاجي تاني، عمو زين وعدني، مش كده؟"
كان زين يقف بجانبهم، وهو يحاول رسم ابتسامة على وجهه المتعب، فقال:
"أيوه، كل لما أنزل إجازة هاجي أخدك معايا للبلد، وفسحك كمان، بس عاوزك توعدني إنك هتسمع الكلام وهتروح التمارين علشان تكون بطل."
تأمل آسر وجه زين بعينين تملؤهما البراءة والتساؤل، وقال:
"بطل زيك انت وبابا."
في تلك اللحظة، شعر زين بمرارة غريبة في حلقه، وكأن كلمات آسر قد أثارت جرحًا لم يندمل بعد.
لكنه أجاب بابتسامة متعبة: "أيوه يا حبيبي، بطل زي بابا."
اقترب آسر من جده عبد الحميد وقبله على خده، ثم قال:
"مع السلامة يا جدي."
كانت الكلمات تخرج منه بصعوبة، وكأن كل حرف منها يحمل في طياته وداعًا مؤلمًا.
رد عليه الجد بحنان بالغ:
"مع السلامة يا ولدي، خلي بالك على حالك."
كان في صوته رجاءً خفيًا بأن يعود آسر إليهم قريبًا، رغم علمه بأن ذلك قد لا يحدث.
وعندما همّ زين بالمغادرة، قبل يد أمه وجده، وقال لهما:
"مع السلامة يا أماي... مع السلامة يا جدي."
كانت تلك اللحظة مشحونة بالمشاعر، وكأنها الوداع الأخير قبل أن يدخلوا جميعًا في فصل جديد من حياتهم، فصل قد لا يحمل لهم سوى المزيد من الألم والفراق.
وانطلق زين وآسر في السيارة، متجهين نحو القاهرة، تاركين خلفهم ذكريات عامٍ كامل من الحب والألم، بينما كانت الجدة ترسم في ذهنها خططًا جديدة لضمان بقاء آسر تحت سيطرتها.
بعدما غادر زين وآسر القصر، كان الصمت يلف بينهما بينما كانا يركبان السيارة. أدار زين المحرك، ونظر إلى آسر برفق:
"في حاجة عاوزها قبل ما نمشي؟"
آسر، بصوت خافت وكأنه يحاول أن يخفي حزنه:
"لا... نِجي تاني؟"
زين، بابتسامة طمأنة:
"حاضر، هنيجي تاني."
أخذ زين طريقه نحو القاهرة، لكنه توقف أمام سوبر ماركت كبير. نزل من السيارة والتفت إلى آسر:
"هنزل أجيب حاجة تأكلها. هتفضل في العربية ولا تيجي معايا؟"
آسر، بنبرة طفولية ملؤها الحذر:
"أجي معاك."
فتح زين الباب لآسر، وأخذه معه إلى داخل المتجر.
كان آسر يشير إلى أشياء هنا وهناك، وكل ما أشار إليه، اشتراه زين دون تردد.
كان زين يشعر أن هذه اللحظات الصغيرة تعني الكثير لآسر، وأنه يحاول ملء الفراغ الذي يشعر به. بعد أن امتلأت السلة، قال زين:
"كده خلاص؟"
آسر، وهو ينظر إلى السلة الممتلئة:
"أيوه."
زين بحب:
"يلا علشان نحاسب."
عادا إلى السيارة مع الأكياس المليئة بالطعام والحلوى. بدأ زين يقود السيارة مرة أخرى، وكان يحاول التحدث إلى آسر بين الحين والآخر لتهدئته.
كلما اقتربا من القاهرة، كان زين يلاحظ التوتر يتسلل إلى آسر، وكأن الخوف بدأ يجتاح قلبه من جديد.
وأخيراً، وصلوا إلى وجهتهم. أوقف زين السيارة أمام منزل لم يألفه آسر من قبل.
كانت عيناه تبحثان في المكان بعينين تملؤهما الحيرة والارتباك. أين هو؟ هذا ليس بيت جدته، وليس بيتهم القديم. شعر زين بتردد الصغير، فتقدم نحوه ووضع ذراعه حول عنقه بحنان، محاولاً طمأنته، بصوت هادئ ومليء بالعطف:
"ده بيت جدتك الجديد. هي دلوقتي عايشة هنا."
تردد آسر للحظة، ثم نظر إلى زين وكأنما يطلب منه تأكيداً، طمأنه زين بابتسامة حنونة. شعر آسر بالراحة، ولو قليلاً، من كلمات زين، لكن داخله كان لا يزال قلقًا مما ينتظره داخل هذا البيت الجديد.
آسر كان يقف بجوار زين، متشبثًا بيده الصغيرة وكأنه يحاول بكل قوته أن يمنع هذا الفصل من حياته من الانفتاح أمامه.
نظر إلى زين بعينين تملؤهما الرغبة في الهروب، في البقاء بعيدًا عن كل ما يخيفه في هذا المكان.
كان يريد أن يصرخ، أن يطلب من زين أن يأخذه بعيدًا، لكن صوته خانه؛ ظل الصمت يخنق رغبته في الكلام.
صعد زين به إلى الطابق الرابع، حيث توجد شقة جدته. كل خطوة كانت تثقل قلب آسر بالخوف.
اختبأ خلف زين عندما بدأ الأخير يطرق الباب. لم تمر سوى لحظات قليلة حتى فتحت سمر الباب، وهي ترحب بزوارها بحماس.
سمر:
"أهلا يا زين بيه!"
زين بجدية:
"أهلا بيكي يا سمر."
ابتسمت سمر عندما رأت آسر، وحاولت أن تبدو دافئة ومشجعة.
"أسوره، حبيبي، وحشتني! تعال سلم على عمتك."
لكن آسر لم يرد، بل اختبأ خلف زين أكثر. شعر زين بارتجافة الصغير، فمال إليه وحدثه بنبرة حنونة:
"آسر، ارفع وشك، روح حبيبي سلم على عمتك، روح."
لكن آسر ظل متسمرا في مكانه، وكأن جسده قد جمده الخوف. أمسك زين بيده وحركه قليلا نحو سمر، لكنها سرعان ما قبضت على يده وسحبته إلى صدرها، ضمته بقوة. كان رد فعل آسر مخيفا؛ ارتعد بشدة، واندفع مرة أخرى للاختباء خلف زين، يمسح دموعه التي بدأت تتساقط بلا توقف.
سمر، بابتسامة مجبرة:
"تفضل يا زين بيه، مش هتفضل واقف على الباب."
دخل زين الشقة، ومعه آسر الذي لم يترك يده، يتمسك بها وكأنها آخر ملاذ له.
عايدة، بابتسامة واسعة وهي تحتضن آسر:
"أهلا بحبيب نانا، أهلا. حبيبي، وحشتني أوي! كده تغيب عني كل ده؟"
كان زين يشعر بالخوف الذي يعصف بقلب آسر، ولكن عندما رأى عايدة وهي تغمره بالحب والحنان، شعر ببعض الارتياح.
لكن تلك المشاعر المتضاربة كانت تمزقه؛ كيف يمكنه أن يطمئن وهو يرى الصغير متمسكا به بهذا الشكل، خائفا من أي اقتراب؟
بعد ساعة من الجلوس والمراقبة، رأى زين أن آسر بدأ يتحرك بحذر مع عايدة داخل الشقة، حتى قادته إلى غرفته المزينة بالألعاب والدمى. شعر زين ببعض الطمأنينة أخيرًا، لكنه قرر الرحيل عندما رأى أن الصغير قد ارتاح قليلا.
نادى زين على آسر ليودعه، لكن الصغير بكى بقوة واندفع نحوه، وكأنه يحاول الإمساك باللحظة الأخيرة من الأمان.
زين بحب ونبرة هادئة:
"أنا هاجي تاني وهكلمك كل يوم، أنا معاك."
استمر آسر في البكاء، يهز رأسه بنعم دون أن يستطيع التوقف عن الدموع.
عايدة، وهي تحاول تهدئة الصغير:
"مع السلامة يا ابني، واطمن، آسر في عيوني. دا ابن الغالي، وحشني أوي."
استمرت عايدة في تقبيل آسر، بينما زين يبتسم بارتباك على ما يفعله أمامه.
بعد خروج زين، شعرت عايدة بالراحة. نظرت إلى الصغير ببرود مفاجئ، وتغيرت ملامحها بشكل مخيف.
عايدة، بحدة:
"إنت هتفضل واقف عندك كتير؟ ادخل يلا علشان أقفل الباب."
آسر كان ينظر إليها برعب، وكأنما تأكد الآن من مخاوفه. كانت تلك المرأة التي تظهر أمامه الآن هي الحقيقة المخيفة التي كان يشعر بها طوال الوقت.
عايدة، وهي ترفع صوتها:
"يلا!"
هرول آسر نحو غرفته، وأغلق الباب خلفه بسرعة. ارتجف من الخوف، وانخرط في نوبة بكاء محموم، حتى غرق في نوم ثقيل، هاربًا من واقعه القاسي إلى عالم الأحلام.
في صباح اليوم التالي، كان المنزل يعج بالصراخ الذي يتردد في أرجائه، لينهي هدوء الليل الذي كان آسر يحتمي به.
استيقظ الصغير بفزع على صوت جدته عايدة، التي كانت تقف أمام فراشه، وجهها مشدود بالغضب، ونظراتها تشبه السكاكين التي تطعن قلبه الخائف.
آسر، بصوت متقطع ينبع من رعبه:
"إي، إي، يا نانا، في إيه؟"
عايدة، بنبرة حادة مليئة بالازدراء:
"إنت هتأتأ كمان؟ اتكلم عدل! ويلا قوم، مش هتفضل نايم طول اليوم!"
آسر، بصوت مهتز:
"حااااضر."
قام آسر بسرعة من فراشه، لا يعرف ما الخطأ الذي ارتكبه ليغضبها بهذا الشكل.
خرج متجهًا نحو المرحاض، يغتسل ويغير ملابسه، ثم بخطوات مترددة توجه نحو غرفة الطعام.
كانت عايدة تجلس على مقعدها أمام مائدة الطعام الكبيرة، وعلى جانبيها ابنتها وزوجها وأولادهما.
رآهم آسر من بعيد، وتوقف للحظة، مترددًا في الاقتراب. مشاعر الحزن والخوف كانت تتصارع داخله، فوقف للحظة يبكي بصمت. اقترب أخيرًا بحذر، كأنه يسير على جمر، وقال بخوف وهو يحاول أن يخفي دموعه:
"نانا..."
عايدة، دون أن تنظر إليه، وبنبرة باردة:
"خير؟"
نظر آسر إلى مائدة الطعام، حيث كانوا جميعًا مشغولين بأكلهم، أما هو، فقد أحس بالغربة، وكأنه ليس جزءًا من هذه العائلة.
تراجع خطوة إلى الوراء، ثم جلس بعيدًا عنهم، يشعر بالجوع الشديد لكن خوفه كان أكبر من أن يطلب شيئًا. كانت عيناه تملؤهما الدموع، بينما ينتظر بصمت.
عندما انتهت عايدة من طعامها، قامت من مكانها، واقتربت منه بنظرة خالية من أي مشاعر. كانت نظراتها قاسية، وكلماتها تحمل أكثر من أمر واحد؛ كان صوتها مزيجًا من النصر والسلطة، كأنها كانت تستمتع بتحطيم روحه البريئة.
عايدة، بأمر صارم:
"قوم كل، يلا خلص."
تقدم آسر ببطء نحو السفرة، منكسراً وخائفاً، وعيونه الحزينة لم تتوقف عن البكاء. جلس على الكرسي أمام الأطباق الفارغة، التي لم يتبق فيها سوى القليل من الطعام. حاول أن يأخذ لقمة من الطعام، لكن الحزن الذي يعتصر قلبه منع الحلق من بلعها. شعر بالغصة، فترك المائدة فجأة، واندفع نحو غرفته، حيث يستطيع أن يبكي بحرية دون أن يراه أحد. كان القهر والألم يعصفان به؛ لم يعرف معنى الألم الحقيقي إلا عندما فقد والديه، والآن يشعر وكأنه فقد جزءًا آخر من حياته.
تابعت عايدة المشهد بابتسامة نصر خفية؛ كانت سعيدة برؤيته محطمًا هكذا، وكأنها تحققت من قوتها عليه. تقدمت نحوه، ووقفت أمامه كما لو كانت تقف أمام فريسة هشة، وقالت بصوت مليء بالازدراء والفخر بما فعلت:
"إنت رايح فين؟"
آسر، وهو يمسح دموعه التي لم تتوقف:
"هروح الأوضة."
عايدة، بنفس النبرة القاسية: "شيل الأطباق دي وديها الحوض، يلا."
تحرك آسر بخطواته الصغيرة ليؤدي الأوامر التي أمرته بها عايدة. لم يخلُ اليوم من كثرة طلباتها وأوامرها القاسية، وكلماتها التي كانت تنغرس في قلبه كالسكاكين.
كان كلامها سامًا، يقتله ببطء، يحطم روحه شيئًا فشيئًا. يتكرر هذا المشهد يوميًا، مع اختلاف المهام التي تُجبره على القيام بها، بينما يزداد حزنه يوما بعد يوم.
في كل وجبة، سواء كان الغداء أو العشاء، كان يجلس متوترًا، محاولًا تجنب نظراتها الحادة وكلماتها الجارحة.
بعد وفاة والديه، لم يعرف طعم الراحة، ولم يبتسم منذ ذلك الحين. الحزن والوجع والخوف كانوا رفقاءه الدائمين، ولم يكن هناك هاتف ليتحدث مع زين، الرجل الذي كان يشعر معه بالأمان.
كان غياب زين الطويل بسبب عمله يزيد من خوفه وقلقه؛ أحيانًا يغيب زين لأسابيع أو شهور، وكانت هذه الفترة بالنسبة لآسر كابوسًا متواصلًا.
ومع مرور الأيام، ازداد خوفه. حتى عندما أتيح له التحدث مع زين عبر الهاتف، لم يستطع إخباره بشيء. كانت عايدة تراقب كل كلمة، واقفة فوق رأسه، تحدق فيه بعينين مليئتين بالتهديد.
كان آسر يشتاق إلى زين، إلى الحاجة فاطمة، وإلى الجد. كانوا يمثلون له عائلته الحقيقية، وكان ينتظر نزول زين في إجازة ليأخذه بعيدًا عن هذا السجن الذي يعيش فيه.
كان الخوف يسيطر عليه لدرجة أنه حتى عندما كان مع زين بمفرده، لم يكن يجرؤ على الحديث عن معاناته. تدهورت حالته أكثر من السابق، حيث أصبح يتلعثم في الكلام، وبدلاً من أن ترحمه عايدة، زادت قسوتها عليه، ووصلت إلى حد ضربه في بعض الأحيان. لم يستطع الصغير المقاومة، ولا حتى الصراخ؛ فقد خانه صوته، ولم يبقَ له سوى الدموع للتعبير عن ألمه، ورعشة جسده التي كانت تعكس حالة الرعب التي يعيشها.
مرّت الأيام، يومًا بعد الآخر، حتى انتهى الفصل الدراسي الأول، وبدأت إجازة نصف العام.
وعده زين بأنه سيأتي قريبًا ويأخذه للملاهي، لكن آسر طلب شيئًا آخر. عندما علم بقدوم زين، هرول نحو السيارة وصعد بجانبه. كان وجهه مليئًا بالتردد والحيرة، لكنه أخيرًا تحدث:
"لاء، أنا عاوز أروح شقتنا."
زين، متعجبًا:
"شقة إيه؟"
آسر بإرتباك :
"بيتنا، أنا وبابا وماما... أنت قلت إنه لسه موجود."
زين، محاولًا فهم طلبه:
"أيوه، بس انت عاوز تعمل هناك إيه؟"
آسر، بصوت مملوء بالحنين: "أجيب صور بابا وماما، وفي حاجات ماما كانت بتحبها. أنا عاوز أحس بماما."
جلس زين يفكر، وعقله لا يسعفه بما يجب أن يقوله. كان يرى في عيون آسر إصرارًا وحزنًا عميقًا، فتنهد بعمق قبل أن يرد بلطف:
"حاضر، يلا بينا."
آسر، مترددًا:
"ممكن طلب أخير؟"
زين، بابتسامة مشجعة:
"أكيد، طبعًا."
آسر، بصوت خائف:
"مش عاوز حد يعرف... عن حاجة ماما. دي حاجة تخصها، وكانت سر بينا، وأنا عاوز أحافظ على سرها. أنا كنت وعدتها بكدا يوم ما هي قالتلي على سرها. أرجوك."
زين، بعيون دافئة وابتسامة مطمئنة:
"إنت تطلب وأنا أنفذ، طلباتك أوامر يا باشا."
كانت ابتسامة زين تلك كافية لتخفف بعضًا من الألم في قلب آسر. شعر الصغير براحة لم يشعر بها منذ وقت طويل، وعيون زين البنية اللامعة زادت من جمال اللحظة. أخيرًا، نطق آسر بثقة أكبر:
"يلا بينا."
زين ظلّ محتفظًا بابتسامته وهو يقود السيارة، متجهًا نحو منزل صديقه العزيز. عندما وصلا، نزل زين وآسر من السيارة، ولم ينتظر آسر أن يفتح له زين الباب، فقد كان متشوقًا لرؤية السر الذي تخفيه والدته. لم يكن يدرك ما الذي ينتظره داخل المنزل، لكن كل شيء في داخله تبخر عندما رأى المكان. الذكريات هاجمت عقله وأخذت تشكّل أمام عينيه مشاهد أشبه بفيلم رعب.
حين صعدا السلم، كان آسر يرى أمامه الرجال الذين حملوا النعش في ذلك اليوم المروّع، كما رأى جدته وهي تحتضنه باكية. دموعه نزلت بغزارة، وارتجف جسده حتى لاحظ زين شروده وتوتره. نزل زين على ركبتيه ليكون في مستوى آسر وقال له بصوت مليء بالحنان والقلق:
"آسر، إنت كويس؟ من أول ما دخلنا العمارة وانت ساكت ودموعك نازلة، حبيبي ليه؟ تحب نرجع، وأنا أجبلك اللي إنت عاوزه؟ قوللي على المكان وأنا هجيبهم."
ردّ آسر بصوت متقطع:
"أنا كويس يا عمو زين."
ضمّه زين إلى حضنه ليهدئه، وبعدها توجّه إلى الباب ليفتحه. أما الصغير، فقد أغلق عينيه بقوة محاولًا الهروب من الذكرى السيئة التي احتلت ذهنه. كان يرى والدته وهي غارقة في دمائها.التي طغت على ذاكرته. تردد في خطواته، وكاد ينهار تحت وطأة هذه الذكريات،
أفاق من ذكرياته على صوت زين وهو يسأله عن الغرفة، فأشار له آسر إليها وتوجها سوياً. عندما دخل الغرفة، اتجه آسر مباشرة إلى الخزانة وأخرج منها صندوقًا متوسط الحجم.
حمله زين ووضعه على الفراش.
آسر فتح الصندوق وأخذ منه صورة.
كانت تلك اللحظة كالسكين التي قطعت أوتار قلبه، فبكى بحرقة ووجع عميقين. تقدم زين ليرى الصورة، فاكتشف أنها صورة لآسر مع والديه قبل وفاتهما، حين كان في الخامسة من عمره.
أخذ زين آسر في حضنه محاولًا تهدئته، وبدأ بحركات لطيفة على ظهره الصغير، بينما مسح دموعه بيده الأخرى. شعر آسر ببعض الهدوء وتحرك في حضن زين ليضع الصورة بجواره. بعد لحظة صمت، أخرج آسر كتابًا كبيرًا من الصندوق وقال بصوت يملؤه الحنين والحزن:
"دا سر ماما."
نظر زين إلى الكتاب بدهشة وقال:
"الكتاب دا؟"
آسر، متمسكًا بذكرى والدته:
"دا مش كتاب، دا فيه حياة ماما كلها. ماما هي اللي قالت كده."
ثم استجمع آسر شجاعته وبدأ يسترجع اللحظة التي حدثته فيها والدته عن "السر". بعيون تلمع بالدموع والذكريات، قال:
"كنت قاعد أنا وماما، وفجأة ماما قالت..."
تذكر آسر تلك اللحظة بوضوح شديد، وكأنها حدثت للتو. كان حينها صغيرًا، لم يتجاوز الخامسة من عمره، وكانت والدته إيمان تبدو حزينة بشكل لم يفهمه في ذلك الوقت. كانت تجلس بجواره على السرير، وعيناها تغمرهما الدموع رغم محاولتها إخفاءها.
إيمان:
"عاوزة أقولك على حاجة يا آسر."
آسر، بنبرة قلقة:
"إي يا ماما، انتي بتعيطي ليه؟"
ردّ آسر، وهو لا يفهم سبب بكائها:
"إيه يا ماما؟ إنتي بتعيطي ليه؟"
ابتسمت والدته بحزن وقالت:
"لا يا حبيبي، مش بعيط ولا حاجة. أنا بس كنت عاوزة منك وعد."
في تلك اللحظة، لم يفهم آسر معنى الوعد، فقال ببراءة:
"وعد إيه يا ماما؟ أنا مش فاهم حاجة."
شرحت له إيمان معنى الوعد، وطلبت منه أن يحفظ سرّها مهما كان. وبعد أن وافق آسر على وعدها،
آسر بفضول:
"وإيه هو السر اللي عايزة أوعدك عليه؟"
توجهت إيمان نحو الدولاب وأخرجت صندوقًا قديمًا، وفتحته بهدوء. أخرجت منه كتابًا كبيرًا مغلفًا بعناية، وقدمته لآسر.
إيمان، بصوت يحمل مشاعر مختلطة من الحنين والألم:
"هو دا السر... الكتاب دا فيه قصة حياتي كلها، من وأنا عندي 15 سنة لحد دلوقتي."
آسر، وقد امتلأت عيناه بالدهشة:
"يعني انتي بتكتبي كل حاجة بتحصل معاكي في كتاب؟"
إيمان، مبتسمة:
"أيوه، اسمها مذكرة، ودي بقا مذكراتي."
آسر، وقد ظهر الحماس في عينيه:
"أنا كمان هكتب مذكراتي، علشان لما أكبر أولادي يقروها زي ما أنا هقرأ مذكراتك."
ابتسمت إيمان ودمعة تراود عينيها، ثم قال آسر بطفولة وحماس:
"أنا عاوز أقراها!"
إيمان، ضاحكة برقة:
"إنت لسه صغير أوي يا أوزعه."
آسر، بنبرة غاضبة طفولية:
"أنا مش صغير، أنا عندي خمس سنين، أنا في KG2 يا ماما!"
كانت ضحكته بريئة ومليئة بالطفولة، وقد عبر عن غضبه بتعابير وجهه اللطيفة التي جعلت إيمان تضحك بصوت أعلى.
"خلاص، خلاص، ما تزعلش. وبعدين تعرف إنك بتفكرني بيها أوي؟ كل لما كنت أقول لها مش هتعرفي، كانت تقعد تعد لي هي بتعرف تتكلم كام لغة."
آسر، بفضول:
"إنتي على طول بتقول هي، وأنا مش عارف هي مين. أنا بحبها من كتر ما إنتي بتتكلمي عنها، بس نفسي أشوفها أوي يا ماما."
إيمان، وقد ازدادت ملامحها لطفًا:
"امسك يا سيدي المذكرة دي بقا، فيها كل حاجة، مش بس قصة حياتي، وكمان قصص حياتهم، وازاي إحنا اتعرفنا على بعض، وكل أيامنا الجميلة والصعبة، الحلوة والوحشة، كل حاجة أنا كتبتها هنا."
ثم أكملت كلامها بنبرة جادة:
"الوعد اللي عاوزاك توعدني بيه، إنك تحافظ عليه، وأوعى حد يعرف عنه حاجة غير شخص تكون واثق إنه بيحبك بجد."
آسر، بثقة بريئة:
"ما فيش حد بيحبني غيرك إنتي وبابا وعمو زين."
إيمان، وهي تمد يدها للصغير بابتسامة مليئة بالمحبة:
"توعدني يا آسر؟"
لم يتردد آسر لحظة، مد يده الصغيرة نحو يد والدته وعانقها بقوة، ثم قال بصدق وإصرار:
"أوعدك يا ماما."
كان ذلك الوعد محفورًا في قلب آسر، لم ينسه أبدًا، وكان يعلم في قرارة نفسه أنه سيفعل المستحيل ليحافظ على هذا السر كما وعد والدته.
استفاق آسر من ذكرياته العميقة، والتفت نحو زين الذي كان ينظر إليه بعينين مملوءتين بالفضول والمحبة.
آسر، بنبرة مترددة:
"أنا عارف إنك بتحبني، علشان كدا حكيتلك على سر ماما. أنا عاوز أخد الكتاب وحاجات ماما معايا، بس مش عاوز حد يشوفهم، أعمل إيه؟"
ابتسم زين وطمأنه:
"سيب الموضوع عليا، أنا هتصرف. بس هتقدر تخبيهم ولا أخدهم معايا؟"
هزّ آسر رأسه بالإيجاب:
"لا، هقدر. أنا عاوزهم معايا على طول."
سأل زين بابتسامة مشجعة:
"في حاجة تانية عاوزها من هنا غير الصندوق؟"
أجاب آسر وهو يهز رأسه:
"لا، دا بس كده خلاص."
قام زين بوضع الأشياء بعناية في الصندوق وأغلقه، ثم حمله وخرج مع آسر من الشقة.
سارا معًا نحو السيارة، واتجها نحو شقة الجدة. قبل أن يصعد زين إلى السيارة، اتصل بعيسى وطلب منه أن يحضر سمر وعايدة إلى مطعم قريب، موضحًا أنه يرغب في تناول العشاء معهم وقضاء بعض الوقت سوياً.
وافق عيسى وبلغ الجميع، وبدأوا جميعًا في التجهيز للخروج.
وقف زين بعيدًا عن المنزل، يراقبهم وهم يغادرون بسيارة عيسى دون أن يلاحظوا وجوده.
بعد رحيلهم، عاد زين مع آسر إلى الشقة، وبحكم عمله كان من السهل عليه فتح الباب. دخلا إلى الغرفة وأخفيا الصندوق في الدولاب بعناية، ثم أغلقا الشقة وغادرا.
كان زين يخطط لتحويل انتباه الجميع بعيدًا حتى يتمكن من تأمين مقتنيات آسر دون أن يلاحظ أحد.
وصلوا إلى المطعم وتناولوا العشاء، ولكن الجو كان مشحونًا بالصمت، مع بعض الكلمات القليلة المتبادلة. كانت عايدة تبدو قلقة، راغبة في إنهاء العشاء بسرعة خوفًا من أن يفصح آسر عن معاملتها السيئة له.
بعد الانتهاء من العشاء، استأذنوا للمغادرة. وقف زين وقال بابتسامة:
"تمام، موافق، بس بشرط تتكرر مرة تانية أكيد."
هز الجميع رؤوسهم بالموافقة، ثم قال عيسى بمرح:
"أكيد طبعًا يا قائد."
وبابتسامة هادئة، قال زين:
"تمام، يلا."
ثم قام زين باصطحاب آسر إلى السيارة، وبينما كان يفتح الباب، تذكر شيئًا وعاد ليتحدث إلى عيسى:
"آه، نسيت أقولكم، إن شاء الله الإجازة الجاية أنا هآخذ آسر معايا. هيكون تقريبًا في نهاية الترم الثاني، وهو ما عندوش امتحانات."
كانت هذه الكلمات تحمل وعدًا جديدًا لآسر، وتعبيرًا عن حرص زين على رعايته والاهتمام به، خصوصًا بعد كل ما مر به.
عايدة، بتوتر ملحوظ وصوت متردد:
"بس كدا، هتكون الدراسة لسه شغالة، هو هيغيب شهرين قبل ما السنة تخلص."
زين، بنبرة حازمة:
"ما هو في سنة أولى، يعني مش هيحصل حاجة. وبعدين أنا أخدت إجازة لمدة شهر، وحابب إنه يكون معايا. هو هيغيب شهر مع إجازة آخر السنة، يعني شهر مش اتنين. وحضرتك لما قلتي إنك عايزاه، أنا عملت كل حاجة عشان أجيبهولك، رغم إني شايف إنه مش مبسوط وحالته بترجع زي الأول. كويس إنه معايا بيتكلم شوية، السنة اللي قعدها عندي كان اتحسن كتير، المفروض إن حالته تكون للأحسن معاكوا مش كدا."
توقف زين للحظة منتظرًا رد فعلهم على كلماته الغاضبة، لكن لم يتلقَ أي رد، فاستمر:
"وعلى فكرة، في حاجات أنا جبتها لآسر، هي معايا في العربية، دي حاجات تخصه هو لوحده. أظن إن كلامي واضح، وأنا ساكت بمزاجي بس."
كانت نبرة زين واضحة وحاسمة، وهو يعرف تمامًا أن الرسالة وصلت إليهم:
"لو آسر بس يقول عن اللي مضايقه، تأكدوا إني مش هرحم اللي كان السبب، أيًا كان هو مين. أنا قلت اللي عندي، الإجازة الجاية هآخده، وإذا كان على المدرسة أنا هتصرف. هيقضي الإجازة عندي كلها... تمام."
ألقى زين كلماته بحزم، وأدرك الجميع مغزى كلامه. فقد وصل إلى علمهم أن آسر يتعرض لسوء معاملة، ولو اكتشف زين التفاصيل، فلن يتردد في التصرف.
عايدة كانت على وشك الاعتراض، لكن خوفها وتوترها سيطرا عليها، فالرعب ملأ قلبها وهي تدرك أن زين قد قال كلمته ولا مجال للمقاومة.
عايدة، بتردد:
"بس يعني هو..."
زين، مقاطعًا بحدة:
"أظن إن كلامي واضح. مش هيرجع من عندي غير على بداية السنة الجديدة اللي هتكون ثانية، مش كدا؟ وأنا وعدته بكدا."
سمر، محاولة تهدئة الأجواء:
"أيوه، ما هو في أولى في إجازة نص السنة."
زين، بحزم:
"تمام."
بهذا انتهى الحديث، وزين قد وضع الأمور في نصابها بوضوح. عايدة لم تجد مفرًا من القبول بما قاله، وهي تدرك أن زين لن يتهاون في حماية آسر والاعتناء به، خاصة بعد ما لاحظه من تدهور حالته.
بعدما تأكد زين أن آسر بأمان في السيارة، فتح له الباب بابتسامة مطمئنة ليخفف من القلق الذي كان يسيطر على ملامحه الصغيرة.
"آسر معايا في العربية، هوصله لحد البيت. اتفضلوا انتوا."
جلس زين بجانب آسر في السيارة، وكان واضحًا أن الصغير لم يتمكن من إخفاء قلقه.
آسر، بصوت ممتلئ بالأسئلة: "بتعمل إيه كل دا يا عمو زين؟ انت اتأخرت أوي."
زين، محاولًا طمأنته:
"كنت بقولهم إني هاخدك معايا الإجازة الجاية."
آسر، بدهشة وقلق:
"إزاي؟ والمدرسة هتكون لسه شغالة!"
زين، بابتسامة توحي بالثقة:
"ما تقلقش، أنا هتصرف. الإجازة هتكون كبيرة."
آسر، بعدما شعر بالراحة من كلام زين:
"فعلاً؟ يعني كده مش هروح غير شوية صغيرين، بس انت هتنزل إجازة إمتى؟"
زين بصوت هادئ مليئ بالحنان:
"يعني بعد شهرين كده."
آسر، وهو يبتسم بشوق:
"حلو أوي."
زين، مبتسمًا من فرحته بإسعاد آسر:
"مبسوط؟"
آسر، بإخلاص وحنين:
"أيوه، وحشوني أوي كلهم."
زين، بلهجة محبّة:
"وأنت كمان وحشتهم أوي. يلا يا بطل وصلنا."
حينها، نزل آسر من السيارة وبدأ في حمل الشنط والأشياء التي اشتراها له زين.
لكن زين لم يسمح له بالاستمرار، فتدخل بلطف وحزم في آنٍ واحد.
"استنى بس، أنا هوصلك."
لكن عايدة، التي كانت تراقب المشهد من بعيد، لم تتمكن من كبح تدخلها. فاقتربت بصوت هادئ لكن يحمل في طياته بعض الحدة:
"عندك يا ابني، خلي عيسى يشيلهم مكانك."
زين، بلهجة حاسمة وهادئة لا تقبل النقاش:
"لا، اتفضلوا انتوا. أنا هطلعهم فوق بنفسي. يلا يا آسر."
صعدوا جميعًا إلى الشقة، وزين حرص على أن يكون مع آسر في كل خطوة، يدخل بالأشياء ويضعها في مكانها. لم يكتفِ بذلك، بل ساعده في ترتيب كل شيء بدقة واهتمام، وكأنه يحاول أن يزيل عنه أي ثقل أو مشقة.
وبعدما انتهى من ترتيب كل شيء، استأذن زين وانصرف.
أما عايدة، فكانت تغلي من الداخل، رغبة عارمة في تفريغ غضبها على آسر بسبب ما سمعته من زين، لكنها كانت مرعوبة من تهديداته الصريحة والواضحة. لذا اختارت أن تبتعد وتذهب إلى غرفتها لتنام، وهي تسبه في سرها.
أما سمر وعيسى، فعادوا أيضًا إلى بيتهم القريب من بيت عايدة، بعد ليلة كانت مشحونة بالتوتر والقلق.
لكنهما كانا يعلمان جيدًا أن زين لن يقف مكتوف الأيدي إذا حدث أي مكروه لآسر، فهو بمثابة الحارس الأمين على مستقبل هذا الطفل الذي عاش تجربة قاسية أثرت في حياته وحياة كل من حوله.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
عندما وصل زين إلى منزل المقدم أحمد، كانت الهدوء يسود المكان، لكنه كان يشعر بثقل الحزن والكآبة في الأجواء.
دخل ببطء، وجلس مع عايدة التي كانت تنتظره بفارغ الصبر. تحدثا في موضوع آسر وورد الياسمين، وكانت كلماته تفيض بالمسؤولية والاهتمام.
أكد لها أن آسر سيكون بأمان معهم، وأنهم سيبقون في مصر، ما سيتيح لها رؤية حفيدها متى شاءت. كانت هذه الكلمات كبلسم على جراح قلبها المثقل بالحزن.
عايدة، بعد انتهاء الحديث، شعرت بأن حملاً ثقيلاً قد أُزيح عن كاهلها. ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، كانت تختزن في طياتها مزيجًا من الراحة والانتصار.
لقد انتهى أكبر كابوس كانت تخشاه، ولكن في داخلها كانت تتماوج أفكار أخرى، لم تكن على نفس البراءة التي بدت على ملامحها. فقد جاءت إليها فكرة شيطانية، فكرة يمكن أن تستغلها لصالحها في هذه اللحظة الحساسة.
جلست عايدة على الكرسي بهدوء، تراقب زين وهو يغادر. كانت تخطط بدقة في ذهنها، تفكر كيف يمكنها أن تستخدم هذه الفرصة لتحقق هدفًا أكبر. كانت تعلم أن أمامها فرصة لا يمكن أن تفوتها، فرصة قد تقلب الأمور لصالحها تمامًا. في تلك اللحظة، لم تكن ....... [المزيد]