تكملية (دقهلية "" "وسيناوي) : كانت دقهلية تغفو في هدوء، متعبة من يوم طويل من الحفظ والمذاكرة، تفيق عندما سمعت صوت الشيخ سيد، ينادي عليها بلطف. فتحت عينيها ببطء، شعرت بالراحة حينما تذكرت أنه قد حان وقت تسميع وردها.
ابتسم بفرحه،فهي دائماً تتذكر وعدها لشيخ حسان.
نهضت من مكانها واتجهت إليه، تسير بخطوات ثابتة. كان هناك صف من الطلاب، ولم يتبقَ سوى ثلاثة منهم، بما فيهم هي.
شعرت بنبضات قلبها تتسارع قليلاً، ليس خوفاً، بل رغبة في إثبات نفسها أمام الشيخ الذي أثرت كلماته في روحها بعمق.
عندما جاء دورها، جلست أمام الشيخ، متماسكة وواثقة، وبدأت تسمع وردها بصوت مملوء بالتحدي والإصرار. كان في عينيها بريق خاص وهي تقرأ، وكأن كل كلمة تحفظها تعني لها شيئًا عظيمًا.
انتهت من وردها، وانتقلت إلى زميلها محمد، الذي كان دائمًا يكمل لها تسميع ما فات.
محمدكان ينظر إليها نظرة مليئة بالدهشة، مستغرباً من التحول الذي طرأ عليها. أخيرًا، سألها بنبرة مشوبة بالاستفهام والفضول:
"هتصحي ايه النهارده؟ صفحة واحدة؟"
شعرت دقهلية بشيء من الفخر يملأ قلبها، لكنها حاولت إخفاءه بنبرة عادية، وقالت بثقة:
"لاء، السورة كلها."
اتسعت عينا محمد بدهشة، لم يكن يتوقع هذه الإجابة، فهز رأسه قليلاً وكأنه يحاول استيعاب ما قالته للتو:
"السورة كبيرة، هتنسي بسرعة، وبعدين انتي بقالك أسبوعين من يوم شيخ سيناء كان هنا، وانتي بتحفظي. هو قالك إيه؟"
شعرت دقهلية بتغير في ملامحها، كأن شيئًا يخصها بشدة تم الاقتراب منه، وردت بنبرة دفاعية، لكنها مملوءة بالغموض:
"وانت مالك؟ وبعدين مش بحفظ وبسمع."
استمر محمد في النظر إليها، يحاول فك لغز التغير السريع الذي طرأ عليها:
"ايوه، ما انا مستغرب. انتي كنتي في الجزء التاني، سورتك القيامة، وفضلتي شهور فيها. وأول لما هو كلمك، تاني يوم أخدتيها كلها، وكل يوم بتصحي سورة كاملة، أو سورتين، والغريبة إنك بتحفظي."
نظرت دقهلية إلى الأرض للحظة، ثم رفعت رأسها بسرعة، وكأنها قد قررت ألا تخفي شعورها بالفخر:
"عادي، ما كنتش عاوزة. ودلوقتي مهتمة أوي، وهختم القرآن. انت خايف لأسبقك مش كدا؟ يعني الفرق من أسبوعين كان كبير، أومال دلوقتي لاء، أربع أجزاء بس."
نظر محمد إليها بنوع من التحدي، لكن بداخل هذا التحدي كان هناك اعتراف بأنه يشعر بشيء من الفخر بها، وربما أيضًا غيرة طفيفة:
"طب ياختي، خدي السورة كلها."
ابتسمت دقهلية بخفة، كانت تلك الابتسامة تفيض بالثقة والتحدي:
"أيوه."
أخذ محمد نفسًا عميقًا، ثم نظر إليها بنظرة تشير إلى أنه يدرك الآن أنها تغيرت حقًا، وقال بنبرة أكثر جدية:
"طب اقرئي."
بدأت دقهلية تقرأ بصوت هادئ لكنه مليء بالإصرار، وكأنها تؤكد لنفسها قبل الآخرين أنها قادرة على فعل ما ظنته يومًا مستحيلاً:
"بسم الله الرحمن الرحيم
حمٓ ( 1 ) وَٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَٰرَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ( 3 ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 5 ) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ( 6 ) رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ( 7 ) لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلْأَوَّلِينَ ( 8 ) بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ ( 9 ) فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ( 10 ) يَغْشَى ٱلنَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 11 ) رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ( 12 ) أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ( 13 ) ثُمَّ تَوَلَّوْا۟ عَنْهُ وَقَالُوا۟ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ( 14 ) إِنَّا كَاشِفُوا۟ ٱلْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ ( 15 ) يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰٓ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ( 16 ) ۞ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( 17 ) أَنْ أَدُّوٓا۟ إِلَىَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ۖ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( 18 )
ظلت دقهلية تقرأ بصوت هادئ ومسترسل، غارقة في بحر من السكينة، بينما محمد يصحح لها الأخطاء الصغيرة التي تتسلل أحيانًا في تلاوتها. كانت تعيد الآيات مرارًا حتى تتقنها تمامًا. وعندما انتهت أخيرًا من السورة، همست بصوت مملوء بالتقوى والخشوع:
"صدق الله العظيم."
ابتسم محمد برضا واضح على وجهه، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم قال بنبرة مازحة لكنها مليئة بالفخر:
"كويس كده خلصتي."
لم ترد دقهلية، بل اكتفت بابتسامة صغيرة، كانت تشعر برضى داخلي يعمق في قلبها، كأنها قطعت خطوة أخرى نحو تحقيق ما كانت تراه يومًا مستحيلًا. نهضت من مكانها، واتجهت نحو الخارج، متجهة إلى بيتها بخطوات واثقة وثابتة.
خلال الفترة التالية، ظلت دقهلية على هذا الحال، تسهر الليالي وهي مجتهدة في المذاكرة وحفظ القرآن، حتى أنها كانت تتأمل الآيات بتدبر، محاولة أن تفهم المعاني العميقة التي تحملها كل كلمة. كانت تسعى بجد لملء قلبها بالقرآن، وكأنها تبحث عن نور يهديها في ظلمات الحياة.
مع انتهاء الامتحانات، بدأت منال، والدة دقهلية، تلاحظ التغيير الجذري الذي طرأ على ابنتها.
كانت تراقبها بصمت وهي تتحول من تلك الفتاة الهادئة المترددة إلى شابة مفعمة بالثقة والإصرار. لم يكن التغيير يقتصر على الهدوء والكلام المتزن، بل تعداه ليشمل اهتمام دقهلية الكبير بالقرآن، شيء كان يبهر منال ويثير فيها شعورًا عميقًا بالفخر.
كان الشيخ سيد يتصل بمنال مرارًا، يمدح في ابنتها التي أصبحت نموذجًا يحتذى به بين طلابه.
أخبرها بأن دقهلية تفوقت بشكل ملحوظ على جميع زملائها، وأنها إذا استمرت على هذا النهج، فسوف تتمكن من المشاركة في المسابقة القرآنية الكبرى في القاهرة.
كانت كلمات الشيخ تملأ قلب منال بالسعادة، ولكنها كانت تعلم أن الفضل يعود في ذلك إلى إصرار ابنتها وصبرها.
في يوم من الأيام، دخلت منال على دقهلية في غرفتها، كانت دقهلية منهمكة في حفظ القرآن، تردد الآيات بصوت منخفض، تحاول أن تراجع ما حفظته.
وقفت منال على عتبة الباب، تراقب ابنتها بصمت، تملؤها السعادة والاعتزاز.
كانت الابتسامة تعلو وجه منال، شعرت بدمعة صغيرة تترقرق في عينيها، دمعة الفخر بابنتها التي بدأت تجد طريقها نحو النور.
تركت منال ابنتها تكمل حفظها دون أن تقاطعها، ثم انسحبت بهدوء من الغرفة، وهي تحمل في قلبها دعاءً صادقًا بأن يوفق الله دقهلية ويثبتها على طريق الحق.
مرّت الأيام حتى ظهرت النتيجة، وعمّ الفرح أرجاء البيت. العائلة كلها تجمعت لتهنئة دقهلية وأخيها، إذ أصبح حلمها أقرب للتحقق. شعرت دقهلية بأن هذا هو الوقت الذي عليها أن تعد العزم فيه لبدء أول خطوة في تحقيق حلمها. كانت في قمة سعادتها عندما رافقها والدها لتقديم ملفها في الثانوية. استمرت في حفظ القرآن والتفوق في دراستها، لكن موعد المسابقة كان يقترب، وكانت تعلم أن هذا هو التحدي الأكبر.
مع اقتراب موعد المسابقة، بدأت تظهر المخاوف لدى والدها، الذي رفض في البداية سفرها. شعرت دقهلية بالخيبة وهي ترى أحلامها مهددة، لكن الشيخ'سيد'تدخل، وبدأ بمحاولة إقناع والدها. حتى الأهل وقفوا بجانبها، وخاصة خالاتها اللواتي لم يتوانين عن دعمها. لكن الدور الأكبر كان لوالدتها منال، التي أظهرت إصرارًا شديدًا على إقناع والدها. لولاها، لم يكن ليوافق. بدأ قلب دقهلية ينبض بالحماس، إذ شعرت بأنها تقترب من تحقيق حلمها الكبير.
كانت تعد نفسها للسفر عند الفجر مع باقي زملائها. عاشت كل لحظة بحماس وقلق، وتخيلت نفسها في المسابقة، وهي تنافس وتثبت قدرتها. فبعد عودتها من المسابقة، العائلة تستعد لحفل كبير يقام لها و لزميلها محمد ولصديقتها ماجدة، احتفالًا بختمهم للقرآن الكريم. لم تكن دقهلية تصدق نفسها؛ فقد أوفت بوعدها، وخلال شهور قليلة حفظت القرآن كاملاً.
ذلك اليوم كان أسعد يوم في حياتها. ليس لأنها ستسافر إلى المسابقة فحسب، بل لأنها ستلتقي سيناوي، التي لم تعرفها من قبل، إلا من خلال حديث الشيخ حسان عنها. كان حماس دقهلية يتضاعف كلما فكرت في هذه المقابلة. وقبل الفجر بقليل، أوصلها والدها إلى المكتب حيث كان عليها أن تنطلق مع زملائها إلى القاهرة.
كانت السعادة تغمرها طوال الطريق. لم تفارق الابتسامة وجهها، وكانت تغمض عينيها بين الحين والآخر لتستمتع بشعور الحرية، وكأنها تتنفس أحلامها وهي تتحقق. عندما وصلوا إلى مسجد الأزهر، شعرت بذهول. كانت تشعر وكأنها خرجت أخيرًا إلى عالم جديد، عالم من الفرص والإنجازات.
عندما نزلت من الحافلة، شعرت بأنها تخرج من شرنقتها إلى نور الحياة. كانت تدور حول نفسها، تفتح ذراعيها وكأنها تستقبل هذا العالم الجديد بابتسامة عريضة. تنفست بعمق وابتسمت، وشعرت بأن السعادة تغمر قلبها.
رغم حماسها، كانت تشعر ببعض القلق وهي تبحث بعينيها عن الشيخ حسان بين الحضور. لكنها لم تجده. جلست بجانب زملائها، ووضعت يدها على خدها، والدموع تترقرق في عينيها. لم تكن تعرف إن كانت دموع الحزن أم الفرح، لكن ما كانت تعرفه هو أنها قطعت شوطًا كبيرًا في حياتها، وأنها قريبة من تحقيق حلمها.
بعد فترة، رأت بائع غزل البنات يمر، فاستأذنت من المسؤول عنها أن تذهب لشرائه، لكنه رفض بشدة. جلست بحزن وهي تنظر إلى البائع يبتعد. لكن عندما انشغل المسؤول عنها بالحديث مع الآخرين، لم تستطع مقاومة الرغبة، فانطلقت هي وزميلتها هاجر للحاق بالبائع. شعرت بالمرح والطفولة تعود إليها للحظة، وركضتا حتى تمكنتا من اللحاق بالبائع وشراء ما أرادتاه.
كانت تسير مع هاجر حتى صادفت فتاة سمراء تمر بجانبها. كان جمال الفتاة يلفت الأنظار، فوقفوا ينظرون إليها بدهشة. همسوا لبعضهم حول جمال الفتاة وعينيها الساحرتين. لكن عندما حاولوا العودة إلى المسجد، اكتشفوا أنهم أضاعوا الطريق. بدأ الخوف يتسلل إلى قلوبهم، وبكت الفتاة السمراء معهم.
دقهلية، بحيرة القلق تملأ صوتها، قالت:
"إنتي ضايعة إنتي كمان؟"
ردت الفتاة السمراء بحزن وارتباك:
"آه، دي أول مرة أجي القاهرة ومش عارفة أرجع إزاي."
هاجر قالت بخوف:
"إحنا كمان أول مرة نيجي القاهرة."
سألتهم الفتاة السمراء بقلق:
"طب هنعمل إيه دلوقتي؟"
بدأت دقهلية تلتفت يمينًا ويسارًا بقلق، حتى رأت سيارة جيش قريبة. صاحت بفرح:
"في عربية جيش هناك! تعالوا."
توجهوا نحو السيارة، وسألت دقهلية الضابط عن طريق العودة إلى المسجد الأزهر. لكنه نظر إليهم بسخرية بسبب مظهرهم. ملابسهم كانت واسعة وغير مرتبة، وأياديهم كانت تحمل غزل البنات. أجابهم الضابط ببرود وسخرية:
"وإنتوا تايهين؟"
ردت هاجر بحزن:
"آه، مش عارفين نرجع."
ضحك الضابط بقوة وهو يشير إلى غزل البنات في أيديهم:
"أكيد مش هتعرفوا، ما إنتوا عيال، ودا اللي في إيدكم إيه؟!"
نظرت الفتيات إلى بعضهن بصمت، وشعرن بالخجل. لكن الضابط لم يتوقف عن الضحك حتى جاء قائده. سمع القائد حديث الضابط، فصاح فيه بغضب:
"إيه اللي بيحصل هنا؟!"
رد الضابط بتوتر:
"يا فندم، دول تايهين."
صاح القائد بغضب، وعيونه تلمع بالغضب:
"أنا بتكلم على كلامك معاهم، مش عليهم! دا أسلوب تتعامل بيه؟ لجأوا ليك عشان تساعدهم، ودورك إنك تحميهم، مش تتريق عليهم!"
خفض الضابط رأسه احترامًا واعتذر بصوت مليء بالندم:
"آسف يا فندم."
لم يعيره القائد أي اهتمام،ولم يقبل اعتذاره،نظره غاضبه اكتفى بها.ثم التفت للفتيات.ءغ
بينما كان القائد جاسر يسير بجوار الفتيات، لم تفارق الابتسامة وجهه، رغم أنه لاحظ الحزن والقلق المرتسم على ملامحهن. كان يتساءل عن سبب حزنهن ولكنه اختار أن يبادر بابتسامة هادئة، محاولًا تخفيف التوتر.
"انتوا عايزين إيه يا حلوين؟" قال بصوت ناعم وعينين مليئتين بالدفء.
نطقت الفتاة السمراء أولًا، مترددة بعض الشيء، لكن بملامح مليئة بالامتنان:
"عاوزين المسجد الأزهر."
ابتسم القائد بهدوء واستدار في اتجاههن، مشيرًا بيده نحو الطريق:
"يلا، وأنا هوصلكم. هو مش بعيد. رايحين تصلوا؟"
أجابت دقهليه بصوت مطمئن قليلاً، وقد هدأ القلق الذي كان يعتريها:
"احنا جاين المسابقة القرآن."
تملكت القائد مشاعر الفخر وهو ينظر إليهن نظرة احترام، ثم قال:
"بجد ربنا يحميكم. اسمكوا إيه بقى؟"
أجابته الفتيات في نفس الوقت وكأنهن متفقات مسبقاً:
"ياسمين."
اندهش قليلاً من تزامن ردهما وضحك في سره، ثم تابعت دقهليه بحماسة وهي تشير إلى سيناوي:
"سيناوي!"
ردت سيناوي بفرح أكبر وقد أضاءت عيناها بشعور خاص:
"إيه بجد، انتي دقهليه؟"
أجابت دقهليه بحماس مماثل:
"أيوه."
ردت سيناوي بفخر وهي تضحك:
"أنا سيناوي، حفيدة الشيخ حسان."
نظرت دقهليه إلى سيناوي بدهشة وقالت:
"احلفي!"
ابتسمت سيناوي وأضافت بحنان:
"أنا مبسوطة إني شوفتك."
دقهليه، وقد بدأت تفهم مدى خصوصية هذا اللقاء، سألتها بفضول:
"هو قالك على الإسم؟"
أجابتها سيناوي وهي تومئ برأسها بابتسامة واسعة:
"أيوه، فرحت بيه أوي. انتي توأمي، هو قال لي كده."
ابتسمت دقهليه وأخذتها بين ذراعيها بعاطفة جياشة، تحتضنها بشدة كأنها قد عثرت على نصفها الآخر المفقود.
كان القائد جاسر يراقب مشهد الفرح الذي امتلأ به الجو بين الفتيات، ورغم أنه لم يفهم سبب تلك السعادة الكبيرة أو الأسماء التي يتبادلنها، إلا أنه لم يستطع إخفاء فضوله. سألهم مازحًا:
"إيه حكاية سيناوي ودقهليه دي بقى؟"
أجابته الفتاتان مرة أخرى في نفس اللحظة، مما جعله يبتسم بشكل أوسع:
"أنا هقولك."
ضحك بصوت عالٍ وأردف قائلاً:
"طيب، واحدة واحدة. هتقولوا مع بعض إزاي؟"
ثم أضاف بابتسامة وهو يعرّف نفسه:
"أعرفكوا بنفسي الأول، أنا القائد جاسر."
ردت دقهليه بثقة:
"وأنا ياسمين."
نظر إلى هاجر، التي كانت صامتة طوال الوقت، وسأل:
"والقمر اسمه إيه؟"
أجابت بخجل:
"هاجر."
ابتسم لها القائد وقال:
"تمام، يلا معايا واسمع قصتكم في الطريق."
بينما كنّ يسردن قصصهن للقائد، كانت دقهليه تروي تفاصيل حياتها ثم تقاطعها سيناوي، ويستمر الحديث بينهن بطريقة عفوية، مليئة بالحيوية والبهجة. استمرت الرحلة وسط الضحكات والتعليقات الطريفة، حتى وجدوا أنفسهم قد وصلوا بسرعة.
عندما قالت دقهليه بنبرة حزينة:
"وصلنا."
رد عليها القائد جاسر بابتسامة مائلة وقال:
"فعلاً، الطريق خلص بسرعة أوي."
ثم أضاف بابتسامة جذابة:
"وبما إنكم وفيتوا بالوعد، أنا كمان هأوعدكم."
نظرت ياسمين بلهفة وسألت:
"بإيه؟"
ضحك القائد قائلاً:
"واحدة واحدة تتكلم، مش إنتوا الاتنين!"
ضحكوا جميعًا بصوت عالٍ، ثم قال مازحًا:
"ماشي يا عم! المهم، وعدي ليكم إنكم لما تدخلوا كلية طب، أنا هعلمكم الدفاع عن النفس. إيه رأيكم؟"
صاحوا بفرحة كبيرة:
"موافقين!"
قال القائد بنبرة محبة:
"يلا يا قردة، لما تخلصوا المسابقة تعالوا عليا تفرحوني ماشي؟"
ردت دقهليه بقلق:
"بس الشيخ مش هيوافق."
أجابها القائد بلهجة مطمئنة:
"خلاص، أنا اللي هاجي ليكم. يلا روحوا، في حد بيشاورلك يا دقهليه."
نظرت دقهليه ورأت الشيخ وقالت:
"أيوه، دا الشيخ. سلام يا قائد."
رد عليها بابتسامة ودية:
"سلام يا وردة الياسمين."
ابتسمت دقهليه وقالت وهي تشعر بسعادة غامرة:
"حلو الاسم ده."
أجابها بابتسامة دافئة:
"وأنا هناديكي بيه. يلا بسرعة روحي."
نظرت إليه دقهليه وقالت بجدية:
"هرجعلك تاني، وعد."
ابتسم القائد وقال وهو يلوّح لها:
"وأنا هستناكي."
بعد أن تهرولت نحو الشيخ، تغيرت الأجواء فجأة. كانت ملامح الشيخ غاضبة، عنفه بقوة وكاد أن يضربها هي وهاجر على تأخرهما وابتعادهما دون إذن.
في زاوية بعيدة عن الضجيج والأنظار، وقفت سيناوي بملامح قلقة، تجمع بين الاحترام والتوتر، بجوار القائد جاسر الذي لم يمضِ على معرفتهما سوى دقائق معدودة. كان الجو من حولهما هادئًا، فيما تنتظر ظهور جدها الشيخ حسان.
كلما مرت لحظة دون أن تراه، زاد نبض قلبها تسارعًا، كأن الخوف والقلق يتجسدان في دقات قلبها المضطربة.
وأخيرًا، بعد لحظات بدت وكأنها ساعات، ظهر الشيخ حسان. خطواته كانت واثقة، لكنه عندما اقترب منها، عانقت عيناه نظرات عتاب صارمة. وكأن عينيه كانتا تقولان كل شيء دون الحاجة إلى كلمات.
سيناوي لم تستطع مواجهة نظراته، فخفضت رأسها نحو الأرض ببطء، وكأنها تحمل على كتفيها ثقل الخطأ الذي ارتكبته. تساقطت دموعها بصمت، تمزج بين الندم والخوف، لتغرق وجهها الصغير الذي ارتسم عليه الحزن.
اقترب منها جدها بحنان غير متوقع، وصوته كان هادئًا لكنه مليء بالألم:
"زعلى منك خوف عليكي، لو ما كانش راجل كويس ما كنتوش هنا، وانتوا أول مرة تسافروا، وامانة في رقبتنا."
كانت كلماته كبلسمٍ على جرح قلبها. رفعت رأسها قليلاً وهي تشعر أن الجد، رغم عتابه، كان قلقًا عليها أكثر من أي شيء آخر.
القائد جاسر الذي كان يراقب هذا المشهد من بعيد، لم يستطع إلا أن يشعر بمزيج من الاحترام والتقدير للشيخ. بادر قائلاً بنبرة مليئة بالاحترام والاعتراف:
"عندك حق يا شيخ، وأنا قولت لهم كده، بس الشيخ اللي مع دقهليه كان بيعاملها بعنف جامد."
قالها وهو يشير نحو دقهليه التي كانت في مسافة غير بعيدة، متجمدة في مكانها تحت وطأة غضب شيخها.
نظر الشيخ حسان نحو دقهليه، ورأى دموعها وارتعاشها، فاشتعل قلبه بعاطفة جياشة:
"أنا هروح أكلمه، حبيت البنت دي أوي ويعز عليا دموعها، زي حفيدتي بالظبط."
ابتسم القائد جاسر بصدق، وعيناه تكشفان عن مشاعر أخوة غير متوقعة:
"وأنا والله شوفت فيها أختي وبنتي."
هز الشيخ حسان رأسه موافقًا، ثم استأذن قائلاً:
"راجع ليك يا ولدي، هروح أشوف دقهليه."
القائد جاسر نظر إليه بود وأجاب بأسف:
"آسف يا شيخ، عندي خدمة لازم أرجع لها. بس بعد المسابقة هكون هنا علشان أسلم عليكوا."
هز الشيخ حسان رأسه بتفهم:
"تمام يا ولدي، اسمك إيه؟"
ابتسم القائد وقال بفخر:
"جاسر، مقدم في الجيش."
ابتسم الشيخ حسان بدعاء من قلبه:
"مع السلامة يا ولدي، ربنا يحميك. ولينا كلام مع بعض كتير."
أجاب القائد وهو يلوح له بابتسامة ودية:
"أكيد، اتشرفت بمعرفتك. سلام، روح شوفها."
ثم ألقى القائد جاسر التحية الأخيرة قبل أن يختفي من المشهد، تاركًا وراءه أثرًا من الاحترام والطمأنينة في نفوس الجميع.
الشيخ حسان ألقى نظرة أخيرة على القائد جاسر قبل أن يلتفت نحو دقهليه، مصممًا على تهدئة الوضع وإعادة الابتسامة إلى وجه الفتاة التي أثرت في قلبه.
توجه الشيخ حسان نحو دقهليه وهاجر، اللتين كانتا تقفان متوترتين، والدموع تغمر وجوههما. لم تستطع دقهليه حبس دموعها بعد العنف الذي تعرضت له من شيخها، وشعرت أنها لم تعد قادرة على التنفس بسبب الخوف والحزن. كانت تحاول أن تبدو قوية، لكن قلبها كان ينهار.
وصل الشيخ حسان واقترب منهما بخطوات هادئة وواثقة، حاملاً معه إحساساً بالطمأنينة. بمجرد أن وصل إليهما، وضع يده بلطف على كتف دقهليه، التي لم تستطع منع نفسها من النظر إلى الأرض، وكأنها تتمنى أن تختفي.
قال بصوت مليء بالحزم والحنان في آنٍ واحد:
"ما تزعليش يا بنتي، أنا هنا، شيخيك اللي زعقلك بيعرف غلطك. أنتِ زي بنتي، وأنا مش هرضى حد يعاملك بالشكل ده."
رفعت دقهليه ببطء رأسها، وابتسمت ابتسامة حزينة، لكنها كانت ممتنة لكلماته. أما هاجر، فقد كانت تمسك بيدها بقوة، وكأنها تحاول نقل الأمان إليها.
اقترب الشيخ حسان من الشيخ سيد الذي كان واقفاً على مسافة، وقال له بحدة، لكن بصوت منخفض كي لا يجذب الأنظار:
"البنات دول أمانة في رقبتنا، وما يصحش نعاملهم بالشكل ده. هاتلي دقهليه وهاتلي هاجر، وهفهم هما ليه جايين هنا. بهدوء الغلط، عمر ما كان حله بالصوت العال والضرب. "
الشيخ سيد، الذي كان لا يزال غاضباً بعض الشيء، أومأ برأسه دون أن يتحدث. كانت ملامحه تدل على أنه أدرك خطأه، لكنه لم يكن يريد الاعتراف بذلك علناً.
عاد الشيخ حسان إلى الفتاتين وقال بصوت دافئ:
"يلا يا بنات، خلاص، الأمور اتصلحت. ادخلوا واتطمنوا، الشيخ مش هيزعق تاني."
ابتسمت دقهليه وهاجر له، وشعرتا بأن الأمور بدأت تتحسن، وأن الألم الذي شعرتا به بدأ يتلاشى ببطء.
أثناء مغادرتهن، التفتت دقهليه نحو الشيخ حسان وقالت له بصوت مرتعش لكنه مليء بالامتنان:
"شكراً يا جدي، وعد مني إني مش هخيب ظنك."
ابتسم الشيخ حسان وأجابها برقة:
"عارف يا بنتي، وأنا واثق فيكي."
ثم توجهت الفتاتان نحو وجهتهما، وقلوبهما مليئة بالطمأنينة والثقة، مستعدتين لمواجهة المسابقة، وهما تعلمان أن لديهما من يدعمهما ويحميهما.
كانت الشمس تسكب نورها على الأرض بحنان، كما لو أنها تهمس للسماء بلطف قبل أن تشتد وتصل إلى ذروتها. أشعتها تلامس الأفق برفق، تنساب فوق الحقول والطرقات، فتغمر العالم بضوء ذهبي ناعم يتسلل عبر الأشجار ويعانق المباني. كان الهواء يحمل دفء الشمس، ولكن دون أن يكون حارًا، وكأن الطبيعة بأسرها تستيقظ من سباتها الليلي على وقع هذا الضوء الذي ينمو تدريجيًا. السماء صافية، تمتد بصفاء أزرق عميق، وكأنها ساحة واسعة تنتظر ما سيأتي. في تلك اللحظات الهادئة في المسجد الأزهري الشامخ. تجمعت الفتيات في صفوف منظمة بجوار شيوخهن، استعدادًا لبداية المسابقة. سيناوي وقفت بجانب جدها، تتطلع بنظرات مليئة بالتفاؤل، بينما كان قلبها ينبض بحماس وثقة. إلى جوارها، كانت دقهليه تتنفس بعمق، متوترة بعض الشيء، لكنها تحاول الحفاظ على هدوئها.
عندما نظر إليها الشيخ حسان بعينين مليئتين بالثقة والحنان، شعرت بقليل من الراحة تتسرب إلى قلبها، رغم أن قلبها لم يتوقف عن الخفقان بسرعة.
بدأت المسابقة، وبدأت سيناوي تتلو القرآن بصوت هادئ ورخيم. كلماتها تملأ القاعة بسمفونية روحانية أذهلت الجميع، بينما كان جدها ينظر إليها بفخر لا يمكن إخفاؤه. انتهت سيناوي من تلاوتها بنجاح، وابتسامة الرضا على وجهها تشع كالشمس التي تشرق بعد ليلة طويلة.
جلست بجوار جدها تنتظر دور دقهليه، التي بدأت هي الأخرى في التلاوة. كانت الكلمات تنساب من فمها، تحمل معها كل توترها ورغبتها في النجاح.
مرت دقائق المسابقة وكأنها ساعات طويلة على دقهليه. عندما انتهت، جلست بجوار سيناوي، والتوتر يغادر جسدها شيئًا فشيئًا، لتحل محله الراحة والانتظار المشوب بالأمل.
بعد انتهاء المسابقة وإعلان النتائج، انفجرت الفتيات بالفرح عندما عرفن مراكزهما: سيناوي حازت على المركز الأول، بينما حصلت دقهليه على المركز الخامس. كانت الفتاتان تقفزان فرحًا، تمسك دقهليه بيد سيناوي بقوة، وكأنها لا تصدق ما حدث.
الركض في ساحات الأزهر، وأصوات ضحكاتهما المتداخلة، كان كأنهما عادتا طفلتين صغيرتين.
مرَّ الشيخ حسان عليهما بابتسامة مطمئنة، وتوجه نحو الشيخ الذي كان مع دقهليه ليطلب إذنه بأخذها في نزهة قصيرة مع حفيدته.
بعد موافقة الشيخ، قادهم الشيخ حسان إلى مكان خاص حيث كان القائد جاسر ينتظر. كان واقفًا هناك، يبدو عليه أنه ينتظر الفتاتين بفارغ الصبر. عندما رآهما، ابتسم ابتسامة عريضة وقال:
"أهلاً، ألف مبروك يا أبطال."
دقهليه ابتسمت بتواضع وقالت بخجل:
"شكراً يا قائد."
القائد جاسر، بروح الأبوة والأخوة التي غمرت حديثه:
"دا أقل واجب يا وردة الياسمين. يلا، انتي وهيا، سجلي رقمي."
نظرت دقهليه إلى الهاتف الجديد الذي أهداهما إياه القائد، ثم تساءلت بارتباك:
"بس هو مش فيه خط."
ضحك القائد جاسر قائلاً وهو يهز رأسه:
"لاء، فيه كل حاجة. وكمان رصيد. وعملت لكل واحدة صفحة خاصة بيها، وممنوع تغيروا الرقم، مفهوم؟"
سألت سيناوي بدهشة وحيرة، وهي ترفع حاجبيها:
"يعني ايه الصفحة دي؟ مش فاهمة."
رد القائد جاسر، بابتسامة مرحة، لكنه جدي في نفس الوقت:
"بعد إذن الشيخ طبعاً، أنا عملت كده علشان تقدروا تتواصلوا بسهولة. تعالى بقى، هعلمكوا عليها، وأعرفكوا كل حاجة. يلا."
جلسوا معًا لمدة ساعة ونصف تقريبًا، والوقت يمر بسرعة وكأنهم في عالم آخر، بعيد عن الضغوط والمسابقة.
كان القائد جاسر يشرح لهما كيفية استخدام الهواتف، بينما كانت الفتاتان تتابعانه بتركيز وحماس، وكأنهما تستعدان لمرحلة جديدة من حياتهما.
لكن كل شيء جميل لابد أن ينتهي. جاء موعد الرحيل، وبدأ الوداع يخيم على الأجواء. سيناوي، التي كانت تشعر ببعض الحزن، ودعت دقهليه بعناق دافئ، واعتذرت عن عدم قدرتها على حضور حفل تكريمها.
في البداية، شعرت دقهليه بالحزن، لكن الشيخ حسان طمأنها ووعدها بأن اللقاء سيتجدد في وقت قريب.
كما أنه أكد لها أن سيناوي ستتمكن من مهاتفتها كل يوم، مما أعاد بعض الراحة إلى قلبها.
ودعوا بعضهم بوعد اللقاء مرة أخرى، وانطلقت كل واحدة إلى بلدها، تاركتين وراءهما ذكرى جميلة لا تُنسى.
القائد جاسر عاد إلى عمله، محملًا بالذكريات والوعود التي قطعها للفتيات، وتاركًا أثرًا عميقًا في نفوس الجميع.
كان الليل قد خيّم تماماً عندما وصلت سيناوي مع جدها إلى القرية بعد رحلة طويلة.
استيقظت بصوت هادئ لجدها يناديها بلطف لتسير نحو البيت. كانت تشعر بثقل النوم على جفونها، لكن حبها لجدها جعلها تفيق بسرعة وتمشي بجانبه. أنس، الذي كان ينتظر عند مدخل البيت، جاء لمساعدتهم في حمل الأغراض مع أخيه.
في الصباح، استيقظت سيناوي على رنين هاتفها، فتحته بلهفة ورأت رسالة من دقهليه تتمنى لها التوفيق في يومها. شعرت بالامتنان والفرح، وسرعان ما ردّت عليها بابتسامة متفائلة. وعدتها دقهليه بأن ترسل فيديو الحفلة ليشاهدها الجدّ عبر الهاتف، وأغلقت المكالمة بعد أن اتفقتا على التفاصيل.
نهضت سيناوي بعد الصلاة، مليئة بالطاقة، وركضت بسرعة نحو خيمة جدها. وبينما كانت تمر بالقرب من أنس، الذي كان جالسًا يقرأ في كتاب الله، لم تلتفت إليه بل واصلت ركضها نحو الداخل.
أنس لم يكن يستطيع إخفاء شعور الضيق الذي تملكه، فقد كان ينتظر منها ولو نظرة، ولكنها مرت كأنها لم تره.
عندما وصلت إلى داخل الخيمة، وجدت جدها يقرأ القرآن بصوت هادئ ومطمئن. وضعت سيناوي نفسها بجواره، وقبلت رأسه، وبدأت تحكي له عن المكالمة التي جرت بينها وبين دقهليه. أثناء حديثها، سمعا صوتاً يستأذن بالدخول. توقف الحديث للحظة، ثم سمح الجدّ للزائر بالدخول.
دخل أنس وهو يحمل في عينيه بعضاً من الحيرة والضيق، وجلس بجوار الجد، يبارك لـ سيناوي على نجاحها.
كانت سيناوي تشكره بصوت خافت، لكن لم يكن بإمكانها إخفاء ضيقها. لاحظ أنس هذا في نبرة صوتها، كما لاحظ أنها لم تنطق باسمه أثناء الحديث، مما زاد من شعوره بالاضطراب.
نظر أنس إلى الهاتف الذي كان في يدها، وسأل الجد بتوتر:
"اي دا يا جدي؟"
أجابه الجد بهدوء:
"محمول يا ولدي، كان هدية ليها عن النجاح."
أنس، الذي بدا عليه بعض الحيرة، سأل بحدة:
"وليه جبتهولها؟"
ابتسم الشيخ حسان بحنان وقال:
"مش أنا اللي جبتهولها، دا كان هدية من شخص غالي."
أنس، وقد ازداد فضوله:
"هو مين الشخص الغالي دا؟ أنا اعرفه؟"
أجابه الجد بابتسامة مريحة:
"لاء، ما تعرفوش، أنا يدوب عرفته يومها."
شعر أنس ببعض الغيرة وقال:
"ولحق بقا غالي؟"
ضحك الشيخ حسان بلطف وأجاب:
"أنا عندي نظرة في الناس، هتشككش في كلامي ولا إيه."
تراجع أنس وقال بأسف:
"لاء، حقك عليا يا جدي، أنا ما قصدتش."
لكن الجد، الذي لاحظ انزعاجه، حاول تهدئته:
"ما تشيلش هم، أنا قادر أحميها، وانت ركز في حياتك وبس."
قال أنس بنبرة هادئة:
"ما فيش حاجة يا جدي، بس كنت عايز أبارك لبنت عمي، وكنت هقولها بره، لكنها دخلت على طول من غير سلام."
كان أنس ينظر إلى سيناوي، التي أدارت وجهها بعيداً عنه، وكأنها تهرب من أي مواجهة.
وقف أنس واستأذن:
"بالإذن أنا، سلام."
ودعه الجد قائلاً:
"سلام يا ولدي."
التفت الجد نحو سيناوي وقال لها بحنان:
"ليه كدا يا بنتي؟"
أجابت وهي تنظر إلى الأرض:
"انت عارف يا جدي، أنا ما اقدرش اخبي مشاعري، ودا أحسن ليا وليه."
هز الجد رأسه بحكمة وقال:
"طيب، هاتي المصحف من وراكي علشان نقرا مع بعض، يكون جدتك حضرت الفطور."
أخذت سيناوي المصحف وبدأت تقرأ بصوت خاشع إلى جانب جدها، حتى دخلت الجدة، وقطعت القراءة مؤقتاً لتناول الطعام. بعد أن أنهوا وجبتهم، عادوا لمواصلة تلاوة القرآن معاً، حيث عمّت السكينة والهدوء أرجاء الخيمة.
.............
بمجرد أن انتهى القائد جاسر من مهمته في المنطقة، كان قد استعاد نوعاً من الروتين والانضباط العسكري. استمر في أداء واجباته بكامل التفاني، مع حرصه على الحفاظ على الروح العالية بين رجاله. كانت الأيام تمر بوتيرة سريعة، بين الاجتماعات الميدانية والتنسيق مع باقي الوحدات. لم يكن يفكر في الرحيل بشكل جدي حتى قرب موعد انتهاء خدمته.
كان القائد جاسر شخصية محبوبة ومحترمة بين رجاله. قادهم بحكمة وحزم، وكان دوماً يستمع إلى مشاكلهم ويحرص على أن يشعروا بأنهم ليسوا فقط جنوداً، بل جزءاً من عائلته العسكرية.
في اليوم الأخير من خدمته في المنطقة، وقف جاسر أمام رجاله في الساحة، متأملاً الوجوه التي أصبحت مألوفة بالنسبة له. حمل في عينيه نظرة عميقة، مزيجاً من الاعتزاز والحنين.
تحدث إلى رجاله بكلمات بسيطة لكنها كانت تحمل معانٍ كبيرة:
"الوقت اللي قضيناه هنا كان مليان تحديات، لكن بفضل الله، وبفضلكم كلكم، قدرنا نعدّيها. اليوم حان وقت إني أرجع للقطاع، بس عايزكم تفضلوا بنفس القوة والروح اللي عرفتها فيكم."
رجاله وقفوا أمامه في صفوف منتظمة، وكانوا يعلمون أن رحيله يعني غياب قائد كان سنداً لهم. بعد الانتهاء من كلماته، قام بتحية عسكرية، وتقدموا نحوه ليودعوه واحداً تلو الآخر.
بعد ساعات قليلة، انطلق جاسر مع فرقته نحو القطاع، حيث كانت تنتظره مهمات جديدة، وربما تحديات أكبر. لكنه كان مستعداً لأي شيء، فخدمته لوطنه كانت دائماً في المقدمة. ورغم أنه غادر المكان، إلا أن أثره بقي محفوراً في قلوب رجاله، الذين تعلموا منه الكثير.
بعودته إلى القطاع، شعر القائد جاسر بامتنان كبير لتلك الفترة التي قضاها، لكنها لم تكن نهاية لرحلته العسكرية.
..........................
في تلك الليلة الهادئة، عادت دقهليه إلى منزلها، متعبة ولكن مليئة بالفرح لما حققته من نجاح. استقبلتها والدتها بنظرات فضولية، تنتظر أن تسمع تفاصيل يومها. بدأت دقهليه تخبرها بكل شيء، عن الحفل والهدايا والتكريم، لكنها تجنبت ذكر لقائها بالقائد. كانت تعلم أن والدتها لن ترضى بذلك.
عندما لاحظت والدتها أن ابنتها أخفت جزءاً من القصة، بدأت تعنفها قائلة:
"ليه ما قلتيش كل حاجة؟
ومين اللي جبلك التلفون. ومين القائد اللي بيرن عليكى دا، ويسأل وصلتى ولا لاء، ليه خبيتى عني مقابلتك للقائد؟"
دقهليه، التي شعرت ببعض التوتر، حاولت تهدئتها قائلة:
"يا أمي، دي كانت هدية زي باقي الهدايا، خدت لابتوب ومبلغ مالي، وكمان هدايا تانية."
ثم تنفست بعمق و قصت عليها كيف تعرفت بالقائد.
استمرت الأم في توبيخها قليلاً، لكنها في النهاية قبلت عذر دقهليه وتركت الأمر يمر.
مر اليوم التالي بسعادة وهدوء، حتى بزغ الصباح الذي طالما انتظرته دقهليه.
كانت متحمسة للغاية، فاليوم هو يوم تكريمها وحفل القرآن. قفزت من فراشها بسرعة، واندفعت نحو والدتها كي تتناول إفطارها وتستعد للذهاب إلى المكتب لتحضير نفسها لهذا اليوم المميز.
بعد فترة قصيرة، كانت دقهليه تخرج من البيت، تركض بسرعة في الشوارع، متجاهلة نظرات الناس المندهشة من اندفاعها. لم تكن تهتم كثيرًا بما يفكر فيه الآخرون، بل كانت تركز فقط على تحقيق حلمها. وصلت بسرعة إلى مكان التجمع، حيث كان الجميع يستعدون للمشاركة في الحفل.
وقفت في الصف الأول بجوار ماجدة ومحمد، اللذين كانا بدورهما متحمسين لهذا اليوم. كان الجو مليئًا بالتوقعات والترقب. مع اقتراب موعد بدء الحفل، اصطف الطلاب في صفوف متساوية ومنظمة، وهم يهتفون بالأناشيد الدينية، ويحملون لوحات مكتوبة عليها آيات قرآنية وأسماء الطلاب المكرمين.
تحركت المسيرة باتجاه مكان الحفل، الذي أقيم أمام المسجد الكبير في المنطقة. حضر كبار الشخصيات من الحي، بما في ذلك المحافظ ونائب مجلس الشعب، بالإضافة إلى الأهالي الذين تجمعوا لمشاهدة الحفل. كان الجو مليئًا بالحماس والفخر.
بدأ الحفل بتلاوة القرآن الكريم، ثم بدأت اختبارات الطلاب الذين تم تكريمهم، حيث تلى كل منهم بصوته الجميل، أو ألقى خطبة دينية، في أجواء من الروحانية والإجلال. بعد ذلك، بدأت فقرات الحفل الأخرى التي شارك فيها بقية الطلاب.
عند نهاية الحفل، قام المحافظ وكبار الحي بتوزيع الجوائز القيمة على الطلاب المتفوقين، وتكريمهم أمام الجميع. كما تم توزيع هدايا صغيرة على جميع الطلاب الذين حفظوا كتاب الله، وسط أجواء من الفخر والفرح.
بعد انتهاء الحفل، اصطحب الأهالي أبناءهم إلى منازلهم، يحملون الهدايا التي حصلوا عليها. دقهليه كانت قد حصلت على سرير، غسالة، مبلغ مالي، براويز، مصحف، وشهادة تقدير، وهو نفس ما حصل عليه ماجدة ومحمد.
عندما عادت دقهليه إلى المنزل، اتفقت مع والدتها على ترتيب الهدايا، لكنها فوجئت بشرط والدتها:
"هتاخدي السرير ليكي، لكن الغرفة تفضليها لأخواتك."
ابتسمت دقهليه على الفور ووافقت دون تردد. كانت سعيدة بأن تستقل بغرفتها الصغيرة، خاصة بعد أن قامت والدتها بإخراج الكراسي منها لتوفير مساحة أكبر لها. شعرت أخيرًا أن لديها مكانًا خاصًا بها، مكانًا تستقر فيه وتفكر في مستقبلها.
مرت أيام دقهلية بسعادة تامة، تنبض بالحيوية والأمل في كل لحظة. كانت تشعر بأن حياتها قد بدأت تأخذ مسارًا أكثر وضوحًا بعد نجاحها في حفل التكريم واحتفاظها بعلاقتها الوثيقة مع سيناوي وجدها. لكن المفاجآت لم تتوقف.
ذات يوم، وبينما كانت تتصفح صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بها، لفت نظرها رسالة غريبة من فتاة تبحث عن توأم لها.
استغربت دقهلية في البداية، لكنها شعرت باندفاع غريب للاطلاع على محتوى الرسالة. بدأت تقرأ الكلمات بعناية، وكلما تعمقت أكثر، زادت دهشتها وفرحتها. لم تكن دقهلية وحدها هي وسيناوي، بل يبدو أن هناك فتاة أخرى تبحث عنهم. أصبحوا الآن ثلاثًا، لكن المفاجأة لم تتوقف هنا.
كان آسر يقلب الصفحة وهو مفعم بالحماس، متشوقًا لمعرفة من تكون الفتاة الثالثة وما قصتها، وكيف ستتشابك حياتها مع سيناوي ودقهلية. تدفقت الأسئلة في ذهنه: ما الذي سيحدث؟ ما دور كل من سيناوي ودقهلية؟ هل هناك مزيد من الأسرار المخفية في تلك المذكرة؟
بينما كانت تلك الأفكار تسيطر عليه، شعر جسده يضعف من التعب. السهر المتواصل وقلة الطعام استنزفته بشدة، ولم يعد لديه الطاقة لمواصلة القراءة. كان عقله يشتعل بالفضول، لكن جسده أثقلته الحاجة إلى الراحة. قرر، على مضض، أن يؤجل اكتشاف باقي القصة حتى الصباح، مطمئنًا بأن الغد يوم الجمعة، يوم الإجازة.
قبل أن يخلد إلى النوم، راودته فكرة: "هل سيتصل بي عمي زين غدًا؟ أم أنه سيظل مختفيًا كما كان طوال هذا الأسبوع؟" كانت تلك التساؤلات تحوم حوله بينما استلقى على فراشه. غياب عمه طوال الأسبوع أثار قلقه، فقد اعتاد سماع صوته بانتظام. استسلم آسر للنوم على أمل أن يحمل الغد إجابات ليس فقط عن المذكرة، بل أيضًا عن عمه الغائب.
استيقظ آسر فجأة على صوت جدته العالي يتردد في أرجاء المنزل. كانت تصرخ بصوت حاد أشبه بالخناجر تخترق الهدوء الذي كان يحاول العثور عليه في نومه:
"يلا قوم! طول الليل نايم ومفيش فايدة منك! قوم شوف وراك إيه بدل ما تفضل نايم!"
كان صوته داخله يرتجف، لكن تعود على هذا النمط من حياتها، تلك الحدة التي لا تخفف عنها أبدًا. نهض من فراشه بتثاقل، عيناه لا تزالان تبحثان عن بقايا حلمٍ لم يكتمل. تجاهل صوتها المرتفع وهو يمشي نحو المطبخ ليشرب بعض الماء، في محاولة لتهدئة نفسه.
بعد قليل، بينما يجلس وحيدًا على الأريكة في غرفة المعيشة، رن هاتفه فجأة. نظر إلى الشاشة، فإذا بالاسم يظهر: "زين". زين، صديق والده، الوحيد الذي اعتاد أن يسأله عن أحواله ويطمئن عليه دائمًا. رفع الهاتف وفتح الخط:
"آلو، عمه زين؟"
قال آسر بصوتٍ منخفض، يحاول إخفاء تعب اليوم.
أجابه زين بحنان:
"إزايك يا آسر؟ وحشتني. كل حاجة كويسة معاك؟ طمني عليك."
ابتسم آسر ابتسامة صغيرة، رغم أنه يعلم أن الحياة لم تكن على ما يرام مؤخرًا. لكنه لم يعرف كيف يخبره عما بداخله.
وتلك الجدته تجلس أمامه تستمع لما يقول بعيون تشع غضب.
"أنا بخير يا عمه زين، كله تمام. شكراً ليك إنك بتسأل."
أجابه آسر بهدوء.
رد زين بجديه:
"لو في حاجة عاوز تقولها، أنا موجود يا آسر. ما تنساش إني هنا دايمًا."
"عارف يا عمه زين، شكرًا بجد. هكلمك بعدين."
أنهى آسر المكالمة بلطف وأغلق الهاتف.
بعد انتهاء المكالمة، أحس آسر بثقل يضغط على صدره. استجمع شتات نفسه واتجه نحو غرفته، أغلق الباب خلفه بإحكام، وكأن هذا الباب هو الحاجز الوحيد بينه وبين العالم الخارجي. جلس على طرف سريره، ثم مد يده إلى المذكرة التي تركها في الليلة السابقة.
أمسك المذكرة بين يديه بحذر، كأنها مفتاح لحياة أخرى. تنهد بعمق وفتح الصفحة حيث توقف.
قلب الصفحة ببطء، وعيناه متسمرتان على الكلمات التي كانت تنتظره. عاد ذلك الفضول ليشتعل بداخله، وعاد السؤال يراوده: من تكون "الفتاة الثالثة"؟ وهل ستكمل المذكرة ما بدأته أمه، أم ستتركه يبحث عن الأجوبة في سيل من الصفحات الفارغة؟
بدأ يقرأ بحذر واهتمام، منتظرًا أن تكشف المذكرة له أسرارها.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
كانت دقهلية تغفو في هدوء، متعبة من يوم طويل من الحفظ والمذاكرة، تفيق عندما سمعت صوت الشيخ سيد، ينادي عليها بلطف. فتحت عينيها ببطء، شعرت بالراحة حينما تذكرت أنه قد حان وقت تسميع وردها.
ابتسم بفرحه،فهي دائماً تتذكر وعدها لشيخ حسان.
نهضت من مكانها واتجهت إليه، تسير بخطوات ثابتة. كان هناك صف من الطلاب، ولم يتبقَ سوى ثلاثة منهم، بما فيهم هي.
شعرت بنبضات قلبها تتسارع قليلاً، ليس خوفاً، بل رغبة في إثبات نفسها أمام الشيخ الذي أثرت كلماته في روحها بعمق.
عندما جاء دورها، جلست أمام الشيخ، متماسكة وواثقة، وبدأت تسمع وردها بصوت مملوء بالتحدي والإصرار. كان في عينيها بريق خاص وهي تقرأ، وكأن كل كلمة تحفظها تعني لها شيئًا عظيمًا.
انتهت من وردها، وانتقلت إلى زميلها محمد، الذي كان دائمًا يكمل لها تسميع ما فات.
محمدكان ينظر إليها نظرة مليئة بالدهشة، مستغرباً من التحول الذي طرأ عليها. أخيرًا، سألها بنبرة مشوبة بالاستفهام والفضول:
"هتصحي ايه النهارده؟ صفحة واحدة؟"
شعرت دقهلية بشيء من الفخر يملأ قلبها، لكنها حاولت إخفاءه بنبرة عادية، وقالت ....... [المزيد]
سيناوي... دقهلية: مع غروب الشمس، استيقظ آسر من نومه على وقع معدته الخاوية.
شعر بالجوع الشديد، فنهض من فراشه بكسل واتجه إلى الحمام ليغتسل سريعًا. بعدها، توجه نحو المطبخ بحثًا عن شيء يسد به جوعه، لكن عبثًا، لم يجد شيئًا. أحس بخيبة أملٍ وهو يتنقل بنظراته بين الأرفف الفارغة والثلاجة المغلقة، فقرر التوجه إلى جدته، رغم إدراكه لحدة استقبالها.
ما إن دخل غرفتها حتى صاحت بغضب:
"بتعمل إيه عندك؟!"
أجابها بصوتٍ خافت، لكنه يحمل في طياته انكسارًا:
"بدور على حاجة أكلها، جعان."
نظرت إليه نظرة مليئة بالكره والتذمر، قبل أن تتجه ببطء نحو الثلاجة وتفتحها بعنف. أخرجت بعض بقايا الطعام وألقته أمامه قائلة بلهجة قاسية:
"كل أحسن تموت وتجبلي مصيبة. مش ناقصة زين وقرفه على المساء. يلا خلّص أكل واغسلهم وادخل أوضتك، يلا!"
استجاب آسر لأوامرها دون أن ينبس بكلمة، كانت كلماته تذوب تحت ثقل جوعه. جلس على الطاولة وبدأ يتناول الطعام بشراسة، وكأن معدته قد نسيت طعم الطعام لزمن طويل. بعد انتهائه، قام بتنظيف الأطباق بدقةٍ كما أمرته، ثم عاد إلى غرفته كأنه كان يهرب من العالم.
بخطواتٍ هادئة، دخل غرفته وفتح درج مكتبه بهدوء، وأخرج صورة والديه. ضمها إلى صدره بشوقٍ لا يمكن وصفه، وكأنه يستمد منها القوة والحنين في آنٍ واحد. قبل الصورة برفق، كما لو كان يحيي ذكرى لن تموت داخله، ثم وضعها جانبًا.
أخذ حقيبته المدرسية وأخرج كراسات الواجب، جلس لينهى فروضه بهدوء وتركيز، غير راغب في ترك أي شيء معلق. بعد إنهاء واجباته، رتب أغراضه بعناية، ثم توجه نحو خزانته وأخرج مذكرة أمه.
جلس على فراشه، ينظر إلى الغروب من نافذته، كانت الشمس تختفي ببطء وراء الأفق، مما زاد المشهد جمالًا هادئًا. اتكأ بذراعيه على النافذة، مستمتعًا بتلك اللحظات القصيرة من السكينة، وهو يضم مذكرة بين يديه.
بعد فترة قصيرة، اعتدل على فراشه وفتح المذكرة ببطء، متأملًا كل صفحة كأنها تحمل بين طياتها سرًا دفينًا. قلب عدة صفحات حتى وصل إلى آخر ما قرأ.
قلب الصفحة ببطء، ليقرأ الكلمات المكتوبة بعناية:
"دي قصة أحلى والوردات 12 وردة من محافظات مختلفة. هتعيش معاهم حياة جميلة، زي، ما هما في نفس سني. هعرفك بيهم واحدة واحدة، يلا نبدأ."
قلب الصفحة التالية، ولم يجد سوى كلمة واحدة تحتل منتصف الصفحة:
"سيناوي."
توقف عند الاسم، مشوشًا ومستغربًا، لكنه تابع القراءة، محاولًا أن يفهم سر هذا الاسم الغريب.
.....................
في صحراء سيناء، تحت شمسها الحارقة توجد ورده امتنع عنها الماء، كادت أن تدوب فقد ابتعد راويها عنها، وتركها بمفردها هنا تجلس وحيده شارده، عينها تلمع في الشمس بلونها الجذاب كعيون جدها، وشعرها البني الحرير ووجها الصافي، فكانت عروس سيناء الجميلة، كل من رآها يعشقها ويعشق سمارها،
تجلس منتظره جدها، في لا تمتلك غيره، بعد وفاة والدها وأمها على يد الارهابين.
تمسك عصا في يدها وتلقب بها الرمال،اقترب منها عمها سليمان
وجلس بجانبها و يضع يده على شعرها، خاطبها بنبرة يملؤها الحنان:
"مالك يا بنتي قاعده لحالك ليه"
ياسمين، عند سماعها لأخبار سفر جدها، شعرت بمرارة قاسية تغمر قلبها كالشوكة:
"ما فيش يا عمي، مستنيه جدي".
نطقت بالكلمات بصوت خافت يملؤه الخيبة، وكانت عيناها تتأمل الأفق بترقب جامد.
استمدت ياسمين عزيمتها من فكرة عودته، رغم معرفتها أنه قد يكون تأخر، فكانها تُلقي بكل قلقها على أمل عودته القريب.
بصوت هادئ، مفعم بحكمة الأب الذي لم يعُد يملك قدرة التدخل في أقدار الآخرين، قال العم سليمان:
"ما انتي عرفه، هو سافر مع الشيخ عبدالله، والشيخ صالح القاهرة، علشان التكريم حفظة كتاب الله".
كانت نبرته مشبعة بالواقع، محملة بمسؤولية وحرص، وهو ينظر إلى ياسمين بتعاطف خفي، كمن يحاول أن يخفف من وقع الكلمات على قلبها المتألم.
"عرفه يا عمي، وهو قالي قبل ما يسافر".
أجابت بصوت يكاد يكون همساً، ممتلئاً بالاستياء الخفي من صمتها الطويل.
كان الألم في عينيها يتجلى، وقد جمدت على أمل خائب بأن يبقى لها جزء من الوجود الذي كانت تظن أنه في متناول يدها.
"طيب قومي من الشمس دي، صعبه عليكي، لو عوزه تقعدي، روحي تحت الخيمه هناك مع بنت عمك وبنت الشيخ صلاح".
قالها العم سليمان وهو يوجهها بنبرة مزيج من الرأفة والأمر، يدرك تماماً كيف يمكن أن تؤثر حرارة الشمس على راحتها. إلا أن نبرة صوته كانت مشوبة بالقلق الذي لم يُفصح عنه، لكونه يعلم جيداً معنى الانتظار الطويل في مثل هذه الظروف.
"لاء مش عوزة، عوزه افضل لحالي هنا، روح انتا وما تقلش عليا انا كويسه".
ردت ياسمين بصوت يعبق بالإصرار والحزن. كان قلبها يفيض بالاستقلالية التي تبحث عنها، ورغبتها في الانعزال تعكس ألمه الداخلي من الافتقار إلى الأمان والاحتواء. عيناها اللامعتان كانت تعبران عن رغبتها في أن تُركَ وحيدة، تعيش صراعها بعيداً عن العيون المتطفلة.
"على راحتك يا بنت اخويا، بس لما جدك يرجع، ليا كلام معاه"
قال العم سليمان بصوت هادئ لكن محمل بالجدية.
كان تعبيره يُظهر قلقه العميق حول حالة ياسمين، ولكنه أيضاً يعكس التزامه بالاحترام الموروث، مما يجعل صوته ينم عن حكمة وتجربة، وكان يرى فيها تلك الفتاة الصغيرة التي تحتاج إلى دعم لا ينقطع.
تركها العم سليمان ومشى بعيداً، بينما جلست ياسمين بمفردها تحت أشعة الشمس الحارقة، تجلس في صمت مضطرب. "ماشي يا جدي بقا تسبني هنا، لحالى كدا، طيب لما ترجع، انى مش هتكلم وياك تاني."
كان حديثها إلى نفسها مفعماً بالمرارة والقرار الصارم، تعبر عن مشاعر الخيبة والاستياء من وضعها الحالي.
أعادت النظر إليهم عدة مرات، عيناها تتنقلان بين المشهد الذي يمر أمامها وضحك ابن عمها، الذي كان يصل صوته بوضوح إلى مسامعها رغم المسافة.
.. كسرت العصا نصفين ووقفت بضيق، وانطلقت إليهم وعيناها لم ترى غير ضحته وهو واقف مع تلك القصيرة...، مشهد الضحك الذي لم تستطع تحمله أشعل فيها نار الغضب، فكانت خطواتها مليئة بالعناد والانزعاج.
عندما اقتربت ياسمين، تحول وجه أنس من الضحك إلى تجاعيد القلق، وبدت عليه ملامح الاستفهام والضيق. "خير يا ياسمين عوزه اي".
قالها بنبرة متجهمة ومثقلة، كمن يتوقع توجيه اتهام له، بينما كان يعاني من الانزعاج الذي يظهره الوضع الحالي.
"انتا واقف بتضحك كدا ليه معاها".
صرخت ياسمين بنبرة ممزوجة بالغيرة والاستفهام. كان غضبها يتصاعد كبركان خامد، بينما تراقب تصرفات أنس التي لا تتوافق مع مشاعرها المتأججة، مما جعل صوتها ينفجر بالتساؤل الذي يخترق صمتها.
"أنا واقف مع اختي، اي مش شيفاها، والا شيفه بس رغد".
كان رد أنس حافلاً بالتبرير، لكنه لم يخفِ القلق الذي بدأ يظهر على وجهه. كان يحاول أن يهدئ من نفسه بينما يواجه غضب ياسمين، وكأنه يضع جداراً بينه وبين عاصفة المشاعر التي اجتاحت اللقاء.
"بس انتا بتضحك مع دي، مش اختك، وبعدين انتا".
قالتها ياسمين بحدة، وكأن كلماتها كانت سكاكين تنغرز في قلب أنس. كانت تريد أن تفهم، بل أن تصرخ في وجهه بكل الألغاز التي تملأ رأسها، في محاولة يائسة لكسر الصمت الذي يشكل بينها وبين الحقيقة.
بضيق ملحوظ، أجاب أنس: "وانتي مالك، اضحك اعيط انتي عاوزه اي، مش كل لما تشوفيني تيحي تجري عليا، وتفضلي تحققي معايا، انتي اختي بلاش اشيلك من مكانتك دي، علشان ما عنديش غيرها ليكي، تمام يلا روحي العبي يا صغير".
كان صوته مشوباً بالاستفزاز والاستياء، وكأنه يحاول دفعها بعيداً عن دائرة تأثيره.
بينما كان أنس يغادر غاضباً، بدأت سميحة ورغد يتفحصان ياسمين من بعيد، وضحكهما الصاخب يملأ الفضاء.
"دارت سميحة حول ياسمين وهي توكزها في ذراعها، وتتكلم بنبرة متأخرة بسخرية، قالت سميحة:
"يا حرام كل يوم من دا". ضحكت بصوت مرتفع وهي تضرب يدها في يد رغد، مما جعل مشاعر ياسمين تتصاعد إلى قمة الانهيار.
"انتي مش بتحرمي كل يوم يهينك، وبيفهمك انك اخته، اكيد مش زي، بس اخته محرمه عليه بس، وبس انتي بقا بتحلمي باكتر من كدا، وكل دا مافيش منه فيده، علشان مش هيتجوزك يا ياسمين ريحي نفسك، ولو حصل هيكون شفقه".
قالت سميحة بصوت متعجرف، في حين كانت ضحكتها وصوتها الساخر يضيفان جرحاً آخر إلى قلب ياسمين، ويجعلانها تعيش خيبة أمل مريرة.
"ابعدي عن أنس علشان هو ليا أنا، وقريب أوي، هنتجوز، يعني ما لكيش مكان وصتنا، يلا يا سميحة، المكان دا بقا كاتم على نفسي".
قالت رغد بنبرة مليئة بالفخر والتمرد، وكأنها تخبر ياسمين بمكانتها الجديدة وتضع حداً للتحديات التي تواجهها.
"يلا حبيتي، باي ياسمين". أضافت سميحة، وقد أصبحت نبرتها تحمل توديعاً باردًا، وكأنها تحاول دفع ياسمين بعيداً عن مشهدها المزعج، وتركها في حالة من الانهيار العاطفي.
جلست ياسمين على الأرض تحت الخيمة، تبكي بحرقة، بينما اقتربت منها جدتها زينب بحنان عميق.
"مالك يا بنت مختار، حالك مش عجبني، فيكي اي".
سألت زينب بصوت ملئه القلق والاحتواء، وكانها تبحث عن سبب لتلك الدموع التي تذرف دون توقف.
"مافيش يا جدتي انا كويسة، بس جدي وحشتيني، وكنت عوزاه يرجع".
أجابت ياسمين بصوت مهزوز، تعكس كلماتها إحساسًا بالافتقاد والوحشة، وهي تحاول أن تُخفى أوجاعها في محاولة للتماسك.
"سميحة ورغد عملولك حاجه" سألت الجدة زينب بقلق متزايد، وكأنها تبحث عن أسباب مباشرة لحالة ياسمين، عسى أن تجد شيئاً يعيد لها هدوءها.
"لاء".
أجابت ياسمين بشدة، محاولة كبت مشاعرها حتى لا تكشف عن المزيد من أوجاعها.
"أمال مالك".
سألت زينب، وقد اتسعت عيناها بشعور من الإشفاق والاهتمام، حيث كانت تحاول أن تستفسر بعمق عن السبب الحقيقي لتلك الحالة.
"قولت ما فيش"
ردت ياسمين محبطة، وهي تحاول أن تبعد عن نفسها أي مشكلة إضافية.
"طب تعالي معايا يلا، نروح نصلي، ونقرأ قرآن لحد لما جدتك يرجع".
اقترحت زينب، وقد بدا في صوتها قدر كبير من الحنان والعطاء، وكأنها تحاول تقديم طوق نجاة لياسمين، لإخراجها من أزمتها النفسية.
قامت ياسمين مع جدتها ودخلوا المنزل، بعيداً عن الخيمة التي كانت تشعر فيها بالقلق. أمضت الليل مع جدتها، مستهدفةً الراحة التي لم تجدها في غيرها.
وفي صباح اليوم التالي، كانت تنتظر بقلق وصول جدها، الذي لم يصل بعد.
حين عاد الجد حسان إلى الخيمة، اكتشف ياسمين نائمة، فطلب من أنس الخروج بهدوء وجلس بجوارها. عند استيقاظ ياسمين من لمسته، احتضنته قائلة:
"جدي وحشتيني".
وقد امتلأ صوتها بالحنين والحب، محاولةً التمسك بشعور الأمان الذي كان يشع منها.
"إنتي كمان يا سيناوي".
قالها الجد بحنان، ولكن عندما نطق الاسم الغريب، استفسرت ياسمين باندهاش:
"اي الاسم دا ياجدي".
كان اهتمامها بالحقيقة العائلية يظهر من خلال عينيها المتسائلتين.
"دا اسمك، اختارته ليكي اختك، ولا اقول توئمك وشبهك".
قال الجد حسان بلهجة مليئة بالحب والحنان، كاشفًا عن تفاصيل كانت خافية على ياسمين.
تأثرت ياسمين بشدة، وكانت الدهشة والارتباك يسيطران على ملامح وجهها، حتى انفجرت بصراخ مليء بالصدمة: "بابا كان متجوزه!".
فجاء صرخها كصرخة استنكار من عمق المشاعر المخبأة.
ضحك الجد حسان بصوت عميق ومريح، بينما سحبها بلطف لتجلس بجانبه بعد وقوفها المفاجئ. بدأ يتحدث بهدوء، كما لو كان يخفف من وقع الصدمة، قائلاً:
"اقعدي بس وأنا هقولك". عينيه مليئتان بالود، وهو يهدئ من روعها ويستعد لقص القصة التي ستعيد لها توازنها النفسي.
قص عليها كل شيء بوضوح، بدءًا من خروجه من سيناء، مرورًا بما حدث في الطريق، والتكريم الذي ناله، ومقابلته بأختها كما دعا واتفاقه معها.
"دا كل اللي حصل، وهي اللي اختار الاسم دا ليكي".
أنهى حديثه بطمأنينة، مؤكدًا أن كل شيء كان بتوجيه من الأخت.
"وهي هيكون اسمها إي بقا؟". سألت ياسمين بفضول، وقد امتلأت عيناها بالأمل والحماس.
"دقهليه"، أكمل الجد حسان بتأكيد محبب.
"يعني أنا هشوفها يوم المسابقة".
قالت ياسمين بحماسة شديدة، كأنها تستعد للقاء يشبع جوعها العاطفي ويعوض فقدانها.
"أيوه، دا لو ختمت القرآن، أنا وصيت عليها الشيخ إنه يهتم بيها، ويساعدها ولو نفذت الوعد وختمت، يجبها المسابقة بأي طريقة، أصل قال إن أبوها صعب إنه يوافق إنها تسافر".
قال الجد بحماس، مشيرًا إلى أهمية الوفاء بالوعد، وكأن هذا الوعاء من الأمل هو بمثابة مفاتيح الأمل التي تفتح أمام ياسمين أبواب المستقبل.
"أنا هدعي كل يوم ربنا، إنها تنفذ وعدها وأبوها يوافق".
قالت سيناوي بعزم وإصرار، وكأن دعاءها هو السلاح الذي ستواجه به العقبات.
"وانتي بقا حصل اي معاكي". انتقل الجد حسان إلى موضوع آخر، محاولًا فهم حالة سيناوي.
"أنا". بدأت سيناوي بتردد، ثم قررت أن تفتح قلبها.
"أيوه انتي، عمك قالي وأنا داخل وكمان أنس".
قال الجد حسان بلهجة مليئة بالقلق، محاولًا أن يخفف من وطأة الحديث.
انزلت سيناوي رأسها بحزن عميق، فتقدم الجد حسان ليرفع رأسها برفق، قائلاً بنبرة حنونة:
"مالك يا قلب جدك، بتبكي ليه؟"
"أصل يا جدي اللى حصل". بدأت سيناوي في سرد ما جرى بتفاصيله، وكأنها تفرغ كل همومها وآلامها، تحدثت عن مشاعرها بصدق وعفوية، فقد كان الجد حسان ليس مجرد جد، بل صديقها قبل أن يكون ولي أمرها.
نصحها الجد حسان بابتعادها عن أنس وأخته سميحه ورغد، وأكد على أهمية الاهتمام بدروسها، حيث الامتحانات بعد أسبوعين.
وافقت سيناوي على الفور، وقد غمرتها السعادة كأنها تجد طريقًا للخلاص من مشكلاتها، وتحمل في قلبها الأمل في الغد الأفضل.
مر الوقت بسرعة، وها هي سيناوي تنتهي من آخر امتحاناتها، شعور بالإنجاز يملأ قلبها.
دخلت الخيمة وهي تنادي بصوت عالٍ، محملة بالأمل في سماع صوت جدها الحبيب.
"جدي! جدي!".
ارتفعت نبرات صوتها بفرح وهي تبحث عن وجهه بين الحضور. وقفت فجأة، عيناها تتسلقان الوجوه حتى استقرت على أنس، الذي كان جالسًا بجانب جدها. لم يكن قد ظهر منذ آخر مرة، عندما كانت تحاول تجنبه، ولم يسأل عنها بدوره.
لاحظ الجد حسان نظرة سيناوي، فأعطاها إشارة واضحة:
"تعالى يا سيناوي".
توجه أنس نحو الجد، قائلاً باستغراب:
"أي يا جدي؟"
الجد حسان بهدوء:
"في أي يا ولدي، بنادي عليها".
أنس مندهش:
"بس أنت قلت سيناوي".
الجد حسان اجابه مؤكدا:
"أيوه، دا اسمها الجديد. أختها اختارته ليها، وأنا وافقت عليه". أنهى كلامه وهو يمسك بيد سيناوي، بلمسة دافئة، ويقول: "تعالى حبيبتي".
جلست سيناوي بجوار جدها، عيناها تتفحص أنس، وقالت بضيق:
"أنت بس يا جدي اللي من حقك تقولي كدا، مش حد تاني، حتى لو أخويا".
"كويس لأنه مش عجبني، بعد إذنك يا جدي".
قالها أنس بحنق، مستديرًا ليفتح مسافة بينه وبين سيناوي.
رد الجد حسان بهدوء:
"مع السلامة يا ولدي".
ثم نظر إلى سيناوي بجدية: "تعالي هنا، ليه قلتي كدا، لابن عمك يا بنتي عيب".
"أي يا جدي، إحنا هنفضل نتكلم عنه طول اليوم؟"
ردت، وهي تحاول تغيير مجرى الحديث، مشيرة إلى أنها تريد التركيز على شيء آخر.
"لا، عملتي إيه؟"
سأل الشيخ حسان بفضول، محاولًا معرفة تفاصيل يومها.
سردت سيناوي لجدها كل ما حدث خلال اليوم، ومرت اللحظات بين الضحك واللعب، حيث انضمت إليهم الجدّة زينب، مضيفةً لمسة من الحنان والعطاء. أسرت لحظات السعادة قلب سيناوي، وقد جعلتها هذه اللحظات تشعر بالانتماء والراحة وسط عائلتها المحبة.
مرّت الأيام بسرعة بينما كانت سيناوي منشغلة بالتحضير للمسابقة، وهي تتجنب أنس وتغمر نفسها في المذاكرة والدعاء. كان قلبها يخفق بانتظار اليوم الكبير، اليوم الذي حلمت به طوال الشهور الماضية. كان اليوم الذي ستتأكد فيه من قدرتها على الوفاء بوعدها وإثبات نفسها.
في صباح يوم المسابقة، كانت سيناوي قد استعدت مبكرًا، مفعمة بالحماس والتوتر.
نظرها كان يتنقل بين حقيبتها المجهزة بعناية وبين وجه جدها، الذي بدا متحمسًا ومساندًا.
هما الاثنان كانا يعلمون أن الرحلة طويلة ومتعبة، حيث سيستغرق الوصول إلى القاهرة عدة ساعات، إلا أن الأمل في الفوز والمنافسة كان يدفعها للمضي قدمًا دون أن تشعر بالتعب.
عندما وصلا إلى القاهرة، استضافهم الشيخ مصطفى في بيته. كانت الليلة هادئة، ولكنها حملت في طياتها مشاعر مختلطة بين القلق والترقب.
نامت سيناوي بصعوبة، حيث لم يكن بمقدورها إيقاف تفكيرها في الغد؛ اليوم الذي سيجمعها بأختها التي لم ترها من قبل.
مع أول إشراقة للشمس في اليوم التالي، قفزت سيناوي من سريرها بحماس شديد، تستنشق الهواء بعمق وكأن اليوم هو بداية جديدة في حياتها. كانت ترتدي ملابسها بسرعة، وسمعت صوت جدها يناديها، فقفزت نحو الباب لتلحق به. ابتسامة سعادة لم تفارق وجهها وهي تمشي بجانب جدها نحو المسجد الذي سيعقد فيه المسابقة. قلبها كان ينبض بالحماسة، ولكن خلف تلك الحماسة كان هناك توتر خفي لا تستطيع تجاهله.
عند وصولهم إلى المسجد، امتلأ المكان بالمتسابقين والحضور. نظرت سيناوي حولها، بحثًا بعينيها عن شخص يشبهها، عن توأمها الذي لطالما حلمت برؤيتها. التفت إليها جدها ولاحظ توترها وقال بلطف: "لسه ما جاتش، الشيخ سيد لسه على وصول".
سيناوي بلهفة:
"هيتأخروا؟"
الجد حسان مطمئنًا:
"لاء، على وصول إن شاء الله. تعالى اقعدي هنا مع زمايلك".
سيناوي بتردد:
"أنا ما أعرفش حد هنا يا جدي".
ابتسم الجد وهو يشير نحو مجموعة من الطلاب:
"دول زمايلك، سلمي عليهم. أنا هروح مع الشيخ مصطفى جوه وساعة وراجع".
سيناوي بحزن طفيف:
"ماشي يا جدي".
شعرت بوحدة مفاجئة تغمر قلبها، وهي تراقب جدها يغادرها لتبقى وحيدة وسط حشد من الغرباء.
بدأت تمرّ اللحظات ببطء شديد، وكلما وصلت حافلة جديدة أمام المسجد، تدور بعينيها باحثة عن وجه تعرفه، عن أختها. لكن مع كل مرة، تشعر بخيبة الأمل، فقد كانت كل تلك الوجوه غريبة عليها. شعرت بأنها محاصرة بين الأمل واليأس، ولم يكن هناك شيء يخفف عنها.
بعد فترة من الانتظار، قررت سيناوي أن تمشي قليلاً لتتخلص من توترها. خطت خطوات بطيئة، متأملة في الأجواء من حولها، إلى أن لفت انتباهها بائع غزل البنات، وهناك فتاتان تشتريان منه. دون أن تدري، اندفعت نحو البائع بسرعة، واصطدمت بإحدى الفتيات دون قصد، مما جعلها تعتذر بخجل.
بمجرد أن أخذت غزل البنات، شعرت بالسعادة تغمرها وكأن شيئًا بسيطًا قد أعاد لها الأمل، ولكن تلك الفرحة لم تدم طويلًا؛ فقد ضاعت بين الزحام ولم تعرف كيف تعود إلى المسجد. بدأت تنظر حولها بتوتر، متمنية أن تجد طريق العودة.
في تلك اللحظة، رأت الفتاتين اللتين اصطدمت بهما في السابق تتجهان نحوها."
شعرت بالاطمئنان. ولا تعرف لماذا؟ فقد ارتاحت لهم.
التقت عيناهما، وكان الشعور بالاندهاش ممزوجًا بالفرح الذي لا يوصف. سعادة سيناوي كانت غامرة، وكأنها قد وجدت جزءًا مفقودًا من روحها.
..................
أنهى آسر قراءة قصة "سيناوي"، لكنه لم يشعر بالرضا الكامل، بل ازداد فضوله. تملكه إحساس بالارتباك وهو ينظر إلى المذكرة بين يديه، فتساءل بصوتٍ خافت: "أين باقي القصة؟ لماذا كتبت أمي نصفها فقط؟ أريد أن أعرف من تكون دقهلية؟ وكيف يمكن أن تكون توأمها؟"
في تلك اللحظة، شعر وكأن المذكرة تحمل أسرارًا أكثر مما كان يتصور. بقلبٍ مفعم بالفضول، بدأ يقلب الصفحات مجددًا، باحثًا عن أي إشارة أخرى. قلب الصفحة التالية، لكنه لم يعثر على شيء، كانت الصفحة فارغة تمامًا. حاول ألا يستسلم للإحباط وواصل تقليب الصفحات بحماس متزايد.
فجأة، رأى كلمة واحدة مكتوبة بخط واضح في منتصف الصفحة التالية: "دقهلية."
ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، وفرح بشدة وكأن تلك الكلمة الصغيرة كانت المفتاح الذي ينتظره. انتابه شعور بأن المغامرة بدأت بالفعل. بدون تردد، قلب الصفحة التالية بشغف ليكتشف ما تخفيه المذكرة عن "دقهلية" وقصتها.
.................
في أحد الأحياء الشعبية، كان هناك بيت كبير يمتزج فيه الصخب بصمت أركانه.
في غرفة مشتركة، تجلس وردة حزينة، الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعاً، وقد أظلمت عينيها بدموعها. تأمل كتابها بوجه شاحب، نالت منه صفحاتها المتجعدة من كثرة الاستخدام. كان الامتحان النهائي للعام الدراسي قد حلّ على أبواب الصباح، وهي في الصف الثالث الإعدادي. تئن من تحت وطأة الوقت الذي يتسرب كالرمل بين أصابعها، يحطم حلمها في أن تصبح طبيبة، حلم يوشك على التلاشي بسبب تهاونها وتأجيلها.
بصوت عالٍ، انفجرت تلك الوردة بالبكاء، دموعها تنهمر على وسادتها، قلقها يشتد كلما تذكرت حجم المذاكرة المتراكمة.
أطلق صوت نحيبها صرخات صامتة عبر أركان البيت، كأنها تدعو المساعدة في زمن ضائع.
دخلت الأم منال، قلقها يظهر في كل حركة من حركاتها، عيونها المتعبة تبحث عن الكلمات التي قد تسهم في تهدئة ابنتها. لقد نصحتها مراراً، لكنها لم تصغِ، ظنت تلك الوردة أن والدتها لا تحبها، بسبب شدة نصائحها وإصرارها. ولكن الآن، بعد أن ضاع الوقت، تغيرت مشاعر منال من الغضب إلى الضعف. حاولت أن تجد الكلمات الصحيحة، لكن محاولاتها كانت دائماً تبوء بالفشل.
جلست الأم بجانب ابنتها، محاولة أن تمنحها دفء حضورها. بلهجة حانية، قالت:
"مالكِ، في أي؟"
أجابت دقهليه بصعوبة، بين شهقاتها ودموعها:
"الوقت خلص مني، وأنا لسه ماخلصتش مذاكرة، وكل اللي ذاكرته نسيته."
تنهدت منال وقالت بحنو:
"طيب قومي صلي ركعتين وادعي ربنا في صلاتك، كدا بخشوع، وإن شاء الله هتفهمي. يلا، وبعدين أنا قولت لك ذاكري، بتقولي أي، أنا بذاكر اهو، أنا بعمل، أنا عارفة أنا بعمل إيه، مش دا كلامك؟"
زاد بكاء دقهليه، دفنت وجهها في فراشها، بينما وضعت الأم يدها على شعرها الأسود الطويل المتموج، وقالت بحزم لطيف:
"يلا قومي استحمي، عشان تفوقي، وتصلي، وتعالي اسرح لك شعرك، وتأكلي لقمة، وبعدين تذاكري ساعتين، وتقومي تنامي، وأنا هصحيكي قبل الفجر بساعة، تصلي وتفضلي تذاكري لحد معاد الامتحان."
أجابت دقهلية بنبرة مكتئبة:
"مش هتلحق."
ردت الأم بصوت مشجع:
"لاء، هتلحقي، استعيني بالله، يلا يا حبيبتي قومي، بلاش تتعبي قلبي معاكي."
لم يتوقف صوت البكاء، وشهقاتها تتعالى. أمسكَت الأم يد ابنتها برفق، قادتْها إلى الحمام، ووجهت إليها نصائحها بصوت حازم:
"يلا خلصي، ومتعيطيش في الحمام، أحسن والله العظيم هادخلك بالمقشة."
أجابت دقهليه بصوت باكٍ:
"حاضر."
ردت الأم بلهجة تهدئ من روعها:
"حاضر، وانتي بتعيطي يا حبيبتي."
ردت دقهلية بحزن.
"حاضر يا ماما، هجيب هدومي."
أجابتها الأم، وهي تذهب لتحضر ملابس لها:
"ادخلي وأنا هجيبلك."
عادت الأم، وهي تنادي على دقهلية، وصوتها مفعم بالقلق:
"يلا يا ياسمين بسرعة، لسه سمعاكي بتعيطي ليه؟"
دقهلية، وهي تخرج من الحمام، ردت بصوت شبه هادئ:
"مش بعيط، خلاص، أنا طالعة."
توجهت الأم لإعداد الطعام لأطفالها، بينما أبنها الأكبر قادم من المدرسة، في الصف الأول الثانوي. بعد لحظات، خرجت دقهلية نحو أمها، تخاطبها بنبرة هادئة:
"أنا خلصت، هروح أصلي."
بعد أن انتهت من الاستحمام، خرجت إلى المطبخ حيث كانت أمها، منال، قد أعدت لها العشاء. وقفت أمام أمها، التي تقدمت إليها وهي تحمل الاطباق، قالت لها بحنان:
"يلا يكون خلصت الأكل؛ تاكلي وأنا بعملك شعرك."
أجابت دقهلية بصوت متعب:
"ماشي."
توجهت دقهلية إلى غرفتها، حيث كانت أخواتها الصغرى يلعبن. نادت على ريهام، أختها الصغيرة، وقالت:
"ريهام، خدي سعاد ونور وريم وخرجي بره، عايزة أصلي."
ردت ريهام، وهي تقفز بمرح:
"حاضر، بس بسرعة، عايزة أكمل لعب."
أجابت ورده بنبرة حازمة:
"يلا، اخرجي بلا لعب، يلا يا أختي، نقصه هي."
اعترضت ريهام بشيء من التذمر:
"إيه، مش خلص امتحانات؟ وبكره هكبر زيك علشان هروح الإعدادي."
قالت دقهلية بصوت جاد:
"انتي مش خلصتي."
ردت ريهام بتحدٍ:
"أيوه، خلصت."
صرخت دقهلية، وهي توجه نداءً إلى والدتها:
"ماما، شوفي بنتك مش عايزة تخرج."
أجابت الأم بصوت صارم:
"ريهام."
"نعم، يا ماما."
الأم، وهي ترفع صوتها أكثر:
"هتخري ولا أجيلك؟"
أجابت ريهام، وهي تتوجه إلى الخارج مع أخواتها:
"هخرج، يلا يا سعاد."
بدأت سعاد بالاعتراض:
"عاوزة ألعب."
فأجابت ريهام، وهي تسحب سعاد بيدها:
"أنتي حرة، لما تتضربي."
ركضت ريهام مع أخواتها إلى الخارج، تاركة دقهلية في هدوء نسبى. ريهام التي كانت تبلغ من العمر اثني عشر عاماً، وسعاد تسع سنوات، ونور سبع سنوات، وريم خمس سنوات.
انتهت من صلاتها. وخرجت كي تتناول طعامها. وعندنا انتهت أمها من تمشيط شعرها، قامت كي تذاكر قليلا.
بعد فتره وجيزه؛ تدخل الأم منال، وتقف بجوارها وهي تخاطبها:
"يلا قومي نامي' والفجر تكملي يلا"
إستمعت لكلام أمها، وقامت كي ترتاح قليلا.
وضعت رأسها على الوسادة وغطت في نوم عميق حتى الفجر.
قامت قبل أمها،بعد أن انتهت دقهلية من صلاتها، خرجت لتناول طعام الإفطار الذي أعدته والدتها، منال. جلست دقهلية على الطاولة، وابتسمت الأم قائلة:
"ذاكرتي كويس؟"
أجابت دقهلية:
"أيوه، يا ماما، خلصت."
ردت منال بتركيز ودعم:
"أيوه، امسكي، كلي براحتك. المدرسة مش بتعدى؛ دا خطوتين، وركزي كويس، واعملي اللي عليكي، وسيبي الباقي على ربنا."
قالت دقهلية، وهي تنهض:
"حاضر، أنا خلصت. راحة مع السلامة."
ردت منال، وهي تودع ابنتها:
"في رعاية الله، يا بنتي. ربنا ينجحك أنتِ وكل مسلم، يا رب."
مرت ساعات قليلة، وعادت دقهلية إلى البيت، مغمورة بفرحها، وقد تأكدت من نجاحها. رحبت الأم بفرحها، وقالت لها:
"يلا، غيري، وقعدي ذاكري. لسه عندك كم امتحان."
أجابت دقهلية:
"بعد بكره جبر وإنجليزي، وآخر يوم دراسات ودين."
قالت الأم منال، وهي تجهز نفسها للقيام:
"يلا، روحي ذاكري."
أجابت دقهلية:
"لا، أنا هروح المكتب الأول، أسمع، وبعدين أجي أذاكر."
قالت منال، بتفهم:
"ماشي."
دخلت دقهلية إلى غرفتها لتغير ملابسها، وأخذت مصحفها، متجهة إلى الكتاب لحفظ كتاب الله. بعد فترة قصيرة، دخلت إلى المكتب، وقفت في دورها لتسمع للشيخ، وكان هناك الكثير أمامها. جلست على الأرض، تراجع ما حفظته، تسارع الزمن، وهي تتمنى أن يأتي دورها بسرعة.
تجولت بذاكرتها في الأيام القليلة الماضية، وتذكرت كيف تغيرت حياتها بفضل هذا الشيخ الجليل. كل شيء بدا مختلفاً الآن، فقد جاء الوقت الذي ستضع فيه لمسات جديدة على مستقبلك.
...................
كان الصياح يملأ الأجواء في البيت، وصرخات ياسمين تتعالى في كل أرجاء المنزل، متسربة من داخل غرفتها. منال، الأم، تتقدّم نحوها، مشبوبة بالغضب، ويدها ترتفع لتصفع وجه ابنتها بقوة، مما جعلها تقع على الأرض. كانت منال تلتقط شعر ياسمين وتضغط بقبضتها، متفجرة بالحنق:
"إيه، إيه، أنتي مفكرة نفسك كبرتي عليا ولا إيه؟ شوية العيال اللي ماشية معاهم دول، وحيات اللي جابوك، لو لمحتك بتكلميهم تاني لأموتك. سمعه؟"
استجابت ياسمين، بينما دموعها تتساقط بحرقة، بصوت متردد:
"هما مش وحشين، وهكلمهم."
أضافت منال بغلظة، وهي تشد شعر ابنتها:
"أنتي بتردي عليا يا كلبة؟ وطيب خذي بقى."
أجابت ياسمين، وهي تتألم:
"آه، آه، حرام عليكي. إنتي بتكرهيني كدا ليه؟ آه، علشان مش بتحبي العلية، وأنا شبهة كرهتيني. أنا عارفة إنك عمرك ما حبّيتيني."
ابتعدت منال عن ابنتها، والصدمة تعلو وجهها. ثم نطقت بحزن، تنفث ما في صدرها:
"أنا، يا ياسمين، بكرهك؟ ليه؟ عملتلك إيه علشان تفكري كدا؟ علشان خايفة عليكي، وعوزاكي تكوني ناجحة. أبقى بكرهك؟ وهما اللي بيحبّوك، مش كدا؟ وعايزينك تتجوزي بدري بدري زي عيالهم، وأنا عايزاكي تكوني دكتورة، بلاش، يا ستي، مدرسة. أي حاجة، المهم تتعلمي. الجهل وحش. أنا قدامك، ما حدش علمي. نفسي اتعلم. قولت يا بت، تعالى على نفسك، واقفي في ظهر عيالك دول اللي ليكي. هما حيقوا اللي انتي ما عرفتيش تعمليه، ولا حد رضي يعملولك دا جزاتي. عايزاكي تكوني نظيفة، تتجوزي جوازة نظيفة. شوفيني، وشوفي خالتك. شوفي الفرق. شوفي أبوكي بيعمل إيه فيا وفيكم، وشوفي أزواجهم بيعملوا إيه. العلام هما اتعلموا، أقل وحدة فيهم مش محتاجة جوزها يصرف عليها، بتشتغل وبتصرف على نفسها. وهوا اللي بيحتاجها. عايزاكم تكونوا أحسن منهم كمان. وإنتي عايزة ترمي نفسك في الأرض، ماشية مع شوية ناس، مش بتفكر غير في الجواز والحب والهيافة. وهتعملي إيه في الامتحان اللي بعد أسبوعين دا؟ وهتعملي إيه، وإنتي مش بتفتحي كتاب؟ وتقولين بضربك ليه؟ دا هكسر عضمك، ويلا على المكتب، ما تقعديش في الدار، يلا."
صرخت ياسمين، وهي تمسح دموعها:
"مش رايحة، مش عايزة أروح، أنا كبرت. هروح أعمل إيه؟ هقرأ من هنا، في البيت، مش راح مكان، هيه."
صرخت منال، وهي تتوعدها:
"يامين بالله إن ما خرجتي دلوقتي وروحتي، لأقوم أخلص عليكي النهاردة. أصل إنتي قليلة الأدب، وعايزة تتربي من أول وجديد."
دخلت ياسمين إلى المطبخ، وهي تبرطم بكلمات غاضبة، صاحت الأم منال:
"إنتي بتعملي إيه عندك جوة؟"
أجابت ياسمين، وهي ترتب الأكل:
"هاكل، إيه، ما كلتش كمان."
ردت منال، وهي تتصاعد غضباً:
"اطفحي ويلا غوري."
أخرجت ياسمين الزيت ووضعته على النار، غير منتبهة أن الزيت أوقعته على يدها، فصرخت بقوة. ركضت منال إليها، ممسكةً بيدها المصابة، ووضعتها في الماء المثلج، ثم اصطحبتها إلى الوحدة الصحية.
كان الحرق من الدرجة الأولى، وسوف يلتئم قريباً مع العلاج المناسب.
عادت منال إلى المنزل، وأعطت ياسمين المصحف، قائلة:
"يلا على المكتب."
أخذت ياسمين المصحف، وسارت بصمت، كانت تمشي قليلاً وتوقف كثيراً حتى وصلت متأخرة جداً. كان الجميع قد انتهى من التسميع ويجلسون حول الشيخ، وكان هناك عدد كبير من المشايخ أيضاً.
كان شكلهم وملابسهم غريبين عليها، وشعرت بالقلق من مواجهة هذا العدد الكبير.
وقفت ياسمين بعيداً في زاوية الغرفة، منتظرةً إشارات الشيخ. بعد لحظات، أشار لها الشيخ بالوقوف على جانب، وأرسل إليها زميلًا أكبر منها بقليل، فقد كان يفوقها في عدد أجزاء القرآن التي حفظها، وإن كان ليس في السن. وقف زميلها أمامها، مزمجراً ومتجهم الوجه، ونطق بغضب:
"اقعدي علشان أسمعلك، ناقصك أنا أف. أنا ما صدقت أخلص، والله لو غلطي غلطة واحدة، لأقوله إنك مش حافظه. عاوز أروح أكمل الحفلة، يا باي."
أجابت ياسمين، وهي تحاول ضبط أعصابها:
"بقولك إيه، أنا على آخر نقطة. وبعدين والله، هروح أقول للشيخ على كلامك دا، وشوف هو هيعمل فيك إيه قدامهم. طب أنا إيدي اتعورت، وكنت عند الدكتورة علشان كدا تأخرت، إيه بقى حجتك على كلامك دا؟"
رد زميلها بحدة، وهو يضغط على أعصابه:
"اسكتي يا بت، واخلصي سمعي. عارف إن لسانك طويل، يلا قولي."
بدأت ياسمين تتلو ما تحفظه، ولكنها كانت مرتبكة، ولم تكن قد حفظت بشكل كامل. حاولت معه كثيراً رغم تذمره، لكنه كان غير صبور، فقرر أن يتركها ويتوجه نحو الشيخ قائلاً:
"مش حافظه."
كان يجلس بجوار الشيخ شيخ ذو لحية بيضاء وعيون عميقة، جميلة، لا تعرف لونها. نظرت ياسمين إلى الشيخ باهتمام واستغراب، فابتسم لها الشيخ الآخر وأشار إليها برفق. عندما همَّ الشيخ بالخروج، لحقه الشيخ الأكبر وهو يقول:
"بعد إذنك يا شيخنا."
رد الشيخ، وهو يلتفت إلى الشيخ حسان:
"اتفضل يا شيخ حسان."
في تلك الزاويه هادئة تحت ضوء خافت يتراقص على جدرانها القديمة،
جلس الشيخ حسان بوجهه المتجعد الذي يحمل سنينًا من الحكمة والتجارب، إلى جوار الشيخ سيد. كانت ياسمين واقفة بجوارهم، عينها على الأرض، وقد أطبق الصمت على شفتيها. كانت تحاول أن تخفي توترها، لكن اهتزاز أطرافها الخفيف كان يفضح ما بداخلها.
الشيخ بحركة بطيئة ووقار، نظر إلى الشيخ حسان وقال بصوت منخفض يحمل في طياته احترامًا عميقًا:
"تفضل يا شيخ حسان."
ابتسم الشيخ حسان بهدوء، ابتسامة كانت تحمل مزيجًا من الحنان والاحترام، وقال بصوت هادئ ولكنه مليء بالقوة: "غصب عني سمعت حديثك مع هذا الفتى. جلوسي جوراكم كان بيخليني أسمع كل كلمة، وتسمح لي بأن أتكلم معاها قليلاً؟"
تردد الشيخ لثوانٍ، ثم أومأ برأسه وقال بإيجاز:
"تفضل."
لكن الشيخ حسان، بشفتيه المتحركتين بخفة، أضاف: "يستحسن على انفراد."
مرة أخرى، أومأ الشيخ موافقًا وأشار بيده إلى زاوية الغرفة وقال:
"هنجلس هنا."
نادى الشيخ على الفتى محمد الذي كان واقفًا عند الباب، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الاهتمام والحرص على تنفيذ الأوامر. "محمد، هات كرسي للشيخ حسان."
تحرك محمد على الفور، جلب كرسيًا ووضعه في المكان الذي أشار إليه الشيخ. كل هذا كان يجري أمام عيني ياسمين، التي كانت تراقب كل شيء دون أن تجرؤ على رفع رأسها. كانت تشعر بثقل كبير على كتفيها، وكأن نظراتهم المثقلة بالأسئلة قد زادت من وزن العالم على روحها.
جلس الشيخ حسان بهدوء، ثم طلب كرسيًا آخر لها لتجلس بجواره. محمد أطاع دون تردد، ووضع الكرسي بجانب الشيخ حسان.
نظر الشيخ حسان إلى ياسمين بعينيه اللتين تشعان بحكمة العمر وقال بلطف:
"اقعدي يا بنتي."
رفعت ياسمين رأسها ببطء، وعيناها تلمعان بخوف وقلق، وقالت بصوت خافت:
"عليه."
بابتسامة تشجيع من الشيخ حسان، قال:
"أيوه، يلا اقعدي."
جلست ياسمين بتردد، ويديها ترتجفان قليلاً، وكأنها تخشى أن يقرأ الشيخ حسان أفكارها المبعثرة.
"اسمك إيه بقى؟"
سأل الشيخ حسان بصوت دافئ.
همست ياسمين وهي تحاول أن تخفي ارتباكها:
"ياسمين."
ابتسم الشيخ حسان ابتسامة واسعة، وكأن هذا الاسم قد أضاء شيئًا في قلبه، وقال: "اسمك جميل، تعرفي إن اسمك على اسم حفيدتي؟"
نظرت ياسمين إليه باندهاش، وعيناها اتسعتا قليلاً، وقالت: "بجد؟"
ضحك الشيخ حسان بخفة وأجاب:
"أيوه، وضحك عليكي ليه؟"
احمرّ وجه ياسمين من الحرج، وكأنها شعرت بالخجل من نفسها، وقالت بصوت منخفض: "مش قصدي بس..."
قاطعه الشيخ حسان بلطف: "بس إيه؟"
تنهدت ياسمين ببطء، وكأنها تحمل همًا ثقيلًا على صدرها وقالت:
"أنا مش بحب اسمي أصلاً."
نظرة الشيخ حسان أصبحت أكثر دفئًا، وقال بصوت مفعم بالعاطفة:
"ليه كده بس؟ دا اسم جميل، دا أنا بنفسي اللي مختار الاسم دا لحفيدتي."
أحست ياسمين بأن هذه الكلمات تحمل دفئًا غريبًا يخفف من حدة مشاعرها المتضاربة، وقالت وهي تحاول أن تخفي ابتسامتها:
"يعني زي..."
لم يكمل الشيخ حسان جملته، بل نظر إليها مباشرة وقال بحكمة:
"إزاي بقى؟"
ردت ياسمين بصوت منخفض وكأنها تتحدث إلى نفسها: "علشان جدي هو اللي مسميني."
ضحك الشيخ حسان ضحكة قصيرة وقال بتقدير:
"فعلاً، تبقى زيك. وتعرفي إن في حاجات كمان مشتركة بينكم غير اسمك؟"
نظرت ياسمين إليه بتساؤل، وقالت:
"إيه هي؟"
أخذ الشيخ حسان نفسًا عميقًا وقال بصوت متزن:
"عنادك وعصبيتك. طريقة كلامك مع محمد زميلك من شوية، ونظرتك ليه، فكرتني بيها أوي، كأنها هي اللي واقفة قدامي."
لم تستطع ياسمين أن تخفي ابتسامة صغيرة تسللت إلى شفتيها وقالت بخجل:
"أنا شكلي هحبها أوي."
ابتسم الشيخ حسان بحنان وقال:
"وهي كمان هتفرح أوي إن في حد زيها."
أحست ياسمين في تلك اللحظة أنها قد وجدت شيئًا كانت تفتقده بشدة، شيئًا يشبه الدفء العائلي الذي لطالما حلمت به، وكأن الشيخ حسان قد نجح في بناء جسر من الثقة بينها وبينه، بل بينها وبين نفسها.
نظرت ياسمين إلى الشيخ حسان بنظرة حائرة، وقالت بصوت يحمل خيطًا من التردد: "إنتَ من فين يا شيخ؟ أصل كلامك غريب شوية... وكمان شكلك."
ضحك الشيخ حسان ضحكة قصيرة، مليئة بالود والتسامح، وقال بصوت رزين:
"أنا من سيناء."
تغيرت ملامح ياسمين فجأة، وبدت الابتسامة تلمع على وجهها كأنها وجدت شيئًا مألوفًا بين غموض الكلمات، وقالت بحماس:
"بجد؟"
أومأ الشيخ حسان برأسه بثقة، وقال بنبرة لا تخلو من الدفء: "أيوه، مالك وقفتي ليه كده؟ وإيه سر الفرحة دي؟"
شعرت ياسمين بتدفق مفاجئ من المشاعر داخلها، ذكريات قديمة ربما أو أحلام كانت قد دفنتها في قلبها الصغير. قالت بصوت مليء بالفضول:
"يعني بتشوف الضباط على طول، مش كده؟"
ابتسم الشيخ حسان بحزن خفيف، وقال ببطء:
"أيوه، وابني مختار... أبو ياسمين، كان متطوع في الجيش."
سكت الشيخ للحظة، كأنه يستجمع قواه ليتابع، بينما عينا ياسمين امتلأتا بتساؤلات لا تنتهي. استجمعت شجاعتها وسألته بحذر:
"قصدك إيه بـ كان؟"
تنهد الشيخ حسان بصوت عميق، شعرت معه ياسمين بأن ثقلًا كبيرًا قد انزاح عن صدره. قال بنبرة ثقيلة تعكس عمق الحزن في قلبه:
"اقعدي الأول."
ترددت ياسمين لوهلة، ثم جلست بهدوء، وقد تملكتها مشاعر مختلطة بين الترقب والخوف مما سيقوله. تابع الشيخ حسان بنبرة تحمل مزيجًا من الحزن والفخر:
"ابني استشهد وهو في الخدمة. الإرهابيين هجموا على الكمين، وماتوا كلهم من سنتين. وياريت كده وبس، لأ، في ناس كتير من أهالي سيناء ماتوا بسبب الهجوم، ومنهم سعاد، مرات ولدي مختار، ماتت بعديه بأسبوع."
وضعت ياسمين يدها على قلبها، وهي تهمس بحزن:
"الله يرحمهم. يعني هي دلوقتي يتيمة."
ارتسمت على وجه الشيخ حسان نظرة حازمة، وكأن كلمتها أيقظت فيه إحساس المسؤولية العميقة تجاه حفيدته. قال بلهجة قاطعة: "يتيمة وأنا موجود؟ كيف؟ أنا أبوها وأمها والدنيا كلها."
أحست ياسمين بالخجل، وكأنها قد تسببت دون قصد في جرح مشاعره. قالت وهي تحاول إصلاح ما بدر منها:
"مش قصدي، آسفة... ربنا يخليك ليها."
تبدلت ملامح الشيخ حسان إلى مزيج من الحنان والدفء، وقال بلطف:
"عندك كام سنة يا بنتي؟"
ردت ياسمين بصوت خافت: "15 سنة."
ظهرت على وجه الشيخ حسان ابتسامة مفاجئة، وكان يحاول كتم ضحكة غير متوقعة، وقال ممازحًا:
"إنتِ بتضحكي على إيه؟"
تلعثمت ياسمين وهي تحاول أن تفهم سبب ضحكته وقالت: "قصدك يعني علشان جسمي مليان وسني صغير؟"
هز الشيخ حسان رأسه نافيًا، وقال وهو يبتسم:
"لأ يا بنتي."
لم تستطع ياسمين كتمان فضولها أكثر، فسألته بصوت مليء بالاستغراب:
"أمال إيه؟"
أجابها الشيخ حسان بهدوء: "علشان هي قدك بالتمام."
فتحت ياسمين عينيها على وسعهما وقالت بذهول:
"بجد؟"
ابتسم الشيخ حسان وأومأ برأسه وقال:
"أيوه، عندها 15 سنة هي كمان."
سألت ياسمين بحماس:
"هي مولودة إمتى؟"
رد الشيخ حسان وهو يتذكر يوم ولادة حفيدته:
"يوم 3/8."
قالت ياسمين بسرعة وكأنها تتحدث مع نفسها:
"آه هي."
لاحظ الشيخ حسان حماسها المتزايد، فمال نحوها وقال بحزم:
"صوتك يا بنتي، المشايخ بيبصوا علينا."
تلعثمت ياسمين وهي تشعر بالإحراج، وقالت بصوت منخفض:
"آسفة، والله آسفة."
أومأ الشيخ حسان برأسه وقال برفق:
"اقعدي."
جلست ياسمين مرة أخرى، لكن الفرحة التي كانت تغمر قلبها لم تتوقف، وقالت وهي تبتسم: "علشان في حاجة كمان مشتركة بينا."
رفع الشيخ حسان حاجبيه متسائلًا وقال:
"وإيه هي بقى؟"
قالت ياسمين بفرح واضح: "يعني أنا وهي توأم... اتولدنا في نفس اليوم."
ابتسم الشيخ حسان بحرارة، وقال مداعبًا:
"يبقى أنا كمان جدك، وهتسمعي كلامي، بس بشرط."
ردت ياسمين بسرعة وبحماس: "موافقة عليه!"
ابتسم الشيخ حسان بمكر وقال: "مش لسه تسمعيه الأول؟"
قالت ياسمين بثقة:
"موافقة عليه من غير ما أسمع."
ضحك الشيخ حسان وقال: "إنتِ في الجزء الكام؟"
أجابت ياسمين بتردد:
"التاني."
ارتسمت على وجه الشيخ حسان ملامح العتاب وقال بلطف:
"ليه كده؟ هزعل منك. هي بقى أشطر منك وختمته كله مرتين."
ردت ياسمين بتحدي:
"أنا هسبقها وهختمه أكتر منها، وأكون أنا الأول."
ابتسم الشيخ حسان بفخر وقال:
"يلا وريني همتك. ودا شرطي إنك تختمي القرآن في أسرع وقت قبل رمضان، علشان هيكون في مسابقة في مصر، وهي هتكون فيها. وأعرفكوا على بعض. قولتي إيه؟"
أومأت ياسمين بحماس، وعيناها تلمعان بالتصميم، وشعرت في تلك اللحظة أنها قد وجدت في الشيخ حسان شيئًا لم تكن تعلم أنها تبحث عنه؛ مرشدًا وروحًا حانية، تقودها نحو طريق أكثر وضوحًا وثقة.
أجابت بحزن وخوف:
"بس رمضان بعد ست شهور،هلحق إزاى"
تحدث الشيخ حسان بنبرة مشجعه مليئة بالحنان والإصرار:
"لاء هتلحقي، انا هقولك ازاي تنظمي وقتك، بس قبل اي حاجه تعالي نحضر الحفله"
سألته باستغراب:
"ايوه دي حفلة اي"
الشيخ حسان رد عليها بحنان:
"دا مولد النبوي الشريف، وكمان في اربع ختموا القرآن،وفي حفله صغيره، كدا ليهم بعد آذان العصر"
سألته بخوف والدموع تملأ عيناها و الحزن مختلط في نبرة صوتها:
"انت هتدخل،مش كدا"
فهم الشيخ حسان مقصدها فقال بحنان وهو يمسك يدها:"
أكيد هدخل،بس وانت معايا،وبعدين بعد الحفلة، عاوز اتكلم معاكي،وتحكي عن اصابة ايدك،وعن حزن اللي في قلبك، والخوف اللي في عينك"
أنزلت رأسها بأسى وحزن وقالت:
"دي حكاية طويلة... اوي"
ابتسم لها بحنان وقال:
"وأنا جاهز اسمعها كلها بعد الحفلة يلا بينا"
يمسك بيدها بأحكام، وهو يدخل الساحه الكبيره مره اخري،جلس في مكانه مره ثانيه،و اجلسها أمامه ابتعد الفتاه قليلا كي تسمح لها بالجلوس،تحت استغراب جميع الطلاب،فكانت تجلس في مقدمة الصف الاول،امام قدمه.
تم توزيع الهدايا،والحلوى على الجميع.وكان لها نصيب أكبر،رأت أختيها الصغيرتان في آخر صف،ذهبت لهم وأخذتهم ومعها في الأمام.ابتسم لها الشيخ وأعطى لكل واحده حصتها من الحلوي والهدايا،
رغم ان الهدايا كانت المتفوقين،لكنه أعطى لها كنوع من التشجيع.
رفع أذان العصر نزلوا للمسجد وبعد انتهاء من الصلاه أقيمت الحفله بداخل المسجد، فكانت جميلة جدا مليئة بذكر الله وأصوات المشايخ الرائعة في التلاوي، تم توزيع الهدايا لهم والفرحة تعم المسجد بأكملة.
في تلك الزاوية البعيدة من المسجد، حيث تجتمع الروحانية والسكون في مكان واحد، كان الشيخ حسان يجلس بهدوء على كرسيه الخشبي المتين، وتحيط به هالة من الهيبة التي تشع من وجهه الهادئ وعينيه الثاقبتين. كانت ياسمين تجلس أمامه، تشعر بمزيج من الفضول والقلق يتصارع داخلها، فهذه المرة الأولى التي تتحدث فيها مع رجل بمثل هذه الخبرة والحكمة. كان شعورها أشبه بمن يقف على حافة عالم مجهول، لا يعرف ماذا ينتظره.
تبادلا الحديث بحرية أكبر، وتنامى بينهما شعور بالراحة والانفتاح. كانت ياسمين تشعر بأنها وجدت شخصاً يمكنها أن تثق به وتفتح له قلبها.
تقدم الشيخ حسان منها، وقدم لها هديه كانت تنظر له
باستغراب.
"دا ايه"
الشيخ حسان بحنان:
"دا مصحف كان لابني مختار، كان معاه وقت الاستشهاد، علشان كدا تلاقي عليه دمه، انا بقرأ فيه، وما فيش معايا أغلى منه، علشان كدا، دا هديتك، هأخدها منك يوم المسابقة، تكوني ختمتي القرآن."
عندما قدم لها الشيخ حسان المصحف، شعرت بأن حياتها قد تغيرت. لقد أصبحت تحمل مسؤولية جديدة وكأنها وُلدت من جديد.
وعدته بصوت مليء بالإصرار: "أوعدك إني أختمه قبل المعاد كمان."
تنفس بعمق ثم أضافت:
"بس المصحف دا هيفضل معايا لحد لما اجيلك بنفسي"
الشيخ حسان باستغراب:
"هتيجي فين"
ياسمين بجديه وعزم:
"سيناء وقتها بس هرده ليك"
الشيخ حسان بحب ونبرة مشجعه:
"وانا هستناكي يا ياسمين"
"بس هتجي بس علشان تجبيه"
تغمض عيناه وتتذكر حلمها ثم تنفست بهدوء وقالت بعزيمه:
"لاء علشان هحقق حلمي، وأكون دكتورة، واشتغل هناك"
نظر إليها الشيخ حسان بعينيه اللتين تملأهما الحكمة، وقال بهدوء:
"وأنا هستناكي يا دكتوره. ودي كمان حاجة مشتركة بينكم"
ثم، وكأنهما جزء من قصة مشتركة، قالت ياسمين بابتسامة:
"قولها إنها هتوحشني، وبتمني اليوم دا يجي بسرعة، ونتقابل."
ابتسم الشيخ حسان وقال برقة:
"السلام وصل، وأنا مستنيكي... سلام يا ياسمين."
ردت عليها بدعابه ومكر:
"دا ليها ولا ليها"
ابتسم لها بهدوء، فنطقت مع ابتسامة جميلة:
"يعني لازم تفرق بينا، مثل نادي عليا ب دقهليه، وانا قهولها يا سيناوي"
ضحك بصوت عال، التفت المشايخ على صوته،فقال لها:
"حلو الاسم دا، أنا هقولها عليه
سلام يا دقهليه"
دقهليه بحزن على فراقة:
"سلام يا شيخنا"
وقفت دقهلية لتغادر، لكن قلبها كان مليئًا بالأمل والتطلع إلى المستقبل. كانت تشعر بأنها ليست وحدها، وأن هناك من ينتظرها، ليس فقط لتحقيق حلمها، ولكن أيضًا لبناء حياة جديدة مليئة بالإنجازات والمحبة.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
مع غروب الشمس، استيقظ آسر من نومه على وقع معدته الخاوية.
شعر بالجوع الشديد، فنهض من فراشه بكسل واتجه إلى الحمام ليغتسل سريعًا. بعدها، توجه نحو المطبخ بحثًا عن شيء يسد به جوعه، لكن عبثًا، لم يجد شيئًا. أحس بخيبة أملٍ وهو يتنقل بنظراته بين الأرفف الفارغة والثلاجة المغلقة، فقرر التوجه إلى جدته، رغم إدراكه لحدة استقبالها.
ما إن دخل غرفتها حتى صاحت بغضب:
"بتعمل إيه عندك؟!"
أجابها بصوتٍ خافت، لكنه يحمل في طياته انكسارًا:
"بدور على حاجة أكلها، جعان."
نظرت إليه نظرة مليئة بالكره والتذمر، قبل أن تتجه ببطء نحو الثلاجة وتفتحها بعنف. أخرجت بعض بقايا الطعام وألقته أمامه قائلة بلهجة قاسية:
"كل أحسن تموت وتجبلي مصيبة. مش ناقصة زين وقرفه على المساء. يلا خلّص أكل واغسلهم وادخل أوضتك، يلا!"
استجاب آسر لأوامرها دون أن ينبس بكلمة، كانت كلماته تذوب تحت ثقل جوعه. جلس على الطاولة وبدأ يتناول الطعام بشراسة، وكأن معدته قد نسيت طعم الطعام لزمن طويل. بعد انتهائه، قام بتنظيف الأطباق بدقةٍ كما أمرته، ثم عاد إلى غرفته كأنه كان يهرب من العالم.
بخطواتٍ هادئة، دخل غرفته ....... [المزيد]
حكاية إيمان: مرت الأيام كأنها تحمل في طياتها أبدية من الانتظار، حتى جاء اليوم الذي طالما انتظرته إيمان ووالدتها. يوم خروج صفية من المستشفى. ولكن مع هذا اليوم جاء معه شعور بالترقب والقلق الغامض الذي لم تستطع إيمان التخلص منه.
عندما دخل الطبيب الغرفة، لم تكن صفية تستطيع إخفاء ابتسامتها المتعبة، رغم الإرهاق الذي بدا واضحًا في عينيها. نظرت إلى الطبيب وسألته بلهفة ممزوجة بالأمل:
"أنا هخرج يا دكتور؟"
ابتسم الطبيب بود قائلاً:
"أيوة، الحمد لله، انتي دلوقتي كويسة. بس لازم تخلي بالك، ولو حصل أي حاجة، ياريت تيجي وأنا في خدمتك."
نظرت صفية إلى الطبيب بعينين شاكرين وهمست:
"تسلم يا دكتور."
إيمان وقفت بجانب أمها، نظراتها ثابتة على الطبيب، كأن شيئًا بداخله يزعجها. لاحظت صفية هذا الضيق في عيني ابنتها وسألتها بقلق:
"مالك يا بنتي؟"
ردت إيمان بضيق واضح وهي تحاول إخفاء مشاعرها:
"مفيش... يلا نمشي من هنا."
لكن صفية لم تترك الأمر، وأصرت على السؤال:
"من أول ما شفتي الدكتور دا، وأنا حاسة إنك مش ضيقاه. هو اسمه إيه؟"
ردت إيمان بتوتر:
"مراد. وفعلاً مش مرتحاله، مش عارفة ليه. وبعدين بعد كدا. مش هجيبك هنا تاني"
ضحكت صفية بخفة، محاولة طمأنة ابنتها:
"يا بنتي، هو مالوش ذنب. شكله محترم. وبعدين هو في ايده ايه و معملوش، دا قضاء ربنا."
ركبت صفية مع ابنتها التوكتوك وعادت إلى البيت. كانت الرحلة هادئة، لكن مشاعر إيمان لم تهدأ بعد، وظلت عيناها تراقبان الطريق، بينما يدها تحكم قبضتها على يد والدتها، كأنها تخشى أن تفلتها.
نزلت صفية من التوكتوك بخطوات متثاقلة، وهي تحاول أن تتكئ على ابنتها إيمان التي كانت تساندها بحنان. نظرت إليها إيمان بعينين مملوءتين بالحب والقلق، وشعرت بثقل المرض الذي يثقل كاهل والدتها.
ىؤكانت الأم قد بدأت تظهر تحسناً طفيفاً في صحتها بعد أشهر من العلاج المكثف، وكان ذلك يخفف قليلاً من آلام إيمان الداخلية، إلا أن الحذر لم يفارقها.
طوال العام كانت صفية تذهب كل أسبوعين إلى الدكتور مراد الذي أصبح يعرف حالتها جيداً، يؤكد لها في كل مرة أن صحتها تتحسن ببطء، لكن بشكل مطرد. مع كل زيارة، كانت إيمان تتعلق بالأمل وتحرص على أن تظل والدتها متفائلة، رغم أن عيني صفية كانتا تكشفان أحياناً عن خيبة أمل خفية وخوف لا يُفصح عنه.
مر العام، وظهرت نتيجة الثانوية العامة أخيراً. يومٌ حافل بالفرحة التي لم ترها صفية منذ سنوات. نجاح ابنتها كان كأنه شعاع أمل ينير حياتها التي غمرها المرض والحزن.
قررت صفية اصطحاب إيمان في جولة لشراء كل ما تحتاجه للجامعة، فرحتها بابنتها تكاد تنسيها آلامها، وشعرت للحظة بأنها استعادت جزءاً من حياتها الضائعة.
ومع تلك الفرحة التي كانت تملأ البيت، ظهر ظل الماضي حين طرقت الجدة باب البيت.
صفية استقبلتها بتوتر خفي، فهي أم زوجها الراحل، لكنها لم تنسَ الجراح القديمة. كانت الجدة عازمة على شيء، ولم تكن زيارتها لتهنئة حفيدتها، بل كانت مغلفة بالمطالب.
"أنا مش جاية أضايف، سبتكوا كل السنين دي زي ما اتفقنا. دلوقتي جايه آخد حق ابني."
نبرة صوت الجدة كانت قاسية، تقطر بالبرود والعتاب.
صرخت إيمان بصوت يحمل مزيجاً من الغضب والحيرة: "بس دي من حقي!"
ردت الجدة بحدة:
"عوضي عن ابني اللي اتحرمت منه بسببكم. الراجل اللي بصرف عليكم ما كنتوش تحلموا بيه."
كانت كلمات الجدة كمطرقة تطرق على جروح الماضي، لكن إيمان لم تسكت.
"إحنا عايشين إزاي وأبويا اللي مات وتعب أمي؟ في اي. انتوا مسْتقطرين علينا نعيش"
الجو في الشقه مثقلًا بالتوتر، وكأن كل جملة كانت تزيد الضغط على الجميع. الجدة، بملامحها الجامدة التي تكاد تكون خالية من أي عاطفة، نظرت ببرود تجاه حفيدتها وهي تلقي كلماتها كالسهام الحادة:
"لا يا أختي، انتوا حرين تعيشوا أو تموتوا، مش مهم. كل اللي عايزاه دلوقتي فلوس ابني. يلا قدامي علشان آخدهم."
صوتها كان حادًا ومليئًا بالعناد، وكأنها جاءت لتأخذ حقها دون نقاش. جلست على مقعد السفرة بثقة مفرطة، وكأنها تنتظر أن تُلبى مطالبها فورًا.
أما صفية، فكانت تحاول التماسك، رغم أن قلبها كان يغلي بالألم والخوف على ابنتها. ردت بصوت هادئ، لكنه يحمل في طياته قرارًا لا رجعة فيه:
"بس أنا كتب، إني مش هقبل الفلوس دي. غير لما بنتي تدخل الكلية."
الجدة التفتت نحوها بحدة، وكأنها لا تفهم ما تقوله صفية، فردت بتوتر واضح:
"ما هي قدمت، إيه تاني؟"
صفية لم تتراجع، بل واصلت بشجاعة:
"لا، قصدي لما تتم 22 سنة. وهي دلوقتي 18."
فجأة، صرخت الجدة، صوتها كان كالبركان الذي ينفجر، واندفعت محاولة ضرب صفية. ولكن قبل أن تصل إليها،تدخلت إيمان، بحركة سريعة ووضعت نفسها بينهما، جسدها يرتجف من التوتر والغضب، لكنها صرخت بحزم:
"إنتِ إزاي تعملي كده؟!"
الجدة كانت تشع غضبًا، وجهها متورد، وعيناها تشتعلان بالكراهية.
بينما صفية حافظت على هدوئها، لكنها كانت تعلم أن المواجهة الحقيقية قد بدأت، وقالت بثبات:
"كنت عارفة إنكوا هتيجوا أول لما تخلص، علشان كده قلت أبعدكم عننا شوية. ودلوقتي أنا بقول الحقيقة. وتقدري تتأكدي منها. ابعتي حد من أحفادك وهو يتأكد من المحامي."
كانت الكلمات ثقيلة كالصخور، والتهديد واضح بين السطور.
إيمان نظرت إلى أمها بفخر، ترى في شجاعتها حائط الصد الذي يحميهما من طمع العائلة. ولكن صفية لم تكن قد انتهت بعد، وأكملت:
"وكمان في شرط، إن لو بنتي جرى لها حاجة، الفلوس تروح دار الأيتام، مش ليكي. يعني الأحسن ليكي ولينا إنكو تبعدوا عن بنتي."
عندما أنهت صفية كلامها، لم يكن هناك مجال للجدال. الجدة وقفت بسرعة وخرجت من المنزل، الباب أغلق خلفها بقوة، وكأن الصدمة التي تركتها خلفها كانت تثقل الهواء.
التفتت إيمان إلى أمها، صوتها مليء بالإعجاب:
"وإنتي ما قلتليش قبل كده ليه؟"
ابتسمت صفية بتعب، وكأن كل ما حدث استنزف طاقتها. وضعت يدها على بطنها بحركة تعكس ألمًا داخليًا:
"ما تشغليش بالك يا حبيبتي. أنا عارفهم أكتر من نفسهم، وعلشان كده عملت كل اللي أقدر عليه علشان أحميكي."
إيمان شعرت بقلق يتسلل إلى قلبها. لاحظت أن أمها تتألم، فسألت بسرعة:
"مالك يا ماما؟"
ردت صفية محاولًا التخفيف من قلق ابنتها:
"أنا كويسة، هاخد العلاج وهكون أحسن."
لكن إيمان لم تقتنع تمامًا، كان هناك شيء ما غير طبيعي في صوت أمها، فسألت بتوجس:
"ليه حاسة إن العلاج ده بيتعبك أكتر؟"
ردت صفية ببطء:
"علشان قوي شوية... وأنا مش بأكل كويس."
شعرت إيمان بالغضب والقلق في آن واحد، فاستدارت قائلة بحزم:
"وده كلام مين؟"
أجابت صفية بهدوء:
"الدكتور لما سألته."
لم تستطع إيمان التحمل أكثر، فتوجهت نحو المطبخ وهي تقول:
"طيب، أنا هروح أعملك حاجة تاكليها."
غادرت إيمان الصاله وهي تحمل في قلبها ثقل المسؤولية والخوف على والدتها، بينما ظلت صفية جالسة، تحاول أن تتنفس بعمق وتجمع شتات نفسها.
دخلت المطبخ بحركات سريعة ومتوترة. كانت لا تزال تشعر بثقل الجو المشحون الذي خلفته جدتها.
قلبها ينبض بسرعة، وأفكارها تزدحم في رأسها. أخذت تبحث في المطبخ عن شيء لتعده لأمها، لكن أفكارها كانت مشوشة. تذكرت كلمات أمها عندما وضعت يدها على بطنها، هل تشعر أمها حقًا بألم أكبر مما تخبرها؟
وقفت إيمان في المطبخ، عيونها مثقلة بالهموم، وهي تحاول أن تخفي قلقها العميق. كانت تعرف أن أمها تمر بأوقات صعبة، لكنها كانت تشعر بالعجز أمام ما يحدث.
رائحة الطعام بدأت تعبق في الجو، ولكن ذهنها كان بعيدًا، يتأمل كل ما حدث بين أمها وجدتها. قلبها كان يصرخ بآلاف الأسئلة التي لم تجد لها إجابة.
في هذه الأثناء، كانت صفية جالسة في الصاله، تنظر إلى سقف المنزل بصمت. عقلها مشغول بما قالته لوالدة زوجها، وكيف أنها عاشت طوال هذه السنوات وهي تحمي ابنتها من أطماع تلك العائلة.
يدها ما زالت على بطنها، تشعر بثقل الألم الذي لم يعد جسديًا فقط، بل امتد ليصبح روحانيًا. كانت تدرك أن المعركة لم تنتهِ بعد، وأن الأيام القادمة قد تحمل معها تحديات أكبر.
تحاول أن تظهر الاسترخاء قليلاً لكن عينيها تتابعان حركة إيمان في المطبخ.
قلبها كان مليئًا بالقلق على ابنتها، لكن في الوقت نفسه، كانت تشعر بالامتنان لوقوف إيمان بجانبها في وجه الجدة. ربما كانت تعلم أن تلك اللحظة كانت ستأتي، لكنها لم تتوقع أن تكون بهذا العنف.
أخذت صفية نفسًا عميقًا وهمست:
"ربنا يحميكِ يا إيمان... ويعطيكِ القوة اللي أنا محتاجاها دلوقتي."
عادت إيمان وهي تحمل صحنًا بسيطًا من الطعام، تضعه أمام أمها بحرص. نظرت إلى وجه أمها الذي بدا شاحبًا أكثر من المعتاد. جلست بجانبها، ورغم أنها حاولت الابتسام لتخفيف التوتر، إلا أن صوتها خرج محملاً بالقلق:
"اتفضلي يا ماما، لازم تأكلي حاجة عشان تاخدي العلاج."
نظرت صفية إلى الطعام ببطء، ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة، محاولًا إخفاء الألم الذي كان يغلي بداخلها.
"تسلم إيدك يا حبيبتي... دايمًا بتعرفي تخليني أحس إن الدنيا لسه فيها أمل."
لكن إيمان لم تشعر بالاطمئنان،كانت تحاول إخفاء قلقها بابتسامة صغيرة، لكنها لم تستطع. نظرت إلى أمها بتمعن، وكأنها ترى شيئًا جديدًا فيها، شيئًا لم تلاحظه من قبل.نظرتها كانت مركزة على وجه أمها، تحاول قراءة ما تخفيه خلف تلك الابتسامة المتعبة. سألت بهدوء:
"هو في حاجة تانية، مش كده؟"
تجمدت صفية للحظة، ثم تنهدت بعمق.
"مش عايزة أحملك هموم زيادة يا بنتي... كفاية اللي انتي شايلاه."
لكن إيمان لم تقبل الصمت، قلبها كان يصرخ بداخلها.
"أنا مش طفلة يا ماما. قوليلي الحقيقة، إيه اللي تعبك؟"
تنهدت صفية مرة أخرى، وعيناها امتلأتا بالحزن.
"الموضوع مش بس في العلاج يا إيمان... الموضوع أكبر من كده. أنا طول عمري بحاول أحميكي من العالم اللي بره، لكن دلوقتي... مش عارفة لو هقدر أعمل كده تاني."
كان الكلام كالصاعقة على إيمان، شعرت وكأن الدنيا تضيق عليها. دموعها بدأت تتجمع في عينيها، ولكنها حاولت السيطرة على نفسها، وهي تقول بصوت مختنق:
"مستحيل يا ماما، أنا مش هسيبك... إنتِ اللي حميتي كل حياتي، إزاي ممكن أنا ما أعملش نفس الشيء ليكي؟"
نظرت صفية إلى ابنتها بحنان عميق، ثم وضعت يدها على يدها بلطف.
"أنتِ أعظم شيء حصل لي في حياتي، وأنا دايمًا هفضل قوية عشانك."
في هذه اللحظة، ساد الصمت بينهما، ولكنه كان صمتًا محملًا بمشاعر عميقة. كانت تلك اللحظة التي تدرك فيها إيمان أن القوة ليست في ما يمكن للمرء أن يتحمله وحده، بل في ما يمكنه مشاركته مع أحبائه.
في اليوم التالي، استيقظت إيمان وهي تشعر بتصميم جديد. قررت أنها لن تسمح لأي شخص، بما في ذلك عائلتها، بأن يعبث بمستقبلها ومستقبل أمها. توجهت إلى المستشفى لترافق والدتها في آخر يوم لها هناك. كان الطبيب ينتظر عند الباب، ويبدو أن هناك حديثًا لا يزال غير منتهٍ بينه وبين صفية.
ألقى الدكتور مراد نظرة خاطفة على إيمان، ثم عاد إلى صفية قائلاً:
"أحب أطمئنك يا مدام، حالتك دلوقتي مستقرة. بس زي ما قلتلك قبل كده، لازم تهتمي بنظامك الغذائي."
هزت صفيةرأسها بهدوء، ثم نظرت إلى ابنتها بابتسامة مطمئنة.
"إن شاء الله يا دكتور، هنعمل كل اللي قولت عليه."
لكن إيمان لم تكن مطمئنة تمامًا. قلبها ما زال يشعر بتوتر غامض تجاه الدكتور مراد، الذي كانت تشعر بعدم الارتياح كلما رأته. وبينما كانت تساعد والدتها على النهوض، همست ببطء:
"هو الدكتور مراد ده... إنتِ بتثقي فيه يا ماما؟"
نظرت إليها صفية بدهشة بسيطة، ثم قالت بلطف:
"هو طبيب شاطر يا بنتي، مافيش حاجة تخليني أشك فيه."
لكن إيمان لم تستطع أن تهز هذا الشعور الذي كان يثقل قلبها، وكأن هناك شيئًا ما مخفيًا، شيئًا غامضًا في سلوك هذا الطبيب.
بعد عودتهما إلى المنزل، بدأت إيمان تشعر بأن هناك تحديًا أكبر ينتظرها. كانت تعلم أن عليها أن تقف بقوة إلى جانب أمها، ليس فقط من أجل العلاج، بل من أجل حماية ما تبقى من حياتهما.
تدخلت صفية البيت بتعبٍ واضح وارهاق بدى عليه أثره في كل حركة. خطواتها كانت ثقيلة، وكأنها تحمل جبلاً على كتفيها. عيناها غارقتان في الظلام والإرهاق، مما جعل
إيمان شعر بقلق عميق فور رؤيتها.
نهضت بسرعة من مكانها وتوجهت نحو أمها.
إيمان، بصوت مملوء بالقلق: "ماما! إيه اللي حصل؟ إنتِ تعبانة قوي..."
صفية، بصوت منهك:
"هاتي لي شوية ميّة، يا بنتي، أنا مش قادرة."
تهرول إيمان بسرعة إلى المطبخ، قلبها ينبض بالقلق والخوف على والدتها. تشعر أن هناك شيئًا ما خطيرًا يتجاوز مجرد التعب. تعود بعد دقائق حاملة كأس الماء وتقدمه لأمها، التي بالكاد تستطيع إمساك الكأس بيدها المرتجفة. تشرب صفية بعض الماء، ولكن التعب ما زال واضحاً على ملامحها، بل تزداد ثقلاً.
إيمان، بعينين تملأهما الحيرة والقلق:
"اتفضلي يا ماما... إيه اللي تعبك كده؟ الدكتور لسه مطمّنني إنك بتتحسني، مع إني مش مطمئنة له ولا لكلامه..."
صفية، بصوت متهالك:
"أنا... مش عارفة يا إيمان. ساعات بحس إني بتتحسن، وساعات بحس التعب مش بيروح. العلاج قوي عليا، وأنا مش عارفة أتحمل أكتر."
إيمان، وهي تجلس بجوار أمها وتمسك بيدها:
"ليه يا ماما؟ ليه حاسة كده؟ الدكتور قال إن العلاج هيجيب نتيجة... بس أنا قلبي مش مطمئن من كلامه، مش مرتاحة لمراد ده، كل مرة يقولي إني مش فاهمة الوضع، وإنتِ بتتعبي أكتر."
رفعت صفية رأسها ببطء، ونظرت إلى عيون ابنتها. كان هناك صمت قصير، لكنها أدركت أن الوقت قد حان لتكون صريحة. مدت يدها ببطء وأخذت بيد إيمان بلطف، ثم قالت بصوت منخفض:
"في حاجات يا بنتي ما ينفعش أقولها علشان ما أخوفكش... بس أنا حاسه إني مش هطول."
توقف الزمن بالنسبة لإيمان في تلك اللحظة. تلك الكلمات دخلت إلى قلبها كالسهم. شعرت برعشة تسري في جسدها، لكن حاولت التماسك. نظرت إلى أمها بعينيها المتسعتين، ثم قالت بصوت مرتعش:
"إيه الكلام دا يا ماما؟ إنتي قوية وهتكوني كويسة."
صفية ابتسمت ابتسامة حزينة: "أنا بعرف جسمي، يا بنتي. اللي بيحصل مش عادي."
إيمان حاولت التحكم في دموعها، لكنها لم تستطع. كانت تلك اللحظة أكبر من أن تتحملها. جلست بجانب أمها، ووضعت رأسها على كتفها، وكأنها تحاول أن تأخذ منها القوة التي تخشى أن تفقدها.
في هذه اللحظة، عاد الصمت ليملأ البيت، لكنه لم يكن صمتًا فارغًا. كان صمتًا مليئًا بالحب والخوف والقلق.
إيمان جلست بجانب أمها، وعيناها مغرورقتان بالدموع التي حاولت جاهدة ألا تنهمر. لم تستطع استيعاب فكرة أن أمها، التي لطالما كانت صخرة تتكئ عليها، بدأت تفكر في ضعفها وربما في النهاية التي تلوح في الأفق. شعرت بثقل كبير في صدرها، كأن الهواء أصبح أثقل على رئتيها.
صفية، من جهة أخرى، كانت تحاول أن تظل قوية من أجل ابنتها. كانت تعلم أن الوقت ليس مناسبًا للخوف، بل للحب والدعم. رفعت يدها بلطف ومسحت على شعر إيمان وقالت بهدوء عميق:
"ما تخافيش يا بنتي، اللي ربنا كاتبه هيكون... أنا عاوزاكي بس تبقي قوية، علشاني وعلشان نفسك. أنا مش هسيبك، حتى لو تعبت، او موت هفضل جنبك بروحي."
كانت الكلمات تخرج منها بثبات، لكنها في أعماقها كانت تعلم أن جسدها يخذلها تدريجيًا. كانت كل كلمة تخرج منها محملة بالمشاعر الثقيلة التي حاولت إخفاءها. لكنها أيضًا كانت تدرك أن إيمان تحتاج لسماع تلك الكلمات الآن، تحتاج للشعور بالأمل والقوة في هذا الوقت العصيب.
إيمان رفعت رأسها، وجهها كان مليئًا بالعزم، رغم الدموع التي بدأت تتجمع في عينيها. قالت بصوت يملؤه التصميم:
"أنا مش هسيبك يا ماما. مش هسمح لحد إنه يبعدني عنك، ولا هسمح لأي حاجة إنها تأثر عليكي. هنعدي ده مع بعض، ومهما كان... إحنا أقوى."
كان صوت إيمان مليئًا بالإصرار، لكنها في داخلها كانت تشعر بالخوف. فكرة فقدان والدتها كانت كابوسًا لا تريد أن تواجهه. لكن رغبتها في حمايتها، في جعلها تشعر بالأمان، كانت تفوق أي شعور آخر.
صفية ابتسمت بخفة، عينيها تلمعان بحب عميق لابنتها الوحيدة. كانت تعلم أن إيمان تحتاج إلى هذا الحنان الآن أكثر من أي وقت مضى. لكنها أيضًا شعرت بشيء آخر، رغبة قوية في أن تترك شيئًا وراءها، ذكرى تظل حية في قلب إيمان حتى لو غابت هي.
"عارفة يا إيمان... كل مرة كنت بحلم أشوفك في الكلية، تكملي مشوارك وتحققي حلمك وحلم أبوكي... ما تنسيش أبدًا، إنتي دايمًا أقوى من اي حد."
كانت إيمان تشعر بالكلمات وكأنها تغمر قلبها بدفء لا يوصف. لم تكن تعلم ماذا تفعل بكل هذه المشاعر التي تتصارع داخلها. لكنها عرفت شيئًا واحدًا: أنها لن تستسلم.
إيمان شعرت بثقل أكبر يومًا بعد يوم مع ازدياد مرض والدتها صفية. كانت تراقبها وهي تذبل ببطء، وكل لحظة تمر كانت تشعر وكأن الزمن يتوقف. لم تعد تستطيع التحمل أكثر، وكان الخوف ينهش قلبها. تعلقت بالأمل الوحيد الذي أبقى قلبها ينبض، وهو قبولها في كلية الصيدلة. كان هذا حلمها وحلم والدتها معًا.
في كل مرة تتحدث فيها إلى والدتها عن قبولها في الكلية، كانت صفية تبتسم برضا وحب، لكنها لم تستطع إخفاء الألم الذي يزداد يومًا بعد يوم.
كل صباح، كانت إيمان تستيقظ على أصوات الأجهزة الطبية وأنين والدتها المكتوم، وهذا الصوت كان يقطعها من الداخل.
في يوم من الأيام، وبينما كانت إيمان بجانب والدتها في المستشفى، دخل الدكتور مراد بنظرة جادة مليئة بالحيرة. كان واضحًا عليه الحزن والقلق، وهو ينظر إلى الفحوصات الجديدة. تقدم ببطء نحو إيمان، وبدأ يتحدث بصوت منخفض وكأن الكلمات تؤذيه:
"إيمان، الكلية الشمال عند والدتك تعبت بشكل كبير، ولازم نبدأ نفكر في حلول جذرية."
انصدمت إيمان. كانت تعلم أن الأمور ليست جيدة، لكن هذا الخبر كان كابوسًا لم تتوقعه. حاولت أن تستجمع نفسها، لكنها شعرت أن الأرض تهتز من تحتها.
"إيه الحل؟ مفيش طريقة لإنقاذها؟"
تحدث الدكتور مراد بحذر: "محتاجين زرع كلية جديدة، وده هيكون صعب في وضعها الحالي."
تدهورت الحالة النفسية لإيمان أكثر. شعرت أن العالم ينهار من حولها، وأنها ستفقد والدتها قريبًا. في هذا الوقت، لم تجد أمامها سوى خيار واحد: طلب المساعدة من عصران، رجل الأعمال الشهير، والذي كانت عائلتها تحمل له الكراهية منذ أن تسبب العمارة التي يملكها في مقتل والدها.
لم يكن الطلب سهلاً على إيمان، فقد كانت تكره عصران بسبب ما حدث لوالدها، لكن حبها لأمها ودفعها لإنقاذها كان أقوى من أي شيء آخر.
تحدثت إلى عصران بتردد وحذر، وطلبت مساعدته في إجراء عملية زرع الكلية لوالدتها.
عصران استمع لها باهتمام، ولم يظهر أي تعبير على وجهه. في داخله، كان يدرك أن مساعدة إيمان هي الطريقة الوحيدة للتكفير عن خطأ الماضي. وافق عصران على الفور، ووعد بتغطية كل تكاليف العملية.
الأيام تمر، ويزداد قلق إيمان كلما اقترب موعد العملية. وفي اليوم المحدد، تم تجهيز صفية للعملية.
كانت إيمان تنتظر في الخارج، وقلبها يدق بشدة. كل ما تريده هو أن ترى والدتها تخرج من غرفة العمليات وهي على قيد الحياة.
لكن ما لم تكن تعلمه إيمان أن الدكتور مراد كان يخفي شيئًا رهيبًا. لم يكن الهدف من العملية زرع كلية جديدة، بل كانت هناك نية لاستخدام أعضاء والدتها. بينما كانت صفية في غرفة العمليات، قام الدكتور مراد بما لم تتخيله إيمان، أخذ أعضاء والدتها وأوقف حياتها دون أن يشعر بأي ذنب.
بعد ساعات من الانتظار، جاءت الأخبار المروعة. عندما أبلغ الدكتور مراد إيمان أن والدتها لم تنجُ من العملية، شعرت وكأنها تعرضت لضربة قاتلة. كانت الصدمة أكبر من أن تُحتمل. لم تفهم ماذا حدث. بدأت تشعر بالعالم من حولها ينهار، وصوتها المرتجف بدأ يتحول إلى صرخات.
إيمان لم تستطع الوقوف على قدميها، سقطت على سلم المستشفى وهي تصرخ من شدة الألم والحزن. كانت دموعها تنهمر بغزارة، وصرخاتها تجذب أنظار الجميع، لكن لا أحد يستطيع أن يساعدها. حاولت أن تتصل بـ الشيخ حسين أو زيدان، ابن الشيخ، لطلب المساعدة في دفن والدتها. كانت يائسة، تبحث عن أي طريقة لتوديع والدتها، لكن الحزن كان يغمرها من كل جانب.الفتاة التي كانت قوية دائمًا وجدت نفسها وحيدة، ضعيفة، وقد فقدت أعز ما تملك.
هاتفها ما زال في يدها، تحاول الاتصال بزيدان، الذي كان آخر أمل لها في تلك اللحظة. ضغت على زر الاتصال مرارًا وتكرارًا، وفي كل مرة لا تجد سوى صوت الرنين الذي يزيد من إحساسها بالوحدة.
بينما كان زيدان يقف في إحدى الغرف شبه المظلمة بجهاز المخابرات، مرتفع الأنفاس وعيناه تتنقلان بين الأوراق المنتشرة على الطاولة أمامه، أتى رنين هاتفه فجأة ليقطع تركيزه. كان الاجتماع جاريًا، لكنه شعر بشيء ما يخنقه، وكأن الصوت الذي ينتظره يحمل معه شيئًا أكبر من مجرد مكالمة. استأذن من قائده بخروج سريع، ثم أجاب.
بعد عدة محاولات، أخيرًا أجابها زيدان بصوت منخفض وهادئ. عندما سمع صوتها المرتعش، تغيرت نبرته على الفور.
إيمان بصوت مكسور:
"زيدان، أمّي... أمّي ماتت... وأنا مش عارفة إزاي!"
توقف الزمن للحظة، حتى إن زيدان شعر بالهدوء المخيف يخترق أذنه. كانت كلماتها تنهار واحدة تلو الأخرى بين نحيبها وكأنها تُسلم آخر ما تبقى من قوتها. وكأنها كانت تصرخ من داخله.
شعر زيدان بألم لا يمكن وصفه. كانت إيمان أكثر من مجرد صديقة قديمة، او جاره فهي مثل اخته. كانت بالنسبة له شخصًا يعتبره من أهله. كانت دائمًا هادئة، قوية، لكنها الآن محطمة كليًا:
"إيمان، إنتي فين دلوقتي؟ حاولي تهدي وأنا جاي حالاً."
لم تستطع إيمان الرد بكلمات واضحة. فقط بكاء مختلط بصرخات مكتومة يعبر عن الألم الذي تعيشه. كانت تعيش حالة من الصدمة، غير قادرة على استيعاب أن والدتها، التي كانت تحت رعاية المستشفى، قد رحلت فجأة.
حاول تهدئتها بصوت هادئ، لكنه كان يشعر بالعجز. كل ما كان يقوله بدا بلا تأثير، فهي لم تكن تسمع، فقد كانت غارقة في الألم. بعد محاولات كثيرة لم تُجدِ.
في تلك اللحظة، أغلق زيدان المكالمة بسرعة واتجه نحو مكتبه، يحاول جاهدًا أن يطلب إذنًا من قائده للخروج من الاجتماع الطارئ. رغم حساسية الموقف الذي كان فيه، لم يكن يستطيع التركيز على شيء آخر سوى صرخات إيمان في رأسه. أخذ خطواته مسرعًا باتجاه الباب، قلبه يشتعل بالغضب والحزن عليها.
دون تأخير، اتصل بوالده، الشيخ حسين، الذي كان في ذلك الوقت يصلي في الجامع. ترك زيدان الهاتف يرن عدة مرات دون إجابة، وعاد يتنقل في الغرفة ذهابًا وإيابًا، واضعًا يده على جبينه وكأن أفكاره تتصارع داخله. كان الغضب والحزن يملآن قلبه، والأوراق بين يديه بدت فارغة أمام ما شعر به.
بعد دقائق من محاولاته المتواصلة، استطاع أخيرًا الاتصال بوالده الشيخ حسين، الذي كان حينها في المسجد يؤدي صلاة العصر. لم يجب الشيخ في البداية، لكن بعد انتهاء الصلاة، وجد عدة اتصالات فائتة من زيدان. اتصل به فورًا.
زيدان، بصوت مليء بالقلق:
"انت فين يا شيخ، إيمان أمّها ماتت في المستشفى، وعاوزة الناس تساعدها في الدفن... الموضوع فيه حاجة غلط، لازم نتصرف."
صمت الشيخ حسين لوهلة، قبل أن يرد على ابنه بصوت هادئ لكنه حازم:
"إنّا لله وإنّا إليه راجعون. طيب أنا هروح لجدتها وأعمامها ونشوف مين هيروح معاها."
اتجه الشيخ حسين إلى بيت جد إيمان ليخبرهم بما حدث ويطلب منهم أن يرافقوه للمستشفى. ولكن المفاجأة كانت في ردهم، فقد رفضوا الذهاب بشكل قاطع.
حين وصل الشيخ حسين إلى بيت جدة إيمان، طرق الباب، والتعبيرات الحزينة تملأ وجهه. أخبر العائلة بما حدث، داعيًا إياهم للذهاب معه، لكنهم رفضوا ببرود قائلين:
"احنا معندناش حاجة نعملها دلوقتي، إيمان اتصرف.وهي حره في أمها، بلاش هم"
حاول الشيخ حسين أن يهدئ من غضبهم ويقنعهم بالمشاركة في دفن زوجة ابنهم ، لكن تعنتهم كان أكبر مما تخيل. أدرك أنهم لن يغيروا رأيهم، فخرج من منزلهم بغضب مكبوت واتجه نحو المستشفى بمرافقة بعض رجال القرية.
وصل الشيخ ورجاله إلى المستشفى، حيث كان زيدان ينتظرهم أمام الباب. عيناه كانتا محمرتين من القلق والحزن، يحاول السيطرة على غضبه.
وجد إيمان تجلس مع النساء في زاوية المستشفى، تبدو كأنها قد انهارت تمامًا. لم تتوقف دموعها عن السيلان، وعيناها فارغتان، تحملان أوجاعًا لم يكن من السهل تخفيفها.
اقترب منها الشيخ حسين، ووضع يده على رأسها بلطف، وقال بصوت مليء بالحنان:
"يا بنتي، الله يرحمها... احنا هنا معاكي، هنعمل كل اللي لازم."
بدأ الرجال بإنهاء الإجراءات القانونية اللازمة للدفن، بينما اصطحبت النساء إيمان بعيدًا عن المكان، لتمنحها بعض الراحة وتبعدها عن أجواء المستشفى القاتمة. كانت تشعر وكأنها في عالم غير حقيقي، كل شيء كان يحدث بسرعة، ولم تكن قادرة على استيعاب ما يحدث من حولها.
بعد ساعات، تم نقل الجثمان إلى المسجد لصلاة الجنازة. وقفت إيمان بجانب النساء، تتطلع إلى الجثمان وكأنها لا تصدق أن هذا هو نهاية والدتها. كل المشاعر التي كانت مكتومة بداخلها انفجرت، لكنها لم تجد الكلمات لتصف ما تشعر به. كل ما كان يدور في عقلها هو: "لماذا؟ لماذا حدث هذا؟"
حينما انتهت الصلاة وحمل الرجال الجثمان نحو المقبرة، شعرت إيمان بأنها تفقد شيئًا لا يمكن استرجاعه أبدًا.
بعد أن انتهت صلاة الجنازة، ورحل الرجال بالجثمان نحو المقبرة، كانت إيمان تقف في الخلف بين النساء. دموعها كانت تسيل بلا توقف، وكأنها تحاول أن تفهم ما يحدث حولها. كل شيء كان يبدو ضبابيًا، وكأنها تعيش في كابوس. أصوات النساء من حولها كانت غير واضحة، وكأنها تسمعهم من بعيد. لم تستطع التفكير إلا في والدتها، التي كانت إلى جانبها دائمًا، والآن ترحل بلا عودة.
بينما كانوا يسيرون نحو المقبرة، كانت إيمان تشعر بثقل كبير في قلبها، ثقل لم يكن جسديًا فقط بل عاطفيًا أيضًا. كان الخوف، الحزن، والغضب يتداخلون في عقلها. كانت تشعر أن شيئًا ما غير صحيح، لم تستطع تحديده بدقة، لكن إحساسها الداخلي كان ينبهها. مراد، الطبيب الذي كان مسؤولًا عن حالة والدتها، كان شخصًا لم ترتح له منذ البداية. كان دائمًا يتحدث ببرود، لا يعطيها إجابات واضحة عن حالة والدتها، وكأن هناك شيئًا ما يحاول إخفاءه.
عندما وصلوا إلى المقبرة، لم تستطع إيمان أن تتحمل أكثر. وقفت أمام القبر، تشاهد التراب يسقط فوق الجثمان، وكان قلبها يتمزق. بكت بشدة، صرخت بصوت غير مسموع، وكأن الألم كان أكبر من أن يعبر عنه. حاولت النساء تهدئتها، لكنها كانت غارقة في حزنها.
بعد أن انتهت مراسم الدفن، عادت إيمان مع النساء إلى البيت، لكن عقلها لم يكن موجودًا في المكان. كانت مشغولة بتلك الأسئلة التي لم تجد لها إجابات. لماذا حدث هذا؟ وكيف؟ وكيف يمكن أن ترحل والدتها بهذه السرعة؟ كانت تعيد التفكير في كل شيء حدث منذ أن دخلت والدتها المستشفى. كل تلك المحادثات الغامضة مع مراد، تجاهله لأسئلتها، وتلك النظرة في عينيه التي لم تفهمها.
في المساء، جلست إيمان وحدها في غرفتها، تحمل هاتفها في يدها، مترددة في الاتصال بأحد. بعد تفكير طويل، قررت أن تتصل بزيدان مرة أخرى. كان هو الشخص الوحيد الذي يمكن أن يساعدها الآن. رفعت الهاتف واتصلت.
إيمان، بصوت هادئ ولكن مكسور:
"زيدان... أنا محتاجة أتكلم معاك. في حاجة مش مفهومة عن اللي حصل لأمي. أنا مش مرتاحة."
زيدان، الذي كان يحاول هو الآخر استيعاب ما حدث، رد بسرعة:
"إيمان، أنا معاك. قوليلي إيه اللي في دماغك؟"
إيمان بحزن:
"مراد... الدكتور اللي كان مسؤول عن أمي، أنا مش مرتاحة ليه. من أول يوم وهو بيتعامل معايا بطريقة غريبة. مكنش بيرد على أسئلتي، وكل مرة يحاول يتهرب. دلوقتي، وأنا بفكر في كل اللي حصل، حاسة إن في حاجة غلط."
اعتدل زيدان ونطق بجديه: "يعني إيه؟ إنتي شاكه إنه عمل حاجة؟"
إيمان بحيره:
"مش عارفة، بس إحساسي بيقول إن أمي ما ماتتش بشكل طبيعي. في حاجة تانية حصلت."
توقف زيدان للحظة، يستوعب كلماتها. لم يكن يريد أن يتهم أحدًا بدون دليل، لكنه كان يعرف أن إحساس إيمان ليس من فراغ.
نطق زيدان بهدوء منافي لما في داخل عقله:
"طيب، أنا هحقق في الموضوع ده. بس إيمان، لازم تهدي دلوقتي. مش هينفع نتسرع في أي حاجة."
إيمان، بصوت مختنق بالبكاء: "أنا مش قادرة أستنى أكتر يا زيدان. لازم أعرف إيه اللي حصل لأمي."
أغلق زيدان المكالمة وهو يشعر بثقل المسؤولية. كان يعلم أن إيمان لن تهدأ حتى تعرف الحقيقة، لكنه كان أيضًا حذرًا من أن يتسرع في الحكم.
في الأيام التالية، عاشت إيمان فترة مليئة بالاضطراب والحيرة. كانت تشعر أن كل شيء يدور حولها في دوامة لا نهاية لها.
زيدان، بعد أن حاول جاهداً أن يتابع تحقيقاته بشأن مراد، لم يجد أي دليل ملموس يثبت تورطه. كلما حاول الاقتراب من الحقيقة، كان يجد نفسه أمام حائط مسدود، حيث كان هناك من يحمي مراد بشكل مجهول وغير مفهومة أسبابه. شكوكه كانت تتسرب إلى قلبه، ولكنه لم يكن يعرف كيف يتعامل مع هذه الحالة المعقدة.
أما إيمان، فقد أصبحت حياتها أكثر تعقيدًا بعد وفاة والدتها. جدتها جاءت لتسكن معها، لكن هذه الزيارة لم تكن مريحة على الإطلاق. كانت الجدة تسيطر على كل شيء في بيت إيمان، تتدخل في كل تفصيلة من حياتها، وتفرض سلطتها على كل قرار تتخذه.
الشيخ حسين حاول مراراً التدخل لمساعدة إيمان، لكنه كان يجد نفسه في مواجهة مقاومة شديدة من الجدة، التي أصرت على بقاءها في البيت والسيطرة عليها. كانت الجدة، التي يملؤها الطمع في المال الذي حصلت عليه إيمان من عصران، تعمل بجد على تأمين مستقبلها ومصالحها المالية، مما جعل الأمور أكثر تعقيدًا بالنسبة لـ إيمان.
في صباح أحد الأيام، قررت إيمان أن تترك بيت والدها وتبدأ حياة جديدة بعيدًا عن عائلتها المؤثرة. استعداداتها كانت بسيطة، وقررت أن تسكن في الحرم الجامعي بعيدًا عن المنزل، وتعود فقط بين الحين والآخر لزيارة بيتها. كانت ترى في هذا الحل فرصة للهدوء والتفكير بعيدًا عن الضغوط التي تفرضها عليها الجدة.
كلما مرت إيمان بجوار المستشفى، كانت تشعر بألم لا يوصف. كان يغمُرها شعور من الحزن والحنين إلى والدتها، وكأن هذا المكان هو السبب في فقدانها. كان يجتاحها شعور بالمرارة والغضب تجاه المستشفى، وكأنها تراه رمزًا للظلم الذي عانت منه. كان كل مشهد من مشاهد المستشفى يعيد إليها ذكريات مؤلمة.
ذات يوم، بينما كانت جالسة على سلم المستشفى، غمرها الشعور بالحزن الذي لم تجد له مفرًا. كانت تتذكر كل التفاصيل التي كانت تربطها بوالدتها، وكيف أن هذا المكان كان شاهداً على معاناتها. وفي تلك اللحظة، اقتربت منها فتاة شابة، عرفت إيمان من نظراتها الحزينة والتعب الذي يبدو واضحًا على وجهها.
الفتاة، التي كانت قد لاحظت إيمان وهي تجلس على السلم، تقدمت نحوها ببطء، وجلس بجانبها.
الفتاة، بصوت هادئ:
"هو الجميل زعلان كدا ليه؟ في حد يبقى حلو كدا ويزعل؟"
إيمان، بصوت مملوء بالحزن: " ما كنتش متوقعه إن الحياة هتكون قاسيه كدا . فقدت أمي، وأبويا وكل حاجه من حوليا في غمضت عين."
الفتاة، بتعاطف:
"أنا آسفة أوي اني قلبت عليكي الوجع، أوقات الحياة ما بتكونش عادلة، لكن الأمل موجود. هقدر أساعدك في أيه أنا هساعدك."
ابتسمت إيمان بحزن، وشعرت بشيء من الراحة في حديث الفتاة. ربما كان هذا اللقاء هو الشيء الذي تحتاجه لتبدأ في إعادة بناء حياتها.
ظل آسر يحدق في صفحات المذكرة بين يديه، وكأنها نافذة إلى قلبه ووجعه العميق. لم يكن يدرك كم من الوقت مضى وهو يتنقل بين كلماتها المبعثرة، لكنه شعر بثقل الحزن يغمره كلما قرأ المزيد. كلماته كانت شبحية، تهمس إليه من الماضي المؤلم، تخبره عن والدته التي عانت، تمامًا كما يعاني هو الآن. كان يتنفس بصعوبة وكأنه يعيش ألمها معها، كل حرف يحمل ثقل الذكريات التي عاشتها في صغرها.
لم يكن لديه خيار سوى البحث في الصفحات المتبقية، وكأنه يبحث عن خلاصٍ أو تفسيرٍ لما حدث، لكن لم يجد سوى بعض الكلمات القليلة التي خطتها يد والدته بخطٍ مرتجف:
"بلاش تستعجل... عارفة أنك زعلان علشاني... حياتي كلها كانت حزن، بس اتغيرت لما اتعرفت عليهم... هحكيلك حكايتهم الأول وبعدين هتعرف باقي حكايتي، لأنهم جزء منها".
أحس بشيء يضغط على قلبه وهو يقرأ تلك الكلمات. كان يشعر بأن والدته لم تكن تكتب له فقط، بل كانت تتحدث إليه من مكان بعيد، من زاوية أخرى في الحياة. قلب الصفحة ببطء، وكأن العالم بأسره ينتظر ما ستحمله الصفحة التالية، لكن فجأة، كسر صوت الأذان سكون الغرفة. أذان الفجر ملأ الهواء، ففاجأه الوقت الذي انقضى وهو غارق في الكلمات. كاد يكمل، لكن شيئًا في داخله دفعه للتوقف، كما لو كان هناك قوة خفية تطلب منه أن يترك الأمر للحظة أخرى.
أغلق المذكرة برفق، وكأنه يخاف أن يزعج الكلمات التي تهمس بالأسرار. أعادها إلى مكانها في الدولاب بحذر شديد، حرصًا على ألا يكتشف أحد ما يخفيه. ثم خرج من الغرفة بخطوات بطيئة، وحذر يملأ صدره من أن توقظ خطواته جدته التي لا تزال نائمة.
لم يكن يدرك كم كان متعبًا حتى شعر بجسده يسقط في سبات عميق بمجرد أن لامس الفراش. غرق في النوم، وكأن جسده يبحث عن مهرب من كل ما يحمله عقله من أفكار وأسرار تنتظر الفجر التالي.
في الصباح، دخلت جدته الغرفة لتوقظه، فصرخت فيه بقوة، لكنه لم يستطع الاستجابة لندائها. بغضب، سحبته من الفراش وسارعت به نحو الحمام، حيث وضعت رأسه تحت الماء البارد ليصحو. صرخ الصغير بذعر وترجاها أن تتوقف، فتركته ورحلت إلى الصالة وهي تزمجر وتدعو عليه.
آسر، مرهقًا، غادر الحمام وذهب إلى غرفته ليبدل ملابس المدرسة بصعوبة. لم يكن لديه شهية لتناول أي شيء، لذا نزل إلى الأسفل منتظرًا قدوم حافلة المدرسة. جلس هناك بانتظارها، حتى صعد في النهاية إلى الحافلة بصمت.
عندما صعد آسر إلى الحافلة، جلس في مقعده المعتاد بالقرب من النافذة، يحدق عبر الزجاج إلى الخارج حيث كان الصباح هادئًا، إلا من أصوات السيارات التي تمر بين الحين والآخر. كان يشعر بثقل في عينيه، وكأن جسده يرفض الاستيقاظ الكامل. حاول أن يستجمع أفكاره، لكنه كان متعبًا من قلة النوم.
بينما كانت الحافلة تسير عبر الشوارع، رأى أصدقاءه يتبادلون الحديث والضحكات، لكن آسر لم يكن لديه الرغبة في المشاركة. بدا وكأن الجميع من حوله يعيش في عالم مختلف؛ عالم لا يعرف التعب أو الاستعجال. ظل صامتًا، وعقله مثقل بأفكار متشابكة عن يومه الدراسي وما قد يواجهه في المدرسة.
عندما توقفت الحافلة أمام المدرسة، نزل آسر ببطء، متوجهًا إلى باب المدرسة. عند دخوله، شعر بوخزة قلق خفيفة، لكنه أخفاها جيدًا خلف وجهه الهادئ، متمنيًا أن يمر اليوم بسلام.دخل آسر إلى المدرسة بخطوات متثاقلة، وبدأ يشق طريقه نحو الفصل. كانت الأصوات العالية حوله تضج بالحديث والضحكات، لكنه لم يكن جزءًا من هذا الصخب. جلس في مقعده في الصف الأمامي ووضع حقيبته على الأرض، ينظر إلى السبورة الفارغة وكأنها نافذة إلى عالم بعيد.
بدأ الطلاب في الوصول إلى أماكنهم، ودخل المدرس بعد قليل. رفع آسر رأسه بصعوبة، محاولًا التركيز على ما يُقال، لكن عقله كان مشوشًا بسبب التعب. حاول أن يستمع إلى الدرس، لكن الأفكار في رأسه كانت تتقاذف في كل اتجاه. نظر إلى زملائه الذين كانوا يرفعون أيديهم للمشاركة، وكان يشعر بأنه مختلف، وكأن جسده هنا وعقله في مكان آخر.
مر الوقت ببطء، والساعة لم تتحرك كما أراد. كلما نظر إلى عقارب الساعة، شعر أن اليوم أطول مما ينبغي. خلال فترة الاستراحة، جلس آسر وحيدًا في زاوية الفناء، يراقب الأطفال يجرون ويلعبون من حوله. وبينما كان يحدق، شعر بظل يقترب منه.
كان صديقه أحمد، الذي جلس بجانبه دون أن يقول شيئًا في البداية. ثم قال بهدوء: "مالك يا آسر؟ إنت مش على بعضك النهارده."
نظر آسر إليه بصمت للحظات قبل أن يرد: "ما فيش حاجة... بس تعبان شوية."
أحمد لم يقتنع، لكنه لم يرد أن يضغط عليه. جلس بجانبه يتحدث عن أمور عادية، يحاول أن يخرجه من حالة الشرود التي كان فيها.
حين انتهى اليوم الدراسي، عاد آسر إلى البيت يشعر بضيقٍ عميقٍ فور نزوله من الحافلة. خطواته كانت ثقيلة وهو يصعد إلى الشقة، وحين وصل، ظل يدق الباب لفترة طويلة قبل أن تفتح له جدته أخيرًا. لم ينبس ببنت شفة، بل سار مباشرةً إلى غرفته. دخل ببطء، خلع ملابسه دون أن يبدي أي اهتمام لما حوله، ثم اغتسل سريعًا كمن يحاول التخلص من كل شيء يثقل صدره. بعد ذلك، استلقى على سريره وأغمض عينيه، مستسلمًا للنوم، وكأن النوم وحده كان الملاذ الأخير لهروبٍ مؤقت من كل ما يزعجه.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
مرت الأيام كأنها تحمل في طياتها أبدية من الانتظار، حتى جاء اليوم الذي طالما انتظرته إيمان ووالدتها. يوم خروج صفية من المستشفى. ولكن مع هذا اليوم جاء معه شعور بالترقب والقلق الغامض الذي لم تستطع إيمان التخلص منه.
عندما دخل الطبيب الغرفة، لم تكن صفية تستطيع إخفاء ابتسامتها المتعبة، رغم الإرهاق الذي بدا واضحًا في عينيها. نظرت إلى الطبيب وسألته بلهفة ممزوجة بالأمل:
"أنا هخرج يا دكتور؟"
ابتسم الطبيب بود قائلاً:
"أيوة، الحمد لله، انتي دلوقتي كويسة. بس لازم تخلي بالك، ولو حصل أي حاجة، ياريت تيجي وأنا في خدمتك."
نظرت صفية إلى الطبيب بعينين شاكرين وهمست:
"تسلم يا دكتور."
إيمان وقفت بجانب أمها، نظراتها ثابتة على الطبيب، كأن شيئًا بداخله يزعجها. لاحظت صفية هذا الضيق في عيني ابنتها وسألتها بقلق:
"مالك يا بنتي؟"
ردت إيمان بضيق واضح وهي تحاول إخفاء مشاعرها:
"مفيش... يلا نمشي من هنا."
لكن صفية لم تترك الأمر، وأصرت على السؤال:
"من أول ما شفتي الدكتور دا، وأنا حاسة إنك مش ضيقاه. هو اسمه إيه؟"
ردت إيمان بتوتر:
"مراد. وفعلاً مش مرتحاله، مش عارفة ....... [المزيد]
❞ دخل الغرفة ببطء، واقترب من جثمان صديقه الذي كان يرتدي زيه العسكري الملطخ بالدماء. مدّ يده المرتعشة نحو جيب أحمد، وأخرج منه الورقة التي تركها له.
قبل رأس أحمد للمرة الأخيرة، وودعه بدموع حارقة لم تتوقف عن الانهمار.
شعر بثقل الفراق في كل جزء من كيانه، وكأن الروح تغادر جسده مع رحيل أحمد.
أمسك بالورقة بيده المرتعشة، كانت مبللة بالدماء، وخرج من الغرفة بخطوات مثقلة نحو القطاع.
لم يكن قادراً على فتح الورقة في البداية، كان خائفاً مما سيجده بين السطور.
لكن في النهاية، استجمع قوته وفتحها ببطء.
بدأت عينيه بالقراءة، بينما كان قلبه يخفق بقوة مع كل كلمة.
في البداية، قرأ الآية القرآنية:
\"بسم الله الرحمن الرحيم.
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون ) صدق الله العظيم.\"
شعر زين بوخز في قلبه، وكأن أحمد يخاطبه من مكان بعيد، يطمئنه أنه ما زال موجودًا بطريقة ما. استمر في القراءة، وكل جملة كانت تنحت في روحه، تاركة آثارًا لا تمحى:
\"حبيت أبدا كلامي بها علشان ديما تفتكري إني ديما معاكي، ودا مش كلامي دا كلام ربنا سبحانه وتعالى. عاوزك دايما تكوني متأكدة إني هكون معاكي في كل لحظة موجود؛ في قلبك وعقلك، وموجود في ذكرياتنا سوا، موجود في كل مكان في بيتنا. وكمان سيبلك نسخة مني ابننا، مش انتي دايما تقولي إنه نسخة مني؟ خالي بالك من نفسك ومن آسر وكمان أنا بعتذر عن كل حاجة قصرت فيها وعن أمي.\"
كان زين يشعر بدموعه تتساقط على الورقة وهو يقرأ كلمات أحمد، كل جملة كانت تزيد من ثقل الفراق عليه. أكمل القراءة:
\"أنا آسف يا إيماني، أنا عارف إني غلط. أرجوكي سامحيني ما كانش لازم أخيرك بيني وبينهم. بس ما كانش في إيدي حاجة وقتها، الاختيار كان صعب بينهم وبين أمي، وأنا مش هقدر أشوفهم يهينوها وأسكت؛ حتى لو أمي هي اللي غلطانة. هما ما تخلوش عنك زي ما انتي فاهمة، أنا كذبت عليكي وعليهم للأسف. كنت مفكر دا في مصلحتك، لكن لقيت نفسي بضرك وبسلمك لأمي وأختي يؤذوك، وأنا مش عارف حتى أساعدك ولا أجبلك حقك. أيوه عارف إنه الوقت تأخر على الكلام دا وعارف قد إيه هما تعبوا علشانك، بس كمان عارف إنهم أول لما يعرفوا إني بموت مش هيتأخروا عندك لحظة، ولا على ابننا وهقدروا يعملوا اللي ما قدرتش أعمله. سامحيني وقولهم سامحوني.\"
شعر زين بالألم يعتصر قلبه أكثر مع كل اعتراف يخرج من سطور أحمد، وعينيه تتسعان بينما يكمل:. ❝ ⏤ياسمين خاطر
❞ دخل الغرفة ببطء، واقترب من جثمان صديقه الذي كان يرتدي زيه العسكري الملطخ بالدماء. مدّ يده المرتعشة نحو جيب أحمد، وأخرج منه الورقة التي تركها له.
قبل رأس أحمد للمرة الأخيرة، وودعه بدموع حارقة لم تتوقف عن الانهمار.
شعر بثقل الفراق في كل جزء من كيانه، وكأن الروح تغادر جسده مع رحيل أحمد.
أمسك بالورقة بيده المرتعشة، كانت مبللة بالدماء، وخرج من الغرفة بخطوات مثقلة نحو القطاع.
لم يكن قادراً على فتح الورقة في البداية، كان خائفاً مما سيجده بين السطور.
لكن في النهاية، استجمع قوته وفتحها ببطء.
بدأت عينيه بالقراءة، بينما كان قلبه يخفق بقوة مع كل كلمة.
في البداية، قرأ الآية القرآنية:
˝بسم الله الرحمن الرحيم.
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون ) صدق الله العظيم.˝
شعر زين بوخز في قلبه، وكأن أحمد يخاطبه من مكان بعيد، يطمئنه أنه ما زال موجودًا بطريقة ما. استمر في القراءة، وكل جملة كانت تنحت في روحه، تاركة آثارًا لا تمحى:
˝حبيت أبدا كلامي بها علشان ديما تفتكري إني ديما معاكي، ودا مش كلامي دا كلام ربنا سبحانه وتعالى. عاوزك دايما تكوني متأكدة إني هكون معاكي في كل لحظة موجود؛ في قلبك وعقلك، وموجود في ذكرياتنا سوا، موجود في كل مكان في بيتنا. وكمان سيبلك نسخة مني ابننا، مش انتي دايما تقولي إنه نسخة مني؟ خالي بالك من نفسك ومن آسر وكمان أنا بعتذر عن كل حاجة قصرت فيها وعن أمي.˝
كان زين يشعر بدموعه تتساقط على الورقة وهو يقرأ كلمات أحمد، كل جملة كانت تزيد من ثقل الفراق عليه. أكمل القراءة:
˝أنا آسف يا إيماني، أنا عارف إني غلط. أرجوكي سامحيني ما كانش لازم أخيرك بيني وبينهم. بس ما كانش في إيدي حاجة وقتها، الاختيار كان صعب بينهم وبين أمي، وأنا مش هقدر أشوفهم يهينوها وأسكت؛ حتى لو أمي هي اللي غلطانة. هما ما تخلوش عنك زي ما انتي فاهمة، أنا كذبت عليكي وعليهم للأسف. كنت مفكر دا في مصلحتك، لكن لقيت نفسي بضرك وبسلمك لأمي وأختي يؤذوك، وأنا مش عارف حتى أساعدك ولا أجبلك حقك. أيوه عارف إنه الوقت تأخر على الكلام دا وعارف قد إيه هما تعبوا علشانك، بس كمان عارف إنهم أول لما يعرفوا إني بموت مش هيتأخروا عندك لحظة، ولا على ابننا وهقدروا يعملوا اللي ما قدرتش أعمله. سامحيني وقولهم سامحوني.˝
شعر زين بالألم يعتصر قلبه أكثر مع كل اعتراف يخرج من سطور أحمد، وعينيه تتسعان بينما يكمل:. ❝
❞ \"عندما تنجرح القلوب، لا تضعف... بل تشتد صلابة تحت وطأة الألم، ويصبح الانتقام أمانًا تتشبث به الأرواح المكلومة. كلما نزفت الجراح، ازدادت العزيمة على الانتصار. هكذا كانت فتيات ورد الياسمين... قلوبهن حملت النقاء، لكن الألم حوَّلهن إلى ذئاب.\". ❝ ⏤ياسمين خاطر
❞ ˝عندما تنجرح القلوب، لا تضعف.. بل تشتد صلابة تحت وطأة الألم، ويصبح الانتقام أمانًا تتشبث به الأرواح المكلومة. كلما نزفت الجراح، ازدادت العزيمة على الانتصار. هكذا كانت فتيات ورد الياسمين.. قلوبهن حملت النقاء، لكن الألم حوَّلهن إلى ذئاب.˝. ❝