❞ سقوط دكتاتور متسلط هو سبب لاحتفاء عظيم ، ويوفر لحظات من المتعة والفرح والاسترخاء من أجمل ما يمر بالإنسان ، ويحسن أن يغتنمها الفرد لممارسة فرح طفولي بعيدا عن الحسابات ، وأن يتذكر معاناة الذين وقعوا تحت تسلطه لمدد طويلة. ❝ ⏤سلمان العودة
❞ سقوط دكتاتور متسلط هو سبب لاحتفاء عظيم ، ويوفر لحظات من المتعة والفرح والاسترخاء من أجمل ما يمر بالإنسان ، ويحسن أن يغتنمها الفرد لممارسة فرح طفولي بعيدا عن الحسابات ، وأن يتذكر معاناة الذين وقعوا تحت تسلطه لمدد طويلة . ❝
كانت المعركة محتدمة بين العلماء الذين يقولون بأن للضوء طبيعة موجية .. وبين العلماء الذين يقولون بأن طبيعته مادية ذرية ..
حينما تقدم عالَم نمساوي إسمه شرودنجر بمجموعة من المعادلات .. ليعلن نظرية اسمها "الميكانيكا الموجية" .
وفي هذه النظرية أثبت شرودنجر بالتجربة أن حزمة من الإلكترونات ساقطة على سطح بللورة معدنية تحيد بنفس الطريقة التي تحيد بها أمواج البحر التي تدخل من مضيق .. واستطاع أن يحسب طول موجة الإلكترونات التي تحيد بهذه الطريقة ..
وأعقبت هذه المفاجأة مفاجآت أخرى ..
فقد أثبتت التجارب التي أجريت على حِزَم من الذرّات، ثم على حِزَم من الجزيئات .. أنها بإسقاطها على بللورة معدنية تتصرف بنفس الطريقة الموجية وأن طول موجاتها يمكن حسابه بمعادلات شرودنجر ..
وبهذا بدأ صرح النظرية المادية كله ينهار .
إن الهيكل كله يسقط، ويتحول إلى خواء .
إن كُهّان العلوم دأبوا من سنين على أن يعلمونا أن الذرة عبارة عن معمار مادي يتألف من نواة ( بروتون أو أكثر ) تدور حولها الإلكترونات في أفلاك دائرية كما تدور الكواكب حول الشمس ..
وأكثر من هذا .. حسبوا عدد الإلكترونات في كل ذرة وقالوا لنا إنها إلكترون واحد في ذرة الأيدروجين ثم تزيد في العناصر الثقيلة حتى تبلغ 92 إلكترون في ذرة اليورانيوم، وأن كل ذرة لها وزن ذري .. وأثبتوا كل هذا بالمعادلات ..
فماذا يقولون في هذا الذي يهدم لهم صرح الهيكل ليقول إنه لا يحتوي على شيء له كيان مادي أو حيِّز، وإنما كل ما هناك .. طاقة متموجة، وأكثر من هذا يقدم لهم الإثبات بالمعادلات، والتجارب ..
وكانت بلبَلة علمية لا حـد لها .
كيف يمكن أن يقوم البرهان على شيئين متناقضين ! .. وهل يمكن أن يكون للشيء طبيعة متناقضة .. ؟!
كيف يمكن أن تكون للمادة صفات موجية، وللضوء صفات مادية .. ؟!
وتقدم عالِم ألماني هو " هايزنبرج " وبرفقته عالِم آخر هو " بورن " ليقول أنه من الممكن تخطي هذه الفجوة، وأنه لا توجد مشكلة .. وقدم مجموعة من المعادلات يمكن عن طريقها حساب الضوء على أنه أمواج أو على أنه ذرّات، ولمن يريد أن يختار الإفتراض الذي يعجبه .. وسيجد أن المعادلات تصلح للغرضين في وقت واحد ..
كيف يمكن أن تكون الحقيقة متناقضة .. ؟!
العلماء يسألون ..
وهايزنبرج يرد ببساطة .. الحقيقة المطلَقة لا سبيل إلى إدراكها .
العلم لا يستطيع أن يعرف حقيقة أي شيء .. إنه يعرف كيف يتصرف ذلك الشيء في ظروف معينة، ويستطيع أن يكشف علاقاته مع غيره من الأشياء ويحسبها .. ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما هو . !
لا سبيل أمام العلم لإدراك المطلق .
العلم يدرِك كميات، ولكنه لا يدرِك ماهيات ..
العلم لا يمكنه أن يعرف ما هو الضوء .. ولا ما هو الإلكترون ..
وحينما يقول إن الأشعة الضوئية هي موجات كهربية مغناطيسية أو فوتونات .. فإنه يحيل الألغاز إلى ألغاز أخرى .. فما هي الموجات الكهربائية المغناطيسية ؟ حركة في الأثير ؟ .. وما الحركة ؟ .. وما الأثير ؟ ..
وما الفوتونات ؟ .. حِزَم من الطاقة ؟ .. وما الطاقة ؟ ..
العلم لا يمكن أن يعرف ماهية أي شيء .. إنه يستطيع أن يعرف سلوك الشيء وعلاقاته بالأشياء الأخرى والكيفيات التي يوجد بها في الظروف المختلفة .. ولكنه لا يستطيع أن يعرف حقيقته .
وحينما يكتشف العلم أن الضوء في إحدى التجارب يتصرَف بطريقة مَوْجية، وفي تجربة أخرى يتصرف بطريقة مادية ذرية، فلا تناقض هناك .. لأن ما اكتشفه العلم هو مسلَك الضوء، والكيفيات التي ينطلق بها في الظروف المختلفة .. لا حقيقة الضوء .. ويمكن أن تكون للضوء طبيعة مزدوجة .
والصفة الثانية للعلم ..
أن أحكامه كلها إحصائية وتقريبية .. لأنه لا يُجري تجاربه على حالات مفردة .. لا يمسك ذرة مفردة ليجري عليها تجاربه .. ولا يقبض على إلكترون واحد ليلاحظه .. ولا يمسك فوتونًا واحدًا ليفحصه ويتفرج عليه ..
وإنما يجري تجاربه على مجموعات .. على شعاع ضوء مثلًا ( والشعاع يحتوي على بلايين بلايين الفوتونات ) ..
أو جرام من مادة .. والجرام يحتوي على بلايين بلايين الذرات .. وتكون النتيجة أن الحسابات كلها حسابات إحصائية تقوم على الإحتمالات .. وعلى الصواب التقريبي .
والقوانين العلمية أشبه بالإحصائيات التي يمسح بها الباحثون الاجتماعيون المجتمع لتقرير أسباب الانتحار .. أو أسباب الطلاق .. أو علاقة السرطان بالتدخين .. أو الخمر بالجنون ..
وكل النتائج تكون في هذه الحالة نتائج إحتمالية وإحصائية لأنها جميعها متوسطات حسابية عن أعداد كبيرة .
أما إذا حاول العلم أن يجري تجاربه على وِحدة أساسية .. كأن يدرس ذرّة بعينها أو يلاحظ إلكترونًا واحدًا بالذات .. فإنه لا يمكنه أن يخرج بنتيجة أو معرفة .. لأنه يصطدم باستحالة نهائية .
ولكي يثبت هايزنبرج هذه الإستحالة تخيل أن عالِمًا يحاول أن يشاهد الإلكترون .. فعليه أولًا أن يستخدم ميكروسكوبًا يكبر مائة مليون مرة .. وعلى افتراض أنه حصل على هذا الميكروسكوب، فإن هناك صعوبة أخرى .. وهي أن الإلكترون أصغر من موجة الضوء .. فعليه أن يختار موجة قصيرة مثل أشعة إكس ..
ولكن أشعة إكس لا تصلح للرؤية .. إذاً عليه أن يستخدم أشعة الراديوم .
وبافتراض أنه حصل على هذه الأشياء .. فإنه في اللحظة التي يضع فيها عينيه على الميكروسكوب ويطلق فوتونًا ضوئيًا ليرى به الإلكترون .. فإن الفوتون سوف يضرب الإلكترون كما تضرب العصا كرة البلياردو ويزيحه من مكانه مغيرًا سرعته ..
لأن الفوتون عبارة عن شحنة من الطاقة ..
فهو في محاولته لتسجيل وضع الإلكترون وسرعته .. لن يصل إلى أي نتيجة ..
إذ في اللحظة التي يحاول فيها تسجيل سرعته يتغير مكانه .. لأن إطلاق الضوء عليه لرؤيته ينقله من مكانه ويغير سرعته .
إن عملية الملاحظة التي يقوم بها تغير من النتيجة المطلوبة ..
إنه يحاول أن يرى طبيعة الإلكترون ليسجلها .. ولكن عملية الرؤية تُغير أول ما تُغير تلك الطبيعة التي يجري وراء تسجيلها ..
فهو ينقل الإلكترون من مكانه في اللحظة التي يحاول فيها أن يسجل مكانه .
وهكذا يكون التعامل مع الوحدات الأساسية للطبيعة مستحيل .. فحينما نصل إلى عالَم الذرة الصغير يستحيل علينا التحديد .. وفي نفس الوقت يتعطل قانون السببية ..
فلا يصبح ساريًا .. لأن عملية الملاحظة تتدخل بين السبب والنتيجة وتكسر حلقة السببيية من منتصفها .. وتدخل هي بذاتها كسبب يغير من النتيجة بشكل يجعل من المستحيل معرفتها أو حسابها ..
إننا نكون أشبه بالأعمى الذي يمسك بقطعة مربعة من الثلج ليتحسس شكلها ومقياسها .. وهي في اللحظة التي يتحسسها تذوب مقاييسها بين يديه .. فيفقد الشيء الذي يبحث عنه بنفس العملية التي يبحث بها عنه .
وهكذا تتعطل القوانين حينما تصل إلى منتهى أجزاء ذلك الكون الكبير .. وتتوقف عند أصغر وحدة في وحداته .. فلا تعود سارية ولا تعود صالحة للتطبيق .
وبالمثل هي تتعطل أحيانًا حينما نحاول أن نطبقها على الكون بأسره ككل .. فقانون السببية أيضًا لا يعود ساريًا بالنسبة للكون ككل .. إذ أن اعتبار الكون صادرًا عن سبب، واعتباره خاضعًا للسببية يجعل منه جزءًا صادرًا عن جزء آخر ويتناقض مع كليته وشموله ..
القوانين تصطدم مع الحدّ الأكبر ومع الحدّ الأصغر للكون ولا تعود سارية ..
والعقل يصطدم بالإستحالة حينما يحاول أن يبحث في المبدأ وفي المنتهى .. لأنه لم يُجهَز بالوسائل التي يقتحم بها هذه الحدود ..
بهذا البحث الفلسفي الرياضي .. إستطاع هايزنبرج أن يفسر الطبيعة المزدوجة للضوء، ووضع المعادلات التي تصلح لتفسير الضوء على الأساس المادي وعلى الأساس الموجي في نفس الوقت، واعتبر القوانين في هذا المجال قوانين احتمالية إحصائية .. تعبِّر عن سلوك مجاميع هائلة من بلايين بلايين الفوتونات ..
أما الفوتون نفسه .. فشيء لا يمكن تحديده .
وهل يمكن تحديد نقطة في ريح عاصفة في الظلام .. وهل يمكنك أن تقول إن هذه النقطة تشغل هذا المكان بالذات .. ؟!
كل ما يمكن للعلم أن يدركه هو "الكميات" و "الكيفيات" .. ولكن لا سبيل إلى إدراك الماهيات .
** ** **
لكن أينشتين كانت له وجهة نظر أخرى ..
كان يرى في العالَم وحدة منسجمة ..
كان يرى العالَم الكبير بشموسه وأفلاكه، والعالم الصغير بذرّاته وإلكتروناته خاضعًا كله لقانون واحد بسيط ..
وكان يرى أن العقل في إمكانه أن يكتشف هذا القانون .. وكان يبحث جاهدًا عنه ..
وفي سنة 1929 أعلن عن نظرية "المجال الموحَد" .. ثم عاد بعد ذلك ورفضها واستبعدها .. وعاود البحث من جديد .
مقال / مبدأ الشـــك .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ هل الضوء أمواج ؟
هل الضوء ذرّات ؟
كانت المعركة محتدمة بين العلماء الذين يقولون بأن للضوء طبيعة موجية .. وبين العلماء الذين يقولون بأن طبيعته مادية ذرية ..
حينما تقدم عالَم نمساوي إسمه شرودنجر بمجموعة من المعادلات .. ليعلن نظرية اسمها "الميكانيكا الموجية" .
وفي هذه النظرية أثبت شرودنجر بالتجربة أن حزمة من الإلكترونات ساقطة على سطح بللورة معدنية تحيد بنفس الطريقة التي تحيد بها أمواج البحر التي تدخل من مضيق .. واستطاع أن يحسب طول موجة الإلكترونات التي تحيد بهذه الطريقة ..
وأعقبت هذه المفاجأة مفاجآت أخرى ..
فقد أثبتت التجارب التي أجريت على حِزَم من الذرّات، ثم على حِزَم من الجزيئات .. أنها بإسقاطها على بللورة معدنية تتصرف بنفس الطريقة الموجية وأن طول موجاتها يمكن حسابه بمعادلات شرودنجر ..
وبهذا بدأ صرح النظرية المادية كله ينهار .
إن الهيكل كله يسقط، ويتحول إلى خواء .
إن كُهّان العلوم دأبوا من سنين على أن يعلمونا أن الذرة عبارة عن معمار مادي يتألف من نواة ( بروتون أو أكثر ) تدور حولها الإلكترونات في أفلاك دائرية كما تدور الكواكب حول الشمس ..
وأكثر من هذا .. حسبوا عدد الإلكترونات في كل ذرة وقالوا لنا إنها إلكترون واحد في ذرة الأيدروجين ثم تزيد في العناصر الثقيلة حتى تبلغ 92 إلكترون في ذرة اليورانيوم، وأن كل ذرة لها وزن ذري .. وأثبتوا كل هذا بالمعادلات ..
فماذا يقولون في هذا الذي يهدم لهم صرح الهيكل ليقول إنه لا يحتوي على شيء له كيان مادي أو حيِّز، وإنما كل ما هناك .. طاقة متموجة، وأكثر من هذا يقدم لهم الإثبات بالمعادلات، والتجارب ..
وكانت بلبَلة علمية لا حـد لها .
كيف يمكن أن يقوم البرهان على شيئين متناقضين ! .. وهل يمكن أن يكون للشيء طبيعة متناقضة .. ؟!
كيف يمكن أن تكون للمادة صفات موجية، وللضوء صفات مادية .. ؟!
وتقدم عالِم ألماني هو " هايزنبرج " وبرفقته عالِم آخر هو " بورن " ليقول أنه من الممكن تخطي هذه الفجوة، وأنه لا توجد مشكلة .. وقدم مجموعة من المعادلات يمكن عن طريقها حساب الضوء على أنه أمواج أو على أنه ذرّات، ولمن يريد أن يختار الإفتراض الذي يعجبه .. وسيجد أن المعادلات تصلح للغرضين في وقت واحد ..
كيف يمكن أن تكون الحقيقة متناقضة .. ؟!
العلماء يسألون ..
وهايزنبرج يرد ببساطة .. الحقيقة المطلَقة لا سبيل إلى إدراكها .
العلم لا يستطيع أن يعرف حقيقة أي شيء .. إنه يعرف كيف يتصرف ذلك الشيء في ظروف معينة، ويستطيع أن يكشف علاقاته مع غيره من الأشياء ويحسبها .. ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما هو . !
لا سبيل أمام العلم لإدراك المطلق .
العلم يدرِك كميات، ولكنه لا يدرِك ماهيات ..
العلم لا يمكنه أن يعرف ما هو الضوء .. ولا ما هو الإلكترون ..
وحينما يقول إن الأشعة الضوئية هي موجات كهربية مغناطيسية أو فوتونات .. فإنه يحيل الألغاز إلى ألغاز أخرى .. فما هي الموجات الكهربائية المغناطيسية ؟ حركة في الأثير ؟ .. وما الحركة ؟ .. وما الأثير ؟ ..
وما الفوتونات ؟ .. حِزَم من الطاقة ؟ .. وما الطاقة ؟ ..
العلم لا يمكن أن يعرف ماهية أي شيء .. إنه يستطيع أن يعرف سلوك الشيء وعلاقاته بالأشياء الأخرى والكيفيات التي يوجد بها في الظروف المختلفة .. ولكنه لا يستطيع أن يعرف حقيقته .
وحينما يكتشف العلم أن الضوء في إحدى التجارب يتصرَف بطريقة مَوْجية، وفي تجربة أخرى يتصرف بطريقة مادية ذرية، فلا تناقض هناك .. لأن ما اكتشفه العلم هو مسلَك الضوء، والكيفيات التي ينطلق بها في الظروف المختلفة .. لا حقيقة الضوء .. ويمكن أن تكون للضوء طبيعة مزدوجة .
والصفة الثانية للعلم ..
أن أحكامه كلها إحصائية وتقريبية .. لأنه لا يُجري تجاربه على حالات مفردة .. لا يمسك ذرة مفردة ليجري عليها تجاربه .. ولا يقبض على إلكترون واحد ليلاحظه .. ولا يمسك فوتونًا واحدًا ليفحصه ويتفرج عليه ..
وإنما يجري تجاربه على مجموعات .. على شعاع ضوء مثلًا ( والشعاع يحتوي على بلايين بلايين الفوتونات ) ..
أو جرام من مادة .. والجرام يحتوي على بلايين بلايين الذرات .. وتكون النتيجة أن الحسابات كلها حسابات إحصائية تقوم على الإحتمالات .. وعلى الصواب التقريبي .
والقوانين العلمية أشبه بالإحصائيات التي يمسح بها الباحثون الاجتماعيون المجتمع لتقرير أسباب الانتحار .. أو أسباب الطلاق .. أو علاقة السرطان بالتدخين .. أو الخمر بالجنون ..
وكل النتائج تكون في هذه الحالة نتائج إحتمالية وإحصائية لأنها جميعها متوسطات حسابية عن أعداد كبيرة .
أما إذا حاول العلم أن يجري تجاربه على وِحدة أساسية .. كأن يدرس ذرّة بعينها أو يلاحظ إلكترونًا واحدًا بالذات .. فإنه لا يمكنه أن يخرج بنتيجة أو معرفة .. لأنه يصطدم باستحالة نهائية .
ولكي يثبت هايزنبرج هذه الإستحالة تخيل أن عالِمًا يحاول أن يشاهد الإلكترون .. فعليه أولًا أن يستخدم ميكروسكوبًا يكبر مائة مليون مرة .. وعلى افتراض أنه حصل على هذا الميكروسكوب، فإن هناك صعوبة أخرى .. وهي أن الإلكترون أصغر من موجة الضوء .. فعليه أن يختار موجة قصيرة مثل أشعة إكس ..
ولكن أشعة إكس لا تصلح للرؤية .. إذاً عليه أن يستخدم أشعة الراديوم .
وبافتراض أنه حصل على هذه الأشياء .. فإنه في اللحظة التي يضع فيها عينيه على الميكروسكوب ويطلق فوتونًا ضوئيًا ليرى به الإلكترون .. فإن الفوتون سوف يضرب الإلكترون كما تضرب العصا كرة البلياردو ويزيحه من مكانه مغيرًا سرعته ..
لأن الفوتون عبارة عن شحنة من الطاقة ..
فهو في محاولته لتسجيل وضع الإلكترون وسرعته .. لن يصل إلى أي نتيجة ..
إذ في اللحظة التي يحاول فيها تسجيل سرعته يتغير مكانه .. لأن إطلاق الضوء عليه لرؤيته ينقله من مكانه ويغير سرعته .
إن عملية الملاحظة التي يقوم بها تغير من النتيجة المطلوبة ..
إنه يحاول أن يرى طبيعة الإلكترون ليسجلها .. ولكن عملية الرؤية تُغير أول ما تُغير تلك الطبيعة التي يجري وراء تسجيلها ..
فهو ينقل الإلكترون من مكانه في اللحظة التي يحاول فيها أن يسجل مكانه .
وهكذا يكون التعامل مع الوحدات الأساسية للطبيعة مستحيل .. فحينما نصل إلى عالَم الذرة الصغير يستحيل علينا التحديد .. وفي نفس الوقت يتعطل قانون السببية ..
فلا يصبح ساريًا .. لأن عملية الملاحظة تتدخل بين السبب والنتيجة وتكسر حلقة السببيية من منتصفها .. وتدخل هي بذاتها كسبب يغير من النتيجة بشكل يجعل من المستحيل معرفتها أو حسابها ..
إننا نكون أشبه بالأعمى الذي يمسك بقطعة مربعة من الثلج ليتحسس شكلها ومقياسها .. وهي في اللحظة التي يتحسسها تذوب مقاييسها بين يديه .. فيفقد الشيء الذي يبحث عنه بنفس العملية التي يبحث بها عنه .
وهكذا تتعطل القوانين حينما تصل إلى منتهى أجزاء ذلك الكون الكبير .. وتتوقف عند أصغر وحدة في وحداته .. فلا تعود سارية ولا تعود صالحة للتطبيق .
وبالمثل هي تتعطل أحيانًا حينما نحاول أن نطبقها على الكون بأسره ككل .. فقانون السببية أيضًا لا يعود ساريًا بالنسبة للكون ككل .. إذ أن اعتبار الكون صادرًا عن سبب، واعتباره خاضعًا للسببية يجعل منه جزءًا صادرًا عن جزء آخر ويتناقض مع كليته وشموله ..
القوانين تصطدم مع الحدّ الأكبر ومع الحدّ الأصغر للكون ولا تعود سارية ..
والعقل يصطدم بالإستحالة حينما يحاول أن يبحث في المبدأ وفي المنتهى .. لأنه لم يُجهَز بالوسائل التي يقتحم بها هذه الحدود ..
بهذا البحث الفلسفي الرياضي .. إستطاع هايزنبرج أن يفسر الطبيعة المزدوجة للضوء، ووضع المعادلات التي تصلح لتفسير الضوء على الأساس المادي وعلى الأساس الموجي في نفس الوقت، واعتبر القوانين في هذا المجال قوانين احتمالية إحصائية .. تعبِّر عن سلوك مجاميع هائلة من بلايين بلايين الفوتونات ..
أما الفوتون نفسه .. فشيء لا يمكن تحديده .
وهل يمكن تحديد نقطة في ريح عاصفة في الظلام .. وهل يمكنك أن تقول إن هذه النقطة تشغل هذا المكان بالذات .. ؟!
كل ما يمكن للعلم أن يدركه هو "الكميات" و "الكيفيات" .. ولكن لا سبيل إلى إدراك الماهيات .
لكن أينشتين كانت له وجهة نظر أخرى ..
كان يرى في العالَم وحدة منسجمة ..
كان يرى العالَم الكبير بشموسه وأفلاكه، والعالم الصغير بذرّاته وإلكتروناته خاضعًا كله لقانون واحد بسيط ..
وكان يرى أن العقل في إمكانه أن يكتشف هذا القانون .. وكان يبحث جاهدًا عنه ..
وفي سنة 1929 أعلن عن نظرية "المجال الموحَد" .. ثم عاد بعد ذلك ورفضها واستبعدها .. وعاود البحث من جديد .
مقال / مبدأ الشـــك .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ) . ❝
❞ أغسطس القاتل
ودرجة الحرارة أربعون درجة ، و الزنزانة متر فى متر، و السجين يدور حول نفسه منذ ساعات ثم ينهار فى ركن ثم يتجمد كتمثال يحملق أمامه بأعين ثابتة زجاجية تخترق الجدران و تخترق الزمن . إنه فى إنتظار من يفتح الباب و يقوده لتنفيذ حكم الإعدام ..
ربما يحدث هذا اليوم و ربما يحدث غداً .. وربما يحدث الأن .
وشريط حياته يمر أمام عينه سريعاً .
إنه صيدلى ورجل أعملا ناجح .. له صيدلية فى أكبر ميادين الكويت يكسب منها ثمانية آلاف جنيه شهرياً .. ولا يحتاج منه هذا المكسب الضخم أكثر من العمل بضع ساعات هو وزوجته فى الصيدلية كل يوم .
وقد اشتغل فى بيع وشراء الأراضى فارتفع رصيده فى سنوات من عدة آلاف إلى عدة ملايين من الدنانير .
ثم اشتغل فى بناء و بيع الفيلات و العمارات .. ثم فى الأدوات الكهربائية و الأثاث ثم فى تجارة العربات القديمة .. فتضاعفت ثروته إلى أرقام فلكية .
وتصور أنه لم يعد ينقصه هو وزجته شئ ..فكل ما يرغبان فيه يحصلان عليه بإشارة من طرف البنان .. وكل ما يحلمان به يحققانه فى أقل من إغماضة عين .
هكذا كان يتصور حتى شهور قليلة حينما حدثت الحادثة الرهيبة .
وقد بدأت الحادثة بملاحظة بسيطة هى تناقص تدريجى فى أمبولات المورفين بالصيدلية و بإعادة الحسابات اكتشف أن هناك تناقصاً مماثلاً فى أمبولات الكوديين و اللومينال و الكاربيتال و فى عدد من المخدرات الممنوع تداولها بدون روشتات و لم يكن أحد يملك مفتاح دولاب المخدرات سواء هو وزوجته .
ولا يد غريبة تعمل معهما بالصيدلية ..
ولم يكن الشك يخرج من أحد اثنين .. إما هو .. و إما زوجته .
وكانت حالتها النفسية فى السنوات الأخيرة تشير إليها بإصبع الإتهام .. نوبات الخدر و الذهول و الرغبة فى الوحدة ، ثم نوبات التوتر و العصبية .. ثم الرغبة فى النوم .. ثم الإمساك المزمن و فقدان الشهية و الكآبة و السوداوية .
إنها هى إذن ... و لكن ما السر ؟؟؟
و كتم الأمر فى نفسه و لم يشأ أن يسألها .. و راح يتجسس ...
و اكتشف أنها تبعث بخطابات منتظمة إلى القاهرة بمعدل خطاب كل ثلاثة أو أربع أيام وراح يفتش فى أدراجها ، وعثر على أحد هذه الخطابات .. وكانت ما تزال تكتب فى صفحته الأخيرة .. و لم تنته من بعد .
ووقف شعر رأسه و تصبب منه العرق بارداً و هو يقرأ ..
كان خطاب حب ملتهب به سطورعن علاقة مكشوفة وتفاصيل عن اللذة المحمومة التى غمرتها من الرأس إلى القدم حينما ذاقت أول قبلة .. وكاد قلبه يتوقف وهو يقرأ كلماتها :
" صدقنى لم أشعر بأى شعور بين ذراعى زوجى حينما أتخيل أنك هو " و كانت السطور تعود فتحلق إلى نبرة غامضة شرية حينما تقول : " ما أجمل اللحظة التى لا مس فيها سرك سرى . وانطوى نورك نورى و شعرت أنى ذبت تماماً وعدت كما بدأت .. مجرد لا شئ " ..
وأعاد الخطاب إلى الدرج و يده ترتجف كأنما أصابه مس من جنون ..
و لكنه كتم الأمر و لم يشأ أن يفاتحها و طار إلى القاهرة إلى عنوان الرجل .. وكانت المفاجئة الثانية الصاعقة الثانية .. فقد اكتشف أن الرجل مات من خمس عشرة سنة فى حادث تصادم فى طريق مصر الأسكندرية الصحراوى .. أى أنه مات قبل زواجه منها ...
هى إذن قصة حب مع رجل ميت . مع شبح .. مع ماض سحيق ..
ولكن ما هذا التجسيد الغريب المثير للمشاعر .. وكأنها تخاطب أعضاء تلمسها .. وتباشر حالات حية .. وتعيش فى حاضر مهيمن يملأ عليها أقطار أحاسيسها فتتكلم فى صراحة بذيئة عن ذلك الإحساس اللذيذ .. ثم يعود فيحلق بها الخيال المحموم إلى تلك النبرات الشعرية الغامضة .. عن السر الذى لا مس السر .. و النور الذى انطوى فى النور .. وعن الذوبان حتى التلاشى و العدم .
أيمكن أن يفعل ذلك هذا رجل مات و تحلل وأصبح رمة عفنة وتراباً منذ خمس عشرة سنة ؟
أم أنه أمام حالة جنون كامل ؟
تلك المرأة الضامرة الهزيلة ذات الجمال الذابل و النظرات الناعسة الأنثوية .. ذلك الكيان الحريرى فى الأربعين الذى يودع جماله ..
أتكون قد أصابها مس من صرع و قد رأت جمالها يذوى و ألقى فى وجهها بكل شئ ..
ونظرت إليه نظرات مخدورة واتسعت عيناها الناعسة الأنثوية وكأنما تيقظت من حلم ، وأشاحت بيديها كأنما تزيح الأغطية أو تنفض غبار تابوت ..
قال فى صوت متهدج :
لم فعلت هذا ؟
فأجابت فى نبرة ساهمة لكن ثابتة :
أنا أعيش حياة لا تطاق ..
أنت تملكين كل شئ ..
نحن لا نحب ما نملك ..
كل ما تحلمين به تجدينه ..
نحن لا نحلم بما نجد ، بل نحلم بالعزيز الذى لا ينال ..
ماذا ينقصك ؟؟
الحب ..
و لكنى تصورت أنك تحبين المال حتى الموت .
و هل يُِِحب الأسمنت و الحديد و الخشب ؟؟
حياتنا كانت دائمة حافلة بالنجاح .
بل كانت دائمة صدئة خالية من لمسة الشعر و كلمة الحنان ..
ما حكاية هذا الرجل .. هل كنت عشيقته قبل زواجنا ؟؟ صارحينى بالله ..
فابتسمت إبتسامة باهتة .. و قالت فى هدوء :
بل مجرد لقاء مصادفة فى إحدى المكتبات العامة .. تبادلنا فيه بعض الكلمات .. لم يلمس يدى و لم ألمس يده .. و لم أره بعد ذلك .. و إنما كنت أقرأ له فى الصحف.. كاتبا ً مشهوراً .. ثم مات فى حادث تصادم .. وقرأت نعيه كما قرأته أنت وكما قرأه كل الناس .. ثم قابلتك وتزوجنا و هذا كل شئ ..
أنت إمرأة مجنونة ..
بل إمرأة عاقلة تريد أن تعيش حياة حقيقية ..
أليست حياتنا حقيقية ؟؟
إنها مجرد كمبيالات وإيصالات وشيكات وأوراق نقدية تتراكم بدون معنى وخارج إطار هذه الكمبيالات والشيكات لاوجود لشئ لا إيمان بشئ .. لا حب لشئ .. إن حياتك هى الجنون و الــــــلامعقول ذاته و ليست حياتى .
إنظرى إلى ما فعلت بنفسك .. مورفين كوديين و هيروين و كوكايين .. أهذه الحياة .
أفعل هذا لأتحمل الحرمان و الجفاف الذى أعيشه معك .
و لماذا لم تطلبى الطلاق ؟
إنتهى العمر و هذا قدرى و لم يعد فى الإمكان البدء من جديد .. وحياتنا هى خطؤنا نحن الإثنين و ليست خطأك وحدك .. وربما كان ذنبى أكبر من ذنبك .
ذنبك أكبر!!! كيف؟؟؟؟؟
لأنى كنت أعلم جريمتى و أستمرفيها .. أما أنت فلم تكن تعلم ماذا تفعل بنفسك .. كنت تحب المال حتى الموت بالفعل .. وكنت صادقاً مع نفسك فى هذا الدأب الـــلامعقول .. أما أنا فظل فى داخلى شعور واع رافض لكل شئ .. لكنى أستمررت وحاولت أن أعالج الخطأ ثم أعالج الخطأين بخطأ ثالث .. حتى التهيت إلى تلوث كامل .
ماذا تعنين بتلوث كامل ؟
فجمعت شجاعتها و ألقت بالمفاجئة الثالثة الصاعقة .
لن أكتم عنك شيئاً .. سوف أضع عن قلبى كل أثقاله و أستريح .. سوف أقول لك كل الحقيقة .
و شعر بأنها سوف تلقى بكارثة فقال مشفقاً على نفسه و عليها :
سعاد .. أرجوك .. لا داعى .
وكنها استمرت بصوت معدنى بارد ميت كأنها مصفحة تمر فوق أضلاعه :
لقد خنتك مع كل رجل دخل هذا البيت .. وتصورت فى كل مرة أنى سوف أحب هذا الرجل أو ذاك حتى الموت ثم اكتشفت فى كل مرة أنى أكثر مللاً .. وأنى أمام شئ مضجر لا يطاق .. و لم يبق لى فى النهاية إلا ذاك الرجل الشبح الحلم العزيز الذى لا ينال ذلك الجمال الشفيف من وراء الغيب .
ثم انهارت فجأة تبكى و كأنها تتلاشى فى دموعها و تكوم هو مهزماً فى كرسيه و هو يغمغم :
أنت مجنونة .. مجنونة .
و لا يعلم كيف مضت به الأيام بعد ذلك .
و لا يستطيع أن يصف هذه الظلمة التى مازحته حتى قضت عليه .
و حينما دبر بعد ذلك قتلها بالسم لم يكن سبب القتل أنها خانته و إنما كان السبب الحقيقى أنها قتلته و أنها مزقت الستر عن حياته فأصابته بعدواها و نقلت إليه الشعور المرهف بعدم الجدوى ..
فأصبح يعيش فى خواء تام و قد سلبته الإحساس بالهدف وحرمته لذة الجمع و النجاح .. فانكشف له الجنون و الآلية و العبث فى هذا الجمع اللامعقول ــــــ وهذا الجرى وراء اللاشئ .. فأدرك أنه لم يعش وأنه لم يكن يعيش فى أى يوم .
نعم .. لقد دبر لقتلها بإصرار و تعمد و ليس بإنفعال و لا بغضب الزوج الذى أهين فى شرفه .. وإنما بإحساس قتيل يثأر من قاتله .. وبإحساس رجل فقد كل شئ .. فقد نفسه وروحه وجوهره و لذته وحافز كفاحه .
و حينما كانت تموت كانت عيناها تبتسمان .
وكانت تبدو وكأنما تخففت من أثقالها .
و قالت له فى نبرة شكر و هى تقبل يده :
هذا هو العمل الوحيد المعقول الذى صنعته فى حياتك .
و سلم نفسه للنيابة فى ذلك اليوم وكتب اعترافاً كاملاً بخط يده
وكان تعليق القاضى الذى أصدرالحكم وهورجل صوفى إلى زميله:
إن كل الذين عبروا من هنا إلى المشانق قالوا إنهم أحبوا حتى الموت ، البعض أحب الخشب و الحديد ، و البعض أحبوا السلطة ، و البعض الآ خر أحب إمرأة ، و البعض أحب نفسه ...و لا شئ من هذا الحب يروى عطشاً كلهم كانوا كمن يشرب من ماء مالح
كلما ازداد شرباً ازداد ظمئاً
و لهذا حاولت صاحبتنا أن تسعى بحبها إلى العزيز الذى لا ينال فأحبت الميت فكانت أكثر سقوطاً وصرفت وجهها عن الوجود لتسقط فى العدم .. و لو أنها أحبت الحى الذى لا يموت و لو أنها عرفت جمال وجه الله المستور من وراء الغيب لأدركت طريقها و لتغيرت القصة ....
و لكن .. "ولكن" هذه هى جريمتنا جميعاً
----------------------. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ أغسطس القاتل
ودرجة الحرارة أربعون درجة ، و الزنزانة متر فى متر، و السجين يدور حول نفسه منذ ساعات ثم ينهار فى ركن ثم يتجمد كتمثال يحملق أمامه بأعين ثابتة زجاجية تخترق الجدران و تخترق الزمن . إنه فى إنتظار من يفتح الباب و يقوده لتنفيذ حكم الإعدام ..
ربما يحدث هذا اليوم و ربما يحدث غداً .. وربما يحدث الأن .
وشريط حياته يمر أمام عينه سريعاً .
إنه صيدلى ورجل أعملا ناجح .. له صيدلية فى أكبر ميادين الكويت يكسب منها ثمانية آلاف جنيه شهرياً .. ولا يحتاج منه هذا المكسب الضخم أكثر من العمل بضع ساعات هو وزوجته فى الصيدلية كل يوم .
وقد اشتغل فى بيع وشراء الأراضى فارتفع رصيده فى سنوات من عدة آلاف إلى عدة ملايين من الدنانير .
ثم اشتغل فى بناء و بيع الفيلات و العمارات .. ثم فى الأدوات الكهربائية و الأثاث ثم فى تجارة العربات القديمة .. فتضاعفت ثروته إلى أرقام فلكية .
وتصور أنه لم يعد ينقصه هو وزجته شئ ..فكل ما يرغبان فيه يحصلان عليه بإشارة من طرف البنان .. وكل ما يحلمان به يحققانه فى أقل من إغماضة عين .
هكذا كان يتصور حتى شهور قليلة حينما حدثت الحادثة الرهيبة .
وقد بدأت الحادثة بملاحظة بسيطة هى تناقص تدريجى فى أمبولات المورفين بالصيدلية و بإعادة الحسابات اكتشف أن هناك تناقصاً مماثلاً فى أمبولات الكوديين و اللومينال و الكاربيتال و فى عدد من المخدرات الممنوع تداولها بدون روشتات و لم يكن أحد يملك مفتاح دولاب المخدرات سواء هو وزوجته .
ولا يد غريبة تعمل معهما بالصيدلية ..
ولم يكن الشك يخرج من أحد اثنين .. إما هو .. و إما زوجته .
وكانت حالتها النفسية فى السنوات الأخيرة تشير إليها بإصبع الإتهام .. نوبات الخدر و الذهول و الرغبة فى الوحدة ، ثم نوبات التوتر و العصبية .. ثم الرغبة فى النوم .. ثم الإمساك المزمن و فقدان الشهية و الكآبة و السوداوية .
إنها هى إذن ... و لكن ما السر ؟؟؟
و كتم الأمر فى نفسه و لم يشأ أن يسألها .. و راح يتجسس ...
و اكتشف أنها تبعث بخطابات منتظمة إلى القاهرة بمعدل خطاب كل ثلاثة أو أربع أيام وراح يفتش فى أدراجها ، وعثر على أحد هذه الخطابات .. وكانت ما تزال تكتب فى صفحته الأخيرة .. و لم تنته من بعد .
ووقف شعر رأسه و تصبب منه العرق بارداً و هو يقرأ ..
كان خطاب حب ملتهب به سطورعن علاقة مكشوفة وتفاصيل عن اللذة المحمومة التى غمرتها من الرأس إلى القدم حينما ذاقت أول قبلة .. وكاد قلبه يتوقف وهو يقرأ كلماتها :
" صدقنى لم أشعر بأى شعور بين ذراعى زوجى حينما أتخيل أنك هو " و كانت السطور تعود فتحلق إلى نبرة غامضة شرية حينما تقول : " ما أجمل اللحظة التى لا مس فيها سرك سرى . وانطوى نورك نورى و شعرت أنى ذبت تماماً وعدت كما بدأت .. مجرد لا شئ " ..
وأعاد الخطاب إلى الدرج و يده ترتجف كأنما أصابه مس من جنون ..
و لكنه كتم الأمر و لم يشأ أن يفاتحها و طار إلى القاهرة إلى عنوان الرجل .. وكانت المفاجئة الثانية الصاعقة الثانية .. فقد اكتشف أن الرجل مات من خمس عشرة سنة فى حادث تصادم فى طريق مصر الأسكندرية الصحراوى .. أى أنه مات قبل زواجه منها ...
هى إذن قصة حب مع رجل ميت . مع شبح .. مع ماض سحيق ..
ولكن ما هذا التجسيد الغريب المثير للمشاعر .. وكأنها تخاطب أعضاء تلمسها .. وتباشر حالات حية .. وتعيش فى حاضر مهيمن يملأ عليها أقطار أحاسيسها فتتكلم فى صراحة بذيئة عن ذلك الإحساس اللذيذ .. ثم يعود فيحلق بها الخيال المحموم إلى تلك النبرات الشعرية الغامضة .. عن السر الذى لا مس السر .. و النور الذى انطوى فى النور .. وعن الذوبان حتى التلاشى و العدم .
أيمكن أن يفعل ذلك هذا رجل مات و تحلل وأصبح رمة عفنة وتراباً منذ خمس عشرة سنة ؟
أم أنه أمام حالة جنون كامل ؟
تلك المرأة الضامرة الهزيلة ذات الجمال الذابل و النظرات الناعسة الأنثوية .. ذلك الكيان الحريرى فى الأربعين الذى يودع جماله ..
أتكون قد أصابها مس من صرع و قد رأت جمالها يذوى و ألقى فى وجهها بكل شئ ..
ونظرت إليه نظرات مخدورة واتسعت عيناها الناعسة الأنثوية وكأنما تيقظت من حلم ، وأشاحت بيديها كأنما تزيح الأغطية أو تنفض غبار تابوت ..
قال فى صوت متهدج :
لم فعلت هذا ؟
فأجابت فى نبرة ساهمة لكن ثابتة :
أنا أعيش حياة لا تطاق ..
أنت تملكين كل شئ ..
نحن لا نحب ما نملك ..
كل ما تحلمين به تجدينه ..
نحن لا نحلم بما نجد ، بل نحلم بالعزيز الذى لا ينال ..
ماذا ينقصك ؟؟
الحب ..
و لكنى تصورت أنك تحبين المال حتى الموت .
و هل يُِِحب الأسمنت و الحديد و الخشب ؟؟
حياتنا كانت دائمة حافلة بالنجاح .
بل كانت دائمة صدئة خالية من لمسة الشعر و كلمة الحنان ..
ما حكاية هذا الرجل .. هل كنت عشيقته قبل زواجنا ؟؟ صارحينى بالله ..
فابتسمت إبتسامة باهتة .. و قالت فى هدوء :
بل مجرد لقاء مصادفة فى إحدى المكتبات العامة .. تبادلنا فيه بعض الكلمات .. لم يلمس يدى و لم ألمس يده .. و لم أره بعد ذلك .. و إنما كنت أقرأ له فى الصحف.. كاتبا ً مشهوراً .. ثم مات فى حادث تصادم .. وقرأت نعيه كما قرأته أنت وكما قرأه كل الناس .. ثم قابلتك وتزوجنا و هذا كل شئ ..
أنت إمرأة مجنونة ..
بل إمرأة عاقلة تريد أن تعيش حياة حقيقية ..
أليست حياتنا حقيقية ؟؟
إنها مجرد كمبيالات وإيصالات وشيكات وأوراق نقدية تتراكم بدون معنى وخارج إطار هذه الكمبيالات والشيكات لاوجود لشئ لا إيمان بشئ .. لا حب لشئ .. إن حياتك هى الجنون و الــــــلامعقول ذاته و ليست حياتى .
إنظرى إلى ما فعلت بنفسك .. مورفين كوديين و هيروين و كوكايين .. أهذه الحياة .
أفعل هذا لأتحمل الحرمان و الجفاف الذى أعيشه معك .
و لماذا لم تطلبى الطلاق ؟
إنتهى العمر و هذا قدرى و لم يعد فى الإمكان البدء من جديد .. وحياتنا هى خطؤنا نحن الإثنين و ليست خطأك وحدك .. وربما كان ذنبى أكبر من ذنبك .
ذنبك أكبر!!! كيف؟؟؟؟؟
لأنى كنت أعلم جريمتى و أستمرفيها .. أما أنت فلم تكن تعلم ماذا تفعل بنفسك .. كنت تحب المال حتى الموت بالفعل .. وكنت صادقاً مع نفسك فى هذا الدأب الـــلامعقول .. أما أنا فظل فى داخلى شعور واع رافض لكل شئ .. لكنى أستمررت وحاولت أن أعالج الخطأ ثم أعالج الخطأين بخطأ ثالث .. حتى التهيت إلى تلوث كامل .
ماذا تعنين بتلوث كامل ؟
فجمعت شجاعتها و ألقت بالمفاجئة الثالثة الصاعقة .
لن أكتم عنك شيئاً .. سوف أضع عن قلبى كل أثقاله و أستريح .. سوف أقول لك كل الحقيقة .
و شعر بأنها سوف تلقى بكارثة فقال مشفقاً على نفسه و عليها :
سعاد .. أرجوك .. لا داعى .
وكنها استمرت بصوت معدنى بارد ميت كأنها مصفحة تمر فوق أضلاعه :
لقد خنتك مع كل رجل دخل هذا البيت .. وتصورت فى كل مرة أنى سوف أحب هذا الرجل أو ذاك حتى الموت ثم اكتشفت فى كل مرة أنى أكثر مللاً .. وأنى أمام شئ مضجر لا يطاق .. و لم يبق لى فى النهاية إلا ذاك الرجل الشبح الحلم العزيز الذى لا ينال ذلك الجمال الشفيف من وراء الغيب .
ثم انهارت فجأة تبكى و كأنها تتلاشى فى دموعها و تكوم هو مهزماً فى كرسيه و هو يغمغم :
أنت مجنونة .. مجنونة .
و لا يعلم كيف مضت به الأيام بعد ذلك .
و لا يستطيع أن يصف هذه الظلمة التى مازحته حتى قضت عليه .
و حينما دبر بعد ذلك قتلها بالسم لم يكن سبب القتل أنها خانته و إنما كان السبب الحقيقى أنها قتلته و أنها مزقت الستر عن حياته فأصابته بعدواها و نقلت إليه الشعور المرهف بعدم الجدوى ..
فأصبح يعيش فى خواء تام و قد سلبته الإحساس بالهدف وحرمته لذة الجمع و النجاح .. فانكشف له الجنون و الآلية و العبث فى هذا الجمع اللامعقول ــــــ وهذا الجرى وراء اللاشئ .. فأدرك أنه لم يعش وأنه لم يكن يعيش فى أى يوم .
نعم .. لقد دبر لقتلها بإصرار و تعمد و ليس بإنفعال و لا بغضب الزوج الذى أهين فى شرفه .. وإنما بإحساس قتيل يثأر من قاتله .. وبإحساس رجل فقد كل شئ .. فقد نفسه وروحه وجوهره و لذته وحافز كفاحه .
و حينما كانت تموت كانت عيناها تبتسمان .
وكانت تبدو وكأنما تخففت من أثقالها .
و قالت له فى نبرة شكر و هى تقبل يده :
هذا هو العمل الوحيد المعقول الذى صنعته فى حياتك .
و سلم نفسه للنيابة فى ذلك اليوم وكتب اعترافاً كاملاً بخط يده
وكان تعليق القاضى الذى أصدرالحكم وهورجل صوفى إلى زميله:
إن كل الذين عبروا من هنا إلى المشانق قالوا إنهم أحبوا حتى الموت ، البعض أحب الخشب و الحديد ، و البعض أحبوا السلطة ، و البعض الآ خر أحب إمرأة ، و البعض أحب نفسه ...و لا شئ من هذا الحب يروى عطشاً كلهم كانوا كمن يشرب من ماء مالح
كلما ازداد شرباً ازداد ظمئاً
و لهذا حاولت صاحبتنا أن تسعى بحبها إلى العزيز الذى لا ينال فأحبت الميت فكانت أكثر سقوطاً وصرفت وجهها عن الوجود لتسقط فى العدم .. و لو أنها أحبت الحى الذى لا يموت و لو أنها عرفت جمال وجه الله المستور من وراء الغيب لأدركت طريقها و لتغيرت القصة ....
و لكن .. "ولكن" هذه هى جريمتنا جميعاً
. ❝
❞ 🔸 سنة التداول الحضاري
وقد عبّر عنها بعض علماء الحضارة بالدورات الحضارية ،
بمعنى: ظهور الحضارة ثم ذبولها وانقضاءها..
ووضعوا لذلك سمات وقوانين حاولوا تطبيقها على الحضارات الإنسانية في التاريخ ، من بينها الحضارة الإسلامية العريقة، إلاّ أنه قد صح شئ من ذلك عليها ، وعزّ شئ آخر منها عن الخضوع لهذه الحسابات والقوانين في سنة التداول ، فالأمة المسلمة لم تمت والحضارة الإسلامية تجددت و ستتجدد دائما بإذن الله..، وسيعم الإسلام في العالم قبل أن ينقضي تاريخ الدنيا
قال تعالى في سورة آل عمران:˝ وَجَاعِلُ الذِينَ اتَّبَعوكَ فَوقَ الذِينَ كَفَرُوا إلَىٰ يَومِ القِيامَةِ ثُمّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَينَكُم فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ˝
فلو استقرأ الإنسان تاريخ الحضارات فلن يجد ما سُمّي بالدورات الحضارية ينطبق على حال الأمة الإسلامية
فخميرة نهوضها موجودة في القرآن المحفوظ وسننه، فبمجرد احسان المسلمين التعامل معها ،أوجدو الحضارة ، وان كان العكس فسيكون السقوط طبعا
💚🇵🇸 مهما كثرت النزاعات والحروب والمجازر و الابادات، فسيبقى النصر والانتصار للإسلام والمسلمين ،🇵🇸💚. ❝ ⏤محمد الغزالى السقا
❞ 🔸 سنة التداول الحضاري
وقد عبّر عنها بعض علماء الحضارة بالدورات الحضارية ،
بمعنى: ظهور الحضارة ثم ذبولها وانقضاءها..
ووضعوا لذلك سمات وقوانين حاولوا تطبيقها على الحضارات الإنسانية في التاريخ ، من بينها الحضارة الإسلامية العريقة، إلاّ أنه قد صح شئ من ذلك عليها ، وعزّ شئ آخر منها عن الخضوع لهذه الحسابات والقوانين في سنة التداول ، فالأمة المسلمة لم تمت والحضارة الإسلامية تجددت و ستتجدد دائما بإذن الله..، وسيعم الإسلام في العالم قبل أن ينقضي تاريخ الدنيا
قال تعالى في سورة آل عمران:˝ وَجَاعِلُ الذِينَ اتَّبَعوكَ فَوقَ الذِينَ كَفَرُوا إلَىٰ يَومِ القِيامَةِ ثُمّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَينَكُم فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ˝
فلو استقرأ الإنسان تاريخ الحضارات فلن يجد ما سُمّي بالدورات الحضارية ينطبق على حال الأمة الإسلامية
فخميرة نهوضها موجودة في القرآن المحفوظ وسننه، فبمجرد احسان المسلمين التعامل معها ،أوجدو الحضارة ، وان كان العكس فسيكون السقوط طبعا
💚🇵🇸 مهما كثرت النزاعات والحروب والمجازر و الابادات، فسيبقى النصر والانتصار للإسلام والمسلمين ،🇵🇸💚 . ❝