❞ الدولة الأيوبية هي دولة إسلامية نشأت في مصر، وامتدت لتشمل الشام والحجاز واليمن والنوبة وبعض أجزاء المغرب العربي. يعد صلاح الدين يوسف بن أيوب مؤسس الدولة الأيوبية، كان ذلك بعد أن عُيِّن وزيرًا للخليفة الفاطمي العاضد لدين الله ونائبًا عن السلطان نور الدين محمود في مصر، فعمل على أن تكون كل السلطات تحت يده، وأصبح هو المتصرف في الأمور، وأعاد مصر إلى تبعية الدولة العباسية، فمنع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي، وأغلق مراكز الشيعة الفاطمية، ونشر المذهب السني.
بعد وفاة نور الدين زنكي توجه صلاح الدين إلى بلاد الشام، فدخل دمشق، ثم ضمَّ حمص ثم حلب، وبذلك أصبح صلاح الدين سلطانًا على مصر والشام. كانت دولة الأيوبيين قد امتدت إلى بلاد الحجاز، حيث قام صلاح الدين بتحصين جنوب فلسطين، والاستعداد لأي أمر يقوم به أرناط صاحب قلعة الكرك، والذي كان يدبر للهجوم على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، وكان صلاح الدين قد اعتنى بميناء القلزم وميناء جدة، لأن أرناط كان قد عمَّر أسطولا في ميناء أَيْلَة (العقبة)، وأرسل سفنًا بلغت عِيذاب، فاستولى صلاح الدين على أيلة. استرد صلاح الدين بيت المقدس في 27 رجب 583 هـ الموافق 2 أكتوبر 1187م، بعد ثلاثة أشهر من انتصاره في معركة حطين، عقب ذلك سقطت في يده كل موانئ الشام، ما عدا مينائي إمارة طرابلس وأنطاكية، وانتهت الحرب الصليبية الثالثة بسقوط عكا بيد الصليبيين، وتوقيع صلح الرملة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد.
توفي صلاح الدين عام 589 هـ بعد أن قسم دولته بين أولاده وأخيه العادل، ولكنهم تناحروا فيما بينهم، وظل بعضهم يقاتل بعضًا في ظروف كانت الدولة تحتاج فيها إلى تجميع القوى ضد الصليبيين. بعد وفاة العادل تفرقت المملكة بين أبنائه الثلاثة الكامل محمد على حكم مصر، والمعظم عيسى على دمشق وما حولها، والأشرف موسى على باقي الشام، لم يكد يتوفى العادل أبو بكر حتى انهال الصليبيون على الشام ومصر وخصوصًا مصر في ثلاث حملات صليبية متتابعة أرغمت الكامل محمد على أن يتنازل طواعية عن بيت المقدس للملك فريدريك الثاني سنة 625 هـ الموافق 1228م. اختلف الأشرف موسى مع المعظم عيسى على حدود النفوذ في الشام والجزيرة ووقعت بينهما الكثير من المشاكل والاضطرابات كرست الفتنة وعمقت أسباب الخلاف ومهدت لمزيد من التخبط وفتحت طريق سقوط الدولة.
وُلِّي بعد وفاة الكامل محمد ابنه الصالح أيوب وذلك سنة 637 هـ، والذي استرد بيت المقدس ودمشق وعسقلان بعد تحالفه مع القوات الخوارزمية الهاربة من الغزو المغولي. في آخر حياة الصالح أيوب هجمت الحملة الصليبية السابعة على مدينة دمياط يقودها لويس التاسع ملك فرنسا سنة 647 هـ، فرابط الصالح أيوب بالمنصورة، وهناك أصيب بمرض شديد تفاقم عليه حتى مات، فأخفت جاريته أم خليل الملقبة شجر الدر خبر موته وأرسلت لولده الأمير توران شاه وكان بالشام، فقاد الجيوش المصرية وحقق انتصارًا كبيرًا على الصليبيين، وأسر ملكهم لويس التاسع.
لما حقق توران شاه انتصاره على الصليبيين استدار إلى زوجة أبيه وباقي قادة الجيش وكانوا جميعًا من المماليك البحرية، وخطط للتخلص منهم وعزلهم، جعلت هذه الأمور شجرة الدر تتآمر مع المماليك على قتل توران شاه، فهاجموه في ليلة 28 محرم 648 هـ الموافق 2 مايو 1250م وقتلوه، وبذلك انتهت الدولة الأيوبية. ❝ ⏤بدر الدين محمود العيني
❞ الدولة الأيوبية هي دولة إسلامية نشأت في مصر، وامتدت لتشمل الشام والحجاز واليمن والنوبة وبعض أجزاء المغرب العربي. يعد صلاح الدين يوسف بن أيوب مؤسس الدولة الأيوبية، كان ذلك بعد أن عُيِّن وزيرًا للخليفة الفاطمي العاضد لدين الله ونائبًا عن السلطان نور الدين محمود في مصر، فعمل على أن تكون كل السلطات تحت يده، وأصبح هو المتصرف في الأمور، وأعاد مصر إلى تبعية الدولة العباسية، فمنع الدعاء للخليفة الفاطمي ودعا للخليفة العباسي، وأغلق مراكز الشيعة الفاطمية، ونشر المذهب السني.
بعد وفاة نور الدين زنكي توجه صلاح الدين إلى بلاد الشام، فدخل دمشق، ثم ضمَّ حمص ثم حلب، وبذلك أصبح صلاح الدين سلطانًا على مصر والشام. كانت دولة الأيوبيين قد امتدت إلى بلاد الحجاز، حيث قام صلاح الدين بتحصين جنوب فلسطين، والاستعداد لأي أمر يقوم به أرناط صاحب قلعة الكرك، والذي كان يدبر للهجوم على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، وكان صلاح الدين قد اعتنى بميناء القلزم وميناء جدة، لأن أرناط كان قد عمَّر أسطولا في ميناء أَيْلَة (العقبة)، وأرسل سفنًا بلغت عِيذاب، فاستولى صلاح الدين على أيلة. استرد صلاح الدين بيت المقدس في 27 رجب 583 هـ الموافق 2 أكتوبر 1187م، بعد ثلاثة أشهر من انتصاره في معركة حطين، عقب ذلك سقطت في يده كل موانئ الشام، ما عدا مينائي إمارة طرابلس وأنطاكية، وانتهت الحرب الصليبية الثالثة بسقوط عكا بيد الصليبيين، وتوقيع صلح الرملة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد.
توفي صلاح الدين عام 589 هـ بعد أن قسم دولته بين أولاده وأخيه العادل، ولكنهم تناحروا فيما بينهم، وظل بعضهم يقاتل بعضًا في ظروف كانت الدولة تحتاج فيها إلى تجميع القوى ضد الصليبيين. بعد وفاة العادل تفرقت المملكة بين أبنائه الثلاثة الكامل محمد على حكم مصر، والمعظم عيسى على دمشق وما حولها، والأشرف موسى على باقي الشام، لم يكد يتوفى العادل أبو بكر حتى انهال الصليبيون على الشام ومصر وخصوصًا مصر في ثلاث حملات صليبية متتابعة أرغمت الكامل محمد على أن يتنازل طواعية عن بيت المقدس للملك فريدريك الثاني سنة 625 هـ الموافق 1228م. اختلف الأشرف موسى مع المعظم عيسى على حدود النفوذ في الشام والجزيرة ووقعت بينهما الكثير من المشاكل والاضطرابات كرست الفتنة وعمقت أسباب الخلاف ومهدت لمزيد من التخبط وفتحت طريق سقوط الدولة.
وُلِّي بعد وفاة الكامل محمد ابنه الصالح أيوب وذلك سنة 637 هـ، والذي استرد بيت المقدس ودمشق وعسقلان بعد تحالفه مع القوات الخوارزمية الهاربة من الغزو المغولي. في آخر حياة الصالح أيوب هجمت الحملة الصليبية السابعة على مدينة دمياط يقودها لويس التاسع ملك فرنسا سنة 647 هـ، فرابط الصالح أيوب بالمنصورة، وهناك أصيب بمرض شديد تفاقم عليه حتى مات، فأخفت جاريته أم خليل الملقبة شجر الدر خبر موته وأرسلت لولده الأمير توران شاه وكان بالشام، فقاد الجيوش المصرية وحقق انتصارًا كبيرًا على الصليبيين، وأسر ملكهم لويس التاسع.
لما حقق توران شاه انتصاره على الصليبيين استدار إلى زوجة أبيه وباقي قادة الجيش وكانوا جميعًا من المماليك البحرية، وخطط للتخلص منهم وعزلهم، جعلت هذه الأمور شجرة الدر تتآمر مع المماليك على قتل توران شاه، فهاجموه في ليلة 28 محرم 648 هـ الموافق 2 مايو 1250م وقتلوه، وبذلك انتهت الدولة الأيوبية . ❝
❞ المثقفون لهم اعتراض تقليدي على مسألة البعث والعقاب ..
فهم يقولون : كيف يعذبنا الله والله محبة ؟
وينسى الواحد منهم أنه قد يحب ابنه كل الحب ومع ذلك يعاقبه بالضرب والحرمان من المصروف والتأديب والتعنيف .. وكلما ازداد حبه لابنه كلما ازداد اهتمامه بتأديبه ..
ولو أنه تهاون في تربيته لاتّهمه الناس في حبه لابنه ولقالوا عنه إنه أب مهمل لا يرعى أبناءه الرعاية الكافية .. فما بال الرب وهو المربي الأعظم .. وكلمة الرب مشتقة من التربية .
والواقع أن عبارة (( الله محبة )) عبارة فضفاضة يسيء الكثيرون فهمها ويُحمِّلونها معنى مطلقًا .. ويتصورون أن الله محبة على الإطلاق .. وهذا غير صحيح .
فهل الله يحب الظلم مثلاً ؟!
مستحيل ..
مستحيل أن يحب الله الظلم والظالمين .. وأن يستوي في نظره ظالم ومظلوم .. وهذا التصور للقوة الإلهية .. هو فوضى فكرية ..
ويلزم فعلًا أن يكون لله العلو المطلق على كل الظالمين , وأن يكون جبارًا مطلقًا يملك الجبروت على كل الجبارين .. وأن يكون متكبرًا على المتكبرين مُذِلًّا للمُذِلين قويًا على جميع الأقوياء .. وأن يكون الحَكم العدل الذي يضع كل إنسان في رتبته ومقامه .
وبمقتضى ما نرى حولنا من انضباط القوانين في المادة والفضاء والسماوات يكون استنتاجنا للعدل الإلهي استنتاجًا سليمًا يعطي الصفة لموصوفها ..
وكل البيِّنات تحت أيدينا تقوم لتؤكد صفة العدل الإلهي والنظام والحكمة والتدبير .
والذين ينكرون النظام والعدل هم الذين يحتاجون إلى إقامة البرهان وإلى تقديم الدليل على إنكارهم .. وليس الذين يؤمنون بالنظام .
أما الذين ينكرون العذاب على إطلاقه وينكرون أن الإنسان مربوب تعلو عليه قوة أعلى منه وقوانين أعلى منه ندعوهم إلى نظرة في أحوال عالَمَهم الأرضي .. نظرة في الدنيا دون حاجة إلى افتراض آخره .
ولا أحد لم يجرب ألم الضرس الذي يخرق الدماغ ويشق الرأس كالمنشار . والمغص الكلوي والصداع الشقي وألم الغضروف وسل العظام وهي ألوان من الجحيم يعرفها من أَلقى به سوء حظه إلى تجربتها .
وزيارة لعنبر المحروقين في القصر العيني سوف تقنع المشاهد بأن هناك فارقًا كبيرًا بين رجل محروق مشوه يصرخ في الضمادات , وبين حال رجل يرشف فنجان شاي في استرخاء ولذة على شاطئ النيل وإلى جواره حسناء تلاطفه .
إن العذاب حقيقة ملموسة .
والإنسان مربوب بقوة أعلى منه وهو عديم الحيلة في قبضة تلك القوة . ويستوي الأمر أن يسمي المؤمن هذه القوة .. (( الله )) وأن يسميها الملحد (( الطبيعة )) أو (( القوانين الطبيعية )) أو (( قانون القوانين )) فما هذه إلا سفسطة لفظية ..
المهم أنه لم يجد بدّاً من الإعتراف بأن هناك قوة تعلو على الإنسان وعلى الحوادث .. وأن هذه القوة تعذب وتنكل .
وأصحاب المشاعر الرقيقة الذين يتأففون من تصور الله جبارًا معذِبًا .. علينا أن نذكِّرَهم بما كان يفعله الخليفة التركي حينما يصدر حكم الإعدام بالخازوق على أعدائه .. وما كان يفعله الجلاد المنوط به تنفيذ الحكم حينما كان يلقي بالضحية على بطنه ثم يدخل في الشرج خازوقاً ذا رأس حديدية مدببة يظل يُدَق ببطء حتى تتهتك جميع الأحشاء ويخرج الخازوق من الرقبة .. وكيف أنه كان من واجب الجلاد أن يحتفظ بضحيته حيّاً حتى يخرج الخازوق من رقبته ليشعر بجميع الآلام الضرورية .
وأفظع من ذلك أن تفقأ عيون الأسرى بالأسياخ المحمية في النار .
مثل هؤلاء الجبارين هل من المفروض أن يقدم لهم الله حفلة شاي لأن الله محبة ؟!
بل إن جهنم هي منتهى المحبة ما دامت لا توجد وسيلة غيرها لتعريف هؤلاء بأن هناك إلهًا عادلًا .
وهي رحمة من حيث كونها تعريفًا وتعليمًا لمن رفض أن يتعلم من جميع الكتب والرسل , وللذين كذَّبوا حتى أوَّليات العقل وبداهات الإنسانية .
أيكون عدلًا أن يقتل هتلر عشرين مليونًا في حرب عالمية .. يسلخ فيها عماله الأسرى ويعدمون الألوف منهم في غرف الغاز ويحرقونهم في المحارق .. ثم عند الهزيمة ينتحر هتلر هاربًا وفارّاً من مواجهة نتيجة أعماله .
إن العبث وحده وأن يكون العالَم عبثًا في عبث هو الذي يمكن أن ينجي هذا القاتل الشامل من ذنبه .
ولا شيء حولنا في هذا العالَم المنضبط الجميل يدل على العبث .. وكل شيء من أكبر النجوم إلى أدق الذرّات ينطق بالنظام والضبط والإحكام . ولا يكون الله محبة .. ولا يكون عادلاً .. إلا إذا وضع هذا الرجل في هاوية أعماله .
عن العاقل الفطن المتأمل لن يحتاج إلى فلسفة ليدرك حقيقة العذاب فإنه سوف يكتشف نذر هذا العذاب في نفسه داخل ضميره .. وفي عيون المذنبين ونظرات القتلة .. وفي دموع المظلومين وآلام المكلومين وفي ذل الأسرى وجبروت المنتصرين وفي حشرجة المحتضرين .
وهو سوف يدرك العذاب والحساب حينما يحتويه الندم .
والندم هو صوت الفطرة لحظة الخطأ .
وهو القيامة الصغرى والجحيم الأصغر وهو نموذج من الدينونة .
وهو إشارة الخطر التي تضيء في داخل النفس لتدل على أن هناك ميزانًا للأعمال .. وأن هناك حقّاً وباطلًا .. ومَن كان على الحق فهو على صراط وقلبه مطمئن .. ومن كان على باطل فهو في هاوية الندم وقلبه كليم .
وعذاب الدنيا دائمًا نوع من التقويم .. وكذلك على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمم .. فهزيمة 67 في سيناء كانت درسًا , كما أن رسوب الطالب يكون درسًا – كما أن آلام المرض واعتلال الصحة هي لمن عاش , حياة الإسراف والترف والرخاوة والمتعة درس .
والعذاب يجلو صدأ النفس و يصقل معدنها .
ولا نعرف نبيّاً أو مصلحًا أو فنانًا أو عبقريّاً إلا وقد ذاق أشد العذاب مرضًا أو فقرًا أو إضطهادًا .
والعذاب من هذه الزاوية محبة .. وهو الضريبة التي يلزم دفعها للإنتقال إلى درجة أعلى .
وإذا خفيت عنا الحكمة في العذاب أحيانًا فلأننا لا ندرك كل شيء ولا نعرف كل شيء من القصة إلا تلك الرحلة المحدودة بين قوسين التي إسمها الدنيا ..
أما ما قبل ذلك وما بعد ذلك فهو بالنسبة لنا غيب محجوب , ولذا يجب أن نصمت في احترام ولا نطلق الأحكام .
أما كيفيات العذاب بعد البعث فلا يمكن القطع فيها تفصيلًا لأن الآخرة كلها غيب .. ويمكن أن يكون ما ورد في الكتب المقدسة بهذا الشأن رموزًا وإشارات .. كما نقول للصبي الذي لم يدرك البلوغ حينما يسألنا عن اللذة الجنسية إنها مثل السكر أو العسل لأننا لا نجد في قاموس خبراته شيئًا غير ذلك .. ولأن تلك اللذة بالنسبة له غيب لا يمكن وصفه بكلمات من محصوله اللغوي فهي خبرة لم يجربها إطلاقًا , وبالمثل الجنة والجحيم هي خبرات بالنسبة لنا .. غيب .. ولا يمكن وصفها بكلمات من قاموسنا الدنيوي .. وكل ما يمكن هو إيراد أوصاف على سبيل التقريب مثل النار أو الحدائق الغناء التي تجري من تحتها الأنهار .. أما ما سوف يحدث فهو شيء يفوق بكثير كل هذه الأوصاف التقريبية مما لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر .
ويمكن أن يقال دون خطأ إن جهنم هي المقام الأسفل بكل ما يستتبع ذلك المقام من عذاب حسي ومعنوي .. وأن الجنة هي المقام الأعلى بكل ما يستتبع ذلك المقام من نعيم حسي ومعنوي .
والصوفية يقولون إن جهنم هي مقام البعد ( البعد عن الله ) والحَجب عن الله .. والجنة هي مقام القرب بكل ما يتبع ذلك القرب من سعادة لا يمكن وصفها .
(( و مَنْ كانَ في هَذِهِ أعمَْى فَهوَ في الآخرة أعْمى وأضَلُّ سبيلاً )) . والعمى هنا هو عمى البصيرة .
إنها إذن أشبه بما نرى من درجات ومقامات وتفاوت بين أعمى وبصير . ومهتد وضال . ولكن في الآخرة سوف يكون التفاوت عظيمًا .
لدرجة أن من سيكون في المقام الأسفل سيكون حاله حال من في النار وأسوأ .. إنه قانون التفاضل الذي يحكم الوجود كله دنيا وآخره ملكًا وملكوتًا غيبًا وشهودًا .
لكل واحد رتبة واستحقاق ومقام ودرجة .. ولا يستوي اثنان .
ولا يكون الإنتقال من درجة إلى درجة إلا مقابل جهد وعمل واختبار وابتلاء .. ومن كان في الدنيا في أحط الدرجات من عمى البصيرة فسيكون حاله في الآخرة في أحط الدرجات أيضاً .
وهذا عين العدل .. أن يوضع كل إنسان في مكانه ودرجته واستحقاقه .. وهذا ما يحدث في الدنيا ظلمًا وهو ما سوف يحدث في الآخرة عدلًا .
والعذاب بهذا المعنى عدل .
والثواب عدل .
وكلاهما من مقتضيات الضرورة .
أن يكون الحديد الصلب غاية في الصلابة فيصنع منه الموتور .
ويكون الكاوتشوك رخوًا فتصنع منه العجلات .
ويكون القش رخيصًا فتصنع منه رأس المكنسة .
ويكون القش رخيصًا فتصنع منه رأس المكنسة .
وأن يكون القطن الفاخر لصناعة الوسائد .. والقطن الرديء لتسليك البالوعات .
وهذه بداهات وأوليات تقول بها الفطرة والمنطق السوي ولا تحتاج إلى تدبيج مقالات في الفلسفة ولا إلى رص حيثيات ومسببات .
ولهذا كانت الأديان كلها مقولة فطرية .. لا تحتمل الجدل ولا تحتمل التكذيب .. ولهذا كانت حقيقة مطلقة تقبلها العقول السوية التي لم تفسدها لفلفات الفلسفة والسفسطة .. والتي احتفظت ببكارتها ونقاوتها وبرئَت من داء العناد والمكابرة .
ولهذا يقول الصوفي إن الله لا يحتاج إلى دليل بل إن الله هو الدليل الذي يستدل به على كل شيء .
هو الثابت الذي نعرف به المتغيرات .
وهو الجوهر الذي ندرك به اختلاف الظواهر .
وهو البرهان الذي ندرك به حكمة العالم الزائل .
أما العقل الذي يطلب برهاناً على وجود الله فهو عقل فقد التعقل .
فالنور يكشف لنا الأشياء ويدلنا عليها .
ولا يمكن أن تكون الأشياء هي دليلنا على النور وإلا نكون قد قلبنا الأوضاع .. كمن يسير في ضوء النهار ثم يقول .. أين دليلك على أن الدنيا نهار .. أثبت لي بالبرهان .
ومن فقد سلامة الفطرة وبكارة القلب .. ولم يبق له إلا الجدل وتلافيف المنطق وعلوم الكلام .. فقد فقدَ كل شيء وسوف يطول به المطاف .. ولن يصل أبداً .
ومثل الذي يحتج على العذاب الدنيوي ويتبرم ويتسخط ويلعن الحياة وقول إنها حياة لا تحتمل وإنه يرفضها وإن أحداً لم يأخذ رأيه قبل أن يولد وإنه خلق قهراً وحكم عليه بالعذاب جبراً وإن هذا ظلم فادح .
مثل هذا الرفض الساخط مثل الفنان الذي يؤدي دوراً في مسرحية .. ويقتضي الدور أن يتلقى الضرب والركل كل يوم أما المتفرجين .
لو أن هذا الممثل فقد الذاكرة ولم ير شريط حياته إلا أمام هذا الدور الذي يؤديه بين قوسين على خشبة المسرح كل يوم .. فإنه سوف يحتج .. رافضاً أن يتلقى العذاب .. ويقول إن أحداً لم يأخذ رأيه وإنه خلق قهراً وحكم عليه بالعذاب جبراً وقضي عليه بالإهانة أمام الناس بدون مبرر معقول وبدون اختيار منه منذ البداية .
وسوف ينسى هذا الممثل أنه كان هناك اتفاق قبل بدء الرواية .. وكان هناك تكليف من المخرج ثم قبول للتكليف من جانب الممثل .. ثم عهد وميثاق على تنفيذ المطلوب .. كل هذا تم في حرية قبل أن يبدأ العرض .. وارتضى الممثل دوره اختياراً .. بل إنه أحب دوره وسعى إليه .
ولكن الممثل قد نسي تماماً هذه الحقبة الزمنية قبل الوقوف على خشبة المسرح .. ومن هنا تحولت حياته بما فيها من تكاليف وآلام إلى علامة استفهام ولغز غير مفهوم .
وهذا شأن الإنسان الذي تصور أن كل حياته هي وجوده بالجسد في هذه اللحظات الدنيوية وأنه هالك ومصيره التراب . وأنه ليس له وجود غير هذا الوجود الثلاثي الأبعاد على خشبة الحياة الدنيا .
نسي هذا الإنسان أنه كان روحاً في الملكوت وأنه جاء على الدنيا بتكليف وأنه قبل هذا التكليف وارتضاه .. وأنه كانت بينه وبين خالقه ( المخرج الأعظم لدراما الوجود ) عهود ومواثيق .. وأنه بعد دراما الوجود الدنيوي يكون البعث والحساب كما أنه بعد المسرحية يكون النقد من النقاد والنجاح والفشل من الجمهور والسقوط في عين النظارة أو الارتفاع في نظرهم .
إنه النسيان والغفلة .
والنظرة الضيقة المحدودة التي تتصور أن الدنيا كل شيء .. هي التي تؤدي إلى ضلال الفكر .. و هي التي تؤدي إلى الحيرة أمام العذاب والشر والألم ...
ومن هنا جاءت تسمية القرآن بأنه .. ذكر .. وتذكير .. وتذكرة .. ليتذكر أولو الألباب .
والنبي هو مذكر .
إنها فصل في الرواية .. كان لها بدء قبل الميلاد وسيكون لها استمرار بعد الموت .
وفي داخل هذه الرؤية الشاملة يصبح للعذاب معنى ...
يصبح عذاب الدنيا رحمة من الرحيم الذي ينبهنا به حتى لا نغفل ..
إنه محاولة إيقاظ لتتوتر الحواس ويتساءل العقل .. وهو تذكير دائم بأن الدنيا لن تكون ولا يمكن أن تكون جنة .. وإنها مجرد مرحلة ..
وأن الإخلاد إلى ذاتها يؤدي بصاحبه إلى غفلة مهلكة .
إنه العقاب الذي ظاهره العذاب وباطنه الرحمة .
وأما عذاب الآخرة فهو الصحو على الحقيقة وعلى العدل المطلق الذي لا تفوته ذرة الخير ولا ذرة الشر .. وهو اليقين بنظام المنظم الذي أبدع كل شيء صنعًا .
واليقين هنا هو الموت وما وراءه .
~
مقال : لماذا العذاب
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ المثقفون لهم اعتراض تقليدي على مسألة البعث والعقاب ..
فهم يقولون : كيف يعذبنا الله والله محبة ؟
وينسى الواحد منهم أنه قد يحب ابنه كل الحب ومع ذلك يعاقبه بالضرب والحرمان من المصروف والتأديب والتعنيف .. وكلما ازداد حبه لابنه كلما ازداد اهتمامه بتأديبه ..
ولو أنه تهاون في تربيته لاتّهمه الناس في حبه لابنه ولقالوا عنه إنه أب مهمل لا يرعى أبناءه الرعاية الكافية .. فما بال الرب وهو المربي الأعظم .. وكلمة الرب مشتقة من التربية .
والواقع أن عبارة (( الله محبة )) عبارة فضفاضة يسيء الكثيرون فهمها ويُحمِّلونها معنى مطلقًا .. ويتصورون أن الله محبة على الإطلاق .. وهذا غير صحيح .
فهل الله يحب الظلم مثلاً ؟!
مستحيل ..
مستحيل أن يحب الله الظلم والظالمين .. وأن يستوي في نظره ظالم ومظلوم .. وهذا التصور للقوة الإلهية .. هو فوضى فكرية ..
ويلزم فعلًا أن يكون لله العلو المطلق على كل الظالمين , وأن يكون جبارًا مطلقًا يملك الجبروت على كل الجبارين .. وأن يكون متكبرًا على المتكبرين مُذِلًّا للمُذِلين قويًا على جميع الأقوياء .. وأن يكون الحَكم العدل الذي يضع كل إنسان في رتبته ومقامه .
وبمقتضى ما نرى حولنا من انضباط القوانين في المادة والفضاء والسماوات يكون استنتاجنا للعدل الإلهي استنتاجًا سليمًا يعطي الصفة لموصوفها ..
وكل البيِّنات تحت أيدينا تقوم لتؤكد صفة العدل الإلهي والنظام والحكمة والتدبير .
والذين ينكرون النظام والعدل هم الذين يحتاجون إلى إقامة البرهان وإلى تقديم الدليل على إنكارهم .. وليس الذين يؤمنون بالنظام .
أما الذين ينكرون العذاب على إطلاقه وينكرون أن الإنسان مربوب تعلو عليه قوة أعلى منه وقوانين أعلى منه ندعوهم إلى نظرة في أحوال عالَمَهم الأرضي .. نظرة في الدنيا دون حاجة إلى افتراض آخره .
ولا أحد لم يجرب ألم الضرس الذي يخرق الدماغ ويشق الرأس كالمنشار . والمغص الكلوي والصداع الشقي وألم الغضروف وسل العظام وهي ألوان من الجحيم يعرفها من أَلقى به سوء حظه إلى تجربتها .
وزيارة لعنبر المحروقين في القصر العيني سوف تقنع المشاهد بأن هناك فارقًا كبيرًا بين رجل محروق مشوه يصرخ في الضمادات , وبين حال رجل يرشف فنجان شاي في استرخاء ولذة على شاطئ النيل وإلى جواره حسناء تلاطفه .
إن العذاب حقيقة ملموسة .
والإنسان مربوب بقوة أعلى منه وهو عديم الحيلة في قبضة تلك القوة . ويستوي الأمر أن يسمي المؤمن هذه القوة .. (( الله )) وأن يسميها الملحد (( الطبيعة )) أو (( القوانين الطبيعية )) أو (( قانون القوانين )) فما هذه إلا سفسطة لفظية ..
المهم أنه لم يجد بدّاً من الإعتراف بأن هناك قوة تعلو على الإنسان وعلى الحوادث .. وأن هذه القوة تعذب وتنكل .
وأصحاب المشاعر الرقيقة الذين يتأففون من تصور الله جبارًا معذِبًا .. علينا أن نذكِّرَهم بما كان يفعله الخليفة التركي حينما يصدر حكم الإعدام بالخازوق على أعدائه .. وما كان يفعله الجلاد المنوط به تنفيذ الحكم حينما كان يلقي بالضحية على بطنه ثم يدخل في الشرج خازوقاً ذا رأس حديدية مدببة يظل يُدَق ببطء حتى تتهتك جميع الأحشاء ويخرج الخازوق من الرقبة .. وكيف أنه كان من واجب الجلاد أن يحتفظ بضحيته حيّاً حتى يخرج الخازوق من رقبته ليشعر بجميع الآلام الضرورية .
وأفظع من ذلك أن تفقأ عيون الأسرى بالأسياخ المحمية في النار .
مثل هؤلاء الجبارين هل من المفروض أن يقدم لهم الله حفلة شاي لأن الله محبة ؟!
بل إن جهنم هي منتهى المحبة ما دامت لا توجد وسيلة غيرها لتعريف هؤلاء بأن هناك إلهًا عادلًا .
وهي رحمة من حيث كونها تعريفًا وتعليمًا لمن رفض أن يتعلم من جميع الكتب والرسل , وللذين كذَّبوا حتى أوَّليات العقل وبداهات الإنسانية .
أيكون عدلًا أن يقتل هتلر عشرين مليونًا في حرب عالمية .. يسلخ فيها عماله الأسرى ويعدمون الألوف منهم في غرف الغاز ويحرقونهم في المحارق .. ثم عند الهزيمة ينتحر هتلر هاربًا وفارّاً من مواجهة نتيجة أعماله .
إن العبث وحده وأن يكون العالَم عبثًا في عبث هو الذي يمكن أن ينجي هذا القاتل الشامل من ذنبه .
ولا شيء حولنا في هذا العالَم المنضبط الجميل يدل على العبث .. وكل شيء من أكبر النجوم إلى أدق الذرّات ينطق بالنظام والضبط والإحكام . ولا يكون الله محبة .. ولا يكون عادلاً .. إلا إذا وضع هذا الرجل في هاوية أعماله .
عن العاقل الفطن المتأمل لن يحتاج إلى فلسفة ليدرك حقيقة العذاب فإنه سوف يكتشف نذر هذا العذاب في نفسه داخل ضميره .. وفي عيون المذنبين ونظرات القتلة .. وفي دموع المظلومين وآلام المكلومين وفي ذل الأسرى وجبروت المنتصرين وفي حشرجة المحتضرين .
وهو سوف يدرك العذاب والحساب حينما يحتويه الندم .
والندم هو صوت الفطرة لحظة الخطأ .
وهو القيامة الصغرى والجحيم الأصغر وهو نموذج من الدينونة .
وهو إشارة الخطر التي تضيء في داخل النفس لتدل على أن هناك ميزانًا للأعمال .. وأن هناك حقّاً وباطلًا .. ومَن كان على الحق فهو على صراط وقلبه مطمئن .. ومن كان على باطل فهو في هاوية الندم وقلبه كليم .
وعذاب الدنيا دائمًا نوع من التقويم .. وكذلك على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمم .. فهزيمة 67 في سيناء كانت درسًا , كما أن رسوب الطالب يكون درسًا – كما أن آلام المرض واعتلال الصحة هي لمن عاش , حياة الإسراف والترف والرخاوة والمتعة درس .
والعذاب يجلو صدأ النفس و يصقل معدنها .
ولا نعرف نبيّاً أو مصلحًا أو فنانًا أو عبقريّاً إلا وقد ذاق أشد العذاب مرضًا أو فقرًا أو إضطهادًا .
والعذاب من هذه الزاوية محبة .. وهو الضريبة التي يلزم دفعها للإنتقال إلى درجة أعلى .
وإذا خفيت عنا الحكمة في العذاب أحيانًا فلأننا لا ندرك كل شيء ولا نعرف كل شيء من القصة إلا تلك الرحلة المحدودة بين قوسين التي إسمها الدنيا ..
أما ما قبل ذلك وما بعد ذلك فهو بالنسبة لنا غيب محجوب , ولذا يجب أن نصمت في احترام ولا نطلق الأحكام .
أما كيفيات العذاب بعد البعث فلا يمكن القطع فيها تفصيلًا لأن الآخرة كلها غيب .. ويمكن أن يكون ما ورد في الكتب المقدسة بهذا الشأن رموزًا وإشارات .. كما نقول للصبي الذي لم يدرك البلوغ حينما يسألنا عن اللذة الجنسية إنها مثل السكر أو العسل لأننا لا نجد في قاموس خبراته شيئًا غير ذلك .. ولأن تلك اللذة بالنسبة له غيب لا يمكن وصفه بكلمات من محصوله اللغوي فهي خبرة لم يجربها إطلاقًا , وبالمثل الجنة والجحيم هي خبرات بالنسبة لنا .. غيب .. ولا يمكن وصفها بكلمات من قاموسنا الدنيوي .. وكل ما يمكن هو إيراد أوصاف على سبيل التقريب مثل النار أو الحدائق الغناء التي تجري من تحتها الأنهار .. أما ما سوف يحدث فهو شيء يفوق بكثير كل هذه الأوصاف التقريبية مما لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر .
ويمكن أن يقال دون خطأ إن جهنم هي المقام الأسفل بكل ما يستتبع ذلك المقام من عذاب حسي ومعنوي .. وأن الجنة هي المقام الأعلى بكل ما يستتبع ذلك المقام من نعيم حسي ومعنوي .
والصوفية يقولون إن جهنم هي مقام البعد ( البعد عن الله ) والحَجب عن الله .. والجنة هي مقام القرب بكل ما يتبع ذلك القرب من سعادة لا يمكن وصفها .
(( و مَنْ كانَ في هَذِهِ أعمَْى فَهوَ في الآخرة أعْمى وأضَلُّ سبيلاً )) . والعمى هنا هو عمى البصيرة .
إنها إذن أشبه بما نرى من درجات ومقامات وتفاوت بين أعمى وبصير . ومهتد وضال . ولكن في الآخرة سوف يكون التفاوت عظيمًا .
لدرجة أن من سيكون في المقام الأسفل سيكون حاله حال من في النار وأسوأ .. إنه قانون التفاضل الذي يحكم الوجود كله دنيا وآخره ملكًا وملكوتًا غيبًا وشهودًا .
لكل واحد رتبة واستحقاق ومقام ودرجة .. ولا يستوي اثنان .
ولا يكون الإنتقال من درجة إلى درجة إلا مقابل جهد وعمل واختبار وابتلاء .. ومن كان في الدنيا في أحط الدرجات من عمى البصيرة فسيكون حاله في الآخرة في أحط الدرجات أيضاً .
وهذا عين العدل .. أن يوضع كل إنسان في مكانه ودرجته واستحقاقه .. وهذا ما يحدث في الدنيا ظلمًا وهو ما سوف يحدث في الآخرة عدلًا .
والعذاب بهذا المعنى عدل .
والثواب عدل .
وكلاهما من مقتضيات الضرورة .
أن يكون الحديد الصلب غاية في الصلابة فيصنع منه الموتور .
ويكون الكاوتشوك رخوًا فتصنع منه العجلات .
ويكون القش رخيصًا فتصنع منه رأس المكنسة .
ويكون القش رخيصًا فتصنع منه رأس المكنسة .
وأن يكون القطن الفاخر لصناعة الوسائد .. والقطن الرديء لتسليك البالوعات .
وهذه بداهات وأوليات تقول بها الفطرة والمنطق السوي ولا تحتاج إلى تدبيج مقالات في الفلسفة ولا إلى رص حيثيات ومسببات .
ولهذا كانت الأديان كلها مقولة فطرية .. لا تحتمل الجدل ولا تحتمل التكذيب .. ولهذا كانت حقيقة مطلقة تقبلها العقول السوية التي لم تفسدها لفلفات الفلسفة والسفسطة .. والتي احتفظت ببكارتها ونقاوتها وبرئَت من داء العناد والمكابرة .
ولهذا يقول الصوفي إن الله لا يحتاج إلى دليل بل إن الله هو الدليل الذي يستدل به على كل شيء .
هو الثابت الذي نعرف به المتغيرات .
وهو الجوهر الذي ندرك به اختلاف الظواهر .
وهو البرهان الذي ندرك به حكمة العالم الزائل .
أما العقل الذي يطلب برهاناً على وجود الله فهو عقل فقد التعقل .
فالنور يكشف لنا الأشياء ويدلنا عليها .
ولا يمكن أن تكون الأشياء هي دليلنا على النور وإلا نكون قد قلبنا الأوضاع .. كمن يسير في ضوء النهار ثم يقول .. أين دليلك على أن الدنيا نهار .. أثبت لي بالبرهان .
ومن فقد سلامة الفطرة وبكارة القلب .. ولم يبق له إلا الجدل وتلافيف المنطق وعلوم الكلام .. فقد فقدَ كل شيء وسوف يطول به المطاف .. ولن يصل أبداً .
ومثل الذي يحتج على العذاب الدنيوي ويتبرم ويتسخط ويلعن الحياة وقول إنها حياة لا تحتمل وإنه يرفضها وإن أحداً لم يأخذ رأيه قبل أن يولد وإنه خلق قهراً وحكم عليه بالعذاب جبراً وإن هذا ظلم فادح .
مثل هذا الرفض الساخط مثل الفنان الذي يؤدي دوراً في مسرحية .. ويقتضي الدور أن يتلقى الضرب والركل كل يوم أما المتفرجين .
لو أن هذا الممثل فقد الذاكرة ولم ير شريط حياته إلا أمام هذا الدور الذي يؤديه بين قوسين على خشبة المسرح كل يوم .. فإنه سوف يحتج .. رافضاً أن يتلقى العذاب .. ويقول إن أحداً لم يأخذ رأيه وإنه خلق قهراً وحكم عليه بالعذاب جبراً وقضي عليه بالإهانة أمام الناس بدون مبرر معقول وبدون اختيار منه منذ البداية .
وسوف ينسى هذا الممثل أنه كان هناك اتفاق قبل بدء الرواية .. وكان هناك تكليف من المخرج ثم قبول للتكليف من جانب الممثل .. ثم عهد وميثاق على تنفيذ المطلوب .. كل هذا تم في حرية قبل أن يبدأ العرض .. وارتضى الممثل دوره اختياراً .. بل إنه أحب دوره وسعى إليه .
ولكن الممثل قد نسي تماماً هذه الحقبة الزمنية قبل الوقوف على خشبة المسرح .. ومن هنا تحولت حياته بما فيها من تكاليف وآلام إلى علامة استفهام ولغز غير مفهوم .
وهذا شأن الإنسان الذي تصور أن كل حياته هي وجوده بالجسد في هذه اللحظات الدنيوية وأنه هالك ومصيره التراب . وأنه ليس له وجود غير هذا الوجود الثلاثي الأبعاد على خشبة الحياة الدنيا .
نسي هذا الإنسان أنه كان روحاً في الملكوت وأنه جاء على الدنيا بتكليف وأنه قبل هذا التكليف وارتضاه .. وأنه كانت بينه وبين خالقه ( المخرج الأعظم لدراما الوجود ) عهود ومواثيق .. وأنه بعد دراما الوجود الدنيوي يكون البعث والحساب كما أنه بعد المسرحية يكون النقد من النقاد والنجاح والفشل من الجمهور والسقوط في عين النظارة أو الارتفاع في نظرهم .
إنه النسيان والغفلة .
والنظرة الضيقة المحدودة التي تتصور أن الدنيا كل شيء .. هي التي تؤدي إلى ضلال الفكر .. و هي التي تؤدي إلى الحيرة أمام العذاب والشر والألم ...
ومن هنا جاءت تسمية القرآن بأنه .. ذكر .. وتذكير .. وتذكرة .. ليتذكر أولو الألباب .
والنبي هو مذكر .
إنها فصل في الرواية .. كان لها بدء قبل الميلاد وسيكون لها استمرار بعد الموت .
وفي داخل هذه الرؤية الشاملة يصبح للعذاب معنى ...
يصبح عذاب الدنيا رحمة من الرحيم الذي ينبهنا به حتى لا نغفل ..
إنه محاولة إيقاظ لتتوتر الحواس ويتساءل العقل .. وهو تذكير دائم بأن الدنيا لن تكون ولا يمكن أن تكون جنة .. وإنها مجرد مرحلة ..
وأن الإخلاد إلى ذاتها يؤدي بصاحبه إلى غفلة مهلكة .
إنه العقاب الذي ظاهره العذاب وباطنه الرحمة .
وأما عذاب الآخرة فهو الصحو على الحقيقة وعلى العدل المطلق الذي لا تفوته ذرة الخير ولا ذرة الشر .. وهو اليقين بنظام المنظم الذي أبدع كل شيء صنعًا .
❞ مصر "سياحة تاريخية" - خطبة للشيخ محمد الغزالي(*)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير.
وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
■ الدين والحضارة:
أما بعد: فإن الله جل شأنه ذكر بلدنا هذا- مصر- فى مواطن كثيرة من كتابه العزيز، وهذا يشير إلى أن بلدنا هذا- مصر- قديم التاريخ موصول الحضارة، تعتبر المدنية التى نبتت على شاطئه من أعرق المدنيات على ظهر الأرض، ويبدو أن الحياة الرتيبة فى هذا الوادى، وأن الاستقرار الذى يصبغ جوه وأحواله عموما أعان على تكوين حضارة فى بلدنا هذا.. حضارة تغلغلت فى تاريخ الإنسانية وتركت أثرا واضحا نضح على ما حولها، وأفاد الآخرون منه إفادة غير منكورة .
وكانت الحضارة المصرية على الإجمال حضارة متدينة، يظهر أن تربة هذا الوادى لا يصلح فيها الإلحاد ولا يتشبث بها إلا الإيمان .
كان الناس فى أودية كثيرة من قارات الأرض يبحثون عن لقمة الخبز، وجهدهم أن يصلوا إليها ، فإذا وصلوا إليها استراحوا واطمأنوا، أما المصريون القدماء ، فكان جهدهم كيف يعبدون ربهم، كيف يرضونه جهدهم، كيف يؤمنون لقاءه يوم يلقونه، كيف يمهدون للدار الآخرة بالعمل الصالح فى هذه الدنيا .
ومع أن حضارة المصريين الأقدمين اختلط الإيمان فيها بين توحيد وتعديد، فإنها على الإجمال كما قلت لكم كانت حضارة متدينة، وكان الشرك فيها إن حدث فاستجابة للرأى السائد يومئذ فى الدنيا، وهو رأى يرفضه الإسلام بداهة.
هذا الرأى أساسه أن الاتصال بالله الواحد صعب وأنه لابد من وسطاء يمهدون له أو يوصلون إليه، وبداهة رفض الإسلام هذا المعنى لأنه أعطى كل امرئ الحق إذا عبد الله أن يقف بين يدى ربه يقول له: (الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم) ، وإذا أذنب أن يقف أمام ربه نادما مستغفرا بقوله: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) .
لكن أجيالا ضلت طريقها لم تحسن الصلة بالله، وكان المصريون الأقدمون عموما أهل توحيد حينا، وأهل تعديد حينا آخر،. وإن كان التوحيد قد غلب عليهم فى فترات كثيرة من حياتهم وتاريخهم.
■ المصريون والرومان:
ثم وقع شىء لابد أن يذكر، فقد هجم الرومان على مصر، وكان الرومان يومئذ وثنيين واحتلوا هذا البلد قرابة ستة قرون !!.
كانت مدة طويلة كليل الشتاء البارد المظلم، وكان مجىء الرومان إلى مصر فى موجة من موجات المد التى تجعل بعض الأجناس يستغل خصائصه، ويمتطى قواه كى يستعبد غيره ويستخلص لنفسه خيره، ويجعل من نفسه سيدا، ومن الناس عبيدا !!.
كان الرومان لما دخلوا مصر على هذا النحو، ووقعت أمور نذكرها .
فى أثناء احتلال الرومان لمصر ظهرت المسيحية، وقيل إن عيسى ابن مريم وأمه جاءا إلى بلدنا هذا، فارين من بطش الرومان، ومن ضغط حكامهم ، أو من عسف الحاكم هناك ومن ضغطه ، ورجع بعد أن نمى عوده، وأخذ يؤدى دعوته فى فلسطين.
لكن المصريين كانوا قد اعتنقوا النصرانية، ولما اعتنق المصريون النصرانية ضاق الرومان بهم، وغضبوا منهم؛ لآن الرومان عباد أصنام ؛ لأن الوثنية الرومانية كانت تصبغ الحكم صبغة شديدة، حاول الرومان أن يردوا المصريين عن المسيحية التى اعتنقوها ولكن المصريين أبوا وتشبثوا بدينهم الذى اختاروه لأنفسهم.
وبدأ عصر من العسف والطغيان والمذابح حتى قيل إنه ما من قرية فى مصر أو مدينة إلا سفك فيها الدم وكثر فيها القتلى !! .
أبى المصريون أن يتركوا الديانة النصرانية التى اختاروها لأنفسهم، وبدأ بهذا العصر الذى يسمى " عصر الشهداء " بدأ التاريخ المسيحى فى مصر، وهو تاريخ يشرف أهله؛ لأن أهله قاوموا عبادة الأصنام، ودفعوا ثمن المقاومة من دمهم وأبوا إباء شديدا أن يتحولوا عن التوحيد وعن الكتاب السماوى الذى جاءهم، ثم شاء الله بعد ذلك أن يدخل الرومان المسيحية !!.
ولكن الرومان لما دخلوا المسيحية دخلوها على نحو غريب، حتى قال بعض المفسرين: لا يدرى أتنصر الرومان أم ترومت النصرانية؟!. .
أيا ما كان الأمر فقد تحول الرومان إلى النصرانية واعتبرت الديانة الرسمية لهم، لكن المذهب أو الفهم الذى استقر الرومان عليه كان فهما آخر غير الفهم الذى استقر عند المصريين.
وحدث نزاع نظرى تحول إلى جدل مر، وإلى أخذ ورد طويلين، ئم رأى الرومان وعلى رأسهم هرقل أن يفرض المذهب الرومانى ومذهب الكنيسة الكاثوليكية على المصريين !!.
وهنا قاوم المصريون الرومان وبدأوا عصرا يشبه العصر الأول، عصر الاضطهاد، والاستشهاد، إلا أن هذا العصر الجديد لم يطل.
■ المصريون والإسلام:
فقد شاء الله أن يخرج من قلب جزيرة العرب مد إسلامي عريض انتشر فى أنحاء العالم انتشار السنا بعد ليل معتكر، انتشار الرحمة بعد عصر ملىء بالقسوة والمرارة!!.
ونال المصريين شىء من هذه الرحمة، فإذا عمرو بن العاص يقرع أبواب البلاد وهى فى حال منكرة من الاضطهاد والفوضى !!.
كان بطريرك الأقباط محبوسا ، وكان أخوه قد قتل بعد أن عذب بالنار، وكان رجلا بدينا فتقاطر دهنه على النار، ثم رمى به فى أمواج البحر الأبيض فمات غرقا .
لما دخل عمرو بن العاص عرض دينه عرضا عاديا !!
الناس لا تفهم كيف عرض عمرو الإسلام؟
إن الإسلام لا يعرض فى مجالس مناظرة، وهو فى مجالس المناظرة قادر على أن يقهر الخصم، وأن يعلن الدليل، ولكن الإسلام عرض نفسه حُكْما عادلا ومجتمعا فاضلا ، ونفوسا بلغ من صفائها وعفتها أن قال الرافعى فيها: " ربما خافت البنت على نفسها من أبيها، ولكنها لا تخاف على نفسها من الفاتح العربى المسلم "!!.
دخل الإسلام مصر حرية عقل وضمير، وتوازن مجتمع لا تطغى فيه طبقة على أخرى.
دخل الإسلام مصر، وأمام المسلمين قول نبيهم عليه الصلاة والسلام لهم:" إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع " .
دخل الإسلام مصر فكان أول ما محاه التعصب الدينى، وقال للأقباط: كنائسكم لكم تعبدون الله فيها على رأيكم وفهمكم لا يجبركم أحد على رأى أو على مذهب، أو على معتقد، وأطلق سراح البطريرك المحبوس حتى قيل: وأعان الأقباط فى بناء بعض الكنائس .
والعجيب أن عمرو بن العاص رضى الله عنه الذى دخل مصر فبنى هذا المسجد - مسجد عمرو بن العاص - للركع السجود، والذى أقام حكما ذوب فيه الفوارق بين الأجناس والألوان، عندما أخذت ابنه نشوة من نشوات النصر، أو نزوة من نزوات العرب، أو قوة من قوى الجاهلية فأساء إلى أحد الأقباط، وكان القبطى ماكرا لبيبا ، فذهب إلى الرجل الذى أرسل عَمْرا ، ذهب إلى عُمَر نفسه وشكى له !!
فجاء عمر صاحب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتلميذه، جاء بالقبطى المظلوم وبابن عمرو بن العاص ابن الحا كم وقال لعمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.. !؟
ثم قال للقبطى: خذ حقك من ابن الأكرمين !!
ثم قال فى فترة من فترات الغضب لله: " لو شئت أدرت السوط على صلعة عمرو بن العاص !!.
هذا حكم النبوة، هذا حكم الإسلام .!!
كان الإسلام يومئذ عقيدة تعرض نفسها ، على أى شىء تعتمد؟ على صفاء حقائقها، على نضارة عقائدها وغزارة فضائلها، ووفرة المثل الرفيعة التى تدعو إليها.
والرجل يوم يكون صاحب ثروة طائلة من الصدق والشرف والرحمة والوفاء والعفة فإنه يطمئن إلى أن ثروته هذه ستوطئ له الأكناف، وتفتح له القلوب، وتضئ له النواصى.
ولذلك ما فكر الإسلام فى بلد دخله أن يقيد الحريات، لِمَ يقيدها؟ والحرية عونه الأول على غرس الإيمان وتصحيح المعتقد، ما فكر الإسلام يوما أن يقيم حكما استثنائيا، ولِمَ يقيمه؟ والعدالة هدفه، وهو يعلم أن الله عز وجل إنما ينصر أو يهزم بمقدار قوة الصلة به أو ضعف هذه الصلة.
ظل المسلمون الذين جاءوا إلى مصر وهم أربعة آلاف مع عمرو لحقهم عدد قليل بعد ذلك من الناس بعد أن قوضوا الحكم الروماني ، ظلوا على هذا النحو قلة، ولكن المصريين أخذوا يغلغلون البصر فى الدين الجديد، وفى المبادىء التى قام عليها، وبدأوا يدخلون فيه، وظل المصريون يدخلون فى الإسلام خلال القرن الأول، وخلال القرن الثانى ، ولم يتحول الإسلام فى مصر إلى كثرة فى السكان إلا فى القرن الثالث تقريبا !!، والأساس هو ما قلت لكم: دين لا يعرف قط إلا مخاطبة العقل الحر، وإيقاظ الضمير النائم ، وما يعتمد فى نشر مبادئه على عصا أو على إكراه.
■ نسل الفاتحين أم نسل السكان الأصليين؟:
يخطىء المسلمون فى مصر الآن خطأين: الخطأ الأول: أن عددا منهم لا أدرى أهو عدد كبير أم صغير؟، يقول بشىء من الغباء: إننا عرب، يقصد بذلك أنه نسل الفاتحين، هذا كذب، هذا كذب!! ولعل مركب النقص هو الذى يدفع إلى هذا الزعم !! فنحن فى الحقيقة أبناء المصريين الذين أسلموا !! ربما كان هناك عدد من أبناء العرب الذين وفدوا، لكن هذا العدد قليل !! أما الكثرة الكبرى من المصريين فهم أبناء المصريين الذين دخلوا فى الإسلام.
وعندما يقول المصريون إنهم أبناء الفاتحين يعطون غيرهم حجة مكذوبة أنهم أبناء مصر وأن غيرهم وافد وطارىء ، وهذا غير صحيح !! يجب أن نعرف الحقائق فإن أكثرنا غافل.
أريد أن أقول لكم: إن شيخ الأزهر العباسى المهدى كان أبوه قبطيا!! ويوجد بين أئمة المساجد الآن وبين مفتشى المساجد وبين علماء الأزهر رجال آباؤهم أو أجدادهم من الأقباط!!.
فالقول بأن المصريين أبناء الفاتحين غلط فاحش ما ينبغى أن يقال، هذا خطأ يرتكب !!.
■ فتح عربي أم تحرير إسلامي؟:
الخطأ الثانى: الذى يرتكبه المسلمون أنهم يسمون مجىء عمرو بن العاص الى مصر: الفتح العربى لمصر !!.
كان هذا التعبير سليما يوم كانت كلمة فتح تعنى شيئا آخر غير المفهوم الذى عرف به الآن فى العالم، فكلمة الفتح الآن تساوى الغزو، والحقيقة أن الوصف الدقيق لمجىء العرب إلى مصر هو تحرير العرب للمصريين!!.
الجيش الذى انطلق من المدينة عبأه أبناء محمد عليه الصلاة و السلام فى عقيدته، وحملوه راية التوحيد، لم ينطلق كى يُكره على إيمان، وإنما انطلق كى يحرر شعوبا مستعبدة أو كما قال أحد القادة لحاشية كسرى : تقولون: لم جئتم؟ " جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد " !!
لم نجيء لنستعبد الخلق، والدين لله ، هذا ما ينبغى أن يعرف، وهنا أريد أن أشرح هذا المعنى، وألقى الضوء عليه:
توجد الآن فى أفريقيا شعوب ترسف فى قيود الهوان مسروقة تحت الشمس !!
توجد شعوب تترنح تحت ضربات الأقوياء الذين ألهبوا الجلود بسياطهم، وكمموا الأفواه حتى لا تصيح من الألم !!.
توجد الآن فى جنوب أفريقيا وفى روديسيا، وفى مستعمرات البرتغال الثلاث فى وسط أفريقيا وغربها، وتوجد تحت راية حكومات مستقلة للأسف، توجد جماهير كثيفة تضرع إلى الله أن يرسل إليها من يفك الأغلال عنها، ومن يكسر أبواب السجون التى قبعت وراءها فهى لا تعرف فى قيودها وسجونها إلا الهوان والبأساء والضراء !!
لو أن جيشا ذهب إلى الملونين فى جنوب أفريقيا ليسقط الحكم القائم، ويقيم حكم مساواة ورشد، لو أن جيشا ذهب إلى مستعمرات المستعبدين تحت الحكم الكاثوليكى البرتغالى وأسقط الراية التى هناك، وأقام راية أخرى تعطى الملونين من الزنوج، والمظلومين من المسلمين الحقوق العادية للبشر العاديين، أيسمى هذا غزوا؟ أيسمى هذا فتحا استعماريا ؟ أيسمى هذا افتياتا على الأمم؟ !!.
إن العرب لما خرجوا من جزيرتهم إلى مصر أو الشام لم يخرجوا مستعمرين أو طلاب دنيا، لماذا؟ لأن طلب الدنيا فى دينهم - على هذا النحو - جريمة .
رجل قال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إنى أقف المواقف أريد وجه الله وأحب أن يُرى موطنى " ؟ فلم يرد عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئاً حتى نزلت هذه الآية (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) .
اعتبر الرياء شركا، اعتبر القتال طلبا للدنيا جريمة . وقال فى تعريف الجهاد: " من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله " .
هذا هو الإسلام، فالذين جاءوا إلى مصر أو ذهبوا إلى سوريا، ما جاءوا وما ذهبوا كى يقال: إنهم فتحوا أو إنهم غلبوا أو إنهم ملكوا.. لا .. لا، كانوا يعملون لله، ويؤدون حق الله ، وكانت الآخرة أحب إليهم من الدنيا، وكان الموت فى سبيل الله أحلى مذاقا فى أفواههم من أن يعودوا إلى زوجاتهم وأولادهم، كانوا أصحاب عقائد. وإذا حلا لبعض المستشرقين أن يتساءل ما الذى جاء بالعرب إلى أفريقيا أو إلى آسيا؟.
فلنقل له قبل ذلك: وما الذى جاء بالرومان إلى مصر، والى آسيا الصغرى، وإلى الشمال الأفريقى كله؟!.
قبل أن تسأل: ما الذى جاء بالعرب ليحرروا، إسأل نفسك ما الذى جاء بأجدادك هنا ليستعبدوا؟!. لا تقل لم جاء العرب مصر؟ سل نفسك أولا لم جاء الرومان مصر؟ إن المحرر لا يسأل عن فعله، وإنما يسأل المستعبد عما صنع !! ثم إن الجزية التى يتحدث البعض عنها ما كانت أكثر من توازن اقتصادى بين المسلمين وغيرهم.
كان المسلم مكلفا بدفع الزكاة، وكان مكلفا بدفع ما يقيم عدة الحرب، وجهاز القتال، ولم يكن أهل الذمة مكلفين لا بقتال ولا بمساهمة فى قتال ولا بالإعداد له بقرش ولا بدفع زكاة !!.
فإذا كان المسلمون سيأخذون القليل فى نظير أن ينهضوا هم بالحماية فأى عيب فى ذلك؟.
ويقول التاريخ: إن أبا عبيدة بن الجراح لما وصل إلى " حمص " وأخذ من أهلها الجزية أكرهته بعض العمليات العسكرية على أن ينسحب فقرر رد الجزية إلى الناس، فقالوا: ما هذا ؟.
لقد تعودوا أن الحكام يأخذون ولا يردون، تعودوا لحكام يغصبون ولا يعدلون، فوجدوا حاكما أخذ منهم بالأمس جنيها وهو يرده اليوم !!
فقال لهم: لقد أخذنا منكم هذه الجزية فى نظير أن ندفع عنكم أما إذ عجزنا عن الدفاع فلا يحق لنا أن نأخذها فقالوا لابى عبيدة: استبق المال معك، وسنقاتل الرومان معكم معشر العرب جنبا إلى جنب، فما عانينا من ظلمهم يجعلنا نتفق معكم على قتالهم !!.
إن التاريخ ملىء بالإشاعات الكاذبة، ومن الإشاعات التى روج المسلمون لها للأسف أن الإسلام دخل مع الفاتحين وأنه دين الفاتحين وهذا غير صحيح.
حمل الفاتحون العقيدة لكنهم ما فرضوها ولا أكرهوا أحدا عليها، وكان المسلمون قلة فى القرنين الأولين من الفتح،. ثم بدأوا يكونون كثرة بالاقتناع الفردى، ولا يجرؤ أحد أن يقول: إن المصريين أكرههم الإسلام على الدخول فيه، فإن المصريين وفق تاريخهم الثابت عنهم قاوموا الرومان، وقتلوا فى كل قرية، ولم يفرطوا فى دينهم، وقاتلوا الرومان مرة أخرى حتى جاء الفتح العربى فأنقذهم من بطشهم، فلم يدخلون فى الإسلام دون أن يسفك دم؟ إنما دخلوا لان الله شرح بالإسلام صدورهم !!.
فماذا كانت علاقة الإسلام بغيره من الديانات بعد أن أصبح دين الكثرة هنا؟.
المسلمون فى أرض الله كلها ناس طيبون وسمحاء، والتعصب لا يعرف طريقا إلى قلوبهم، والحروب الدينية التى جعلت سطح أوربا ملوثا بالدم مليئا بالفتن، هذه الحروب لا يعرفها العالم الإسلامي ، إن العالم الإسلامى عاش على فهم أنه يمكن أن يتعاون اثنان بينهما اختلاف دين على أمر ما !!.
وقد حدث أن النبى عليه الصلاة والسلام وهو يهاجر استأجر الدليل على الطريق استأجره مشركا.
وهذا الدين قال: يمكن أن تتسع غرفة - متران فى ثلاثة أمتار - لرجل وامرأة على غير دينه تكون يهودية أو نصرانية !!
فإذا اتسعت حجرة لدينين أفلا تتسع الأرض الفضاء لدينين؟!
■ الاستعمار الثقافي:
مشى الإسلام فى بلدنا على هذا النحو يعيش بسماحته، ويعيش بقدرته الذاتية على الحياة، إلى أن نكب بالاستعمار الأوربى، وحدث ما حدث فى تاريخ يطول، ثم بدأنا ننتعش ونعود، لكننا عندما حاولنا أن نعود وجدنا الاستعمار قد نكبنا بنكبتين من لونين مختلفين!!.
فى عهد مضى نكبنا بالمادية الحيوانية، والمادية الحيوانية فلسفة تجعل الشباب يعيشون بحثا عن الشهوات، تجعل الناس يكدحون لمأرب خسيس أو غرض قريب، المادية الحيوانية تجعل العيش فى الأرض للأرض، وهى مادية قصد بها تكوين جيل مقطوع عن دينه يبحث عن الأهواء والدنايا فقط !!.
وقاومنا هذه المادية مقاومة نجحنا فيها حينا وفشلنا فيها حينا، ثم جاءت مادية أخرى هى المادية الجدلية الحمراء، هى مادية تجعل الناس يفتحون أفواههم بوقاحة يقولون: لا ألوهية والحياة مادة !! لكن شاء الله أن يتلاشى هذا الزحف، وأن يتضعضع ويضطرب. عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952م كانت قلوب الناس أجمعين معها، لماذا؟ كان القادة يرفعون المصاحف، وكانوا تحت علم مكتوب عليه: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) .
وكان العمل للعروبة والإسلام واضحا فى هذه الخطط، ثم شاء الله أن تسرق الثورة !! وأن تجىء مراكز قوة تنال من ديننا، ومن عقلنا، ومن تفكيرنا، وبدأت المادية بألوانها تنضح علينا من كل ناحية حتى ظن أن الصلاة جريمة وأن الاتصال بالله منكر وأن العودة إلى الإسلام طريق الهلاك !.
■ الاعتصام بالدين:
أيها المسلمون: الذى أريد أن أقوله بعد هذه السياحة التاريخية المتقطعة :
إن التمسك بالدين ضرورة حياة لكم ، وإن الذى يتصور التمسك بالدين طريقا إلى السجن مخطئ جدا، وإن الذى يتصور التمسك بالدين طريقا إلى السجن، ثم يترك دينه فهو مجرم !! فالسجن أولى من ترك الدين !!.
ومع هذا فنحن لا نقول ما قال يوسف: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) ، فإننا لا ندعى الآن إلى منكر، لا ندعى الآن إلى ضلالة، إننى أهيب بالشباب، بالجيل الناشئ ألا يهاب العودة إلى دينه، أن يكون جريئا فى التمسك بإيمانه وانطلاقه تحت راية التوحيد، غير متهيب ولا متوجس، ولا قلق ولا جزوع، يجب أن يعلم أن راية الإيمان لابد أن تمشى القوافل تحتها حثيثة كثيفة لا تخاف ولا تخشى.
ثم أقول للمسلمين شيئا آخر: إن الضعيف لا يقويه أن يهدم غيره، إن الضعيف سيبقى ضعيفا ، ولو أن غيره تلاشى من الأرض، ولو أن أعداء الإسلام اختفوا جميعا من هذه الدنيا وبقى المسلمون على الوضع الذى هم عليه الآن نظريا ونفسيا وخلقيا فإن الأرض لا تصلح بهم ولا يستحقون التمكين فيها !!. إنني أقول للمسلمين استرجعوا دينكم بحقائقه، عيب أن يكون الشباب المسلم أو الطالب المسلم متأخرا فى ثقافته أو فى دراسته، وغيره قوى فى دراسته، أو فى معرفته وعلومه !!.
عيب أن يكون التاجر المسلم ضعيفا فى عمله، مضطربا فى أسلوبه، غاشا فى سلعه، ثم يحسد الآخرين إذا نجحوا أو تقدموا، لا، إن العقيدة تحتاج إلى خدمة من نوع جديد، حدث منذ بضع سنين لا تتجاوز الأصابع أن صدر أمر إلى المسيحيين فى القدس أن يشتروا الأرض من المسلمين.
كانت رغبة فى أن يوضع الطابع الصليبى على القدس القديمة، و بدأ ناس من المسلمين يبيعون دورهم، المتر الذى يساوى خمسين عرض عليهم فيه مائة، مئتان!! وقال المفتون يومئذ: إن المسلم الذى يبيع شبرا من أرضه يعتبر مرتدا لأن الشبر الذى يبيعه من أرضه يكون موطىء قدم لحملة صليبية جديدة على بلادنا.
ألا فليستيقظ المسلمون. إن يقظة المسلمين لا تعنى أكثر من أن يتمسكوا بدينهم، ويحترموا أخوتهم، ثم الآخرون ممن ليسوا على ديننا سوف يعيشون معنا كما عاشوا على امتداد القرون، لهم ما لنا وعليهم ما علينا !! بل ربما قلنا: " لهم ما لنا من الحقوق وأكثر !! وعليهم ما علينا من واجبات بل أقل " !!.
إننا نحن المسلمين ليس فى تاريخنا الطويل أننا أصحاب تعصب، ولكن فى تاريخنا الطويل أننا أصحاب طيبة قد تبلغ حد الغفلة والجهل!! أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) .
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد المصلحين . اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
■ لزوم الوحدة:
أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الأخوة أن بلدنا هذا يحتاج إلى مرحلة من الاستقرار، يمكن فيها أن يتم بناء على العقيدة والخلق، على الإيمان والشرف، على الإسلام ومبادئه وشرائعه .
نحن بحاجة إلى هذه الفترة، ووحدتنا الوطنية سلاح لنا، وأنا أخشى أن يكون أعداؤنا قد حرضوا البعض على أن يحدث أى تعكير لهذه الوحدة لحساب غيرنا لا لحسابنا، إن أى تعكير لهذه الوحدة الآن ليس لحسابنا، والذى يعكر هذه الوحدة معروف، لأنه يعمل لحساب الاستعمار الأجنبى!!.
إننا نوصيكم مشددين ألا يستفزكم أحد، وأن تضبطوا أعصابكم، وفى الوقت الذى أكلفكم فيه بضبط الأعصاب، وامتلاك النفس، أقول لكم: إن الوسائل التى تنجحون بها دينكم وتملكون بها السيادة على أرضكم فى أيديكم ولا تحتاج إلى مشقة طويلة ولا إلى جهد العباقرة، تحتاج إلى جهد الرجل العادى ، ويوم ينقص المسلمين جهد الرجل العادى لينجحوا فهم أهل لأن يضيعوا !! وهم أهل لأن يتلاشوا وتخلص الإنسانية منهم لأنهم ليسوا أهلا للحياة !!.
إن تماسك المسلمين لا يحتاج إلى عبقرية ، وإنما يحتاج إلى اليقظة العادية؟ إلى السيرة التى لا غفلة فيها ولا استكانة ولا فوضى ولا تواكل !!هذا ما ألفت النظر إليه.
" اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " .
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) .
عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . أقم الصلاة .
. ❝ ⏤أبو زكريا يحي بن شرف النووي
❞ مصر "سياحة تاريخية" خطبة للشيخ محمد الغزالي()
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير.
وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
■ الدين والحضارة:
أما بعد: فإن الله جل شأنه ذكر بلدنا هذا مصر فى مواطن كثيرة من كتابه العزيز، وهذا يشير إلى أن بلدنا هذا مصر قديم التاريخ موصول الحضارة، تعتبر المدنية التى نبتت على شاطئه من أعرق المدنيات على ظهر الأرض، ويبدو أن الحياة الرتيبة فى هذا الوادى، وأن الاستقرار الذى يصبغ جوه وأحواله عموما أعان على تكوين حضارة فى بلدنا هذا.. حضارة تغلغلت فى تاريخ الإنسانية وتركت أثرا واضحا نضح على ما حولها، وأفاد الآخرون منه إفادة غير منكورة .
وكانت الحضارة المصرية على الإجمال حضارة متدينة، يظهر أن تربة هذا الوادى لا يصلح فيها الإلحاد ولا يتشبث بها إلا الإيمان .
كان الناس فى أودية كثيرة من قارات الأرض يبحثون عن لقمة الخبز، وجهدهم أن يصلوا إليها ، فإذا وصلوا إليها استراحوا واطمأنوا، أما المصريون القدماء ، فكان جهدهم كيف يعبدون ربهم، كيف يرضونه جهدهم، كيف يؤمنون لقاءه يوم يلقونه، كيف يمهدون للدار الآخرة بالعمل الصالح فى هذه الدنيا .
ومع أن حضارة المصريين الأقدمين اختلط الإيمان فيها بين توحيد وتعديد، فإنها على الإجمال كما قلت لكم كانت حضارة متدينة، وكان الشرك فيها إن حدث فاستجابة للرأى السائد يومئذ فى الدنيا، وهو رأى يرفضه الإسلام بداهة.
هذا الرأى أساسه أن الاتصال بالله الواحد صعب وأنه لابد من وسطاء يمهدون له أو يوصلون إليه، وبداهة رفض الإسلام هذا المعنى لأنه أعطى كل امرئ الحق إذا عبد الله أن يقف بين يدى ربه يقول له: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم) ، وإذا أذنب أن يقف أمام ربه نادما مستغفرا بقوله: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) .
لكن أجيالا ضلت طريقها لم تحسن الصلة بالله، وكان المصريون الأقدمون عموما أهل توحيد حينا، وأهل تعديد حينا آخر،. وإن كان التوحيد قد غلب عليهم فى فترات كثيرة من حياتهم وتاريخهم.
■ المصريون والرومان:
ثم وقع شىء لابد أن يذكر، فقد هجم الرومان على مصر، وكان الرومان يومئذ وثنيين واحتلوا هذا البلد قرابة ستة قرون !!.
كانت مدة طويلة كليل الشتاء البارد المظلم، وكان مجىء الرومان إلى مصر فى موجة من موجات المد التى تجعل بعض الأجناس يستغل خصائصه، ويمتطى قواه كى يستعبد غيره ويستخلص لنفسه خيره، ويجعل من نفسه سيدا، ومن الناس عبيدا !!.
كان الرومان لما دخلوا مصر على هذا النحو، ووقعت أمور نذكرها .
فى أثناء احتلال الرومان لمصر ظهرت المسيحية، وقيل إن عيسى ابن مريم وأمه جاءا إلى بلدنا هذا، فارين من بطش الرومان، ومن ضغط حكامهم ، أو من عسف الحاكم هناك ومن ضغطه ، ورجع بعد أن نمى عوده، وأخذ يؤدى دعوته فى فلسطين.
لكن المصريين كانوا قد اعتنقوا النصرانية، ولما اعتنق المصريون النصرانية ضاق الرومان بهم، وغضبوا منهم؛ لآن الرومان عباد أصنام ؛ لأن الوثنية الرومانية كانت تصبغ الحكم صبغة شديدة، حاول الرومان أن يردوا المصريين عن المسيحية التى اعتنقوها ولكن المصريين أبوا وتشبثوا بدينهم الذى اختاروه لأنفسهم.
وبدأ عصر من العسف والطغيان والمذابح حتى قيل إنه ما من قرية فى مصر أو مدينة إلا سفك فيها الدم وكثر فيها القتلى !! .
أبى المصريون أن يتركوا الديانة النصرانية التى اختاروها لأنفسهم، وبدأ بهذا العصر الذى يسمى " عصر الشهداء " بدأ التاريخ المسيحى فى مصر، وهو تاريخ يشرف أهله؛ لأن أهله قاوموا عبادة الأصنام، ودفعوا ثمن المقاومة من دمهم وأبوا إباء شديدا أن يتحولوا عن التوحيد وعن الكتاب السماوى الذى جاءهم، ثم شاء الله بعد ذلك أن يدخل الرومان المسيحية !!.
ولكن الرومان لما دخلوا المسيحية دخلوها على نحو غريب، حتى قال بعض المفسرين: لا يدرى أتنصر الرومان أم ترومت النصرانية؟!. .
أيا ما كان الأمر فقد تحول الرومان إلى النصرانية واعتبرت الديانة الرسمية لهم، لكن المذهب أو الفهم الذى استقر الرومان عليه كان فهما آخر غير الفهم الذى استقر عند المصريين.
وحدث نزاع نظرى تحول إلى جدل مر، وإلى أخذ ورد طويلين، ئم رأى الرومان وعلى رأسهم هرقل أن يفرض المذهب الرومانى ومذهب الكنيسة الكاثوليكية على المصريين !!.
وهنا قاوم المصريون الرومان وبدأوا عصرا يشبه العصر الأول، عصر الاضطهاد، والاستشهاد، إلا أن هذا العصر الجديد لم يطل.
■ المصريون والإسلام:
فقد شاء الله أن يخرج من قلب جزيرة العرب مد إسلامي عريض انتشر فى أنحاء العالم انتشار السنا بعد ليل معتكر، انتشار الرحمة بعد عصر ملىء بالقسوة والمرارة!!.
ونال المصريين شىء من هذه الرحمة، فإذا عمرو بن العاص يقرع أبواب البلاد وهى فى حال منكرة من الاضطهاد والفوضى !!.
كان بطريرك الأقباط محبوسا ، وكان أخوه قد قتل بعد أن عذب بالنار، وكان رجلا بدينا فتقاطر دهنه على النار، ثم رمى به فى أمواج البحر الأبيض فمات غرقا .
لما دخل عمرو بن العاص عرض دينه عرضا عاديا !!
الناس لا تفهم كيف عرض عمرو الإسلام؟
إن الإسلام لا يعرض فى مجالس مناظرة، وهو فى مجالس المناظرة قادر على أن يقهر الخصم، وأن يعلن الدليل، ولكن الإسلام عرض نفسه حُكْما عادلا ومجتمعا فاضلا ، ونفوسا بلغ من صفائها وعفتها أن قال الرافعى فيها: " ربما خافت البنت على نفسها من أبيها، ولكنها لا تخاف على نفسها من الفاتح العربى المسلم "!!.
دخل الإسلام مصر حرية عقل وضمير، وتوازن مجتمع لا تطغى فيه طبقة على أخرى.
دخل الإسلام مصر، وأمام المسلمين قول نبيهم عليه الصلاة والسلام لهم:" إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع " .
دخل الإسلام مصر فكان أول ما محاه التعصب الدينى، وقال للأقباط: كنائسكم لكم تعبدون الله فيها على رأيكم وفهمكم لا يجبركم أحد على رأى أو على مذهب، أو على معتقد، وأطلق سراح البطريرك المحبوس حتى قيل: وأعان الأقباط فى بناء بعض الكنائس .
والعجيب أن عمرو بن العاص رضى الله عنه الذى دخل مصر فبنى هذا المسجد مسجد عمرو بن العاص للركع السجود، والذى أقام حكما ذوب فيه الفوارق بين الأجناس والألوان، عندما أخذت ابنه نشوة من نشوات النصر، أو نزوة من نزوات العرب، أو قوة من قوى الجاهلية فأساء إلى أحد الأقباط، وكان القبطى ماكرا لبيبا ، فذهب إلى الرجل الذى أرسل عَمْرا ، ذهب إلى عُمَر نفسه وشكى له !!
فجاء عمر صاحب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتلميذه، جاء بالقبطى المظلوم وبابن عمرو بن العاص ابن الحا كم وقال لعمرو: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.. !؟
ثم قال للقبطى: خذ حقك من ابن الأكرمين !!
ثم قال فى فترة من فترات الغضب لله: " لو شئت أدرت السوط على صلعة عمرو بن العاص !!.
هذا حكم النبوة، هذا حكم الإسلام .!!
كان الإسلام يومئذ عقيدة تعرض نفسها ، على أى شىء تعتمد؟ على صفاء حقائقها، على نضارة عقائدها وغزارة فضائلها، ووفرة المثل الرفيعة التى تدعو إليها.
والرجل يوم يكون صاحب ثروة طائلة من الصدق والشرف والرحمة والوفاء والعفة فإنه يطمئن إلى أن ثروته هذه ستوطئ له الأكناف، وتفتح له القلوب، وتضئ له النواصى.
ولذلك ما فكر الإسلام فى بلد دخله أن يقيد الحريات، لِمَ يقيدها؟ والحرية عونه الأول على غرس الإيمان وتصحيح المعتقد، ما فكر الإسلام يوما أن يقيم حكما استثنائيا، ولِمَ يقيمه؟ والعدالة هدفه، وهو يعلم أن الله عز وجل إنما ينصر أو يهزم بمقدار قوة الصلة به أو ضعف هذه الصلة.
ظل المسلمون الذين جاءوا إلى مصر وهم أربعة آلاف مع عمرو لحقهم عدد قليل بعد ذلك من الناس بعد أن قوضوا الحكم الروماني ، ظلوا على هذا النحو قلة، ولكن المصريين أخذوا يغلغلون البصر فى الدين الجديد، وفى المبادىء التى قام عليها، وبدأوا يدخلون فيه، وظل المصريون يدخلون فى الإسلام خلال القرن الأول، وخلال القرن الثانى ، ولم يتحول الإسلام فى مصر إلى كثرة فى السكان إلا فى القرن الثالث تقريبا !!، والأساس هو ما قلت لكم: دين لا يعرف قط إلا مخاطبة العقل الحر، وإيقاظ الضمير النائم ، وما يعتمد فى نشر مبادئه على عصا أو على إكراه.
■ نسل الفاتحين أم نسل السكان الأصليين؟:
يخطىء المسلمون فى مصر الآن خطأين: الخطأ الأول: أن عددا منهم لا أدرى أهو عدد كبير أم صغير؟، يقول بشىء من الغباء: إننا عرب، يقصد بذلك أنه نسل الفاتحين، هذا كذب، هذا كذب!! ولعل مركب النقص هو الذى يدفع إلى هذا الزعم !! فنحن فى الحقيقة أبناء المصريين الذين أسلموا !! ربما كان هناك عدد من أبناء العرب الذين وفدوا، لكن هذا العدد قليل !! أما الكثرة الكبرى من المصريين فهم أبناء المصريين الذين دخلوا فى الإسلام.
وعندما يقول المصريون إنهم أبناء الفاتحين يعطون غيرهم حجة مكذوبة أنهم أبناء مصر وأن غيرهم وافد وطارىء ، وهذا غير صحيح !! يجب أن نعرف الحقائق فإن أكثرنا غافل.
أريد أن أقول لكم: إن شيخ الأزهر العباسى المهدى كان أبوه قبطيا!! ويوجد بين أئمة المساجد الآن وبين مفتشى المساجد وبين علماء الأزهر رجال آباؤهم أو أجدادهم من الأقباط!!.
فالقول بأن المصريين أبناء الفاتحين غلط فاحش ما ينبغى أن يقال، هذا خطأ يرتكب !!.
■ فتح عربي أم تحرير إسلامي؟:
الخطأ الثانى: الذى يرتكبه المسلمون أنهم يسمون مجىء عمرو بن العاص الى مصر: الفتح العربى لمصر !!.
كان هذا التعبير سليما يوم كانت كلمة فتح تعنى شيئا آخر غير المفهوم الذى عرف به الآن فى العالم، فكلمة الفتح الآن تساوى الغزو، والحقيقة أن الوصف الدقيق لمجىء العرب إلى مصر هو تحرير العرب للمصريين!!.
الجيش الذى انطلق من المدينة عبأه أبناء محمد عليه الصلاة و السلام فى عقيدته، وحملوه راية التوحيد، لم ينطلق كى يُكره على إيمان، وإنما انطلق كى يحرر شعوبا مستعبدة أو كما قال أحد القادة لحاشية كسرى : تقولون: لم جئتم؟ " جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد " !!
لم نجيء لنستعبد الخلق، والدين لله ، هذا ما ينبغى أن يعرف، وهنا أريد أن أشرح هذا المعنى، وألقى الضوء عليه:
توجد الآن فى أفريقيا شعوب ترسف فى قيود الهوان مسروقة تحت الشمس !!
توجد شعوب تترنح تحت ضربات الأقوياء الذين ألهبوا الجلود بسياطهم، وكمموا الأفواه حتى لا تصيح من الألم !!.
توجد الآن فى جنوب أفريقيا وفى روديسيا، وفى مستعمرات البرتغال الثلاث فى وسط أفريقيا وغربها، وتوجد تحت راية حكومات مستقلة للأسف، توجد جماهير كثيفة تضرع إلى الله أن يرسل إليها من يفك الأغلال عنها، ومن يكسر أبواب السجون التى قبعت وراءها فهى لا تعرف فى قيودها وسجونها إلا الهوان والبأساء والضراء !!
لو أن جيشا ذهب إلى الملونين فى جنوب أفريقيا ليسقط الحكم القائم، ويقيم حكم مساواة ورشد، لو أن جيشا ذهب إلى مستعمرات المستعبدين تحت الحكم الكاثوليكى البرتغالى وأسقط الراية التى هناك، وأقام راية أخرى تعطى الملونين من الزنوج، والمظلومين من المسلمين الحقوق العادية للبشر العاديين، أيسمى هذا غزوا؟ أيسمى هذا فتحا استعماريا ؟ أيسمى هذا افتياتا على الأمم؟ !!.
إن العرب لما خرجوا من جزيرتهم إلى مصر أو الشام لم يخرجوا مستعمرين أو طلاب دنيا، لماذا؟ لأن طلب الدنيا فى دينهم على هذا النحو جريمة .
رجل قال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إنى أقف المواقف أريد وجه الله وأحب أن يُرى موطنى " ؟ فلم يرد عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئاً حتى نزلت هذه الآية (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) .
اعتبر الرياء شركا، اعتبر القتال طلبا للدنيا جريمة . وقال فى تعريف الجهاد: " من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله " .
هذا هو الإسلام، فالذين جاءوا إلى مصر أو ذهبوا إلى سوريا، ما جاءوا وما ذهبوا كى يقال: إنهم فتحوا أو إنهم غلبوا أو إنهم ملكوا.. لا .. لا، كانوا يعملون لله، ويؤدون حق الله ، وكانت الآخرة أحب إليهم من الدنيا، وكان الموت فى سبيل الله أحلى مذاقا فى أفواههم من أن يعودوا إلى زوجاتهم وأولادهم، كانوا أصحاب عقائد. وإذا حلا لبعض المستشرقين أن يتساءل ما الذى جاء بالعرب إلى أفريقيا أو إلى آسيا؟.
فلنقل له قبل ذلك: وما الذى جاء بالرومان إلى مصر، والى آسيا الصغرى، وإلى الشمال الأفريقى كله؟!.
قبل أن تسأل: ما الذى جاء بالعرب ليحرروا، إسأل نفسك ما الذى جاء بأجدادك هنا ليستعبدوا؟!. لا تقل لم جاء العرب مصر؟ سل نفسك أولا لم جاء الرومان مصر؟ إن المحرر لا يسأل عن فعله، وإنما يسأل المستعبد عما صنع !! ثم إن الجزية التى يتحدث البعض عنها ما كانت أكثر من توازن اقتصادى بين المسلمين وغيرهم.
كان المسلم مكلفا بدفع الزكاة، وكان مكلفا بدفع ما يقيم عدة الحرب، وجهاز القتال، ولم يكن أهل الذمة مكلفين لا بقتال ولا بمساهمة فى قتال ولا بالإعداد له بقرش ولا بدفع زكاة !!.
فإذا كان المسلمون سيأخذون القليل فى نظير أن ينهضوا هم بالحماية فأى عيب فى ذلك؟.
ويقول التاريخ: إن أبا عبيدة بن الجراح لما وصل إلى " حمص " وأخذ من أهلها الجزية أكرهته بعض العمليات العسكرية على أن ينسحب فقرر رد الجزية إلى الناس، فقالوا: ما هذا ؟.
لقد تعودوا أن الحكام يأخذون ولا يردون، تعودوا لحكام يغصبون ولا يعدلون، فوجدوا حاكما أخذ منهم بالأمس جنيها وهو يرده اليوم !!
فقال لهم: لقد أخذنا منكم هذه الجزية فى نظير أن ندفع عنكم أما إذ عجزنا عن الدفاع فلا يحق لنا أن نأخذها فقالوا لابى عبيدة: استبق المال معك، وسنقاتل الرومان معكم معشر العرب جنبا إلى جنب، فما عانينا من ظلمهم يجعلنا نتفق معكم على قتالهم !!.
إن التاريخ ملىء بالإشاعات الكاذبة، ومن الإشاعات التى روج المسلمون لها للأسف أن الإسلام دخل مع الفاتحين وأنه دين الفاتحين وهذا غير صحيح.
حمل الفاتحون العقيدة لكنهم ما فرضوها ولا أكرهوا أحدا عليها، وكان المسلمون قلة فى القرنين الأولين من الفتح،. ثم بدأوا يكونون كثرة بالاقتناع الفردى، ولا يجرؤ أحد أن يقول: إن المصريين أكرههم الإسلام على الدخول فيه، فإن المصريين وفق تاريخهم الثابت عنهم قاوموا الرومان، وقتلوا فى كل قرية، ولم يفرطوا فى دينهم، وقاتلوا الرومان مرة أخرى حتى جاء الفتح العربى فأنقذهم من بطشهم، فلم يدخلون فى الإسلام دون أن يسفك دم؟ إنما دخلوا لان الله شرح بالإسلام صدورهم !!.
فماذا كانت علاقة الإسلام بغيره من الديانات بعد أن أصبح دين الكثرة هنا؟.
المسلمون فى أرض الله كلها ناس طيبون وسمحاء، والتعصب لا يعرف طريقا إلى قلوبهم، والحروب الدينية التى جعلت سطح أوربا ملوثا بالدم مليئا بالفتن، هذه الحروب لا يعرفها العالم الإسلامي ، إن العالم الإسلامى عاش على فهم أنه يمكن أن يتعاون اثنان بينهما اختلاف دين على أمر ما !!.
وقد حدث أن النبى عليه الصلاة والسلام وهو يهاجر استأجر الدليل على الطريق استأجره مشركا.
وهذا الدين قال: يمكن أن تتسع غرفة متران فى ثلاثة أمتار لرجل وامرأة على غير دينه تكون يهودية أو نصرانية !!
فإذا اتسعت حجرة لدينين أفلا تتسع الأرض الفضاء لدينين؟!
■ الاستعمار الثقافي:
مشى الإسلام فى بلدنا على هذا النحو يعيش بسماحته، ويعيش بقدرته الذاتية على الحياة، إلى أن نكب بالاستعمار الأوربى، وحدث ما حدث فى تاريخ يطول، ثم بدأنا ننتعش ونعود، لكننا عندما حاولنا أن نعود وجدنا الاستعمار قد نكبنا بنكبتين من لونين مختلفين!!.
فى عهد مضى نكبنا بالمادية الحيوانية، والمادية الحيوانية فلسفة تجعل الشباب يعيشون بحثا عن الشهوات، تجعل الناس يكدحون لمأرب خسيس أو غرض قريب، المادية الحيوانية تجعل العيش فى الأرض للأرض، وهى مادية قصد بها تكوين جيل مقطوع عن دينه يبحث عن الأهواء والدنايا فقط !!.
وقاومنا هذه المادية مقاومة نجحنا فيها حينا وفشلنا فيها حينا، ثم جاءت مادية أخرى هى المادية الجدلية الحمراء، هى مادية تجعل الناس يفتحون أفواههم بوقاحة يقولون: لا ألوهية والحياة مادة !! لكن شاء الله أن يتلاشى هذا الزحف، وأن يتضعضع ويضطرب. عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952م كانت قلوب الناس أجمعين معها، لماذا؟ كان القادة يرفعون المصاحف، وكانوا تحت علم مكتوب عليه: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) .
وكان العمل للعروبة والإسلام واضحا فى هذه الخطط، ثم شاء الله أن تسرق الثورة !! وأن تجىء مراكز قوة تنال من ديننا، ومن عقلنا، ومن تفكيرنا، وبدأت المادية بألوانها تنضح علينا من كل ناحية حتى ظن أن الصلاة جريمة وأن الاتصال بالله منكر وأن العودة إلى الإسلام طريق الهلاك !.
■ الاعتصام بالدين:
أيها المسلمون: الذى أريد أن أقوله بعد هذه السياحة التاريخية المتقطعة :
إن التمسك بالدين ضرورة حياة لكم ، وإن الذى يتصور التمسك بالدين طريقا إلى السجن مخطئ جدا، وإن الذى يتصور التمسك بالدين طريقا إلى السجن، ثم يترك دينه فهو مجرم !! فالسجن أولى من ترك الدين !!.
ومع هذا فنحن لا نقول ما قال يوسف: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) ، فإننا لا ندعى الآن إلى منكر، لا ندعى الآن إلى ضلالة، إننى أهيب بالشباب، بالجيل الناشئ ألا يهاب العودة إلى دينه، أن يكون جريئا فى التمسك بإيمانه وانطلاقه تحت راية التوحيد، غير متهيب ولا متوجس، ولا قلق ولا جزوع، يجب أن يعلم أن راية الإيمان لابد أن تمشى القوافل تحتها حثيثة كثيفة لا تخاف ولا تخشى.
ثم أقول للمسلمين شيئا آخر: إن الضعيف لا يقويه أن يهدم غيره، إن الضعيف سيبقى ضعيفا ، ولو أن غيره تلاشى من الأرض، ولو أن أعداء الإسلام اختفوا جميعا من هذه الدنيا وبقى المسلمون على الوضع الذى هم عليه الآن نظريا ونفسيا وخلقيا فإن الأرض لا تصلح بهم ولا يستحقون التمكين فيها !!. إنني أقول للمسلمين استرجعوا دينكم بحقائقه، عيب أن يكون الشباب المسلم أو الطالب المسلم متأخرا فى ثقافته أو فى دراسته، وغيره قوى فى دراسته، أو فى معرفته وعلومه !!.
عيب أن يكون التاجر المسلم ضعيفا فى عمله، مضطربا فى أسلوبه، غاشا فى سلعه، ثم يحسد الآخرين إذا نجحوا أو تقدموا، لا، إن العقيدة تحتاج إلى خدمة من نوع جديد، حدث منذ بضع سنين لا تتجاوز الأصابع أن صدر أمر إلى المسيحيين فى القدس أن يشتروا الأرض من المسلمين.
كانت رغبة فى أن يوضع الطابع الصليبى على القدس القديمة، و بدأ ناس من المسلمين يبيعون دورهم، المتر الذى يساوى خمسين عرض عليهم فيه مائة، مئتان!! وقال المفتون يومئذ: إن المسلم الذى يبيع شبرا من أرضه يعتبر مرتدا لأن الشبر الذى يبيعه من أرضه يكون موطىء قدم لحملة صليبية جديدة على بلادنا.
ألا فليستيقظ المسلمون. إن يقظة المسلمين لا تعنى أكثر من أن يتمسكوا بدينهم، ويحترموا أخوتهم، ثم الآخرون ممن ليسوا على ديننا سوف يعيشون معنا كما عاشوا على امتداد القرون، لهم ما لنا وعليهم ما علينا !! بل ربما قلنا: " لهم ما لنا من الحقوق وأكثر !! وعليهم ما علينا من واجبات بل أقل " !!.
إننا نحن المسلمين ليس فى تاريخنا الطويل أننا أصحاب تعصب، ولكن فى تاريخنا الطويل أننا أصحاب طيبة قد تبلغ حد الغفلة والجهل!! أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله (..الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) .
وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول الله، إمام الأنبياء، وسيد المصلحين . اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
■ لزوم الوحدة:
أما بعد: عباد الله أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الأخوة أن بلدنا هذا يحتاج إلى مرحلة من الاستقرار، يمكن فيها أن يتم بناء على العقيدة والخلق، على الإيمان والشرف، على الإسلام ومبادئه وشرائعه .
نحن بحاجة إلى هذه الفترة، ووحدتنا الوطنية سلاح لنا، وأنا أخشى أن يكون أعداؤنا قد حرضوا البعض على أن يحدث أى تعكير لهذه الوحدة لحساب غيرنا لا لحسابنا، إن أى تعكير لهذه الوحدة الآن ليس لحسابنا، والذى يعكر هذه الوحدة معروف، لأنه يعمل لحساب الاستعمار الأجنبى!!.
إننا نوصيكم مشددين ألا يستفزكم أحد، وأن تضبطوا أعصابكم، وفى الوقت الذى أكلفكم فيه بضبط الأعصاب، وامتلاك النفس، أقول لكم: إن الوسائل التى تنجحون بها دينكم وتملكون بها السيادة على أرضكم فى أيديكم ولا تحتاج إلى مشقة طويلة ولا إلى جهد العباقرة، تحتاج إلى جهد الرجل العادى ، ويوم ينقص المسلمين جهد الرجل العادى لينجحوا فهم أهل لأن يضيعوا !! وهم أهل لأن يتلاشوا وتخلص الإنسانية منهم لأنهم ليسوا أهلا للحياة !!.
إن تماسك المسلمين لا يحتاج إلى عبقرية ، وإنما يحتاج إلى اليقظة العادية؟ إلى السيرة التى لا غفلة فيها ولا استكانة ولا فوضى ولا تواكل !!هذا ما ألفت النظر إليه.
" اللهم أصلح لنا ديننا الذى هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التى فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التى إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا فى كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر " .
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم) .
عباد الله : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) . أقم الصلاة .
. ❝
❞ الحرب على اللغة العربية ليس بالأمر المنتهي، لأنها في بداياتها حرب على الإسلام، وحرب على وحدة المسلمين.
اللغة العربية كانت لقبائل العرب، وكان ذكرها شعبيا تتلاقفها الألسن باللهج وتتأثر بالبيئة، وما حفظها من الإبادة غير اهتمام أهلها بالتدوين والتشعير بها، وكرمها الله تبارك وتعالى بجعلها اللغة التي تصلح لخاتم الرسالات، وليست أي رسالة، إنها رسالة للعالمين، فكسر حاجز القبيلة ليمتد ذكر اللغة العربية في جميع الألسن كلغة لمخاطبة الخالق، في الدعاء والصلاة والآذان والترتيل والحج وجميع الأحوال اليومية بدءا من الشهادتين، ولا يليق بما سبق ترجمة أو تحريف، فحُفظت بحفاظ المسلمين عليها. ولا من ينكر فضل الإسلام في انتشار اللغة العربية إلا جاحد.
أما مخطط القضاء عليها فهو مشروع تعدى الصهيونية او الامبريالية أو الصليبية او الاستردادية أو الاستعمار... إنما هو مخطط لوقف انتشار الإسلام الذي يتيح تعلم هذه اللغة وبالتالي استحواذها على الفكر البشري، مما يعيق التقدم الفاشي للغة المستعمر المسيطر.
لما لم تنجح الحرب الصليبية في الشرق والاستردادية في الغرب في الطمس النهائي للعربية، بدأ النظر للتفرقة الإسلامية بين العرب وغير العرب، وأظهر أهل الدسائس أنماطا من الثورة انتهت بتضعضع ثم سقوط الدولة العثمانية التي لم تتوقف عن التتوغل داخل الجسد الغربي، وأبرزها ثورة العروبة وشبح الوحدة العربية الذي لم ير منه العرب طرفا.
ثم جاء الاهتمام بالتراث والحضارات القديمة لجر الشعوب المسلمة نحو قوميتها الخاصة بماضيها قبل الإسلام، فأفاقت مومياءات الفراعنة وأساطير آلهة الشام والعراق، وارسلت ترانيم الشوق لأمجاد الفرس والهند والصين، وخلخلت حبال التمسك بالدين في إفريقيا بحملات التبشير والتنصير بل والإبادة والترقيق.
وإذ لم تجد بعد حروب الاسترداد دافعا نهض المستعمر ينفض غبار البربر في الغرب الإسلامي وصنع لهم لغة وثقافة ليدافعوا عن بقائها، غير أن هذا الطائل ما لبث تضعضع لما وجدت الحملات دحضا واستياء من البربر أنفسهم، فلما لم ينجح المخطط تماما كما نجح في تركيا تماما بتغيير لغة الكتابة وإيران وباكستان بنهضة لغة القبيلة، لجأت الآن الحملات للنهوض باللهجة المحلية، وإذ لم يكن ذلك كافيا لنزع اللغة العربية قامت بحركة انعكاسية وهي اعتبار اللهجة من افصح اللهجات، وبالتالي ضرورة اعتمادها في التعليم كلغة أم بدل الفصحى التي وضعوها في خانة اللغات الصعبة التعلم! فكان تناقضهم هذا محط سخرية من المغاربةوالموريطانيين بالخصوص باعتبارهم كانوا في معزل عن الحكم العثماني المتأخر، والجزائريين والليبيين والتونسيين باعتبارهم اهل وحدة تاريخية مغربية عربية إسلامية كانت لحمتها الإسلام لا العروبة، وكانت لغتها اللغة التي شاءها الله للمسلمين وهي اللغة العربية فلا ينفع سواها لغة لمسلم.
هذا التميز الذي عرفته دول المغرب العربي، جعلت من انتمائه للعالم العربي عنوة شوكة في حلق المستعمر الذي ناله وبال استعماره بعد الاستقلال، حيث لا يزال كل مغاربي يحط قدمه بالغرب يحمل على عاتقه رسالة نشر الإسلام في كل مكان يصل إليه سواء بمشيئته أو دونها، بفضل حرصهم على تحبيب الإسلام للرجل والمرأة الأجنبي، ونرى جليا ثمار ذلك في المجتمعات الغربية، واي باحث في انتشار الإسلام يعلم بذلك.
خلاصة القول، زوال اللغة العربية من المحال، فزوالها يعني زوال الإسلام، حتى لو بقي مسلم واحد على الأرض ولو كان من أقصى شمالها او جنوبها، فلسانه لن يفارق العربية وإلا فإسلامه لن يصح وعبادته لن تقبل ودعاؤه غيب وصوله، وما من صاحب دين قد يتخلى عن اللغة التي يتواصل بها مع إلهه حتى لو كان وثنيا. أما أن تأتي اللهجة مكان اللغة فذلك ضرب جنون رغم التجاوزات التي تسمح بها بعض الدول كمصر مثلا، والمستهدفة بالأساس لاعتبارات العدد والعدة، فالمحروسة بلد طباعة الكتب ونشر الثقافة العربية، وقبول حكومتها بنشر اللهجة ككلام عربي داخل دفوف الورق، ونشرها في كل العالم العربي وبعضها للغرب، فهذا يضر باللغة الفصحى، ويوحي لأجيال قادمة مستهدفة أن تلك السقطات اللهجية إنما هي من فصيح اللسان، وهذا أسوء من الاعتراف بكونها من العامي.
إن لاهتمام باللغة العربية وتدوينها أمر ضروري، لكن الاهتمام بتداولها بالألسن وتناقلها للأجيال بكل الوسائل المتاحة فذاك هو الجهاد الحق الذي على كل منظمة تهتم بالدفاع عن اللغة العربية أن تضعه صوب ناظريها بالأساس وقبل كل شيء. اللغة العربية بدأت على اللسان، ولا بد أن تبقى عليه، أما السطور فحربها غير ذلك، هي حرب مناهج تعليم ونشر كتب وكتابات ونقل وتحريف وتغاض عن أخطاء أقل ما يقال عنها الفداحة.
#سهر لقماري
المملكة المغربية
#الرابطة العالمية للدفاع عن اللغة العربية. ❝ ⏤سهر لقماري
❞ الحرب على اللغة العربية ليس بالأمر المنتهي، لأنها في بداياتها حرب على الإسلام، وحرب على وحدة المسلمين.
اللغة العربية كانت لقبائل العرب، وكان ذكرها شعبيا تتلاقفها الألسن باللهج وتتأثر بالبيئة، وما حفظها من الإبادة غير اهتمام أهلها بالتدوين والتشعير بها، وكرمها الله تبارك وتعالى بجعلها اللغة التي تصلح لخاتم الرسالات، وليست أي رسالة، إنها رسالة للعالمين، فكسر حاجز القبيلة ليمتد ذكر اللغة العربية في جميع الألسن كلغة لمخاطبة الخالق، في الدعاء والصلاة والآذان والترتيل والحج وجميع الأحوال اليومية بدءا من الشهادتين، ولا يليق بما سبق ترجمة أو تحريف، فحُفظت بحفاظ المسلمين عليها. ولا من ينكر فضل الإسلام في انتشار اللغة العربية إلا جاحد.
أما مخطط القضاء عليها فهو مشروع تعدى الصهيونية او الامبريالية أو الصليبية او الاستردادية أو الاستعمار... إنما هو مخطط لوقف انتشار الإسلام الذي يتيح تعلم هذه اللغة وبالتالي استحواذها على الفكر البشري، مما يعيق التقدم الفاشي للغة المستعمر المسيطر.
لما لم تنجح الحرب الصليبية في الشرق والاستردادية في الغرب في الطمس النهائي للعربية، بدأ النظر للتفرقة الإسلامية بين العرب وغير العرب، وأظهر أهل الدسائس أنماطا من الثورة انتهت بتضعضع ثم سقوط الدولة العثمانية التي لم تتوقف عن التتوغل داخل الجسد الغربي، وأبرزها ثورة العروبة وشبح الوحدة العربية الذي لم ير منه العرب طرفا.
ثم جاء الاهتمام بالتراث والحضارات القديمة لجر الشعوب المسلمة نحو قوميتها الخاصة بماضيها قبل الإسلام، فأفاقت مومياءات الفراعنة وأساطير آلهة الشام والعراق، وارسلت ترانيم الشوق لأمجاد الفرس والهند والصين، وخلخلت حبال التمسك بالدين في إفريقيا بحملات التبشير والتنصير بل والإبادة والترقيق.
وإذ لم تجد بعد حروب الاسترداد دافعا نهض المستعمر ينفض غبار البربر في الغرب الإسلامي وصنع لهم لغة وثقافة ليدافعوا عن بقائها، غير أن هذا الطائل ما لبث تضعضع لما وجدت الحملات دحضا واستياء من البربر أنفسهم، فلما لم ينجح المخطط تماما كما نجح في تركيا تماما بتغيير لغة الكتابة وإيران وباكستان بنهضة لغة القبيلة، لجأت الآن الحملات للنهوض باللهجة المحلية، وإذ لم يكن ذلك كافيا لنزع اللغة العربية قامت بحركة انعكاسية وهي اعتبار اللهجة من افصح اللهجات، وبالتالي ضرورة اعتمادها في التعليم كلغة أم بدل الفصحى التي وضعوها في خانة اللغات الصعبة التعلم! فكان تناقضهم هذا محط سخرية من المغاربةوالموريطانيين بالخصوص باعتبارهم كانوا في معزل عن الحكم العثماني المتأخر، والجزائريين والليبيين والتونسيين باعتبارهم اهل وحدة تاريخية مغربية عربية إسلامية كانت لحمتها الإسلام لا العروبة، وكانت لغتها اللغة التي شاءها الله للمسلمين وهي اللغة العربية فلا ينفع سواها لغة لمسلم.
هذا التميز الذي عرفته دول المغرب العربي، جعلت من انتمائه للعالم العربي عنوة شوكة في حلق المستعمر الذي ناله وبال استعماره بعد الاستقلال، حيث لا يزال كل مغاربي يحط قدمه بالغرب يحمل على عاتقه رسالة نشر الإسلام في كل مكان يصل إليه سواء بمشيئته أو دونها، بفضل حرصهم على تحبيب الإسلام للرجل والمرأة الأجنبي، ونرى جليا ثمار ذلك في المجتمعات الغربية، واي باحث في انتشار الإسلام يعلم بذلك.
خلاصة القول، زوال اللغة العربية من المحال، فزوالها يعني زوال الإسلام، حتى لو بقي مسلم واحد على الأرض ولو كان من أقصى شمالها او جنوبها، فلسانه لن يفارق العربية وإلا فإسلامه لن يصح وعبادته لن تقبل ودعاؤه غيب وصوله، وما من صاحب دين قد يتخلى عن اللغة التي يتواصل بها مع إلهه حتى لو كان وثنيا. أما أن تأتي اللهجة مكان اللغة فذلك ضرب جنون رغم التجاوزات التي تسمح بها بعض الدول كمصر مثلا، والمستهدفة بالأساس لاعتبارات العدد والعدة، فالمحروسة بلد طباعة الكتب ونشر الثقافة العربية، وقبول حكومتها بنشر اللهجة ككلام عربي داخل دفوف الورق، ونشرها في كل العالم العربي وبعضها للغرب، فهذا يضر باللغة الفصحى، ويوحي لأجيال قادمة مستهدفة أن تلك السقطات اللهجية إنما هي من فصيح اللسان، وهذا أسوء من الاعتراف بكونها من العامي.
إن لاهتمام باللغة العربية وتدوينها أمر ضروري، لكن الاهتمام بتداولها بالألسن وتناقلها للأجيال بكل الوسائل المتاحة فذاك هو الجهاد الحق الذي على كل منظمة تهتم بالدفاع عن اللغة العربية أن تضعه صوب ناظريها بالأساس وقبل كل شيء. اللغة العربية بدأت على اللسان، ولا بد أن تبقى عليه، أما السطور فحربها غير ذلك، هي حرب مناهج تعليم ونشر كتب وكتابات ونقل وتحريف وتغاض عن أخطاء أقل ما يقال عنها الفداحة.
سهر لقماري
المملكة المغربية
الرابطة العالمية للدفاع عن اللغة العربية . ❝