❞ اقتباس من الرواية
وفَجْأة انتشر ضباب حولي وملأ المكان، وشعرت أن روحي انفصلت عن جسدي ورأيت شخصا شبهي، وهو قريني ينظر إلي ويقول:
- أفق لا تستمع لظلال الكاذب، أنت لا تنتمي لهنا، أفق أنت لديك قوة عظيمة، هم يهابونك من أجلها ويريدون تحطيمك، أفق وافتح عينيك وانظر إلى حقيقتك وقوتك، أفق ولا تخف من النار إنها مصدر قوتك، أفق لا تخف من النار.
وفجأة شعرت أن روحي ردت إلى جسدي مرة ثانية وبدأت أردد الطلاسم بصوت عال وبقوة، وردتها مرات متتالية: (إلى نجمة الشمال، إلى أقصى البلاد، سيأتي الموعود الذي يهاب منه الظالم ويشفق عليه المظلوم ويحرر الأرواح السبع المقيدة بأغلال الحاكم الظالم وبطلاسم نجمة داود التي ملكت القوه إلى وريثه، الظلم الذي سوف يحررها ويكسر أغلال الخوف)
وبدأ البيت يهتز بشكل مخيف مثل الزلزال والسلسال بدأ ينير إضاءة عالية ويطير لأعلى، وشعرت بسخونة عالية، وفجأة فتح باب ونار بدأت تخرج منه وتسحب الأرواح والأشباح الشريرة التي تسكن المنزل، وصوت صراخ عال يخرج، ومنهم أيضا ظلال بدأ يتحول لرماد ويقول: ˝كيف ذلك؟ لم يكن هذا اتفاقنا أن أدخل باب الجحيم، لن أتركك يا غالية أبدا˝، ثم ظهر ضوء أبيض يضيء المكان وأرواح تصعد لأعلى في سعادة وكانت شيماء بينهم وقالت: ˝شكرا لك لقد لبيت ما أتيت إليه˝، وبعد ذلك عاد المنزل في هدوء تام وبدأ ضوء الشمس يتغلغل فيه وأنا كنت في حالة من الضياع والتشتت لا أعرف من الصادق، من أنا؟
#أسماء_يمانى
#السلسال_الملعون. ❝ ⏤أسماء يماني
❞ اقتباس من الرواية
وفَجْأة انتشر ضباب حولي وملأ المكان، وشعرت أن روحي انفصلت عن جسدي ورأيت شخصا شبهي، وهو قريني ينظر إلي ويقول:
- أفق لا تستمع لظلال الكاذب، أنت لا تنتمي لهنا، أفق أنت لديك قوة عظيمة، هم يهابونك من أجلها ويريدون تحطيمك، أفق وافتح عينيك وانظر إلى حقيقتك وقوتك، أفق ولا تخف من النار إنها مصدر قوتك، أفق لا تخف من النار.
وفجأة شعرت أن روحي ردت إلى جسدي مرة ثانية وبدأت أردد الطلاسم بصوت عال وبقوة، وردتها مرات متتالية: (إلى نجمة الشمال، إلى أقصى البلاد، سيأتي الموعود الذي يهاب منه الظالم ويشفق عليه المظلوم ويحرر الأرواح السبع المقيدة بأغلال الحاكم الظالم وبطلاسم نجمة داود التي ملكت القوه إلى وريثه، الظلم الذي سوف يحررها ويكسر أغلال الخوف)
وبدأ البيت يهتز بشكل مخيف مثل الزلزال والسلسال بدأ ينير إضاءة عالية ويطير لأعلى، وشعرت بسخونة عالية، وفجأة فتح باب ونار بدأت تخرج منه وتسحب الأرواح والأشباح الشريرة التي تسكن المنزل، وصوت صراخ عال يخرج، ومنهم أيضا ظلال بدأ يتحول لرماد ويقول: ˝كيف ذلك؟ لم يكن هذا اتفاقنا أن أدخل باب الجحيم، لن أتركك يا غالية أبدا˝، ثم ظهر ضوء أبيض يضيء المكان وأرواح تصعد لأعلى في سعادة وكانت شيماء بينهم وقالت: ˝شكرا لك لقد لبيت ما أتيت إليه˝، وبعد ذلك عاد المنزل في هدوء تام وبدأ ضوء الشمس يتغلغل فيه وأنا كنت في حالة من الضياع والتشتت لا أعرف من الصادق، من أنا؟
#أسماء_يمانى #السلسال_الملعون. ❝
❞ الحياة فى ارض الضباب عدة اعوام ينفق فيها ما كسبة من مال ياكل الطعمية فى اكسفورد ستريت ويدخن الشيشة ويتواجد مع تجمعات المصريين وتكون هذة علامة انة ابن بلد اصيل ثم يظهر فى التلفزيون بعد عدة اعوام ليبكى قائلا انة يفتقد مصر ام الدنيا فعلا. ❝ ⏤أحمد خالد توفيق
❞ الحياة فى ارض الضباب عدة اعوام ينفق فيها ما كسبة من مال ياكل الطعمية فى اكسفورد ستريت ويدخن الشيشة ويتواجد مع تجمعات المصريين وتكون هذة علامة انة ابن بلد اصيل ثم يظهر فى التلفزيون بعد عدة اعوام ليبكى قائلا انة يفتقد مصر ام الدنيا فعلا. ❝
❞ اللامبالاة التامة هي موضوع حكاياتنا الغريبه هذه الليلة وبطلها اذكى رجل في العالم ! ...
مدير السجن الحربي الذي كان يعذب المسجونين وينزع أظافرهم ، ويعلقهم من أرجلهم ، ويطلق عليهم الكلاب الوحشية ، ويطفئ سجائره في المواطن الحساسة من اجسامهم .. مات في حادث سيارة على طريق مصر إسكندرية الزراعي اصطدم بعربة نقل تحمل أسياخا حديدية .. دخلت الأسياخ في قلبه وخرجت من ظهره انتقل الى الآخره مرشوقا في هذه الأسياخ ..
والرجل الذي كان يحمل نعش أبيه في الطريق إلى المدافن ويتشاجر على الميراث سقط في الحفرة التي وضع فيها أبوه فاقد النطق ومات الى جواره بسكته قلبية .
والمرأة التي اعتادت على تعاطي الحشيش لتطيل الذة ماتت تحت رجل آخر غير زوجها .. طالت بها الغيبوبة وخرجت من الدنيا إلى اللّه دون توبة .
والذين قفزوا من السفينة الغارقة ماتوا وأكلتهم قروش البحر والعجوز ذو المائة سنة المريض بالسكر والضغط والذبحة الذي لم تسعفه قدماه فى اللحاق بهم والقفز معهم بقى ملقي في قاع السفينة حتى جاءه النجدة وأنقذواه .
وجراح السرطان الموهوب قتل ابنه خطأ في علمية تافهة أتفه من خراج .
والإسكندر الأكبر قتلته بعوضه في بابل .
وفي سنه ١٩ قتل فيروس متناه في الصغار لا يرى بالعين ولا بالمجهر .. عشرين مليونا بالانفلونزا ..
إنه صاحب الجلالة الموت .
أقرب إلى كل منا من ظله .. بل أقرب إلى الواحد من نطقه .. و أقرب اليه من نفسه التي بين جنبيه .
يجري في الدم واللعاب والنبض ويسكن النخاع .
كل منا يحمل نعشه على كتفيه ، ويسير كراقص على حبل لا يعلم متى يسقط ولكنه لابد ان يسقط لأن كل الذين سبقوه قد سقطوا .
ياسادتي الارض مغطاة برفات الموت .
وتحت القاهره ثلاث مدن وثلاثة عصور نمشي ونرقص على رفاتها وجماجمها .
وغدا يمشي الاحفاد على ترابنا ، في لا مبالاة تامة وكل منهم مشغول بحاله ملفوف في همومه .
نعم إنها تلك اللامبالاة التامة يا سادتي هي التي تثير الدهشة .
تلك الحالة الذاتية التي تلف الواحد منا و تغلفه وتطمس سمعه و بصره وبصيرته ، فلا يرى الموت تحت قدميه فهو يبكي من الحب او يخطط لسرقة ، أو يتآمر على قتل في هدوء عجيب وثقة وكانه يعيش وحده ، وكأن العالم غرفته الخاصه يتصرف فيها على هواه ، وكانه خالد مخلد لا يموت ؛ بل انه يخطط لموت الآخرين ولا يخطر موته هو على باله لحظة واحدة .
نعم يا سادة تلك الغفلة واللامبالاة التامة هي موضوع حكاياتنا الغريبه هذه الليلة وبطلها اذكى رجل في العالم .
وحينما تعرفون كيف أصبح مليونيراً سوف توافقون معي على انه أذكي رجل في العالم بالفعل .
ولندعه ويحكي بنفسه بداية القصة .
كان ذلك في الصيف ١٩٥٠ حينما رست في ميناء الإسكندرية سفينة محملة بمخلفات الجيش .
وصعد السماسرة وتجار المخلفات على سطحها ، ليفاجأوا بأن كل حمولتها أحذية .. نصف مليون حذاء .. كلها فرد يمين .. أي أنها لا تنفع بشـيء ولن يشتريها احد بمليم .
ورفض تاجر واحد ان يمد يده ليشتريها .
وابتدأ المزاد من الصفر وظل واقفاً عند الصفر .
وحيئذ تقدمت انا واشتريت الحموله كلها بجنيهات قليلة ، وأنا أتصور أني ألقى بهذه الجنيهات في البحر .. وأقول لنفسي .. ربما تظهر لها منفعة في المستقبل .. وأضحك وانا أتذكر مقالا قرأته بان هناك نوع من البيرة يصنع من من منقوع الصرم القديمة .
والقيت بها في المخزن .
ومر أسبوعان بالضبط .
وفي يوم ثلاثاء كنت أقف على رصيف الميناء .. وكانت هناك سفينة مخلفات ترسو ..
وصعدنا على سطحها لنفاجأ بأن الحامولة كلها أحذية .. نصف مليون حذاء كلها .. فردة شمال .. الجزء المفقود من الصفقة الماضية ولم يتقدم احد للشراء .. فمَنْ يشترى نصف مليون حذاء كلها فردة واحدة .. ولم يعقد مزاد .
وكنت انا الشاري الوحيد الذي التي رست عليه البيعة بجنيهات قليلة .
وهكذا اصبحت مليونيراً في لحظة وبدون جهد ولا عمل وانما بخبطة حظ قلما يجود بمثلها الزمان .
وهكذا يا ساده بدأ أذكى رجل في العالم حياته .
ولأن الثروة جاءته بلا جهد وبلا عرق .. ولأنها جاءته على شباب وصحة وفراغ .. فإنه كان طبيعيا أن يلهو و يلعب و يرخي الحبل لهواه .
وعرف النوعيات الهابطة من النساء .
وعرف السهرات المبتذلة .
ولكنه كان دائما الرجل الذكي القوي الذي يعرف كيف ومتى ينخفض عن نفسه تلك النوعيات الطفيلية ، ومتى ينبذ اللهو ويفيق ليعاود العمل في همة ونشاط .
ولكن الاقوياء لا يظلون اقوياء دائماً .
وفي كل إنسان ثغرة ! .
حتى اذكى الأذكياء لا يسلم من ضعف ، يمكن ان يتسلل منه الإغراء وتدخل الفتنه .
ودعوه يحكي بنفسه بقية القصة :
كنت أعيش في خفة لا أحمل همـًا لغـد ولا ألقي بالا لشيء .. كل ما أتمناه أجده .. وكل ما احلم به أحققه بالحيلة أو الذكاء ، أو بالمكر أو بالمال .
وكان كل شيء حولي قابلا للشراء ، وقابلا للمساومة وكانت الدنيا كلها رخيصة في متناول اليد .
حتى التقيت بها في حفل السفارة .
امرأة دقيقة التكوين ، نحيلة كشـبح ، ناعمة ، حريرية ، مشعة ، صوتها هامس يتسلل إلى ما تحت الجلد ، ويسكن العظم .
وعقلها حاد متألق .
وشخصيتها مزيج عجيب من الثقافات والمواهب .
وروحها مغناطيسية .
وكأنما حولها مجال غير منظور إذا وقعت في نطاق جاذبيته لا تستطيع أن تبرحه ، وإنما تظل تدور وتدور فيه كما تدور الأقمار حول النجوم .
وقد رأيت نفسي ادور حولها فلا أستطيع الإفلات .
و رايت نفسي سائراً إلى إحدى نهايتين : أن أقترن بها أو أحترق فيها .
ولكنها متزوجة .. وزوجها يعبدها ولن يطلقها بحال .
وهي لا تحبه و لكنها لا تملك ان تطلق نفسها منه .
وضاقت دنياي الواسعة حتى أصبحت زنزانة .
و فارقتني قوتي .
و هجرنى ذكائي .
و بكيت كطفل .
و عشت لحظات كالمجنون .
كانت تقول لي : نهـرب .
ثم مع الوقت والعادة أصبحت هذه الكلمات المجنونة هي العقل والمعقول بالنسبه لنا .
أصبحنا نرى بقية العالم مجانين ، لأنه لا يرى ما نراه .
و اصبحنا نرى الدنيا مسكناً للبلادة والخمول والغباء والسخف ، ولم نعد نجد لانفسنا مكاناً في هذه الدنيا .
وبدات تختمر في ذهني فكرة الهجرة والهرب بها .
وكانت لي أعمال في السودان و كينيا و أوغندا .
و رأيت نفسي ذات ليلة و دون أن أدري أخرج بها بجواز سفر مزور طائراً إلى السودان .. و من السودان إلى كينيا .
وقضينا شهر العسل في نيروبي بين مغاني الغابه العذراء وتحت استوائيه وتغرد فيها العصافير الملونه وترقص الفراشات .
كان هذا يا سادة هو الفصل الثاني من قصة اذكى رجل في العالم .
ودعوني احكي لكم الفصل الثالث والختامي وكانت رحلة شاعرية ، خرج فيها العشيقان لقضاء الويك اند على شاطئ بحيرة " ليك مانيارا " في فندق البامبو الجميل .. وفي احد المفاتن الذي يقصده اصحاب الملايين واهل الفن والذوق للاستمتاع بالموسيقى والحب والرقص والطعام الشهي ، و الخمر الجيدة في بيئة طبيعية ساحرة تمرح فيها الوحوش والغزلان .
والطريق إلي " ليك مانيارا " تصعد في السيارة جبالا شاهقة .. وقممـًا معممة بالضباب .
وكان صاحبنا يقود السيارة وهو يصفر بفمه لحنـًا شعبيـًا ويحتضن محبوبته ، ويشير الى الخور السحيق الذي يهوى إليه البصر في جانب الطريق .. في أقصى القاع يفترش الأرض دغل طبيعي من نباتات وحشيه ذات تلافيف متعانقة متشابكة ، في معترك من الأغصان والأوراق والازهار تتوه في العين فلا تبين أرضـًا .. وإنما خضرة متكاتفة علي خضرة .
منظر خلاب آخاذ يصيب الرأس بالدوار .
وقد دارت رأس الاثنين بخمرة النظر وذابا حبا .
والتقت الشفاه على ارتفاع تسعة آلاف قدم ، وسقطت العربة في حفرة وفي لحظة خاطفة كانت تتدحرج في الخور كالقذيفة .
وبعد دقيقة كانت تستقر في القاع محطمة .
أما هو فكان راقداً في وعيه ولكـن بلا حراك بسبب كسور في عظام الحوض .
أما هي فكانت تهمس وتتلوي ثم تفقد الوعي بسبب النزيف .
ثم تعود في فتفيق فتعود إلى الهمس المخنوق والتأوه وكان سقوطهمـا وسط مسـتعمره للنمـل الأحمـر .
وزحفـت عليهمـا جيـوش النمـل .
نعم يا سادة اكلهمـا النمـل وهم أحياء فاقدا الحراك ينظر كل منهما إلى الآخر ولا يقوى على الصراخ .. ولا يقوى على الدفاع عن نفسه .
وانتهت قصة أذكى رجل في العالم واجمل امرأه .
ولم يبقى اثر للقصة سوي ذلك الإعلان المتكرر في جميع الجرائد والذي ظل ينشر بالقاهرة ، على مدى اسابيع عن السيدة التي خرجت من بيتها ولم تعد ومعه نشرة كاملة بأوصافها .. بيضاء ، نحيلة ، سوداء الشعر ، زرقاء العينين في جاكيت وبنطلون من القطيفه السوداء وكرافات تركواز ، وعلى من يتعرف عليها الاتصال بالتليفون كذا .
وكان القراء يقرؤون الإعلان كل يوم .. ولم يكون أحد منهم يعلم أنها أصبحت هي وصاحبها فتاتـًا في بطن ستمائة الف نملـة من النمـل الأحمـر ، في وسط افريقيا الاستوائية .
إنه صاحب الجلالة الموت .
و الكـل فـی غفلـة .
د/ مصطفى محمود رحمهُ اللَّه
من كتاب / المسيـخ الدجـال. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ اللامبالاة التامة هي موضوع حكاياتنا الغريبه هذه الليلة وبطلها اذكى رجل في العالم ! ..
مدير السجن الحربي الذي كان يعذب المسجونين وينزع أظافرهم ، ويعلقهم من أرجلهم ، ويطلق عليهم الكلاب الوحشية ، ويطفئ سجائره في المواطن الحساسة من اجسامهم . مات في حادث سيارة على طريق مصر إسكندرية الزراعي اصطدم بعربة نقل تحمل أسياخا حديدية . دخلت الأسياخ في قلبه وخرجت من ظهره انتقل الى الآخره مرشوقا في هذه الأسياخ .
والرجل الذي كان يحمل نعش أبيه في الطريق إلى المدافن ويتشاجر على الميراث سقط في الحفرة التي وضع فيها أبوه فاقد النطق ومات الى جواره بسكته قلبية .
والمرأة التي اعتادت على تعاطي الحشيش لتطيل الذة ماتت تحت رجل آخر غير زوجها . طالت بها الغيبوبة وخرجت من الدنيا إلى اللّه دون توبة .
والذين قفزوا من السفينة الغارقة ماتوا وأكلتهم قروش البحر والعجوز ذو المائة سنة المريض بالسكر والضغط والذبحة الذي لم تسعفه قدماه فى اللحاق بهم والقفز معهم بقى ملقي في قاع السفينة حتى جاءه النجدة وأنقذواه .
وجراح السرطان الموهوب قتل ابنه خطأ في علمية تافهة أتفه من خراج .
والإسكندر الأكبر قتلته بعوضه في بابل .
وفي سنه ١٩ قتل فيروس متناه في الصغار لا يرى بالعين ولا بالمجهر . عشرين مليونا بالانفلونزا .
إنه صاحب الجلالة الموت .
أقرب إلى كل منا من ظله . بل أقرب إلى الواحد من نطقه . و أقرب اليه من نفسه التي بين جنبيه .
يجري في الدم واللعاب والنبض ويسكن النخاع .
كل منا يحمل نعشه على كتفيه ، ويسير كراقص على حبل لا يعلم متى يسقط ولكنه لابد ان يسقط لأن كل الذين سبقوه قد سقطوا .
ياسادتي الارض مغطاة برفات الموت .
وتحت القاهره ثلاث مدن وثلاثة عصور نمشي ونرقص على رفاتها وجماجمها .
وغدا يمشي الاحفاد على ترابنا ، في لا مبالاة تامة وكل منهم مشغول بحاله ملفوف في همومه .
نعم إنها تلك اللامبالاة التامة يا سادتي هي التي تثير الدهشة .
تلك الحالة الذاتية التي تلف الواحد منا و تغلفه وتطمس سمعه و بصره وبصيرته ، فلا يرى الموت تحت قدميه فهو يبكي من الحب او يخطط لسرقة ، أو يتآمر على قتل في هدوء عجيب وثقة وكانه يعيش وحده ، وكأن العالم غرفته الخاصه يتصرف فيها على هواه ، وكانه خالد مخلد لا يموت ؛ بل انه يخطط لموت الآخرين ولا يخطر موته هو على باله لحظة واحدة .
نعم يا سادة تلك الغفلة واللامبالاة التامة هي موضوع حكاياتنا الغريبه هذه الليلة وبطلها اذكى رجل في العالم .
وحينما تعرفون كيف أصبح مليونيراً سوف توافقون معي على انه أذكي رجل في العالم بالفعل .
ولندعه ويحكي بنفسه بداية القصة .
كان ذلك في الصيف ١٩٥٠ حينما رست في ميناء الإسكندرية سفينة محملة بمخلفات الجيش .
وصعد السماسرة وتجار المخلفات على سطحها ، ليفاجأوا بأن كل حمولتها أحذية . نصف مليون حذاء . كلها فرد يمين . أي أنها لا تنفع بشـيء ولن يشتريها احد بمليم .
ورفض تاجر واحد ان يمد يده ليشتريها .
وابتدأ المزاد من الصفر وظل واقفاً عند الصفر .
وحيئذ تقدمت انا واشتريت الحموله كلها بجنيهات قليلة ، وأنا أتصور أني ألقى بهذه الجنيهات في البحر . وأقول لنفسي . ربما تظهر لها منفعة في المستقبل . وأضحك وانا أتذكر مقالا قرأته بان هناك نوع من البيرة يصنع من من منقوع الصرم القديمة .
والقيت بها في المخزن .
ومر أسبوعان بالضبط .
وفي يوم ثلاثاء كنت أقف على رصيف الميناء . وكانت هناك سفينة مخلفات ترسو .
وصعدنا على سطحها لنفاجأ بأن الحامولة كلها أحذية . نصف مليون حذاء كلها . فردة شمال . الجزء المفقود من الصفقة الماضية ولم يتقدم احد للشراء . فمَنْ يشترى نصف مليون حذاء كلها فردة واحدة . ولم يعقد مزاد .
وكنت انا الشاري الوحيد الذي التي رست عليه البيعة بجنيهات قليلة .
وهكذا اصبحت مليونيراً في لحظة وبدون جهد ولا عمل وانما بخبطة حظ قلما يجود بمثلها الزمان .
وهكذا يا ساده بدأ أذكى رجل في العالم حياته .
ولأن الثروة جاءته بلا جهد وبلا عرق . ولأنها جاءته على شباب وصحة وفراغ . فإنه كان طبيعيا أن يلهو و يلعب و يرخي الحبل لهواه .
وعرف النوعيات الهابطة من النساء .
وعرف السهرات المبتذلة .
ولكنه كان دائما الرجل الذكي القوي الذي يعرف كيف ومتى ينخفض عن نفسه تلك النوعيات الطفيلية ، ومتى ينبذ اللهو ويفيق ليعاود العمل في همة ونشاط .
ولكن الاقوياء لا يظلون اقوياء دائماً .
وفي كل إنسان ثغرة ! .
حتى اذكى الأذكياء لا يسلم من ضعف ، يمكن ان يتسلل منه الإغراء وتدخل الفتنه .
ودعوه يحكي بنفسه بقية القصة :
كنت أعيش في خفة لا أحمل همـًا لغـد ولا ألقي بالا لشيء . كل ما أتمناه أجده . وكل ما احلم به أحققه بالحيلة أو الذكاء ، أو بالمكر أو بالمال .
وكان كل شيء حولي قابلا للشراء ، وقابلا للمساومة وكانت الدنيا كلها رخيصة في متناول اليد .
حتى التقيت بها في حفل السفارة .
امرأة دقيقة التكوين ، نحيلة كشـبح ، ناعمة ، حريرية ، مشعة ، صوتها هامس يتسلل إلى ما تحت الجلد ، ويسكن العظم .
وعقلها حاد متألق .
وشخصيتها مزيج عجيب من الثقافات والمواهب .
وروحها مغناطيسية .
وكأنما حولها مجال غير منظور إذا وقعت في نطاق جاذبيته لا تستطيع أن تبرحه ، وإنما تظل تدور وتدور فيه كما تدور الأقمار حول النجوم .
وقد رأيت نفسي ادور حولها فلا أستطيع الإفلات .
و رايت نفسي سائراً إلى إحدى نهايتين : أن أقترن بها أو أحترق فيها .
ولكنها متزوجة . وزوجها يعبدها ولن يطلقها بحال .
وهي لا تحبه و لكنها لا تملك ان تطلق نفسها منه .
وضاقت دنياي الواسعة حتى أصبحت زنزانة .
و فارقتني قوتي .
و هجرنى ذكائي .
و بكيت كطفل .
و عشت لحظات كالمجنون .
كانت تقول لي : نهـرب .
ثم مع الوقت والعادة أصبحت هذه الكلمات المجنونة هي العقل والمعقول بالنسبه لنا .
أصبحنا نرى بقية العالم مجانين ، لأنه لا يرى ما نراه .
و اصبحنا نرى الدنيا مسكناً للبلادة والخمول والغباء والسخف ، ولم نعد نجد لانفسنا مكاناً في هذه الدنيا .
وبدات تختمر في ذهني فكرة الهجرة والهرب بها .
وكانت لي أعمال في السودان و كينيا و أوغندا .
و رأيت نفسي ذات ليلة و دون أن أدري أخرج بها بجواز سفر مزور طائراً إلى السودان . و من السودان إلى كينيا .
وقضينا شهر العسل في نيروبي بين مغاني الغابه العذراء وتحت استوائيه وتغرد فيها العصافير الملونه وترقص الفراشات .
كان هذا يا سادة هو الفصل الثاني من قصة اذكى رجل في العالم .
ودعوني احكي لكم الفصل الثالث والختامي وكانت رحلة شاعرية ، خرج فيها العشيقان لقضاء الويك اند على شاطئ بحيرة ˝ ليك مانيارا ˝ في فندق البامبو الجميل . وفي احد المفاتن الذي يقصده اصحاب الملايين واهل الفن والذوق للاستمتاع بالموسيقى والحب والرقص والطعام الشهي ، و الخمر الجيدة في بيئة طبيعية ساحرة تمرح فيها الوحوش والغزلان .
والطريق إلي ˝ ليك مانيارا ˝ تصعد في السيارة جبالا شاهقة . وقممـًا معممة بالضباب .
وكان صاحبنا يقود السيارة وهو يصفر بفمه لحنـًا شعبيـًا ويحتضن محبوبته ، ويشير الى الخور السحيق الذي يهوى إليه البصر في جانب الطريق . في أقصى القاع يفترش الأرض دغل طبيعي من نباتات وحشيه ذات تلافيف متعانقة متشابكة ، في معترك من الأغصان والأوراق والازهار تتوه في العين فلا تبين أرضـًا . وإنما خضرة متكاتفة علي خضرة .
منظر خلاب آخاذ يصيب الرأس بالدوار .
وقد دارت رأس الاثنين بخمرة النظر وذابا حبا .
والتقت الشفاه على ارتفاع تسعة آلاف قدم ، وسقطت العربة في حفرة وفي لحظة خاطفة كانت تتدحرج في الخور كالقذيفة .
وبعد دقيقة كانت تستقر في القاع محطمة .
أما هو فكان راقداً في وعيه ولكـن بلا حراك بسبب كسور في عظام الحوض .
أما هي فكانت تهمس وتتلوي ثم تفقد الوعي بسبب النزيف .
ثم تعود في فتفيق فتعود إلى الهمس المخنوق والتأوه وكان سقوطهمـا وسط مسـتعمره للنمـل الأحمـر .
وزحفـت عليهمـا جيـوش النمـل .
نعم يا سادة اكلهمـا النمـل وهم أحياء فاقدا الحراك ينظر كل منهما إلى الآخر ولا يقوى على الصراخ . ولا يقوى على الدفاع عن نفسه .
وانتهت قصة أذكى رجل في العالم واجمل امرأه .
ولم يبقى اثر للقصة سوي ذلك الإعلان المتكرر في جميع الجرائد والذي ظل ينشر بالقاهرة ، على مدى اسابيع عن السيدة التي خرجت من بيتها ولم تعد ومعه نشرة كاملة بأوصافها . بيضاء ، نحيلة ، سوداء الشعر ، زرقاء العينين في جاكيت وبنطلون من القطيفه السوداء وكرافات تركواز ، وعلى من يتعرف عليها الاتصال بالتليفون كذا .
وكان القراء يقرؤون الإعلان كل يوم . ولم يكون أحد منهم يعلم أنها أصبحت هي وصاحبها فتاتـًا في بطن ستمائة الف نملـة من النمـل الأحمـر ، في وسط افريقيا الاستوائية .
❞ بينما كُنت...
بينما كُنت اخفف عن الجميع همومهم كان بداخلي شيء لا يُحكي، وكأني لا استطيع أن اعبر عنه ببعض الكلمات هكذا، كأنني فقدت القدرة على الكلام والتعبير عما بداخلي! ومِن الأساس منذ متى وأنا استطيع البوح بما داخلي، أشعر أنني اختنق رويدًا رويدًا، وكأن قلبي أصبح لا يحتمل ما بداخله، أصبحت نظراتي هائمًا وشاردة في لا شيء، وعقلي مشوش من كثرة ما بِه من صِراعات، ولكن هيهات هيهات أن استطيع أن اتخلص مِن كل هذا الصراع الذي يشغل تفكيري وأن يهدأ عقلي، أشعر أن كل ما حولي يبدو مظلمًا، أريد أن انتشل مِن هذا الضباب الحالك قبل أن أقع في دوامة ليس نهاية.
ك/ملك مصطفى. ❝ ⏤𝓜𝓛𝓚 𝓜𝓢𝓣𝓕𝓐
❞ بينما كُنت..
بينما كُنت اخفف عن الجميع همومهم كان بداخلي شيء لا يُحكي، وكأني لا استطيع أن اعبر عنه ببعض الكلمات هكذا، كأنني فقدت القدرة على الكلام والتعبير عما بداخلي! ومِن الأساس منذ متى وأنا استطيع البوح بما داخلي، أشعر أنني اختنق رويدًا رويدًا، وكأن قلبي أصبح لا يحتمل ما بداخله، أصبحت نظراتي هائمًا وشاردة في لا شيء، وعقلي مشوش من كثرة ما بِه من صِراعات، ولكن هيهات هيهات أن استطيع أن اتخلص مِن كل هذا الصراع الذي يشغل تفكيري وأن يهدأ عقلي، أشعر أن كل ما حولي يبدو مظلمًا، أريد أن انتشل مِن هذا الضباب الحالك قبل أن أقع في دوامة ليس نهاية.
ك/ملك مصطفى. ❝
❞ كان ذلك من زمن بعيد لست أذكره .. ربما كنت أدرج من الثالثة عشرة إلى الرابعة عشرة وربما قبل ذلك .. في مَطَالِعْ المراهقة .. حينما بدأت أتساءل في تمرد :
- تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لابد لكل مخلوق من خالق ولا بد لكل صنعة من صانع ولا بد لكل موجود من موجِد .. صدقنا وآمنا .. فلتقولوا لي إذن مَن خلق الله .. أم أنه جاء بذاته ؟! .. فإذا كان قد جاء بذاته وصحّ في تصوركم أن يتم هذا الأمر .. فلماذا لا يصح في تصوركم أيضاً أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهي الإشكال .
كنت أقول هذا فتصفر من حولي الوجوه وتنطلق الألسُن تمطرني باللعنات وتتسابق إليّ اللكمات عن يمين وشمال .. ويستغفر لي أصحاب القلوب التقية ويطلبون لي الهدى .. ويتبرأ مني المتزمتون ويجتمع حولي المتمردون .. فنغرق معاً في جدل لا ينتهي إلا ليبدأ ولا يبدأ إلا ليسترسل .
وتغيب عني تلك الأيام الحقيقة الأولى وراء ذلك الجدل .
إن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح وإعجابي بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التي انفردت بها .. كان هو الحافز دائماً .. وكان هو المشجِع .. وكان هو الدافع .. وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب .
لقد رَفَضْتُ عبادة الله لأني إستغرقت في عبادة نفسي وأُعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة .
كانت هذه هي الحالة النفسية وراء المشهد الجدلي الذي يتكرر كل يوم . وغابت عني أيضاً أصول المنطق وأنا أعالج المنطق .. ولم أدرك أني أتناقض مع نفسي إذ كيف أعترف بالخالق ثم أقول : ومن خلق الخالق فأجعل منه مخلوقاً في الوقت الذي أسميه خالقاً .. وهي السفسطة بعينها .
ثم إن القول بسبب أول للوجود يقتضي أن يكون هذا السبب واجب الوجود في ذاته وليس معتمداً ولا محتاجاً لغيره لكي يوجد . أما أن يكون السبب في حاجة إلى سبب فإن هذا يجعله واحدة من حلقات السببية ولا يجعل منه سبباً أول .
هذه هي أبعاد القضية الفلسفية التي إنتهت بأرسطو إلى القول بالسبب الأول والمحرك الأول للوجود .
ولم تكن هذه الأبعاد واضحة في ذهني في ذلك الحين .
ولم أكُن قد عرفت بعد من هو أرسطو ولا ما هي القوانين الأولى للمنطق والجدل .
واحتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب وآلاف الليالي من الخلوةِ والتأمل والحوار مع النفس وإعادة النظر ثُمَّ إعادة النظر في إعادة النظر ..
ثُمَّ تقليب الفكر على كل وجه لأقطع فيه الطريق الشائكة من ( الله والإنسان ) إلى ( لغز الحياة ) إلى ( لغز الموت ) إلى ما أكتب من كلمات على درب اليقين ، لم يكن الأمر سهلاً .. لأني لم أشأ أن آخذ الأمر مأخذاً سهلاً .
ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل .. ولقادتني الفطرة إلى الله ..
ولكنني جئت في زمن تَعَقّدِتْ فيه كل شيء وضَعِفَ صوت الفطرة حتى صار همساً وإرتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغروراً واعتداداً ..
والعقل معذور في إسرافه إذ يرى نفسه واقفاً على هرم هائل من المنجزات وإذ يرى نفسه مانحاً للحضارة بما فيها من صناعة وكهرباء وصواريخ وطائرات وغواصات وإذ يرى نفسه قد اقتحم البر والبحر والجو والماء وما تحت الماء .. فتصور نفسه القادر على كل شيء وزج نفسه في كل شيء وأقام نفسه حاكماً على ما يعلم وما لا يعلم .
وغرقت في مكتبة البلدية بطنطا وأنا صبي أقرأ لشبلي شميل وسلامة موسى وأتعرف على فرويد وداروين .
وشغفت بالكيمياء والطبيعة والبيولوجيا .. وكان لي معمل صغير في غرفتي أجضر فيه غاز ثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وأقتل الصراصير بالكلور وأشرِّح فيه الضفادع ، وكانت الصيحة التي غمرت العالم هي .. العلم .. العلم .. العلم .. ولا شيء غير العلم !!
النظرة الموضوعية هي الطريق .
لنرفض الغيبيات ولنكُف عن إطلاق البخور وترديد الخرافات .
من يعطينا دبابات وطائرات ويأخذ منا الأديان والعبادات ؟؟
وكان ما يصلنا من أنباء العلم الغربي باهراً يخطف أبصارنا وكنا نأخذ عن الغرب كل شيء .. الكتب والدواء والملابس والمنسوجات والقاطرات والسيارات .. وحتى الأطعمة المعلبة .. حتى قلم الرصاص والدبوس والإبرة .. حتى نظم التعليم وقوالب التأليف الأدبي من قصة ومسرحية ورواية .. حتى ورق الصحف .
وحول أبطال الغرب وعبقرياته كنا ننسج أحلامنا ومُثُلِنا العليا .. حول باستير وماركوني ورونتجن وأديسون .. وحول نابليون وإبراهام لنكولن .. وكرستوفر كولمبس وماجلان .
كان الغرب هو التقدم ، وكان الشرق العربي هو التخلف والضعف والتخاذل والإنهيار تحت أقدام الإستعمار ، وكان طبيعيّاً أن نتصور أن كل ما يأتينا من الغرب هو النور والحق .. وهو السبيل إلى القوة والخلاص .
ودخلت كلية الطب لأتلقى العلوم بلغة إنجليزية وأدرس التشريح في مراجع إنجليزية وأتكلم مع أستاذي في المشفى باللغة الإنجليزية .. ليس لأن إنجلترا كانت تحتل القناة لكن لسبب آخر مشروع وعادل .. هو أن علم الطب الحديث كان صناعة غربية تماماً .. وما بدأه العرب في هذه العلوم أيام ابن سينا , كان مجرد أوليّات لا تفي بحاجات العصر .
وقد التقط علماء الغرب الخيط من حيث انتهى ابن سينا والباحثون العرب ثم استأنفوا الطريق بإمكانيات متطورة ومعامل ومختبرات وملايين الجنيهات المرصودة للبحث , فسبقوا الأولين من العرب والفُرس والعُجم , وأقاموا صرح علم الطب الحديث والفسيولوجيا والتشريح والباثولوجيا وأصبحوا بحق مرجعاً .
وتعلمت ما تعلمت في كتب الطب .. النظرة العلمية .. وأنه لا يصح إقامة حكم بدون حيثيات من الواقع وشواهد من الحس .
وأن العلم يبدأ من المحسوس والمنظور والملموس وأن العلم ذاته هو عملية جمع شواهد واستخراج قوانين ، وما لا يقع تحت الحس فهو في النظرة العلمية غير موجود ، وأن الغيب لا حساب له في الحكم العلمي .
بهذا العقل العلمي المادي البحت بدأت رحلتي في عالم العقيدة وبالرغم من هذه الأرضية المادية والإنطلاق من المحسوسات الذي ينكر كل ما هو غيب فإني لم أستطع أن أنفي أو أستبعد القوة الإلهية .
كان العلم يقدم صورة عن الكون بالغة الإحكام والإنضباط .. كل شيء من ورقة الشجر إلى جناح الفراشة إلى ذرة الرمل فيها تناسق ونظام وجمال الكون كله مبني وفق هندسة وقوانين دقيقة .
وكل شيء يتحرك بحساب من الذرة المتناهية في الصغر إلى الفلَك العظيم إلى الشمس وكواكبها إلى المجرة الهائلة التي يقول لنا الفَلك إن فيها أكثر من ألف مليون مجرة .
كل هذا الوجود اللامتناهي من أصغر إلكترون إلى أعظم جرم سماوي كنت أراه أشبه بمعزوفة متناسقة الأنغام مضبوطة التوزيع كل حركة فيها بمقدار .. أشبه بالبدن المتكامل الذي فيه روح .
كان العلم يمدني بوسيلة أتصور بها الله بطريقة مادية .
وفي هذه المرحلة تصورت أن الله هو الطاقة الباطنة في الكون التي تنظمه في منظومات جميلة من أحياء وجمادات وأراضٍ وسماوات .. هو الحركة التي كشفها العلم في الذرة وفي البروتوبلازم وفي الأفلاك ..
هو الحيوية الخالقة الباطنة في كل شيء ..أو بعبارة القديس توماس " الفعل الخالص الذي ظل يتحول في الميكروب حتى أصبح إنساناً ومازال يتحول وسيظل يتحول إلى ما لانهاية " .
والوجود كان في تصوري لامحدوداً لانهائياً . إذ لا يمكن أن يحد الوجود إلا العدم .. والعدم معدوم .. ومن هنا يلزم منطقياً أن يكون الوجود غير محدود ولانهائي .
ولا يصح أن نسأل .. مَن الذي خلق الكون . إذ أن السؤال يستتبع أن الكون كان معدوماً في البداية ثم وُجِد .. وكيف يكون لمعدوم كيان ؟! .
إن العدم معدوم في الزمان والمكان وساقط في حساب الكلام ولا يصح القول بأنه كان .
وبهذا جعلت من الوجود حدثاً قديماً أبدياً أزلياً ممتداً في الزمان لا حدود له ولا نهاية .
وأصبح الله في هذه النظرة هو الكل ونحن تجلياته .
الله هو الوجود .. والعدم قبله معدوم .
هو الوجود المادي الممتد أزلاً وأبداً بلا بدء وبلا نهاية .
وهكذا أقمت لنفسي نظرية تكتفي بالموجود .. وترى أن الله هو الوجود .. دون حاجة إلى افتراض الغيب والمغيبات .. ودون حاجة إلى التماس اللامنظور .
وبذلك وقعت في أسر فكرة وحدة الوجود الهندية وفلسفة سبينوزا .. وفكرة برجسون عن الطاقة الباطنة الخلاّقة ..
وكلها فلسفات تبدأ من الأرض .. من الحواس الخمس .. ولا تعترف بالمغيبات ، ووحدة الوجود الهندية تمضي إلى أكثر من ذلك فتلغي الثنائية بين المخلوق والخالق .. فكل المخلوقات في نظرها هي عيني الخالق .
وفي سفر اليوبانيشاد صلاة هندية قديمة تشرح هذا المعنى في أبيات رقيقة من الشعر ...
إن الإله براهماً الذي يسكن قلب العالم يتحدث في همس قائلاً :
إذا ظن القاتل أنه قاتل ......
والمقتول أنه قتيل .........
فليسا يدريان ما خفي من أساليبي ....
حيث أكون الصدر لمن يموت ........
والسلاح لمن يقتل .......
والجناح لمن يطير ......
وحيث أكون لمن يشك في وجودي ......
كل شيء حتى الشك نفسه ....
وحيث أكون أنا الواحد .....
وأنا الأشياء .....
إنه إله يشبه النور الأبيض .. واحد .. وبسيط .. ولكنه يحتوى في داخله على ألوان الطيف السبعة ، وعشت سنوات في هذا الضباب الهندي وهذه الماريجوانا الصوفية ومارست اليوجا وقرأتها في أصولها وتلقيت تعاليمها على أيدي أساتذة هنود .
وسيطرَت عليَّ فكرة التناسخ مدة طويلة وظهرت روايات لي مثل ( العنكبوت ) و ( الخروج من التابوت ) ، ثم بدأت أفيق على حالة من عدم الرضا وعدم الإقتناع .
واعترفت بيني وبين نفسي أن هذه الفكرة عن الله فيها الكثير من الخلط . ومرة أخرى كان العلم هو دليلي ومنقذي ومرشدي ، عكوفي على العلم وعلى الشريحة الحية تحت الميكروسكوب قال لي شيئاً آخر .
وحدة الوجود الهندية كانت عبارة شعرية صوفية .. ولكنها غير صادقة ..
والحقيقة المؤكدة التي يقولها العلم أن هناك وحدة في الخامة لا أكثر .. وحدة في النسيج والسُنن الأولية والقوانين .. وحدة في المادة الأولية التي بُنيَ منها كل شيء .. فكل الحياة من نبات وحيوان وإنسان بنيت من تواليف الكربون مع الآيدروجين والأكسجين .. ولهذا تتحول كلها إلى فحم بالإحتراق .. وكل صنوف الحياة تقوم على الخلية الواحدة ومضاعفاتها .
ومرة أخرى نتعلم من الفلَك والكيمياء والعلوم النووية أن الكربون ذاته وكذلك جميع العناصر المختلفة جاءت من طبخ عنصر واحد في باطن الأفران النجمية الهائلة هو الآيدروجين .
الآيدروجين يتحول في باطن الأفران النجمية إلى هليوم وكربون وسليكون وكوبالت ونيكل وحديد إلى آخر قائمة العناصر وذلك بتفكيكه وإعادة تركيبه في درجات حرارة وضغوط هائلة ، وهذا يرد جميع صنوف الموجودات إلى خامة واحدة .. إلى فتلة واحدة حريرية غُزِل منها الكون في تفصيلات وتصميمات وطُرُز مختلفة .
والخلاف بين صنف وصنف وبين مخلوق ومخلوق هو خلاف في العلاقات الكيفية والكمية .. في المعادلة والشفرة التكوينية .. لكن الخامة واحدة .. وهذا سر الشعور بالنَسَب والقرابة والمصاهرة وصلة الرحم بين الإنسان والحيوان وبين الوَحش ومُروِضه وبين الأنف التي تشم والوهرة العاطرة وبين العين ومنظر الغروب الجميل .
هذا هو سر الهارموني والإنسجام ، إن كل الوجود أفراد أسرة واحدة من أب واحد ، وهو أمر لا يستتبع أبداً أن نقول إن الله هو الوجود , وأن الخالق هو المخلوق فهذا خلط صوفيّ غير وارد .
والأمر شبيه بحالة الناقد الذواقة الذي دخل معرضاً للرسم فاكتشف وحدة فنية بين جميع اللوحات .. واكتشف أنها جميعاً مرسومة على الخامة نفسها .. وبذات المجموعة الواحدة من الألوان , وأكثر من هذا أن أسلوب الرسم واحد .
والنتيجة الطبيعية أن يقفز إلى ذهن الناقد أن خالق جميع هذه اللوحات واحد . وأن الرسّام هو بيكاسو أو شاجال أو موديلياني .. مثلاً ، فالوحدة بين الموجودات تعني وحدة خالقها .
ولكنها لا تعني أبداً أن هذه الموجدات هي ذاتها الخالق ، ولا يقول الناقد أبداً إن هذه الرسوم هي الرسّام ، إن وحدة الوجود الهندية شطحة صوفيّة خرافية .. وهي تبسيط وجداني لا يصادق عليه العلم ولا يرتاح إليه العقل .
وإنما تقول النظرة العلمية المتأملة لظواهر الخلق والمخلوقات , إن هناك وحدة بينها .. وحدة أسلوب ووحدة قوانين ووحدة خامات تعني جميعها أن خالقها واحد لم يشرك معه شريكاً يسمح بأسلوب غير أسلوبه .
وتقول لنا أيضاً إن هذا الخالق هو عقل كلّي شامل ومحيط , يُلهم مخلوقاته ويهديها في رحلة تطورها ويسلّحها بوسائل البقاء , فهو يخلق لبذور الأشجار الصحراوية أجنحةً لتستطيع أن تعبر الصحاري الجرداء بحثاً عن ماء وعن ظروف إنبات موالية .
وهو يزود بيضة البعوضة بكيسين للطفو لتطفو على الماء لحظة وضعها ولا تغرق . وما كان من الممكن للبعوضة أن تدرك قوانين أرشميدس للطفو فتصنع لبيضها تلك الأكياس .
وإنما هو العقل الكلي الشامل المحيط الذي خلق .. هو الذي يزود كل مخلوق بأسباب حياته .. وهو خالق متعالٍ على مخلوقاته .. يعلم ما لا تعلم ويقدر على ما لا تقدر ويرى ما لا ترى ، فهو واحد أحد قادر عالم محيط سميع بصير خبير .. وهو متعال يعطي الصفات ولا تحيط به صفات .
* * *
والصلة دائماً معقودة بين هذا الخالق ومخلوقاته فهو أقرب إليها من دمها الذي يجري فيها ، وهو المبدِع الذي عزف الإبداع هذه المعزوفة الكونية الرائعة ، هو العادل الذي أحكم قوانينها وأقامها على نواميس دقيقة لا تخطئ ، وهكذا قدم لي العلم الفكرة الإسلامية الكاملة عن الله .
* * *
أما القول بأزلية الوجود لأن العدم معدوم والوجود موجود , فهو جدل لفظي لا يقوم إلا على اللعب بالألفاظ ، والعدم في واقع الأمر غير معدوم ، وقيام العدم في التصور والفكر ينفي كونه معدوماً .
والعدم هو على الأكثر نفي ٌ لما نعلم ولكنه نفياً مطلقاً مساوياً للمحو المطلق . وفكرة العدم المطلق فرضية مثل فرضية الصفر الرياضي .. ولا يصح الخلط بين الإفتراض والواقع ولا يصح تحميل الواقع فرضاً نظرياً , فنقول اعتسافاً إن العدم معدوم , ونعتبر أن هذا الكلام قضية وجودية نبني عليها أحكاماً في الواقع .. هذا تناقض صريح وسفسطة جدلية ، وبالمثل القول بأن الوجود موجود .. هنا نفس الخلط .. فالوجود تجريد ذهني والموجود واقع حسيّ ..
وكلمة العدم وكلمة الوجود تجريدات ذهنية كالصفر ،واللانهاية لا يصح أن نخلط بينها وبين الواقع الملموس المتعيَّن ،والكون الكائن المحدد أمام الحواس ،، الكون إذن ليس أزليا ً،، وإنما هو كون مخلوق كان لا بد له بدء بدليل آخرمن قاموس العلم هو ما نعرفه باسم القانون الثاني للديناميكا الحرارية ،، ويقرر هذا القانون أن الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان فيتوقف التبادل الحراري .
ولو كان الكون أبديا أزليا بدون ابتداء لكان التبادل الحراري قد توقف في تلك الآباد الطويلة المتاحة وبالتالي لتوقفت كل صور الحياة ولبردت النجوم وصارت بدرجة حرارة الصقيع والخواء حولها وانتهى كل شيء ،،إن هذا القانون هو ذاته دليل على أن الكون له بدء .
والقيامة الصغرى التي نراها حولنا في موت الحضارات وموت الأفراد وموت النجوم وموت الحيوان والنبات وتناهي اللحظات والحُقَبْ والدهور .. هي لمحة أُخرى تدلنا على القيامة الكبرى التي لابد أن ينتهي إليها الكون ..
إن العلم الحَق لم يكن أبداً مناقضاً للدين بل إنه دالٌ عليه مؤكَد بمعناه .
وإنما نصف العلم هو الذي يوقع العقل في الشبهة والشك ..
وبخاصة إن كان ذلك العقل مزهوّاً بنفسه معتدّاً بعقلانيته .. وبخاصة إذا دارت المعركة في عصر يتصور فيه العقل أنه كلّ شيء .. وإذا حاصرت الإنسان شواهد حضارة ماديّة صارخة تزأر فيها الطائرات وسفن الفضاء والأقمار الصناعيّة .. هاتفةً كلّ لحظة :
أنا المادة ....
أنا كل شيء ....
مقال / اللــــــّـــــه
من كتاب / رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود ( رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ كان ذلك من زمن بعيد لست أذكره . ربما كنت أدرج من الثالثة عشرة إلى الرابعة عشرة وربما قبل ذلك . في مَطَالِعْ المراهقة . حينما بدأت أتساءل في تمرد :
- تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لابد لكل مخلوق من خالق ولا بد لكل صنعة من صانع ولا بد لكل موجود من موجِد . صدقنا وآمنا . فلتقولوا لي إذن مَن خلق الله . أم أنه جاء بذاته ؟! . فإذا كان قد جاء بذاته وصحّ في تصوركم أن يتم هذا الأمر . فلماذا لا يصح في تصوركم أيضاً أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهي الإشكال .
كنت أقول هذا فتصفر من حولي الوجوه وتنطلق الألسُن تمطرني باللعنات وتتسابق إليّ اللكمات عن يمين وشمال . ويستغفر لي أصحاب القلوب التقية ويطلبون لي الهدى . ويتبرأ مني المتزمتون ويجتمع حولي المتمردون . فنغرق معاً في جدل لا ينتهي إلا ليبدأ ولا يبدأ إلا ليسترسل .
وتغيب عني تلك الأيام الحقيقة الأولى وراء ذلك الجدل .
إن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح وإعجابي بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التي انفردت بها . كان هو الحافز دائماً . وكان هو المشجِع . وكان هو الدافع . وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب .
لقد رَفَضْتُ عبادة الله لأني إستغرقت في عبادة نفسي وأُعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة .
كانت هذه هي الحالة النفسية وراء المشهد الجدلي الذي يتكرر كل يوم . وغابت عني أيضاً أصول المنطق وأنا أعالج المنطق . ولم أدرك أني أتناقض مع نفسي إذ كيف أعترف بالخالق ثم أقول : ومن خلق الخالق فأجعل منه مخلوقاً في الوقت الذي أسميه خالقاً . وهي السفسطة بعينها .
ثم إن القول بسبب أول للوجود يقتضي أن يكون هذا السبب واجب الوجود في ذاته وليس معتمداً ولا محتاجاً لغيره لكي يوجد . أما أن يكون السبب في حاجة إلى سبب فإن هذا يجعله واحدة من حلقات السببية ولا يجعل منه سبباً أول .
هذه هي أبعاد القضية الفلسفية التي إنتهت بأرسطو إلى القول بالسبب الأول والمحرك الأول للوجود .
ولم تكن هذه الأبعاد واضحة في ذهني في ذلك الحين .
ولم أكُن قد عرفت بعد من هو أرسطو ولا ما هي القوانين الأولى للمنطق والجدل .
واحتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب وآلاف الليالي من الخلوةِ والتأمل والحوار مع النفس وإعادة النظر ثُمَّ إعادة النظر في إعادة النظر .
ثُمَّ تقليب الفكر على كل وجه لأقطع فيه الطريق الشائكة من ( الله والإنسان ) إلى ( لغز الحياة ) إلى ( لغز الموت ) إلى ما أكتب من كلمات على درب اليقين ، لم يكن الأمر سهلاً . لأني لم أشأ أن آخذ الأمر مأخذاً سهلاً .
ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل . ولقادتني الفطرة إلى الله .
ولكنني جئت في زمن تَعَقّدِتْ فيه كل شيء وضَعِفَ صوت الفطرة حتى صار همساً وإرتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغروراً واعتداداً .
والعقل معذور في إسرافه إذ يرى نفسه واقفاً على هرم هائل من المنجزات وإذ يرى نفسه مانحاً للحضارة بما فيها من صناعة وكهرباء وصواريخ وطائرات وغواصات وإذ يرى نفسه قد اقتحم البر والبحر والجو والماء وما تحت الماء . فتصور نفسه القادر على كل شيء وزج نفسه في كل شيء وأقام نفسه حاكماً على ما يعلم وما لا يعلم .
وغرقت في مكتبة البلدية بطنطا وأنا صبي أقرأ لشبلي شميل وسلامة موسى وأتعرف على فرويد وداروين .
وشغفت بالكيمياء والطبيعة والبيولوجيا . وكان لي معمل صغير في غرفتي أجضر فيه غاز ثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وأقتل الصراصير بالكلور وأشرِّح فيه الضفادع ، وكانت الصيحة التي غمرت العالم هي . العلم . العلم . العلم . ولا شيء غير العلم !!
النظرة الموضوعية هي الطريق .
لنرفض الغيبيات ولنكُف عن إطلاق البخور وترديد الخرافات .
من يعطينا دبابات وطائرات ويأخذ منا الأديان والعبادات ؟؟
وكان ما يصلنا من أنباء العلم الغربي باهراً يخطف أبصارنا وكنا نأخذ عن الغرب كل شيء . الكتب والدواء والملابس والمنسوجات والقاطرات والسيارات . وحتى الأطعمة المعلبة . حتى قلم الرصاص والدبوس والإبرة . حتى نظم التعليم وقوالب التأليف الأدبي من قصة ومسرحية ورواية . حتى ورق الصحف .
وحول أبطال الغرب وعبقرياته كنا ننسج أحلامنا ومُثُلِنا العليا . حول باستير وماركوني ورونتجن وأديسون . وحول نابليون وإبراهام لنكولن . وكرستوفر كولمبس وماجلان .
كان الغرب هو التقدم ، وكان الشرق العربي هو التخلف والضعف والتخاذل والإنهيار تحت أقدام الإستعمار ، وكان طبيعيّاً أن نتصور أن كل ما يأتينا من الغرب هو النور والحق . وهو السبيل إلى القوة والخلاص .
ودخلت كلية الطب لأتلقى العلوم بلغة إنجليزية وأدرس التشريح في مراجع إنجليزية وأتكلم مع أستاذي في المشفى باللغة الإنجليزية . ليس لأن إنجلترا كانت تحتل القناة لكن لسبب آخر مشروع وعادل . هو أن علم الطب الحديث كان صناعة غربية تماماً . وما بدأه العرب في هذه العلوم أيام ابن سينا , كان مجرد أوليّات لا تفي بحاجات العصر .
وقد التقط علماء الغرب الخيط من حيث انتهى ابن سينا والباحثون العرب ثم استأنفوا الطريق بإمكانيات متطورة ومعامل ومختبرات وملايين الجنيهات المرصودة للبحث , فسبقوا الأولين من العرب والفُرس والعُجم , وأقاموا صرح علم الطب الحديث والفسيولوجيا والتشريح والباثولوجيا وأصبحوا بحق مرجعاً .
وتعلمت ما تعلمت في كتب الطب . النظرة العلمية . وأنه لا يصح إقامة حكم بدون حيثيات من الواقع وشواهد من الحس .
وأن العلم يبدأ من المحسوس والمنظور والملموس وأن العلم ذاته هو عملية جمع شواهد واستخراج قوانين ، وما لا يقع تحت الحس فهو في النظرة العلمية غير موجود ، وأن الغيب لا حساب له في الحكم العلمي .
بهذا العقل العلمي المادي البحت بدأت رحلتي في عالم العقيدة وبالرغم من هذه الأرضية المادية والإنطلاق من المحسوسات الذي ينكر كل ما هو غيب فإني لم أستطع أن أنفي أو أستبعد القوة الإلهية .
كان العلم يقدم صورة عن الكون بالغة الإحكام والإنضباط . كل شيء من ورقة الشجر إلى جناح الفراشة إلى ذرة الرمل فيها تناسق ونظام وجمال الكون كله مبني وفق هندسة وقوانين دقيقة .
وكل شيء يتحرك بحساب من الذرة المتناهية في الصغر إلى الفلَك العظيم إلى الشمس وكواكبها إلى المجرة الهائلة التي يقول لنا الفَلك إن فيها أكثر من ألف مليون مجرة .
كل هذا الوجود اللامتناهي من أصغر إلكترون إلى أعظم جرم سماوي كنت أراه أشبه بمعزوفة متناسقة الأنغام مضبوطة التوزيع كل حركة فيها بمقدار . أشبه بالبدن المتكامل الذي فيه روح .
كان العلم يمدني بوسيلة أتصور بها الله بطريقة مادية .
وفي هذه المرحلة تصورت أن الله هو الطاقة الباطنة في الكون التي تنظمه في منظومات جميلة من أحياء وجمادات وأراضٍ وسماوات . هو الحركة التي كشفها العلم في الذرة وفي البروتوبلازم وفي الأفلاك .
هو الحيوية الخالقة الباطنة في كل شيء .أو بعبارة القديس توماس ˝ الفعل الخالص الذي ظل يتحول في الميكروب حتى أصبح إنساناً ومازال يتحول وسيظل يتحول إلى ما لانهاية ˝ .
والوجود كان في تصوري لامحدوداً لانهائياً . إذ لا يمكن أن يحد الوجود إلا العدم . والعدم معدوم . ومن هنا يلزم منطقياً أن يكون الوجود غير محدود ولانهائي .
ولا يصح أن نسأل . مَن الذي خلق الكون . إذ أن السؤال يستتبع أن الكون كان معدوماً في البداية ثم وُجِد . وكيف يكون لمعدوم كيان ؟! .
إن العدم معدوم في الزمان والمكان وساقط في حساب الكلام ولا يصح القول بأنه كان .
وبهذا جعلت من الوجود حدثاً قديماً أبدياً أزلياً ممتداً في الزمان لا حدود له ولا نهاية .
وأصبح الله في هذه النظرة هو الكل ونحن تجلياته .
الله هو الوجود . والعدم قبله معدوم .
هو الوجود المادي الممتد أزلاً وأبداً بلا بدء وبلا نهاية .
وهكذا أقمت لنفسي نظرية تكتفي بالموجود . وترى أن الله هو الوجود . دون حاجة إلى افتراض الغيب والمغيبات . ودون حاجة إلى التماس اللامنظور .
وبذلك وقعت في أسر فكرة وحدة الوجود الهندية وفلسفة سبينوزا . وفكرة برجسون عن الطاقة الباطنة الخلاّقة .
وكلها فلسفات تبدأ من الأرض . من الحواس الخمس . ولا تعترف بالمغيبات ، ووحدة الوجود الهندية تمضي إلى أكثر من ذلك فتلغي الثنائية بين المخلوق والخالق . فكل المخلوقات في نظرها هي عيني الخالق .
وفي سفر اليوبانيشاد صلاة هندية قديمة تشرح هذا المعنى في أبيات رقيقة من الشعر ..
إن الإله براهماً الذي يسكن قلب العالم يتحدث في همس قائلاً :
إذا ظن القاتل أنه قاتل ...
والمقتول أنه قتيل .....
فليسا يدريان ما خفي من أساليبي ..
حيث أكون الصدر لمن يموت ....
والسلاح لمن يقتل ....
والجناح لمن يطير ...
وحيث أكون لمن يشك في وجودي ...
كل شيء حتى الشك نفسه ..
وحيث أكون أنا الواحد ...
وأنا الأشياء ...
إنه إله يشبه النور الأبيض . واحد . وبسيط . ولكنه يحتوى في داخله على ألوان الطيف السبعة ، وعشت سنوات في هذا الضباب الهندي وهذه الماريجوانا الصوفية ومارست اليوجا وقرأتها في أصولها وتلقيت تعاليمها على أيدي أساتذة هنود .
وسيطرَت عليَّ فكرة التناسخ مدة طويلة وظهرت روايات لي مثل ( العنكبوت ) و ( الخروج من التابوت ) ، ثم بدأت أفيق على حالة من عدم الرضا وعدم الإقتناع .
واعترفت بيني وبين نفسي أن هذه الفكرة عن الله فيها الكثير من الخلط . ومرة أخرى كان العلم هو دليلي ومنقذي ومرشدي ، عكوفي على العلم وعلى الشريحة الحية تحت الميكروسكوب قال لي شيئاً آخر .
وحدة الوجود الهندية كانت عبارة شعرية صوفية . ولكنها غير صادقة .
والحقيقة المؤكدة التي يقولها العلم أن هناك وحدة في الخامة لا أكثر . وحدة في النسيج والسُنن الأولية والقوانين . وحدة في المادة الأولية التي بُنيَ منها كل شيء . فكل الحياة من نبات وحيوان وإنسان بنيت من تواليف الكربون مع الآيدروجين والأكسجين . ولهذا تتحول كلها إلى فحم بالإحتراق . وكل صنوف الحياة تقوم على الخلية الواحدة ومضاعفاتها .
ومرة أخرى نتعلم من الفلَك والكيمياء والعلوم النووية أن الكربون ذاته وكذلك جميع العناصر المختلفة جاءت من طبخ عنصر واحد في باطن الأفران النجمية الهائلة هو الآيدروجين .
الآيدروجين يتحول في باطن الأفران النجمية إلى هليوم وكربون وسليكون وكوبالت ونيكل وحديد إلى آخر قائمة العناصر وذلك بتفكيكه وإعادة تركيبه في درجات حرارة وضغوط هائلة ، وهذا يرد جميع صنوف الموجودات إلى خامة واحدة . إلى فتلة واحدة حريرية غُزِل منها الكون في تفصيلات وتصميمات وطُرُز مختلفة .
والخلاف بين صنف وصنف وبين مخلوق ومخلوق هو خلاف في العلاقات الكيفية والكمية . في المعادلة والشفرة التكوينية . لكن الخامة واحدة . وهذا سر الشعور بالنَسَب والقرابة والمصاهرة وصلة الرحم بين الإنسان والحيوان وبين الوَحش ومُروِضه وبين الأنف التي تشم والوهرة العاطرة وبين العين ومنظر الغروب الجميل .
هذا هو سر الهارموني والإنسجام ، إن كل الوجود أفراد أسرة واحدة من أب واحد ، وهو أمر لا يستتبع أبداً أن نقول إن الله هو الوجود , وأن الخالق هو المخلوق فهذا خلط صوفيّ غير وارد .
والأمر شبيه بحالة الناقد الذواقة الذي دخل معرضاً للرسم فاكتشف وحدة فنية بين جميع اللوحات . واكتشف أنها جميعاً مرسومة على الخامة نفسها . وبذات المجموعة الواحدة من الألوان , وأكثر من هذا أن أسلوب الرسم واحد .
والنتيجة الطبيعية أن يقفز إلى ذهن الناقد أن خالق جميع هذه اللوحات واحد . وأن الرسّام هو بيكاسو أو شاجال أو موديلياني . مثلاً ، فالوحدة بين الموجودات تعني وحدة خالقها .
ولكنها لا تعني أبداً أن هذه الموجدات هي ذاتها الخالق ، ولا يقول الناقد أبداً إن هذه الرسوم هي الرسّام ، إن وحدة الوجود الهندية شطحة صوفيّة خرافية . وهي تبسيط وجداني لا يصادق عليه العلم ولا يرتاح إليه العقل .
وإنما تقول النظرة العلمية المتأملة لظواهر الخلق والمخلوقات , إن هناك وحدة بينها . وحدة أسلوب ووحدة قوانين ووحدة خامات تعني جميعها أن خالقها واحد لم يشرك معه شريكاً يسمح بأسلوب غير أسلوبه .
وتقول لنا أيضاً إن هذا الخالق هو عقل كلّي شامل ومحيط , يُلهم مخلوقاته ويهديها في رحلة تطورها ويسلّحها بوسائل البقاء , فهو يخلق لبذور الأشجار الصحراوية أجنحةً لتستطيع أن تعبر الصحاري الجرداء بحثاً عن ماء وعن ظروف إنبات موالية .
وهو يزود بيضة البعوضة بكيسين للطفو لتطفو على الماء لحظة وضعها ولا تغرق . وما كان من الممكن للبعوضة أن تدرك قوانين أرشميدس للطفو فتصنع لبيضها تلك الأكياس .
وإنما هو العقل الكلي الشامل المحيط الذي خلق . هو الذي يزود كل مخلوق بأسباب حياته . وهو خالق متعالٍ على مخلوقاته . يعلم ما لا تعلم ويقدر على ما لا تقدر ويرى ما لا ترى ، فهو واحد أحد قادر عالم محيط سميع بصير خبير . وهو متعال يعطي الصفات ولا تحيط به صفات .
**
والصلة دائماً معقودة بين هذا الخالق ومخلوقاته فهو أقرب إليها من دمها الذي يجري فيها ، وهو المبدِع الذي عزف الإبداع هذه المعزوفة الكونية الرائعة ، هو العادل الذي أحكم قوانينها وأقامها على نواميس دقيقة لا تخطئ ، وهكذا قدم لي العلم الفكرة الإسلامية الكاملة عن الله .
**
أما القول بأزلية الوجود لأن العدم معدوم والوجود موجود , فهو جدل لفظي لا يقوم إلا على اللعب بالألفاظ ، والعدم في واقع الأمر غير معدوم ، وقيام العدم في التصور والفكر ينفي كونه معدوماً .
والعدم هو على الأكثر نفي ٌ لما نعلم ولكنه نفياً مطلقاً مساوياً للمحو المطلق . وفكرة العدم المطلق فرضية مثل فرضية الصفر الرياضي . ولا يصح الخلط بين الإفتراض والواقع ولا يصح تحميل الواقع فرضاً نظرياً , فنقول اعتسافاً إن العدم معدوم , ونعتبر أن هذا الكلام قضية وجودية نبني عليها أحكاماً في الواقع . هذا تناقض صريح وسفسطة جدلية ، وبالمثل القول بأن الوجود موجود . هنا نفس الخلط . فالوجود تجريد ذهني والموجود واقع حسيّ .
وكلمة العدم وكلمة الوجود تجريدات ذهنية كالصفر ،واللانهاية لا يصح أن نخلط بينها وبين الواقع الملموس المتعيَّن ،والكون الكائن المحدد أمام الحواس ،، الكون إذن ليس أزليا ً،، وإنما هو كون مخلوق كان لا بد له بدء بدليل آخرمن قاموس العلم هو ما نعرفه باسم القانون الثاني للديناميكا الحرارية ،، ويقرر هذا القانون أن الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان فيتوقف التبادل الحراري .
ولو كان الكون أبديا أزليا بدون ابتداء لكان التبادل الحراري قد توقف في تلك الآباد الطويلة المتاحة وبالتالي لتوقفت كل صور الحياة ولبردت النجوم وصارت بدرجة حرارة الصقيع والخواء حولها وانتهى كل شيء ،،إن هذا القانون هو ذاته دليل على أن الكون له بدء .
والقيامة الصغرى التي نراها حولنا في موت الحضارات وموت الأفراد وموت النجوم وموت الحيوان والنبات وتناهي اللحظات والحُقَبْ والدهور . هي لمحة أُخرى تدلنا على القيامة الكبرى التي لابد أن ينتهي إليها الكون .
إن العلم الحَق لم يكن أبداً مناقضاً للدين بل إنه دالٌ عليه مؤكَد بمعناه .
وإنما نصف العلم هو الذي يوقع العقل في الشبهة والشك .
وبخاصة إن كان ذلك العقل مزهوّاً بنفسه معتدّاً بعقلانيته . وبخاصة إذا دارت المعركة في عصر يتصور فيه العقل أنه كلّ شيء . وإذا حاصرت الإنسان شواهد حضارة ماديّة صارخة تزأر فيها الطائرات وسفن الفضاء والأقمار الصناعيّة . هاتفةً كلّ لحظة :
أنا المادة ..
أنا كل شيء ..
مقال / اللــــــّـــــه
من كتاب / رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود ( رحمه الله ). ❝