فمن المستحيل أن نعرف أن جسمًا ما في حالة حركة أو في حالة سكون إلا بالرجوع إلى جسم آخر ..
وتاريخنا مع الأرض يؤكد كلام أينشتين .. لقد ظللنا نعتقد قرونًا طويلة بأن الأرض ساكنة حتى اكتشفنا حركتها عن طريق رصد النجوم والكواكب حولها ..
ولو أن أرضنا كانت تدور وحدها في فضاء الكون لما أمكن على الإطلاق معرفة حركتها من سكونها .. لانعدام أي مرجع نقيس به ..
ولكان من المؤكد أننا سوف نظل جاهلين بحالنا .. وكان هناك استثناء واحد ..
أن تبطئ الأرض في حركتها فجأة .. أو تُسرِع فجأة .. أو تضطرب حركتها .. فندرك عن طريق تثاقل أجسامنا وقصورنا الذاتي أننا على جسم متحرك ..
شأننا شأن راكب الطائرة الذي يستطيع أن يكتشف حركتها دون حاجة إلى أن يطل من النافذة، أو يرجع إلى مرجع .. بمجرد أن تغير الطائرة من سرعتها أو اتجاهها أو ارتفاعها ..
ومثل راكب القطار الذي يجلس في مقصورة مغلقة .. جاهلًا بحركة قطاره حتى يبدأ القطار في التباطؤ أو ينحرف عن مسيره .. فيدرك أن قطاره يتحرك ..
وكان معنى هذا الإستثناء أن الحركة يمكن أن تكون مطلقة إذا كانت غير منتظمة ..
فهي في هذه الحالة يمكن إدراكها بالرجوع إلى ذاتها .. وبدون حاجة إلى مرجع خارجي ..
ولهذا وضع أينشتين نظريته الأولى " النسبية الخاصة " وقصرها على الأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة ..
وقال فيها : " إن قوانين الكون واحدة لكل الأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة " .
ولكن هذا الشذوذ في القاعدة .. ظل يؤرق باله .. فهو لا يعتقد في كون معقّد وإنما يؤمن بكون بسيط .. ويرى أن البساطة أعمق من التعقيد، وأن تعدد القوانين وتناقضها في كون واحد يدل على عقل رياضي سطحي عاجز عن إدراك الحقيقة .
وبعد سنوات من التفكير والحساب وإعادة النظر .. قدم نظريته الجريئة في " النسبية العامة " التي أعلن فيها أن : " قوانين الكون واحدة لكل الأجسام بصرف النظر عن حالات حركتها " .
وبذلك عاد فأكد رفضه لكل ما هو مطلَق .. حتى هذا الإستثناء الواحد .. الحركة غير المنتظمة .. هي الأخرى أصبحت نسبية لا يمكن الجزم بها بدون مرجع خارجي ..
** ** **
ولتقريب هذا الإشكال الجديد إلى الذهن تخيل أينشتين أرجوحة مربوطة بحبال إلى عمود رأسي .. وأن هذه الأرجوحة تدور حول العمود كما تدور أراجيح الأطفال في المولد .. مع فارق واحد : أنها مغلقة تمامًا وأن الجالس بداخلها لا يرى ما يدور خارجها .. وأنها موجودة في الفضاء بعيدًا عن أي جاذبية ..
ماذا سوف يحدث لعدد من العلماء جالسين في تلك الأرجوحة ؟
إنهم سوف يلاحظون أن أجسامهم تتثاقل دائمًا نحو أرضية الأرجوحة، وأنه إذا ألقوا بأي شيء فإنه يسقط دائمًا نحو الأرضية .. وإذا انطلقت رصاصة لتخترق جدار الأرجوحة فإنها سوف تميل نحو أرضيتها على شكل قطع مكافئ .. وسوف يكون تعليلهم لهذه الظاهرة أن هناك قوى جاذبية في هذه الأرضية ..
وهم لن يفطنوا إلى أن الأرضية هي الجدار الخارجي لأرجوحتهم نظرًا لأن الحواس تقرن دائمًا أي تثاقل بأنه اتجاه إلى تحت ( وهو شبيه لما يحدث لنا على الأرض .. فنحن أثناء دوران الأرض تكون رءوسنا إلى أسفل وأقدامنا إلى أعلى .. ومع ذلك يخيل إلينا العكس .. أن أقدامنا إلى أسفل دائمًا نتيجة الإحساس بالتثاقل الناتج عن الجاذبية ) .
وهكذا .. سوف تكون جميع حسابات هؤلاء العلماء مؤكدة بأنهم خاضعون لقوى الجاذبية ..
ولكن من يلاحظ هذه الأرجوحة من الخارج سوف يُخَطّئ كل حساباتهم .. وسوف يرى أنهم خاضعون للقصور الذاتي المعروف بإسم " القوة الطاردة المركزية " .. وهي القوة التي تطرد الأجسام المتحركة في دائرة إلى خارج الدائرة ..
ومعنى هذا أن هناك إمكانية للخلط دائمًا بين الحركة الناتجة من الجاذبية والحركة الناتجة من القصور الذاتي .. وأنه لا يمكن التفرقة بين اثنين بدون مرجع خارجي .
فإذا عدنا إلى الإشكال الأول .. وهو إشكال الحركة غير المنتظمة وتخيلنا الأرض التي تسير وحدها في الفضاء .. وتخيلنا الإستثناء الذي ترتب عليه إدراكنا لهذه الحركة .. وهو أن تبطئ أو تسرع .. أو تضطرب في حركتها .. فإن هذا الإستثناء لا يكون دلالة على أن حركتنا مطلقة .. إذ أن الخلط مازال قائمًا ..
فمن المحتمل أن يكون ما حسبناه حركة أرضية ( نتيجة القصور الذاتي ) هو في الواقع اضطراب في مجال الجاذبية لنجم بعيد غير مرئي .. ( مثل ما يحدث في حركة مياه البحر من مدّ وجزر نتيجة التقلبات في مجال جاذبية القمر ) .
إن التمييز بين الحركة الناتجة عن القصور الذاتي، والحركة الناتجة عن الجاذبية .. مستحيل .. بدون مرجع نهائي .
وبذلك لا تكون هناك وسيلة إلى إدراك الحركة المطلقة حتى من خلال الحركة غير المنتظمة .
وبذلك تصبح نظرية أينشتين نظرية عامة شاملة لكل قوانين الكون .. لا نظرية خاصة بالأجسام ذات الحركة المنتظمة ..
** ** **
والبرهان الثاني يأخذه أينشتين من ظاهرة طبيعية معروفة .. هي سقوط الأجسام نحو الأرض بسرعة واحدة مهما اختلفت كتلاتها ..
كرة من الحديد تسقط نحو الأرض .. بنفس السرعة التي تسقط بها كرة من الخشب مماثلة لها في الحجم .. بنفس السرعة التي تسقط بها قنبلة مدفع ..
وإذا كانت قطعة من الورق تسقط نحو الأرض ببطء فالسبب أن مسطحها كبير ومقاومة الهواء لسقوطها كبير مما يؤدي إلى هذا البطء في سقوطها .. ولكن لو كورناها تمامًا فإنها سوف تسقط نحو الأرض بنفس السرعة التي تسقط بها كرة الحديد .
ولقد كانت هذه السرعة الواحدة التي تسقط بها جميع الأجسام مصدر مشكلة عويصة في الطبيعة ..
إذ أن هذه الظاهرة هي عكس الظاهرة المعروفة في حركة الأجسام الأفقية .. وتفاوت سرعتها تبعًا لكتلتها ..
فالقوة التي تدفع كرة صغيرة عدة أميال إلى الأمام .. لا تكاد تحرك عربة سكة حديد إلا عدة سنتيمترات .. نتيجة أن عربة السكة الحديد تقاوم الحركة بقصورها الذاتي الأكبر بكثير من قصور كرة صغيرة ذات كتلة صغيرة ..
وقد حل نيوتن هذا الإشكال بقانونه الذي قال فيه : إن قوة الجاذبية الواقعة على جسم تزداد كلما ازداد قصوره الذاتي ..
والنتيجة أن الأرض تشد الكرة الحديد بقوة أكبر من الكرة الخشب .. ولذلك تسقط الكرتان بسرعة واحدة .. لأنه ولو أن الكرة الحديد قصورها أكبر ومقاومتها للحركة أكبر إلا أن القوة التي تشدها أكبر ..
وهذا القانون الذي أعلنه نيوتن باسم " تكافؤ الجاذبية والقصور الذاتي " .. هو دليل آخر على إمكانية الخلط بين القوتين .
** ** **
إنتهت نظرية أينشتين الثانية المعروفة " بالنسبية العامة " إلى نفي معرفة كل ما هو مطلق .. وإلى اعتبار الكون خاضعًا لقوانين واحدة برغم اختلاف الحركة في داخله .. وإلى استحالة معرفة الحركة من السكون بدون مرجع خارج عن نطاق الحركة وعن نطاق هذا السكون ..
ولكن أينشتين فتح على نفسه بابًا خطيرًا من الشك ..
فهذا الخلط بين الجاذبية والقصور الذاتي .. فتح بابًا للتساؤل .. من أين نعلم إذًا أن ما نقيسه على الأرض هو ظواهر لقوة جاذبية .. لماذا لا تكون ظواهر قصورية .. !
إن وجود الجاذبية يصبح أمرًا مشكوكًا فيه من أساسه .. وعلى أينشتين أن يملأ هذه الفجوة الرهيبة التي فتحها .. عليه أن يواجه عملاقًا اسمه نيوتن و يرد عليه ..
والإشكال الثاني .. هو هذا التفكك الذي اعترى الحقيقة على يد النسبية .. فانفرطت إلى كلمات خاوية .. المكان، والزمان، والكتلة .. حتى الكتلة انفرطت هي الأخرى فأصبحت حركة .. مجرد خواء .
كيف يعود أينشتين فيبني من هذا الخواء كونًا مأهولًا معقولًا ملموسًا كالكون الذي نراه .. ؟!
وكيف يصبح لهذا الكون شكل .. وأعمدة الشكل .. وهي الصلابة المادية .. قد انهارت وتبخرت .. إلى طاقة وإشعاع غير منظور .. ؟!
إن أينشتين عمد إلى البساطة فانتهى إلى الغموض ..
وهدِفَ إلى الحقيقة فأخذ بيدها إلى هوة من الشكّ .
..
مقال .. الحركة المطلقة .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ أنكر أينشتين في نظريته إمكان الحركة المطلقة ..
فمن المستحيل أن نعرف أن جسمًا ما في حالة حركة أو في حالة سكون إلا بالرجوع إلى جسم آخر ..
وتاريخنا مع الأرض يؤكد كلام أينشتين .. لقد ظللنا نعتقد قرونًا طويلة بأن الأرض ساكنة حتى اكتشفنا حركتها عن طريق رصد النجوم والكواكب حولها ..
ولو أن أرضنا كانت تدور وحدها في فضاء الكون لما أمكن على الإطلاق معرفة حركتها من سكونها .. لانعدام أي مرجع نقيس به ..
ولكان من المؤكد أننا سوف نظل جاهلين بحالنا .. وكان هناك استثناء واحد ..
أن تبطئ الأرض في حركتها فجأة .. أو تُسرِع فجأة .. أو تضطرب حركتها .. فندرك عن طريق تثاقل أجسامنا وقصورنا الذاتي أننا على جسم متحرك ..
شأننا شأن راكب الطائرة الذي يستطيع أن يكتشف حركتها دون حاجة إلى أن يطل من النافذة، أو يرجع إلى مرجع .. بمجرد أن تغير الطائرة من سرعتها أو اتجاهها أو ارتفاعها ..
ومثل راكب القطار الذي يجلس في مقصورة مغلقة .. جاهلًا بحركة قطاره حتى يبدأ القطار في التباطؤ أو ينحرف عن مسيره .. فيدرك أن قطاره يتحرك ..
وكان معنى هذا الإستثناء أن الحركة يمكن أن تكون مطلقة إذا كانت غير منتظمة ..
فهي في هذه الحالة يمكن إدراكها بالرجوع إلى ذاتها .. وبدون حاجة إلى مرجع خارجي ..
ولهذا وضع أينشتين نظريته الأولى " النسبية الخاصة " وقصرها على الأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة ..
وقال فيها : " إن قوانين الكون واحدة لكل الأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة " .
ولكن هذا الشذوذ في القاعدة .. ظل يؤرق باله .. فهو لا يعتقد في كون معقّد وإنما يؤمن بكون بسيط .. ويرى أن البساطة أعمق من التعقيد، وأن تعدد القوانين وتناقضها في كون واحد يدل على عقل رياضي سطحي عاجز عن إدراك الحقيقة .
وبعد سنوات من التفكير والحساب وإعادة النظر .. قدم نظريته الجريئة في " النسبية العامة " التي أعلن فيها أن : " قوانين الكون واحدة لكل الأجسام بصرف النظر عن حالات حركتها " .
وبذلك عاد فأكد رفضه لكل ما هو مطلَق .. حتى هذا الإستثناء الواحد .. الحركة غير المنتظمة .. هي الأخرى أصبحت نسبية لا يمكن الجزم بها بدون مرجع خارجي ..
ولتقريب هذا الإشكال الجديد إلى الذهن تخيل أينشتين أرجوحة مربوطة بحبال إلى عمود رأسي .. وأن هذه الأرجوحة تدور حول العمود كما تدور أراجيح الأطفال في المولد .. مع فارق واحد : أنها مغلقة تمامًا وأن الجالس بداخلها لا يرى ما يدور خارجها .. وأنها موجودة في الفضاء بعيدًا عن أي جاذبية ..
ماذا سوف يحدث لعدد من العلماء جالسين في تلك الأرجوحة ؟
إنهم سوف يلاحظون أن أجسامهم تتثاقل دائمًا نحو أرضية الأرجوحة، وأنه إذا ألقوا بأي شيء فإنه يسقط دائمًا نحو الأرضية .. وإذا انطلقت رصاصة لتخترق جدار الأرجوحة فإنها سوف تميل نحو أرضيتها على شكل قطع مكافئ .. وسوف يكون تعليلهم لهذه الظاهرة أن هناك قوى جاذبية في هذه الأرضية ..
وهم لن يفطنوا إلى أن الأرضية هي الجدار الخارجي لأرجوحتهم نظرًا لأن الحواس تقرن دائمًا أي تثاقل بأنه اتجاه إلى تحت ( وهو شبيه لما يحدث لنا على الأرض .. فنحن أثناء دوران الأرض تكون رءوسنا إلى أسفل وأقدامنا إلى أعلى .. ومع ذلك يخيل إلينا العكس .. أن أقدامنا إلى أسفل دائمًا نتيجة الإحساس بالتثاقل الناتج عن الجاذبية ) .
وهكذا .. سوف تكون جميع حسابات هؤلاء العلماء مؤكدة بأنهم خاضعون لقوى الجاذبية ..
ولكن من يلاحظ هذه الأرجوحة من الخارج سوف يُخَطّئ كل حساباتهم .. وسوف يرى أنهم خاضعون للقصور الذاتي المعروف بإسم " القوة الطاردة المركزية " .. وهي القوة التي تطرد الأجسام المتحركة في دائرة إلى خارج الدائرة ..
ومعنى هذا أن هناك إمكانية للخلط دائمًا بين الحركة الناتجة من الجاذبية والحركة الناتجة من القصور الذاتي .. وأنه لا يمكن التفرقة بين اثنين بدون مرجع خارجي .
فإذا عدنا إلى الإشكال الأول .. وهو إشكال الحركة غير المنتظمة وتخيلنا الأرض التي تسير وحدها في الفضاء .. وتخيلنا الإستثناء الذي ترتب عليه إدراكنا لهذه الحركة .. وهو أن تبطئ أو تسرع .. أو تضطرب في حركتها .. فإن هذا الإستثناء لا يكون دلالة على أن حركتنا مطلقة .. إذ أن الخلط مازال قائمًا ..
فمن المحتمل أن يكون ما حسبناه حركة أرضية ( نتيجة القصور الذاتي ) هو في الواقع اضطراب في مجال الجاذبية لنجم بعيد غير مرئي .. ( مثل ما يحدث في حركة مياه البحر من مدّ وجزر نتيجة التقلبات في مجال جاذبية القمر ) .
إن التمييز بين الحركة الناتجة عن القصور الذاتي، والحركة الناتجة عن الجاذبية .. مستحيل .. بدون مرجع نهائي .
وبذلك لا تكون هناك وسيلة إلى إدراك الحركة المطلقة حتى من خلال الحركة غير المنتظمة .
وبذلك تصبح نظرية أينشتين نظرية عامة شاملة لكل قوانين الكون .. لا نظرية خاصة بالأجسام ذات الحركة المنتظمة ..
والبرهان الثاني يأخذه أينشتين من ظاهرة طبيعية معروفة .. هي سقوط الأجسام نحو الأرض بسرعة واحدة مهما اختلفت كتلاتها ..
كرة من الحديد تسقط نحو الأرض .. بنفس السرعة التي تسقط بها كرة من الخشب مماثلة لها في الحجم .. بنفس السرعة التي تسقط بها قنبلة مدفع ..
وإذا كانت قطعة من الورق تسقط نحو الأرض ببطء فالسبب أن مسطحها كبير ومقاومة الهواء لسقوطها كبير مما يؤدي إلى هذا البطء في سقوطها .. ولكن لو كورناها تمامًا فإنها سوف تسقط نحو الأرض بنفس السرعة التي تسقط بها كرة الحديد .
ولقد كانت هذه السرعة الواحدة التي تسقط بها جميع الأجسام مصدر مشكلة عويصة في الطبيعة ..
إذ أن هذه الظاهرة هي عكس الظاهرة المعروفة في حركة الأجسام الأفقية .. وتفاوت سرعتها تبعًا لكتلتها ..
فالقوة التي تدفع كرة صغيرة عدة أميال إلى الأمام .. لا تكاد تحرك عربة سكة حديد إلا عدة سنتيمترات .. نتيجة أن عربة السكة الحديد تقاوم الحركة بقصورها الذاتي الأكبر بكثير من قصور كرة صغيرة ذات كتلة صغيرة ..
وقد حل نيوتن هذا الإشكال بقانونه الذي قال فيه : إن قوة الجاذبية الواقعة على جسم تزداد كلما ازداد قصوره الذاتي ..
والنتيجة أن الأرض تشد الكرة الحديد بقوة أكبر من الكرة الخشب .. ولذلك تسقط الكرتان بسرعة واحدة .. لأنه ولو أن الكرة الحديد قصورها أكبر ومقاومتها للحركة أكبر إلا أن القوة التي تشدها أكبر ..
وهذا القانون الذي أعلنه نيوتن باسم " تكافؤ الجاذبية والقصور الذاتي " .. هو دليل آخر على إمكانية الخلط بين القوتين .
إنتهت نظرية أينشتين الثانية المعروفة " بالنسبية العامة " إلى نفي معرفة كل ما هو مطلق .. وإلى اعتبار الكون خاضعًا لقوانين واحدة برغم اختلاف الحركة في داخله .. وإلى استحالة معرفة الحركة من السكون بدون مرجع خارج عن نطاق الحركة وعن نطاق هذا السكون ..
ولكن أينشتين فتح على نفسه بابًا خطيرًا من الشك ..
فهذا الخلط بين الجاذبية والقصور الذاتي .. فتح بابًا للتساؤل .. من أين نعلم إذًا أن ما نقيسه على الأرض هو ظواهر لقوة جاذبية .. لماذا لا تكون ظواهر قصورية .. !
إن وجود الجاذبية يصبح أمرًا مشكوكًا فيه من أساسه .. وعلى أينشتين أن يملأ هذه الفجوة الرهيبة التي فتحها .. عليه أن يواجه عملاقًا اسمه نيوتن و يرد عليه ..
والإشكال الثاني .. هو هذا التفكك الذي اعترى الحقيقة على يد النسبية .. فانفرطت إلى كلمات خاوية .. المكان، والزمان، والكتلة .. حتى الكتلة انفرطت هي الأخرى فأصبحت حركة .. مجرد خواء .
كيف يعود أينشتين فيبني من هذا الخواء كونًا مأهولًا معقولًا ملموسًا كالكون الذي نراه .. ؟!
وكيف يصبح لهذا الكون شكل .. وأعمدة الشكل .. وهي الصلابة المادية .. قد انهارت وتبخرت .. إلى طاقة وإشعاع غير منظور .. ؟!
إن أينشتين عمد إلى البساطة فانتهى إلى الغموض ..
وهدِفَ إلى الحقيقة فأخذ بيدها إلى هوة من الشكّ .
..
مقال .. الحركة المطلقة .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
روى مسلم والبخاريُّ في صحيحهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
أنّ موسى قام خطيبا في بني إسرائيل
فسئل أي الناس أعلم
فقال : أنا
فعتبَ الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه
فأوحى الله إليه إن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلمُ منك
قال موسى : أيّ ربّ فكيف لي به ؟
قال : تأخذ معكَ حوتًا في مكتل
فحيثما فقدت الحوت فهو ثمَّ
وأخذ حوتًا فجعله في مكتل، ثم انطلق
وانطلق معه فتاه يوشع بن نون
حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما
واضطرب الحوتُ في المكتل، فخرج منه
فسقط في البحر، " فاتخذ سبيله في البحر سربًا "
فلما استيقظ، نسيَ صاحبُه أن يخبره بالحوت
فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما
حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه :
" آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا "
قال له فتاه :
" أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبًا "
قال له موسى: " ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصًا "
فرجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة
فإذا رجل مسجى بثوب، فسلَّمَ عليه موسى
فقال: وأنى بأرضك السّلام ؟
قال : أنا موسى
فقال له : موسى بني إسرائيل ؟
قال : نعم أتيتكَ لتعلمني مما عُلمت رشدًا
قال : يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنتَ على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه
قال : هل أتبعك ؟
قال : " إنك لن تستطيع معي صبرًا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا "
قال موسى : " ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا "
فقال له الخضر : " فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا "
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرّتْ بهما سفينة
فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم من غير نول/ أُجرة
فلما ركبا السفينة قلع الخضر لوحًا بالقدّوم
فقال له موسى : ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها
" لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرًا "
قال : " ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا "
قال : " لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرًا "
فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين
قال له الخضر : يا موسى ما نقصَ علمي وعلمك من علم الله
إلا مثل ما نقصَ هذا العصفور بمنقاره من البحر !
فلما خرجا من البحر، مرُّوا بغلام يلعب مع الصبيان
فأخذ الخضر رأسه فقلعه بيده، فقتله
فقال له موسى : " أقتلت نفسًا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرًا "
قال: " ألمْ أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا "
قال : " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا "
" فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض "
مائل، فقام الخضر وأقامه بيده
فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا عمدتَ إلى حائطهم
" لو شئت لاتخذت عليه أجرًا "
قال : "هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا "
وقرأ صلى الله عليه وسلم الآيات حتى بلغ :
" ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرًا "
ثم قال : يرحم الله موسى لو كان صبر لقصَّ الله علينا من أمرهما.
الدَّرْسُ الأوّل :
تقودنا القصة إلى أن نسأل : من هو الخِضر ؟
الخِضر شخصيّة ثابتة بنصِّ القرآن والحديث، الإيمان بها واجب
وكثرت الأحاديث والأقاويل والآراء فيه
وكل ما ورد في هذا كذب وافتراء ولا يصح فيه شيء
يقول ابن القيم ناقلًا إجماع أهل السنة في الخضر :
" الأحاديث التي يُذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد " !
فحديث أنّ النبيّ كان في المسجد فسمع كلامًا وراءه
فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر، مكذوب
وحديث يلتقي الخضر وإلياس كل عام مكذوب
وحديث يجتمع في عرفة كل عام جبريل وميكائيل والخضر، مكذوب أيضًا
لا نعلم إلا أنه رجل صالح أتاه الله علمًا كثيرًا
فلا يُعرف عن نسبه ومولده شيء صحيح إطلاقًا
وكل ما يُروى في هذا الباب رجم بالغيب وقول بلا علم
بل إنه يقترب إلى الخوارق التي تُخالف النقل والعقل
فقال بعضهم : هو ابن آدم لصلبه
وقال بعضهم : هو ابن قابيل بن آدم
وقال آخرون : هو ابن شيث
وقال بعضهم : إنه من بلاد فارس
وكلّ هذا لا يصح منه شيء كما تقدم
وهو علم لا ينفع وجهل لا يضُر
ولو احتجنا لهذا العلم لأخبرنا به الله أو رسوله
وغالى البعض فيه حتى قالوا هو حيُّ يُرزق حتى اليوم
وأنه يبقى حيًا حتى يشهد قتل الدجال
وسُئل البخاريّ عن الخضر وإلياس وهل هما أحياء
فقال : لا يكون هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا يبقى على رأس مئة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدًا " !
وقال ابن الجوزي: والدليل على أن الخضر ليس حيًا أربعة أشياء
القرآن، والسنة، وإجماع المحققين، والعقل !
ومن الأمور العقلية التي تُكذب بقاءه حيًا
أنهم قالوا هو ابن آدم عليه السلام لصلبه
فهو إذاً على زعمهم عمره آلاف الأعوام وهذا محال
وقالوا ابن آدم وقد كان وزيرًا لذي القرنين
وهذا محال لأنه وجب أن يكون كأبيه جسمًا، ستون ذراعًا في السماء
وذو القرنين كان رجلاً عاديًا بعدما تناقص الخلق كما في الحديث
فسيكون هذا أمر شاذ ومستغرب عمرًا وجسمًا
وأيضًا لو كان قبل نوح عليه السلام
لركب السفينة معه وليس في هذا خبر صحيح ولا مكذوب
ثم إنّ كل الذين ركبوا ماتوا، ولم تبقَ إلا ذرية نوح
بنص الآية: " وجعلنا ذريته هم الباقون "
كذلك لو صح إنه ابن آدم وأنه يعيش لآخر الدهر
لكانت هذه آية عظيمة من آيات الله، ولوجدنا لها ذكرًا في القرآن أو حديث
وأخيرًا لو كان حيًا كما يزعمون
فانظر لحال الأمة اليوم، فيها القتل والتشريد والشريعة معطلة
أليس حضوره وجهاده وإقامته للشريعة أفضل من هيامه في البراري والصحارى ؟!
إذًا هو رجل من بني آدم مثلنا وليس من صلبه
ولد ولادة عادية ولا شيء يثبت عكس ذلك
وكان مولده قريبًا من عهد موسى
وإن عاش بعد موسى فقد عاش كما يعيش الناس العاديون
عمرًا عاديًا ثم مات
الدَّرْسُ الثّاني :
تواضعْ !
نحن نميلُ دومًا لتعظيم أنفسنا
أو بمعنى أدقّ : نرى أنفسنا الأمهر في مجالها
قلما تجد طبيبًا لا يرى أنه الأمهر
وقلما تجد شاعرًا لا يرى أنه الأشعر
وقلما تجد معلمًا لا يرى أنه الأقدر
وهكذا المهندس والميكانيكي والكهربائي والمرأة التي تطهو في البيت !
احترام الذات وتقديرها شيء
والاعتقاد بأننا لا يُشق لنا غبار شيء آخر
إن كان موسى عليه السلام وهو كليم الله
وأحد أولي العزم من الرسل الخمسة الكرام وكلهم كريم
وعلمه وحي لا يحتمل الخطأ
يعاتبه ربّه أنه لما سُئل من أعلم أهل الأرض
قال : أنا
حتمًا هناك أعلم منك في مجالك
ولنقل أنتَ تفْضُل الناس في أشياء وهم يفْضُلونك في أشياء
وهذا في علمك واختصاصك
فما بالك في علمِ غيرك واختصاصه
رجل كل شيء هو رجل لا شيء !
وما من إنسان إلا ويعرف ويجهل
وقد قال ربنا : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون "
ومحال أن يكون إنسان من أهل الذكر في كلّ شيء
نبوغك اللغوي لا يعني أن تُطبب الناس
تفوقك في الهندسة لا يعني أنك مفتي
براعتك في كهرباء المنازل لا يعني أنك ميكانيكي
احترم علم الآخرين مهما كان بسيطًا بعينك
ربما لو اجتمع الأطباء كلهم لعجزوا عن إصلاح حنفية تقطر ماء
تمامًا كما لو اجتمع مهندسو العالم لعجزوا عن إجراء عملية جراحية
إنّ من كمال الله أنه استغنى عن خلقه
ومن عظمته أنه أحوجَ النَّاسَ إلى النَّاسِ !
الدَّرْسُ الثّالث :
سياق القصّة يقودنا إلى سؤال مهم هو :
من أفضل : موسى عليه السّلام أم الخضر ؟!
والجواب بلا ريب أن موسى عليه السلام أفضل
فمقام النبوة لا يعدله مقام آخر
إلا أن يكون نبيًا مثله وقد فضَّله ربُّه
فنبيِّنا أفضل الخلق جميعًا
يأتي بعده إبراهيم عليه السلام
ثم إن الله أعلم بمرتبة الثلاثة المتبعين من الخمسة أولي العزم
فلماذا يكون الخضر أعلم من موسى ؟
لأن الأعلم ليس الأفضل
فالأمور لا تُحسب في مجال واحد وإنما تؤخذ جملة
ولتبسيط الأمر نضرب الأمر بالصحابة رضوان الله عليهم جميعًا
أبي بن كعب أقرأ من عمر لكتاب الله ولكن عمر أفضل
وخالد بن الوليد أعلم من أبي بكر في الحرب ولكن أبا بكر أفضل
ومعاذ بن جبل أعلم من عثمان بالحلال والحرام ولكن عثمان أفضل
وقد يفضل أحد الصحابة عليًا في أمر ولكن علي بالمجمل أفضل
وهذا كذاك !
الخضر أعلم من موسى عليه السلام في أشياء علّمه الله إياها
ولكن موسى عليه السلام أفضل من الخضر جملة لمقام نبوته
وموسى الذي عُوتب لأنه قال أنه أعلم أهل الأرض
لم يأمره ربه أن يذهب ليتعلم من الخضر
وإنما طلب موسى عليه السلام هذا الأمر بنفسه
إنه تواضع العظماء وقد كان موسى عليه السلام عظيمًا
فلا تتحرج في أن تتعلم ممن هو دونك
واقتدِ بموسى عليه السلام وما أحلاه من قدوة
قال فيه ربه آياتٍ يُغبط عليها لقيام الساعة
قال له : " واصطنعتك لنفسي "
وقال له : " ولتصنع على عيني "
وقال له : " وألقيتُ عليكَ محبة مني "
وقال له : " وأنا اخترتك "
ولكن هذا المختار من قبل الله
الملقاة عليه محبته، والمصنوع على عينيه، والمُصطفى لنفسه
لم يشعر أنها إهانة أن يتعلم
إن النبلاء يتواضعون، فكن نبيلًا !
الدَّرْسُ الرَّابع :
قُرِنَ العلم بالمشقة
فإذا كان رغيف خبز لا يُجنى بالسَّاهل
فمن باب أولى أن لا يُجنى العلم بالسَّاهل
ارتحل البخاريُّ من بلدٍ إلى بلدٍ طلبًا لحديث واحد
وصلى الشافعي الفجر بوضوء العشاء
لأنه أمضى ليلته يبحثُ عن جواب لمسألة
وما كان لموسى عليه السلام أن تقعده المشقة عن طلب العلم فارتحل
لا سيارات تطوي المسافات الطوال في ساعات
ولا طائرات تقطع البلدان برمشة عين
لا مكتبات فيها آلاف المراجع، خُذ من هنا وهناك وكُنْ باحثًا !
لا مكينات تصوير إن أردتَ العلم فانسخَ واكتبْ بيدكَ
يقطعُ موسى عليه السلام الفيافي والقفار
إن مُرَّ العلم ساعة
ولكن مُرّ الجهل طول العمر
ومن أَنِف مُرّ ساعةٍ تجرَّع مُر عُمر !
الدَّرْسُ الخامس :
قال الخضر لموسى عليه السلام أمرًا هامًا يجب الالتفات إليه :
إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنتَ
وأنتَ على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه !
والعلم قسمان :
الأول : علم لدنيّ يُعلّمه الله من شاء من خلقه
الثاني : علم مكتسب يُحصّله الإنسان بجهده وبحثه وصبره بعد توفيق الله
وإن كان لا سبيل إلى الأول
فإن السبيل مُشرع إلى الثاني !
ولقد قال سيدنا : إنما العلم بالتّعلم !
وكل ما في الحياة كذلك !
بعضه يهبه الله من دون سبب
وبعضه لا يتحقق إلا بالأسباب الواقعة في قدر الله
والعاقل يأخذ بالأسباب كأنها السبيل الوحيد إلى الغايات
وبالمقابل لا ينسَ أن الغايات بيد الله
إن شاء أن لا يحققها رغم الأسباب فعل !
إن كان الله شفى أيوب عليه السلام بغير طبيب
فلا يعني أن لا نذهب إلى الأطباء
وإن كان الله رزق مريم ابنًا من غير زوج
فلا يعني أن الأولاد يأتون دون زواج
وإن كان الله حفظ يونس في بطن الحوت
فلا يعني أن بطون الحيتان أماكن آمنة
وإن كان الله شقّ لموسى البحر بعصاه
فلا يعني أن العصيّ تشق البحار
هذا يعني أنّ كل شيء بقدر الله
ولكن الله جعل لهذا الكون قوانين
لا بدّ من التعامل معها بجدية وطريقة عملية بعيدًا عن أي اعتبار آخر
ولو استغنى أحد عن الأخذ بالأسباب
لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أغنى الناس عنها
ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزهدْ فيها
وانظرْ إليه وهو في طريق هجرته
فأولاً : اتخذ له رفيقًا
وثانيًا : اتخذ له دليلًا
وثالثًا : اتخذ من يحضر له الزاد
ورابعًا : اتخذ من يمحوا آثاره عن الرمال
وخامسًا : اتخذ طريقًا غير معتاد
فلقد أراد أن يُعلمنا أن نكون واقعيين وعمليين.
الدَّرْسُ السَّادس :
يبتلي الله تعالى بالصغيرة لينجي من الكبيرة
وإن الابتلاءات تحمل في طياتها رحمة ولكن الناس لا يعلمون !
إما رحمة عاجلة لصلاح الدنيا
أو رحمة مؤجلة لصلاح الآخرة
فلو أبقى الخضر على السفينة صالحة كما هي لأخذها الملك غصبًا
فأيهما أكثر شرًا أن تُثقب السفينة
ويشقى أهلها قليلًا في جرها إلى الشاطئ وإصلاحها، أم خسارتها كلها ؟
لا شك أن بعض الشر أهون من بعض ولكن الناس لا يعلمون !
ومات أهل السفينة ولم يعلموا أن هذا الشر هو خير
ولولا خبر القرآن ما علمنا نحن أيضًا
لو كانت الحياة تضعنا في خيار بين الخير والشرّ لكانت هينة
لكنها غالبًا ما تضعنا في خيار بين شر وآخر
والعاقل هو الذي اختار خير الشَّرين
وقد قال عمر بن الخطاب : ليس العاقل من عرف الخير من الشر
وإنما من عرف خير الشرين
خُذ دومًا بأقل الأضرار وأقل الخسائر
إتلاف البعض للحفاظ على الكل
ألا ترى الأطباء يُسقطون الجنين للحفاظ على الأم
ويبترون يدًا أو قدمًا للحفاظ على الجسم
الخيارات أحيانًا تكون مؤلمة ولكن فينا عقل لنختار !
الصبر على إهانات العمل خير من البطالة
ولا أدعو لتحمل الإهانات إنما للصبر ريثما يتحصل البديل
وأحيانًا صبر زوجة على زوجها رغم سوء أخلاق
هو الأفضل لها ولأولادها
لأنها ستكون بين خيارين أحلاهما مرّ
والعاقل من يختار الأقل مرارة
وقد يكون صبر زوج على زوجته خير من طلاقها
لأن الحل الذي نأخذه في مشكلة
قد يفتح مشكلة أكبر من الأولى التي اخترنا لها حلاً !
وأما الابتلاء لإصلاح الآخرة
فهو ما حدث في قتل الغلام
ثمة أشياء لا يفهمها الناس لأنهم لا يحيطون بها علماً
من أين للأبوين المؤمنين أن يعرفا أن ابنهما هذا
لو كبر فإنه سيكون كافراً ويفتنهما في دينهما
فاختار الله لهما خير الشَّرين
فلا شكّ أن فقدان الولد أقل شرًا من الكفر
ولا شك كذلك أنه إن ابتلى فقد ألهمَ الصبر
حين يأخذ منك شيئًا فأنت لا تعرف الحكمة
ولكن كن على ثقة ليس كل ما تراه شرًا هو كذلك فعلًا
وليس كل ما تراه خيرًا هو كذلك فعلًا
والخيرة فيما اختاره الله !
الدَّرْسُ السَّابع :
إذا خفت على مستقبل أولادك بعدك
فلا تفتح لهم حسابًا في البنك، ولا تجمع لهم ميراثًا ضخمًا
وإن كان هذا أمر حسن
ولكن أمّن عليهم عند الله، وكن صالحًا !
فإن من لم يترك إلا الميراث فقد ترك الأولاد للأسباب
ومن ترك التقوى فقد ترك الأولاد لربِّ الأسباب
ولا شك أن الأسباب تذهب ويبقى الله
وانظر لثمرة التقوى عند الله
عبد صالح من عباد الله لا نعلمه نحن
ولا يعلمه موسى عليه السلام والخضر كذلك
ولكن الله يعلمه، وكفى له شرفًا
هذا المجهول في الأرض، المعروف في السماء
أرسل الله نبيًا من أولي العزم من الرسل وعبدًا صالحًا
ليقيما جدارًا تحته كنز لأولاده
أبعد هذا التأمين على الحياة تأمين ؟!
دخل مقاتل بن سليمان على المنصور يوم بُويع بالخلافة
فقال له المنصور : عِظني يا سليمان
فقال : أعظك بما رأيتُ أم بما سمعتُ ؟
فقال : بل بما رأيتَ
فقال : يا أمير المؤمنين، إن عمر بن عبد العزيز
أنجب أحد عشر ولدًا وترك ثمانية عشر دينارًا
كُفّن بخمسة دنانير، واشترى له قبر بأربعة دنانير
ووزّع الباقي على أبنائه
وهشام بن عبد الملك أنجب أحد عشر ولدًا
وكان نصيب كل ولد ألف ألف دينار
واللهِ يا أمير المؤمنين لقد رأيتُ في يوم واحد
أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يتصدق بمئة فرس للجهاد في سبيل الله
وأحد أبناء هشام يتسوّل في الأسواق !
الدَّرْسُ الثَّامن :
تُعلمنا هذه القصة الأدب مع الله
وما أحوجنا لأن نتعلم هذا في زمن كثر فيه التسخط والتشكي
وكل ما فعله الخضر إنما كان بأمر من الله كما تبين
ولكنه كان أديبًا وهو يخبر عن الله
فجعل القدر الذي ظاهره شر منسوب إلى نفسه
والقدر الذي هو خير منسوب إلى الله سبحانه وتعالى
وها هو يخبر موسى عليه السلام بما كان منه فيقول :
" أما السفينة فكانت لغلامين يتيمين في المدينة فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا "
فأردتُ أن أعيبها !
ما أحلاه من أدب، وما أعذبه من تأدب
كان ينفذ أمر الله بالحرف ولكنه نسب الضرر لنفسه
وكذلك كان أديبًا في كلامه عن قتل الغلام :
" أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا "
هنا أشرك نفسه بضمير الجميع " أردنا "
وذلك أنه من أدبه مع الله قسم العمل بينه وبين الله
في هذا الفعل " قتل " و " رحمة "
فهو المنوط بفعل القتل رغم أنه وحيّ
والله المختص بالرحمة
وكذلك كان أديبًا في كلامه عن الجدار :
" وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحًا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما "
" أراد ربك "
نسب الفعل كلّه لله، ذلك أن الفعل هنا خير كله
خير من إكرام العبد الصالح بابنيه، وخير من حفظ الكنز إليهما
والأدب مع الله كثير في القرآن الكريم لا يتسع له المقام
ونضرب أمثلة خفيفة منه فالكلام يجر بعضه بعضًا
يقول الله تعالى لعيسى ابن مريم :
" أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " !
كان يكفي أن يقول عيسى عليه السَّلام : لا
وهو جواب حسن للسؤال ويفي بالمراد
ولكن هذا ليس أدب الأنبياء مع الله
وإنما قال : " إن كنتُ قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك سبحانك إنك أنت علام الغيوب "
وكان إبراهيم عليه السلام أديبًا مع الله كذلك يوم قال :
" الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضتُ فهو يشفين "
إنّ المرض بيد الله وهو المبتلي به
ولكن إبراهيم المؤدب مع ربه نسب المرض إلى نفسه
فقال : وإذا مرضتُ
ونسب الشفاء لله، فقال : " فهو يشفين "
فنسب كل خير لله، الخلق والهداية والإطعام والسقاية
ولكن لأن المرض في ظاهره شر نسبه لنفسه
وكذلك أيوب عليه السلام كان مؤدبًا مع الله :
" إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين "
فلم يقل ربي سلطت عليّ المرض
رغم أنه يعرف أن ما نزل به من بلاء من الله
بل قال : مسني الضر، هكذا وكأن الضر جاء وحده
فأدبًا مع الله لم ينسب الشقاء له
حتى أنه لم يطلب الشفاء صراحة
مع أنه لو طلبه ما كان في الأمر شيء
وإنما قال : وأنت أرحم الراحمين
إنه أدب الطلب الذي يأخذ شكل الثناء والتنزيه
وكذلك كان آدم عليه السلام مؤدبًا مع الله فقال :
" ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين "
رغم أنه مرّ معنا في حوار آدم وموسى عليهما السلام
أن آدم قد حجّ موسى وبأن ما حدث أمر قد كتبه الله
ولكن قارن بين كلام آدم مع عبد مثله
وبين كلامه مع ربه
ففي الأول يُدافع عن نفسه، يتحدث عن مشيئة الله
وفي الثاني ينسب الظلم لنفسه مع أنه قدر الله قبل خلقه
حتى الجن كانوا في غاية الأدب مع الله فقالوا :
" وإنا لا ندري أشرّ أريدَ بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا "
إنّ الشرّ يقع بقدر الله وعلمه
ولكنهم عندما تحدثوا عن الشرّ جاؤوا بالفعل المبني للمجهول " أُريدَ "
وعندما تحدثوا عن الخير والرشد والهداية
نسبوا ذلك إلى الله صراحة "أراد بهم ربهم رشدًا"
من كتاب / مع النبيّ
للكاتب /ادهم شرقاوي. ❝ ⏤أدهم شرقاوي
❞ موسى عليه السَّلام والخِضر
روى مسلم والبخاريُّ في صحيحهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
أنّ موسى قام خطيبا في بني إسرائيل
فسئل أي الناس أعلم
فقال : أنا
فعتبَ الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه
فأوحى الله إليه إن لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلمُ منك
قال موسى : أيّ ربّ فكيف لي به ؟
قال : تأخذ معكَ حوتًا في مكتل
فحيثما فقدت الحوت فهو ثمَّ
وأخذ حوتًا فجعله في مكتل، ثم انطلق
وانطلق معه فتاه يوشع بن نون
حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما
واضطرب الحوتُ في المكتل، فخرج منه
فسقط في البحر، " فاتخذ سبيله في البحر سربًا "
فلما استيقظ، نسيَ صاحبُه أن يخبره بالحوت
فانطلقا يمشيان بقية ليلتهما ويومهما
حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه :
" آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا "
قال له فتاه :
" أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبًا "
قال له موسى: " ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصًا "
فرجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة
فإذا رجل مسجى بثوب، فسلَّمَ عليه موسى
فقال: وأنى بأرضك السّلام ؟
قال : أنا موسى
فقال له : موسى بني إسرائيل ؟
قال : نعم أتيتكَ لتعلمني مما عُلمت رشدًا
قال : يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنتَ على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه
قال : هل أتبعك ؟
قال : " إنك لن تستطيع معي صبرًا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا "
قال موسى : " ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا "
فقال له الخضر : " فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا "
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرّتْ بهما سفينة
فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم من غير نول/ أُجرة
فلما ركبا السفينة قلع الخضر لوحًا بالقدّوم
فقال له موسى : ما صنعت؟ قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها
" لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرًا "
قال : " ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرًا "
قال : " لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرًا "
فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين
قال له الخضر : يا موسى ما نقصَ علمي وعلمك من علم الله
إلا مثل ما نقصَ هذا العصفور بمنقاره من البحر !
فلما خرجا من البحر، مرُّوا بغلام يلعب مع الصبيان
فأخذ الخضر رأسه فقلعه بيده، فقتله
فقال له موسى : " أقتلت نفسًا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرًا "
قال: " ألمْ أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا "
قال : " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا "
" فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض "
مائل، فقام الخضر وأقامه بيده
فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا عمدتَ إلى حائطهم
" لو شئت لاتخذت عليه أجرًا "
قال : "هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا "
وقرأ صلى الله عليه وسلم الآيات حتى بلغ :
" ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرًا "
ثم قال : يرحم الله موسى لو كان صبر لقصَّ الله علينا من أمرهما.
الدَّرْسُ الأوّل :
تقودنا القصة إلى أن نسأل : من هو الخِضر ؟
الخِضر شخصيّة ثابتة بنصِّ القرآن والحديث، الإيمان بها واجب
وكثرت الأحاديث والأقاويل والآراء فيه
وكل ما ورد في هذا كذب وافتراء ولا يصح فيه شيء
يقول ابن القيم ناقلًا إجماع أهل السنة في الخضر :
" الأحاديث التي يُذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد " !
فحديث أنّ النبيّ كان في المسجد فسمع كلامًا وراءه
فذهبوا ينظرون فإذا هو الخضر، مكذوب
وحديث يلتقي الخضر وإلياس كل عام مكذوب
وحديث يجتمع في عرفة كل عام جبريل وميكائيل والخضر، مكذوب أيضًا
لا نعلم إلا أنه رجل صالح أتاه الله علمًا كثيرًا
فلا يُعرف عن نسبه ومولده شيء صحيح إطلاقًا
وكل ما يُروى في هذا الباب رجم بالغيب وقول بلا علم
بل إنه يقترب إلى الخوارق التي تُخالف النقل والعقل
فقال بعضهم : هو ابن آدم لصلبه
وقال بعضهم : هو ابن قابيل بن آدم
وقال آخرون : هو ابن شيث
وقال بعضهم : إنه من بلاد فارس
وكلّ هذا لا يصح منه شيء كما تقدم
وهو علم لا ينفع وجهل لا يضُر
ولو احتجنا لهذا العلم لأخبرنا به الله أو رسوله
وغالى البعض فيه حتى قالوا هو حيُّ يُرزق حتى اليوم
وأنه يبقى حيًا حتى يشهد قتل الدجال
وسُئل البخاريّ عن الخضر وإلياس وهل هما أحياء
فقال : لا يكون هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا يبقى على رأس مئة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدًا " !
وقال ابن الجوزي: والدليل على أن الخضر ليس حيًا أربعة أشياء
القرآن، والسنة، وإجماع المحققين، والعقل !
ومن الأمور العقلية التي تُكذب بقاءه حيًا
أنهم قالوا هو ابن آدم عليه السلام لصلبه
فهو إذاً على زعمهم عمره آلاف الأعوام وهذا محال
وقالوا ابن آدم وقد كان وزيرًا لذي القرنين
وهذا محال لأنه وجب أن يكون كأبيه جسمًا، ستون ذراعًا في السماء
وذو القرنين كان رجلاً عاديًا بعدما تناقص الخلق كما في الحديث
فسيكون هذا أمر شاذ ومستغرب عمرًا وجسمًا
وأيضًا لو كان قبل نوح عليه السلام
لركب السفينة معه وليس في هذا خبر صحيح ولا مكذوب
ثم إنّ كل الذين ركبوا ماتوا، ولم تبقَ إلا ذرية نوح
بنص الآية: " وجعلنا ذريته هم الباقون "
كذلك لو صح إنه ابن آدم وأنه يعيش لآخر الدهر
لكانت هذه آية عظيمة من آيات الله، ولوجدنا لها ذكرًا في القرآن أو حديث
وأخيرًا لو كان حيًا كما يزعمون
فانظر لحال الأمة اليوم، فيها القتل والتشريد والشريعة معطلة
أليس حضوره وجهاده وإقامته للشريعة أفضل من هيامه في البراري والصحارى ؟!
إذًا هو رجل من بني آدم مثلنا وليس من صلبه
ولد ولادة عادية ولا شيء يثبت عكس ذلك
وكان مولده قريبًا من عهد موسى
وإن عاش بعد موسى فقد عاش كما يعيش الناس العاديون
عمرًا عاديًا ثم مات
الدَّرْسُ الثّاني :
تواضعْ !
نحن نميلُ دومًا لتعظيم أنفسنا
أو بمعنى أدقّ : نرى أنفسنا الأمهر في مجالها
قلما تجد طبيبًا لا يرى أنه الأمهر
وقلما تجد شاعرًا لا يرى أنه الأشعر
وقلما تجد معلمًا لا يرى أنه الأقدر
وهكذا المهندس والميكانيكي والكهربائي والمرأة التي تطهو في البيت !
احترام الذات وتقديرها شيء
والاعتقاد بأننا لا يُشق لنا غبار شيء آخر
إن كان موسى عليه السلام وهو كليم الله
وأحد أولي العزم من الرسل الخمسة الكرام وكلهم كريم
وعلمه وحي لا يحتمل الخطأ
يعاتبه ربّه أنه لما سُئل من أعلم أهل الأرض
قال : أنا
حتمًا هناك أعلم منك في مجالك
ولنقل أنتَ تفْضُل الناس في أشياء وهم يفْضُلونك في أشياء
وهذا في علمك واختصاصك
فما بالك في علمِ غيرك واختصاصه
رجل كل شيء هو رجل لا شيء !
وما من إنسان إلا ويعرف ويجهل
وقد قال ربنا : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون "
ومحال أن يكون إنسان من أهل الذكر في كلّ شيء
نبوغك اللغوي لا يعني أن تُطبب الناس
تفوقك في الهندسة لا يعني أنك مفتي
براعتك في كهرباء المنازل لا يعني أنك ميكانيكي
احترم علم الآخرين مهما كان بسيطًا بعينك
ربما لو اجتمع الأطباء كلهم لعجزوا عن إصلاح حنفية تقطر ماء
تمامًا كما لو اجتمع مهندسو العالم لعجزوا عن إجراء عملية جراحية
إنّ من كمال الله أنه استغنى عن خلقه
ومن عظمته أنه أحوجَ النَّاسَ إلى النَّاسِ !
الدَّرْسُ الثّالث :
سياق القصّة يقودنا إلى سؤال مهم هو :
من أفضل : موسى عليه السّلام أم الخضر ؟!
والجواب بلا ريب أن موسى عليه السلام أفضل
فمقام النبوة لا يعدله مقام آخر
إلا أن يكون نبيًا مثله وقد فضَّله ربُّه
فنبيِّنا أفضل الخلق جميعًا
يأتي بعده إبراهيم عليه السلام
ثم إن الله أعلم بمرتبة الثلاثة المتبعين من الخمسة أولي العزم
فلماذا يكون الخضر أعلم من موسى ؟
لأن الأعلم ليس الأفضل
فالأمور لا تُحسب في مجال واحد وإنما تؤخذ جملة
ولتبسيط الأمر نضرب الأمر بالصحابة رضوان الله عليهم جميعًا
أبي بن كعب أقرأ من عمر لكتاب الله ولكن عمر أفضل
وخالد بن الوليد أعلم من أبي بكر في الحرب ولكن أبا بكر أفضل
ومعاذ بن جبل أعلم من عثمان بالحلال والحرام ولكن عثمان أفضل
وقد يفضل أحد الصحابة عليًا في أمر ولكن علي بالمجمل أفضل
وهذا كذاك !
الخضر أعلم من موسى عليه السلام في أشياء علّمه الله إياها
ولكن موسى عليه السلام أفضل من الخضر جملة لمقام نبوته
وموسى الذي عُوتب لأنه قال أنه أعلم أهل الأرض
لم يأمره ربه أن يذهب ليتعلم من الخضر
وإنما طلب موسى عليه السلام هذا الأمر بنفسه
إنه تواضع العظماء وقد كان موسى عليه السلام عظيمًا
فلا تتحرج في أن تتعلم ممن هو دونك
واقتدِ بموسى عليه السلام وما أحلاه من قدوة
قال فيه ربه آياتٍ يُغبط عليها لقيام الساعة
قال له : " واصطنعتك لنفسي "
وقال له : " ولتصنع على عيني "
وقال له : " وألقيتُ عليكَ محبة مني "
وقال له : " وأنا اخترتك "
ولكن هذا المختار من قبل الله
الملقاة عليه محبته، والمصنوع على عينيه، والمُصطفى لنفسه
لم يشعر أنها إهانة أن يتعلم
إن النبلاء يتواضعون، فكن نبيلًا !
الدَّرْسُ الرَّابع :
قُرِنَ العلم بالمشقة
فإذا كان رغيف خبز لا يُجنى بالسَّاهل
فمن باب أولى أن لا يُجنى العلم بالسَّاهل
ارتحل البخاريُّ من بلدٍ إلى بلدٍ طلبًا لحديث واحد
وصلى الشافعي الفجر بوضوء العشاء
لأنه أمضى ليلته يبحثُ عن جواب لمسألة
وما كان لموسى عليه السلام أن تقعده المشقة عن طلب العلم فارتحل
لا سيارات تطوي المسافات الطوال في ساعات
ولا طائرات تقطع البلدان برمشة عين
لا مكتبات فيها آلاف المراجع، خُذ من هنا وهناك وكُنْ باحثًا !
لا مكينات تصوير إن أردتَ العلم فانسخَ واكتبْ بيدكَ
يقطعُ موسى عليه السلام الفيافي والقفار
إن مُرَّ العلم ساعة
ولكن مُرّ الجهل طول العمر
ومن أَنِف مُرّ ساعةٍ تجرَّع مُر عُمر !
الدَّرْسُ الخامس :
قال الخضر لموسى عليه السلام أمرًا هامًا يجب الالتفات إليه :
إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنتَ
وأنتَ على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه !
والعلم قسمان :
الأول : علم لدنيّ يُعلّمه الله من شاء من خلقه
الثاني : علم مكتسب يُحصّله الإنسان بجهده وبحثه وصبره بعد توفيق الله
وإن كان لا سبيل إلى الأول
فإن السبيل مُشرع إلى الثاني !
ولقد قال سيدنا : إنما العلم بالتّعلم !
وكل ما في الحياة كذلك !
بعضه يهبه الله من دون سبب
وبعضه لا يتحقق إلا بالأسباب الواقعة في قدر الله
والعاقل يأخذ بالأسباب كأنها السبيل الوحيد إلى الغايات
وبالمقابل لا ينسَ أن الغايات بيد الله
إن شاء أن لا يحققها رغم الأسباب فعل !
إن كان الله شفى أيوب عليه السلام بغير طبيب
فلا يعني أن لا نذهب إلى الأطباء
وإن كان الله رزق مريم ابنًا من غير زوج
فلا يعني أن الأولاد يأتون دون زواج
وإن كان الله حفظ يونس في بطن الحوت
فلا يعني أن بطون الحيتان أماكن آمنة
وإن كان الله شقّ لموسى البحر بعصاه
فلا يعني أن العصيّ تشق البحار
هذا يعني أنّ كل شيء بقدر الله
ولكن الله جعل لهذا الكون قوانين
لا بدّ من التعامل معها بجدية وطريقة عملية بعيدًا عن أي اعتبار آخر
ولو استغنى أحد عن الأخذ بالأسباب
لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أغنى الناس عنها
ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يزهدْ فيها
وانظرْ إليه وهو في طريق هجرته
فأولاً : اتخذ له رفيقًا
وثانيًا : اتخذ له دليلًا
وثالثًا : اتخذ من يحضر له الزاد
ورابعًا : اتخذ من يمحوا آثاره عن الرمال
وخامسًا : اتخذ طريقًا غير معتاد
فلقد أراد أن يُعلمنا أن نكون واقعيين وعمليين.
الدَّرْسُ السَّادس :
يبتلي الله تعالى بالصغيرة لينجي من الكبيرة
وإن الابتلاءات تحمل في طياتها رحمة ولكن الناس لا يعلمون !
إما رحمة عاجلة لصلاح الدنيا
أو رحمة مؤجلة لصلاح الآخرة
فلو أبقى الخضر على السفينة صالحة كما هي لأخذها الملك غصبًا
فأيهما أكثر شرًا أن تُثقب السفينة
ويشقى أهلها قليلًا في جرها إلى الشاطئ وإصلاحها، أم خسارتها كلها ؟
لا شك أن بعض الشر أهون من بعض ولكن الناس لا يعلمون !
ومات أهل السفينة ولم يعلموا أن هذا الشر هو خير
ولولا خبر القرآن ما علمنا نحن أيضًا
لو كانت الحياة تضعنا في خيار بين الخير والشرّ لكانت هينة
لكنها غالبًا ما تضعنا في خيار بين شر وآخر
والعاقل هو الذي اختار خير الشَّرين
وقد قال عمر بن الخطاب : ليس العاقل من عرف الخير من الشر
وإنما من عرف خير الشرين
خُذ دومًا بأقل الأضرار وأقل الخسائر
إتلاف البعض للحفاظ على الكل
ألا ترى الأطباء يُسقطون الجنين للحفاظ على الأم
ويبترون يدًا أو قدمًا للحفاظ على الجسم
الخيارات أحيانًا تكون مؤلمة ولكن فينا عقل لنختار !
الصبر على إهانات العمل خير من البطالة
ولا أدعو لتحمل الإهانات إنما للصبر ريثما يتحصل البديل
وأحيانًا صبر زوجة على زوجها رغم سوء أخلاق
هو الأفضل لها ولأولادها
لأنها ستكون بين خيارين أحلاهما مرّ
والعاقل من يختار الأقل مرارة
وقد يكون صبر زوج على زوجته خير من طلاقها
لأن الحل الذي نأخذه في مشكلة
قد يفتح مشكلة أكبر من الأولى التي اخترنا لها حلاً !
وأما الابتلاء لإصلاح الآخرة
فهو ما حدث في قتل الغلام
ثمة أشياء لا يفهمها الناس لأنهم لا يحيطون بها علماً
من أين للأبوين المؤمنين أن يعرفا أن ابنهما هذا
لو كبر فإنه سيكون كافراً ويفتنهما في دينهما
فاختار الله لهما خير الشَّرين
فلا شكّ أن فقدان الولد أقل شرًا من الكفر
ولا شك كذلك أنه إن ابتلى فقد ألهمَ الصبر
حين يأخذ منك شيئًا فأنت لا تعرف الحكمة
ولكن كن على ثقة ليس كل ما تراه شرًا هو كذلك فعلًا
وليس كل ما تراه خيرًا هو كذلك فعلًا
والخيرة فيما اختاره الله !
الدَّرْسُ السَّابع :
إذا خفت على مستقبل أولادك بعدك
فلا تفتح لهم حسابًا في البنك، ولا تجمع لهم ميراثًا ضخمًا
وإن كان هذا أمر حسن
ولكن أمّن عليهم عند الله، وكن صالحًا !
فإن من لم يترك إلا الميراث فقد ترك الأولاد للأسباب
ومن ترك التقوى فقد ترك الأولاد لربِّ الأسباب
ولا شك أن الأسباب تذهب ويبقى الله
وانظر لثمرة التقوى عند الله
عبد صالح من عباد الله لا نعلمه نحن
ولا يعلمه موسى عليه السلام والخضر كذلك
ولكن الله يعلمه، وكفى له شرفًا
هذا المجهول في الأرض، المعروف في السماء
أرسل الله نبيًا من أولي العزم من الرسل وعبدًا صالحًا
ليقيما جدارًا تحته كنز لأولاده
أبعد هذا التأمين على الحياة تأمين ؟!
دخل مقاتل بن سليمان على المنصور يوم بُويع بالخلافة
فقال له المنصور : عِظني يا سليمان
فقال : أعظك بما رأيتُ أم بما سمعتُ ؟
فقال : بل بما رأيتَ
فقال : يا أمير المؤمنين، إن عمر بن عبد العزيز
أنجب أحد عشر ولدًا وترك ثمانية عشر دينارًا
كُفّن بخمسة دنانير، واشترى له قبر بأربعة دنانير
ووزّع الباقي على أبنائه
وهشام بن عبد الملك أنجب أحد عشر ولدًا
وكان نصيب كل ولد ألف ألف دينار
واللهِ يا أمير المؤمنين لقد رأيتُ في يوم واحد
أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يتصدق بمئة فرس للجهاد في سبيل الله
وأحد أبناء هشام يتسوّل في الأسواق !
الدَّرْسُ الثَّامن :
تُعلمنا هذه القصة الأدب مع الله
وما أحوجنا لأن نتعلم هذا في زمن كثر فيه التسخط والتشكي
وكل ما فعله الخضر إنما كان بأمر من الله كما تبين
ولكنه كان أديبًا وهو يخبر عن الله
فجعل القدر الذي ظاهره شر منسوب إلى نفسه
والقدر الذي هو خير منسوب إلى الله سبحانه وتعالى
وها هو يخبر موسى عليه السلام بما كان منه فيقول :
" أما السفينة فكانت لغلامين يتيمين في المدينة فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا "
فأردتُ أن أعيبها !
ما أحلاه من أدب، وما أعذبه من تأدب
كان ينفذ أمر الله بالحرف ولكنه نسب الضرر لنفسه
وكذلك كان أديبًا في كلامه عن قتل الغلام :
" أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا "
هنا أشرك نفسه بضمير الجميع " أردنا "
وذلك أنه من أدبه مع الله قسم العمل بينه وبين الله
في هذا الفعل " قتل " و " رحمة "
فهو المنوط بفعل القتل رغم أنه وحيّ
والله المختص بالرحمة
وكذلك كان أديبًا في كلامه عن الجدار :
" وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحًا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما "
" أراد ربك "
نسب الفعل كلّه لله، ذلك أن الفعل هنا خير كله
خير من إكرام العبد الصالح بابنيه، وخير من حفظ الكنز إليهما
والأدب مع الله كثير في القرآن الكريم لا يتسع له المقام
ونضرب أمثلة خفيفة منه فالكلام يجر بعضه بعضًا
يقول الله تعالى لعيسى ابن مريم :
" أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " !
كان يكفي أن يقول عيسى عليه السَّلام : لا
وهو جواب حسن للسؤال ويفي بالمراد
ولكن هذا ليس أدب الأنبياء مع الله
وإنما قال : " إن كنتُ قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك سبحانك إنك أنت علام الغيوب "
وكان إبراهيم عليه السلام أديبًا مع الله كذلك يوم قال :
" الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضتُ فهو يشفين "
إنّ المرض بيد الله وهو المبتلي به
ولكن إبراهيم المؤدب مع ربه نسب المرض إلى نفسه
فقال : وإذا مرضتُ
ونسب الشفاء لله، فقال : " فهو يشفين "
فنسب كل خير لله، الخلق والهداية والإطعام والسقاية
ولكن لأن المرض في ظاهره شر نسبه لنفسه
وكذلك أيوب عليه السلام كان مؤدبًا مع الله :
" إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين "
فلم يقل ربي سلطت عليّ المرض
رغم أنه يعرف أن ما نزل به من بلاء من الله
بل قال : مسني الضر، هكذا وكأن الضر جاء وحده
فأدبًا مع الله لم ينسب الشقاء له
حتى أنه لم يطلب الشفاء صراحة
مع أنه لو طلبه ما كان في الأمر شيء
وإنما قال : وأنت أرحم الراحمين
إنه أدب الطلب الذي يأخذ شكل الثناء والتنزيه
وكذلك كان آدم عليه السلام مؤدبًا مع الله فقال :
" ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين "
رغم أنه مرّ معنا في حوار آدم وموسى عليهما السلام
أن آدم قد حجّ موسى وبأن ما حدث أمر قد كتبه الله
ولكن قارن بين كلام آدم مع عبد مثله
وبين كلامه مع ربه
ففي الأول يُدافع عن نفسه، يتحدث عن مشيئة الله
وفي الثاني ينسب الظلم لنفسه مع أنه قدر الله قبل خلقه
حتى الجن كانوا في غاية الأدب مع الله فقالوا :
" وإنا لا ندري أشرّ أريدَ بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا "
إنّ الشرّ يقع بقدر الله وعلمه
ولكنهم عندما تحدثوا عن الشرّ جاؤوا بالفعل المبني للمجهول " أُريدَ "
وعندما تحدثوا عن الخير والرشد والهداية
نسبوا ذلك إلى الله صراحة "أراد بهم ربهم رشدًا"
❞ اصول الفقه منThreads
القياس( هشام المحجوبي)
القياس هو الدليل الرابع بعد القرآن و السنة و الإجماع و معناه لغة التقدير و اصطلاحا رد واقعة غير منصوص عليها الى واقعة منصوص عليها لإتفاق بينهما في العلة و بالتالي الحكم و له اربعة اركان
1: الواقعة الغير المنصوص عليها2: الواقعة المنصوص عليها 3: العلة 4: الحكم
مثال : المخدرات واقعة غير منصوص عليها نقيسها على واقعة منصوص على تحريمها في القرآن الكريم و هي الخمر العلة الجامعة بينهما هي السُّكر المخدر مُسْكِر كالخمر و الحكم تحريم المخدرات كما حرمت الخمر
Usul al-Fiqh from Threads
Measurement (Hisham Al-Mahjouby)
Qiyas is the fourth evidence after the Qur’an, Sunnah, and consensus. Its meaning is the language of appreciation, and idiomatically, the response of an incident that is not stipulated to an incident that is stipulated, due to an agreement between them in the cause, and therefore the ruling, and it has four pillars.
1: The incident not provided for 2: The incident provided for 3: The cause 4: The ruling
Example: Drugs are an incident that is not stipulated for. We measure it against an incident that is stipulated for its prohibition in the Holy Qur’an, which is alcohol. ❝ ⏤بستان علم النبوءة
❞ اصول الفقه منThreads
القياس( هشام المحجوبي)
القياس هو الدليل الرابع بعد القرآن و السنة و الإجماع و معناه لغة التقدير و اصطلاحا رد واقعة غير منصوص عليها الى واقعة منصوص عليها لإتفاق بينهما في العلة و بالتالي الحكم و له اربعة اركان
1: الواقعة الغير المنصوص عليها2: الواقعة المنصوص عليها 3: العلة 4: الحكم
مثال : المخدرات واقعة غير منصوص عليها نقيسها على واقعة منصوص على تحريمها في القرآن الكريم و هي الخمر العلة الجامعة بينهما هي السُّكر المخدر مُسْكِر كالخمر و الحكم تحريم المخدرات كما حرمت الخمر
Usul alFiqh from Threads
Measurement (Hisham AlMahjouby)
Qiyas is the fourth evidence after the Qur’an, Sunnah, and consensus. Its meaning is the language of appreciation, and idiomatically, the response of an incident that is not stipulated to an incident that is stipulated, due to an agreement between them in the cause, and therefore the ruling, and it has four pillars.
1: The incident not provided for 2: The incident provided for 3: The cause 4: The ruling
Example: Drugs are an incident that is not stipulated for. We measure it against an incident that is stipulated for its prohibition in the Holy Qur’an, which is alcohol . ❝
❞ كان من أسباب انصرافي عن القرآن في شبابي ما قرأته عن أنهار العسل و أنهار الخمر في الجنة.. و أنا لا أحب العسل و لا أحب الخمر.. فاعتبرت هذه سذاجات و انسحب حكمي على القرآن ثم على الدين كله.
و الساذج في واقع الأمر.. لم يكن إلا أنا.
فأنا لم أحاول أن أتفهم النص القرآني و لا أن أعكف حتى على ظاهر عبارته فما بال باطنها.. و كنت في عجلة من أمري.. و كان الانصراف غايتي و شهوتي.. و غطت هذه الشهوة على كل شيء فضاعت معالم الحقيقة من أمامي.. و فاتتني أمور كانت شديدة الوضوح.
و الآية تبدأ بأنها ضرب مثل. ((مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ.. )) و ليست إيرادا لأوصاف حرفية. فهذا أمر مستحيل لأن الجنة و الجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها في كلمات من قاموسنا.
تماما كما يسألك الطفل عن اللذة الجنسية.. فتحتار كيف تصفها له فهي بالنسبة له غيب خارج عن حدود خبراته تماما. و بعد أن تعجز عن توصيل المعنى إليه تقول على سبيل ضرب المثل و على سبيل التقريب.. إنها شيء مثل السكر.
لقد اخترت له شيئا من خبراته اليومية.
و مع ذلك فما أبعد المعنى.
و ما أبعد الفارق بين اللذة الجنسية و بين طعم السكر العادي المبتذل.
و بالمثل كان موقف القرآن في مخاطبة البدوي البسيط.
و كل أمنية البدوي الذي يعيش في هجير الصحراء أن يعثر على نبع ماء عذب. فكل ما يجد من مياه ما هي إلا ينابيع مالحة آسنة.
و كذلك اللبن.. فما أسرع ما يختمرو يتغير طعمه في حر الصحارى.. فيضرب له القرآن المثل من أعز ما يتمنى.
ها هو ذا يبين لنا حقيقة جديدة.. فيقول إنه يورد الألفاظ للتخويف. و لكنه ليس تخويفا على غير أساس.
إنه مثل تخويفك لابنك حين تحذره من إهمال نظافة أسنانه و تقول له: إذا لم تنظف أسنانك بالفرشاة فإن السوس سوف يأكل أسنانك.. تقول ذلك محبة منك و رحمة لطفلك.
و بالطبع.. السوس لن يأكل أسنانه.. إنما هي ميكروبات و فيروسات غير مرئية.
و لكن التخويف كان على أساس.. لأن ما سوف يحدث له إذا أهمل نظافة أسنانه سيكون ألعن من أكل السوس.
و من جرب الآلام الرهيبة لضرس مسوس.. يعرف أنها أسوأ من كل ما سمع من تحذيرات.
إنه تخويف العزيز الرحيم من شيء سوف يحدث بالفعل و سيكون أسوأ من جميع ما قيل و كتب.. مما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.
إن العذاب حق.. و الثواب حق.
و هنا يعترض معترض.
ألا يتنافى مع رحمة الله و مع عظمته أن يعذب.. و يعذب من !.. إنسانا مسكينا لا يساوي ذرة أو هباء في مملكة الله اللانهائية.
و هو اعتراض كان يشغلني دائما و كان يصرفني دائما عن قبول فكرة العذاب و بالتالي عن القرآن و عن الدين كله.
و السؤال يحتاج منا إلى أن نتعمق في معنى كلمة عذاب.
و الله بالفعل لا يعذب.
إنما هو فقط يعدل.
و لو أنه ساوى في آخرته بين ظالم و مظلوم.. و بين قتيل و القاتل الذي قتله.. لو أنه فعل ذلك بحجة الرحمة لكان أبعد ما يمكن عن الرحمة.. و عن العدل.. فالمساواة بين غير المتساويين ظلم فادح.. تعالى الله عن أن يقع فيه.
ثم هي الفوضى أن يكون الأبيض في عين الله كالأسود، و الأعمى كالبصير، و الميت كالحي، و الذي يسمع كمن لا يسمع.
و الكون ينفي الفوضى.
تأمل كل جزئية في الكون تكشف لك عن النظام المحكم و القانون الذي لا يفوته واحد من ألف من المليجرام.
و حركة إليكترون من مدار إلى مدار في داخل الذرة لا تتم إلا بحساب، فهو لا بد أن يعطي حزمة من الطاقة ليقفز إلى الخارج قفزة مساوية، و لا بد له أن يمتص حزمة أخرى ليقفز إلى الداخل قفزة مساوية.. إنه محاسب في حركاته.. و هو إليكترون.. فما بال الإنسان العاقل و هو بالنسبة للإليكترون كالمجرة و الفلك بالنسبة للإنسان.. و قد نفخ الله فيه من روحه فهو شيء عظيم.. و ليس في هوان الذرة و لا الإليكترون.
ثم ما معنى أن يموت مظلوما و ظالما فيصبح ترابا بلا بعث و يذهب ما حصله من خير و شر و علم و حكمة سدى.
مستحيل أن ينتهي كل هذا إلى باطل.. لا بد أن هناك استمرار بطريقة ما.. و لا بد أن يتضح لنا الحكمة من كل هذا في ميقاتها.
إتها قضية عدالة و قضية منطق و ليست قضية تعذيب لهدف التعذيب، و الذي سوف يحدث لنا بعد البعث هو أن كل واحد ستلازمه رتبته و درجته التي حصلها في الدنيا لا أكثر.
الله يعتبر الخزي في هذه الآية أشد من النار إيلاما.
و كما يصف الإنجيل هذا العالم الآخر (( عالم البكاء و صرير الأسنان )). المجرم فيه يصر على أسنانه ندما على ما يرى من هوان شأنه أمام الدرجات العالية التي أصابها الآخرون. و يصف القرآن أهل الجنة في تلك الدرجات بأنهم المقربون. المقربون من الله.. من الحق.
إنها إذن مسألة مقامات. كل واحد يبعث على رتبته و مقامه.
الله لا يعذب للعذاب.
و إنما يأتي العذاب و احتراق الصدر من إحساس من هم في أسافل الدرجات بالغيرة و الحسد و الهوان و الخسران الأبدي الذي لا مخرج منه.. و سوف يحرق هذا الإحساس الصدور كما تحرقها النار و أكثر.. و سوف يكون هو النكال و التنكيل.. ينكل الواحد منا بنفسه بالدرجة التي وضع نفسه فيها و التي انحدر إليها بأعماله في الدنيا.
و مما يدل على أن النار في الآخرة هي غير ما نعرف من نارنا هذه الآيات من سورة الأعراف:
إنه حوار و مكالمة في النار تجرى بين المعذبين.. و في مثل نارنا لا يمكن أن يجرى حوار بين اثنين يحترقان.
و المعنى الثاني العميق في الآية (( لكل ضعف و لكن لا تعلمون )).
إن أمامنا اثنين يتعذب الواحد منهما ضعف الآخر مع أنهما في المكان نفسه، و معنى هذا أن العذاب في الشخص و ليس في المكان ذاته.. و هذا لا ينفي أن يكون العذاب المذكور حسيا، بل إنه من الممكن أن يكون معنويا و حسيا في نفس الوقت ( كما يحدث أن يتعرض اثنان للحر اللافح فيصاب أحدهما بالصداع على حين يتحمل الآخر بسبب اختلاف درجات اللياقة عند الإثنين ) و الصداع ألم حسي و معنوي.
و لا ينفي أن يكون نارا و لكنها نار غير ما نعرف من نارنا.
و يروي القرآن عن أهل الجنة و كيف أنهم يتذكرون و هم يأكلون فاكهة الجنة أنهم قد رزقوا أنواع هذه الفاكهة حينما كانوا على الأرض ( مع الفارق في الجودة ).
و كيف أن لهم زوجات في الجنة و لكنهن زوجات مطهرات ( لسن كزوجات الأرض يعانين الحيض و المخاض شكسات غيورات متسلطات ).
و الجنة بهذه الصورة هي درجة و مقام.. فيها كل ما نعرف على الأرض و لكن مع تفاوت هائل في الرتبة.. تفاوت يفوق التصور.. تفاوت مثل التفاوت بين الزمن و الأبد و مثل التفاوت الذي ذكرناه بين طعم قطعة السكر و طعم اللذة الجنسية الحادة بالنسبة لبالغ.
و إذا ذكر العسل في مثل هذه الجنة فهو عسل و لكم لا كما نعرف من عسل، و اللبن هو اللبن و لكن لا كما نعرف من لبن، و النساء لا كما نعرف من نساء.
إنها ستكون أشياء مدهشة كالغيب بالنسبة لما نعلم.. يقول الشاعر عن امرأة يحبها إن جسمها يضيء كأنها صيغت من النور.. إنها أحلام يمكن أن تكون هناك حقائق.
و بالمثل ما يروي القرآن عن النار.. فهي نار لا كما نعرف من نار.. نار تنبت فيها شجرة لها ثمر ( شجرة الزقوم ).. و فيها ماء حميم يشربه أهلها.. و المعذبون فيها يتكلمون و يتحاورون فأجسادهم لا يمكن أن تكون لها نفس كيمياء الأجساد كما نعلمها و إلا لتبخرت دخانا في لحظات و لما استطاعوا أن يتبادلوا كلمة.
و معنى هذا أننا سوف نبعث أجسادا و لكن لا كالأجساد.. ربما كيانات لها ذات الهيئة و الصورة و لكن من مادة مختلفة هي بالنسبة لنا غيب.. إنها لن تكون الأجساد الترابية التي نتكون منها الآن في حياتنا الأرضية.
و لهذا يمكن أن تتضاعف المتع حسيا و معنويا بطريقة نجهلها.
كما تتضاعف درجات العذاب حسيا و معنويا عما نعلم و كما يتوزع الناس مراتب و درجات بحسب لياقتهم.. تكون لكل مرتبة مواصفاتها الحياتية التي تكفل لمن فيها حظوظا من السعادة أو الشقاء كل حسب قدره، و أتصور أن أعلى الناس قدرا في الجنة هم الذين سيرتفعون عن متع الحواس و جنة الحواس و يختار لهم الرحمن درجة الحياة الروحية الخالصة إلى جواره في سدرة المنتهى، حيث لا تكون اللذة هي لذة طعام و لا لذة شراب و لا لذة حور عين و إنما لذة النظر إلى الله في كماله و لذة تأمل الحق و الجمال و صورة الخير المطلق.
إنها لذة الجالس (( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) )) [ القمر ]
و هي مرتبة المفضلين من الأنبياء و من في مقامهم.
و هكذا تشتمل الجنة على جميع الدرجات من المتع الحسية من مأكل و مشرب ارتفاعا حتى المتع الروحية الخالصة ينال كل منا ما تؤهله له رتبته.
كل هذه آيات كواشف ذات دلالة تدلنا على أن النار ليست هي نارنا و لا الجنة هي سوق الخضار و لا الله هو الباطش الإرهابي.
و إنما الله سوف يبعث كل واحد على رتبته و مقامه و درجته، لأن هذا عين العدل و هو العادل.
و إنما سوف يتأتى العذاب من تفاوت الرتب تفاوتا عظيما، ثم بالسقوط في تقييم أبدي لا مخرج منه يلزم صاحبه كما تلزم الإصبع بصمتها.
و هو عذاب أكيد و جحيم أكيد سوف نراه عيانا و يقينا:
و لأن الله يعلم أن هذا العذاب سوف يكون رهيبا.. فقد حذرنا و خوفنا بالألفاظ المجلجلة و أرسل لنا الأنبياء مبشرين منذرين مؤيدين بالمعجزات و الخوارق و الآيات و الكتب.. فعل ذلك رحمة منه و حنانا و عطفا.. و هو القائل في حديثه القدسي: (( سبقت رحمتي غضبي )).
و في سورة الفاتحة يصف نفسه أولا بأنه الرحمن الرحيم قبل أن يقول مالك يوم الدين.. و هو يوم الحساب.. يوم الغضب.. يوم يحق القول على العالمين بلا رجعة.
و لأنه رحيم فقد فتح باب التوبة و إصلاح الخطأ على مصراعيه.
و أمر بالصلاة.. ثم قال: (( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.. (45) )) [ العنكبوت ]
أن تتذكر أن هناك قوة إلهية و أن يشخص هذا المعنى في ذاكرتك و في أفعالك على الدوام.. ينجيك و يحقق لك شرط المؤمن و يكون أفضل من صلاة المصلي الذي ليس في قلبه ذكر.
و كلمة (( الذكر )) في القرآن كلمة عميقة المعنى و الدلالة. فالقرآن نفسه اسمه ذكر، و التدين و الإيمان هو مجرد تذكر:
إن أحدث النظريات النفسية تقول لنا: إن المعارف كلها تكون مخبوءة مكنوزة داخل نفس الإنسان و لكن تحجبها عنه غرائزه و شهواته.. و لهذا فالتعلم هو في حقيقته تذكر. بارتفاع حجب النفس و شفوفها.. و لا يكون تعلما من عدم.
فالطفل لا يتعلم أن ( 2 + 2 = 4 ) و إنما هو فقط يتذكر حقيقة باطنة في روحه، ولد بها.
و بالمثل الإحساس بالجمال و الطرب هو نوع من التذكر المبهم لعالم القدس و ما فيه.. عالم الملكوت الذي كنا فيه قبل النزول إلى الأرحام.
و لهذا السبب فإن جمال المرأة مثلا هو جمال زائر و ليس جمالا مقيما لأنه ليس جمالها هي.. و إنما هو ظل ينعكس عليها من الملكوت.. ثم ما يلبث أن يفارقها حينما يتغلب قانون المادة و الشيخوخة و التراب.
و الآية تروي ما كان في الغيب قبل الميلاد و قبل النزول إلى الدنيا.
و كل الخلائق مما خلق الله و يخلق و سيخلق مثل الذر في كفه ينظر إليهم و يشهدهم على أنفسهم.. ألست بربكم.. فيقولون بلى شهدنا.. و هو بهذا يأخذ عليهم ميثاقا غليظا لأنه يعلم أنه بعد الهبوط في الأرحام و انسدال حجاب اللحم الكثيف و نزول غشاوة الحواس و الشهوات و الغرائز و الأهواء أنهم سوف ينسون تماما.. و سوف يتخبطون في نكران وكفر و جهالة.
لأن اتصال الوجود الدنيوي بالتذكر بالوجود الملكوتي الأول ثم بالوجود الأخروي.. هو فطنة الإنسان إلى حياته بكاملها. و هي الحياة كل الحياة.
و الله ليس بحاجة إلى صلاتنا و لا إلى صيامنا و لكن نحن المحتاجون.. لعلنا في صلاتنا العميقة نتذكر و لعلنا بالعبادة و التوجه نتصل بنبع وجودنا.. و نستمد منه حياتنا.
إن الصلاة و العبادة استمداد. نحن الذين نحتاج إليها لتكون لنا حياة. و ليس الله.. لأن الله هو الحي بذاته المستغني بوجوده عن كل شيء.
أما نحن فلا يمكن أن تكون لنا حياة إلا بمدد منه.. من الله.. الحي الذي به الحياة.
و نفهم من هذا أن الله فرض الفروض ووضع شرائع العبادات من أجلنا و ليس من أجل أن يشعر بألوهيته. فهو في غنى عنا.. و في غنى عن أن يعذبنا.. و في غنى عن أن يطلب منا طلبا أو يفرض علينا فرضا.
و هو بالفعل لا يفرض علينا فرضا و لا يطالبنا بطلب و لا يقيم علينا عذابا، كل هذا يبدو من ظاهر العبارات فقط. أما باطن القرآن الذي يكشف نفسه لكل من جاهد في الفهم، إن الله هو الرحيم مطلق الرحمة، العادل مطلق العدل الذي يعطي مطلق العطاء و لا يأخذ شيئا و لا يحتاج لشيء.
و إذا كان في الدنيا ألوان من العذاب فهي من عيون رحمته.
إنها محاولات لإيقاظ العقل الغافل لعله يتذكر و يرجع و ينجو بنفسه من عذاب أكبر في الطريق. عذاب لن يكون منه مخرج و لا مهرب. حينما تحق على كل واحد رتبته و درجته.
و نفهم من القرآن أن سنة الله أن يوقظ الغافلين في الأرض فيبتليهم بكل صنوف البؤس و المرض و العذاب لعلهم يفطنون إلى ما في الدنيا من زوال و ما وراءها من حقيقة باقية.. يفعل هذا رحمة بهم و لأنه يعلم ما ينتظرهم من ناموس عادل لن يلطف بهم.. حتى إذا نفذت فيهم كل هذه الآلام الدنيوية و لم يتيقظوا.. فتح الله عليهم أبواب كنوزه ليتمتعوا.. و حقت عليهم كلمته بالهلاك في الآخرة.
فليس الخير الظاهر في الدنيا و النعمة الغامرة بعلامة رضا الله في جميع الأحوال.. و لا عذاب الدنيا و بلائها بعلامة غضب الله في كل حال.. فقد يكون الخير غضبا و قد يكون البلاء لطفا.. و لا يكشف لك عن الحقيقة إلا صوت ضميرك.. إذا رأيت البلاء يطهرك فهو نعمة.. و إذا رأيت النعمة تطغيك فهي غضب.
إن الله يعلم أنهم لو ردوا للدنيا لعادوا إلى كبريائهم.
إنه جهل و إصرار على الجهل لا وسيلة لعلاجه.. لا الأنبياء و لا المعجزات و لا الخوارق و الآيات.. و لا حتى مرورهم على الجحيم بكاف لردهم إلى معرفة.
و من هنا يبدو البقاء في الجحيم رحمة، فهو بالنسبة لبعض الجبارين الوسيلة الوحيدة إلى المعرفة و التقويم.
إن الله رحيم دائما حتى في جحيمه.. و لهذا سمى نفسه (( الرحمن )).. أي الرحيم مطلق الرحمة في جميع الأحوال لمن يستحق و من لا يستحق.. يرحم من يستحق بالجنة و يرحم من لا يستحق بالجحيم.. فالجحيم كما رأينا هو تعريف لمن لا يعرف و لمن فشلت معه كل وسائل التعريف فهو نوع من الرحمة.. و لهذا يقول في أجمل آياته:
و الحساب هنا يبدو أنه حساب النفس للنفس و تنكيل النفس بالنفس و مواجهة النفس للنفس.
لقد لزم كل واحد عمله كظله و لا خلاص.. و حق القول.. و نفذ العدل الأزلي.
و لكن هذه المعاني تضيع في النظرة المتعجلة و القراءة السطحية و الوقوف عند الحروف و عند جلجلة الألفاظ.
و الألفاظ التي وصف الله بها القيامة كلها ألفاظ رهيبة ذات جلجلة و صلصلة.. تقرع الآذان كالأجراس، فهي الساعة، و الواقعة، و القارعة، و الزلزلة، و الدمدمة، و الغاشية، و الراجفة، و الرادفة، و الزجرة، و السكرة، و الطامة، و الحاقة، و الصاخة.
هل سمعت لفظا اسمه (( الصاخة )) ؟!
إنه لفظ يخرق طبلة الأذن.. لأن الله علم أن الواحد منا في هذه الدنيا تتخطفه الشهوات و تبرق في عينيه المطامع فهو لا يعقل.. و هو أصم لا يسمع.
فهتف في أذنه بهذه الكلمة.. التي تكاد تخرق السمع من فرط ارتفاع ذبذبتها ليوقظه:
فعل هذا رحمة و لطفا و حنانا.. تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.
و ما العذاب إلا لزوم ما يلزم و حلول الصفة بموصوفها و انتظام الأرواح في سلم درجاتها الحق و انسدال الستار على هذا العالم الذي يتبارى فيه الناس على نوال ما لا يستحقون.
و نعطي مثلا لهذا التفاوت في الرتب فيما يشعر به كل منا في حياته الخاصة.. من تفاوت المستويات التي يمكن أن يعيش فيها.. لا نقصد مستويات الدخل.. و إنما نقصد شيئا أعمق.. نقصد المستويات الوجودية ذاتها.
فالواحد منا يمكن أن يعيش على مستوى متطلبات جسده، كل همه أن يأكل و يشرب و يضاجع كالبهيمة.
و يمكن أن يسكت ذلك السعار الجسدي ليستسلم لسعار آخر هو سعار النفس بين غيرة و حسد و غضب و شماتة و رغبة في السيطرة و جوع للظهور و تعطش للشهرة و استئثار لأسباب القوة بتكديس الأموال و الممتلكات و تربص لاصطياد المناصب.
و أكثر الناس لا يرتفعون عن هذه الدرجة و يموتون عليها و لا يكون العقل عندهم إلا وسيلة احتيال لبلوغ هذه الاسباب.
و الحياة بالنسبة لهذه الكثرة من الناس غابة و الشعور الطبيعي هو العدوان و تنازع البقاء و الصراع.. و الهدف هو التهام كل ما يمكن التهامه و انتهاز ما يمكن انتهازه.. و الواحد منهم تجده يتأرجح كالبندول من لهيب رغبة إلى لهيب رغبة أخرى.. يسلمه مطمع إلى مطمع و هو في ضرام من هذه الرغبات لا ينتهي.
و هناك قلة قليلة تكتشف زيف هذه الحياة و تصحو على إدراك واضح بأن هذا اللون من الحياة عبودية لا حرية.. و أنها كانت حياة أشبه بالسخرة و الأشغال الشاقة خضوعا لغرائز همجية لا تشبع و أطماع لا مضمون لها و لا معنى و لا قيمة.. كلها إلى زوال.
فتبدأ هذه القلة القليلة في إسكات هذا الصوت و في تكبيل هذه النفس الهائجة، و قد اكتشفت أنها حجاب على الرؤية و تشويش على الفهم.
و هكذا ترتفع هذه القلة القليلة في الرتبة لتعيش بمنطق آخر.. هو أن تعطي لا أن تأخذ.. و تحب لا أن تكره.. و تصبح هموم هذه القلة هي إدراك الحقيقة.
و على هذه القلة تنزل سكينة القلب فيتذكر الواحد منهم ماضيه حينما كان عبدا لسعار نفسه و كأنه خارج من جحيم !
و مثل هؤلاء يموتون و قد انعتقوا من وهم النفس و الجسد و بلغوا خلاصهم الروحي و أيقنوا حقيقة ذواتهم كأرواح كانت تبتلى في تجربة.
و ما أشبه الجسد – في الرتبة – بالتراب.. و النفس بالنار و الروح بالنور و هي مجرد ألفاظ للتقريب.. و لكنها تكشف لنا أن حكاية الرتب هي حكاية حقيقية.. و أن كل من يموت على رتبة يبعث عليها و أن هذا هو عين العدل و ليس تجبرا.. و قد يكون العذاب فوق الوصف إذا تجردت النفوس من أجسادها الترابية و لم يبق منها إلا سعار خالص و جوع بحت و اضطرام مطلق برغبات لا ترتوي ثم عدوان بين نفوس شرسة لا هدنة بينها و لا سلام و لا مصالحة إلى الأبد.. على عكس أرواح تتعايش في محبة و تتأمل الحق في عالم ملكوتي.
أكاد أجزم بأن ألفاظ القرآن بما فيها من جلجلة و صلصلة حينما تصف الجحيم إنما هي نذير حقيقي بعذاب فوق التصور و سوف نعذبه لأنفسنا بأنفسنا عدلا و صدقا على رتبة استحقها كل منا بعمله.. و أكاد أضع يدي على الحقيقة.. لا ريب فيها.
تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.. و هو الحق العدل الحكم.
و في أخبار داود أن الله قال له:
(( يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني و جليس لمن جالسني و صاحب لمن صاحبني و مختار لمن اختارني.. و مطيع لمن أطاعني.. من طلبني بالحق وجدني و من طلب غيري لم يجدني )).
أنعم به من رب رحيم.. و تقدس و تعالى عن الظلم و العدوان.
~~. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ كان من أسباب انصرافي عن القرآن في شبابي ما قرأته عن أنهار العسل و أنهار الخمر في الجنة.. و أنا لا أحب العسل و لا أحب الخمر.. فاعتبرت هذه سذاجات و انسحب حكمي على القرآن ثم على الدين كله.
و الساذج في واقع الأمر.. لم يكن إلا أنا.
فأنا لم أحاول أن أتفهم النص القرآني و لا أن أعكف حتى على ظاهر عبارته فما بال باطنها.. و كنت في عجلة من أمري.. و كان الانصراف غايتي و شهوتي.. و غطت هذه الشهوة على كل شيء فضاعت معالم الحقيقة من أمامي.. و فاتتني أمور كانت شديدة الوضوح.
و الآية تبدأ بأنها ضرب مثل. ((مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ.. )) و ليست إيرادا لأوصاف حرفية. فهذا أمر مستحيل لأن الجنة و الجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها في كلمات من قاموسنا.
تماما كما يسألك الطفل عن اللذة الجنسية.. فتحتار كيف تصفها له فهي بالنسبة له غيب خارج عن حدود خبراته تماما. و بعد أن تعجز عن توصيل المعنى إليه تقول على سبيل ضرب المثل و على سبيل التقريب.. إنها شيء مثل السكر.
لقد اخترت له شيئا من خبراته اليومية.
و مع ذلك فما أبعد المعنى.
و ما أبعد الفارق بين اللذة الجنسية و بين طعم السكر العادي المبتذل.
و بالمثل كان موقف القرآن في مخاطبة البدوي البسيط.
و كل أمنية البدوي الذي يعيش في هجير الصحراء أن يعثر على نبع ماء عذب. فكل ما يجد من مياه ما هي إلا ينابيع مالحة آسنة.
و كذلك اللبن.. فما أسرع ما يختمرو يتغير طعمه في حر الصحارى.. فيضرب له القرآن المثل من أعز ما يتمنى.
ها هو ذا يبين لنا حقيقة جديدة.. فيقول إنه يورد الألفاظ للتخويف. و لكنه ليس تخويفا على غير أساس.
إنه مثل تخويفك لابنك حين تحذره من إهمال نظافة أسنانه و تقول له: إذا لم تنظف أسنانك بالفرشاة فإن السوس سوف يأكل أسنانك.. تقول ذلك محبة منك و رحمة لطفلك.
و بالطبع.. السوس لن يأكل أسنانه.. إنما هي ميكروبات و فيروسات غير مرئية.
و لكن التخويف كان على أساس.. لأن ما سوف يحدث له إذا أهمل نظافة أسنانه سيكون ألعن من أكل السوس.
و من جرب الآلام الرهيبة لضرس مسوس.. يعرف أنها أسوأ من كل ما سمع من تحذيرات.
إنه تخويف العزيز الرحيم من شيء سوف يحدث بالفعل و سيكون أسوأ من جميع ما قيل و كتب.. مما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.
إن العذاب حق.. و الثواب حق.
و هنا يعترض معترض.
ألا يتنافى مع رحمة الله و مع عظمته أن يعذب.. و يعذب من !.. إنسانا مسكينا لا يساوي ذرة أو هباء في مملكة الله اللانهائية.
و هو اعتراض كان يشغلني دائما و كان يصرفني دائما عن قبول فكرة العذاب و بالتالي عن القرآن و عن الدين كله.
و السؤال يحتاج منا إلى أن نتعمق في معنى كلمة عذاب.
و الله بالفعل لا يعذب.
إنما هو فقط يعدل.
و لو أنه ساوى في آخرته بين ظالم و مظلوم.. و بين قتيل و القاتل الذي قتله.. لو أنه فعل ذلك بحجة الرحمة لكان أبعد ما يمكن عن الرحمة.. و عن العدل.. فالمساواة بين غير المتساويين ظلم فادح.. تعالى الله عن أن يقع فيه.
ثم هي الفوضى أن يكون الأبيض في عين الله كالأسود، و الأعمى كالبصير، و الميت كالحي، و الذي يسمع كمن لا يسمع.
و الكون ينفي الفوضى.
تأمل كل جزئية في الكون تكشف لك عن النظام المحكم و القانون الذي لا يفوته واحد من ألف من المليجرام.
و حركة إليكترون من مدار إلى مدار في داخل الذرة لا تتم إلا بحساب، فهو لا بد أن يعطي حزمة من الطاقة ليقفز إلى الخارج قفزة مساوية، و لا بد له أن يمتص حزمة أخرى ليقفز إلى الداخل قفزة مساوية.. إنه محاسب في حركاته.. و هو إليكترون.. فما بال الإنسان العاقل و هو بالنسبة للإليكترون كالمجرة و الفلك بالنسبة للإنسان.. و قد نفخ الله فيه من روحه فهو شيء عظيم.. و ليس في هوان الذرة و لا الإليكترون.
ثم ما معنى أن يموت مظلوما و ظالما فيصبح ترابا بلا بعث و يذهب ما حصله من خير و شر و علم و حكمة سدى.
مستحيل أن ينتهي كل هذا إلى باطل.. لا بد أن هناك استمرار بطريقة ما.. و لا بد أن يتضح لنا الحكمة من كل هذا في ميقاتها.
إتها قضية عدالة و قضية منطق و ليست قضية تعذيب لهدف التعذيب، و الذي سوف يحدث لنا بعد البعث هو أن كل واحد ستلازمه رتبته و درجته التي حصلها في الدنيا لا أكثر.
الله يعتبر الخزي في هذه الآية أشد من النار إيلاما.
و كما يصف الإنجيل هذا العالم الآخر (( عالم البكاء و صرير الأسنان )). المجرم فيه يصر على أسنانه ندما على ما يرى من هوان شأنه أمام الدرجات العالية التي أصابها الآخرون. و يصف القرآن أهل الجنة في تلك الدرجات بأنهم المقربون. المقربون من الله.. من الحق.
إنها إذن مسألة مقامات. كل واحد يبعث على رتبته و مقامه.
الله لا يعذب للعذاب.
و إنما يأتي العذاب و احتراق الصدر من إحساس من هم في أسافل الدرجات بالغيرة و الحسد و الهوان و الخسران الأبدي الذي لا مخرج منه.. و سوف يحرق هذا الإحساس الصدور كما تحرقها النار و أكثر.. و سوف يكون هو النكال و التنكيل.. ينكل الواحد منا بنفسه بالدرجة التي وضع نفسه فيها و التي انحدر إليها بأعماله في الدنيا.
و مما يدل على أن النار في الآخرة هي غير ما نعرف من نارنا هذه الآيات من سورة الأعراف:
إنه حوار و مكالمة في النار تجرى بين المعذبين.. و في مثل نارنا لا يمكن أن يجرى حوار بين اثنين يحترقان.
و المعنى الثاني العميق في الآية (( لكل ضعف و لكن لا تعلمون )).
إن أمامنا اثنين يتعذب الواحد منهما ضعف الآخر مع أنهما في المكان نفسه، و معنى هذا أن العذاب في الشخص و ليس في المكان ذاته.. و هذا لا ينفي أن يكون العذاب المذكور حسيا، بل إنه من الممكن أن يكون معنويا و حسيا في نفس الوقت ( كما يحدث أن يتعرض اثنان للحر اللافح فيصاب أحدهما بالصداع على حين يتحمل الآخر بسبب اختلاف درجات اللياقة عند الإثنين ) و الصداع ألم حسي و معنوي.
و لا ينفي أن يكون نارا و لكنها نار غير ما نعرف من نارنا.
و يروي القرآن عن أهل الجنة و كيف أنهم يتذكرون و هم يأكلون فاكهة الجنة أنهم قد رزقوا أنواع هذه الفاكهة حينما كانوا على الأرض ( مع الفارق في الجودة ).
و كيف أن لهم زوجات في الجنة و لكنهن زوجات مطهرات ( لسن كزوجات الأرض يعانين الحيض و المخاض شكسات غيورات متسلطات ).
و الجنة بهذه الصورة هي درجة و مقام.. فيها كل ما نعرف على الأرض و لكن مع تفاوت هائل في الرتبة.. تفاوت يفوق التصور.. تفاوت مثل التفاوت بين الزمن و الأبد و مثل التفاوت الذي ذكرناه بين طعم قطعة السكر و طعم اللذة الجنسية الحادة بالنسبة لبالغ.
و إذا ذكر العسل في مثل هذه الجنة فهو عسل و لكم لا كما نعرف من عسل، و اللبن هو اللبن و لكن لا كما نعرف من لبن، و النساء لا كما نعرف من نساء.
إنها ستكون أشياء مدهشة كالغيب بالنسبة لما نعلم.. يقول الشاعر عن امرأة يحبها إن جسمها يضيء كأنها صيغت من النور.. إنها أحلام يمكن أن تكون هناك حقائق.
و بالمثل ما يروي القرآن عن النار.. فهي نار لا كما نعرف من نار.. نار تنبت فيها شجرة لها ثمر ( شجرة الزقوم ).. و فيها ماء حميم يشربه أهلها.. و المعذبون فيها يتكلمون و يتحاورون فأجسادهم لا يمكن أن تكون لها نفس كيمياء الأجساد كما نعلمها و إلا لتبخرت دخانا في لحظات و لما استطاعوا أن يتبادلوا كلمة.
و معنى هذا أننا سوف نبعث أجسادا و لكن لا كالأجساد.. ربما كيانات لها ذات الهيئة و الصورة و لكن من مادة مختلفة هي بالنسبة لنا غيب.. إنها لن تكون الأجساد الترابية التي نتكون منها الآن في حياتنا الأرضية.
و لهذا يمكن أن تتضاعف المتع حسيا و معنويا بطريقة نجهلها.
كما تتضاعف درجات العذاب حسيا و معنويا عما نعلم و كما يتوزع الناس مراتب و درجات بحسب لياقتهم.. تكون لكل مرتبة مواصفاتها الحياتية التي تكفل لمن فيها حظوظا من السعادة أو الشقاء كل حسب قدره، و أتصور أن أعلى الناس قدرا في الجنة هم الذين سيرتفعون عن متع الحواس و جنة الحواس و يختار لهم الرحمن درجة الحياة الروحية الخالصة إلى جواره في سدرة المنتهى، حيث لا تكون اللذة هي لذة طعام و لا لذة شراب و لا لذة حور عين و إنما لذة النظر إلى الله في كماله و لذة تأمل الحق و الجمال و صورة الخير المطلق.
إنها لذة الجالس (( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) )) [ القمر ]
و هي مرتبة المفضلين من الأنبياء و من في مقامهم.
و هكذا تشتمل الجنة على جميع الدرجات من المتع الحسية من مأكل و مشرب ارتفاعا حتى المتع الروحية الخالصة ينال كل منا ما تؤهله له رتبته.
كل هذه آيات كواشف ذات دلالة تدلنا على أن النار ليست هي نارنا و لا الجنة هي سوق الخضار و لا الله هو الباطش الإرهابي.
و إنما الله سوف يبعث كل واحد على رتبته و مقامه و درجته، لأن هذا عين العدل و هو العادل.
و إنما سوف يتأتى العذاب من تفاوت الرتب تفاوتا عظيما، ثم بالسقوط في تقييم أبدي لا مخرج منه يلزم صاحبه كما تلزم الإصبع بصمتها.
و هو عذاب أكيد و جحيم أكيد سوف نراه عيانا و يقينا:
و لأن الله يعلم أن هذا العذاب سوف يكون رهيبا.. فقد حذرنا و خوفنا بالألفاظ المجلجلة و أرسل لنا الأنبياء مبشرين منذرين مؤيدين بالمعجزات و الخوارق و الآيات و الكتب.. فعل ذلك رحمة منه و حنانا و عطفا.. و هو القائل في حديثه القدسي: (( سبقت رحمتي غضبي )).
و في سورة الفاتحة يصف نفسه أولا بأنه الرحمن الرحيم قبل أن يقول مالك يوم الدين.. و هو يوم الحساب.. يوم الغضب.. يوم يحق القول على العالمين بلا رجعة.
و لأنه رحيم فقد فتح باب التوبة و إصلاح الخطأ على مصراعيه.
و أمر بالصلاة.. ثم قال: (( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.. (45) )) [ العنكبوت ]
أن تتذكر أن هناك قوة إلهية و أن يشخص هذا المعنى في ذاكرتك و في أفعالك على الدوام.. ينجيك و يحقق لك شرط المؤمن و يكون أفضل من صلاة المصلي الذي ليس في قلبه ذكر.
و كلمة (( الذكر )) في القرآن كلمة عميقة المعنى و الدلالة. فالقرآن نفسه اسمه ذكر، و التدين و الإيمان هو مجرد تذكر:
إن أحدث النظريات النفسية تقول لنا: إن المعارف كلها تكون مخبوءة مكنوزة داخل نفس الإنسان و لكن تحجبها عنه غرائزه و شهواته.. و لهذا فالتعلم هو في حقيقته تذكر. بارتفاع حجب النفس و شفوفها.. و لا يكون تعلما من عدم.
فالطفل لا يتعلم أن ( 2 + 2 = 4 ) و إنما هو فقط يتذكر حقيقة باطنة في روحه، ولد بها.
و بالمثل الإحساس بالجمال و الطرب هو نوع من التذكر المبهم لعالم القدس و ما فيه.. عالم الملكوت الذي كنا فيه قبل النزول إلى الأرحام.
و لهذا السبب فإن جمال المرأة مثلا هو جمال زائر و ليس جمالا مقيما لأنه ليس جمالها هي.. و إنما هو ظل ينعكس عليها من الملكوت.. ثم ما يلبث أن يفارقها حينما يتغلب قانون المادة و الشيخوخة و التراب.
و الآية تروي ما كان في الغيب قبل الميلاد و قبل النزول إلى الدنيا.
و كل الخلائق مما خلق الله و يخلق و سيخلق مثل الذر في كفه ينظر إليهم و يشهدهم على أنفسهم.. ألست بربكم.. فيقولون بلى شهدنا.. و هو بهذا يأخذ عليهم ميثاقا غليظا لأنه يعلم أنه بعد الهبوط في الأرحام و انسدال حجاب اللحم الكثيف و نزول غشاوة الحواس و الشهوات و الغرائز و الأهواء أنهم سوف ينسون تماما.. و سوف يتخبطون في نكران وكفر و جهالة.
لأن اتصال الوجود الدنيوي بالتذكر بالوجود الملكوتي الأول ثم بالوجود الأخروي.. هو فطنة الإنسان إلى حياته بكاملها. و هي الحياة كل الحياة.
و الله ليس بحاجة إلى صلاتنا و لا إلى صيامنا و لكن نحن المحتاجون.. لعلنا في صلاتنا العميقة نتذكر و لعلنا بالعبادة و التوجه نتصل بنبع وجودنا.. و نستمد منه حياتنا.
إن الصلاة و العبادة استمداد. نحن الذين نحتاج إليها لتكون لنا حياة. و ليس الله.. لأن الله هو الحي بذاته المستغني بوجوده عن كل شيء.
أما نحن فلا يمكن أن تكون لنا حياة إلا بمدد منه.. من الله.. الحي الذي به الحياة.
و نفهم من هذا أن الله فرض الفروض ووضع شرائع العبادات من أجلنا و ليس من أجل أن يشعر بألوهيته. فهو في غنى عنا.. و في غنى عن أن يعذبنا.. و في غنى عن أن يطلب منا طلبا أو يفرض علينا فرضا.
و هو بالفعل لا يفرض علينا فرضا و لا يطالبنا بطلب و لا يقيم علينا عذابا، كل هذا يبدو من ظاهر العبارات فقط. أما باطن القرآن الذي يكشف نفسه لكل من جاهد في الفهم، إن الله هو الرحيم مطلق الرحمة، العادل مطلق العدل الذي يعطي مطلق العطاء و لا يأخذ شيئا و لا يحتاج لشيء.
و إذا كان في الدنيا ألوان من العذاب فهي من عيون رحمته.
إنها محاولات لإيقاظ العقل الغافل لعله يتذكر و يرجع و ينجو بنفسه من عذاب أكبر في الطريق. عذاب لن يكون منه مخرج و لا مهرب. حينما تحق على كل واحد رتبته و درجته.
و نفهم من القرآن أن سنة الله أن يوقظ الغافلين في الأرض فيبتليهم بكل صنوف البؤس و المرض و العذاب لعلهم يفطنون إلى ما في الدنيا من زوال و ما وراءها من حقيقة باقية.. يفعل هذا رحمة بهم و لأنه يعلم ما ينتظرهم من ناموس عادل لن يلطف بهم.. حتى إذا نفذت فيهم كل هذه الآلام الدنيوية و لم يتيقظوا.. فتح الله عليهم أبواب كنوزه ليتمتعوا.. و حقت عليهم كلمته بالهلاك في الآخرة.
فليس الخير الظاهر في الدنيا و النعمة الغامرة بعلامة رضا الله في جميع الأحوال.. و لا عذاب الدنيا و بلائها بعلامة غضب الله في كل حال.. فقد يكون الخير غضبا و قد يكون البلاء لطفا.. و لا يكشف لك عن الحقيقة إلا صوت ضميرك.. إذا رأيت البلاء يطهرك فهو نعمة.. و إذا رأيت النعمة تطغيك فهي غضب.
إن الله يعلم أنهم لو ردوا للدنيا لعادوا إلى كبريائهم.
إنه جهل و إصرار على الجهل لا وسيلة لعلاجه.. لا الأنبياء و لا المعجزات و لا الخوارق و الآيات.. و لا حتى مرورهم على الجحيم بكاف لردهم إلى معرفة.
و من هنا يبدو البقاء في الجحيم رحمة، فهو بالنسبة لبعض الجبارين الوسيلة الوحيدة إلى المعرفة و التقويم.
إن الله رحيم دائما حتى في جحيمه.. و لهذا سمى نفسه (( الرحمن )).. أي الرحيم مطلق الرحمة في جميع الأحوال لمن يستحق و من لا يستحق.. يرحم من يستحق بالجنة و يرحم من لا يستحق بالجحيم.. فالجحيم كما رأينا هو تعريف لمن لا يعرف و لمن فشلت معه كل وسائل التعريف فهو نوع من الرحمة.. و لهذا يقول في أجمل آياته:
و الحساب هنا يبدو أنه حساب النفس للنفس و تنكيل النفس بالنفس و مواجهة النفس للنفس.
لقد لزم كل واحد عمله كظله و لا خلاص.. و حق القول.. و نفذ العدل الأزلي.
و لكن هذه المعاني تضيع في النظرة المتعجلة و القراءة السطحية و الوقوف عند الحروف و عند جلجلة الألفاظ.
و الألفاظ التي وصف الله بها القيامة كلها ألفاظ رهيبة ذات جلجلة و صلصلة.. تقرع الآذان كالأجراس، فهي الساعة، و الواقعة، و القارعة، و الزلزلة، و الدمدمة، و الغاشية، و الراجفة، و الرادفة، و الزجرة، و السكرة، و الطامة، و الحاقة، و الصاخة.
هل سمعت لفظا اسمه (( الصاخة )) ؟!
إنه لفظ يخرق طبلة الأذن.. لأن الله علم أن الواحد منا في هذه الدنيا تتخطفه الشهوات و تبرق في عينيه المطامع فهو لا يعقل.. و هو أصم لا يسمع.
فهتف في أذنه بهذه الكلمة.. التي تكاد تخرق السمع من فرط ارتفاع ذبذبتها ليوقظه:
فعل هذا رحمة و لطفا و حنانا.. تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.
و ما العذاب إلا لزوم ما يلزم و حلول الصفة بموصوفها و انتظام الأرواح في سلم درجاتها الحق و انسدال الستار على هذا العالم الذي يتبارى فيه الناس على نوال ما لا يستحقون.
و نعطي مثلا لهذا التفاوت في الرتب فيما يشعر به كل منا في حياته الخاصة.. من تفاوت المستويات التي يمكن أن يعيش فيها.. لا نقصد مستويات الدخل.. و إنما نقصد شيئا أعمق.. نقصد المستويات الوجودية ذاتها.
فالواحد منا يمكن أن يعيش على مستوى متطلبات جسده، كل همه أن يأكل و يشرب و يضاجع كالبهيمة.
و يمكن أن يسكت ذلك السعار الجسدي ليستسلم لسعار آخر هو سعار النفس بين غيرة و حسد و غضب و شماتة و رغبة في السيطرة و جوع للظهور و تعطش للشهرة و استئثار لأسباب القوة بتكديس الأموال و الممتلكات و تربص لاصطياد المناصب.
و أكثر الناس لا يرتفعون عن هذه الدرجة و يموتون عليها و لا يكون العقل عندهم إلا وسيلة احتيال لبلوغ هذه الاسباب.
و الحياة بالنسبة لهذه الكثرة من الناس غابة و الشعور الطبيعي هو العدوان و تنازع البقاء و الصراع.. و الهدف هو التهام كل ما يمكن التهامه و انتهاز ما يمكن انتهازه.. و الواحد منهم تجده يتأرجح كالبندول من لهيب رغبة إلى لهيب رغبة أخرى.. يسلمه مطمع إلى مطمع و هو في ضرام من هذه الرغبات لا ينتهي.
و هناك قلة قليلة تكتشف زيف هذه الحياة و تصحو على إدراك واضح بأن هذا اللون من الحياة عبودية لا حرية.. و أنها كانت حياة أشبه بالسخرة و الأشغال الشاقة خضوعا لغرائز همجية لا تشبع و أطماع لا مضمون لها و لا معنى و لا قيمة.. كلها إلى زوال.
فتبدأ هذه القلة القليلة في إسكات هذا الصوت و في تكبيل هذه النفس الهائجة، و قد اكتشفت أنها حجاب على الرؤية و تشويش على الفهم.
و هكذا ترتفع هذه القلة القليلة في الرتبة لتعيش بمنطق آخر.. هو أن تعطي لا أن تأخذ.. و تحب لا أن تكره.. و تصبح هموم هذه القلة هي إدراك الحقيقة.
و على هذه القلة تنزل سكينة القلب فيتذكر الواحد منهم ماضيه حينما كان عبدا لسعار نفسه و كأنه خارج من جحيم !
و مثل هؤلاء يموتون و قد انعتقوا من وهم النفس و الجسد و بلغوا خلاصهم الروحي و أيقنوا حقيقة ذواتهم كأرواح كانت تبتلى في تجربة.
و ما أشبه الجسد – في الرتبة – بالتراب.. و النفس بالنار و الروح بالنور و هي مجرد ألفاظ للتقريب.. و لكنها تكشف لنا أن حكاية الرتب هي حكاية حقيقية.. و أن كل من يموت على رتبة يبعث عليها و أن هذا هو عين العدل و ليس تجبرا.. و قد يكون العذاب فوق الوصف إذا تجردت النفوس من أجسادها الترابية و لم يبق منها إلا سعار خالص و جوع بحت و اضطرام مطلق برغبات لا ترتوي ثم عدوان بين نفوس شرسة لا هدنة بينها و لا سلام و لا مصالحة إلى الأبد.. على عكس أرواح تتعايش في محبة و تتأمل الحق في عالم ملكوتي.
أكاد أجزم بأن ألفاظ القرآن بما فيها من جلجلة و صلصلة حينما تصف الجحيم إنما هي نذير حقيقي بعذاب فوق التصور و سوف نعذبه لأنفسنا بأنفسنا عدلا و صدقا على رتبة استحقها كل منا بعمله.. و أكاد أضع يدي على الحقيقة.. لا ريب فيها.
تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.. و هو الحق العدل الحكم.
و في أخبار داود أن الله قال له:
(( يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني و جليس لمن جالسني و صاحب لمن صاحبني و مختار لمن اختارني.. و مطيع لمن أطاعني.. من طلبني بالحق وجدني و من طلب غيري لم يجدني )).
أنعم به من رب رحيم.. و تقدس و تعالى عن الظلم و العدوان.