❞ هل الضوء أمواج ؟
هل الضوء ذرّات ؟
كانت المعركة محتدمة بين العلماء الذين يقولون بأن للضوء طبيعة موجية .. وبين العلماء الذين يقولون بأن طبيعته مادية ذرية ..
حينما تقدم عالَم نمساوي إسمه شرودنجر بمجموعة من المعادلات .. ليعلن نظرية اسمها "الميكانيكا الموجية" .
وفي هذه النظرية أثبت شرودنجر بالتجربة أن حزمة من الإلكترونات ساقطة على سطح بللورة معدنية تحيد بنفس الطريقة التي تحيد بها أمواج البحر التي تدخل من مضيق .. واستطاع أن يحسب طول موجة الإلكترونات التي تحيد بهذه الطريقة ..
وأعقبت هذه المفاجأة مفاجآت أخرى ..
فقد أثبتت التجارب التي أجريت على حِزَم من الذرّات، ثم على حِزَم من الجزيئات .. أنها بإسقاطها على بللورة معدنية تتصرف بنفس الطريقة الموجية وأن طول موجاتها يمكن حسابه بمعادلات شرودنجر ..
وبهذا بدأ صرح النظرية المادية كله ينهار .
إن الهيكل كله يسقط، ويتحول إلى خواء .
إن كُهّان العلوم دأبوا من سنين على أن يعلمونا أن الذرة عبارة عن معمار مادي يتألف من نواة ( بروتون أو أكثر ) تدور حولها الإلكترونات في أفلاك دائرية كما تدور الكواكب حول الشمس ..
وأكثر من هذا .. حسبوا عدد الإلكترونات في كل ذرة وقالوا لنا إنها إلكترون واحد في ذرة الأيدروجين ثم تزيد في العناصر الثقيلة حتى تبلغ 92 إلكترون في ذرة اليورانيوم، وأن كل ذرة لها وزن ذري .. وأثبتوا كل هذا بالمعادلات ..
فماذا يقولون في هذا الذي يهدم لهم صرح الهيكل ليقول إنه لا يحتوي على شيء له كيان مادي أو حيِّز، وإنما كل ما هناك .. طاقة متموجة، وأكثر من هذا يقدم لهم الإثبات بالمعادلات، والتجارب ..
وكانت بلبَلة علمية لا حـد لها .
كيف يمكن أن يقوم البرهان على شيئين متناقضين ! .. وهل يمكن أن يكون للشيء طبيعة متناقضة .. ؟!
كيف يمكن أن تكون للمادة صفات موجية، وللضوء صفات مادية .. ؟!
وتقدم عالِم ألماني هو " هايزنبرج " وبرفقته عالِم آخر هو " بورن " ليقول أنه من الممكن تخطي هذه الفجوة، وأنه لا توجد مشكلة .. وقدم مجموعة من المعادلات يمكن عن طريقها حساب الضوء على أنه أمواج أو على أنه ذرّات، ولمن يريد أن يختار الإفتراض الذي يعجبه .. وسيجد أن المعادلات تصلح للغرضين في وقت واحد ..
كيف يمكن أن تكون الحقيقة متناقضة .. ؟!
العلماء يسألون ..
وهايزنبرج يرد ببساطة .. الحقيقة المطلَقة لا سبيل إلى إدراكها .
العلم لا يستطيع أن يعرف حقيقة أي شيء .. إنه يعرف كيف يتصرف ذلك الشيء في ظروف معينة، ويستطيع أن يكشف علاقاته مع غيره من الأشياء ويحسبها .. ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما هو . !
لا سبيل أمام العلم لإدراك المطلق .
العلم يدرِك كميات، ولكنه لا يدرِك ماهيات ..
العلم لا يمكنه أن يعرف ما هو الضوء .. ولا ما هو الإلكترون ..
وحينما يقول إن الأشعة الضوئية هي موجات كهربية مغناطيسية أو فوتونات .. فإنه يحيل الألغاز إلى ألغاز أخرى .. فما هي الموجات الكهربائية المغناطيسية ؟ حركة في الأثير ؟ .. وما الحركة ؟ .. وما الأثير ؟ ..
وما الفوتونات ؟ .. حِزَم من الطاقة ؟ .. وما الطاقة ؟ ..
العلم لا يمكن أن يعرف ماهية أي شيء .. إنه يستطيع أن يعرف سلوك الشيء وعلاقاته بالأشياء الأخرى والكيفيات التي يوجد بها في الظروف المختلفة .. ولكنه لا يستطيع أن يعرف حقيقته .
وحينما يكتشف العلم أن الضوء في إحدى التجارب يتصرَف بطريقة مَوْجية، وفي تجربة أخرى يتصرف بطريقة مادية ذرية، فلا تناقض هناك .. لأن ما اكتشفه العلم هو مسلَك الضوء، والكيفيات التي ينطلق بها في الظروف المختلفة .. لا حقيقة الضوء .. ويمكن أن تكون للضوء طبيعة مزدوجة .
والصفة الثانية للعلم ..
أن أحكامه كلها إحصائية وتقريبية .. لأنه لا يُجري تجاربه على حالات مفردة .. لا يمسك ذرة مفردة ليجري عليها تجاربه .. ولا يقبض على إلكترون واحد ليلاحظه .. ولا يمسك فوتونًا واحدًا ليفحصه ويتفرج عليه ..
وإنما يجري تجاربه على مجموعات .. على شعاع ضوء مثلًا ( والشعاع يحتوي على بلايين بلايين الفوتونات ) ..
أو جرام من مادة .. والجرام يحتوي على بلايين بلايين الذرات .. وتكون النتيجة أن الحسابات كلها حسابات إحصائية تقوم على الإحتمالات .. وعلى الصواب التقريبي .
والقوانين العلمية أشبه بالإحصائيات التي يمسح بها الباحثون الاجتماعيون المجتمع لتقرير أسباب الانتحار .. أو أسباب الطلاق .. أو علاقة السرطان بالتدخين .. أو الخمر بالجنون ..
وكل النتائج تكون في هذه الحالة نتائج إحتمالية وإحصائية لأنها جميعها متوسطات حسابية عن أعداد كبيرة .
أما إذا حاول العلم أن يجري تجاربه على وِحدة أساسية .. كأن يدرس ذرّة بعينها أو يلاحظ إلكترونًا واحدًا بالذات .. فإنه لا يمكنه أن يخرج بنتيجة أو معرفة .. لأنه يصطدم باستحالة نهائية .
ولكي يثبت هايزنبرج هذه الإستحالة تخيل أن عالِمًا يحاول أن يشاهد الإلكترون .. فعليه أولًا أن يستخدم ميكروسكوبًا يكبر مائة مليون مرة .. وعلى افتراض أنه حصل على هذا الميكروسكوب، فإن هناك صعوبة أخرى .. وهي أن الإلكترون أصغر من موجة الضوء .. فعليه أن يختار موجة قصيرة مثل أشعة إكس ..
ولكن أشعة إكس لا تصلح للرؤية .. إذاً عليه أن يستخدم أشعة الراديوم .
وبافتراض أنه حصل على هذه الأشياء .. فإنه في اللحظة التي يضع فيها عينيه على الميكروسكوب ويطلق فوتونًا ضوئيًا ليرى به الإلكترون .. فإن الفوتون سوف يضرب الإلكترون كما تضرب العصا كرة البلياردو ويزيحه من مكانه مغيرًا سرعته ..
لأن الفوتون عبارة عن شحنة من الطاقة ..
فهو في محاولته لتسجيل وضع الإلكترون وسرعته .. لن يصل إلى أي نتيجة ..
إذ في اللحظة التي يحاول فيها تسجيل سرعته يتغير مكانه .. لأن إطلاق الضوء عليه لرؤيته ينقله من مكانه ويغير سرعته .
إن عملية الملاحظة التي يقوم بها تغير من النتيجة المطلوبة ..
إنه يحاول أن يرى طبيعة الإلكترون ليسجلها .. ولكن عملية الرؤية تُغير أول ما تُغير تلك الطبيعة التي يجري وراء تسجيلها ..
فهو ينقل الإلكترون من مكانه في اللحظة التي يحاول فيها أن يسجل مكانه .
وهكذا يكون التعامل مع الوحدات الأساسية للطبيعة مستحيل .. فحينما نصل إلى عالَم الذرة الصغير يستحيل علينا التحديد .. وفي نفس الوقت يتعطل قانون السببية ..
فلا يصبح ساريًا .. لأن عملية الملاحظة تتدخل بين السبب والنتيجة وتكسر حلقة السببيية من منتصفها .. وتدخل هي بذاتها كسبب يغير من النتيجة بشكل يجعل من المستحيل معرفتها أو حسابها ..
إننا نكون أشبه بالأعمى الذي يمسك بقطعة مربعة من الثلج ليتحسس شكلها ومقياسها .. وهي في اللحظة التي يتحسسها تذوب مقاييسها بين يديه .. فيفقد الشيء الذي يبحث عنه بنفس العملية التي يبحث بها عنه .
وهكذا تتعطل القوانين حينما تصل إلى منتهى أجزاء ذلك الكون الكبير .. وتتوقف عند أصغر وحدة في وحداته .. فلا تعود سارية ولا تعود صالحة للتطبيق .
وبالمثل هي تتعطل أحيانًا حينما نحاول أن نطبقها على الكون بأسره ككل .. فقانون السببية أيضًا لا يعود ساريًا بالنسبة للكون ككل .. إذ أن اعتبار الكون صادرًا عن سبب، واعتباره خاضعًا للسببية يجعل منه جزءًا صادرًا عن جزء آخر ويتناقض مع كليته وشموله ..
القوانين تصطدم مع الحدّ الأكبر ومع الحدّ الأصغر للكون ولا تعود سارية ..
والعقل يصطدم بالإستحالة حينما يحاول أن يبحث في المبدأ وفي المنتهى .. لأنه لم يُجهَز بالوسائل التي يقتحم بها هذه الحدود ..
بهذا البحث الفلسفي الرياضي .. إستطاع هايزنبرج أن يفسر الطبيعة المزدوجة للضوء، ووضع المعادلات التي تصلح لتفسير الضوء على الأساس المادي وعلى الأساس الموجي في نفس الوقت، واعتبر القوانين في هذا المجال قوانين احتمالية إحصائية .. تعبِّر عن سلوك مجاميع هائلة من بلايين بلايين الفوتونات ..
أما الفوتون نفسه .. فشيء لا يمكن تحديده .
وهل يمكن تحديد نقطة في ريح عاصفة في الظلام .. وهل يمكنك أن تقول إن هذه النقطة تشغل هذا المكان بالذات .. ؟!
كل ما يمكن للعلم أن يدركه هو "الكميات" و "الكيفيات" .. ولكن لا سبيل إلى إدراك الماهيات .
** ** **
لكن أينشتين كانت له وجهة نظر أخرى ..
كان يرى في العالَم وحدة منسجمة ..
كان يرى العالَم الكبير بشموسه وأفلاكه، والعالم الصغير بذرّاته وإلكتروناته خاضعًا كله لقانون واحد بسيط ..
وكان يرى أن العقل في إمكانه أن يكتشف هذا القانون .. وكان يبحث جاهدًا عنه ..
وفي سنة 1929 أعلن عن نظرية "المجال الموحَد" .. ثم عاد بعد ذلك ورفضها واستبعدها .. وعاود البحث من جديد .
مقال / مبدأ الشـــك .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ هل الضوء أمواج ؟
هل الضوء ذرّات ؟
كانت المعركة محتدمة بين العلماء الذين يقولون بأن للضوء طبيعة موجية . وبين العلماء الذين يقولون بأن طبيعته مادية ذرية .
حينما تقدم عالَم نمساوي إسمه شرودنجر بمجموعة من المعادلات . ليعلن نظرية اسمها ˝الميكانيكا الموجية˝ .
وفي هذه النظرية أثبت شرودنجر بالتجربة أن حزمة من الإلكترونات ساقطة على سطح بللورة معدنية تحيد بنفس الطريقة التي تحيد بها أمواج البحر التي تدخل من مضيق . واستطاع أن يحسب طول موجة الإلكترونات التي تحيد بهذه الطريقة .
وأعقبت هذه المفاجأة مفاجآت أخرى .
فقد أثبتت التجارب التي أجريت على حِزَم من الذرّات، ثم على حِزَم من الجزيئات . أنها بإسقاطها على بللورة معدنية تتصرف بنفس الطريقة الموجية وأن طول موجاتها يمكن حسابه بمعادلات شرودنجر .
وبهذا بدأ صرح النظرية المادية كله ينهار .
إن الهيكل كله يسقط، ويتحول إلى خواء .
إن كُهّان العلوم دأبوا من سنين على أن يعلمونا أن الذرة عبارة عن معمار مادي يتألف من نواة ( بروتون أو أكثر ) تدور حولها الإلكترونات في أفلاك دائرية كما تدور الكواكب حول الشمس .
وأكثر من هذا . حسبوا عدد الإلكترونات في كل ذرة وقالوا لنا إنها إلكترون واحد في ذرة الأيدروجين ثم تزيد في العناصر الثقيلة حتى تبلغ 92 إلكترون في ذرة اليورانيوم، وأن كل ذرة لها وزن ذري . وأثبتوا كل هذا بالمعادلات .
فماذا يقولون في هذا الذي يهدم لهم صرح الهيكل ليقول إنه لا يحتوي على شيء له كيان مادي أو حيِّز، وإنما كل ما هناك . طاقة متموجة، وأكثر من هذا يقدم لهم الإثبات بالمعادلات، والتجارب .
وكانت بلبَلة علمية لا حـد لها .
كيف يمكن أن يقوم البرهان على شيئين متناقضين ! . وهل يمكن أن يكون للشيء طبيعة متناقضة . ؟!
كيف يمكن أن تكون للمادة صفات موجية، وللضوء صفات مادية . ؟!
وتقدم عالِم ألماني هو ˝ هايزنبرج ˝ وبرفقته عالِم آخر هو ˝ بورن ˝ ليقول أنه من الممكن تخطي هذه الفجوة، وأنه لا توجد مشكلة . وقدم مجموعة من المعادلات يمكن عن طريقها حساب الضوء على أنه أمواج أو على أنه ذرّات، ولمن يريد أن يختار الإفتراض الذي يعجبه . وسيجد أن المعادلات تصلح للغرضين في وقت واحد .
كيف يمكن أن تكون الحقيقة متناقضة . ؟!
العلماء يسألون .
وهايزنبرج يرد ببساطة . الحقيقة المطلَقة لا سبيل إلى إدراكها .
العلم لا يستطيع أن يعرف حقيقة أي شيء . إنه يعرف كيف يتصرف ذلك الشيء في ظروف معينة، ويستطيع أن يكشف علاقاته مع غيره من الأشياء ويحسبها . ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما هو . !
لا سبيل أمام العلم لإدراك المطلق .
العلم يدرِك كميات، ولكنه لا يدرِك ماهيات .
العلم لا يمكنه أن يعرف ما هو الضوء . ولا ما هو الإلكترون .
وحينما يقول إن الأشعة الضوئية هي موجات كهربية مغناطيسية أو فوتونات . فإنه يحيل الألغاز إلى ألغاز أخرى . فما هي الموجات الكهربائية المغناطيسية ؟ حركة في الأثير ؟ . وما الحركة ؟ . وما الأثير ؟ .
وما الفوتونات ؟ . حِزَم من الطاقة ؟ . وما الطاقة ؟ .
العلم لا يمكن أن يعرف ماهية أي شيء . إنه يستطيع أن يعرف سلوك الشيء وعلاقاته بالأشياء الأخرى والكيفيات التي يوجد بها في الظروف المختلفة . ولكنه لا يستطيع أن يعرف حقيقته .
وحينما يكتشف العلم أن الضوء في إحدى التجارب يتصرَف بطريقة مَوْجية، وفي تجربة أخرى يتصرف بطريقة مادية ذرية، فلا تناقض هناك . لأن ما اكتشفه العلم هو مسلَك الضوء، والكيفيات التي ينطلق بها في الظروف المختلفة . لا حقيقة الضوء . ويمكن أن تكون للضوء طبيعة مزدوجة .
والصفة الثانية للعلم .
أن أحكامه كلها إحصائية وتقريبية . لأنه لا يُجري تجاربه على حالات مفردة . لا يمسك ذرة مفردة ليجري عليها تجاربه . ولا يقبض على إلكترون واحد ليلاحظه . ولا يمسك فوتونًا واحدًا ليفحصه ويتفرج عليه .
وإنما يجري تجاربه على مجموعات . على شعاع ضوء مثلًا ( والشعاع يحتوي على بلايين بلايين الفوتونات ) .
أو جرام من مادة . والجرام يحتوي على بلايين بلايين الذرات . وتكون النتيجة أن الحسابات كلها حسابات إحصائية تقوم على الإحتمالات . وعلى الصواب التقريبي .
والقوانين العلمية أشبه بالإحصائيات التي يمسح بها الباحثون الاجتماعيون المجتمع لتقرير أسباب الانتحار . أو أسباب الطلاق . أو علاقة السرطان بالتدخين . أو الخمر بالجنون .
وكل النتائج تكون في هذه الحالة نتائج إحتمالية وإحصائية لأنها جميعها متوسطات حسابية عن أعداد كبيرة .
أما إذا حاول العلم أن يجري تجاربه على وِحدة أساسية . كأن يدرس ذرّة بعينها أو يلاحظ إلكترونًا واحدًا بالذات . فإنه لا يمكنه أن يخرج بنتيجة أو معرفة . لأنه يصطدم باستحالة نهائية .
ولكي يثبت هايزنبرج هذه الإستحالة تخيل أن عالِمًا يحاول أن يشاهد الإلكترون . فعليه أولًا أن يستخدم ميكروسكوبًا يكبر مائة مليون مرة . وعلى افتراض أنه حصل على هذا الميكروسكوب، فإن هناك صعوبة أخرى . وهي أن الإلكترون أصغر من موجة الضوء . فعليه أن يختار موجة قصيرة مثل أشعة إكس .
ولكن أشعة إكس لا تصلح للرؤية . إذاً عليه أن يستخدم أشعة الراديوم .
وبافتراض أنه حصل على هذه الأشياء . فإنه في اللحظة التي يضع فيها عينيه على الميكروسكوب ويطلق فوتونًا ضوئيًا ليرى به الإلكترون . فإن الفوتون سوف يضرب الإلكترون كما تضرب العصا كرة البلياردو ويزيحه من مكانه مغيرًا سرعته .
لأن الفوتون عبارة عن شحنة من الطاقة .
فهو في محاولته لتسجيل وضع الإلكترون وسرعته . لن يصل إلى أي نتيجة .
إذ في اللحظة التي يحاول فيها تسجيل سرعته يتغير مكانه . لأن إطلاق الضوء عليه لرؤيته ينقله من مكانه ويغير سرعته .
إن عملية الملاحظة التي يقوم بها تغير من النتيجة المطلوبة .
إنه يحاول أن يرى طبيعة الإلكترون ليسجلها . ولكن عملية الرؤية تُغير أول ما تُغير تلك الطبيعة التي يجري وراء تسجيلها .
فهو ينقل الإلكترون من مكانه في اللحظة التي يحاول فيها أن يسجل مكانه .
وهكذا يكون التعامل مع الوحدات الأساسية للطبيعة مستحيل . فحينما نصل إلى عالَم الذرة الصغير يستحيل علينا التحديد . وفي نفس الوقت يتعطل قانون السببية .
فلا يصبح ساريًا . لأن عملية الملاحظة تتدخل بين السبب والنتيجة وتكسر حلقة السببيية من منتصفها . وتدخل هي بذاتها كسبب يغير من النتيجة بشكل يجعل من المستحيل معرفتها أو حسابها .
إننا نكون أشبه بالأعمى الذي يمسك بقطعة مربعة من الثلج ليتحسس شكلها ومقياسها . وهي في اللحظة التي يتحسسها تذوب مقاييسها بين يديه . فيفقد الشيء الذي يبحث عنه بنفس العملية التي يبحث بها عنه .
وهكذا تتعطل القوانين حينما تصل إلى منتهى أجزاء ذلك الكون الكبير . وتتوقف عند أصغر وحدة في وحداته . فلا تعود سارية ولا تعود صالحة للتطبيق .
وبالمثل هي تتعطل أحيانًا حينما نحاول أن نطبقها على الكون بأسره ككل . فقانون السببية أيضًا لا يعود ساريًا بالنسبة للكون ككل . إذ أن اعتبار الكون صادرًا عن سبب، واعتباره خاضعًا للسببية يجعل منه جزءًا صادرًا عن جزء آخر ويتناقض مع كليته وشموله .
القوانين تصطدم مع الحدّ الأكبر ومع الحدّ الأصغر للكون ولا تعود سارية .
والعقل يصطدم بالإستحالة حينما يحاول أن يبحث في المبدأ وفي المنتهى . لأنه لم يُجهَز بالوسائل التي يقتحم بها هذه الحدود .
بهذا البحث الفلسفي الرياضي . إستطاع هايزنبرج أن يفسر الطبيعة المزدوجة للضوء، ووضع المعادلات التي تصلح لتفسير الضوء على الأساس المادي وعلى الأساس الموجي في نفس الوقت، واعتبر القوانين في هذا المجال قوانين احتمالية إحصائية . تعبِّر عن سلوك مجاميع هائلة من بلايين بلايين الفوتونات .
أما الفوتون نفسه . فشيء لا يمكن تحديده .
وهل يمكن تحديد نقطة في ريح عاصفة في الظلام . وهل يمكنك أن تقول إن هذه النقطة تشغل هذا المكان بالذات . ؟!
كل ما يمكن للعلم أن يدركه هو ˝الكميات˝ و ˝الكيفيات˝ . ولكن لا سبيل إلى إدراك الماهيات .
******
لكن أينشتين كانت له وجهة نظر أخرى .
كان يرى في العالَم وحدة منسجمة .
كان يرى العالَم الكبير بشموسه وأفلاكه، والعالم الصغير بذرّاته وإلكتروناته خاضعًا كله لقانون واحد بسيط .
وكان يرى أن العقل في إمكانه أن يكتشف هذا القانون . وكان يبحث جاهدًا عنه .
وفي سنة 1929 أعلن عن نظرية ˝المجال الموحَد˝ . ثم عاد بعد ذلك ورفضها واستبعدها . وعاود البحث من جديد .
مقال / مبدأ الشـــك .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝
❞ *\"عشقكِ قلبي وملكته، وكان عشقًا من طرف واحد\"*
في يومٍ عاصفٍ يسوده الخذلان وتألم الروح، يتناثر الهواء بشدةٍ في مكانٍ أشبه بالجنةِ من كثرة الخضرة ورونقه الجذاب، يركض خلف حبيبته يتحدث بلهفةٍ ويبثُّ ما بداخله ليريها كم يحبها؟
يتحدث بثورانٍ لمشاعره ويقول لها: لقد أحببتك مُنذ أن عرفتك.
يتحدث وكأن قلبه سيتوقف إن لم تصدق حبه، فهو يعشقها حد الجنون ولا يستطيع فقدانها، يُحدثها مرارًا وتكرارًا أنه يحبها ولم يستطع كتمان حبه مع نفسه، يصرخ بها ويقول: حاولت إظهار حبي لكِ أكثر من مرة ولكن لم تسمحي لي، والآن لابدّ أن أُرغمكِ على سماع مشاعري.
يحرك يديه يمينًا ويسارًا وهو يرتجف وكأنه يخشى رفضها له، يخشى خسارته لحبها ويجاهد نفسه على الصمودِ ولكن دون جدوىٰ منه، فتستبق دموعه على وجنتيه ليردف بانكسار قائلًا: يجب أن تسمعي ما أُريد قوله لتمنحيني جوابًا، لأنني لا أستطيع العيش هٰكذا، العيش بين نيران عشقك ولا تعلمين ما أمر به.
يصرخ بها وهو يحرك يديه أمامه ويقول: لقد تخليت عن البلياردو، تخليت عن كل ما تكرهينه وأنا سعيد بفعل هذا ولم يكن لدي مانع. تهز رأسها يمينًا ويسارًا وتريد أن تخبره بشيء ولكن كلماته السريعة تمنعها من تفوهها بما تريد، فيكمل حديثه قائلًا: لقد انتظرت ولم أشتكي لأنني ظننت أنك ستقعين في حبي. تهز رأسها بعنفٍ لينتبه إليها بعد وقتٍ لتردف بسرعةٍ: لم أبادلكَ الحب كما تحبني أنت! لا أعرف السبب ولكن لا أستطيع أن أحبك.
يتحدث بهفوتٍ وبصوتٍ يكاد ينسمع من أثر تحشرج البكاء في فمه: لا يمكنكِ حبي؟
لتجيبه بدموع قائلة: كلا، لا أستطيع التحكم بمشاعري. ليتجه إلى الناحية الأخرى ويسير وقلبه مكسورًا مُتهشمًا ممزقًا إلى أشلاءٍ صغيرة، فلو استمعت إلى قلبه لأدركت صوت انكساره وتدميره، يسير كالدُمية ولا يستطيع التحكم في دموعه وخذلانه، تفيض عيناه كالشلالاتِ التي تصب بدون توقفٍ، يحاول الصمود أمامها كي لا يرتطم أرضًا، يترنح في خطواته المتعرجة أثر الضباب الذي يستحوذ علي عينيه من أثر انهياره، تنظر إليه بحسرةٍ ودموعٍ ولكن ليس بيدها شيء تفعله، فقلبها لم يحبه ويُكن له المشاعر فليس ذاك خطئها، لكن هذا هو القلب يحب من يُريد وليس لنا عليه سُلطان.
گ/إنجي محمد\"بنت الأزهر\". ❝ ⏤گ/انجى محمد \"أنجين\"
❞*˝عشقكِ قلبي وملكته، وكان عشقًا من طرف واحد˝*
في يومٍ عاصفٍ يسوده الخذلان وتألم الروح، يتناثر الهواء بشدةٍ في مكانٍ أشبه بالجنةِ من كثرة الخضرة ورونقه الجذاب، يركض خلف حبيبته يتحدث بلهفةٍ ويبثُّ ما بداخله ليريها كم يحبها؟
يتحدث بثورانٍ لمشاعره ويقول لها: لقد أحببتك مُنذ أن عرفتك.
يتحدث وكأن قلبه سيتوقف إن لم تصدق حبه، فهو يعشقها حد الجنون ولا يستطيع فقدانها، يُحدثها مرارًا وتكرارًا أنه يحبها ولم يستطع كتمان حبه مع نفسه، يصرخ بها ويقول: حاولت إظهار حبي لكِ أكثر من مرة ولكن لم تسمحي لي، والآن لابدّ أن أُرغمكِ على سماع مشاعري.
يحرك يديه يمينًا ويسارًا وهو يرتجف وكأنه يخشى رفضها له، يخشى خسارته لحبها ويجاهد نفسه على الصمودِ ولكن دون جدوىٰ منه، فتستبق دموعه على وجنتيه ليردف بانكسار قائلًا: يجب أن تسمعي ما أُريد قوله لتمنحيني جوابًا، لأنني لا أستطيع العيش هٰكذا، العيش بين نيران عشقك ولا تعلمين ما أمر به.
يصرخ بها وهو يحرك يديه أمامه ويقول: لقد تخليت عن البلياردو، تخليت عن كل ما تكرهينه وأنا سعيد بفعل هذا ولم يكن لدي مانع. تهز رأسها يمينًا ويسارًا وتريد أن تخبره بشيء ولكن كلماته السريعة تمنعها من تفوهها بما تريد، فيكمل حديثه قائلًا: لقد انتظرت ولم أشتكي لأنني ظننت أنك ستقعين في حبي. تهز رأسها بعنفٍ لينتبه إليها بعد وقتٍ لتردف بسرعةٍ: لم أبادلكَ الحب كما تحبني أنت! لا أعرف السبب ولكن لا أستطيع أن أحبك.
يتحدث بهفوتٍ وبصوتٍ يكاد ينسمع من أثر تحشرج البكاء في فمه: لا يمكنكِ حبي؟
لتجيبه بدموع قائلة: كلا، لا أستطيع التحكم بمشاعري. ليتجه إلى الناحية الأخرى ويسير وقلبه مكسورًا مُتهشمًا ممزقًا إلى أشلاءٍ صغيرة، فلو استمعت إلى قلبه لأدركت صوت انكساره وتدميره، يسير كالدُمية ولا يستطيع التحكم في دموعه وخذلانه، تفيض عيناه كالشلالاتِ التي تصب بدون توقفٍ، يحاول الصمود أمامها كي لا يرتطم أرضًا، يترنح في خطواته المتعرجة أثر الضباب الذي يستحوذ علي عينيه من أثر انهياره، تنظر إليه بحسرةٍ ودموعٍ ولكن ليس بيدها شيء تفعله، فقلبها لم يحبه ويُكن له المشاعر فليس ذاك خطئها، لكن هذا هو القلب يحب من يُريد وليس لنا عليه سُلطان.
❞ “❞ كلَّما نجح في الفرار، كان بلياردو يفكِّر أن أسوأ ما في النجاة أنها تُفقِد المرء كبرياءه. مرَّة بعد مرَّة، كان يسأل نفسه: أيُّ نجاةٍ وَهْميةٍ يُمثِّلها الهرب، وفي الوقت نفسه، أيُّ شجاعةٍ زائفة، تنطوي عليها مواجهةٌ مع مدينةٍ، لا ترى مَنْ يراها؟ ❝”. ❝ ⏤طارق إمام
❞ كلَّما نجح في الفرار، كان بلياردو يفكِّر أن أسوأ ما في النجاة أنها تُفقِد المرء كبرياءه. مرَّة بعد مرَّة، كان يسأل نفسه: أيُّ نجاةٍ وَهْميةٍ يُمثِّلها الهرب، وفي الوقت نفسه، أيُّ شجاعةٍ زائفة، تنطوي عليها مواجهةٌ مع مدينةٍ، لا ترى مَنْ يراها؟ ❝”. ❝
❞ كأسراب النمل...
كنقط صغيرة متدافعة..
إني لا أستطيع التميز بين وجوهكم..
لأني أنظر من فوق... من فوق...
من على ارتفاع شاهق يبدو كل الناس مثل بعض .. يبدون كالنمل .. سحنتهم واحدة .. و هيكلهم واحد .. مجرد نقط تندفع في اتجاهات متعددة .
و إذا صعدت إلى أعلى برج في القاهرة ثم نظرت إلى الناس تحت فإنك سوف تراهم مجرد نقط .. مجرد كرات تتدحرج على أديم الأرض ككرات البلياردو .. وستبدو عربات المرسيدس الفارهة كطوابير من الصرارصير اللامعة ..
إن الأمور تختلف كثيراً حينما ننظر إليها من بعيد .. إنها تتضاءل و تتشابه و تصبح ذات سحنة واحدة .. وتصبح تافهة مثيرة للدهشة و التساؤل ..
إنك تتعجب وأنت فوق في علوّك الشاهق تنظر إلى الصرصار الصغير المرسيدس .. و تسأل نفسك .. أهذا هو الشيء الذي كنت طول عمرك تحلم بأن تقتنيه ؟!
من أجل هذا الصرصار يحدث أحياناً أن يرتكب رجل عاقل جريمة ، فيسرق و يقتل ليجمع بضع جنيهات يشتري بها هذا الصرصار ؟! من أجل أن يكون وجيهاً أنيقاً ؟..
و لكن لا يبدو أن هناك فارقاً بين الأناقة و البهدلة من هذا الإرتفاع الشاهق .. إن كل الثياب تبدو واحدة من فوق ..
أجمل النساء تبدو كأقبح النساء .. الوجوه الفاتنة و القبيحة تبدو من فوق كوجوه الدجاج .. لا فرق بين ملامح دجاجة وملامح دجاجة أخرى .. لا تبدو غمزة العين ولا هزة الحاجب و لا بسمة الشفتين .. و كل ما يبدو هما ثقبان مكان العينين وثقب مكان الفم .. و لا شيء غير هذا ..
كل مخلوق من هذه المخلوقات التي تهرول تحت .. له ثلاثة ثقوب في وجهه و منقار صغير هو أنفه .. وكل واحد يجري و يدفع الآخر أمامه .. و يدفعه آخر من خلفه .. و أنت تتساءل .. على إيه.. على إيه .. بيجري ليه الراجل ده .. مستعجل ليه .. عاوز إيه ؟
و الحكاية كلها تبدو لك من فوق حكاية مضحكة غير مفهومة .. و قد تنسى بعض الوقت أنك كنت منذ لحظة تهرول في الشارع مثل هؤلاء الناس و تجري و تدفع الناس أمامك و تصرخ في سائق التاكسي أن يسرع بك ..
هذا الحماس الذي كان يبدو لك و أنت تحت في الشارع تعيش في وهمك .. هذا الحماس الذي كان يبدو لك حينذاك معقولاً .. يبدو لك الآن من بعيد مضحكاً مثيراً للدهشة ..
و قد تدبّ خناقة بين اثنين تحت ويتجمّع الناس كما يتجمّع النمل حول ذرة تراب غريبة .. وتنظر أنت من فوق فتبدو لك الخناقة منظراً غريباً، ويبدو لك الموقف مشحوناً بحماس غير مفهوم.. بحماس طائش أبله ليست له دوافع طبيعية ..
لماذا يقتل رجل رجلاً آخر ويزاحمه في شبر صغير من الأرض يقف فيه مع أن الدنيا أمامه واسعة ..
و الدنيا تبدو لك من فوق واسعة .. واسعة جداً.. تبدو لك أوسع من أن يتقاتل اثنان على شبر صغير فيه ا..
إنك تكتشف سخافة الشبر .. وسخافة الناس .. وسخافة السرعة .. وسخافة الآلة ..
إن هذا الشبر موضع التنافس و التقاتل يبدو لك تافهاً لا قيمة له ..
إنك تسأل نفسك لأول مرة .. لماذا كل هذا الجري ؟!
و تتفتح حواسك على آفاق رحبة تخرجك من سجن أنانيتك و صغار حياتك فتبدو لك اهتماماتك الصغيرة هيافة لا تستحق العناء ..
و هناك لحظات تستطيع أن تتحقق فيها من هذه الهيافة بدون أن تصعد على برج القاهرة و تنظر إلى الناس تحت ..
هناك لحظات نادرة تستطيع أن تخلع فيها نفسك من مشكلاتك التي تضيق عليك الخناق و تحصرك في رقعة ضيقة هي مصلحتك .. و تنظر إلى روحك كأنك تنظر إليها من فوق دون أن تصعد إلى فوق فعلاً .. وتنظر متأملا متعجباً .. وتتساءل مندهشاً ..
و لماذا كان كل هذا الاندفاع .. لماذا كان هذا الحماس والتهوّر على لا شيء ..
و في هذه اللحظات الخاطفة تفيق إلى نفسك .. و تتجلى عليك رؤية واسعة لحياتك و تتسع أمامك شاشة واقعك فتصبح شاشة بانورامية .. سينما سكوب .. و تسترد قدرتك على الحكم الدقيق العاقل .. تسترد قدرتك على الإمساك بفراملك والسيطرة على حياتك لأنك ترى ظروفك كلها دفعة واحدة و ترى معها ظروف غيرك و ظروف الدنيا فتتضائل مشكلتك و تصبح تافهة ..
و أنا عيبي .. وربما ميزتي .. لست أدري بالضبط .. أني اكتشفت هذه الحكاية من زمان وجربتها وتلذذت بها فقررت أن أقضي أغلب حياتي فوق .. في هذا البرج الذي طار من عقلي .. أتأمل نفسي و أنا ألعب تحت الأرض .. و أفهم نفسي أكثر .. و أتعقل حياتي أكثر ..
و كانت النتيجة أني نسيت اللعب.. و تحولت إلى متفرج مزمن .. جالس طول الوقت فوق .. في منصة الحكم .. ونسيت أن الصعود إلى برج المراقبة هذا لا يكون إلا لحظات خاطفة .. نصلح فيها هندامنا .. و نصلح نفوسنا .. ثم ننزل بعدها لنستأنف اللعب ..
و أدمنت على الجلوس فوق .. و النظر من فوق حيث يبدو كل شيء صغيراً ..
و جاء العيد ....
و سمعت صوت البمب تحت نافذتي .. و شعرت أن كل واحد يلعب و يجري و يكركر بالضحك إلا أنا .. جالس وحدي كالغراب في برج عقلي الذي طار ..
و شعرت بالثورة على هذه الوظيفة اللعينة التي اخترتها ..
هذه الوظيفة التي تحرمني من اللعب و تحرمني من بهجة الحماقة و لذة التهوّر ..
و قررت أن أتهور و ألعب و أجري .. و أستمتع بالعيد مثل العيال ..
و ملأت جيبي بالبمب .. و سرت أطرقعه باليمين و بالشمال ..
ثم ذهبت إلى روف جاردن لأشرب كوباً من البيرة ، مثل أي شاب أحمق ..
و كان الروف جاردن في الدور السادس عشر من عمارة عالية.. كناطحة سحاب ..
ولذ لي أن أنظر من فوق .. إلى الدنيا تحت .. فماذا كانت النتيجة ..
كانت النتيجة أني رأيت الناس تحت يبدون كالنمل .. سحنتهم واحدة .. وهياكلهم واحدة .. مجرد نقط تتدافع في اتجاهات متعدة ..
و نسيت كوب البيرة و نسيت اللذة الحمقاء التي جئت من أجلها .. و نسيت العيد .. و نسيت اللعب ..
و بدت لي كل هذه الأشياء صغيرة تافهة .....
و اقرءوا معي المقال من الأول..
مقال/ النمل
من كتـــاب / الأحـــــلام
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ كأسراب النمل..
كنقط صغيرة متدافعة.
إني لا أستطيع التميز بين وجوهكم.
لأني أنظر من فوق.. من فوق..
من على ارتفاع شاهق يبدو كل الناس مثل بعض . يبدون كالنمل . سحنتهم واحدة . و هيكلهم واحد . مجرد نقط تندفع في اتجاهات متعددة .
و إذا صعدت إلى أعلى برج في القاهرة ثم نظرت إلى الناس تحت فإنك سوف تراهم مجرد نقط . مجرد كرات تتدحرج على أديم الأرض ككرات البلياردو . وستبدو عربات المرسيدس الفارهة كطوابير من الصرارصير اللامعة .
إن الأمور تختلف كثيراً حينما ننظر إليها من بعيد . إنها تتضاءل و تتشابه و تصبح ذات سحنة واحدة . وتصبح تافهة مثيرة للدهشة و التساؤل .
إنك تتعجب وأنت فوق في علوّك الشاهق تنظر إلى الصرصار الصغير المرسيدس . و تسأل نفسك . أهذا هو الشيء الذي كنت طول عمرك تحلم بأن تقتنيه ؟!
من أجل هذا الصرصار يحدث أحياناً أن يرتكب رجل عاقل جريمة ، فيسرق و يقتل ليجمع بضع جنيهات يشتري بها هذا الصرصار ؟! من أجل أن يكون وجيهاً أنيقاً ؟.
و لكن لا يبدو أن هناك فارقاً بين الأناقة و البهدلة من هذا الإرتفاع الشاهق . إن كل الثياب تبدو واحدة من فوق .
أجمل النساء تبدو كأقبح النساء . الوجوه الفاتنة و القبيحة تبدو من فوق كوجوه الدجاج . لا فرق بين ملامح دجاجة وملامح دجاجة أخرى . لا تبدو غمزة العين ولا هزة الحاجب و لا بسمة الشفتين . و كل ما يبدو هما ثقبان مكان العينين وثقب مكان الفم . و لا شيء غير هذا .
كل مخلوق من هذه المخلوقات التي تهرول تحت . له ثلاثة ثقوب في وجهه و منقار صغير هو أنفه . وكل واحد يجري و يدفع الآخر أمامه . و يدفعه آخر من خلفه . و أنت تتساءل . على إيه. على إيه . بيجري ليه الراجل ده . مستعجل ليه . عاوز إيه ؟
و الحكاية كلها تبدو لك من فوق حكاية مضحكة غير مفهومة . و قد تنسى بعض الوقت أنك كنت منذ لحظة تهرول في الشارع مثل هؤلاء الناس و تجري و تدفع الناس أمامك و تصرخ في سائق التاكسي أن يسرع بك .
هذا الحماس الذي كان يبدو لك و أنت تحت في الشارع تعيش في وهمك . هذا الحماس الذي كان يبدو لك حينذاك معقولاً . يبدو لك الآن من بعيد مضحكاً مثيراً للدهشة .
و قد تدبّ خناقة بين اثنين تحت ويتجمّع الناس كما يتجمّع النمل حول ذرة تراب غريبة . وتنظر أنت من فوق فتبدو لك الخناقة منظراً غريباً، ويبدو لك الموقف مشحوناً بحماس غير مفهوم. بحماس طائش أبله ليست له دوافع طبيعية .
لماذا يقتل رجل رجلاً آخر ويزاحمه في شبر صغير من الأرض يقف فيه مع أن الدنيا أمامه واسعة .
و الدنيا تبدو لك من فوق واسعة . واسعة جداً. تبدو لك أوسع من أن يتقاتل اثنان على شبر صغير فيه ا.
إنك تكتشف سخافة الشبر . وسخافة الناس . وسخافة السرعة . وسخافة الآلة .
إن هذا الشبر موضع التنافس و التقاتل يبدو لك تافهاً لا قيمة له .
إنك تسأل نفسك لأول مرة . لماذا كل هذا الجري ؟!
و تتفتح حواسك على آفاق رحبة تخرجك من سجن أنانيتك و صغار حياتك فتبدو لك اهتماماتك الصغيرة هيافة لا تستحق العناء .
و هناك لحظات تستطيع أن تتحقق فيها من هذه الهيافة بدون أن تصعد على برج القاهرة و تنظر إلى الناس تحت .
هناك لحظات نادرة تستطيع أن تخلع فيها نفسك من مشكلاتك التي تضيق عليك الخناق و تحصرك في رقعة ضيقة هي مصلحتك . و تنظر إلى روحك كأنك تنظر إليها من فوق دون أن تصعد إلى فوق فعلاً . وتنظر متأملا متعجباً . وتتساءل مندهشاً .
و لماذا كان كل هذا الاندفاع . لماذا كان هذا الحماس والتهوّر على لا شيء .
و في هذه اللحظات الخاطفة تفيق إلى نفسك . و تتجلى عليك رؤية واسعة لحياتك و تتسع أمامك شاشة واقعك فتصبح شاشة بانورامية . سينما سكوب . و تسترد قدرتك على الحكم الدقيق العاقل . تسترد قدرتك على الإمساك بفراملك والسيطرة على حياتك لأنك ترى ظروفك كلها دفعة واحدة و ترى معها ظروف غيرك و ظروف الدنيا فتتضائل مشكلتك و تصبح تافهة .
و أنا عيبي . وربما ميزتي . لست أدري بالضبط . أني اكتشفت هذه الحكاية من زمان وجربتها وتلذذت بها فقررت أن أقضي أغلب حياتي فوق . في هذا البرج الذي طار من عقلي . أتأمل نفسي و أنا ألعب تحت الأرض . و أفهم نفسي أكثر . و أتعقل حياتي أكثر .
و كانت النتيجة أني نسيت اللعب. و تحولت إلى متفرج مزمن . جالس طول الوقت فوق . في منصة الحكم . ونسيت أن الصعود إلى برج المراقبة هذا لا يكون إلا لحظات خاطفة . نصلح فيها هندامنا . و نصلح نفوسنا . ثم ننزل بعدها لنستأنف اللعب .
و أدمنت على الجلوس فوق . و النظر من فوق حيث يبدو كل شيء صغيراً .
و جاء العيد ..
و سمعت صوت البمب تحت نافذتي . و شعرت أن كل واحد يلعب و يجري و يكركر بالضحك إلا أنا . جالس وحدي كالغراب في برج عقلي الذي طار .
و شعرت بالثورة على هذه الوظيفة اللعينة التي اخترتها .
هذه الوظيفة التي تحرمني من اللعب و تحرمني من بهجة الحماقة و لذة التهوّر .
و قررت أن أتهور و ألعب و أجري . و أستمتع بالعيد مثل العيال .
و ملأت جيبي بالبمب . و سرت أطرقعه باليمين و بالشمال .
ثم ذهبت إلى روف جاردن لأشرب كوباً من البيرة ، مثل أي شاب أحمق .
و كان الروف جاردن في الدور السادس عشر من عمارة عالية. كناطحة سحاب .
ولذ لي أن أنظر من فوق . إلى الدنيا تحت . فماذا كانت النتيجة .
كانت النتيجة أني رأيت الناس تحت يبدون كالنمل . سحنتهم واحدة . وهياكلهم واحدة . مجرد نقط تتدافع في اتجاهات متعدة .
و نسيت كوب البيرة و نسيت اللذة الحمقاء التي جئت من أجلها . و نسيت العيد . و نسيت اللعب .
و بدت لي كل هذه الأشياء صغيرة تافهة ...
و اقرءوا معي المقال من الأول.
مقال/ النمل
من كتـــاب / الأحـــــلام
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ خُضرة الحقول اليانعة .. وزرقة السماء الصافية .. وحُمرة الورود الدامية .. وصفرة الرمال الذهبية .. وكل الألوان المبهجة التي نشاهدها في الأشياء لا وجود لها أصلًا في الأشياء ..
وإنما هي اصطلاحات جهازنا العصبي وشفرته التي يترجم بها أطوال الموجات الضوئية المختلفة التي تنعكس عليه .
إنها كآلام الوخز التي نشعر بها من الإبر .. ليست هي الصورة الحقيقية للإبر .. وإنما هي صورة لتأثرنا بالإبر .
وبالمثل طعم الأشياء ورائحتها وملمسها وصلابتها وليونتها وشكلها الهندسي وحجمها، لا تقدم لنا صورة حقيقية لما نلمسه ونشمه ونذوقه، وإنما هي مجرد الطريقة التي نتأثر بها بهذه الأشياء ..
إنها ترجمة ذاتية لا وجود لها خارجنا .
كل ما نراه ونتصوره .. خيالات مترجَمة لا وجود لها في الأصل، مجرد صور رمزية للمؤثرات المختلفة صورها جهازنا العصبي بأدواته الحسية المحدودة ..
أهي أحــــلام .. ؟
هل نحن نحلم .. ولا وجود لهذا العالَم .. هل هذه الصفات تقوم في ذهننا دون أن يكون لها مقابل في الخارج .. ؟؟
البداهة والفطرة تنفي هذا الرأي .. فالعالَم الخارجي موجود .. وحواسنا تحيلنا دائمًا على شيء آخر خارجنا .. ولكن هناك فجوة بيننا وبين هذا العالَم .. حواسنا لا تستطيع أن تراه على حقيقته .. وإنما هي تترجمه دائمًا بلغة خاصة وذاتية .. وبشفرة مختلفة ..
ولو أننا كنا نحلم .. ولو أننا كنا نهذي كل منا على طريقته لما استطعنا أن نتفاهم .. ولما استطعنا أن نتفق على حقيقة موضوعية مشتركة ..
ولكننا في الحقيقة نتناول بين أيدينا تراجم حسية .. ربما ناقصة .. وربما غير صحيحة .. ولكنها تراجِم لها أصل أمامنا ..
هناك نسخة موضوعية من الحقيقة نحاول أن نغش منها على قدر الإمكان .. هناك حقيقة خارجنا ..
إننا لا نحلـــم ..
وإنما نحن سجناء حواسنا المحدودة .. وسجناء طبيعتنا العاجزة .. وما نراه يُنقَل إلينا دائمًا مشوَّهًا وناقصًا ومبتورًا نتيجة رؤيتنا الكليلة .
والنتيجة أن هناك أكثر من دنيا ..
هناك الدنيا كما هي في الحقيقة وهذه لا نعرفها .. ولا يعرفها إلا الله .
وهناك الدنيا كما يراها الصرصور .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيانا، لأن الجهاز العصبي للصرصور مختلف تمامًا عن جهازنا .. فهو يرى الشمس يطريقة مختلفة .. وهو لا يرى الشجرة كما نراها نحن شجرة .. وهو لا يميز الألوان ..
وهناك الدنيا كما تراها دودة الإسكارس .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيا الصرصور .. فهي دنيا كلها ظلام .. دنيا خالية من المناظر .. ليس فيها سوى إحساسات بليدة تنتقل عن طريق الجِلد ..
وهكذا كل طبقة من المخلوقات لها دنيا خاصة بها .
ومنذ لحظة الميلاد يتسلم كل مخلوق بطاقة دعوة إلى محفل من محافل هذه الدنيا .. ويجلس إلى مائدة مختلفة ليتذوّق أطعمة مختلفة .. ولذائذ وآلام مختلفة .
وكل طبقة من المخلوقات تعيش سجينة في تصوراتها .. لا تستطيع أن تصف الصور التي تراها الطبقات الأخرى ..
لا يمكننا نحن الآدميون أن نتكلم مع الطيور أو الزواحف أو الديدان أو الحشرات لنشرح لها ما نراه من الدنيا .
ولا يستطيع اصرصور أن يخاطبنا ويصف لنا العالَم الذي يعيش فيه .
وربما لو حدث هذا في يومٍ ما لأمكننا أن نصل إلى ما يشبه حجر رشيد .. ولأمكننا أن نتوصل إلى عدة شفرات، ولغات مختلفة للدنيا نضعها تحت بعضها ونفكك طلاسمها .. ونستنبط منها الحقيقة التي تحاول هذه الشفرات الرمزية أن تصفها .. ونعرف ســر هذه الدنيا .
ولكن هذا الاتصال غير ممكن .. لأننا الوحيدون في هذه الدنيا الذين نعرف اللغة .. وبقية المخلوقات عجماء ..
مــا الحــل .. ؟!
هل ننتظر حتى نسافر إلى الفضاء ونعثر على مخلوقات في المريخ تقرأ وتكتب .. ؟!
علماء الرياضة يقولون لنا أنه لا داعي لهذا الانتظار .. هناك طريقة أخرى .. طريقة صعبة ولكنها توصل إلى سكة الحقيقة ..
هذه الطريقة هي أن نضع جانبًا كل ما تقوله الحواس .. ونستعمل أساليب أخرى غير السمع والبصر والشم واللمس ..
نستعمل الحساب والأرقام .. نجرد كل المحسوسات إلى أرقام .. ومقادير ..
القائمة الطويلة المعروفة للأشعة الضوئية .. الأصفر والبرتقالي والأحمر والبنفسجي والأزرق والأخضر .. إلخ .. نجردها إلى أرقام ..
كل موجة طولها كذا .. وذبذبتها كذا ..
وكذلك كل صنوف الإشعاع .. أشعة إكس .. أشعة الراديوم .. الأشعة الكونية ..
كلها أمواج .. مثل أمواج اللاسلكي التي نسمع المذيع يقول كل يوم إنها كذا كيلو سيكل في الثانية ..
مجــرد أرقـــام .. نستطيع أن نقيسها ونحسبها ونجمعها ونطرحها .. إذًا نغمض أعيننا ونفكر بطريقة جديدة ..
وبدل أن نقول اللون الأخضر ، واللون الأحمر .. نقول كذا كيلو سيكل ثانية .
والذي أغمض عينيه وبدأ يفكر بهذه الطريقة الجديدة التي أحدَثَت انقلابًا في العلوم .. كان هو العالِم الرياضي ماكس بلانك .. الذي طلع في سنة 1900 بنظريته المعروفة في الطبيعة النظرية الكمّية .. ( Quantum Theory )
وقد بدأ من حقيقة بسيطة معروفة .. أنك إذا سخنت قضيبًا من الحديد .. فإنه في البداية يحمر، ثم يتحول إلى برتقالي، ثم أصفر، ثم أبيض متوهج ..
إذًا هناك علاقة حسابية بين الطاقة التي يشعها الحديد الساخن .. وطول أو ذبذبة الموجة الضوئية التي تنبعث منه ..
هناك معادلة ..
وبدأ يبحث عن هذه المعادلة حتى عثر عليها ..
وجد ببساطة أن الطاقة المشعة مقسومة على الذبذبة ( ن ) تساوي دائمًا كمًا ثابتًا (مثل النسبة التقريبية في الدائرة) هذا الكَم أسماه .. ثابت بلانك ( هـ ) .
والمعادلة هي : الطاقـــة = هـ X ن .
وهي معادلة تقوم على افتراض .. بأن الطاقة المشعة تنبعث في كميات متتابعة .. في دفعات .. أو حزم .. أو حبيبات من الطاقة .. أو ذرّات .
وأطلق على هذه الذرات الضوئية إسم " فوتونات " ..
وفي رسالة نال عليها أينشتين جائزة نوبل قدم دراسة وافية بالمعادلات والأرقام عن العلاقة بين هذه الفوتونات الضوئية الساقطة على لوح معدني .. وبين الكهرباء التي تتولد منه ..
وعلى أساس هذه المعادلات قامت فكرة اختراع التليفزيون فيما بعد ..
يقول أينشتين إن من الظاهرات المعروفة في المعمل أنك إذا أسقطت شعاعًا من الضوء على لوح معدني فإن عددًا من الإلكترونات تنطلق من اللوح .. ولا تتأثر سرعة انطلاق هذه الإلكترونات بشدة الضوء، فمهما خفّ الضوء ومهما ابتعد مصدره فالإلكترونات تنطلق بسرعة ثابتة .. ولكن بعدد أقل .. وإنما تزداد هذه السرعة كلما كانت الموجة الضوئية الساقطة عالية الذبذبة .. ولهذا تزيد في الأشعة البنفسجية وتقل في الحمراء .
وهو يفسر انطلاق هذه الإلكترونات بأن الضوء لا يسقط على اللوح المعدني في سيال متصل .. وإنما في حِزَم من الطاقة .. " فوتونات " وتصطدم هذه الفوتونات بالإلكترونات في اللوح المعدني كما تصدم العصا بكرات البلياردو فتطلقها حرة خارج مداراتها ..
وكلما كانت الأشعة الضوئية ذات ذبذبة عالية ( البنفسجية مثلًا ) كلما كان الفوتون يختزن طاقة أكثر .. كلما أطلق الإلكترونات بسرعة أكثر ..
وربَط هذه العلاقات في سلسلة من المعادلات الرياضية ..
وعمد التليفزيون إلى تطبيق هذه النظرية في جهاز الإرسال التليفزيوني ..
فأنت حينما تجلس أمام كاميرا التليفزيون فإنها تنقل صورتك التي هي عبارة عن نقط من الظل ونقط من النور إلى اللوح المعدني الحساس ..
ونقط النور ونقط الظل الساقطة على اللوح المعدني تطلق سيالًا من الإلكترونات يتفاوت في العدد وفي السرعة حسب الظل والنور في الصورة .. وهذه الخفقات الإلكترونية الكهربائية تنتقل إلى عمود الإرسال وتُذاع على شكل موجات مغناطيسية كهربائية إلى أجهزة الإستقبال .
وأينشتين لم يفكر حينما وضع معادلاته في اختراع التليفزيون .
وعلماء الرياضة لم يُثِر اهتمامهم في ذلك الحين ولا فيما بعد .. ظهور التليفزيون .. وإنما الذي أثارهم هو هذا الإفتراض الجديد الذي أقام عليه ماكس بلانك معادلاته في النظرية الكمّية، وأقام عليه أينشتين معادلاته في الظاهرة الضوئية الكهربائية ..
أن الضوء ينطلق في ذرّات أو فوتونات لا في أمواج متصلة .. فالضوء حتى ذلك الحين كانت طبيعته موجية .. فكيف يصبح شأنه شأن المادة .. مؤلَف من ذرات أو فوتونات .. !
وماذا تكون هذه الفوتونات .. ؟؟
هل هي كرات من الطاقة لها حيز، ولها أوضاع في المكان .. شأنها في ذلك شأن جزيئات المادة .. ؟!
وإذا كان الضوء ذرّات .. فكيف يتصرف كما لو كان أمواجًا .. ؟!
لماذا يحيد الضوء حينما يدخل من ثقب ضيق كما تحيد أمواج البحر حينما تدخل في مضيق .. ولماذا ينعطف الضوء حول شعرة رفيعة فلا يبدو لها ظل .. كما تنعطف الأمواج وتتلاحم حول عصا مرشوقة في البحر .. ؟!
وكيف نفرِّق بين المعادلات التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته موجية متصلة وبين المعادلات الجديدة التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته ذريّة متقطعة .. !
أم أن للضوء طبيعة مزدوجة .. ؟! وكيــف .. ؟؟ !!
كيف تكون الحقيقة بهذا التناقض .. ؟!
أم أنه لا توجد حقيقة واحدة ... ؟!
مقال / كل شيء ذرّات
من كتاب / أينشتين والنسبيه
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ خُضرة الحقول اليانعة . وزرقة السماء الصافية . وحُمرة الورود الدامية . وصفرة الرمال الذهبية . وكل الألوان المبهجة التي نشاهدها في الأشياء لا وجود لها أصلًا في الأشياء .
وإنما هي اصطلاحات جهازنا العصبي وشفرته التي يترجم بها أطوال الموجات الضوئية المختلفة التي تنعكس عليه .
إنها كآلام الوخز التي نشعر بها من الإبر . ليست هي الصورة الحقيقية للإبر . وإنما هي صورة لتأثرنا بالإبر .
وبالمثل طعم الأشياء ورائحتها وملمسها وصلابتها وليونتها وشكلها الهندسي وحجمها، لا تقدم لنا صورة حقيقية لما نلمسه ونشمه ونذوقه، وإنما هي مجرد الطريقة التي نتأثر بها بهذه الأشياء .
إنها ترجمة ذاتية لا وجود لها خارجنا .
كل ما نراه ونتصوره . خيالات مترجَمة لا وجود لها في الأصل، مجرد صور رمزية للمؤثرات المختلفة صورها جهازنا العصبي بأدواته الحسية المحدودة .
أهي أحــــلام . ؟
هل نحن نحلم . ولا وجود لهذا العالَم . هل هذه الصفات تقوم في ذهننا دون أن يكون لها مقابل في الخارج . ؟؟
البداهة والفطرة تنفي هذا الرأي . فالعالَم الخارجي موجود . وحواسنا تحيلنا دائمًا على شيء آخر خارجنا . ولكن هناك فجوة بيننا وبين هذا العالَم . حواسنا لا تستطيع أن تراه على حقيقته . وإنما هي تترجمه دائمًا بلغة خاصة وذاتية . وبشفرة مختلفة .
ولو أننا كنا نحلم . ولو أننا كنا نهذي كل منا على طريقته لما استطعنا أن نتفاهم . ولما استطعنا أن نتفق على حقيقة موضوعية مشتركة .
ولكننا في الحقيقة نتناول بين أيدينا تراجم حسية . ربما ناقصة . وربما غير صحيحة . ولكنها تراجِم لها أصل أمامنا .
هناك نسخة موضوعية من الحقيقة نحاول أن نغش منها على قدر الإمكان . هناك حقيقة خارجنا .
إننا لا نحلـــم .
وإنما نحن سجناء حواسنا المحدودة . وسجناء طبيعتنا العاجزة . وما نراه يُنقَل إلينا دائمًا مشوَّهًا وناقصًا ومبتورًا نتيجة رؤيتنا الكليلة .
والنتيجة أن هناك أكثر من دنيا .
هناك الدنيا كما هي في الحقيقة وهذه لا نعرفها . ولا يعرفها إلا الله .
وهناك الدنيا كما يراها الصرصور . وهي مختلفة تمامًا عن دنيانا، لأن الجهاز العصبي للصرصور مختلف تمامًا عن جهازنا . فهو يرى الشمس يطريقة مختلفة . وهو لا يرى الشجرة كما نراها نحن شجرة . وهو لا يميز الألوان .
وهناك الدنيا كما تراها دودة الإسكارس . وهي مختلفة تمامًا عن دنيا الصرصور . فهي دنيا كلها ظلام . دنيا خالية من المناظر . ليس فيها سوى إحساسات بليدة تنتقل عن طريق الجِلد .
وهكذا كل طبقة من المخلوقات لها دنيا خاصة بها .
ومنذ لحظة الميلاد يتسلم كل مخلوق بطاقة دعوة إلى محفل من محافل هذه الدنيا . ويجلس إلى مائدة مختلفة ليتذوّق أطعمة مختلفة . ولذائذ وآلام مختلفة .
وكل طبقة من المخلوقات تعيش سجينة في تصوراتها . لا تستطيع أن تصف الصور التي تراها الطبقات الأخرى .
لا يمكننا نحن الآدميون أن نتكلم مع الطيور أو الزواحف أو الديدان أو الحشرات لنشرح لها ما نراه من الدنيا .
ولا يستطيع اصرصور أن يخاطبنا ويصف لنا العالَم الذي يعيش فيه .
وربما لو حدث هذا في يومٍ ما لأمكننا أن نصل إلى ما يشبه حجر رشيد . ولأمكننا أن نتوصل إلى عدة شفرات، ولغات مختلفة للدنيا نضعها تحت بعضها ونفكك طلاسمها . ونستنبط منها الحقيقة التي تحاول هذه الشفرات الرمزية أن تصفها . ونعرف ســر هذه الدنيا .
ولكن هذا الاتصال غير ممكن . لأننا الوحيدون في هذه الدنيا الذين نعرف اللغة . وبقية المخلوقات عجماء .
مــا الحــل . ؟!
هل ننتظر حتى نسافر إلى الفضاء ونعثر على مخلوقات في المريخ تقرأ وتكتب . ؟!
علماء الرياضة يقولون لنا أنه لا داعي لهذا الانتظار . هناك طريقة أخرى . طريقة صعبة ولكنها توصل إلى سكة الحقيقة .
هذه الطريقة هي أن نضع جانبًا كل ما تقوله الحواس . ونستعمل أساليب أخرى غير السمع والبصر والشم واللمس .
نستعمل الحساب والأرقام . نجرد كل المحسوسات إلى أرقام . ومقادير .
القائمة الطويلة المعروفة للأشعة الضوئية . الأصفر والبرتقالي والأحمر والبنفسجي والأزرق والأخضر . إلخ . نجردها إلى أرقام .
كل موجة طولها كذا . وذبذبتها كذا .
وكذلك كل صنوف الإشعاع . أشعة إكس . أشعة الراديوم . الأشعة الكونية .
كلها أمواج . مثل أمواج اللاسلكي التي نسمع المذيع يقول كل يوم إنها كذا كيلو سيكل في الثانية .
مجــرد أرقـــام . نستطيع أن نقيسها ونحسبها ونجمعها ونطرحها . إذًا نغمض أعيننا ونفكر بطريقة جديدة .
وبدل أن نقول اللون الأخضر ، واللون الأحمر . نقول كذا كيلو سيكل ثانية .
والذي أغمض عينيه وبدأ يفكر بهذه الطريقة الجديدة التي أحدَثَت انقلابًا في العلوم . كان هو العالِم الرياضي ماكس بلانك . الذي طلع في سنة 1900 بنظريته المعروفة في الطبيعة النظرية الكمّية . ( Quantum Theory )
وقد بدأ من حقيقة بسيطة معروفة . أنك إذا سخنت قضيبًا من الحديد . فإنه في البداية يحمر، ثم يتحول إلى برتقالي، ثم أصفر، ثم أبيض متوهج .
إذًا هناك علاقة حسابية بين الطاقة التي يشعها الحديد الساخن . وطول أو ذبذبة الموجة الضوئية التي تنبعث منه .
هناك معادلة .
وبدأ يبحث عن هذه المعادلة حتى عثر عليها .
وجد ببساطة أن الطاقة المشعة مقسومة على الذبذبة ( ن ) تساوي دائمًا كمًا ثابتًا (مثل النسبة التقريبية في الدائرة) هذا الكَم أسماه . ثابت بلانك ( هـ ) .
والمعادلة هي : الطاقـــة = هـ X ن .
وهي معادلة تقوم على افتراض . بأن الطاقة المشعة تنبعث في كميات متتابعة . في دفعات . أو حزم . أو حبيبات من الطاقة . أو ذرّات .
وأطلق على هذه الذرات الضوئية إسم ˝ فوتونات ˝ .
وفي رسالة نال عليها أينشتين جائزة نوبل قدم دراسة وافية بالمعادلات والأرقام عن العلاقة بين هذه الفوتونات الضوئية الساقطة على لوح معدني . وبين الكهرباء التي تتولد منه .
وعلى أساس هذه المعادلات قامت فكرة اختراع التليفزيون فيما بعد .
يقول أينشتين إن من الظاهرات المعروفة في المعمل أنك إذا أسقطت شعاعًا من الضوء على لوح معدني فإن عددًا من الإلكترونات تنطلق من اللوح . ولا تتأثر سرعة انطلاق هذه الإلكترونات بشدة الضوء، فمهما خفّ الضوء ومهما ابتعد مصدره فالإلكترونات تنطلق بسرعة ثابتة . ولكن بعدد أقل . وإنما تزداد هذه السرعة كلما كانت الموجة الضوئية الساقطة عالية الذبذبة . ولهذا تزيد في الأشعة البنفسجية وتقل في الحمراء .
وهو يفسر انطلاق هذه الإلكترونات بأن الضوء لا يسقط على اللوح المعدني في سيال متصل . وإنما في حِزَم من الطاقة . ˝ فوتونات ˝ وتصطدم هذه الفوتونات بالإلكترونات في اللوح المعدني كما تصدم العصا بكرات البلياردو فتطلقها حرة خارج مداراتها .
وكلما كانت الأشعة الضوئية ذات ذبذبة عالية ( البنفسجية مثلًا ) كلما كان الفوتون يختزن طاقة أكثر . كلما أطلق الإلكترونات بسرعة أكثر .
وربَط هذه العلاقات في سلسلة من المعادلات الرياضية .
وعمد التليفزيون إلى تطبيق هذه النظرية في جهاز الإرسال التليفزيوني .
فأنت حينما تجلس أمام كاميرا التليفزيون فإنها تنقل صورتك التي هي عبارة عن نقط من الظل ونقط من النور إلى اللوح المعدني الحساس .
ونقط النور ونقط الظل الساقطة على اللوح المعدني تطلق سيالًا من الإلكترونات يتفاوت في العدد وفي السرعة حسب الظل والنور في الصورة . وهذه الخفقات الإلكترونية الكهربائية تنتقل إلى عمود الإرسال وتُذاع على شكل موجات مغناطيسية كهربائية إلى أجهزة الإستقبال .
وأينشتين لم يفكر حينما وضع معادلاته في اختراع التليفزيون .
وعلماء الرياضة لم يُثِر اهتمامهم في ذلك الحين ولا فيما بعد . ظهور التليفزيون . وإنما الذي أثارهم هو هذا الإفتراض الجديد الذي أقام عليه ماكس بلانك معادلاته في النظرية الكمّية، وأقام عليه أينشتين معادلاته في الظاهرة الضوئية الكهربائية .
أن الضوء ينطلق في ذرّات أو فوتونات لا في أمواج متصلة . فالضوء حتى ذلك الحين كانت طبيعته موجية . فكيف يصبح شأنه شأن المادة . مؤلَف من ذرات أو فوتونات . !
وماذا تكون هذه الفوتونات . ؟؟
هل هي كرات من الطاقة لها حيز، ولها أوضاع في المكان . شأنها في ذلك شأن جزيئات المادة . ؟!
وإذا كان الضوء ذرّات . فكيف يتصرف كما لو كان أمواجًا . ؟!
لماذا يحيد الضوء حينما يدخل من ثقب ضيق كما تحيد أمواج البحر حينما تدخل في مضيق . ولماذا ينعطف الضوء حول شعرة رفيعة فلا يبدو لها ظل . كما تنعطف الأمواج وتتلاحم حول عصا مرشوقة في البحر . ؟!
وكيف نفرِّق بين المعادلات التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته موجية متصلة وبين المعادلات الجديدة التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته ذريّة متقطعة . !
أم أن للضوء طبيعة مزدوجة . ؟! وكيــف . ؟؟ !!
كيف تكون الحقيقة بهذا التناقض . ؟!
أم أنه لا توجد حقيقة واحدة .. ؟!
مقال / كل شيء ذرّات
من كتاب / أينشتين والنسبيه
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝