❞ الذي رأى قطة تتلصص على مائدة في خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك. الذي رأى مثل تلك القطة ونظر إلى عينيها وهي تسرق لن ينسى أبداً تلك النظرة التي تملؤها الإحساس بالذنب.
إن القطة وهي الحيوان الأعجم تشعر شعوراً مبهماً أنها ترتكب إثماً .. فإذا لحقها العقاب ونالت ضربة على رأسها فإنها تغض من رأسها وتطأطئ بصرها ، وكأنها تدرك إدراكاً مبهماً أنها نالت ما تستحق.
هو إحساس الفطرة الأولى الذي ركبه الخالق في بنية المخلوق .. إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتى في الحيوان الأعجم.
والقط إذ يتبرز ثم ينثني علي ما فعل ويهيل عليه التراب حتى يخفيه عن الأنظار.
ذلك الفعل الغريزي يدل على إحساس بالقبح وعلى المبادرة بستر هذا القبح.
وذلك الفعل هو أيضاً فطرة أخلاقية لم تكتسب بالتعلم .. وإنما بهذه الفطرة وُلِد كل القطط.
وبالمثل غضبة الجمل بعد تكرار الإهانة من صاحبه وبعد طول الصبر والتحمل .. وكبرياء الأسد وترفعه عن أن يهاجم فريسته غدراً من الخلف وإنما دائماً من الأمام ومواجهة .. ولا يفترس إلا ليأكل .. ولا يفكر في أكل أو افتراس إلّا إذا جاع.
كل هذه أخلاق مفطورة في الحشوة الحية وفي الحيوان.
ثم الوفاء الزوجي عند الحمام.
والولاء للجماعة في الحيوانات التي تتحرك في قطعان.
نحن أمام الأسس الأولى للضمير .. نكتشفها تحت الجلد وفي الدم لم يعلمها معلم وإنما هي في الخلقة.
ونحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطري بالمسئولية .. ثم نشعر بالعبء أثناء الفعل نتيجة تحري الصواب .. ونشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ.
هذه المشاعر الفطرية التي يشترك فيها المثقف والبدائي والطفل هي دليل على شعور باطن بالقانون والنظام وأن هناك محاسبة .. وأن هناك عدالة .. وإن كل واحد فينا مُطَالب بالعدالة كما أن له الحق في أن يطلبها .. وإن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذي خلقنا ومن طبيعتنا ذاتها.
فإذا نظرنا إلى العالم المادي من الذرات المتناهية في الصغر إلى المجرات المتناهية في العظم وجدنا كل شيء يجري بقوانين و بحساب و انضباط .
حتى الإلكترون لا ينتقل من مدار إلى مدار في فلك النواة إلّا إذا أعطى أو أخذ حزماً من الطاقة تساوي مقادير انتقاله و كأنه راكب في قطار لا يستطيع أن يستقل القطار إلّا إذا دفع ثمن التذكرة .
و ميلاد النجوم و موتها له قوانين و أسباب.
و حركة الكواكب في دولاب الجاذبية لها معادلة .
و تحول المادة إلى طاقة و تحول جسم الشمس إلى نور له معادلة .
و انتقال النور له سرعة .
و كل موجة لها طول و لها ذبذبة و لها سرعة .
كما أن كل معدن له طيف و له خطوط امتصاص مميزة يُعرَف بها في جهاز المطياف .
و كل معدن يتمدد بمقدار و يتقلص بمقدار بالحرارة و البرودة .. و كل معدن له كتلة و كثافة و وزن ذري جزيئي و ثوابت و خواص .
و أينشتين أثبت لنا أن هناك علاقة بين كتلة الجسم و سرعته .. و بين الزمن و نظام الحركة داخل مجموعة متحركة .. و بين الزمان و المكان .
و الذي يفرق المواد إلى جوامد و سوائل و غازات هو معدل السرعة بين جزيئاتها .
و لأن الحرارة تعجّل من هذه السرعة فإنها تستطيع أن تصهر الجوامد و تحولها إلى سوائل ثم تبخر السوائل و تحولها إلى غازات .
كما أن الكهرباء تتولد بقوانين .. كما يتحرك التيار الكهربائي و يفعل و يؤثرعلى أساس من فرق الجهد و الشدة .
كما تتوقف جاذبية كل نجم على مقدار جرمه و كتلته .
و الزلازل التي تبدو أنواعاً من الفوضى لها هي الأخرى نظام و أحزمة و
خطوط تحدث فيها و يمكن رسم و تتبع الأحزمة الزلزالية بطول الكرة
الأرضية و عرضها .
و الكون كله جدول من القوانين المنضبطة الصريحة التي لا غش فيها و لا خداع .
سوف يرتفع صوت ليقول : و ما رأيك فيما نحن فيه من الغش و الخداع و الحروب و المظالم و قتل بعضنا البعض بغياً و عدواناً .. أين النظام هنا ؟ و سوف أقول له : هذا شيء آخر .. فإن ما يحدث بيننا نحن دولة بني آدم يحدث لأن الله أخلفنا في الأرض و أقامنا ملوكاً نحكم و أعطانا الحرية .. و عرض علينا الأمانة فقبلناها .
و كان معنى إعطائنا الحرية أن تصبح لنا إمكانية الخطأ و الصواب .
و كان كل ما نرى حولنا في دنيانا البشرية هو نتيجة هذه الحرية التي
أسأنا استعمالها .
إن الفوضى هي فعلنا نحن و هي النتيجة المترتبة على حريتنا ، أما العالم فهو بالغ الذروة في الانضباط و النظام .
و لو شاء الله لأخضعنا نحن أيضاً للنظام قهراً كما أخضع الجبال و البحار و النجوم و الفضاء .. و لكنه شاء أن يفني عنّا القهر لتكتمل بذلك عدالته .. و ليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذي هو من جنس دخيلته .
أراد بذلك عدلاً ليكون بعثنا بعد ذلك على مقامات و درجات هو إحقاق الحق و وضع كل شيء في نصابه .
و الحياة مستمرة .
و ليس ما نحياه من الحياة في دنيانا هو كل الحياة .
و معنى هذا أن الفترة الاعتراضية من المظالم و الفوضى هي فترة لها حِكمتها و أسبابها و أنها عين العدالة من حيث هي امتحان لما يلي من حياة مستمرة أبداً .
إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها و ما قبلها ، و هي ليست كل الحقيقة و لا كل القصة .. و إنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولاً .
وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة.
أدركها الإنسان البدائي.
وقال بها الأنبياء إخباراً عن الغيب.
وقال بها العقل والعلم الذي أدرك أن الإنسان جسد وروح كما ذكرنا في فصول سابقة .. وإن الإنسان يستشعر بروحه من إحساسه الداخلي العميق المستمر بالحضور رغم شلال التغيرات الزمنية من حوله ، وهو إحساس ينبئ بأنه يملك وجوداً داخلياً متعالياً على التغيرات مجاوزاً للزمن والفناء والموت.
وفلاسفة مثل عمانويل كانت وبرجسون وكيركجارد ، لهم وزنهم في الفكر قالوا بحقيقة الروح والبعث.
وفي كتاب «جمهورية أفلاطون».. فصل رائع عن خلود الروح.
هي حقيقة كانت تفرض نفسها إذن على أكبر العقول وعلى أصغر العقول وكانت تقوم كبداهة يصعب إنكارها.
ولكن أهم برهان على البعث في نظري هو ذلك الإحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعا ونتصرف على أساسه ، أن هناك نظاماً مُحكَماً وقانوناً وعدلاً.
ونحن نطالب أنفسنا ونطالب غيرنا فطرياً وغريزياً بهذا العدل.
وتحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل.
ونحارب لنرسي دعائم ذلك العدل.
ونموت في سبيل العدل.
وفي النهاية لا نحقق أبداً ذلك العدل.
وهذا يعني أنه سوف يتحقق بصورة ما لاشك فيها .. لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها على عقولنا وضمائرنا طول الوقت.
وإذا كنا لا نرى ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة ولأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة.
وإلّا فلماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم ولماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلاً .. لماذا نحرص كل هذا الحرص ونشتعل غضباً على ما لا وجود له.
يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان :
إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل .. ولأنه لا عدل في الدنيا .. فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي.
إن شعورنا الداخلي الفطري هو الدليل القطعي على أن العدل حق .. وإن كنا لا نراه اليوم .. فإننا سوف نراه غداً .. هذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا .. وهو الصدق لأنه وحي البداهة..
والبداهة والفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش وهي قانون من ضمن القوانين العديدة التي ينضبط بها الوجود.
سوف يرتفع صوت ليقول : لندع عالم الآدميين ونسأل : لماذا خلق الله الخنزير خنزيراً والكلب كلباً .. والحشرة حشرة .. ما ذنب هذه الكائنات لتخلق على تلك الصورة المنحطة .. وأين العدل هنا ؟
وإذا كان الله سوف يبعث كل ذي روح فلماذا لا يبعث القرد والكلب والخنزير؟
والسؤال وجيه ولكن يلقيه عقل لا يعرف إلّا نصف القضية .. أو سطراً واحداً من ملف التحقيق .. ومع ذلك يتعجل معرفة الحكم وحيثياته.
والواقع أن كل الكائنات الحيوانية نفوس.
والله قد اختار لكل نفس القالب المادي الذي تستحقه.
والله قد خلق الخنزير خنزيراً لأنه خنزير..
ونحن لا نعلم شيئا عن تلك النفوس الخنزيرية قبل أن يودعها الله في قالبها المادي الخنزيري..
ولا نعلم لماذا وكيف كان الميلاد على تلك الصورة .. وما قبل الميلاد محجوب.
كما أن ما بعد الموت محجوب.
ولكن أهل المشاهدة يقولون كما يقول القرآن إننا كنا قبل الميلاد في عالم ( يسمونه عالم الذر ) ونكون بعد الموت في عالم. والحياة أبدية ولا موت وإنما انتقال وارتقاء في معراج لا ينتهي . صعوداً وتطوراً وتسامياً وكدحاً إلى الله.
وهذا الاستمرار يقول به العقل أيضاً.
والعدل هو الحقيقة الأزلية التي وقرها الله في الفطرة وفي الحشوة الآدمية.. وحتي في الحشوة الحيوانية كما قدمت في بداية مقالي.
هذا العدل حقيقة مطلقة سوف تقول لنا أن جميع القوالب المادية والحيوانية هي استحقاقات مؤكدة لا ندري شيئا عن تفاصيلها ولا كيف كانت ، ولكننا نستطيع أن نقول بداهة أنها استحقاقات .. وأن الله خلق الخنزير خنزيراً لأن نفسه كانت نفسا خنزيرية فكان هذا ثوبها وقالبها الملائم.
أما بعث الحيوانات فالقرآن يقول به :
( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) (الأنعام – 38).
هي أمم من الأنفس يقول لنا القرآن أنها تُحشَر كما نُحشَر.. أما ما يجري عليها بعد ذلك وأين تكون وما مصيرها .. فهو غيب .. وتطلع إلى محجوبات .. وفضول لن نجد له جواباً شافياً.
والعلم بكل شيء في داخل اللحظة المحدودة وفي عمرنا الدنيوي هو طمع في مستحيل.
ولكن إذا كان نصيبنا من العلم وإذا كان ما غنمناه بالتأمل هو أن العدل حقيقة أزلية وأن الله وقرها وأودعها في الفطرة فقد علمنا الكثير وأدركنا كفايتنا.
وبالصورة التي أدركنا بها الله في مقالنا الأول على أنه العقل الكلي المحيط وأنه القادر المبدع الملهم المعني بمخلوقاته ، بهذه الصورة سوف نفهم كيف أودع الله هذه الفطرة الهادية المرشدة في مخلوقاته فهذا مقتضي عنايته وعدله .. أن يخلق مخلوقاته ويخلق لها النور الذي تهتدي به. وسوف نصدق أيضا أن الله أرسل الأنبياء وأوحي بالكتب .. فإن الله لا يكون رباً ولا إلهاً ملهماً مدبراً بغير ذلك.
وسوف يكون دليلا على صدق الكتب السماوية وهو ما تأتينا به من علم وغيب وحكمة وتشريع وحق مما لا يتأتي لجهد فردي أن يهتدي إليه بالمحاولة الشخصية.
إن الله الخالق العادل الملهم الذي خلق مخلوقاته وألهمها الطريق.. (وهو لباب الأديان كلها)..
هو مبدأ أولي يصل إليه العقل دون إجهاد. وتوحي به الفطرة بداهة.
وإنما الافتعال كل الافتعال.. هو القول بغير ذلك.
والإنكار يحتاج إلى الجهد كل الجهد وإلى الالتفاف والدوران واللجاجة والجدل العقيم ثم نهايته إلى التهافت .. لأنه لا يقوم على أساس .. ولأنه يدخل في باب المكابرة والعناد أكثر مما يدخل في باب التأمل المحايد النزيه والفطرة السوية.
وهذا هو ما قالته لي رحلتي الفكرية الطويلة .. من بدايتها المزهوة في كتاب ( الله والإنسان ) إلى وقفتها الخاشعة على أبواب القرآن والتوراة والإنجيل وليس متديناً في نظري من تعصب وتحزب وتصور أن نبيه هو النبي الوحيد وأن الله لم يأت بغيره .. فإن هذا التصور لله هو تصور طفولي متخلف يظن أن الله أشبه بشيخ قبيلة .. ومثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تديناً.
وإنما التصور الحق لله .. أنه الكريم الذي يعطي الكل ويرسل الرسل للكل.
( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )
(فاطر – 24)
و( لقد بعثنا في كل أمة رسولاً )
(النحل – 36)
( وما كان ربك مُهلِك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً )
( القصص – 59)
( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك )
( النساء – 164)
ومعنى هذه الآية أن بوذا يمكن أن يكون رسولا وإن لم يرد ذكره في القرآن.
وإخناتون يمكن أن يكون رسولاً .. ويمكن أن يكون ما وصلنا من تعاليمهم قد خضع للتحريف .. والله يريد بهذا أن يوحي بالإيمان المنفتح الذي يحتضن كل الرسالات وكل الأنبياء وكل الكتب بلا تعصب وبلا تحيز.
وأصدق مثل للوعي الديني المتفتح هو وعي رجل مثل غاندي .. هندوسي ومع ذلك يقرأ في صلاته فقرات من القرآن والتوراة والإنجيل وكتاب ( الدامابادا ) لبوذا .. في خشوع ومحبة.. مؤمناً بكل الكتب وكل الرسل .. وبالخالق الواحد الذي أرسلها.
وهو رجل حياته مثل كلامه أنفقها في الحب والسلام.
والدين واحد من الناحية العقائدية وإن اختلفت الشرائع في الأديان المتعددة . كما أن الرب واحد.
والفضلاء من جميع الأديان هم على دين واحد.
لأن المتدين الفاضل لا يتصور الله خالقاً له وحده وهادياً له وحده أو لفئة وحدها .. وإنما هو نور السموات والأرض .. المتاح لكل من يجهد باحثا عنه .. الرحمن الرحيم المرسل للهداة المنزل للوحي في جميع الأعصر والدهور .. وهذا مقتضى عدله الأزلي .. وهذا هو المعنى الجدير بالمقام الإلهي .. وبدون هذا الإيمان المنفتح لا يكون المتدين متديناً.
أما الأديان التي تنقسم شيعاً يحارب بعضها بعضاً باسم الدين فإنها ترفع راية الدين كذباً .. وما الراية المرفوعة إلا راية العنصر والعرق والجنس وهي مازالت في جاهلية الأوس والخزرج وحماسيات عنترة .. تحارب للغرور .. وإن ظنت أنها تحارب لله .. وهي هالكة ، الغالب فيها والمغلوب .. مشركة .. كل منها عابد لتمثاله ولذاته ولتصوره الشخصي وليس عابداً لله.
وإنما تبدأ عبادة الله بمعرفة الله ومقامه الأسمى . وتبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الأدنى.
وهذا هو الطريق .. والصراط .. والمعراج الذي يبدأ منه عروج السالكين في هجرتهم الكبرى إلى الحق.
مقال : العدل الأزلي .
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان .
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الذي رأى قطة تتلصص على مائدة في خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك. الذي رأى مثل تلك القطة ونظر إلى عينيها وهي تسرق لن ينسى أبداً تلك النظرة التي تملؤها الإحساس بالذنب.
إن القطة وهي الحيوان الأعجم تشعر شعوراً مبهماً أنها ترتكب إثماً .. فإذا لحقها العقاب ونالت ضربة على رأسها فإنها تغض من رأسها وتطأطئ بصرها ، وكأنها تدرك إدراكاً مبهماً أنها نالت ما تستحق.
هو إحساس الفطرة الأولى الذي ركبه الخالق في بنية المخلوق .. إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتى في الحيوان الأعجم.
والقط إذ يتبرز ثم ينثني علي ما فعل ويهيل عليه التراب حتى يخفيه عن الأنظار.
ذلك الفعل الغريزي يدل على إحساس بالقبح وعلى المبادرة بستر هذا القبح.
وذلك الفعل هو أيضاً فطرة أخلاقية لم تكتسب بالتعلم .. وإنما بهذه الفطرة وُلِد كل القطط.
وبالمثل غضبة الجمل بعد تكرار الإهانة من صاحبه وبعد طول الصبر والتحمل .. وكبرياء الأسد وترفعه عن أن يهاجم فريسته غدراً من الخلف وإنما دائماً من الأمام ومواجهة .. ولا يفترس إلا ليأكل .. ولا يفكر في أكل أو افتراس إلّا إذا جاع.
كل هذه أخلاق مفطورة في الحشوة الحية وفي الحيوان.
ثم الوفاء الزوجي عند الحمام.
والولاء للجماعة في الحيوانات التي تتحرك في قطعان.
نحن أمام الأسس الأولى للضمير .. نكتشفها تحت الجلد وفي الدم لم يعلمها معلم وإنما هي في الخلقة.
ونحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطري بالمسئولية .. ثم نشعر بالعبء أثناء الفعل نتيجة تحري الصواب .. ونشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ.
هذه المشاعر الفطرية التي يشترك فيها المثقف والبدائي والطفل هي دليل على شعور باطن بالقانون والنظام وأن هناك محاسبة .. وأن هناك عدالة .. وإن كل واحد فينا مُطَالب بالعدالة كما أن له الحق في أن يطلبها .. وإن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذي خلقنا ومن طبيعتنا ذاتها.
فإذا نظرنا إلى العالم المادي من الذرات المتناهية في الصغر إلى المجرات المتناهية في العظم وجدنا كل شيء يجري بقوانين و بحساب و انضباط .
حتى الإلكترون لا ينتقل من مدار إلى مدار في فلك النواة إلّا إذا أعطى أو أخذ حزماً من الطاقة تساوي مقادير انتقاله و كأنه راكب في قطار لا يستطيع أن يستقل القطار إلّا إذا دفع ثمن التذكرة .
و ميلاد النجوم و موتها له قوانين و أسباب.
و حركة الكواكب في دولاب الجاذبية لها معادلة .
و تحول المادة إلى طاقة و تحول جسم الشمس إلى نور له معادلة .
و انتقال النور له سرعة .
و كل موجة لها طول و لها ذبذبة و لها سرعة .
كما أن كل معدن له طيف و له خطوط امتصاص مميزة يُعرَف بها في جهاز المطياف .
و كل معدن يتمدد بمقدار و يتقلص بمقدار بالحرارة و البرودة .. و كل معدن له كتلة و كثافة و وزن ذري جزيئي و ثوابت و خواص .
و أينشتين أثبت لنا أن هناك علاقة بين كتلة الجسم و سرعته .. و بين الزمن و نظام الحركة داخل مجموعة متحركة .. و بين الزمان و المكان .
و الذي يفرق المواد إلى جوامد و سوائل و غازات هو معدل السرعة بين جزيئاتها .
و لأن الحرارة تعجّل من هذه السرعة فإنها تستطيع أن تصهر الجوامد و تحولها إلى سوائل ثم تبخر السوائل و تحولها إلى غازات .
كما أن الكهرباء تتولد بقوانين .. كما يتحرك التيار الكهربائي و يفعل و يؤثرعلى أساس من فرق الجهد و الشدة .
كما تتوقف جاذبية كل نجم على مقدار جرمه و كتلته .
و الزلازل التي تبدو أنواعاً من الفوضى لها هي الأخرى نظام و أحزمة و
خطوط تحدث فيها و يمكن رسم و تتبع الأحزمة الزلزالية بطول الكرة
الأرضية و عرضها .
و الكون كله جدول من القوانين المنضبطة الصريحة التي لا غش فيها و لا خداع .
سوف يرتفع صوت ليقول : و ما رأيك فيما نحن فيه من الغش و الخداع و الحروب و المظالم و قتل بعضنا البعض بغياً و عدواناً .. أين النظام هنا ؟ و سوف أقول له : هذا شيء آخر .. فإن ما يحدث بيننا نحن دولة بني آدم يحدث لأن الله أخلفنا في الأرض و أقامنا ملوكاً نحكم و أعطانا الحرية .. و عرض علينا الأمانة فقبلناها .
و كان معنى إعطائنا الحرية أن تصبح لنا إمكانية الخطأ و الصواب .
و كان كل ما نرى حولنا في دنيانا البشرية هو نتيجة هذه الحرية التي
أسأنا استعمالها .
إن الفوضى هي فعلنا نحن و هي النتيجة المترتبة على حريتنا ، أما العالم فهو بالغ الذروة في الانضباط و النظام .
و لو شاء الله لأخضعنا نحن أيضاً للنظام قهراً كما أخضع الجبال و البحار و النجوم و الفضاء .. و لكنه شاء أن يفني عنّا القهر لتكتمل بذلك عدالته .. و ليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذي هو من جنس دخيلته .
أراد بذلك عدلاً ليكون بعثنا بعد ذلك على مقامات و درجات هو إحقاق الحق و وضع كل شيء في نصابه .
و الحياة مستمرة .
و ليس ما نحياه من الحياة في دنيانا هو كل الحياة .
و معنى هذا أن الفترة الاعتراضية من المظالم و الفوضى هي فترة لها حِكمتها و أسبابها و أنها عين العدالة من حيث هي امتحان لما يلي من حياة مستمرة أبداً .
إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها و ما قبلها ، و هي ليست كل الحقيقة و لا كل القصة .. و إنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولاً .
وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة.
أدركها الإنسان البدائي.
وقال بها الأنبياء إخباراً عن الغيب.
وقال بها العقل والعلم الذي أدرك أن الإنسان جسد وروح كما ذكرنا في فصول سابقة .. وإن الإنسان يستشعر بروحه من إحساسه الداخلي العميق المستمر بالحضور رغم شلال التغيرات الزمنية من حوله ، وهو إحساس ينبئ بأنه يملك وجوداً داخلياً متعالياً على التغيرات مجاوزاً للزمن والفناء والموت.
وفلاسفة مثل عمانويل كانت وبرجسون وكيركجارد ، لهم وزنهم في الفكر قالوا بحقيقة الروح والبعث.
وفي كتاب «جمهورية أفلاطون».. فصل رائع عن خلود الروح.
هي حقيقة كانت تفرض نفسها إذن على أكبر العقول وعلى أصغر العقول وكانت تقوم كبداهة يصعب إنكارها.
ولكن أهم برهان على البعث في نظري هو ذلك الإحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعا ونتصرف على أساسه ، أن هناك نظاماً مُحكَماً وقانوناً وعدلاً.
ونحن نطالب أنفسنا ونطالب غيرنا فطرياً وغريزياً بهذا العدل.
وتحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل.
ونحارب لنرسي دعائم ذلك العدل.
ونموت في سبيل العدل.
وفي النهاية لا نحقق أبداً ذلك العدل.
وهذا يعني أنه سوف يتحقق بصورة ما لاشك فيها .. لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها على عقولنا وضمائرنا طول الوقت.
وإذا كنا لا نرى ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة ولأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة.
وإلّا فلماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم ولماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلاً .. لماذا نحرص كل هذا الحرص ونشتعل غضباً على ما لا وجود له.
يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان :
إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل .. ولأنه لا عدل في الدنيا .. فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي.
إن شعورنا الداخلي الفطري هو الدليل القطعي على أن العدل حق .. وإن كنا لا نراه اليوم .. فإننا سوف نراه غداً .. هذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا .. وهو الصدق لأنه وحي البداهة..
والبداهة والفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش وهي قانون من ضمن القوانين العديدة التي ينضبط بها الوجود.
سوف يرتفع صوت ليقول : لندع عالم الآدميين ونسأل : لماذا خلق الله الخنزير خنزيراً والكلب كلباً .. والحشرة حشرة .. ما ذنب هذه الكائنات لتخلق على تلك الصورة المنحطة .. وأين العدل هنا ؟
وإذا كان الله سوف يبعث كل ذي روح فلماذا لا يبعث القرد والكلب والخنزير؟
والسؤال وجيه ولكن يلقيه عقل لا يعرف إلّا نصف القضية .. أو سطراً واحداً من ملف التحقيق .. ومع ذلك يتعجل معرفة الحكم وحيثياته.
والواقع أن كل الكائنات الحيوانية نفوس.
والله قد اختار لكل نفس القالب المادي الذي تستحقه.
والله قد خلق الخنزير خنزيراً لأنه خنزير..
ونحن لا نعلم شيئا عن تلك النفوس الخنزيرية قبل أن يودعها الله في قالبها المادي الخنزيري..
ولا نعلم لماذا وكيف كان الميلاد على تلك الصورة .. وما قبل الميلاد محجوب.
كما أن ما بعد الموت محجوب.
ولكن أهل المشاهدة يقولون كما يقول القرآن إننا كنا قبل الميلاد في عالم ( يسمونه عالم الذر ) ونكون بعد الموت في عالم. والحياة أبدية ولا موت وإنما انتقال وارتقاء في معراج لا ينتهي . صعوداً وتطوراً وتسامياً وكدحاً إلى الله.
وهذا الاستمرار يقول به العقل أيضاً.
والعدل هو الحقيقة الأزلية التي وقرها الله في الفطرة وفي الحشوة الآدمية.. وحتي في الحشوة الحيوانية كما قدمت في بداية مقالي.
هذا العدل حقيقة مطلقة سوف تقول لنا أن جميع القوالب المادية والحيوانية هي استحقاقات مؤكدة لا ندري شيئا عن تفاصيلها ولا كيف كانت ، ولكننا نستطيع أن نقول بداهة أنها استحقاقات .. وأن الله خلق الخنزير خنزيراً لأن نفسه كانت نفسا خنزيرية فكان هذا ثوبها وقالبها الملائم.
أما بعث الحيوانات فالقرآن يقول به :
( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) (الأنعام – 38).
هي أمم من الأنفس يقول لنا القرآن أنها تُحشَر كما نُحشَر.. أما ما يجري عليها بعد ذلك وأين تكون وما مصيرها .. فهو غيب .. وتطلع إلى محجوبات .. وفضول لن نجد له جواباً شافياً.
والعلم بكل شيء في داخل اللحظة المحدودة وفي عمرنا الدنيوي هو طمع في مستحيل.
ولكن إذا كان نصيبنا من العلم وإذا كان ما غنمناه بالتأمل هو أن العدل حقيقة أزلية وأن الله وقرها وأودعها في الفطرة فقد علمنا الكثير وأدركنا كفايتنا.
وبالصورة التي أدركنا بها الله في مقالنا الأول على أنه العقل الكلي المحيط وأنه القادر المبدع الملهم المعني بمخلوقاته ، بهذه الصورة سوف نفهم كيف أودع الله هذه الفطرة الهادية المرشدة في مخلوقاته فهذا مقتضي عنايته وعدله .. أن يخلق مخلوقاته ويخلق لها النور الذي تهتدي به. وسوف نصدق أيضا أن الله أرسل الأنبياء وأوحي بالكتب .. فإن الله لا يكون رباً ولا إلهاً ملهماً مدبراً بغير ذلك.
وسوف يكون دليلا على صدق الكتب السماوية وهو ما تأتينا به من علم وغيب وحكمة وتشريع وحق مما لا يتأتي لجهد فردي أن يهتدي إليه بالمحاولة الشخصية.
إن الله الخالق العادل الملهم الذي خلق مخلوقاته وألهمها الطريق.. (وهو لباب الأديان كلها)..
هو مبدأ أولي يصل إليه العقل دون إجهاد. وتوحي به الفطرة بداهة.
وإنما الافتعال كل الافتعال.. هو القول بغير ذلك.
والإنكار يحتاج إلى الجهد كل الجهد وإلى الالتفاف والدوران واللجاجة والجدل العقيم ثم نهايته إلى التهافت .. لأنه لا يقوم على أساس .. ولأنه يدخل في باب المكابرة والعناد أكثر مما يدخل في باب التأمل المحايد النزيه والفطرة السوية.
وهذا هو ما قالته لي رحلتي الفكرية الطويلة .. من بدايتها المزهوة في كتاب ( الله والإنسان ) إلى وقفتها الخاشعة على أبواب القرآن والتوراة والإنجيل وليس متديناً في نظري من تعصب وتحزب وتصور أن نبيه هو النبي الوحيد وأن الله لم يأت بغيره .. فإن هذا التصور لله هو تصور طفولي متخلف يظن أن الله أشبه بشيخ قبيلة .. ومثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تديناً.
وإنما التصور الحق لله .. أنه الكريم الذي يعطي الكل ويرسل الرسل للكل.
( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )
(فاطر – 24)
و( لقد بعثنا في كل أمة رسولاً )
(النحل – 36)
( وما كان ربك مُهلِك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً )
( القصص – 59)
( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك )
( النساء – 164)
ومعنى هذه الآية أن بوذا يمكن أن يكون رسولا وإن لم يرد ذكره في القرآن.
وإخناتون يمكن أن يكون رسولاً .. ويمكن أن يكون ما وصلنا من تعاليمهم قد خضع للتحريف .. والله يريد بهذا أن يوحي بالإيمان المنفتح الذي يحتضن كل الرسالات وكل الأنبياء وكل الكتب بلا تعصب وبلا تحيز.
وأصدق مثل للوعي الديني المتفتح هو وعي رجل مثل غاندي .. هندوسي ومع ذلك يقرأ في صلاته فقرات من القرآن والتوراة والإنجيل وكتاب ( الدامابادا ) لبوذا .. في خشوع ومحبة.. مؤمناً بكل الكتب وكل الرسل .. وبالخالق الواحد الذي أرسلها.
وهو رجل حياته مثل كلامه أنفقها في الحب والسلام.
والدين واحد من الناحية العقائدية وإن اختلفت الشرائع في الأديان المتعددة . كما أن الرب واحد.
والفضلاء من جميع الأديان هم على دين واحد.
لأن المتدين الفاضل لا يتصور الله خالقاً له وحده وهادياً له وحده أو لفئة وحدها .. وإنما هو نور السموات والأرض .. المتاح لكل من يجهد باحثا عنه .. الرحمن الرحيم المرسل للهداة المنزل للوحي في جميع الأعصر والدهور .. وهذا مقتضى عدله الأزلي .. وهذا هو المعنى الجدير بالمقام الإلهي .. وبدون هذا الإيمان المنفتح لا يكون المتدين متديناً.
أما الأديان التي تنقسم شيعاً يحارب بعضها بعضاً باسم الدين فإنها ترفع راية الدين كذباً .. وما الراية المرفوعة إلا راية العنصر والعرق والجنس وهي مازالت في جاهلية الأوس والخزرج وحماسيات عنترة .. تحارب للغرور .. وإن ظنت أنها تحارب لله .. وهي هالكة ، الغالب فيها والمغلوب .. مشركة .. كل منها عابد لتمثاله ولذاته ولتصوره الشخصي وليس عابداً لله.
وإنما تبدأ عبادة الله بمعرفة الله ومقامه الأسمى . وتبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الأدنى.
وهذا هو الطريق .. والصراط .. والمعراج الذي يبدأ منه عروج السالكين في هجرتهم الكبرى إلى الحق.
مقال : العدل الأزلي .
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان .
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ حوار مع صديقي الملحد
الروح ؟
قال صديقي الدكتور وهو يعلم هذه المرة أن الإشكال سيكون
عسيرا.
_ما دليلك على أن الإنسان له روح وأنه يبعث بعد موت وأنه ليس
مجرد الجسد الذي ينتهي إلى تراب .. وماذا يقول دينكم في
تحضير الأرواح ؟
قلت بعد برهة تفكير:
-لاشك أن السؤال اليوم صعب والكلام عن الروح ضرب في تيه
والحقائق الموجودة قليلة ولكنها مع ذلك في صفنا نحن وليست
في صفكم.
ومضيت برهة أغرقت فيها في التفكير ثم قلت مردفا:
-فكر معي قليلا .. إن أول المؤشرات التي تساعدنا على التدليل
على وجود الروح..
أن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة.
الإنسان له طبيعتان:
طبيعة خارجية ظاهرة مشهودة هي جسده تتصف بكل صفات
المادة ، فهي قابلة للوزن والقياس متحيزة في المكان متزمنة
بالزمان دائمة التغير والحركة والصيرورة من حال إلى حال ومن
لحظة إلى لحظة فالجسد تتداول عليه الأحوال من صحة إلى
مرض إلى سمنة إلى هزال إلى تورد إلى شحوب إلى نشاط إلى
كسل إلى نوم إلى يقظة إلى جوع إلى شبع ، وملحق بهذه
الطبيعة الجسدية شريط من الانفعالات والعواطف والغرائز
والمخاوف لا يكف لحظة عن الجريان في الدماغ.
ولأن هذه الطبيعة والانفعالات الملحقة بها تتصف بخواص المادة
نقول إن جسد الإنسان ونفسه الحيوانية هما من المادة.
ولكن هناك طبيعة أخرى مخالفة تماما للأولى ومغايرة لها في
داخل الإنسان.
طبيعة من نوع آخر تتصف بالسكون واللازمان واللامكان والديمومة
.. هي العقل بمعاييره الثابتة وأقيسته ومقولاته .. والضمير
بأحكامه ، والحس الجمالي ، وال أنا التي تحمل كل تلك الصفات "
من عقل وضمير وحس جمالي وحس أخلاقي."
وال أنا غير الجسد تماما وغير النفس الحيوانية التي تلتهب بالجوع
والشبق.
ال أنا هي الذات العميقة المطلقة وعن طريق هذه الذات
والكينونة والشخوص والمثول في العالم .. وبأنه هنا وبأنه كان
دائما هنا .. وهو شعور ثابت ممتد لا يطرأ عليه التغير لا يسمن ولا
يهزل ولا يمرض لولا يتصف بالزمان .. وليس فيه ماض وحاضر
ومستقبل .. إنما هو " كن " مستمر لا ينصرم كما ينصرم الماضي ..
وإنما يتمثل في شعور بالدوام .. بالديمومة.
هنا نوع آخر من الوجود لا يتصف بصفات المادة فلا هو يطرأ عليه
التغير ولا هو يتحيز في المكان أو يتزمن بالزمان ولا هو يقبل الوزن
والقياس .. بالعكس نجد أن هذا الوجود هو الثابت الذي نقيس به
المتغيرات والمطلق الذي نعرف به كل ما هو نسبي في عالم
المادة.
وأصدق ما نصف به هذا الوجود أنه روحي وأن طبيعته روحية.
ولنا أن نسأل بعد ذلك.
أي الطبيعتين هي الإنسان حقا.
هل الإنسان بالحقيقة هو جسده أو روحه.
ولنعرف الجواب علينا أن نبحث أي الطبيعتين هي الحاكمة على
الأخرى.
يقول لنا الماديون أن الإنسان هو جسده ، وأن الجسد هو الحاكم
وأن كل ما ذكرت من عقل ومنطق وحس جمالي وحس أخلاقي
وضمير وهذه " التخريفة " التي اسمها الذات أو ال أنا كل هذه
ملحق بالجسد ثانوي عليه تابع له يأتمر بأمره ويقوم على خدمته
ويتولى إشباع شهواته وأهوائه.
هذا كلام إخواننا الماديين وهو خطأ ، فالحقيقة أن الجسد تابع
وليس متبوعا مأمور وليس آمرا ألا يجوع الجسد فنرفض إمداده
بالطعام لأننا قررنا أن نصوم هذا اليوم لله .. ألا يتحرك بشهوة
فنزجره ؟!
ألا نصحوا في الصباح فيبدأ الجسد تلقائيا في تنفيذ خطة عمل
وضعها العقل وصنف بنودها بندا بندا .. من ساعة إلى ساعة من
التابع هنا ومن المتبوع ؟
ولحظة التضحية بالنفس حينما يضع الفدائي حزام الديناميت حول
جسده ويتقدم ليحطم الدبابة ومن فيها .. أين جسده هنا .. أين
المصلحة المادية التي يحققها بموته .. ومن الذي يأمر الآخر .. إن
الروح تقرر إعدام الجسد في لحظة مثالية تماما لا يمكن أن
يفسرها مذهب مادي بأي مكسب مادي والجسد لا يستطيع أن
يقاوم هذا الأمر .. ولا يملك أي قوة لمواجهته ، لا يملك إلا أن
يتلاشى تماما .. وهنا يظهر أي الوجودين هو الأعلى .. وأي
الطبيعتين هي الإنسان حقا.
وعندنا اليوم أكثر من دليل على أن الجسد هو الوجود الثانوي .. ما
يجري الآن من حوادث البتر والاستبدال وزرع الأعضاء .. وما نقرأه
عن القلب الإلكتروني والكلية الصناعية وبنك الدم وبنك العيون
ومخازن الإكسسوار البشري حيث يجري تركيب السيقان والأذرع
والقلوب.
ولن تكون نكتة أن يدخل العريس على عروسه سنة 2000
فيجدها تخلع طقم الأسنان والباروكة والنهود الكاوتشوك والعين
الصناعية والساق الخشبية فلا يتبقى منها إلا هيكل مثل شاسيه
السيارة بعد نزع الجلد والكراسي والأبواب.
إلى هذه الدرجة يجري فك الجسم وتركيبه واستبداله دون أن
يحدث شيء للشخصية لأن هذه الذراع أو تلك الساق أو ذلك
الشعر أو العين أو النهد كل هذه الأشياء ليست هي الإنسان ..
فها هي تنقل وتستبدل وتوضع مكانها بطاريات ومسامير وقطع
من الألومنيوم دون أن يحدث شيء .. فالإنسان ليس هذه الأعضاء
وإنما هو الروح الجالسة على عجلة القيادة لتدير هذه الماكينة
التي اسمها الجسد .
إنها الإدارة التي يمثلها مجلس إدارة من خلايا المخ .. ولكنها
ليست المخ.
فالمخ مثله مثل خلايا الجسد يصدع بالأوامر التي تصدر إليه ويعبر
عنها ولكنه في النهاية ليس أكثر من قفاز لها .. قفاز تلبسه هذه
اليد الخفية التي اسمها الروح وتتصرف به في العالم المادي.
نفهم من هذه الشواهد كلها أن الإنسان له طبيعتان:
طبيعة جوهرية حاكمة هي روحه.
وطبيعة ثانوية زائلة هي جسده.
وما يحدث بالموت أن الطبيعة الزائلة تلتحق بالزوال والطبيعة
الخالدة تلتحق بالخلود فيلتحق الجسد بالتراب وتلتحق الروح
بعالمها الباقي.
ولعشاق الفلسفة نقدم دليلا آخر على وجود الروح من الخاصية
التي تتميز بها الحركة.
فالحركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها.
لا يمكن أن تدرك الحركة وأن تتحرك معها في نفس الفلك وإنما لا
بد من عتبة خارجية تقف تقف عليها لترصدها .. ولهذا تأتي عليك
لحظة وأنت في أسانسير متحرك لا تستطيع أن تعرف هل هو
واقف أم متحرك لأنك أصبحت قطعة واحدة معه في حركته .. لا
تستطيع ادراك هذه الحركة إلا إذا نظرت من باب الأسانسير إلى
الرصيف الثابت في الخارج.
ونفس الحالة في قطار يسير بنعومة على القضبان .. لا تدرك
حركة مثل هذا القطار وأنت فيه إلا لحظة شروعه في الوقوف أو
لحظة إطلالك من النافذة على الرصيف الثابت في الخارج.
وبالمثل لا يمكنك رصد الشمس وأنت فوقها ولكن يمكنك رصدها
من القمر أو الأرض .. كما لا يمكنك رصد الأرض وأنت تسكن عليها
وإنما تستطيع رصدها من القمر.
لا تستطيع أن تحيط بحالة إلا إذا خرجت خارجها.
ولهذا ما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لولا أن الجزء المدرك فينا
يقف على عتبة منفصلة وخارجة عن هذا المرور الزمني المستمر
" أي على عتبة خلود " .ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل
لحظة لما استطعنا أن ندرك هذه الثواني أبدا ، ولا نصرم إدراكنا
كما تنصرم الثواني بدون أن يلاحظ شيئا.
وهي نتيجة مذهلة تعني أن هناك جزءا من وجودنا خارجا عن
إطار المرور الزمني " أي خالد " هو الذي يلاحظ الزمن من عتبة
سكون ويدركه دون أن يتورط فيه ولهذا لا يكبر ولا يشيخ ولا يهرم
ولا ينصرم .. ويوم يسقط الجسد ترابا سوف يظل هذا الجزء على
حاله حيا حياته الخاصة غير الزمنية هذا الجز هو الروح.
وكل منا يستطيع أن يحس بداخله هذا الوجود الروحي على صورة
حضور وديمومة وشخوص وكينونة مغايرة تماما للوجود المادي
المتغير المتقلب النابض مع الزمن خارجه.
هذه الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الباطني
والتي أسميتها حالة حضور .. هي المفتاح الذي يقودنا إلى
الوجود الروحي بداخلنا ويضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه
الروح...
ودليل آخر على طبيعتنا الروحية هو شعورنا الفطري بالحرية ، ولو
كنا أجساما مادية ضمن إطار حياة مادية تكمنا القوانين المادية
الحتمية لما كان هناك معنى لهذا الشعور الفطري بالحرية.
لنا الروح إذا تعلو على الزمن وتتخطى الموت وتتخطى الحتميات
المادية.
ماذا عن البعث إذا.
لم يعد أحد بعد الموت ليخبرنا ماذا جرى له.
ولم يأت يوم البعث لنقدم دليلا ملموسا أو شاهد عيان.
وكل ما يمكن قوله في موضوع البعث أنه حقيقة دينية يرجحها
العقل والعلم.
لماذا يرجحها العقل والعلم ؟
لأن شواهد الوجود وظواهره تشير جميعها إلى أن هناك عودا
على بدء ودورة لكل شيء .. بعد النهار يأتي الليل ثم يعود من
جديد فيأتي النهار ، والشمس تشرق ثم تغرب ثم تعود فتشرق.
الصيف والخريف والشتاء والربيع ثم تعود فتتكرر الدورة من جديد
فيأتي الصيف ثم الخريف ثم الشتاء الخ..بعد اليقظة ونوم الليل
نعود فنستيقظ من جديد .. وهذا يرجح أنه بعد رقود الموت هناك
صحوة بعث .. لأن هناك عودا لكل شيء .. والله يسمي نفسه في
القرآن المبدئ المعيد.
( كما بدأكم تعودون ).
(يبدأ الخلق ثم يعيده ).
ألا يدور كل شيء في فلك من الذرة إلى المجرة ، حتى الحضارات
لها دورات والتاريخ له دورات.
الدليل الآخر على البعث هو النظام المحكم الذي ليس فيه بادرة
خلل واحدة من أكبر المجرات حتى أصغر الذرات حتى الإلكترون
الذي لا يرى نجد النظام والقانون يهيمن على كل شيء .. حتى
الإلكترون المتناهي في الصغر لا يستطيع أن ينتقل من فلك إلى
فلك في الذرة إلا إذا أعطى أو أخذ مقدارا من الطاقة يساوي
حركته .. وكأنه راكب قطار لا يستطيع ،،،،، أي مكان بدون تذكرة ..
فكيف نتصور في هذا النظام ،،،،، يهرب قاتل أو يفر ظالم من
الجزاء لمجرد أنه ضلل ،،،،، إن العقل يتصور أنه لابد سيلقى جزاءه
حتما ، وإن هناك لابد عالما آخر يسوى فيه الحساب .. هكذا يقول
العدل.
ونحن مفطورون على تحري العدل وعلى حب العدل والبحث عن
العدل ومحاولة تحقيق العدل.
ومع ذلك فالعدل في الدنيا غير موجود.
وكما يقول أهل الفكر إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء
.. فلا بد أن الظمأ إلى العدل يدل على وجود العدل .. فإن لم يكن
موجودا في دنيانا فلا بد أن له يوما وساعة تنصب فيها موازينه.
كل هذه مؤشرات تشير وترجح أن هناك بعثا وحسابا وعالما آخر.
والمؤمن الذي يصدق القرآن في غير حاجة إلى هذه الاستدلالات
لأنه آمن بقلبه وأراح نفسه من الجدل.
يبقى بعد ذلك أن نسأل وما الروح:
( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم
إلا قليلا)
هي لغز ولا أحد يعلم عنها شيئا.
والعجيب أنه كلما جاء ذكر الروح في القرآن ذكرت معها كلمة من
أمر ربي.
( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ).
( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ).
( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ).
( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا )
دائما كلمة " من أمرنا " .. " من أمره " .. " من أمر ربي " .. كلما
ذكرت الروح .
أيكون أمر الله روحا ؟
وكلمة الله روحا ؟
ألم يقل الله عن المسيح عليه السلام أنه:
( كلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم ).
وأنه:
(كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ).
الكلمة .. الأمر .. الروح .. هل هي ألفاظ مترادفة لمعنى واحد.
هي مجرد إشارات.
ولا أحد يعلم الحقيقة إلا العليم.
يبقى بعد ذلك سؤالك عن تحضير الأرواح.
وتحضير الأرواح عندنا أمر مشكوك فيه.
مشكوك فيه أنه ظواهر الغرفة المظلمة سببها حضور روح فلان أو
علان.
ومفكر كبير مثل هنري سودر يقول: إن تلك الظواهر مصدرها
العقل الباطن للوسيط والقوى الروحية للوسيط ذاته.. ولاشيء
يحضر بالمرة.
ويقول المفكرون الهنود : إن الذي يتلبس الوسيط أثناء التحضير
هي أرواح سفلية تعرف بعض الأشياء عن الموتى وتستخدمها
في السخرية بعقول الموجودين والضحك عليهم.
ويقول الصوفية المسلمون إن الذي يحضر في تلك الجلسات ليس
الروح ولكن القرين ، وهو الجن الذي كان يصاحب الميت أثناء حياته
..وهو بحكم هذه الصحبة يعرف أسراره .. ولأن الجن معمر فإنه
يبقى حيا بعد موت صاحبه .. وهو الذي يحضر الجلسات ويفشي
أسرار صاحبه ويقلد صوته وعاداته ليسخر من الموجودين على
عادة الجن في عدائهم للإنسان.
وهم يقولون : إننا إذا دققنا جرس المكتب فإن الذي يحضر هو
الخادم .. أما السادة فإنهم لا يتركون عالمهم ويحضرون بهذه
السذاجة وبالمثل في عالم الأرواح .. فالذي يحضر في الجلسات
ويهرج على الموجودين هي الأرواح السفلية والجن ومن في
مستواهم .
أما الأرواح البشرية فهي في عالم آخر هو عالم البرزخ ولا يمكن
استحضارها .. ولكنها قد تتصل بمن تحب في الحلم أو في اليقظة
إذا توفرت الظروف الملائمة.
ومن الجلسات الكثيرة التي حضرناها ومما جمعنا من خبرة خاصة
في هذا الموضوع نقول :أنه لا يوجد دليل واحد على أن ظواهر
الغرفة المظلمة سببها حضور الروح المطلوبة.
وربما كان رأي الصوفية المسلمين أكثر الآراء تفسيرا لما يحدث.
والمسألة ما زالت قيد البحث.
وللأسف الشعوذات في هذا الموضوع أكثر من الحقائق .. والكلمة
الأخيرة لم تقل بعد.
لا شك أنك سوف تضحك على كلمات مثل الجن والأرواح السفلية
.. والقرين.
ولك عذرك .. فإذا آنت لا تؤمن بروحك أنت فكيف يتوقع منك أن
تؤمن بجني..
وإذا آنت لا تؤمن بالله فكيف ينتظر منك أن تؤمن بشياطينه.
ومع ذلك لو كنت ولدت منذ مئة سنة وجاءك رجل يحدثك عن
أشعة غير منظورة تخرق الحديد ، وصور تنتقل في الهواء عبر
المحيطات في أقل من ثانية ، ورائد فضاء يمشي على تراب القمر
.. ألم تكن تضحك وتقهقه وتستلقي على قفاك أضعاف ما تضحك
الآن .. وتقول لنفسك .. هذا رجل هارب من مستشفى المجانين
ومع ذلك فيا لها من حقائق ملء السمع والبصر الآن.
من كتــاب حوار مع صديقي الملحد
للدكتور مصطفى محمود رحمه الله. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ حوار مع صديقي الملحد
الروح ؟
قال صديقي الدكتور وهو يعلم هذه المرة أن الإشكال سيكون
عسيرا.
_ما دليلك على أن الإنسان له روح وأنه يبعث بعد موت وأنه ليس
مجرد الجسد الذي ينتهي إلى تراب .. وماذا يقول دينكم في
تحضير الأرواح ؟
قلت بعد برهة تفكير:
لاشك أن السؤال اليوم صعب والكلام عن الروح ضرب في تيه
والحقائق الموجودة قليلة ولكنها مع ذلك في صفنا نحن وليست
في صفكم.
ومضيت برهة أغرقت فيها في التفكير ثم قلت مردفا:
فكر معي قليلا .. إن أول المؤشرات التي تساعدنا على التدليل
على وجود الروح..
أن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة.
الإنسان له طبيعتان:
طبيعة خارجية ظاهرة مشهودة هي جسده تتصف بكل صفات
المادة ، فهي قابلة للوزن والقياس متحيزة في المكان متزمنة
بالزمان دائمة التغير والحركة والصيرورة من حال إلى حال ومن
لحظة إلى لحظة فالجسد تتداول عليه الأحوال من صحة إلى
مرض إلى سمنة إلى هزال إلى تورد إلى شحوب إلى نشاط إلى
كسل إلى نوم إلى يقظة إلى جوع إلى شبع ، وملحق بهذه
الطبيعة الجسدية شريط من الانفعالات والعواطف والغرائز
والمخاوف لا يكف لحظة عن الجريان في الدماغ.
ولأن هذه الطبيعة والانفعالات الملحقة بها تتصف بخواص المادة
نقول إن جسد الإنسان ونفسه الحيوانية هما من المادة.
ولكن هناك طبيعة أخرى مخالفة تماما للأولى ومغايرة لها في
داخل الإنسان.
طبيعة من نوع آخر تتصف بالسكون واللازمان واللامكان والديمومة
.. هي العقل بمعاييره الثابتة وأقيسته ومقولاته .. والضمير
بأحكامه ، والحس الجمالي ، وال أنا التي تحمل كل تلك الصفات "
من عقل وضمير وحس جمالي وحس أخلاقي."
وال أنا غير الجسد تماما وغير النفس الحيوانية التي تلتهب بالجوع
والشبق.
ال أنا هي الذات العميقة المطلقة وعن طريق هذه الذات
والكينونة والشخوص والمثول في العالم .. وبأنه هنا وبأنه كان
دائما هنا .. وهو شعور ثابت ممتد لا يطرأ عليه التغير لا يسمن ولا
يهزل ولا يمرض لولا يتصف بالزمان .. وليس فيه ماض وحاضر
ومستقبل .. إنما هو " كن " مستمر لا ينصرم كما ينصرم الماضي ..
وإنما يتمثل في شعور بالدوام .. بالديمومة.
هنا نوع آخر من الوجود لا يتصف بصفات المادة فلا هو يطرأ عليه
التغير ولا هو يتحيز في المكان أو يتزمن بالزمان ولا هو يقبل الوزن
والقياس .. بالعكس نجد أن هذا الوجود هو الثابت الذي نقيس به
المتغيرات والمطلق الذي نعرف به كل ما هو نسبي في عالم
المادة.
وأصدق ما نصف به هذا الوجود أنه روحي وأن طبيعته روحية.
ولنا أن نسأل بعد ذلك.
أي الطبيعتين هي الإنسان حقا.
هل الإنسان بالحقيقة هو جسده أو روحه.
ولنعرف الجواب علينا أن نبحث أي الطبيعتين هي الحاكمة على
الأخرى.
يقول لنا الماديون أن الإنسان هو جسده ، وأن الجسد هو الحاكم
وأن كل ما ذكرت من عقل ومنطق وحس جمالي وحس أخلاقي
وضمير وهذه " التخريفة " التي اسمها الذات أو ال أنا كل هذه
ملحق بالجسد ثانوي عليه تابع له يأتمر بأمره ويقوم على خدمته
ويتولى إشباع شهواته وأهوائه.
هذا كلام إخواننا الماديين وهو خطأ ، فالحقيقة أن الجسد تابع
وليس متبوعا مأمور وليس آمرا ألا يجوع الجسد فنرفض إمداده
بالطعام لأننا قررنا أن نصوم هذا اليوم لله .. ألا يتحرك بشهوة
فنزجره ؟!
ألا نصحوا في الصباح فيبدأ الجسد تلقائيا في تنفيذ خطة عمل
وضعها العقل وصنف بنودها بندا بندا .. من ساعة إلى ساعة من
التابع هنا ومن المتبوع ؟
ولحظة التضحية بالنفس حينما يضع الفدائي حزام الديناميت حول
جسده ويتقدم ليحطم الدبابة ومن فيها .. أين جسده هنا .. أين
المصلحة المادية التي يحققها بموته .. ومن الذي يأمر الآخر .. إن
الروح تقرر إعدام الجسد في لحظة مثالية تماما لا يمكن أن
يفسرها مذهب مادي بأي مكسب مادي والجسد لا يستطيع أن
يقاوم هذا الأمر .. ولا يملك أي قوة لمواجهته ، لا يملك إلا أن
يتلاشى تماما .. وهنا يظهر أي الوجودين هو الأعلى .. وأي
الطبيعتين هي الإنسان حقا.
وعندنا اليوم أكثر من دليل على أن الجسد هو الوجود الثانوي .. ما
يجري الآن من حوادث البتر والاستبدال وزرع الأعضاء .. وما نقرأه
عن القلب الإلكتروني والكلية الصناعية وبنك الدم وبنك العيون
ومخازن الإكسسوار البشري حيث يجري تركيب السيقان والأذرع
والقلوب.
ولن تكون نكتة أن يدخل العريس على عروسه سنة 2000
فيجدها تخلع طقم الأسنان والباروكة والنهود الكاوتشوك والعين
الصناعية والساق الخشبية فلا يتبقى منها إلا هيكل مثل شاسيه
السيارة بعد نزع الجلد والكراسي والأبواب.
إلى هذه الدرجة يجري فك الجسم وتركيبه واستبداله دون أن
يحدث شيء للشخصية لأن هذه الذراع أو تلك الساق أو ذلك
الشعر أو العين أو النهد كل هذه الأشياء ليست هي الإنسان ..
فها هي تنقل وتستبدل وتوضع مكانها بطاريات ومسامير وقطع
من الألومنيوم دون أن يحدث شيء .. فالإنسان ليس هذه الأعضاء
وإنما هو الروح الجالسة على عجلة القيادة لتدير هذه الماكينة
التي اسمها الجسد .
إنها الإدارة التي يمثلها مجلس إدارة من خلايا المخ .. ولكنها
ليست المخ.
فالمخ مثله مثل خلايا الجسد يصدع بالأوامر التي تصدر إليه ويعبر
عنها ولكنه في النهاية ليس أكثر من قفاز لها .. قفاز تلبسه هذه
اليد الخفية التي اسمها الروح وتتصرف به في العالم المادي.
نفهم من هذه الشواهد كلها أن الإنسان له طبيعتان:
طبيعة جوهرية حاكمة هي روحه.
وطبيعة ثانوية زائلة هي جسده.
وما يحدث بالموت أن الطبيعة الزائلة تلتحق بالزوال والطبيعة
الخالدة تلتحق بالخلود فيلتحق الجسد بالتراب وتلتحق الروح
بعالمها الباقي.
ولعشاق الفلسفة نقدم دليلا آخر على وجود الروح من الخاصية
التي تتميز بها الحركة.
فالحركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها.
لا يمكن أن تدرك الحركة وأن تتحرك معها في نفس الفلك وإنما لا
بد من عتبة خارجية تقف تقف عليها لترصدها .. ولهذا تأتي عليك
لحظة وأنت في أسانسير متحرك لا تستطيع أن تعرف هل هو
واقف أم متحرك لأنك أصبحت قطعة واحدة معه في حركته .. لا
تستطيع ادراك هذه الحركة إلا إذا نظرت من باب الأسانسير إلى
الرصيف الثابت في الخارج.
ونفس الحالة في قطار يسير بنعومة على القضبان .. لا تدرك
حركة مثل هذا القطار وأنت فيه إلا لحظة شروعه في الوقوف أو
لحظة إطلالك من النافذة على الرصيف الثابت في الخارج.
وبالمثل لا يمكنك رصد الشمس وأنت فوقها ولكن يمكنك رصدها
من القمر أو الأرض .. كما لا يمكنك رصد الأرض وأنت تسكن عليها
وإنما تستطيع رصدها من القمر.
لا تستطيع أن تحيط بحالة إلا إذا خرجت خارجها.
ولهذا ما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لولا أن الجزء المدرك فينا
يقف على عتبة منفصلة وخارجة عن هذا المرور الزمني المستمر
" أي على عتبة خلود " .ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل
لحظة لما استطعنا أن ندرك هذه الثواني أبدا ، ولا نصرم إدراكنا
كما تنصرم الثواني بدون أن يلاحظ شيئا.
وهي نتيجة مذهلة تعني أن هناك جزءا من وجودنا خارجا عن
إطار المرور الزمني " أي خالد " هو الذي يلاحظ الزمن من عتبة
سكون ويدركه دون أن يتورط فيه ولهذا لا يكبر ولا يشيخ ولا يهرم
ولا ينصرم .. ويوم يسقط الجسد ترابا سوف يظل هذا الجزء على
حاله حيا حياته الخاصة غير الزمنية هذا الجز هو الروح.
وكل منا يستطيع أن يحس بداخله هذا الوجود الروحي على صورة
حضور وديمومة وشخوص وكينونة مغايرة تماما للوجود المادي
المتغير المتقلب النابض مع الزمن خارجه.
هذه الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الباطني
والتي أسميتها حالة حضور .. هي المفتاح الذي يقودنا إلى
الوجود الروحي بداخلنا ويضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه
الروح...
ودليل آخر على طبيعتنا الروحية هو شعورنا الفطري بالحرية ، ولو
كنا أجساما مادية ضمن إطار حياة مادية تكمنا القوانين المادية
الحتمية لما كان هناك معنى لهذا الشعور الفطري بالحرية.
لنا الروح إذا تعلو على الزمن وتتخطى الموت وتتخطى الحتميات
المادية.
ماذا عن البعث إذا.
لم يعد أحد بعد الموت ليخبرنا ماذا جرى له.
ولم يأت يوم البعث لنقدم دليلا ملموسا أو شاهد عيان.
وكل ما يمكن قوله في موضوع البعث أنه حقيقة دينية يرجحها
العقل والعلم.
لماذا يرجحها العقل والعلم ؟
لأن شواهد الوجود وظواهره تشير جميعها إلى أن هناك عودا
على بدء ودورة لكل شيء .. بعد النهار يأتي الليل ثم يعود من
جديد فيأتي النهار ، والشمس تشرق ثم تغرب ثم تعود فتشرق.
الصيف والخريف والشتاء والربيع ثم تعود فتتكرر الدورة من جديد
فيأتي الصيف ثم الخريف ثم الشتاء الخ..بعد اليقظة ونوم الليل
نعود فنستيقظ من جديد .. وهذا يرجح أنه بعد رقود الموت هناك
صحوة بعث .. لأن هناك عودا لكل شيء .. والله يسمي نفسه في
القرآن المبدئ المعيد.
( كما بدأكم تعودون ).
(يبدأ الخلق ثم يعيده ).
ألا يدور كل شيء في فلك من الذرة إلى المجرة ، حتى الحضارات
لها دورات والتاريخ له دورات.
الدليل الآخر على البعث هو النظام المحكم الذي ليس فيه بادرة
خلل واحدة من أكبر المجرات حتى أصغر الذرات حتى الإلكترون
الذي لا يرى نجد النظام والقانون يهيمن على كل شيء .. حتى
الإلكترون المتناهي في الصغر لا يستطيع أن ينتقل من فلك إلى
فلك في الذرة إلا إذا أعطى أو أخذ مقدارا من الطاقة يساوي
حركته .. وكأنه راكب قطار لا يستطيع ،،،،، أي مكان بدون تذكرة ..
فكيف نتصور في هذا النظام ،،،،، يهرب قاتل أو يفر ظالم من
الجزاء لمجرد أنه ضلل ،،،،، إن العقل يتصور أنه لابد سيلقى جزاءه
حتما ، وإن هناك لابد عالما آخر يسوى فيه الحساب .. هكذا يقول
العدل.
ونحن مفطورون على تحري العدل وعلى حب العدل والبحث عن
العدل ومحاولة تحقيق العدل.
ومع ذلك فالعدل في الدنيا غير موجود.
وكما يقول أهل الفكر إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء
.. فلا بد أن الظمأ إلى العدل يدل على وجود العدل .. فإن لم يكن
موجودا في دنيانا فلا بد أن له يوما وساعة تنصب فيها موازينه.
كل هذه مؤشرات تشير وترجح أن هناك بعثا وحسابا وعالما آخر.
والمؤمن الذي يصدق القرآن في غير حاجة إلى هذه الاستدلالات
لأنه آمن بقلبه وأراح نفسه من الجدل.
يبقى بعد ذلك أن نسأل وما الروح:
( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم
إلا قليلا)
هي لغز ولا أحد يعلم عنها شيئا.
والعجيب أنه كلما جاء ذكر الروح في القرآن ذكرت معها كلمة من
أمر ربي.
( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ).
( ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ).
( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ).
( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا )
دائما كلمة " من أمرنا " .. " من أمره " .. " من أمر ربي " .. كلما
ذكرت الروح .
أيكون أمر الله روحا ؟
وكلمة الله روحا ؟
ألم يقل الله عن المسيح عليه السلام أنه:
( كلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم ).
وأنه:
(كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ).
الكلمة .. الأمر .. الروح .. هل هي ألفاظ مترادفة لمعنى واحد.
هي مجرد إشارات.
ولا أحد يعلم الحقيقة إلا العليم.
يبقى بعد ذلك سؤالك عن تحضير الأرواح.
وتحضير الأرواح عندنا أمر مشكوك فيه.
مشكوك فيه أنه ظواهر الغرفة المظلمة سببها حضور روح فلان أو
علان.
ومفكر كبير مثل هنري سودر يقول: إن تلك الظواهر مصدرها
العقل الباطن للوسيط والقوى الروحية للوسيط ذاته.. ولاشيء
يحضر بالمرة.
ويقول المفكرون الهنود : إن الذي يتلبس الوسيط أثناء التحضير
هي أرواح سفلية تعرف بعض الأشياء عن الموتى وتستخدمها
في السخرية بعقول الموجودين والضحك عليهم.
ويقول الصوفية المسلمون إن الذي يحضر في تلك الجلسات ليس
الروح ولكن القرين ، وهو الجن الذي كان يصاحب الميت أثناء حياته
..وهو بحكم هذه الصحبة يعرف أسراره .. ولأن الجن معمر فإنه
يبقى حيا بعد موت صاحبه .. وهو الذي يحضر الجلسات ويفشي
أسرار صاحبه ويقلد صوته وعاداته ليسخر من الموجودين على
عادة الجن في عدائهم للإنسان.
وهم يقولون : إننا إذا دققنا جرس المكتب فإن الذي يحضر هو
الخادم .. أما السادة فإنهم لا يتركون عالمهم ويحضرون بهذه
السذاجة وبالمثل في عالم الأرواح .. فالذي يحضر في الجلسات
ويهرج على الموجودين هي الأرواح السفلية والجن ومن في
مستواهم .
أما الأرواح البشرية فهي في عالم آخر هو عالم البرزخ ولا يمكن
استحضارها .. ولكنها قد تتصل بمن تحب في الحلم أو في اليقظة
إذا توفرت الظروف الملائمة.
ومن الجلسات الكثيرة التي حضرناها ومما جمعنا من خبرة خاصة
في هذا الموضوع نقول :أنه لا يوجد دليل واحد على أن ظواهر
الغرفة المظلمة سببها حضور الروح المطلوبة.
وربما كان رأي الصوفية المسلمين أكثر الآراء تفسيرا لما يحدث.
والمسألة ما زالت قيد البحث.
وللأسف الشعوذات في هذا الموضوع أكثر من الحقائق .. والكلمة
الأخيرة لم تقل بعد.
لا شك أنك سوف تضحك على كلمات مثل الجن والأرواح السفلية
.. والقرين.
ولك عذرك .. فإذا آنت لا تؤمن بروحك أنت فكيف يتوقع منك أن
تؤمن بجني..
وإذا آنت لا تؤمن بالله فكيف ينتظر منك أن تؤمن بشياطينه.
ومع ذلك لو كنت ولدت منذ مئة سنة وجاءك رجل يحدثك عن
أشعة غير منظورة تخرق الحديد ، وصور تنتقل في الهواء عبر
المحيطات في أقل من ثانية ، ورائد فضاء يمشي على تراب القمر
.. ألم تكن تضحك وتقهقه وتستلقي على قفاك أضعاف ما تضحك
الآن .. وتقول لنفسك .. هذا رجل هارب من مستشفى المجانين
ومع ذلك فيا لها من حقائق ملء السمع والبصر الآن.
من كتــاب حوار مع صديقي الملحد
للدكتور مصطفى محمود رحمه الله . ❝