تكملية (دقهلية "" "وسيناوي) : كانت دقهلية تغفو في هدوء، متعبة من يوم طويل من الحفظ والمذاكرة، تفيق عندما سمعت صوت الشيخ سيد، ينادي عليها بلطف. فتحت عينيها ببطء، شعرت بالراحة حينما تذكرت أنه قد حان وقت تسميع وردها.
ابتسم بفرحه،فهي دائماً تتذكر وعدها لشيخ حسان.
نهضت من مكانها واتجهت إليه، تسير بخطوات ثابتة. كان هناك صف من الطلاب، ولم يتبقَ سوى ثلاثة منهم، بما فيهم هي.
شعرت بنبضات قلبها تتسارع قليلاً، ليس خوفاً، بل رغبة في إثبات نفسها أمام الشيخ الذي أثرت كلماته في روحها بعمق.
عندما جاء دورها، جلست أمام الشيخ، متماسكة وواثقة، وبدأت تسمع وردها بصوت مملوء بالتحدي والإصرار. كان في عينيها بريق خاص وهي تقرأ، وكأن كل كلمة تحفظها تعني لها شيئًا عظيمًا.
انتهت من وردها، وانتقلت إلى زميلها محمد، الذي كان دائمًا يكمل لها تسميع ما فات.
محمدكان ينظر إليها نظرة مليئة بالدهشة، مستغرباً من التحول الذي طرأ عليها. أخيرًا، سألها بنبرة مشوبة بالاستفهام والفضول:
"هتصحي ايه النهارده؟ صفحة واحدة؟"
شعرت دقهلية بشيء من الفخر يملأ قلبها، لكنها حاولت إخفاءه بنبرة عادية، وقالت بثقة:
"لاء، السورة كلها."
اتسعت عينا محمد بدهشة، لم يكن يتوقع هذه الإجابة، فهز رأسه قليلاً وكأنه يحاول استيعاب ما قالته للتو:
"السورة كبيرة، هتنسي بسرعة، وبعدين انتي بقالك أسبوعين من يوم شيخ سيناء كان هنا، وانتي بتحفظي. هو قالك إيه؟"
شعرت دقهلية بتغير في ملامحها، كأن شيئًا يخصها بشدة تم الاقتراب منه، وردت بنبرة دفاعية، لكنها مملوءة بالغموض:
"وانت مالك؟ وبعدين مش بحفظ وبسمع."
استمر محمد في النظر إليها، يحاول فك لغز التغير السريع الذي طرأ عليها:
"ايوه، ما انا مستغرب. انتي كنتي في الجزء التاني، سورتك القيامة، وفضلتي شهور فيها. وأول لما هو كلمك، تاني يوم أخدتيها كلها، وكل يوم بتصحي سورة كاملة، أو سورتين، والغريبة إنك بتحفظي."
نظرت دقهلية إلى الأرض للحظة، ثم رفعت رأسها بسرعة، وكأنها قد قررت ألا تخفي شعورها بالفخر:
"عادي، ما كنتش عاوزة. ودلوقتي مهتمة أوي، وهختم القرآن. انت خايف لأسبقك مش كدا؟ يعني الفرق من أسبوعين كان كبير، أومال دلوقتي لاء، أربع أجزاء بس."
نظر محمد إليها بنوع من التحدي، لكن بداخل هذا التحدي كان هناك اعتراف بأنه يشعر بشيء من الفخر بها، وربما أيضًا غيرة طفيفة:
"طب ياختي، خدي السورة كلها."
ابتسمت دقهلية بخفة، كانت تلك الابتسامة تفيض بالثقة والتحدي:
"أيوه."
أخذ محمد نفسًا عميقًا، ثم نظر إليها بنظرة تشير إلى أنه يدرك الآن أنها تغيرت حقًا، وقال بنبرة أكثر جدية:
"طب اقرئي."
بدأت دقهلية تقرأ بصوت هادئ لكنه مليء بالإصرار، وكأنها تؤكد لنفسها قبل الآخرين أنها قادرة على فعل ما ظنته يومًا مستحيلاً:
"بسم الله الرحمن الرحيم
حمٓ ( 1 ) وَٱلْكِتَٰبِ ٱلْمُبِينِ ( 2 ) إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَٰرَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ( 3 ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ( 4 ) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ( 5 ) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ( 6 ) رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ( 7 ) لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلْأَوَّلِينَ ( 8 ) بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ يَلْعَبُونَ ( 9 ) فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ( 10 ) يَغْشَى ٱلنَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 11 ) رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ( 12 ) أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ( 13 ) ثُمَّ تَوَلَّوْا۟ عَنْهُ وَقَالُوا۟ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ( 14 ) إِنَّا كَاشِفُوا۟ ٱلْعَذَابِ قَلِيلًا ۚ إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ ( 15 ) يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰٓ إِنَّا مُنتَقِمُونَ ( 16 ) ۞ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ( 17 ) أَنْ أَدُّوٓا۟ إِلَىَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ۖ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ( 18 )
ظلت دقهلية تقرأ بصوت هادئ ومسترسل، غارقة في بحر من السكينة، بينما محمد يصحح لها الأخطاء الصغيرة التي تتسلل أحيانًا في تلاوتها. كانت تعيد الآيات مرارًا حتى تتقنها تمامًا. وعندما انتهت أخيرًا من السورة، همست بصوت مملوء بالتقوى والخشوع:
"صدق الله العظيم."
ابتسم محمد برضا واضح على وجهه، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم قال بنبرة مازحة لكنها مليئة بالفخر:
"كويس كده خلصتي."
لم ترد دقهلية، بل اكتفت بابتسامة صغيرة، كانت تشعر برضى داخلي يعمق في قلبها، كأنها قطعت خطوة أخرى نحو تحقيق ما كانت تراه يومًا مستحيلًا. نهضت من مكانها، واتجهت نحو الخارج، متجهة إلى بيتها بخطوات واثقة وثابتة.
خلال الفترة التالية، ظلت دقهلية على هذا الحال، تسهر الليالي وهي مجتهدة في المذاكرة وحفظ القرآن، حتى أنها كانت تتأمل الآيات بتدبر، محاولة أن تفهم المعاني العميقة التي تحملها كل كلمة. كانت تسعى بجد لملء قلبها بالقرآن، وكأنها تبحث عن نور يهديها في ظلمات الحياة.
مع انتهاء الامتحانات، بدأت منال، والدة دقهلية، تلاحظ التغيير الجذري الذي طرأ على ابنتها.
كانت تراقبها بصمت وهي تتحول من تلك الفتاة الهادئة المترددة إلى شابة مفعمة بالثقة والإصرار. لم يكن التغيير يقتصر على الهدوء والكلام المتزن، بل تعداه ليشمل اهتمام دقهلية الكبير بالقرآن، شيء كان يبهر منال ويثير فيها شعورًا عميقًا بالفخر.
كان الشيخ سيد يتصل بمنال مرارًا، يمدح في ابنتها التي أصبحت نموذجًا يحتذى به بين طلابه.
أخبرها بأن دقهلية تفوقت بشكل ملحوظ على جميع زملائها، وأنها إذا استمرت على هذا النهج، فسوف تتمكن من المشاركة في المسابقة القرآنية الكبرى في القاهرة.
كانت كلمات الشيخ تملأ قلب منال بالسعادة، ولكنها كانت تعلم أن الفضل يعود في ذلك إلى إصرار ابنتها وصبرها.
في يوم من الأيام، دخلت منال على دقهلية في غرفتها، كانت دقهلية منهمكة في حفظ القرآن، تردد الآيات بصوت منخفض، تحاول أن تراجع ما حفظته.
وقفت منال على عتبة الباب، تراقب ابنتها بصمت، تملؤها السعادة والاعتزاز.
كانت الابتسامة تعلو وجه منال، شعرت بدمعة صغيرة تترقرق في عينيها، دمعة الفخر بابنتها التي بدأت تجد طريقها نحو النور.
تركت منال ابنتها تكمل حفظها دون أن تقاطعها، ثم انسحبت بهدوء من الغرفة، وهي تحمل في قلبها دعاءً صادقًا بأن يوفق الله دقهلية ويثبتها على طريق الحق.
مرّت الأيام حتى ظهرت النتيجة، وعمّ الفرح أرجاء البيت. العائلة كلها تجمعت لتهنئة دقهلية وأخيها، إذ أصبح حلمها أقرب للتحقق. شعرت دقهلية بأن هذا هو الوقت الذي عليها أن تعد العزم فيه لبدء أول خطوة في تحقيق حلمها. كانت في قمة سعادتها عندما رافقها والدها لتقديم ملفها في الثانوية. استمرت في حفظ القرآن والتفوق في دراستها، لكن موعد المسابقة كان يقترب، وكانت تعلم أن هذا هو التحدي الأكبر.
مع اقتراب موعد المسابقة، بدأت تظهر المخاوف لدى والدها، الذي رفض في البداية سفرها. شعرت دقهلية بالخيبة وهي ترى أحلامها مهددة، لكن الشيخ'سيد'تدخل، وبدأ بمحاولة إقناع والدها. حتى الأهل وقفوا بجانبها، وخاصة خالاتها اللواتي لم يتوانين عن دعمها. لكن الدور الأكبر كان لوالدتها منال، التي أظهرت إصرارًا شديدًا على إقناع والدها. لولاها، لم يكن ليوافق. بدأ قلب دقهلية ينبض بالحماس، إذ شعرت بأنها تقترب من تحقيق حلمها الكبير.
كانت تعد نفسها للسفر عند الفجر مع باقي زملائها. عاشت كل لحظة بحماس وقلق، وتخيلت نفسها في المسابقة، وهي تنافس وتثبت قدرتها. فبعد عودتها من المسابقة، العائلة تستعد لحفل كبير يقام لها و لزميلها محمد ولصديقتها ماجدة، احتفالًا بختمهم للقرآن الكريم. لم تكن دقهلية تصدق نفسها؛ فقد أوفت بوعدها، وخلال شهور قليلة حفظت القرآن كاملاً.
ذلك اليوم كان أسعد يوم في حياتها. ليس لأنها ستسافر إلى المسابقة فحسب، بل لأنها ستلتقي سيناوي، التي لم تعرفها من قبل، إلا من خلال حديث الشيخ حسان عنها. كان حماس دقهلية يتضاعف كلما فكرت في هذه المقابلة. وقبل الفجر بقليل، أوصلها والدها إلى المكتب حيث كان عليها أن تنطلق مع زملائها إلى القاهرة.
كانت السعادة تغمرها طوال الطريق. لم تفارق الابتسامة وجهها، وكانت تغمض عينيها بين الحين والآخر لتستمتع بشعور الحرية، وكأنها تتنفس أحلامها وهي تتحقق. عندما وصلوا إلى مسجد الأزهر، شعرت بذهول. كانت تشعر وكأنها خرجت أخيرًا إلى عالم جديد، عالم من الفرص والإنجازات.
عندما نزلت من الحافلة، شعرت بأنها تخرج من شرنقتها إلى نور الحياة. كانت تدور حول نفسها، تفتح ذراعيها وكأنها تستقبل هذا العالم الجديد بابتسامة عريضة. تنفست بعمق وابتسمت، وشعرت بأن السعادة تغمر قلبها.
رغم حماسها، كانت تشعر ببعض القلق وهي تبحث بعينيها عن الشيخ حسان بين الحضور. لكنها لم تجده. جلست بجانب زملائها، ووضعت يدها على خدها، والدموع تترقرق في عينيها. لم تكن تعرف إن كانت دموع الحزن أم الفرح، لكن ما كانت تعرفه هو أنها قطعت شوطًا كبيرًا في حياتها، وأنها قريبة من تحقيق حلمها.
بعد فترة، رأت بائع غزل البنات يمر، فاستأذنت من المسؤول عنها أن تذهب لشرائه، لكنه رفض بشدة. جلست بحزن وهي تنظر إلى البائع يبتعد. لكن عندما انشغل المسؤول عنها بالحديث مع الآخرين، لم تستطع مقاومة الرغبة، فانطلقت هي وزميلتها هاجر للحاق بالبائع. شعرت بالمرح والطفولة تعود إليها للحظة، وركضتا حتى تمكنتا من اللحاق بالبائع وشراء ما أرادتاه.
كانت تسير مع هاجر حتى صادفت فتاة سمراء تمر بجانبها. كان جمال الفتاة يلفت الأنظار، فوقفوا ينظرون إليها بدهشة. همسوا لبعضهم حول جمال الفتاة وعينيها الساحرتين. لكن عندما حاولوا العودة إلى المسجد، اكتشفوا أنهم أضاعوا الطريق. بدأ الخوف يتسلل إلى قلوبهم، وبكت الفتاة السمراء معهم.
دقهلية، بحيرة القلق تملأ صوتها، قالت:
"إنتي ضايعة إنتي كمان؟"
ردت الفتاة السمراء بحزن وارتباك:
"آه، دي أول مرة أجي القاهرة ومش عارفة أرجع إزاي."
هاجر قالت بخوف:
"إحنا كمان أول مرة نيجي القاهرة."
سألتهم الفتاة السمراء بقلق:
"طب هنعمل إيه دلوقتي؟"
بدأت دقهلية تلتفت يمينًا ويسارًا بقلق، حتى رأت سيارة جيش قريبة. صاحت بفرح:
"في عربية جيش هناك! تعالوا."
توجهوا نحو السيارة، وسألت دقهلية الضابط عن طريق العودة إلى المسجد الأزهر. لكنه نظر إليهم بسخرية بسبب مظهرهم. ملابسهم كانت واسعة وغير مرتبة، وأياديهم كانت تحمل غزل البنات. أجابهم الضابط ببرود وسخرية:
"وإنتوا تايهين؟"
ردت هاجر بحزن:
"آه، مش عارفين نرجع."
ضحك الضابط بقوة وهو يشير إلى غزل البنات في أيديهم:
"أكيد مش هتعرفوا، ما إنتوا عيال، ودا اللي في إيدكم إيه؟!"
نظرت الفتيات إلى بعضهن بصمت، وشعرن بالخجل. لكن الضابط لم يتوقف عن الضحك حتى جاء قائده. سمع القائد حديث الضابط، فصاح فيه بغضب:
"إيه اللي بيحصل هنا؟!"
رد الضابط بتوتر:
"يا فندم، دول تايهين."
صاح القائد بغضب، وعيونه تلمع بالغضب:
"أنا بتكلم على كلامك معاهم، مش عليهم! دا أسلوب تتعامل بيه؟ لجأوا ليك عشان تساعدهم، ودورك إنك تحميهم، مش تتريق عليهم!"
خفض الضابط رأسه احترامًا واعتذر بصوت مليء بالندم:
"آسف يا فندم."
لم يعيره القائد أي اهتمام،ولم يقبل اعتذاره،نظره غاضبه اكتفى بها.ثم التفت للفتيات.ءغ
بينما كان القائد جاسر يسير بجوار الفتيات، لم تفارق الابتسامة وجهه، رغم أنه لاحظ الحزن والقلق المرتسم على ملامحهن. كان يتساءل عن سبب حزنهن ولكنه اختار أن يبادر بابتسامة هادئة، محاولًا تخفيف التوتر.
"انتوا عايزين إيه يا حلوين؟" قال بصوت ناعم وعينين مليئتين بالدفء.
نطقت الفتاة السمراء أولًا، مترددة بعض الشيء، لكن بملامح مليئة بالامتنان:
"عاوزين المسجد الأزهر."
ابتسم القائد بهدوء واستدار في اتجاههن، مشيرًا بيده نحو الطريق:
"يلا، وأنا هوصلكم. هو مش بعيد. رايحين تصلوا؟"
أجابت دقهليه بصوت مطمئن قليلاً، وقد هدأ القلق الذي كان يعتريها:
"احنا جاين المسابقة القرآن."
تملكت القائد مشاعر الفخر وهو ينظر إليهن نظرة احترام، ثم قال:
"بجد ربنا يحميكم. اسمكوا إيه بقى؟"
أجابته الفتيات في نفس الوقت وكأنهن متفقات مسبقاً:
"ياسمين."
اندهش قليلاً من تزامن ردهما وضحك في سره، ثم تابعت دقهليه بحماسة وهي تشير إلى سيناوي:
"سيناوي!"
ردت سيناوي بفرح أكبر وقد أضاءت عيناها بشعور خاص:
"إيه بجد، انتي دقهليه؟"
أجابت دقهليه بحماس مماثل:
"أيوه."
ردت سيناوي بفخر وهي تضحك:
"أنا سيناوي، حفيدة الشيخ حسان."
نظرت دقهليه إلى سيناوي بدهشة وقالت:
"احلفي!"
ابتسمت سيناوي وأضافت بحنان:
"أنا مبسوطة إني شوفتك."
دقهليه، وقد بدأت تفهم مدى خصوصية هذا اللقاء، سألتها بفضول:
"هو قالك على الإسم؟"
أجابتها سيناوي وهي تومئ برأسها بابتسامة واسعة:
"أيوه، فرحت بيه أوي. انتي توأمي، هو قال لي كده."
ابتسمت دقهليه وأخذتها بين ذراعيها بعاطفة جياشة، تحتضنها بشدة كأنها قد عثرت على نصفها الآخر المفقود.
كان القائد جاسر يراقب مشهد الفرح الذي امتلأ به الجو بين الفتيات، ورغم أنه لم يفهم سبب تلك السعادة الكبيرة أو الأسماء التي يتبادلنها، إلا أنه لم يستطع إخفاء فضوله. سألهم مازحًا:
"إيه حكاية سيناوي ودقهليه دي بقى؟"
أجابته الفتاتان مرة أخرى في نفس اللحظة، مما جعله يبتسم بشكل أوسع:
"أنا هقولك."
ضحك بصوت عالٍ وأردف قائلاً:
"طيب، واحدة واحدة. هتقولوا مع بعض إزاي؟"
ثم أضاف بابتسامة وهو يعرّف نفسه:
"أعرفكوا بنفسي الأول، أنا القائد جاسر."
ردت دقهليه بثقة:
"وأنا ياسمين."
نظر إلى هاجر، التي كانت صامتة طوال الوقت، وسأل:
"والقمر اسمه إيه؟"
أجابت بخجل:
"هاجر."
ابتسم لها القائد وقال:
"تمام، يلا معايا واسمع قصتكم في الطريق."
بينما كنّ يسردن قصصهن للقائد، كانت دقهليه تروي تفاصيل حياتها ثم تقاطعها سيناوي، ويستمر الحديث بينهن بطريقة عفوية، مليئة بالحيوية والبهجة. استمرت الرحلة وسط الضحكات والتعليقات الطريفة، حتى وجدوا أنفسهم قد وصلوا بسرعة.
عندما قالت دقهليه بنبرة حزينة:
"وصلنا."
رد عليها القائد جاسر بابتسامة مائلة وقال:
"فعلاً، الطريق خلص بسرعة أوي."
ثم أضاف بابتسامة جذابة:
"وبما إنكم وفيتوا بالوعد، أنا كمان هأوعدكم."
نظرت ياسمين بلهفة وسألت:
"بإيه؟"
ضحك القائد قائلاً:
"واحدة واحدة تتكلم، مش إنتوا الاتنين!"
ضحكوا جميعًا بصوت عالٍ، ثم قال مازحًا:
"ماشي يا عم! المهم، وعدي ليكم إنكم لما تدخلوا كلية طب، أنا هعلمكم الدفاع عن النفس. إيه رأيكم؟"
صاحوا بفرحة كبيرة:
"موافقين!"
قال القائد بنبرة محبة:
"يلا يا قردة، لما تخلصوا المسابقة تعالوا عليا تفرحوني ماشي؟"
ردت دقهليه بقلق:
"بس الشيخ مش هيوافق."
أجابها القائد بلهجة مطمئنة:
"خلاص، أنا اللي هاجي ليكم. يلا روحوا، في حد بيشاورلك يا دقهليه."
نظرت دقهليه ورأت الشيخ وقالت:
"أيوه، دا الشيخ. سلام يا قائد."
رد عليها بابتسامة ودية:
"سلام يا وردة الياسمين."
ابتسمت دقهليه وقالت وهي تشعر بسعادة غامرة:
"حلو الاسم ده."
أجابها بابتسامة دافئة:
"وأنا هناديكي بيه. يلا بسرعة روحي."
نظرت إليه دقهليه وقالت بجدية:
"هرجعلك تاني، وعد."
ابتسم القائد وقال وهو يلوّح لها:
"وأنا هستناكي."
بعد أن تهرولت نحو الشيخ، تغيرت الأجواء فجأة. كانت ملامح الشيخ غاضبة، عنفه بقوة وكاد أن يضربها هي وهاجر على تأخرهما وابتعادهما دون إذن.
في زاوية بعيدة عن الضجيج والأنظار، وقفت سيناوي بملامح قلقة، تجمع بين الاحترام والتوتر، بجوار القائد جاسر الذي لم يمضِ على معرفتهما سوى دقائق معدودة. كان الجو من حولهما هادئًا، فيما تنتظر ظهور جدها الشيخ حسان.
كلما مرت لحظة دون أن تراه، زاد نبض قلبها تسارعًا، كأن الخوف والقلق يتجسدان في دقات قلبها المضطربة.
وأخيرًا، بعد لحظات بدت وكأنها ساعات، ظهر الشيخ حسان. خطواته كانت واثقة، لكنه عندما اقترب منها، عانقت عيناه نظرات عتاب صارمة. وكأن عينيه كانتا تقولان كل شيء دون الحاجة إلى كلمات.
سيناوي لم تستطع مواجهة نظراته، فخفضت رأسها نحو الأرض ببطء، وكأنها تحمل على كتفيها ثقل الخطأ الذي ارتكبته. تساقطت دموعها بصمت، تمزج بين الندم والخوف، لتغرق وجهها الصغير الذي ارتسم عليه الحزن.
اقترب منها جدها بحنان غير متوقع، وصوته كان هادئًا لكنه مليء بالألم:
"زعلى منك خوف عليكي، لو ما كانش راجل كويس ما كنتوش هنا، وانتوا أول مرة تسافروا، وامانة في رقبتنا."
كانت كلماته كبلسمٍ على جرح قلبها. رفعت رأسها قليلاً وهي تشعر أن الجد، رغم عتابه، كان قلقًا عليها أكثر من أي شيء آخر.
القائد جاسر الذي كان يراقب هذا المشهد من بعيد، لم يستطع إلا أن يشعر بمزيج من الاحترام والتقدير للشيخ. بادر قائلاً بنبرة مليئة بالاحترام والاعتراف:
"عندك حق يا شيخ، وأنا قولت لهم كده، بس الشيخ اللي مع دقهليه كان بيعاملها بعنف جامد."
قالها وهو يشير نحو دقهليه التي كانت في مسافة غير بعيدة، متجمدة في مكانها تحت وطأة غضب شيخها.
نظر الشيخ حسان نحو دقهليه، ورأى دموعها وارتعاشها، فاشتعل قلبه بعاطفة جياشة:
"أنا هروح أكلمه، حبيت البنت دي أوي ويعز عليا دموعها، زي حفيدتي بالظبط."
ابتسم القائد جاسر بصدق، وعيناه تكشفان عن مشاعر أخوة غير متوقعة:
"وأنا والله شوفت فيها أختي وبنتي."
هز الشيخ حسان رأسه موافقًا، ثم استأذن قائلاً:
"راجع ليك يا ولدي، هروح أشوف دقهليه."
القائد جاسر نظر إليه بود وأجاب بأسف:
"آسف يا شيخ، عندي خدمة لازم أرجع لها. بس بعد المسابقة هكون هنا علشان أسلم عليكوا."
هز الشيخ حسان رأسه بتفهم:
"تمام يا ولدي، اسمك إيه؟"
ابتسم القائد وقال بفخر:
"جاسر، مقدم في الجيش."
ابتسم الشيخ حسان بدعاء من قلبه:
"مع السلامة يا ولدي، ربنا يحميك. ولينا كلام مع بعض كتير."
أجاب القائد وهو يلوح له بابتسامة ودية:
"أكيد، اتشرفت بمعرفتك. سلام، روح شوفها."
ثم ألقى القائد جاسر التحية الأخيرة قبل أن يختفي من المشهد، تاركًا وراءه أثرًا من الاحترام والطمأنينة في نفوس الجميع.
الشيخ حسان ألقى نظرة أخيرة على القائد جاسر قبل أن يلتفت نحو دقهليه، مصممًا على تهدئة الوضع وإعادة الابتسامة إلى وجه الفتاة التي أثرت في قلبه.
توجه الشيخ حسان نحو دقهليه وهاجر، اللتين كانتا تقفان متوترتين، والدموع تغمر وجوههما. لم تستطع دقهليه حبس دموعها بعد العنف الذي تعرضت له من شيخها، وشعرت أنها لم تعد قادرة على التنفس بسبب الخوف والحزن. كانت تحاول أن تبدو قوية، لكن قلبها كان ينهار.
وصل الشيخ حسان واقترب منهما بخطوات هادئة وواثقة، حاملاً معه إحساساً بالطمأنينة. بمجرد أن وصل إليهما، وضع يده بلطف على كتف دقهليه، التي لم تستطع منع نفسها من النظر إلى الأرض، وكأنها تتمنى أن تختفي.
قال بصوت مليء بالحزم والحنان في آنٍ واحد:
"ما تزعليش يا بنتي، أنا هنا، شيخيك اللي زعقلك بيعرف غلطك. أنتِ زي بنتي، وأنا مش هرضى حد يعاملك بالشكل ده."
رفعت دقهليه ببطء رأسها، وابتسمت ابتسامة حزينة، لكنها كانت ممتنة لكلماته. أما هاجر، فقد كانت تمسك بيدها بقوة، وكأنها تحاول نقل الأمان إليها.
اقترب الشيخ حسان من الشيخ سيد الذي كان واقفاً على مسافة، وقال له بحدة، لكن بصوت منخفض كي لا يجذب الأنظار:
"البنات دول أمانة في رقبتنا، وما يصحش نعاملهم بالشكل ده. هاتلي دقهليه وهاتلي هاجر، وهفهم هما ليه جايين هنا. بهدوء الغلط، عمر ما كان حله بالصوت العال والضرب. "
الشيخ سيد، الذي كان لا يزال غاضباً بعض الشيء، أومأ برأسه دون أن يتحدث. كانت ملامحه تدل على أنه أدرك خطأه، لكنه لم يكن يريد الاعتراف بذلك علناً.
عاد الشيخ حسان إلى الفتاتين وقال بصوت دافئ:
"يلا يا بنات، خلاص، الأمور اتصلحت. ادخلوا واتطمنوا، الشيخ مش هيزعق تاني."
ابتسمت دقهليه وهاجر له، وشعرتا بأن الأمور بدأت تتحسن، وأن الألم الذي شعرتا به بدأ يتلاشى ببطء.
أثناء مغادرتهن، التفتت دقهليه نحو الشيخ حسان وقالت له بصوت مرتعش لكنه مليء بالامتنان:
"شكراً يا جدي، وعد مني إني مش هخيب ظنك."
ابتسم الشيخ حسان وأجابها برقة:
"عارف يا بنتي، وأنا واثق فيكي."
ثم توجهت الفتاتان نحو وجهتهما، وقلوبهما مليئة بالطمأنينة والثقة، مستعدتين لمواجهة المسابقة، وهما تعلمان أن لديهما من يدعمهما ويحميهما.
كانت الشمس تسكب نورها على الأرض بحنان، كما لو أنها تهمس للسماء بلطف قبل أن تشتد وتصل إلى ذروتها. أشعتها تلامس الأفق برفق، تنساب فوق الحقول والطرقات، فتغمر العالم بضوء ذهبي ناعم يتسلل عبر الأشجار ويعانق المباني. كان الهواء يحمل دفء الشمس، ولكن دون أن يكون حارًا، وكأن الطبيعة بأسرها تستيقظ من سباتها الليلي على وقع هذا الضوء الذي ينمو تدريجيًا. السماء صافية، تمتد بصفاء أزرق عميق، وكأنها ساحة واسعة تنتظر ما سيأتي. في تلك اللحظات الهادئة في المسجد الأزهري الشامخ. تجمعت الفتيات في صفوف منظمة بجوار شيوخهن، استعدادًا لبداية المسابقة. سيناوي وقفت بجانب جدها، تتطلع بنظرات مليئة بالتفاؤل، بينما كان قلبها ينبض بحماس وثقة. إلى جوارها، كانت دقهليه تتنفس بعمق، متوترة بعض الشيء، لكنها تحاول الحفاظ على هدوئها.
عندما نظر إليها الشيخ حسان بعينين مليئتين بالثقة والحنان، شعرت بقليل من الراحة تتسرب إلى قلبها، رغم أن قلبها لم يتوقف عن الخفقان بسرعة.
بدأت المسابقة، وبدأت سيناوي تتلو القرآن بصوت هادئ ورخيم. كلماتها تملأ القاعة بسمفونية روحانية أذهلت الجميع، بينما كان جدها ينظر إليها بفخر لا يمكن إخفاؤه. انتهت سيناوي من تلاوتها بنجاح، وابتسامة الرضا على وجهها تشع كالشمس التي تشرق بعد ليلة طويلة.
جلست بجوار جدها تنتظر دور دقهليه، التي بدأت هي الأخرى في التلاوة. كانت الكلمات تنساب من فمها، تحمل معها كل توترها ورغبتها في النجاح.
مرت دقائق المسابقة وكأنها ساعات طويلة على دقهليه. عندما انتهت، جلست بجوار سيناوي، والتوتر يغادر جسدها شيئًا فشيئًا، لتحل محله الراحة والانتظار المشوب بالأمل.
بعد انتهاء المسابقة وإعلان النتائج، انفجرت الفتيات بالفرح عندما عرفن مراكزهما: سيناوي حازت على المركز الأول، بينما حصلت دقهليه على المركز الخامس. كانت الفتاتان تقفزان فرحًا، تمسك دقهليه بيد سيناوي بقوة، وكأنها لا تصدق ما حدث.
الركض في ساحات الأزهر، وأصوات ضحكاتهما المتداخلة، كان كأنهما عادتا طفلتين صغيرتين.
مرَّ الشيخ حسان عليهما بابتسامة مطمئنة، وتوجه نحو الشيخ الذي كان مع دقهليه ليطلب إذنه بأخذها في نزهة قصيرة مع حفيدته.
بعد موافقة الشيخ، قادهم الشيخ حسان إلى مكان خاص حيث كان القائد جاسر ينتظر. كان واقفًا هناك، يبدو عليه أنه ينتظر الفتاتين بفارغ الصبر. عندما رآهما، ابتسم ابتسامة عريضة وقال:
"أهلاً، ألف مبروك يا أبطال."
دقهليه ابتسمت بتواضع وقالت بخجل:
"شكراً يا قائد."
القائد جاسر، بروح الأبوة والأخوة التي غمرت حديثه:
"دا أقل واجب يا وردة الياسمين. يلا، انتي وهيا، سجلي رقمي."
نظرت دقهليه إلى الهاتف الجديد الذي أهداهما إياه القائد، ثم تساءلت بارتباك:
"بس هو مش فيه خط."
ضحك القائد جاسر قائلاً وهو يهز رأسه:
"لاء، فيه كل حاجة. وكمان رصيد. وعملت لكل واحدة صفحة خاصة بيها، وممنوع تغيروا الرقم، مفهوم؟"
سألت سيناوي بدهشة وحيرة، وهي ترفع حاجبيها:
"يعني ايه الصفحة دي؟ مش فاهمة."
رد القائد جاسر، بابتسامة مرحة، لكنه جدي في نفس الوقت:
"بعد إذن الشيخ طبعاً، أنا عملت كده علشان تقدروا تتواصلوا بسهولة. تعالى بقى، هعلمكوا عليها، وأعرفكوا كل حاجة. يلا."
جلسوا معًا لمدة ساعة ونصف تقريبًا، والوقت يمر بسرعة وكأنهم في عالم آخر، بعيد عن الضغوط والمسابقة.
كان القائد جاسر يشرح لهما كيفية استخدام الهواتف، بينما كانت الفتاتان تتابعانه بتركيز وحماس، وكأنهما تستعدان لمرحلة جديدة من حياتهما.
لكن كل شيء جميل لابد أن ينتهي. جاء موعد الرحيل، وبدأ الوداع يخيم على الأجواء. سيناوي، التي كانت تشعر ببعض الحزن، ودعت دقهليه بعناق دافئ، واعتذرت عن عدم قدرتها على حضور حفل تكريمها.
في البداية، شعرت دقهليه بالحزن، لكن الشيخ حسان طمأنها ووعدها بأن اللقاء سيتجدد في وقت قريب.
كما أنه أكد لها أن سيناوي ستتمكن من مهاتفتها كل يوم، مما أعاد بعض الراحة إلى قلبها.
ودعوا بعضهم بوعد اللقاء مرة أخرى، وانطلقت كل واحدة إلى بلدها، تاركتين وراءهما ذكرى جميلة لا تُنسى.
القائد جاسر عاد إلى عمله، محملًا بالذكريات والوعود التي قطعها للفتيات، وتاركًا أثرًا عميقًا في نفوس الجميع.
كان الليل قد خيّم تماماً عندما وصلت سيناوي مع جدها إلى القرية بعد رحلة طويلة.
استيقظت بصوت هادئ لجدها يناديها بلطف لتسير نحو البيت. كانت تشعر بثقل النوم على جفونها، لكن حبها لجدها جعلها تفيق بسرعة وتمشي بجانبه. أنس، الذي كان ينتظر عند مدخل البيت، جاء لمساعدتهم في حمل الأغراض مع أخيه.
في الصباح، استيقظت سيناوي على رنين هاتفها، فتحته بلهفة ورأت رسالة من دقهليه تتمنى لها التوفيق في يومها. شعرت بالامتنان والفرح، وسرعان ما ردّت عليها بابتسامة متفائلة. وعدتها دقهليه بأن ترسل فيديو الحفلة ليشاهدها الجدّ عبر الهاتف، وأغلقت المكالمة بعد أن اتفقتا على التفاصيل.
نهضت سيناوي بعد الصلاة، مليئة بالطاقة، وركضت بسرعة نحو خيمة جدها. وبينما كانت تمر بالقرب من أنس، الذي كان جالسًا يقرأ في كتاب الله، لم تلتفت إليه بل واصلت ركضها نحو الداخل.
أنس لم يكن يستطيع إخفاء شعور الضيق الذي تملكه، فقد كان ينتظر منها ولو نظرة، ولكنها مرت كأنها لم تره.
عندما وصلت إلى داخل الخيمة، وجدت جدها يقرأ القرآن بصوت هادئ ومطمئن. وضعت سيناوي نفسها بجواره، وقبلت رأسه، وبدأت تحكي له عن المكالمة التي جرت بينها وبين دقهليه. أثناء حديثها، سمعا صوتاً يستأذن بالدخول. توقف الحديث للحظة، ثم سمح الجدّ للزائر بالدخول.
دخل أنس وهو يحمل في عينيه بعضاً من الحيرة والضيق، وجلس بجوار الجد، يبارك لـ سيناوي على نجاحها.
كانت سيناوي تشكره بصوت خافت، لكن لم يكن بإمكانها إخفاء ضيقها. لاحظ أنس هذا في نبرة صوتها، كما لاحظ أنها لم تنطق باسمه أثناء الحديث، مما زاد من شعوره بالاضطراب.
نظر أنس إلى الهاتف الذي كان في يدها، وسأل الجد بتوتر:
"اي دا يا جدي؟"
أجابه الجد بهدوء:
"محمول يا ولدي، كان هدية ليها عن النجاح."
أنس، الذي بدا عليه بعض الحيرة، سأل بحدة:
"وليه جبتهولها؟"
ابتسم الشيخ حسان بحنان وقال:
"مش أنا اللي جبتهولها، دا كان هدية من شخص غالي."
أنس، وقد ازداد فضوله:
"هو مين الشخص الغالي دا؟ أنا اعرفه؟"
أجابه الجد بابتسامة مريحة:
"لاء، ما تعرفوش، أنا يدوب عرفته يومها."
شعر أنس ببعض الغيرة وقال:
"ولحق بقا غالي؟"
ضحك الشيخ حسان بلطف وأجاب:
"أنا عندي نظرة في الناس، هتشككش في كلامي ولا إيه."
تراجع أنس وقال بأسف:
"لاء، حقك عليا يا جدي، أنا ما قصدتش."
لكن الجد، الذي لاحظ انزعاجه، حاول تهدئته:
"ما تشيلش هم، أنا قادر أحميها، وانت ركز في حياتك وبس."
قال أنس بنبرة هادئة:
"ما فيش حاجة يا جدي، بس كنت عايز أبارك لبنت عمي، وكنت هقولها بره، لكنها دخلت على طول من غير سلام."
كان أنس ينظر إلى سيناوي، التي أدارت وجهها بعيداً عنه، وكأنها تهرب من أي مواجهة.
وقف أنس واستأذن:
"بالإذن أنا، سلام."
ودعه الجد قائلاً:
"سلام يا ولدي."
التفت الجد نحو سيناوي وقال لها بحنان:
"ليه كدا يا بنتي؟"
أجابت وهي تنظر إلى الأرض:
"انت عارف يا جدي، أنا ما اقدرش اخبي مشاعري، ودا أحسن ليا وليه."
هز الجد رأسه بحكمة وقال:
"طيب، هاتي المصحف من وراكي علشان نقرا مع بعض، يكون جدتك حضرت الفطور."
أخذت سيناوي المصحف وبدأت تقرأ بصوت خاشع إلى جانب جدها، حتى دخلت الجدة، وقطعت القراءة مؤقتاً لتناول الطعام. بعد أن أنهوا وجبتهم، عادوا لمواصلة تلاوة القرآن معاً، حيث عمّت السكينة والهدوء أرجاء الخيمة.
.............
بمجرد أن انتهى القائد جاسر من مهمته في المنطقة، كان قد استعاد نوعاً من الروتين والانضباط العسكري. استمر في أداء واجباته بكامل التفاني، مع حرصه على الحفاظ على الروح العالية بين رجاله. كانت الأيام تمر بوتيرة سريعة، بين الاجتماعات الميدانية والتنسيق مع باقي الوحدات. لم يكن يفكر في الرحيل بشكل جدي حتى قرب موعد انتهاء خدمته.
كان القائد جاسر شخصية محبوبة ومحترمة بين رجاله. قادهم بحكمة وحزم، وكان دوماً يستمع إلى مشاكلهم ويحرص على أن يشعروا بأنهم ليسوا فقط جنوداً، بل جزءاً من عائلته العسكرية.
في اليوم الأخير من خدمته في المنطقة، وقف جاسر أمام رجاله في الساحة، متأملاً الوجوه التي أصبحت مألوفة بالنسبة له. حمل في عينيه نظرة عميقة، مزيجاً من الاعتزاز والحنين.
تحدث إلى رجاله بكلمات بسيطة لكنها كانت تحمل معانٍ كبيرة:
"الوقت اللي قضيناه هنا كان مليان تحديات، لكن بفضل الله، وبفضلكم كلكم، قدرنا نعدّيها. اليوم حان وقت إني أرجع للقطاع، بس عايزكم تفضلوا بنفس القوة والروح اللي عرفتها فيكم."
رجاله وقفوا أمامه في صفوف منتظمة، وكانوا يعلمون أن رحيله يعني غياب قائد كان سنداً لهم. بعد الانتهاء من كلماته، قام بتحية عسكرية، وتقدموا نحوه ليودعوه واحداً تلو الآخر.
بعد ساعات قليلة، انطلق جاسر مع فرقته نحو القطاع، حيث كانت تنتظره مهمات جديدة، وربما تحديات أكبر. لكنه كان مستعداً لأي شيء، فخدمته لوطنه كانت دائماً في المقدمة. ورغم أنه غادر المكان، إلا أن أثره بقي محفوراً في قلوب رجاله، الذين تعلموا منه الكثير.
بعودته إلى القطاع، شعر القائد جاسر بامتنان كبير لتلك الفترة التي قضاها، لكنها لم تكن نهاية لرحلته العسكرية.
..........................
في تلك الليلة الهادئة، عادت دقهليه إلى منزلها، متعبة ولكن مليئة بالفرح لما حققته من نجاح. استقبلتها والدتها بنظرات فضولية، تنتظر أن تسمع تفاصيل يومها. بدأت دقهليه تخبرها بكل شيء، عن الحفل والهدايا والتكريم، لكنها تجنبت ذكر لقائها بالقائد. كانت تعلم أن والدتها لن ترضى بذلك.
عندما لاحظت والدتها أن ابنتها أخفت جزءاً من القصة، بدأت تعنفها قائلة:
"ليه ما قلتيش كل حاجة؟
ومين اللي جبلك التلفون. ومين القائد اللي بيرن عليكى دا، ويسأل وصلتى ولا لاء، ليه خبيتى عني مقابلتك للقائد؟"
دقهليه، التي شعرت ببعض التوتر، حاولت تهدئتها قائلة:
"يا أمي، دي كانت هدية زي باقي الهدايا، خدت لابتوب ومبلغ مالي، وكمان هدايا تانية."
ثم تنفست بعمق و قصت عليها كيف تعرفت بالقائد.
استمرت الأم في توبيخها قليلاً، لكنها في النهاية قبلت عذر دقهليه وتركت الأمر يمر.
مر اليوم التالي بسعادة وهدوء، حتى بزغ الصباح الذي طالما انتظرته دقهليه.
كانت متحمسة للغاية، فاليوم هو يوم تكريمها وحفل القرآن. قفزت من فراشها بسرعة، واندفعت نحو والدتها كي تتناول إفطارها وتستعد للذهاب إلى المكتب لتحضير نفسها لهذا اليوم المميز.
بعد فترة قصيرة، كانت دقهليه تخرج من البيت، تركض بسرعة في الشوارع، متجاهلة نظرات الناس المندهشة من اندفاعها. لم تكن تهتم كثيرًا بما يفكر فيه الآخرون، بل كانت تركز فقط على تحقيق حلمها. وصلت بسرعة إلى مكان التجمع، حيث كان الجميع يستعدون للمشاركة في الحفل.
وقفت في الصف الأول بجوار ماجدة ومحمد، اللذين كانا بدورهما متحمسين لهذا اليوم. كان الجو مليئًا بالتوقعات والترقب. مع اقتراب موعد بدء الحفل، اصطف الطلاب في صفوف متساوية ومنظمة، وهم يهتفون بالأناشيد الدينية، ويحملون لوحات مكتوبة عليها آيات قرآنية وأسماء الطلاب المكرمين.
تحركت المسيرة باتجاه مكان الحفل، الذي أقيم أمام المسجد الكبير في المنطقة. حضر كبار الشخصيات من الحي، بما في ذلك المحافظ ونائب مجلس الشعب، بالإضافة إلى الأهالي الذين تجمعوا لمشاهدة الحفل. كان الجو مليئًا بالحماس والفخر.
بدأ الحفل بتلاوة القرآن الكريم، ثم بدأت اختبارات الطلاب الذين تم تكريمهم، حيث تلى كل منهم بصوته الجميل، أو ألقى خطبة دينية، في أجواء من الروحانية والإجلال. بعد ذلك، بدأت فقرات الحفل الأخرى التي شارك فيها بقية الطلاب.
عند نهاية الحفل، قام المحافظ وكبار الحي بتوزيع الجوائز القيمة على الطلاب المتفوقين، وتكريمهم أمام الجميع. كما تم توزيع هدايا صغيرة على جميع الطلاب الذين حفظوا كتاب الله، وسط أجواء من الفخر والفرح.
بعد انتهاء الحفل، اصطحب الأهالي أبناءهم إلى منازلهم، يحملون الهدايا التي حصلوا عليها. دقهليه كانت قد حصلت على سرير، غسالة، مبلغ مالي، براويز، مصحف، وشهادة تقدير، وهو نفس ما حصل عليه ماجدة ومحمد.
عندما عادت دقهليه إلى المنزل، اتفقت مع والدتها على ترتيب الهدايا، لكنها فوجئت بشرط والدتها:
"هتاخدي السرير ليكي، لكن الغرفة تفضليها لأخواتك."
ابتسمت دقهليه على الفور ووافقت دون تردد. كانت سعيدة بأن تستقل بغرفتها الصغيرة، خاصة بعد أن قامت والدتها بإخراج الكراسي منها لتوفير مساحة أكبر لها. شعرت أخيرًا أن لديها مكانًا خاصًا بها، مكانًا تستقر فيه وتفكر في مستقبلها.
مرت أيام دقهلية بسعادة تامة، تنبض بالحيوية والأمل في كل لحظة. كانت تشعر بأن حياتها قد بدأت تأخذ مسارًا أكثر وضوحًا بعد نجاحها في حفل التكريم واحتفاظها بعلاقتها الوثيقة مع سيناوي وجدها. لكن المفاجآت لم تتوقف.
ذات يوم، وبينما كانت تتصفح صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بها، لفت نظرها رسالة غريبة من فتاة تبحث عن توأم لها.
استغربت دقهلية في البداية، لكنها شعرت باندفاع غريب للاطلاع على محتوى الرسالة. بدأت تقرأ الكلمات بعناية، وكلما تعمقت أكثر، زادت دهشتها وفرحتها. لم تكن دقهلية وحدها هي وسيناوي، بل يبدو أن هناك فتاة أخرى تبحث عنهم. أصبحوا الآن ثلاثًا، لكن المفاجأة لم تتوقف هنا.
كان آسر يقلب الصفحة وهو مفعم بالحماس، متشوقًا لمعرفة من تكون الفتاة الثالثة وما قصتها، وكيف ستتشابك حياتها مع سيناوي ودقهلية. تدفقت الأسئلة في ذهنه: ما الذي سيحدث؟ ما دور كل من سيناوي ودقهلية؟ هل هناك مزيد من الأسرار المخفية في تلك المذكرة؟
بينما كانت تلك الأفكار تسيطر عليه، شعر جسده يضعف من التعب. السهر المتواصل وقلة الطعام استنزفته بشدة، ولم يعد لديه الطاقة لمواصلة القراءة. كان عقله يشتعل بالفضول، لكن جسده أثقلته الحاجة إلى الراحة. قرر، على مضض، أن يؤجل اكتشاف باقي القصة حتى الصباح، مطمئنًا بأن الغد يوم الجمعة، يوم الإجازة.
قبل أن يخلد إلى النوم، راودته فكرة: "هل سيتصل بي عمي زين غدًا؟ أم أنه سيظل مختفيًا كما كان طوال هذا الأسبوع؟" كانت تلك التساؤلات تحوم حوله بينما استلقى على فراشه. غياب عمه طوال الأسبوع أثار قلقه، فقد اعتاد سماع صوته بانتظام. استسلم آسر للنوم على أمل أن يحمل الغد إجابات ليس فقط عن المذكرة، بل أيضًا عن عمه الغائب.
استيقظ آسر فجأة على صوت جدته العالي يتردد في أرجاء المنزل. كانت تصرخ بصوت حاد أشبه بالخناجر تخترق الهدوء الذي كان يحاول العثور عليه في نومه:
"يلا قوم! طول الليل نايم ومفيش فايدة منك! قوم شوف وراك إيه بدل ما تفضل نايم!"
كان صوته داخله يرتجف، لكن تعود على هذا النمط من حياتها، تلك الحدة التي لا تخفف عنها أبدًا. نهض من فراشه بتثاقل، عيناه لا تزالان تبحثان عن بقايا حلمٍ لم يكتمل. تجاهل صوتها المرتفع وهو يمشي نحو المطبخ ليشرب بعض الماء، في محاولة لتهدئة نفسه.
بعد قليل، بينما يجلس وحيدًا على الأريكة في غرفة المعيشة، رن هاتفه فجأة. نظر إلى الشاشة، فإذا بالاسم يظهر: "زين". زين، صديق والده، الوحيد الذي اعتاد أن يسأله عن أحواله ويطمئن عليه دائمًا. رفع الهاتف وفتح الخط:
"آلو، عمه زين؟"
قال آسر بصوتٍ منخفض، يحاول إخفاء تعب اليوم.
أجابه زين بحنان:
"إزايك يا آسر؟ وحشتني. كل حاجة كويسة معاك؟ طمني عليك."
ابتسم آسر ابتسامة صغيرة، رغم أنه يعلم أن الحياة لم تكن على ما يرام مؤخرًا. لكنه لم يعرف كيف يخبره عما بداخله.
وتلك الجدته تجلس أمامه تستمع لما يقول بعيون تشع غضب.
"أنا بخير يا عمه زين، كله تمام. شكراً ليك إنك بتسأل."
أجابه آسر بهدوء.
رد زين بجديه:
"لو في حاجة عاوز تقولها، أنا موجود يا آسر. ما تنساش إني هنا دايمًا."
"عارف يا عمه زين، شكرًا بجد. هكلمك بعدين."
أنهى آسر المكالمة بلطف وأغلق الهاتف.
بعد انتهاء المكالمة، أحس آسر بثقل يضغط على صدره. استجمع شتات نفسه واتجه نحو غرفته، أغلق الباب خلفه بإحكام، وكأن هذا الباب هو الحاجز الوحيد بينه وبين العالم الخارجي. جلس على طرف سريره، ثم مد يده إلى المذكرة التي تركها في الليلة السابقة.
أمسك المذكرة بين يديه بحذر، كأنها مفتاح لحياة أخرى. تنهد بعمق وفتح الصفحة حيث توقف.
قلب الصفحة ببطء، وعيناه متسمرتان على الكلمات التي كانت تنتظره. عاد ذلك الفضول ليشتعل بداخله، وعاد السؤال يراوده: من تكون "الفتاة الثالثة"؟ وهل ستكمل المذكرة ما بدأته أمه، أم ستتركه يبحث عن الأجوبة في سيل من الصفحات الفارغة؟
بدأ يقرأ بحذر واهتمام، منتظرًا أن تكشف المذكرة له أسرارها.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
كانت دقهلية تغفو في هدوء، متعبة من يوم طويل من الحفظ والمذاكرة، تفيق عندما سمعت صوت الشيخ سيد، ينادي عليها بلطف. فتحت عينيها ببطء، شعرت بالراحة حينما تذكرت أنه قد حان وقت تسميع وردها.
ابتسم بفرحه،فهي دائماً تتذكر وعدها لشيخ حسان.
نهضت من مكانها واتجهت إليه، تسير بخطوات ثابتة. كان هناك صف من الطلاب، ولم يتبقَ سوى ثلاثة منهم، بما فيهم هي.
شعرت بنبضات قلبها تتسارع قليلاً، ليس خوفاً، بل رغبة في إثبات نفسها أمام الشيخ الذي أثرت كلماته في روحها بعمق.
عندما جاء دورها، جلست أمام الشيخ، متماسكة وواثقة، وبدأت تسمع وردها بصوت مملوء بالتحدي والإصرار. كان في عينيها بريق خاص وهي تقرأ، وكأن كل كلمة تحفظها تعني لها شيئًا عظيمًا.
انتهت من وردها، وانتقلت إلى زميلها محمد، الذي كان دائمًا يكمل لها تسميع ما فات.
محمدكان ينظر إليها نظرة مليئة بالدهشة، مستغرباً من التحول الذي طرأ عليها. أخيرًا، سألها بنبرة مشوبة بالاستفهام والفضول:
"هتصحي ايه النهارده؟ صفحة واحدة؟"
شعرت دقهلية بشيء من الفخر يملأ قلبها، لكنها حاولت إخفاءه بنبرة عادية، وقالت ....... [المزيد]
❞ دخل الغرفة ببطء، واقترب من جثمان صديقه الذي كان يرتدي زيه العسكري الملطخ بالدماء. مدّ يده المرتعشة نحو جيب أحمد، وأخرج منه الورقة التي تركها له.
قبل رأس أحمد للمرة الأخيرة، وودعه بدموع حارقة لم تتوقف عن الانهمار.
شعر بثقل الفراق في كل جزء من كيانه، وكأن الروح تغادر جسده مع رحيل أحمد.
أمسك بالورقة بيده المرتعشة، كانت مبللة بالدماء، وخرج من الغرفة بخطوات مثقلة نحو القطاع.
لم يكن قادراً على فتح الورقة في البداية، كان خائفاً مما سيجده بين السطور.
لكن في النهاية، استجمع قوته وفتحها ببطء.
بدأت عينيه بالقراءة، بينما كان قلبه يخفق بقوة مع كل كلمة.
في البداية، قرأ الآية القرآنية:
\"بسم الله الرحمن الرحيم.
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون ) صدق الله العظيم.\"
شعر زين بوخز في قلبه، وكأن أحمد يخاطبه من مكان بعيد، يطمئنه أنه ما زال موجودًا بطريقة ما. استمر في القراءة، وكل جملة كانت تنحت في روحه، تاركة آثارًا لا تمحى:
\"حبيت أبدا كلامي بها علشان ديما تفتكري إني ديما معاكي، ودا مش كلامي دا كلام ربنا سبحانه وتعالى. عاوزك دايما تكوني متأكدة إني هكون معاكي في كل لحظة موجود؛ في قلبك وعقلك، وموجود في ذكرياتنا سوا، موجود في كل مكان في بيتنا. وكمان سيبلك نسخة مني ابننا، مش انتي دايما تقولي إنه نسخة مني؟ خالي بالك من نفسك ومن آسر وكمان أنا بعتذر عن كل حاجة قصرت فيها وعن أمي.\"
كان زين يشعر بدموعه تتساقط على الورقة وهو يقرأ كلمات أحمد، كل جملة كانت تزيد من ثقل الفراق عليه. أكمل القراءة:
\"أنا آسف يا إيماني، أنا عارف إني غلط. أرجوكي سامحيني ما كانش لازم أخيرك بيني وبينهم. بس ما كانش في إيدي حاجة وقتها، الاختيار كان صعب بينهم وبين أمي، وأنا مش هقدر أشوفهم يهينوها وأسكت؛ حتى لو أمي هي اللي غلطانة. هما ما تخلوش عنك زي ما انتي فاهمة، أنا كذبت عليكي وعليهم للأسف. كنت مفكر دا في مصلحتك، لكن لقيت نفسي بضرك وبسلمك لأمي وأختي يؤذوك، وأنا مش عارف حتى أساعدك ولا أجبلك حقك. أيوه عارف إنه الوقت تأخر على الكلام دا وعارف قد إيه هما تعبوا علشانك، بس كمان عارف إنهم أول لما يعرفوا إني بموت مش هيتأخروا عندك لحظة، ولا على ابننا وهقدروا يعملوا اللي ما قدرتش أعمله. سامحيني وقولهم سامحوني.\"
شعر زين بالألم يعتصر قلبه أكثر مع كل اعتراف يخرج من سطور أحمد، وعينيه تتسعان بينما يكمل:. ❝ ⏤ياسمين خاطر
❞ دخل الغرفة ببطء، واقترب من جثمان صديقه الذي كان يرتدي زيه العسكري الملطخ بالدماء. مدّ يده المرتعشة نحو جيب أحمد، وأخرج منه الورقة التي تركها له.
قبل رأس أحمد للمرة الأخيرة، وودعه بدموع حارقة لم تتوقف عن الانهمار.
شعر بثقل الفراق في كل جزء من كيانه، وكأن الروح تغادر جسده مع رحيل أحمد.
أمسك بالورقة بيده المرتعشة، كانت مبللة بالدماء، وخرج من الغرفة بخطوات مثقلة نحو القطاع.
لم يكن قادراً على فتح الورقة في البداية، كان خائفاً مما سيجده بين السطور.
لكن في النهاية، استجمع قوته وفتحها ببطء.
بدأت عينيه بالقراءة، بينما كان قلبه يخفق بقوة مع كل كلمة.
في البداية، قرأ الآية القرآنية:
˝بسم الله الرحمن الرحيم.
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون ) صدق الله العظيم.˝
شعر زين بوخز في قلبه، وكأن أحمد يخاطبه من مكان بعيد، يطمئنه أنه ما زال موجودًا بطريقة ما. استمر في القراءة، وكل جملة كانت تنحت في روحه، تاركة آثارًا لا تمحى:
˝حبيت أبدا كلامي بها علشان ديما تفتكري إني ديما معاكي، ودا مش كلامي دا كلام ربنا سبحانه وتعالى. عاوزك دايما تكوني متأكدة إني هكون معاكي في كل لحظة موجود؛ في قلبك وعقلك، وموجود في ذكرياتنا سوا، موجود في كل مكان في بيتنا. وكمان سيبلك نسخة مني ابننا، مش انتي دايما تقولي إنه نسخة مني؟ خالي بالك من نفسك ومن آسر وكمان أنا بعتذر عن كل حاجة قصرت فيها وعن أمي.˝
كان زين يشعر بدموعه تتساقط على الورقة وهو يقرأ كلمات أحمد، كل جملة كانت تزيد من ثقل الفراق عليه. أكمل القراءة:
˝أنا آسف يا إيماني، أنا عارف إني غلط. أرجوكي سامحيني ما كانش لازم أخيرك بيني وبينهم. بس ما كانش في إيدي حاجة وقتها، الاختيار كان صعب بينهم وبين أمي، وأنا مش هقدر أشوفهم يهينوها وأسكت؛ حتى لو أمي هي اللي غلطانة. هما ما تخلوش عنك زي ما انتي فاهمة، أنا كذبت عليكي وعليهم للأسف. كنت مفكر دا في مصلحتك، لكن لقيت نفسي بضرك وبسلمك لأمي وأختي يؤذوك، وأنا مش عارف حتى أساعدك ولا أجبلك حقك. أيوه عارف إنه الوقت تأخر على الكلام دا وعارف قد إيه هما تعبوا علشانك، بس كمان عارف إنهم أول لما يعرفوا إني بموت مش هيتأخروا عندك لحظة، ولا على ابننا وهقدروا يعملوا اللي ما قدرتش أعمله. سامحيني وقولهم سامحوني.˝
شعر زين بالألم يعتصر قلبه أكثر مع كل اعتراف يخرج من سطور أحمد، وعينيه تتسعان بينما يكمل:. ❝
الوداع: في قطاع 115، كان زين يجلس منهارًا، محطماً بسبب فقدان أحد أقرب أصدقائه، الرائد عماد. دخل الغرفة بسرعة والقلق يأكله، يتحدث بصوت ملهوف ومتسرع:
"في مشكلة يا قائد."
نظر إليه زين بترقب وسأل:
"خير، في إيه يا عماد؟ بلغت أهل المقدم أحمد؟"
رد الرائد عماد بصوت متوتر:
"أيوه يا قائد، كلمت الدكتورة، لكن فجأة مش بترد، وابنها الصغير بيصرخ في التليفون. أنا بحاول أهديه، وبقوله هتصرف، لكن أنا مش عارف أعمل إيه."
تأمل زين الموقف للحظة قبل أن يقول بحزم:
"أنا هبلغ أم المقدم أحمد بنفسي، وأقولها باللي حصل. وهما أكيد هيتصرفوا."
هز الرائد عماد رأسه بالموافقة وقال:
"تمام يا قائد."
........ .............. .........
في بيت والدة المقدم أحمد.
كان الألم يتفجر من كل زاوية.
الأم عايدة بصوت مليء بالصدمة والوجع:
"إنتا بتقول إيه؟ ابني مات؟ إزاي دا حصل؟ ابني مات، يا خالق، ابني مات!"
صوت صراخها يملأ الصالة، يرتد في أرجاء المنزل وكأنه صدى لمأساتها. تحاول السيطرة على نفسها، لكن الألم يجتاح قلبها بلا رحمة.
ابنتها سمر تقف بجانبها، تحاول تهدئتها، ولكن الدموع تملأ عينيها، ويدها ترتعش وهي تمسح دموعها. الكلمة الواحدة التي ترددها أمها، "ابني"، كافية لتجعل العقل يفقد توازنه.
ابنها الوحيد، الذي كان سندها في الحياة، قد رحل. لم يبق لها سوى سمر. الحزن يلتف حولها كالضباب، والخوف من المستقبل بلاه، يجعل الألم الذي تعيشه مضاعفًا. تساؤل مرير يعصف بذهنها: كيف ستجد القوة لتواجه هذا الفقدان؟
في هذه اللحظات القاسية، يتجلى الحزن والصدمة في كلمات الأم عايده وسمر.
الألم يتسلل إلى كل جزء في جسدهما، وكأن الدموع قد جفت، ولم يعد للبكاء معنى.
الأم عايدة وهي تبكي بحرقة:
"اهدى؟ اهدى إزاي؟ ابني، ضنايا مات!"
تستمر الدموع في الانهمار بلا توقف، وصوتها يتقطع من شدة البكاء. بصعوبة، تنطق كلماتها:
"بيقولوا بلغوا مراته، وشكلها تعبت، وابنها بيعيط عليها."
تحاول سمرتهدئة أمها، لكنها نفسها محطمة من الداخل، ومع ذلك تتحدث ببرود ظاهري:
"اهدى يا ماما، و إحنا مالنا بيها؟ إن شاء الله تموت هي وابنها."
الأم عايدة بغضب ممتزج بالألم:
"هي السبب في موت ابني! ما فيش غيرها!"
حاولت سمر تهدئة والدتها، لكنها كانت تعرف أن الألم الذي تشعر به أمها لا يمكن إسكاته بسهولة.
سمر بحزم:
"يلا نروح المستشفى. تعالى، أنا هرن على عيسى، أكيد هو هناك معاه."
سحبت هاتفها وطلبت الرقم بسرعة، صوتها يرتعش وهي تتحدث:
"ألو، أيوه عيسى، عرفت اللي حصل؟ أخويا مات، أخويا يا عيسى..."
رد عليها عيسى بصوت هادئ محاولًا التماسك:
"اهدى يا سمر، إحنا هنجيب الجثمان وجايين علشان الدفن. وكمان في وصية كانت في جيبه، القائد هيسلمها لمراته... دي وصية قبل ما يموت."
لم تستطع الأم عايدة أن تستمع لهذا الكلام بدون أن يزداد غضبها:
"ابني هيجي بيتي، مش هيروح عندها! مش كفاية أخدت شبابه، كمان عاوزة هي اللي تودعه؟ لا، والله ما يحصل، مش هتلمح ابني. هي لازم تموت زيه، أيوه لازم تموت!"
صرخت عايدة بهذه الكلمات وهي تندفع نحو الباب، عازمة على الذهاب إلى منزل ابنها لتنفيذ نيتها المدمرة. كانت سمر في حالة من الذعر، فأغلقت المكالمة بسرعة مع زوجها وركضت وراء والدتها، محاولة إيقافها.
سمر بصوت يائس:
"ماما، رايحة فين؟ استني!"
حاولت سمر إيقاف والدتها، لكنها كانت تعرف أنها تواجه أمًا محطمة، غير قادرة على التفكير بعقلانية.
الأم عايدة بعزم لا يتزعزع:
"ابعدي! سبيني أخلص عليها زي ما خلصت على ابني، ابعدي!"
سمر محاولة استخدام العقل لإقناع والدتها:
"ماما، اهدى. إنتي فاكرة موتها كده بالساهل؟ دي الحرباية اللي بتتحامى فيها، تودينا كلنا في ستين داهية!"
لم تستمع الأم عايدة لكلام ابنتها، وغادرت المنزل بسرعة، مصممة على تنفيذ خطتها. فتحت الباب و اندفعت على السلم، تملؤها مشاعر الانتقام والغضب.
الأم عايدة وهي تنزل السلم بسرعة، بعزم لا يتزعزع:
"ابعدي يا سمر! خلاص اللي كانت بتحتمي فيهم راحوا، مش هنا، ولازم أخلص عليها! ابعدي سبيني!"
كانت عايدة تركض نحو الخارج، وعندما وصلت إلى الشارع، أوقفت سيارة أجرة بسرعة. ولكن قبل أن تركب، أوقفتها ابنتها سمر.
سمر بحزم:
"استني! هاجي معاكي ومش هسيبك."
ثم نظرت إلى السائق بسرعة وأمرت:
"اطلع يا اسطى!"
السائق مستفسرًا:
"على فين؟"
سمر بهدوء مصطنع:
"العنوان... ٠٠٠٠٠٠٠٠٠"
السائق:
"حاضر."
طوال الرحلة، كانت عايدة تغلي من الداخل.
الغضب كان يعتمل في صدرها كبركان على وشك الانفجار.
الطريق بدا طويلًا رغم أنه لم يأخذ سوى بضع دقائق. أخيرًا، توقفت السيارة أمام المنزل المقصود.
هرعت عايدة للخروج من السيارة، واندفعت نحو الباب، تدق عليه بقوة.
.............
في الداخل، كان آسر يبكي بجوار جسد والدته الساكنة، محاولًا إيقاظها، لكن بلا جدوى.
آسر بصوت مملوء باليأس:
"ماما، فوقي! ماما، أرجوكي، اصحي! ماما... يا رب، يا رب ساعدني..."
سمع الطفل صوت طرقات عنيفة على الباب، فارتعد وهرع نحو الباب، يسأل بخوف.
آسر بتردد:
"مين؟"
عايدة بصوتها الحازم، ولكن مليء بالحنق:
"افتح يا آسر!"
عايدة كانت تتحرك بعزمٍ لا يُثنى، وكأن الغضب الذي يعتمل في صدرها قد أزال أي أثر للرحمة من قلبها.
لم تعر أي انتباهٍ لصوت حفيدها الصغير آسر، الذي كان يتوسل إليها بدموعٍ تسيل على وجهه الصغير كالشلالات.
وجهه البريء الذي لم يعرف سوى حب أمه وأبيه، بات مشوشًا بين الحقائق القاسية والأمان الذي ظن أنه لا ينقطع.
آسر بنبرةٍ مليئة باليأس:
"نانا، ماما مش بترد عليا."
لكن عايدة، التي تحولت إلى كتلة من الغضب، دفعت الصغير جانبًا بقسوةٍ لا تناسب طبيعة الجدة، وردت بصوتٍ قاسٍ: "عنها ما ردت! هي السبب، قتلت ابني."
كان آسر يحدق فيها بعينيه المليئتين بالدموع، وهو لا يدرك كيف لأحد أن يلوم أمه على موت أبيه. في عقله الصغير، كان من المستحيل تصور أن والده قد رحل بالفعل.
رفض بعنادٍ طفولي أن يصدق تلك الحقيقة المريرة، وبدأ يردد بصوتٍ متهدجٍ من فرط البكاء: "لا، لا، بابا مش مات، بابا حي."
سمر، التي كانت تراقب المشهد بقلقٍ بالغ، شعرت بأن الغضب الأعمى الذي تملَّك أمها قد يدفعها لفعل شيءٍ فظيع. كانت تدرك أن إيمان، زوجة أخيها، لا تستحق هذه المعاملة، مهما كانت الأمور معقدة بينها وبين عائلتها. لكنها أيضًا كانت غارقة في ألمها الخاص، مما جعلها عاجزة عن اتخاذ موقف حاسم.
قالت عايدة بصوتٍ يخلو من الرحمة:
"سمر، هاتي ميه فوقيها، مش هسبها تموت بساهل كده. يلا!"
سمر، رغم ترددها، أطاعت والدتها. ذهبت وأحضرت دلواً من الماء، وبينما كانت تسحبه، كانت تنظر إلى إيمان بكرهٍ شديد، مشاعر مختلطة بين الغيرة والغضب، والحزن الذي لم تستطع تفسيره. أفرغت الماء على وجه إيمان بقوة، وهي تضربها بوحشيةٍ غير مبررة، حتى بدأت إيمان تستعيد وعيها تدريجياً.
حينما فتحت إيمان عينيها، كانت غير مدركة تماماً لما يحدث، لكنها شعرت بآلامٍ مبرحة في وجهها وكتفيها.
مع كل ضربة تلقتها، كانت تصرخ بصوتٍ ضعيف، محاولةً فهم ما يجري:
"آه... في إيه؟"
عايدة، بنبرةٍ مليئة بالاحتقار، صاحت:
"في إنك قتلتِ ابني! إنتِ السبب في كل حاجه!"
كانت كلمات عايدة كالسكاكين، تغرز في قلب إيمان الجريح بالفعل.
كيف لها أن تكون السبب في وفاة من أحبته بكل جوارحها؟ كانت تصرخ في وجع الفراق، بينما دموعها تسيل بغزارة.
ردت إيمان، رغم الألم الذي يعصف بها:
"لا، لا، أحمد مامتش، أحمد عايش."
لكن سمر قطعت أملها بنبرة باردة:
"خلاص مات، انتي السبب في كل حاجه... لازم تموتي زيه."
كان آسر يشاهد في رعبٍ، غير قادر على فعل شيء. كل ما أراد هو أن يحمي أمه، لكنه كان صغيراً جداً وضعيفاً جداً أمام غضب جدته وعمته.
ركض نحوها بسرعة، يحاول إنقاذها بكل ما لديه من قوة، وهو يصرخ منادياً:
"ماما لا، سيبي ماما!"
حينما حاول التدخل مرة أخرى، أوقفته عايدة بقسوة، وهي تمسك به وتخاطبه بنبرة تهديد:
"ابعد كده! لازم تموت زي ابني."
صرخ الصغير بكل قوته، يمسك بقدم جدته ويتوسل إليها بدموع تنهمر بغزارة بصوتٍ مرتعش:
"أرجوكي سيبي ماما يا نانا، أرجوكي..."
ولكن لم يكن هناك مكان للرحمة في قلب عايدة تلك اللحظة.
كانت قد تحولت إلى شيطانٍ لا يعرف الرحمة.
بينما كانت سمر تضرب إيمان بعنفٍ متزايد، حتى كسرت ساقها، و عايدة تمسك رأسها وتضربه بالأرض مرارًا وتكرارًا حتى سال الدم.
رأى آسرالدم يتدفق من جسد أمه، لم يستطع فهم ما يحدث. احتضن نفسه، وجلس يبكي بحرقة، جسده يرتعش من شدة الخوف والبرد.
بعد لحظاتٍ من الصمت المشوب بالتوتر، همست سمر: "ماتت يا ماما... مافيش فيها نفس."
الصدمة بدأت تتسلل إلى ملامح عايدة، حيث تحول الغضب إلى قلقٍ، وبدأت تشعر بأنها تفقد السيطرة على ما فعلته.
تحول الشيء الذي تملكها إلى شعورٍ بالذنب الذي بدأ يلتهمها.
عايدة بنبره مختلطه بالخوف والغضب:
"اسكتي، خليني أفكر..."
كانت تحاول أن تخرج من هذه الفوضى، ولكن كيف؟ لم تعد تعرف ماذا تفعل. نظرت إلى آسر، ذلك الطفل الذي فقد للتو كل شيء، وبدلاً من أن تشفق عليه، تملكتها فكرة أخرى مرعبة.
عايدة بصرامةٍ وهي تمسك آسرمن ذراعيه:
"عارف لو حد عرف باللي حصل هعمل فيك إيه؟ هقتلك زيها، سامع؟"
ارتعد آسر من الخوف، لم يكن لديه خيار سوى أن يطيع. تلعثم وهو يقول:
"حاضر، مش هقول، حاضر، ماما... ماما."
لم تكن لديه القوة ليعترض أو يقول شيئًا آخر. كان يهز رأسه بالموافقة على كل شيء تقوله جدته، معتقدًا أن هذا الكابوس سينتهي قريبًا.
عايدة بنبرة باردة:
"لما حد يسألك، تقول إنها وقعت من على السلم وهي بتجري لما عرفت اللي حصل لبابا، سامع؟ وإحنا جينا وطلعناها هنا الشقة. مفهوم كلامي ولا لأ؟"
آسر بهمسٍ يكاد لا يُسمع: "حاضر."
سمر كانت تهتز رعبًا، ودموعها تنهمر بلا توقف، لكنها لم تكن دموع الندم، بل كانت دموع الخوف. كانت تدرك أن ما حدث الآن هو كارثة لا يمكن الرجوع عنها.
تضرب وجهها بيديها المرتجفتين وهي تبكي، وتلعن اللحظة التي سمحت فيها لهذه الأحداث أن تتطور. لم تكن تندب مقتل إيمان بقدر ما كانت تندب نفسها ومصيرها الذي أصبح على المحك.
سمر بنبرة مختنقة ومليئة بالذعر:
"العقارب هتعرف... هيسألوا، وهما مش هيسكتوا... هنعمَل إيه؟"
كانت كل كلمة تخرج من فمها وكأنها محاولة بائسة للتشبث بأي أمل، لكنها كانت تدرك في أعماقها أن الأمور قد خرجت عن السيطرة.
عايد، التي كانت تواجه انهيار ابنتها، لم تجد شيئًا لتهدئتها سوى كلمات لا تؤمن بها هي نفسها.
عايدة بصرامة زائفة:
"اسكتي بقا، هما خلاص مش هنا."
لكن سمر، التي كانت دائماً الأكثر هشاشة بينهن، لم تكن لتقتنع بسهولة. ردت بنبرة يائسة:
"إنتِ عمالة تقولي كدا... وأمال هما فين؟"
عايدة، وهي تجلس على الأريكة، تحاول أن تهدئ من روع ابنتها، بينما كانت هي بحاجة إلى التهدئة أكثر منها. أخفت وجهها بين يديها للحظة، ثم رفعت رأسها ببطء وقالت بصوت خافت:
"سافروا"
كانت تلك الكلمة تحمل في طياتها كل الأكاذيب التي كانت عايدة تحاول أن تقنع بها نفسها قبل الآخرين.
نظرت إلى آسرالصغير وهو يبكي بجانب جثة والدته، وأدركت أن عليها التصرف بسرعة.
عايدة وهي تحاول الحفاظ على هدوءها:
"بره مصر. وعمال ما يعرفوا وييجوا تكون إدفنت. جوزك ضابط وهيعرف يلم الموضوع... وهي مالهاش أهل علشان بيسألوا عنها ولا حاجة. إحنا أهلها."
سمر، التي كانت تصارع بين الخوف والعجز، قالت بتردد: "طب وده... هنعمل فيه إيه؟"
عايدة نظرت إلى حفيدها الصغير بعينين جافتين من أي شفقة، وقالت ببرود:
"سبيه. انتي مش شايفة هو عامل إزاي؟ مش هيعرف ينطق بكلمة."
لكن سمر، التي كانت تدرك جيدًا أن الأمر لن ينتهي بهذه البساطة، لم تستطع كتم مخاوفها:
"طب هما لما يجوا... هيأخدوا معاهم. هتعرفي تقولي لا؟"
ثم تابعت بصوتٍ مرتعشٍ من الرعب:
"واهاه... ولو الحية الكبيرة هي اللي طلبت، هتعرفي تعترضي؟"
شعرت عايدة بأن الخوف يتسلل إلى قلبها، فأخذت تقف ببطء، وقد بدا عليها التردد لأول مرة.
لم تعرف ماذا تفعل، تلك اللحظة التي ظنت أنها تسيطر فيها على كل شيء تحولت إلى لحظة رعب وارتباك.
تذكرت ابنها الذي لم يتم دفنه بعد، وغمرت قلبها مشاعر متضاربة من الحزن والغضب والخوف.
عايدةبصوت متهدج:
"اسكتي بقا... مش ناقصة، أنا ركبي بتخبط في بعض."
سمر، التي بدأت تشعر بالندم لأول مرة، قالت وهي تبكي بحرقة:
"أنا غلطانة إني طاوعتكِ يا ماه... آه."
عايدة، وقد حاولت استعادة سيطرتها على الوضع، صاحت بغضب مكبوت:
"استكتي يا بنت بطني انتي! معايا في كل حاجة من الأول. من يوم ما هي دخلت حياة أخوكي، وكل المصايب عملناها سوى. مش هنيجي دلوقتي ونتحاسب!"
ثم وجهت أمراً حازماً إلى سمر: "يلا اتصلي على جوزكِ وعرفيه باللي حصل، علشان يتصرف. يلا!"
كانت سمر ترتجف وهي تبحث عن هاتفها. كانت تعرف أن هذه المكالمة ستقرر مصيرها ومصير أمها وحفيدها. ولكنها كانت مضطرة، لا خيار لها.
قامت سمر بتنفيذ ما أمرتها به والدتها، وهي تبكي بحرقة. كانت الدموع تنهمر من عينيها، ولكنها لم تكن دموع الحزن فقط، بل دموع الرعب من المجهول الذي ينتظرها.
سمر بصوتٍ مختنق:
"هتصل أههه... لما نشوف، استر يا رب."
أمسكت الهاتف بيدين مرتعشتين، وضغطت على الرقم المألوف لها. دقّات قلبها كانت تتسارع مع كل ثانية تمر، حتى جاء صوت عيسى عبر الخط، مليئًا بالقلق والغضب.
سمر بنبره مرتجفه:
"الو، أيوه يا عيسى، حصل... اعمل....... اية......"
عيسى بلهجة غاضبة:
"إنتِ هببدتي إيه؟..... الله يخرب بيتك."
سمر، وهي تحاول السيطرة على صوتها:
"عيسى، اسمعني."
لكن صوت عيسى الغاضب ارعبها اكثر وهو يقول:
"مش عاوز أسمع. اتكتمي. اقفلي.... وخليني أشوف هتصرف إزاي. هي لسه فيها الروح؟"
سمر، وقد شعرت بشعور اليأس يتسلل إليها:
"لا، هي ماتت أكيد. باين كده، مش عارفة."
عيسى، بعد لحظة من الصمت المتوتر:
"أنا هبعت دكتور على البيت يكشف عليها. وانتي وامك تحطوها على السرير، وتنضفوا الشقة. وتحطوا من دمها على السلم، علشان الكلام يكون مظبوط. لو لسه عايشة، إحنا اللي هنموت، يلا اقفلي."
أغلقت سمر الهاتف، والقلق يعصر قلبها. توجهت إلى والدتها، التي كانت في حالة من التوتر الشديد.
سمر، وهي تحاول استعادة بعض الهدوء:
"تمام، تمام."
عايدة، بنبرة تحمل القلق:
"قالك إيه؟"
سمر، وهي تنفث نفسًا عميقًا: "قال لي نشيلها ونحط من دماءها على السلم، وهو هيبعت دكتور ليعرف يتصرف."
عايدة، وقد بدأت تتولى زمام الأمور مجددًا:
"يلا، شيلي معايا."
بدأت الأم وابنتها في تنفيذ التعليمات، لكن كل حركة كانت محملة بالرهبة والخوف من العواقب، وكل لحظة تمر كانت تشعرهما بأنهما يغوصان أكثر في مستنقع من الكوارث التي لا مفر منها.
أنا أتذكر كل شيء، كأنه حدث الآن. أتذكر نانا وعمتي وهما يحملان أمي من الصالة ويدخلان بها الغرفة. أتذكر كلامهم وكل ما فعلوه؛ لم أكن قادرًا على فعل أي شيء أو مساعدة أمي.
حتى أبي يقولوا لي انه رحل عن هذه الحياه:
“ماذا يمكنني أن أفعل؟” “من سيأساعدني؟” وأنا غير قادر حتى على التحدث، بقيت أبكي بدون صوت، وجسدي يرتجف.
أرى نانا تخرج من الغرفة، وراءها عمتي سمر تأتي نحوي وتقول بصوت حاد وعيون حمراء:
" قوم معايا يلا"
لم اتحرك وبقيت مكانى انظر لها بخوف، وزاد ارتجاف جسدي،فصاحت جدتى مره أخري بحده أكبر:
"أنا بكلمك أقوم"
.. تسحب الصغير بقوة من الأرض، عيناه لا تفارق دم أمه، جسده يرتجف بقوة، ولا يستطيع الرد عليها أو الْتِفاته إليها.
تصرخ بقوة فيه ولكن لا يوجد رد.
عند سماع طرق الباب، تتجه سمر نحوه فورًا، تنظر من العين السحرية أولًا لتعرف هوية الطارق، ثم تنظر إليها و تخبرها، وهي تهم بفتح الباب،وصوت منخفض تخبر جدتي:
"الدكتور جاه، يلا سبيه دلوقتي"
تلف للباب والترحاب المصاحب بالبكاء.
"اتفضل يا دكتور، الحقها الله يخليك، دى هتموت، دمها سايح جوه، حبيبتي يا ايمان"
تخاطبه وهي تركض أمامه نحو للغرفة، مع عباراتها المتساقطه بلا توقف.
يقف على باب الغرفه عندما لمح هذا الصغير الساكن في حضن جدته؛ كانت تمثل الحزن والتعاطف معه، والرحمه لا تعرف مكان فى قلبها،
وصوت نحيبها يعلو بكلمات تواسيه بها:
"حبيبي يا بنى، أمه وأبوه في يوم واحد، يارب، بس ي حبيبى بس، نانا جمبك، ومش هتسيبك أبداً، يا ابن الغالى "
يدخل الطبيب إلى الغرفة مع سمر، وعندما تلتقط عيناه تلك الراقدة على الفراش، يصرخ في سمر بقوة، وهو يجري لمساعدتها:
"ليه ماحدش حاول يوقف النزيف، دمها اتصفى"
تكلمت سمر بخوف وهي تقترب منه:
"يعني إي يا دكتور"
نطق بسرعه دون تردد وصوت ثابت:
"البقاء لله"
تلطم وجها وتمثل البكاء والحزن بمهاره وهي تخبره باكاذيب:
"يا حبيبتى، احنا لما جينا لقناها كدا وشلناها"
"وكلمنا عيسى، كلمك على طول وما كناش عارفين نعمل،
الصدمه صعبه أوى يا دكتور،
أخويا ومراته فى يوم واحد، دي يا حبت عينى، جينا نشوفها بعد ما عرفنا الخبر موت اخويا؛ مرضناش نسبها لوحده؛ جينا لقنيها كدا .
كانت لوحدها هى وابنها، حبيبى بره شاف امه ودمها بتصفى"
أنهت حديثها وهي تركض نحو إيمان الراقدة على الفراش عاجزة عن الحركة والقوة؛
احتضنتها وهي تبكي.
غادر الطبيب بعد أن أعطى الحقنة لإيمان، مع استغراب سمر لما فعل، وتركهم بعد ذلك وانصرف إلى الخارج، وعند نزوله إلى الأسفل، تحدث مع عيسى عبر الهاتف.
بنبرة خبيثه ولكنه حاول أن يكون طبيعى حتى لا يكشف أمره:
"الو أيوا عيسى باشا، أنا رحت البيت بس للاسف،
وصلت متاخر، البقاء لله"
سمع عيسى حديثه والخوف تسلل لقلبه، كان أن يتحدث بهدوء لكى لا يلفت الانتباه فقال بصوت منخفض:
"جهز كل حاجه للدفن يا دكتور،
علشان انهارده هدفنها هى وزوجها"
أجابه الدكتور بثبات:
"لا حول ولاقوة إلا بالله، حاضر هجهز كل حاجه، سلام"
رد عليه عيسى ثم اغلق الهاتف بسرعه:
" سلام "
جلس يفكر ما يفعل حسب خطه وذهب للقطاع ليخبر زين بوفاة إيمان أيضاً.
.............
في الأعلى داخل الشقه تحدثت عايده وهي تقترب من ابنتها
بصوت حاد لكن لم يخلو من الخوف:
" يلا اجهزى، و هاتى آسر معاكى، البلد عندنا عرفت بموت ابنى ومراته، وكل جاى يعزى ويحضر الدفن"
سمر بإرتباك:
"وانتى هتقبلى بالوصيه اللى ابنك عملها؟ "
نطقت عايده بغضب مخالط بالخوف والحزن:
"ايوه لازم أقبل، علشان يدفنوا مع بعض قبل ما هما يوصلوا، لازم قبل ما يجوا تكون، إدفنت
يلا ٠العربية تحت وفى ست جاية تغسلها،
والدكتور، هيجيب تصريح الدفن. "
وقفت سمر مقابله لوالدتها وتحدث برعب سكن قلبها:
"هما مش هيشكوا فى حاجه. "
تحاول أن تطمئن ابنتها،لكن تعلم أن القادم سكون هلاك للجميع:
"عيسى هيظبط كل حاجة، أهم حاجة،جينا لقناها على السلم سايحة في دمها،
وكويس أن جارتها مش هنا ولا كانت هتبقا مصيبه يلا"
أكملت حديثها وقامت لتفتح الباب.الذي كان يدق بقوه.
'''فتحت جدتي الباب، وإذ بامرأة غريبة الشكل تدخل الشقة،رأيتها تدخل الغرفة التي فيها أمي، ومكثت هناك وقتًا طويلًا، ثم خرجت.
وجدتي وعمتي يبكيان ويعانقانني،وبعد قليل دخل أربعة رجال كبار، ومعهم صندوق دخلوا به غرفة أمي.
ثم خرجوا وهم يحملون الصندوق الأربعة.وعندما خرجوا، أمسكتني جدتي من يدي وقالت بحزن:
"قوم يا حبيبى، يلا"
عندما تفوهت بتلك الكلمات، هرولت بكل قوتي نحو غرفة أمي وأنا أبكي، أمسح دموعي وأغمض عيني ثم أفتحها مجددًا، وأكذب عيني عما رأيت وما حدث أمامي.
ظللت أبحث عن أمي في الغرفة ولم أجدها، فظللت أصرخ، وجدتي تحتضنني وتأخذني وتنزل بي. وأنا أصرخ محاولًا دفعها عني، أريد الصعود لأبحث عن أمي، أين ذهبت أمي؟ نزلت إلى الأسفل فوجدت الرجال يضعون الصندوق في سيارة الإسعاف، وكثير من الناس تحت المنزل، والعديد من النساء يأتين إلى جدتي ليحتضنها، ويقلن:
‘تشددي يا أم أحمد، الله يصبر قلبك يا حبيبتي، وها هو الله كرمك بابنك الغالي، الله يعينك.’
وعايدة تصرخ بقوة:
‘حبيبي يا ابني.’
'''كثير من الناس كانوا يتحدثون ويحتضنون جدتي وعمتي، هؤلاء كانوا جيران جدتي، أتوا ليقفوا معها.
ركبنا السيارة وظللنا نسير لمدة طويلة، هذا ليس منزل جدتي، هذا المكان الذي كنت أذهب إليه مع أمي، نعم، أنا أعرف هذا المسجد، كانت أمي تأخذني كل جمعة لنصلي العصر فيه، ونذهب لزيارة قبر صديقاتها، كانتا اثنتين، قالت أمي إنهما عند الله، لكن ماذا نفعل هنا، وأين أمي، ولماذا كل هؤلاء الناس؟
لما نزلت من السيارة وجدت أصدقاء أبي، كانوا يرتدون ملابس الجيش مثله.
يعني أبي هو أيضًا هنا، تركت جدتي وركضت نحو القائد زين، أنا أعرفه. كان أبي يقول عنه إنه أخوه.
أبي قال لي إنه إذا احتجت شيئًا وهو غير موجود، أذهب إلى القائد زين، فهو صديق عمره وأبي الثاني.
لم أفكر في شيء سوى أن أحتضنه وأبكي وأسأله عن أبي، هل رآه، أين هو؟"
نطق ببكاء مريب وجسد مرتجف:
" بابا"
.. ضمه زين بقوة ويحاول تهدئته بكلمات مواساة تحمل الحب والعطف:
" اهدى حبيبى، أهدى أنا هنا معاك، ومش هسيبك ابدا، أنا موجوده مش هتخلى عنك، انتا بطل، صح حبيبى"
'''كان يتحدث وهو يحتضنني بقوة، وأنا كنت أهز رأسي مع كل كلمة. ثم أبعدني عن حضنه وقال لي بصوت ثابت لكنى رأيت الدموع في عيناه:
''أنت عارف بابا فين دلوقتي؟''
حركت رأسى ونطقت بحزن:
''بيقولوا إنه توفي، سمعت نانا وهي تقول كدا.''
وبكى بكاءً يحرق القلوب، بكاء اليتم والحرمان.
ثم أخذني في حضنه مرة أخرى وقال:
''والدك ذهب إلى الله، لكنه سيظل حيًا بداخلنا، لن يغادرنا أبدًا.''
نطق بصوت متشنج من البكاء:
''وماما كمان؟''
... كان يشعر بالشفقة على الصغير، فقد مر بما يمر به الآن، وهو فقدان السند والحرمان من والده.
نادت على أمي بخوف:
''ماما.''
أخذني في حضنه وحملني، ودخلت معه المسجد، وجدت صندوقين؛ الأول رأيته يخرج من شقتنا، والثاني مغطى بعلم مصر. مشيت معه حتى الصندوقين، وقال لي وهو يجلس أمامى ويضع يداه على أعلي ذراعي:
"عاوز توداعهم؟''
نطق بصوت مرتجف:
''نعم.''
هززت رأسي، وهو فتح الصندوق الأول وكان به والدي، احتضنته وقبلت رأسه، كان يرتدي ملابس عمله وكانت ملطخة بالدماء. عندما رأيته تذكرت أمي وهي ملطخة بالدماء أيضًا، تراجعت للخلف فجأة وأنا أضم رجلي وجسدي يرتعش.
عم زين جاء وأمسكني واحتضنني.
وأغلق أصدقاء والدي الصندوق مرة أخرى، ثم بدأ الشيخ بالصلاة وقراءة الدعاء، وأخرجني عم زين إلى خارج المسجد حيث كانت جدتي.
وعندما تركني معها، أغمي علي.
امرأة من أهل البلد:
'حبيبي يا ابني، الله يكون في عونك.'
عايدة بحزن وألم حقيقى تصرح:
'ابني راح، آه، ابني.'
كانت تبكي بصدق على فراق ابنها، من يراها الآن بهذا الضعف، لا يصدق ماذا فعلت في الساعات السابقة.
انتهت صلاة الجنازة وأخذوا الجثمان إلى السيارة ليتم الدفن.
تقدم زين من عايدة، وهو يعزيها ويصبرها، ويحدثها عن الوصية ليتم الدفن.
القائد زين:
'البقاء لله، أعلم أنه ليس الوقت المناسب، لكن في وصية يجب أن تُسلم لزوجة المقدم أحمد، لكن هي كمان...'"
... توقف الكلام في صدره ولم يعرف ماذا يقول؛ فقد كان حزينًا فعلًا على وفاة صديقته وصديقه، دموعه خانته وسقطت على خده، مسحها بسرعة قبل أن يلاحظها أحد.
كانت ترغب في انتهاء اليوم بسرعة، فقاطعته في الكلام بسرعه وقالت:
" عرفه بالوصية يا ابنى، موافقة إن ابنى يدفع مع مراته"
القائد زين أجاب بثبات ولكن شعور القلق يمتلك قلبه ولا يعرف السبب:
'تمام.'
ثم ذهب نحو السيارة وأخذ الجثمان إلى المقابر، وهو محتار والقلق ينهش قلبه مما يحدث، لا يدري سبب مواقف صديقه تجاه هذه الوصية ولماذا هنا، لماذا ليس في مقابر العائلة.
_وصف زين ما رأى:
'وصلت إلى المقابر، المسافة لم تكن بعيدة، دقائق معدودة فقط، وعندما وصلت وجدت مكانًا كبيرًا، مليئًا بالأشجار، وبه بوابة كبيرة، وكان هناك حارس يجري نحونا.'
الحارس بحيره وقلق:
"خير يا بيه،مين اللي مات!"
القائد زين أجاب:
'أنت الغفير هنا؟'
الحارس والقلق ياكله من الداخل وعلامات الصدمه تحتل وجه:
'أيوه يا بيه، أنا المسؤول هنا.'
القائد زين بحيره وخو ينظر حوله:
'فين مقابر ورد الياسمين؟'
سأل الحارس بأستغراب:
"خير يا بيه، مين مات، حصل حاجه، الدكتورة كانت هنا يومين، فى اى"
القائد زين بحزن:
'الدكتورة إيمان وزوجها المقدم أحمد توفيا، وفي وصية بأن يُدفنوا هنا، افتح الباب،بسرعه.'
الحارس بطاعه وحزن:
'حاضر يا بيه، لا حول ولا قوة إلا بالله، كانت هنا من يومين، لا حول ولا قوة إلا بالله، تفضل يا بيه.'
ثم فتح الحارس الباب."
"وقف الجميع في ذهول من المشهد؛ فهناك عدد كبير من المقابر، ثلاثة عشر مقبرة. اثنتا عشرة مقبرة جنبًا إلى جنب، وواحدة أمامهم. وعلى كل مقبرة مكتوب اسم، لكن هناك مقبرتين مغلقتين، والباقي مفتوح.
قال القائد زين في حيرة:
"إيه دا؟ أنا مش فاهم حاجه، احنا هندفنهم فين، أي مقبرة من دول؟''
أجاب ضابط بصاح:
''يا قائد، في مقبرة مفتوحة مكتوب عليها اسم الدكتورة إيمان.''
اقترب زين منها وتساءل:
" يعنى دى اللى هتدفن فيها، طب وأحمد"
دخل الضابط المقبرة ونادى على زين:
''تعال وشوف يا قائد، المقبرة مقسمة إلى أجزاء."
ذهب زين وتحقق مما قاله الضباط.
وافق زين وتم الدفن. بدأوا بدفن أحمد في الجزء الأيمن من المقبرة، وبعد ذلك دُفنت إيمان بجواره.
نظرات الاستغراب والدهشة تعلو وجوه الجميع؛ فكل مقبرة مقسمة إلى أربعة أجزاء، وهناك اثنتا عشرة مقبرة بجوار بعضها، مقبرة إيمان في المقدمة.
وتلك الشجرة الكبيره على يمينها تحمل اسم الجاسر.في جاسر يكون؟
العديد من الأسئلة بلا إجابة تدور في عقله الشارد ولا يعرف لها جوابًا.
كان المكان غريبًا يثير فضوله، مليء بالغموض، يبدو من الخارج كقصر لا كمقبرة، ومن الداخل يوجد الكثير من الأشجار والمقاعد والمصاحف، كل هذه الأشياء عددها ثلاثة عشر، اثنتا عشرة بجوار بعضها، وواحدة في المقدمة. الفضول يسيطر عليه، يريد معرفة كل شيء.
فاق من أفكاره على صوت الرائد عماد وهو ينادي عليه:
''يا قائد، انت روحت فين؟ كنت بنادي عليك من فترة، الرجال خلصوا، مش هقرأ الفاتحة؟''
'أجاب القائد زين:
''تمام.''
وبدأ يقرأ ويدعو لهم، وبعد ذلك كان يخرج لكنه لاحظ شيئًا غريبًا، اتجه نحوه وطالع اللوائح الموضوعة على الاثنتي عشرة مقبرة، كلها مفتوحة ما عدا اثنتين مغلقتين، وبها نفس التقسيمة الأجزاء من الداخل، وعلى كل مقبرة لوحة مكتوب عليها الاسم، وتاريخ الميلاد، ولقب. وما زاد فضوله أكثر، أنها كلها بنفس الاسم (ياسمين) ونفس تاريخ الميلاد،3/8 لكن الألقاب مختلفة. حار بين الألقاب، ولم يكن هناك أسماء محافظة، لكن كان مكتوبًا بجانبها اللقب.
تنهد كثيرًا ووضع يده على شعره وقال:
"إيه الغبطه دي بقا؟أكيد دول هما الي قال لي أحمد عليهم، ووصاني أقول لهم أن يحافظوا على إيمان، وأنه كان غصبًا عنه، وأن يسامحوه، وأقول لهم إن ابنه على قيد الحياة. أنا مش فاهمه حاجه، ايه المفروض اعمله ؟ و ازاي اعرف طريقهم؟ وهو قال لي أنه بِعد عنهم من خمس سنين، يا رب.''
... كان محتار بالفعل، وشعر أن رأسه سينفجر. صديقه أوصاه على ابنه وزوجته، زوجته التي توفيت في نفس اليوم. 'ماذا سأقول له؟ لم أستطع الحفاظ على الأمانة، ولا على ابنه.'
تذكر فجأة:
''أه، صحيح، أنا نسيته تمامًا، فضولي أخذني ونسيته.''
خرج وقبل أن يخرج من الباب، التفت مرة أخرى إلى المقابر وقال:
'أكيد هرجع تاني هنا، لازم اعرف كل حاجة، أنتم مين يا ورد الياسمين؟'
ثم خرج."
... بعد خروج زين من المقابر، وقف الهواء البارد يتسلل إلى عظامه، ليحمل معه عبق الموت والحزن الذي خيم على المكان. التقى بأصدقائه والضباط المتواجدين بالخارج بجوار عائلة المقدم أحمد.
مشاعر الأسى والوجوم كانت تسكن وجوههم، كأنها مرآة تعكس الفقد الكبير الذي اجتاح الجميع.
بينما كان يبحث بعينيه عن الحارس الذي اختفى دون أثر، كانت نبضات قلبه تتسارع، ليس فقط بسبب الحزن، ولكن لشعور غير مريح يتسلل إلى صدره.
تقدم زين نحو والدة المقدم أحمد، السيدة عائدة، التي كانت جالسة بحزن على مقعد خشبي بجوار المقابر في الخارج.
كانت عيناها مغرورقتين بالدموع، ووجهها شاحب كأنه مرآة لروحها المكسورة. وقف أمامها زين، متمالكًا دموعه التي كانت على وشك الانفجار، ثم تحدث بصوت مبحوح، مليء بالأسى:
"إنا لله وإنا إليه راجعون، البقاء لله، شدي حيلك، كوني قوية. أنا دائمًا موجود إذا احتجتِ أي شيء. أحمد كان أكثر من أخ ليا، هو موصيني عليكي وعلى ابنه ومراته. بس هي دلوقتي معاه زي ما كانوا بيتمنوا... الله يرحمه."
نظرت إليه عائدة بعينين مليئتين بالألم والفراغ، لم تكن قادرة على النطق في البداية، كأن الكلمات خانتها، لكنها جمعت شتات نفسها وأجابت بصوت مخنوق بالدموع:
"تسلم يا حبيبي... أحمد كان بيقول إن عندك كل خير، لو احتجت أي حاجة هقولك. إنت دلوقتي مكان ابني."
ثم احتضنته بقوة، كأنها تحاول أن تستمد منه بعض القوة التي فقدتها مع رحيل ابنها. كان صوت بكائها يعلو تدريجيًا، نبرتها الحزينة تخترق شهقاتها، ودموعها المتساقطة لا تتوقف، تسيل على كتفه دون مقاومة.
شعر زين بثقل الحزن الذي تحمله بين ذراعيه، وابتعد عنها قليلًا، لكنه ظل ممسكًا بيدها، وكأنه يريد أن يكون لها دعامة في هذا الوقت العصيب. بادرها بالسؤال بصوت يحاول أن يكون هادئًا رغم اضطرابه الداخلي:
"آسر عامل إيه دلوقتي؟"
تنهدت عائدة بصعوبة، وابتسامة حزينة شقت طريقها بين دموعها. ردت بصوت متهدج:
"حبيبي من أول لما فاق وهو مش بيتكلم خالص، خايفة عليه أوي ليروح مني زي أبوه... هو اللي فاضل لي من ريحته."
كان زين يعرف أن الألم الذي تتحدث عنه ليس فقط ألم الفقد، بل خوف من المستقبل، من أن تظل وحيدة. رد عليها بحزم وهو يحاول أن يزرع الطمأنينة في قلبها:
"هو مسؤوليتي لحد لما أنفذ الوصية وأسلمه لدكتورة."
في تلك اللحظة، ساد الصمت، وكان الصمت أكثر تعبيرًا من أي كلمات.
شعرت عائدة بقلق شديد، انعكس على ملامحها، التي بدأت تتحول إلى اللون الأصفر، وكأنها تجرعت سُم الخوف فجأة.
رفرفت شفتاها بالكلمات دون أن تخرج، وحين تمكنت من الحديث، كانت كلماتها متهدجة ونبرتها قلقة:
"دكتورة إيه يا بني؟"
نظر إليها زين بنظرة مشفقة، محاولًا أن يخفف من وطأة الأمر، لكنه كان يعلم أن الحقيقة ستحطمها أكثر:
"كنت مع أحمد في المهمة عندما أصيب، وكنت أقرب شخص ليه. أوصاني بأن أعتني بابنه وزوجته وأن أحاول أصلح سوء التفاهم اللي حصل بينه وبين 'ورد الياسمين'. ما فهمتش منه حاجة وقتها، بس هو قال لي."
بدت الحيرة على وجهها، ولم تعرف إن كانت تريد الاستمرار في طرح الأسئلة أم أنها تخشى الإجابة.
كانت تلك اللحظة الفاصلة التي أدرك فيها زين أن هناك شيئًا ما خفيًا، شيئًا أكثر من مجرد حزن أم فقدت ابنها.
بدأت عينا زين تدمعان وهو يسترجع تلك اللحظة القاسية، وكأنها تعاد أمامه بكل تفاصيلها. كان الألم واضحًا على وجهه وهو يروي الحادثة لعائدة.
كانت تجلس أمامه، تنتظر الكلمات التي ستنهي تلك الغموض الذي يحيط بموت ابنها، لكن زين كان يعرف أن هذه الكلمات ستجلب لها مزيدًا من الألم.
قال زين بصوت حزين:
"كنا في المهمة، وكانت النار شغالة من كل اتجاه. فجأة، سمعت صوت طلقة، ولما بصيت حواليَّ، لقيت أحمد واقع على الأرض. ركضت ليه بكل قوتي، وقلبي كان بيصرخ قبل ما لساني يقدر ينادي عليه. أمسكته ونيمته على رجلي. كان نفسه ثقيل، وكنت شايف في عينيه أن الألم مابيسيبهوش."
نطق أحمد بصوت ضعيف ومتهدج، كأنه يحاول أن يقاتل الألم ليوصل رسالة أخيرة:
"زين... زين..."
حاول زين أن يبقى هادئًا رغم خوفه، فابتلع غصة في حلقه وقال بصوت مرتجف:
"استشهد يا أحمد، أنا جنبك، طلبت الدعم، وهما على وصول."
لكن أحمد كان يعلم أن النهاية قريبة، نظر إلى زين بعينيه الممتلئتين بالحزن والوداع وقال:
"خلاص يا صاحبي، مافيش وقت، أنا رايح خلاص."
انهار زين أمام تلك الكلمات، وكان يحاول بكل طاقته أن ينكر الواقع، فقال بسرعة وبتوسل:
"لأ ما تقولش كده؛ احنا هنفضل سوا على طول؛ إنت مش عاوز تشوفني عريس؟ مش دي أكتر حاجة نفسك فيها؟ هتقوم وهتجوز عشان تفرح فيا، زي ما إنت عاوز؛ قوم يا صاحبي."
ولكن أحمد كان يعلم أن الوقت ينفد، فقرر أن يقول ما يشغله، فقال بصوت متقطع:
"عاوز أقولك على حاجة مهمة؛ اوعدني يا صاحبي؛ إنك هتعمل كده، اوعدني."
لم يكن زين قادرًا على رفض أي طلب لأحمد في تلك اللحظة، فقال بحزم وحزن:
"اوعدك يا أحمد، إني أعمل أي حاجة انت عاوزها، بس خليك معايا."
أمسك أحمد بيد زين بقوة، وكأنها كانت آخر قوة متبقية له، وقال بصعوبة:
"إيمان... إيمان... يا زين... أمي ابعدها عنها."
تفاجأ زين بالكلمات، ولم يفهم ما يقصده أحمد، فسأله بسرعة وقلق:
"مالها مراتك وابعدها إزاي؟"
رد أحمد بصوت متقطع وضعيف، وكأن الكلمات تخرج من روحه أكثر من فمه:
"وديها عندهم، هما اللي هيحموها، هما اللي هيحموها."
كانت الكلمات تزيد من حيرة زين وقلقه، فسأله بلهفة:
"هما مين؟ وهيحموها من إيه؟"
أجاب أحمد بصوت شبه ميت، كأن حياته كانت تتسرب منه مع كل كلمة:
"أمي... أمي..."
كان زين يشعر بالعجز، لا يستطيع فهم ما يحدث، فسأله بسرعة:
"مالها يا أحمد؟ أنا مش فاهم حاجة."
بدأ زين يسترجع اللحظات الأخيرة من حياة أحمد، تلك اللحظات التي حفرت في ذاكرته إلى الأبد.
كان الألم يلف كل كلمة، وكل حركة، وكل نظرة في تلك اللحظة، حيث الحياة والموت اختلطا في مشهد واحد.
بينما كان أحمد يحتضر بين ذراعي زين، نطق بصعوبة، كأنه يقاتل الألم ليتمكن من توصيل وصيته الأخيرة:
"في ورقة أنا كتبها في هدومي، وديها لإيمان، وقولها تسامحني... وتقولهم يسامحوني... أنا السبب في اللي حصل... أنا سمعت كل حاجة حصلت بينهم وبين أمي... بس ما قدرتش أكسر أمي قدامهم... دي أمي... قولت هتتغير وهتحب مراتي... بس لا، هي بتكرهها... وكرهها ليها ممكن يعمل فيها أي حاجة... وأنا خلاص رايح ومش قادر أحميها تاني... بس هما يقدروا... قولهم ابني عايش ما ماتش... قولهم يا زين."
كان زين يشعر بعبء الكلمات التي قالها أحمد، كأنها أثقال وضعت على كاهله في تلك اللحظة. حاول أن يتمالك نفسه، فقال له بنبرة متوسلة:
"حاضر، أعمل كده صدقني، بس انت قوم يا صاحبي."
لكن أحمد كان يعرف أن وقته انتهى، فابتسم ابتسامة مؤلمة وقال:
"أنا ادفن بهدومي في نفس المكان اللي فيه ورد الياسمين... مش في مقابر العيلة... يا زين."
لم يكن لدى زين أي قدرة على الرفض، فوافق بكل حزن:
"حاضر يا أحمد، حاضر."
ثم فجأة، شعر زين باليأس يسيطر عليه، فصرخ بألم:
"أحمد، لا يا أحمد، قوم يا صاحبي!"
كانت الصرخة تعبر عن الفراق الذي لم يكن زين مستعدًا له، ولكنه كان يعرف أن لا مفر منه. حاول أحمد أن يخفف عنه، لكن صوته كان يختفي مع كل كلمة:
"أه... أه... خلاص يا صاحبي... خلاص."
في تلك اللحظة، لَفَظَ أحمد أنفاسه الأخيرة، وغادرت روحه جسده.
نطق زين بصعوبة وكلمات متقطعة:
"استشهد يا أحمد."
صرخ زين بألم شديد، صرخة مزقت سكون المكان:
"أحمد!"
كانت الصرخة تعبيرًا عن فقدان شخص عزيز، صديق كان جزءًا من روحه. لم يكن قادرًا على قبول الحقيقة، وبقي يصرخ باسم أحمد وكأنه يحاول استعادته للحياة.
وصلت الضباط على صوت زين الصارخ عبر الجهاز، وقاموا بأخذ جسد أحمد إلى السيارة.
لكن زين لم يستطع أن يتحرك، ظل في مكانه، وصوت صياحه يعلو أكثر مع كل لحظة، كأن الألم يزداد حدة كلما أدرك الحقيقة.
ظل زين على هذا الحال لفترة طويلة، حتى انتهت القوات من القضاء على الإرهابيين وتطهير المكان. كان الوقت قد فات، وأبلغ زين بوفاة أحمد.
عندما سمع زين الخبر، كان الأمر أكبر من أن يتحمله. لم يكن قادرًا على الكلام، فطلب من عماد الاتصال بحرم المقدم أحمد وإعلامها بوفاة زوجها.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
في قطاع 115، كان زين يجلس منهارًا، محطماً بسبب فقدان أحد أقرب أصدقائه، الرائد عماد. دخل الغرفة بسرعة والقلق يأكله، يتحدث بصوت ملهوف ومتسرع:
"في مشكلة يا قائد."
نظر إليه زين بترقب وسأل:
"خير، في إيه يا عماد؟ بلغت أهل المقدم أحمد؟"
رد الرائد عماد بصوت متوتر:
"أيوه يا قائد، كلمت الدكتورة، لكن فجأة مش بترد، وابنها الصغير بيصرخ في التليفون. أنا بحاول أهديه، وبقوله هتصرف، لكن أنا مش عارف أعمل إيه."
تأمل زين الموقف للحظة قبل أن يقول بحزم:
"أنا هبلغ أم المقدم أحمد بنفسي، وأقولها باللي حصل. وهما أكيد هيتصرفوا."
هز الرائد عماد رأسه بالموافقة وقال:
"تمام يا قائد."
........ .............. .........
في بيت والدة المقدم أحمد.
كان الألم يتفجر من كل زاوية.
الأم عايدة بصوت مليء بالصدمة والوجع:
"إنتا بتقول إيه؟ ابني مات؟ إزاي دا حصل؟ ابني مات، يا خالق، ابني مات!"
صوت صراخها يملأ الصالة، يرتد في أرجاء المنزل وكأنه صدى لمأساتها. تحاول السيطرة على نفسها، لكن الألم يجتاح قلبها بلا رحمة.
ابنتها سمر تقف بجانبها، تحاول تهدئتها، ولكن الدموع تملأ عينيها، ويدها ....... [المزيد]
الوداع: في قطاع 115، كان زين يجلس منهارًا، محطماً بسبب فقدان أحد أقرب أصدقائه، الرائد عماد. دخل الغرفة بسرعة والقلق يأكله، يتحدث بصوت ملهوف ومتسرع:
"في مشكلة يا قائد."
نظر إليه زين بترقب وسأل:
"خير، في إيه يا عماد؟ بلغت أهل المقدم أحمد؟"
رد الرائد عماد بصوت متوتر:
"أيوه يا قائد، كلمت الدكتورة، لكن فجأة مش بترد، وابنها الصغير بيصرخ في التليفون. أنا بحاول أهديه، وبقوله هتصرف، لكن أنا مش عارف أعمل إيه."
تأمل زين الموقف للحظة قبل أن يقول بحزم:
"أنا هبلغ أم المقدم أحمد بنفسي، وأقولها باللي حصل. وهما أكيد هيتصرفوا."
هز الرائد عماد رأسه بالموافقة وقال:
"تمام يا قائد."
........ .............. .........
في بيت والدة المقدم أحمد.
كان الألم يتفجر من كل زاوية.
الأم عايدة بصوت مليء بالصدمة والوجع:
"إنتا بتقول إيه؟ ابني مات؟ إزاي دا حصل؟ ابني مات، يا خالق، ابني مات!"
صوت صراخها يملأ الصالة، يرتد في أرجاء المنزل وكأنه صدى لمأساتها. تحاول السيطرة على نفسها، لكن الألم يجتاح قلبها بلا رحمة.
ابنتها سمر تقف بجانبها، تحاول تهدئتها، ولكن الدموع تملأ عينيها، ويدها ترتعش وهي تمسح دموعها. الكلمة الواحدة التي ترددها أمها، "ابني"، كافية لتجعل العقل يفقد توازنه.
ابنها الوحيد، الذي كان سندها في الحياة، قد رحل. لم يبق لها سوى سمر. الحزن يلتف حولها كالضباب، والخوف من المستقبل بلاه، يجعل الألم الذي تعيشه مضاعفًا. تساؤل مرير يعصف بذهنها: كيف ستجد القوة لتواجه هذا الفقدان؟
في هذه اللحظات القاسية، يتجلى الحزن والصدمة في كلمات الأم عايده وسمر.
الألم يتسلل إلى كل جزء في جسدهما، وكأن الدموع قد جفت، ولم يعد للبكاء معنى.
الأم عايدة وهي تبكي بحرقة:
"اهدى؟ اهدى إزاي؟ ابني، ضنايا مات!"
تستمر الدموع في الانهمار بلا توقف، وصوتها يتقطع من شدة البكاء. بصعوبة، تنطق كلماتها:
"بيقولوا بلغوا مراته، وشكلها تعبت، وابنها بيعيط عليها."
تحاول سمرتهدئة أمها، لكنها نفسها محطمة من الداخل، ومع ذلك تتحدث ببرود ظاهري:
"اهدى يا ماما، و إحنا مالنا بيها؟ إن شاء الله تموت هي وابنها."
الأم عايدة بغضب ممتزج بالألم:
"هي السبب في موت ابني! ما فيش غيرها!"
حاولت سمر تهدئة والدتها، لكنها كانت تعرف أن الألم الذي تشعر به أمها لا يمكن إسكاته بسهولة.
سمر بحزم:
"يلا نروح المستشفى. تعالى، أنا هرن على عيسى، أكيد هو هناك معاه."
سحبت هاتفها وطلبت الرقم بسرعة، صوتها يرتعش وهي تتحدث:
"ألو، أيوه عيسى، عرفت اللي حصل؟ أخويا مات، أخويا يا عيسى..."
رد عليها عيسى بصوت هادئ محاولًا التماسك:
"اهدى يا سمر، إحنا هنجيب الجثمان وجايين علشان الدفن. وكمان في وصية كانت في جيبه، القائد هيسلمها لمراته... دي وصية قبل ما يموت."
لم تستطع الأم عايدة أن تستمع لهذا الكلام بدون أن يزداد غضبها:
"ابني هيجي بيتي، مش هيروح عندها! مش كفاية أخدت شبابه، كمان عاوزة هي اللي تودعه؟ لا، والله ما يحصل، مش هتلمح ابني. هي لازم تموت زيه، أيوه لازم تموت!"
صرخت عايدة بهذه الكلمات وهي تندفع نحو الباب، عازمة على الذهاب إلى منزل ابنها لتنفيذ نيتها المدمرة. كانت سمر في حالة من الذعر، فأغلقت المكالمة بسرعة مع زوجها وركضت وراء والدتها، محاولة إيقافها.
سمر بصوت يائس:
"ماما، رايحة فين؟ استني!"
حاولت سمر إيقاف والدتها، لكنها كانت تعرف أنها تواجه أمًا محطمة، غير قادرة على التفكير بعقلانية.
الأم عايدة بعزم لا يتزعزع:
"ابعدي! سبيني أخلص عليها زي ما خلصت على ابني، ابعدي!"
سمر محاولة استخدام العقل لإقناع والدتها:
"ماما، اهدى. إنتي فاكرة موتها كده بالساهل؟ دي الحرباية اللي بتتحامى فيها، تودينا كلنا في ستين داهية!"
لم تستمع الأم عايدة لكلام ابنتها، وغادرت المنزل بسرعة، مصممة على تنفيذ خطتها. فتحت الباب و اندفعت على السلم، تملؤها مشاعر الانتقام والغضب.
الأم عايدة وهي تنزل السلم بسرعة، بعزم لا يتزعزع:
"ابعدي يا سمر! خلاص اللي كانت بتحتمي فيهم راحوا، مش هنا، ولازم أخلص عليها! ابعدي سبيني!"
كانت عايدة تركض نحو الخارج، وعندما وصلت إلى الشارع، أوقفت سيارة أجرة بسرعة. ولكن قبل أن تركب، أوقفتها ابنتها سمر.
سمر بحزم:
"استني! هاجي معاكي ومش هسيبك."
ثم نظرت إلى السائق بسرعة وأمرت:
"اطلع يا اسطى!"
السائق مستفسرًا:
"على فين؟"
سمر بهدوء مصطنع:
"العنوان... ٠٠٠٠٠٠٠٠٠"
السائق:
"حاضر."
طوال الرحلة، كانت عايدة تغلي من الداخل.
الغضب كان يعتمل في صدرها كبركان على وشك الانفجار.
الطريق بدا طويلًا رغم أنه لم يأخذ سوى بضع دقائق. أخيرًا، توقفت السيارة أمام المنزل المقصود.
هرعت عايدة للخروج من السيارة، واندفعت نحو الباب، تدق عليه بقوة.
.............
في الداخل، كان آسر يبكي بجوار جسد والدته الساكنة، محاولًا إيقاظها، لكن بلا جدوى.
آسر بصوت مملوء باليأس:
"ماما، فوقي! ماما، أرجوكي، اصحي! ماما... يا رب، يا رب ساعدني..."
سمع الطفل صوت طرقات عنيفة على الباب، فارتعد وهرع نحو الباب، يسأل بخوف.
آسر بتردد:
"مين؟"
عايدة بصوتها الحازم، ولكن مليء بالحنق:
"افتح يا آسر!"
عايدة كانت تتحرك بعزمٍ لا يُثنى، وكأن الغضب الذي يعتمل في صدرها قد أزال أي أثر للرحمة من قلبها.
لم تعر أي انتباهٍ لصوت حفيدها الصغير آسر، الذي كان يتوسل إليها بدموعٍ تسيل على وجهه الصغير كالشلالات.
وجهه البريء الذي لم يعرف سوى حب أمه وأبيه، بات مشوشًا بين الحقائق القاسية والأمان الذي ظن أنه لا ينقطع.
آسر بنبرةٍ مليئة باليأس:
"نانا، ماما مش بترد عليا."
لكن عايدة، التي تحولت إلى كتلة من الغضب، دفعت الصغير جانبًا بقسوةٍ لا تناسب طبيعة الجدة، وردت بصوتٍ قاسٍ: "عنها ما ردت! هي السبب، قتلت ابني."
كان آسر يحدق فيها بعينيه المليئتين بالدموع، وهو لا يدرك كيف لأحد أن يلوم أمه على موت أبيه. في عقله الصغير، كان من المستحيل تصور أن والده قد رحل بالفعل.
رفض بعنادٍ طفولي أن يصدق تلك الحقيقة المريرة، وبدأ يردد بصوتٍ متهدجٍ من فرط البكاء: "لا، لا، بابا مش مات، بابا حي."
سمر، التي كانت تراقب المشهد بقلقٍ بالغ، شعرت بأن الغضب الأعمى الذي تملَّك أمها قد يدفعها لفعل شيءٍ فظيع. كانت تدرك أن إيمان، زوجة أخيها، لا تستحق هذه المعاملة، مهما كانت الأمور معقدة بينها وبين عائلتها. لكنها أيضًا كانت غارقة في ألمها الخاص، مما جعلها عاجزة عن اتخاذ موقف حاسم.
قالت عايدة بصوتٍ يخلو من الرحمة:
"سمر، هاتي ميه فوقيها، مش هسبها تموت بساهل كده. يلا!"
سمر، رغم ترددها، أطاعت والدتها. ذهبت وأحضرت دلواً من الماء، وبينما كانت تسحبه، كانت تنظر إلى إيمان بكرهٍ شديد، مشاعر مختلطة بين الغيرة والغضب، والحزن الذي لم تستطع تفسيره. أفرغت الماء على وجه إيمان بقوة، وهي تضربها بوحشيةٍ غير مبررة، حتى بدأت إيمان تستعيد وعيها تدريجياً.
حينما فتحت إيمان عينيها، كانت غير مدركة تماماً لما يحدث، لكنها شعرت بآلامٍ مبرحة في وجهها وكتفيها.
مع كل ضربة تلقتها، كانت تصرخ بصوتٍ ضعيف، محاولةً فهم ما يجري:
"آه... في إيه؟"
عايدة، بنبرةٍ مليئة بالاحتقار، صاحت:
"في إنك قتلتِ ابني! إنتِ السبب في كل حاجه!"
كانت كلمات عايدة كالسكاكين، تغرز في قلب إيمان الجريح بالفعل.
كيف لها أن تكون السبب في وفاة من أحبته بكل جوارحها؟ كانت تصرخ في وجع الفراق، بينما دموعها تسيل بغزارة.
ردت إيمان، رغم الألم الذي يعصف بها:
"لا، لا، أحمد مامتش، أحمد عايش."
لكن سمر قطعت أملها بنبرة باردة:
"خلاص مات، انتي السبب في كل حاجه... لازم تموتي زيه."
كان آسر يشاهد في رعبٍ، غير قادر على فعل شيء. كل ما أراد هو أن يحمي أمه، لكنه كان صغيراً جداً وضعيفاً جداً أمام غضب جدته وعمته.
ركض نحوها بسرعة، يحاول إنقاذها بكل ما لديه من قوة، وهو يصرخ منادياً:
"ماما لا، سيبي ماما!"
حينما حاول التدخل مرة أخرى، أوقفته عايدة بقسوة، وهي تمسك به وتخاطبه بنبرة تهديد:
"ابعد كده! لازم تموت زي ابني."
صرخ الصغير بكل قوته، يمسك بقدم جدته ويتوسل إليها بدموع تنهمر بغزارة بصوتٍ مرتعش:
"أرجوكي سيبي ماما يا نانا، أرجوكي..."
ولكن لم يكن هناك مكان للرحمة في قلب عايدة تلك اللحظة.
كانت قد تحولت إلى شيطانٍ لا يعرف الرحمة.
بينما كانت سمر تضرب إيمان بعنفٍ متزايد، حتى كسرت ساقها، و عايدة تمسك رأسها وتضربه بالأرض مرارًا وتكرارًا حتى سال الدم.
رأى آسرالدم يتدفق من جسد أمه، لم يستطع فهم ما يحدث. احتضن نفسه، وجلس يبكي بحرقة، جسده يرتعش من شدة الخوف والبرد.
بعد لحظاتٍ من الصمت المشوب بالتوتر، همست سمر: "ماتت يا ماما... مافيش فيها نفس."
الصدمة بدأت تتسلل إلى ملامح عايدة، حيث تحول الغضب إلى قلقٍ، وبدأت تشعر بأنها تفقد السيطرة على ما فعلته.
تحول الشيء الذي تملكها إلى شعورٍ بالذنب الذي بدأ يلتهمها.
عايدة بنبره مختلطه بالخوف والغضب:
"اسكتي، خليني أفكر..."
كانت تحاول أن تخرج من هذه الفوضى، ولكن كيف؟ لم تعد تعرف ماذا تفعل. نظرت إلى آسر، ذلك الطفل الذي فقد للتو كل شيء، وبدلاً من أن تشفق عليه، تملكتها فكرة أخرى مرعبة.
عايدة بصرامةٍ وهي تمسك آسرمن ذراعيه:
"عارف لو حد عرف باللي حصل هعمل فيك إيه؟ هقتلك زيها، سامع؟"
ارتعد آسر من الخوف، لم يكن لديه خيار سوى أن يطيع. تلعثم وهو يقول:
"حاضر، مش هقول، حاضر، ماما... ماما."
لم تكن لديه القوة ليعترض أو يقول شيئًا آخر. كان يهز رأسه بالموافقة على كل شيء تقوله جدته، معتقدًا أن هذا الكابوس سينتهي قريبًا.
عايدة بنبرة باردة:
"لما حد يسألك، تقول إنها وقعت من على السلم وهي بتجري لما عرفت اللي حصل لبابا، سامع؟ وإحنا جينا وطلعناها هنا الشقة. مفهوم كلامي ولا لأ؟"
آسر بهمسٍ يكاد لا يُسمع: "حاضر."
سمر كانت تهتز رعبًا، ودموعها تنهمر بلا توقف، لكنها لم تكن دموع الندم، بل كانت دموع الخوف. كانت تدرك أن ما حدث الآن هو كارثة لا يمكن الرجوع عنها.
تضرب وجهها بيديها المرتجفتين وهي تبكي، وتلعن اللحظة التي سمحت فيها لهذه الأحداث أن تتطور. لم تكن تندب مقتل إيمان بقدر ما كانت تندب نفسها ومصيرها الذي أصبح على المحك.
سمر بنبرة مختنقة ومليئة بالذعر:
"العقارب هتعرف... هيسألوا، وهما مش هيسكتوا... هنعمَل إيه؟"
كانت كل كلمة تخرج من فمها وكأنها محاولة بائسة للتشبث بأي أمل، لكنها كانت تدرك في أعماقها أن الأمور قد خرجت عن السيطرة.
عايد، التي كانت تواجه انهيار ابنتها، لم تجد شيئًا لتهدئتها سوى كلمات لا تؤمن بها هي نفسها.
عايدة بصرامة زائفة:
"اسكتي بقا، هما خلاص مش هنا."
لكن سمر، التي كانت دائماً الأكثر هشاشة بينهن، لم تكن لتقتنع بسهولة. ردت بنبرة يائسة:
"إنتِ عمالة تقولي كدا... وأمال هما فين؟"
عايدة، وهي تجلس على الأريكة، تحاول أن تهدئ من روع ابنتها، بينما كانت هي بحاجة إلى التهدئة أكثر منها. أخفت وجهها بين يديها للحظة، ثم رفعت رأسها ببطء وقالت بصوت خافت:
"سافروا"
كانت تلك الكلمة تحمل في طياتها كل الأكاذيب التي كانت عايدة تحاول أن تقنع بها نفسها قبل الآخرين.
نظرت إلى آسرالصغير وهو يبكي بجانب جثة والدته، وأدركت أن عليها التصرف بسرعة.
عايدة وهي تحاول الحفاظ على هدوءها:
"بره مصر. وعمال ما يعرفوا وييجوا تكون إدفنت. جوزك ضابط وهيعرف يلم الموضوع... وهي مالهاش أهل علشان بيسألوا عنها ولا حاجة. إحنا أهلها."
سمر، التي كانت تصارع بين الخوف والعجز، قالت بتردد: "طب وده... هنعمل فيه إيه؟"
عايدة نظرت إلى حفيدها الصغير بعينين جافتين من أي شفقة، وقالت ببرود:
"سبيه. انتي مش شايفة هو عامل إزاي؟ مش هيعرف ينطق بكلمة."
لكن سمر، التي كانت تدرك جيدًا أن الأمر لن ينتهي بهذه البساطة، لم تستطع كتم مخاوفها:
"طب هما لما يجوا... هيأخدوا معاهم. هتعرفي تقولي لا؟"
ثم تابعت بصوتٍ مرتعشٍ من الرعب:
"واهاه... ولو الحية الكبيرة هي اللي طلبت، هتعرفي تعترضي؟"
شعرت عايدة بأن الخوف يتسلل إلى قلبها، فأخذت تقف ببطء، وقد بدا عليها التردد لأول مرة.
لم تعرف ماذا تفعل، تلك اللحظة التي ظنت أنها تسيطر فيها على كل شيء تحولت إلى لحظة رعب وارتباك.
تذكرت ابنها الذي لم يتم دفنه بعد، وغمرت قلبها مشاعر متضاربة من الحزن والغضب والخوف.
عايدةبصوت متهدج:
"اسكتي بقا... مش ناقصة، أنا ركبي بتخبط في بعض."
سمر، التي بدأت تشعر بالندم لأول مرة، قالت وهي تبكي بحرقة:
"أنا غلطانة إني طاوعتكِ يا ماه... آه."
عايدة، وقد حاولت استعادة سيطرتها على الوضع، صاحت بغضب مكبوت:
"استكتي يا بنت بطني انتي! معايا في كل حاجة من الأول. من يوم ما هي دخلت حياة أخوكي، وكل المصايب عملناها سوى. مش هنيجي دلوقتي ونتحاسب!"
ثم وجهت أمراً حازماً إلى سمر: "يلا اتصلي على جوزكِ وعرفيه باللي حصل، علشان يتصرف. يلا!"
كانت سمر ترتجف وهي تبحث عن هاتفها. كانت تعرف أن هذه المكالمة ستقرر مصيرها ومصير أمها وحفيدها. ولكنها كانت مضطرة، لا خيار لها.
قامت سمر بتنفيذ ما أمرتها به والدتها، وهي تبكي بحرقة. كانت الدموع تنهمر من عينيها، ولكنها لم تكن دموع الحزن فقط، بل دموع الرعب من المجهول الذي ينتظرها.
سمر بصوتٍ مختنق:
"هتصل أههه... لما نشوف، استر يا رب."
أمسكت الهاتف بيدين مرتعشتين، وضغطت على الرقم المألوف لها. دقّات قلبها كانت تتسارع مع كل ثانية تمر، حتى جاء صوت عيسى عبر الخط، مليئًا بالقلق والغضب.
سمر بنبره مرتجفه:
"الو، أيوه يا عيسى، حصل... اعمل....... اية......"
عيسى بلهجة غاضبة:
"إنتِ هببدتي إيه؟..... الله يخرب بيتك."
سمر، وهي تحاول السيطرة على صوتها:
"عيسى، اسمعني."
لكن صوت عيسى الغاضب ارعبها اكثر وهو يقول:
"مش عاوز أسمع. اتكتمي. اقفلي.... وخليني أشوف هتصرف إزاي. هي لسه فيها الروح؟"
سمر، وقد شعرت بشعور اليأس يتسلل إليها:
"لا، هي ماتت أكيد. باين كده، مش عارفة."
عيسى، بعد لحظة من الصمت المتوتر:
"أنا هبعت دكتور على البيت يكشف عليها. وانتي وامك تحطوها على السرير، وتنضفوا الشقة. وتحطوا من دمها على السلم، علشان الكلام يكون مظبوط. لو لسه عايشة، إحنا اللي هنموت، يلا اقفلي."
أغلقت سمر الهاتف، والقلق يعصر قلبها. توجهت إلى والدتها، التي كانت في حالة من التوتر الشديد.
سمر، وهي تحاول استعادة بعض الهدوء:
"تمام، تمام."
عايدة، بنبرة تحمل القلق:
"قالك إيه؟"
سمر، وهي تنفث نفسًا عميقًا: "قال لي نشيلها ونحط من دماءها على السلم، وهو هيبعت دكتور ليعرف يتصرف."
عايدة، وقد بدأت تتولى زمام الأمور مجددًا:
"يلا، شيلي معايا."
بدأت الأم وابنتها في تنفيذ التعليمات، لكن كل حركة كانت محملة بالرهبة والخوف من العواقب، وكل لحظة تمر كانت تشعرهما بأنهما يغوصان أكثر في مستنقع من الكوارث التي لا مفر منها.
أنا أتذكر كل شيء، كأنه حدث الآن. أتذكر نانا وعمتي وهما يحملان أمي من الصالة ويدخلان بها الغرفة. أتذكر كلامهم وكل ما فعلوه؛ لم أكن قادرًا على فعل أي شيء أو مساعدة أمي.
حتى أبي يقولوا لي انه رحل عن هذه الحياه:
“ماذا يمكنني أن أفعل؟” “من سيأساعدني؟” وأنا غير قادر حتى على التحدث، بقيت أبكي بدون صوت، وجسدي يرتجف.
أرى نانا تخرج من الغرفة، وراءها عمتي سمر تأتي نحوي وتقول بصوت حاد وعيون حمراء:
" قوم معايا يلا"
لم اتحرك وبقيت مكانى انظر لها بخوف، وزاد ارتجاف جسدي،فصاحت جدتى مره أخري بحده أكبر:
"أنا بكلمك أقوم"
.. تسحب الصغير بقوة من الأرض، عيناه لا تفارق دم أمه، جسده يرتجف بقوة، ولا يستطيع الرد عليها أو الْتِفاته إليها.
تصرخ بقوة فيه ولكن لا يوجد رد.
عند سماع طرق الباب، تتجه سمر نحوه فورًا، تنظر من العين السحرية أولًا لتعرف هوية الطارق، ثم تنظر إليها و تخبرها، وهي تهم بفتح الباب،وصوت منخفض تخبر جدتي:
"الدكتور جاه، يلا سبيه دلوقتي"
تلف للباب والترحاب المصاحب بالبكاء.
"اتفضل يا دكتور، الحقها الله يخليك، دى هتموت، دمها سايح جوه، حبيبتي يا ايمان"
تخاطبه وهي تركض أمامه نحو للغرفة، مع عباراتها المتساقطه بلا توقف.
يقف على باب الغرفه عندما لمح هذا الصغير الساكن في حضن جدته؛ كانت تمثل الحزن والتعاطف معه، والرحمه لا تعرف مكان فى قلبها،
وصوت نحيبها يعلو بكلمات تواسيه بها:
"حبيبي يا بنى، أمه وأبوه في يوم واحد، يارب، بس ي حبيبى بس، نانا جمبك، ومش هتسيبك أبداً، يا ابن الغالى "
يدخل الطبيب إلى الغرفة مع سمر، وعندما تلتقط عيناه تلك الراقدة على الفراش، يصرخ في سمر بقوة، وهو يجري لمساعدتها:
"ليه ماحدش حاول يوقف النزيف، دمها اتصفى"
تكلمت سمر بخوف وهي تقترب منه:
"يعني إي يا دكتور"
نطق بسرعه دون تردد وصوت ثابت:
"البقاء لله"
تلطم وجها وتمثل البكاء والحزن بمهاره وهي تخبره باكاذيب:
"يا حبيبتى، احنا لما جينا لقناها كدا وشلناها"
"وكلمنا عيسى، كلمك على طول وما كناش عارفين نعمل،
الصدمه صعبه أوى يا دكتور،
أخويا ومراته فى يوم واحد، دي يا حبت عينى، جينا نشوفها بعد ما عرفنا الخبر موت اخويا؛ مرضناش نسبها لوحده؛ جينا لقنيها كدا .
كانت لوحدها هى وابنها، حبيبى بره شاف امه ودمها بتصفى"
أنهت حديثها وهي تركض نحو إيمان الراقدة على الفراش عاجزة عن الحركة والقوة؛
احتضنتها وهي تبكي.
غادر الطبيب بعد أن أعطى الحقنة لإيمان، مع استغراب سمر لما فعل، وتركهم بعد ذلك وانصرف إلى الخارج، وعند نزوله إلى الأسفل، تحدث مع عيسى عبر الهاتف.
بنبرة خبيثه ولكنه حاول أن يكون طبيعى حتى لا يكشف أمره:
"الو أيوا عيسى باشا، أنا رحت البيت بس للاسف،
وصلت متاخر، البقاء لله"
سمع عيسى حديثه والخوف تسلل لقلبه، كان أن يتحدث بهدوء لكى لا يلفت الانتباه فقال بصوت منخفض:
"جهز كل حاجه للدفن يا دكتور،
علشان انهارده هدفنها هى وزوجها"
أجابه الدكتور بثبات:
"لا حول ولاقوة إلا بالله، حاضر هجهز كل حاجه، سلام"
رد عليه عيسى ثم اغلق الهاتف بسرعه:
" سلام "
جلس يفكر ما يفعل حسب خطه وذهب للقطاع ليخبر زين بوفاة إيمان أيضاً.
.............
في الأعلى داخل الشقه تحدثت عايده وهي تقترب من ابنتها
بصوت حاد لكن لم يخلو من الخوف:
" يلا اجهزى، و هاتى آسر معاكى، البلد عندنا عرفت بموت ابنى ومراته، وكل جاى يعزى ويحضر الدفن"
سمر بإرتباك:
"وانتى هتقبلى بالوصيه اللى ابنك عملها؟ "
نطقت عايده بغضب مخالط بالخوف والحزن:
"ايوه لازم أقبل، علشان يدفنوا مع بعض قبل ما هما يوصلوا، لازم قبل ما يجوا تكون، إدفنت
يلا ٠العربية تحت وفى ست جاية تغسلها،
والدكتور، هيجيب تصريح الدفن. "
وقفت سمر مقابله لوالدتها وتحدث برعب سكن قلبها:
"هما مش هيشكوا فى حاجه. "
تحاول أن تطمئن ابنتها،لكن تعلم أن القادم سكون هلاك للجميع:
"عيسى هيظبط كل حاجة، أهم حاجة،جينا لقناها على السلم سايحة في دمها،
وكويس أن جارتها مش هنا ولا كانت هتبقا مصيبه يلا"
أكملت حديثها وقامت لتفتح الباب.الذي كان يدق بقوه.
'''فتحت جدتي الباب، وإذ بامرأة غريبة الشكل تدخل الشقة،رأيتها تدخل الغرفة التي فيها أمي، ومكثت هناك وقتًا طويلًا، ثم خرجت.
وجدتي وعمتي يبكيان ويعانقانني،وبعد قليل دخل أربعة رجال كبار، ومعهم صندوق دخلوا به غرفة أمي.
ثم خرجوا وهم يحملون الصندوق الأربعة.وعندما خرجوا، أمسكتني جدتي من يدي وقالت بحزن:
"قوم يا حبيبى، يلا"
عندما تفوهت بتلك الكلمات، هرولت بكل قوتي نحو غرفة أمي وأنا أبكي، أمسح دموعي وأغمض عيني ثم أفتحها مجددًا، وأكذب عيني عما رأيت وما حدث أمامي.
ظللت أبحث عن أمي في الغرفة ولم أجدها، فظللت أصرخ، وجدتي تحتضنني وتأخذني وتنزل بي. وأنا أصرخ محاولًا دفعها عني، أريد الصعود لأبحث عن أمي، أين ذهبت أمي؟ نزلت إلى الأسفل فوجدت الرجال يضعون الصندوق في سيارة الإسعاف، وكثير من الناس تحت المنزل، والعديد من النساء يأتين إلى جدتي ليحتضنها، ويقلن:
‘تشددي يا أم أحمد، الله يصبر قلبك يا حبيبتي، وها هو الله كرمك بابنك الغالي، الله يعينك.’
وعايدة تصرخ بقوة:
‘حبيبي يا ابني.’
'''كثير من الناس كانوا يتحدثون ويحتضنون جدتي وعمتي، هؤلاء كانوا جيران جدتي، أتوا ليقفوا معها.
ركبنا السيارة وظللنا نسير لمدة طويلة، هذا ليس منزل جدتي، هذا المكان الذي كنت أذهب إليه مع أمي، نعم، أنا أعرف هذا المسجد، كانت أمي تأخذني كل جمعة لنصلي العصر فيه، ونذهب لزيارة قبر صديقاتها، كانتا اثنتين، قالت أمي إنهما عند الله، لكن ماذا نفعل هنا، وأين أمي، ولماذا كل هؤلاء الناس؟
لما نزلت من السيارة وجدت أصدقاء أبي، كانوا يرتدون ملابس الجيش مثله.
يعني أبي هو أيضًا هنا، تركت جدتي وركضت نحو القائد زين، أنا أعرفه. كان أبي يقول عنه إنه أخوه.
أبي قال لي إنه إذا احتجت شيئًا وهو غير موجود، أذهب إلى القائد زين، فهو صديق عمره وأبي الثاني.
لم أفكر في شيء سوى أن أحتضنه وأبكي وأسأله عن أبي، هل رآه، أين هو؟"
نطق ببكاء مريب وجسد مرتجف:
" بابا"
.. ضمه زين بقوة ويحاول تهدئته بكلمات مواساة تحمل الحب والعطف:
" اهدى حبيبى، أهدى أنا هنا معاك، ومش هسيبك ابدا، أنا موجوده مش هتخلى عنك، انتا بطل، صح حبيبى"
'''كان يتحدث وهو يحتضنني بقوة، وأنا كنت أهز رأسي مع كل كلمة. ثم أبعدني عن حضنه وقال لي بصوت ثابت لكنى رأيت الدموع في عيناه:
''أنت عارف بابا فين دلوقتي؟''
حركت رأسى ونطقت بحزن:
''بيقولوا إنه توفي، سمعت نانا وهي تقول كدا.''
وبكى بكاءً يحرق القلوب، بكاء اليتم والحرمان.
ثم أخذني في حضنه مرة أخرى وقال:
''والدك ذهب إلى الله، لكنه سيظل حيًا بداخلنا، لن يغادرنا أبدًا.''
نطق بصوت متشنج من البكاء:
''وماما كمان؟''
... كان يشعر بالشفقة على الصغير، فقد مر بما يمر به الآن، وهو فقدان السند والحرمان من والده.
نادت على أمي بخوف:
''ماما.''
أخذني في حضنه وحملني، ودخلت معه المسجد، وجدت صندوقين؛ الأول رأيته يخرج من شقتنا، والثاني مغطى بعلم مصر. مشيت معه حتى الصندوقين، وقال لي وهو يجلس أمامى ويضع يداه على أعلي ذراعي:
"عاوز توداعهم؟''
نطق بصوت مرتجف:
''نعم.''
هززت رأسي، وهو فتح الصندوق الأول وكان به والدي، احتضنته وقبلت رأسه، كان يرتدي ملابس عمله وكانت ملطخة بالدماء. عندما رأيته تذكرت أمي وهي ملطخة بالدماء أيضًا، تراجعت للخلف فجأة وأنا أضم رجلي وجسدي يرتعش.
عم زين جاء وأمسكني واحتضنني.
وأغلق أصدقاء والدي الصندوق مرة أخرى، ثم بدأ الشيخ بالصلاة وقراءة الدعاء، وأخرجني عم زين إلى خارج المسجد حيث كانت جدتي.
وعندما تركني معها، أغمي علي.
امرأة من أهل البلد:
'حبيبي يا ابني، الله يكون في عونك.'
عايدة بحزن وألم حقيقى تصرح:
'ابني راح، آه، ابني.'
كانت تبكي بصدق على فراق ابنها، من يراها الآن بهذا الضعف، لا يصدق ماذا فعلت في الساعات السابقة.
انتهت صلاة الجنازة وأخذوا الجثمان إلى السيارة ليتم الدفن.
تقدم زين من عايدة، وهو يعزيها ويصبرها، ويحدثها عن الوصية ليتم الدفن.
القائد زين:
'البقاء لله، أعلم أنه ليس الوقت المناسب، لكن في وصية يجب أن تُسلم لزوجة المقدم أحمد، لكن هي كمان...'"
... توقف الكلام في صدره ولم يعرف ماذا يقول؛ فقد كان حزينًا فعلًا على وفاة صديقته وصديقه، دموعه خانته وسقطت على خده، مسحها بسرعة قبل أن يلاحظها أحد.
كانت ترغب في انتهاء اليوم بسرعة، فقاطعته في الكلام بسرعه وقالت:
" عرفه بالوصية يا ابنى، موافقة إن ابنى يدفع مع مراته"
القائد زين أجاب بثبات ولكن شعور القلق يمتلك قلبه ولا يعرف السبب:
'تمام.'
ثم ذهب نحو السيارة وأخذ الجثمان إلى المقابر، وهو محتار والقلق ينهش قلبه مما يحدث، لا يدري سبب مواقف صديقه تجاه هذه الوصية ولماذا هنا، لماذا ليس في مقابر العائلة.
_وصف زين ما رأى:
'وصلت إلى المقابر، المسافة لم تكن بعيدة، دقائق معدودة فقط، وعندما وصلت وجدت مكانًا كبيرًا، مليئًا بالأشجار، وبه بوابة كبيرة، وكان هناك حارس يجري نحونا.'
الحارس بحيره وقلق:
"خير يا بيه،مين اللي مات!"
القائد زين أجاب:
'أنت الغفير هنا؟'
الحارس والقلق ياكله من الداخل وعلامات الصدمه تحتل وجه:
'أيوه يا بيه، أنا المسؤول هنا.'
القائد زين بحيره وخو ينظر حوله:
'فين مقابر ورد الياسمين؟'
سأل الحارس بأستغراب:
"خير يا بيه، مين مات، حصل حاجه، الدكتورة كانت هنا يومين، فى اى"
القائد زين بحزن:
'الدكتورة إيمان وزوجها المقدم أحمد توفيا، وفي وصية بأن يُدفنوا هنا، افتح الباب،بسرعه.'
الحارس بطاعه وحزن:
'حاضر يا بيه، لا حول ولا قوة إلا بالله، كانت هنا من يومين، لا حول ولا قوة إلا بالله، تفضل يا بيه.'
ثم فتح الحارس الباب."
"وقف الجميع في ذهول من المشهد؛ فهناك عدد كبير من المقابر، ثلاثة عشر مقبرة. اثنتا عشرة مقبرة جنبًا إلى جنب، وواحدة أمامهم. وعلى كل مقبرة مكتوب اسم، لكن هناك مقبرتين مغلقتين، والباقي مفتوح.
قال القائد زين في حيرة:
"إيه دا؟ أنا مش فاهم حاجه، احنا هندفنهم فين، أي مقبرة من دول؟''
أجاب ضابط بصاح:
''يا قائد، في مقبرة مفتوحة مكتوب عليها اسم الدكتورة إيمان.''
اقترب زين منها وتساءل:
" يعنى دى اللى هتدفن فيها، طب وأحمد"
دخل الضابط المقبرة ونادى على زين:
''تعال وشوف يا قائد، المقبرة مقسمة إلى أجزاء."
ذهب زين وتحقق مما قاله الضباط.
وافق زين وتم الدفن. بدأوا بدفن أحمد في الجزء الأيمن من المقبرة، وبعد ذلك دُفنت إيمان بجواره.
نظرات الاستغراب والدهشة تعلو وجوه الجميع؛ فكل مقبرة مقسمة إلى أربعة أجزاء، وهناك اثنتا عشرة مقبرة بجوار بعضها، مقبرة إيمان في المقدمة.
وتلك الشجرة الكبيره على يمينها تحمل اسم الجاسر.في جاسر يكون؟
العديد من الأسئلة بلا إجابة تدور في عقله الشارد ولا يعرف لها جوابًا.
كان المكان غريبًا يثير فضوله، مليء بالغموض، يبدو من الخارج كقصر لا كمقبرة، ومن الداخل يوجد الكثير من الأشجار والمقاعد والمصاحف، كل هذه الأشياء عددها ثلاثة عشر، اثنتا عشرة بجوار بعضها، وواحدة في المقدمة. الفضول يسيطر عليه، يريد معرفة كل شيء.
فاق من أفكاره على صوت الرائد عماد وهو ينادي عليه:
''يا قائد، انت روحت فين؟ كنت بنادي عليك من فترة، الرجال خلصوا، مش هقرأ الفاتحة؟''
'أجاب القائد زين:
''تمام.''
وبدأ يقرأ ويدعو لهم، وبعد ذلك كان يخرج لكنه لاحظ شيئًا غريبًا، اتجه نحوه وطالع اللوائح الموضوعة على الاثنتي عشرة مقبرة، كلها مفتوحة ما عدا اثنتين مغلقتين، وبها نفس التقسيمة الأجزاء من الداخل، وعلى كل مقبرة لوحة مكتوب عليها الاسم، وتاريخ الميلاد، ولقب. وما زاد فضوله أكثر، أنها كلها بنفس الاسم (ياسمين) ونفس تاريخ الميلاد،3/8 لكن الألقاب مختلفة. حار بين الألقاب، ولم يكن هناك أسماء محافظة، لكن كان مكتوبًا بجانبها اللقب.
تنهد كثيرًا ووضع يده على شعره وقال:
"إيه الغبطه دي بقا؟أكيد دول هما الي قال لي أحمد عليهم، ووصاني أقول لهم أن يحافظوا على إيمان، وأنه كان غصبًا عنه، وأن يسامحوه، وأقول لهم إن ابنه على قيد الحياة. أنا مش فاهمه حاجه، ايه المفروض اعمله ؟ و ازاي اعرف طريقهم؟ وهو قال لي أنه بِعد عنهم من خمس سنين، يا رب.''
... كان محتار بالفعل، وشعر أن رأسه سينفجر. صديقه أوصاه على ابنه وزوجته، زوجته التي توفيت في نفس اليوم. 'ماذا سأقول له؟ لم أستطع الحفاظ على الأمانة، ولا على ابنه.'
تذكر فجأة:
''أه، صحيح، أنا نسيته تمامًا، فضولي أخذني ونسيته.''
خرج وقبل أن يخرج من الباب، التفت مرة أخرى إلى المقابر وقال:
'أكيد هرجع تاني هنا، لازم اعرف كل حاجة، أنتم مين يا ورد الياسمين؟'
ثم خرج."
... بعد خروج زين من المقابر، وقف الهواء البارد يتسلل إلى عظامه، ليحمل معه عبق الموت والحزن الذي خيم على المكان. التقى بأصدقائه والضباط المتواجدين بالخارج بجوار عائلة المقدم أحمد.
مشاعر الأسى والوجوم كانت تسكن وجوههم، كأنها مرآة تعكس الفقد الكبير الذي اجتاح الجميع.
بينما كان يبحث بعينيه عن الحارس الذي اختفى دون أثر، كانت نبضات قلبه تتسارع، ليس فقط بسبب الحزن، ولكن لشعور غير مريح يتسلل إلى صدره.
تقدم زين نحو والدة المقدم أحمد، السيدة عائدة، التي كانت جالسة بحزن على مقعد خشبي بجوار المقابر في الخارج.
كانت عيناها مغرورقتين بالدموع، ووجهها شاحب كأنه مرآة لروحها المكسورة. وقف أمامها زين، متمالكًا دموعه التي كانت على وشك الانفجار، ثم تحدث بصوت مبحوح، مليء بالأسى:
"إنا لله وإنا إليه راجعون، البقاء لله، شدي حيلك، كوني قوية. أنا دائمًا موجود إذا احتجتِ أي شيء. أحمد كان أكثر من أخ ليا، هو موصيني عليكي وعلى ابنه ومراته. بس هي دلوقتي معاه زي ما كانوا بيتمنوا... الله يرحمه."
نظرت إليه عائدة بعينين مليئتين بالألم والفراغ، لم تكن قادرة على النطق في البداية، كأن الكلمات خانتها، لكنها جمعت شتات نفسها وأجابت بصوت مخنوق بالدموع:
"تسلم يا حبيبي... أحمد كان بيقول إن عندك كل خير، لو احتجت أي حاجة هقولك. إنت دلوقتي مكان ابني."
ثم احتضنته بقوة، كأنها تحاول أن تستمد منه بعض القوة التي فقدتها مع رحيل ابنها. كان صوت بكائها يعلو تدريجيًا، نبرتها الحزينة تخترق شهقاتها، ودموعها المتساقطة لا تتوقف، تسيل على كتفه دون مقاومة.
شعر زين بثقل الحزن الذي تحمله بين ذراعيه، وابتعد عنها قليلًا، لكنه ظل ممسكًا بيدها، وكأنه يريد أن يكون لها دعامة في هذا الوقت العصيب. بادرها بالسؤال بصوت يحاول أن يكون هادئًا رغم اضطرابه الداخلي:
"آسر عامل إيه دلوقتي؟"
تنهدت عائدة بصعوبة، وابتسامة حزينة شقت طريقها بين دموعها. ردت بصوت متهدج:
"حبيبي من أول لما فاق وهو مش بيتكلم خالص، خايفة عليه أوي ليروح مني زي أبوه... هو اللي فاضل لي من ريحته."
كان زين يعرف أن الألم الذي تتحدث عنه ليس فقط ألم الفقد، بل خوف من المستقبل، من أن تظل وحيدة. رد عليها بحزم وهو يحاول أن يزرع الطمأنينة في قلبها:
"هو مسؤوليتي لحد لما أنفذ الوصية وأسلمه لدكتورة."
في تلك اللحظة، ساد الصمت، وكان الصمت أكثر تعبيرًا من أي كلمات.
شعرت عائدة بقلق شديد، انعكس على ملامحها، التي بدأت تتحول إلى اللون الأصفر، وكأنها تجرعت سُم الخوف فجأة.
رفرفت شفتاها بالكلمات دون أن تخرج، وحين تمكنت من الحديث، كانت كلماتها متهدجة ونبرتها قلقة:
"دكتورة إيه يا بني؟"
نظر إليها زين بنظرة مشفقة، محاولًا أن يخفف من وطأة الأمر، لكنه كان يعلم أن الحقيقة ستحطمها أكثر:
"كنت مع أحمد في المهمة عندما أصيب، وكنت أقرب شخص ليه. أوصاني بأن أعتني بابنه وزوجته وأن أحاول أصلح سوء التفاهم اللي حصل بينه وبين 'ورد الياسمين'. ما فهمتش منه حاجة وقتها، بس هو قال لي."
بدت الحيرة على وجهها، ولم تعرف إن كانت تريد الاستمرار في طرح الأسئلة أم أنها تخشى الإجابة.
كانت تلك اللحظة الفاصلة التي أدرك فيها زين أن هناك شيئًا ما خفيًا، شيئًا أكثر من مجرد حزن أم فقدت ابنها.
بدأت عينا زين تدمعان وهو يسترجع تلك اللحظة القاسية، وكأنها تعاد أمامه بكل تفاصيلها. كان الألم واضحًا على وجهه وهو يروي الحادثة لعائدة.
كانت تجلس أمامه، تنتظر الكلمات التي ستنهي تلك الغموض الذي يحيط بموت ابنها، لكن زين كان يعرف أن هذه الكلمات ستجلب لها مزيدًا من الألم.
قال زين بصوت حزين:
"كنا في المهمة، وكانت النار شغالة من كل اتجاه. فجأة، سمعت صوت طلقة، ولما بصيت حواليَّ، لقيت أحمد واقع على الأرض. ركضت ليه بكل قوتي، وقلبي كان بيصرخ قبل ما لساني يقدر ينادي عليه. أمسكته ونيمته على رجلي. كان نفسه ثقيل، وكنت شايف في عينيه أن الألم مابيسيبهوش."
نطق أحمد بصوت ضعيف ومتهدج، كأنه يحاول أن يقاتل الألم ليوصل رسالة أخيرة:
"زين... زين..."
حاول زين أن يبقى هادئًا رغم خوفه، فابتلع غصة في حلقه وقال بصوت مرتجف:
"استشهد يا أحمد، أنا جنبك، طلبت الدعم، وهما على وصول."
لكن أحمد كان يعلم أن النهاية قريبة، نظر إلى زين بعينيه الممتلئتين بالحزن والوداع وقال:
"خلاص يا صاحبي، مافيش وقت، أنا رايح خلاص."
انهار زين أمام تلك الكلمات، وكان يحاول بكل طاقته أن ينكر الواقع، فقال بسرعة وبتوسل:
"لأ ما تقولش كده؛ احنا هنفضل سوا على طول؛ إنت مش عاوز تشوفني عريس؟ مش دي أكتر حاجة نفسك فيها؟ هتقوم وهتجوز عشان تفرح فيا، زي ما إنت عاوز؛ قوم يا صاحبي."
ولكن أحمد كان يعلم أن الوقت ينفد، فقرر أن يقول ما يشغله، فقال بصوت متقطع:
"عاوز أقولك على حاجة مهمة؛ اوعدني يا صاحبي؛ إنك هتعمل كده، اوعدني."
لم يكن زين قادرًا على رفض أي طلب لأحمد في تلك اللحظة، فقال بحزم وحزن:
"اوعدك يا أحمد، إني أعمل أي حاجة انت عاوزها، بس خليك معايا."
أمسك أحمد بيد زين بقوة، وكأنها كانت آخر قوة متبقية له، وقال بصعوبة:
"إيمان... إيمان... يا زين... أمي ابعدها عنها."
تفاجأ زين بالكلمات، ولم يفهم ما يقصده أحمد، فسأله بسرعة وقلق:
"مالها مراتك وابعدها إزاي؟"
رد أحمد بصوت متقطع وضعيف، وكأن الكلمات تخرج من روحه أكثر من فمه:
"وديها عندهم، هما اللي هيحموها، هما اللي هيحموها."
كانت الكلمات تزيد من حيرة زين وقلقه، فسأله بلهفة:
"هما مين؟ وهيحموها من إيه؟"
أجاب أحمد بصوت شبه ميت، كأن حياته كانت تتسرب منه مع كل كلمة:
"أمي... أمي..."
كان زين يشعر بالعجز، لا يستطيع فهم ما يحدث، فسأله بسرعة:
"مالها يا أحمد؟ أنا مش فاهم حاجة."
بدأ زين يسترجع اللحظات الأخيرة من حياة أحمد، تلك اللحظات التي حفرت في ذاكرته إلى الأبد.
كان الألم يلف كل كلمة، وكل حركة، وكل نظرة في تلك اللحظة، حيث الحياة والموت اختلطا في مشهد واحد.
بينما كان أحمد يحتضر بين ذراعي زين، نطق بصعوبة، كأنه يقاتل الألم ليتمكن من توصيل وصيته الأخيرة:
"في ورقة أنا كتبها في هدومي، وديها لإيمان، وقولها تسامحني... وتقولهم يسامحوني... أنا السبب في اللي حصل... أنا سمعت كل حاجة حصلت بينهم وبين أمي... بس ما قدرتش أكسر أمي قدامهم... دي أمي... قولت هتتغير وهتحب مراتي... بس لا، هي بتكرهها... وكرهها ليها ممكن يعمل فيها أي حاجة... وأنا خلاص رايح ومش قادر أحميها تاني... بس هما يقدروا... قولهم ابني عايش ما ماتش... قولهم يا زين."
كان زين يشعر بعبء الكلمات التي قالها أحمد، كأنها أثقال وضعت على كاهله في تلك اللحظة. حاول أن يتمالك نفسه، فقال له بنبرة متوسلة:
"حاضر، أعمل كده صدقني، بس انت قوم يا صاحبي."
لكن أحمد كان يعرف أن وقته انتهى، فابتسم ابتسامة مؤلمة وقال:
"أنا ادفن بهدومي في نفس المكان اللي فيه ورد الياسمين... مش في مقابر العيلة... يا زين."
لم يكن لدى زين أي قدرة على الرفض، فوافق بكل حزن:
"حاضر يا أحمد، حاضر."
ثم فجأة، شعر زين باليأس يسيطر عليه، فصرخ بألم:
"أحمد، لا يا أحمد، قوم يا صاحبي!"
كانت الصرخة تعبر عن الفراق الذي لم يكن زين مستعدًا له، ولكنه كان يعرف أن لا مفر منه. حاول أحمد أن يخفف عنه، لكن صوته كان يختفي مع كل كلمة:
"أه... أه... خلاص يا صاحبي... خلاص."
في تلك اللحظة، لَفَظَ أحمد أنفاسه الأخيرة، وغادرت روحه جسده.
نطق زين بصعوبة وكلمات متقطعة:
"استشهد يا أحمد."
صرخ زين بألم شديد، صرخة مزقت سكون المكان:
"أحمد!"
كانت الصرخة تعبيرًا عن فقدان شخص عزيز، صديق كان جزءًا من روحه. لم يكن قادرًا على قبول الحقيقة، وبقي يصرخ باسم أحمد وكأنه يحاول استعادته للحياة.
وصلت الضباط على صوت زين الصارخ عبر الجهاز، وقاموا بأخذ جسد أحمد إلى السيارة.
لكن زين لم يستطع أن يتحرك، ظل في مكانه، وصوت صياحه يعلو أكثر مع كل لحظة، كأن الألم يزداد حدة كلما أدرك الحقيقة.
ظل زين على هذا الحال لفترة طويلة، حتى انتهت القوات من القضاء على الإرهابيين وتطهير المكان. كان الوقت قد فات، وأبلغ زين بوفاة أحمد.
عندما سمع زين الخبر، كان الأمر أكبر من أن يتحمله. لم يكن قادرًا على الكلام، فطلب من عماد الاتصال بحرم المقدم أحمد وإعلامها بوفاة زوجها.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
في قطاع 115، كان زين يجلس منهارًا، محطماً بسبب فقدان أحد أقرب أصدقائه، الرائد عماد. دخل الغرفة بسرعة والقلق يأكله، يتحدث بصوت ملهوف ومتسرع:
"في مشكلة يا قائد."
نظر إليه زين بترقب وسأل:
"خير، في إيه يا عماد؟ بلغت أهل المقدم أحمد؟"
رد الرائد عماد بصوت متوتر:
"أيوه يا قائد، كلمت الدكتورة، لكن فجأة مش بترد، وابنها الصغير بيصرخ في التليفون. أنا بحاول أهديه، وبقوله هتصرف، لكن أنا مش عارف أعمل إيه."
تأمل زين الموقف للحظة قبل أن يقول بحزم:
"أنا هبلغ أم المقدم أحمد بنفسي، وأقولها باللي حصل. وهما أكيد هيتصرفوا."
هز الرائد عماد رأسه بالموافقة وقال:
"تمام يا قائد."
........ .............. .........
في بيت والدة المقدم أحمد.
كان الألم يتفجر من كل زاوية.
الأم عايدة بصوت مليء بالصدمة والوجع:
"إنتا بتقول إيه؟ ابني مات؟ إزاي دا حصل؟ ابني مات، يا خالق، ابني مات!"
صوت صراخها يملأ الصالة، يرتد في أرجاء المنزل وكأنه صدى لمأساتها. تحاول السيطرة على نفسها، لكن الألم يجتاح قلبها بلا رحمة.
ابنتها سمر تقف بجانبها، تحاول تهدئتها، ولكن الدموع تملأ عينيها، ويدها ....... [المزيد]
معاناة آسر: عندما وصل زين إلى منزل المقدم أحمد، كانت الهدوء يسود المكان، لكنه كان يشعر بثقل الحزن والكآبة في الأجواء.
دخل ببطء، وجلس مع عايدة التي كانت تنتظره بفارغ الصبر. تحدثا في موضوع آسر وورد الياسمين، وكانت كلماته تفيض بالمسؤولية والاهتمام.
أكد لها أن آسر سيكون بأمان معهم، وأنهم سيبقون في مصر، ما سيتيح لها رؤية حفيدها متى شاءت. كانت هذه الكلمات كبلسم على جراح قلبها المثقل بالحزن.
عايدة، بعد انتهاء الحديث، شعرت بأن حملاً ثقيلاً قد أُزيح عن كاهلها. ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، كانت تختزن في طياتها مزيجًا من الراحة والانتصار.
لقد انتهى أكبر كابوس كانت تخشاه، ولكن في داخلها كانت تتماوج أفكار أخرى، لم تكن على نفس البراءة التي بدت على ملامحها. فقد جاءت إليها فكرة شيطانية، فكرة يمكن أن تستغلها لصالحها في هذه اللحظة الحساسة.
جلست عايدة على الكرسي بهدوء، تراقب زين وهو يغادر. كانت تخطط بدقة في ذهنها، تفكر كيف يمكنها أن تستخدم هذه الفرصة لتحقق هدفًا أكبر. كانت تعلم أن أمامها فرصة لا يمكن أن تفوتها، فرصة قد تقلب الأمور لصالحها تمامًا. في تلك اللحظة، لم تكن مجرد أم حزينة على فراق ابنها، بل كانت امرأة تحمل في قلبها مزيجًا من الحزن والطموح.
عزمت على تنفيذ خطتها، وبدأت في رسم ملامحها بهدوء وذكاء، منتظرة اللحظة المناسبة للانقضاض.
.......... ......... ..........
في قصر عبد الحميد، حيث الهواء النقي يتخلل أرجاء المكان، كان الصغير آسر يستيقظ على صوت حنون بجوار أذنه.
الحاجة فاطمة كانت تجلس بجواره على الفراش، ويدها تلامس شعره الكيرلي الأسود برقة تحمل في طياتها حبًا وحنانًا لم يعرفهما إلا من والديه.
شعر بلمساتها، لكنه لم يكن قادرًا على تمييزها في البداية، فتح نصف عينه بصعوبة بسبب نور الشمس الساطع الذي ملأ الغرفة.
بعد لحظات، بدأ يميز ملامحها، لكن بدلاً من أن يشعر بالأمان، امتلأت عيناه الصغيرتان بالعبرات التي انسابت على وجهه الباكي، وبدأ جسده النحيف يرتجف بقوة كما لو كان يعبر عن خوفه العميق.
الحاجة فاطمة، التي كانت ترى تلك البراءة الممزقة في عينيه، شعرت بالقلق الشديد. بدأت تردد اسم الله وتخاطبه بحنان ورقة، صوتها كان دافئًا ومليئًا بالطمأنينة:
"بسم الله الرحمن الرحيم، مالك يا ولدي كده؟ تعالَ، ما تخافش، تعالَ حبيبي، أنا مش هأذيك يا ولدي."
لكن، بدلاً من أن يهدأ، زاد خوفه وتراجع أكثر مبتعدًا عنها. ازدادت حالته سوءًا، وبدأت الحاجة فاطمة تشعر بالعجز. غادرت الغرفة بسرعة وهي تنادي بأعلى صوتها:
"بت يا هنيه، انتي يا بت!"
هرولت هنيه من الأسفل، وصلت إلى السيدة الحاجة فاطمة وهي تلهث قليلاً:
"أيوه يا ستي الحاجة، جاية أهوه."
الحاجة فاطمة، بصوت يشوبه القلق:
"نادي على الحكيم يا بتي، الواد يا حبت عيني باين عليه تعبان جوي، مش راضي يبطل بكي."
هنيه، وهي تدرك جدية الموقف، أجابت بسرعة:
"حاضر يا ستي الحاجة، حاجة تاني؟"
الحاجة فاطمة، بهدوء ولكن بحزم:
"لا، روحي انتي."
دخلت الحاجة فاطمة إلى الغرفة مرة أخرى، محاولة تهدئة الصغير آسر الذي لم يتوقف عن البكاء.
اقتربت منه بحنان أكبر، تحاول أن تريه أنها ليست سوى حضن دافئ يمكنه الاعتماد عليه:
"مالك يا نور عيني؟ اسم الله عليك يا ولدي، قوم، قوم معايا ما تخافش، تعالَ، تعالَ حبيبي هنا."
بخوف وتردد، قام الصغير من مكانه واقترب منها، ولا يزال يرتجف. أجلسته بجوارها على طرف الفراش، وضمته بين ذراعيها، وبدأت تردد آيات من القرآن الكريم بهدوء، وكأنها تلقي السكينه تهدئ من روعه.
شيئًا فشيئًا، بدأ جسده الصغير يهدأ، وتوقف عن البكاء. رفع عينيه ليتأكد من وجودها بجواره، وكان في كل مرة يطمئن أنها لا تزال هناك.
وفي تلك اللحظات، دخلت هنيه إلى الغرفة ومعها الطبيب.
هنيه، باحترام واهتمام:
"الدكتور وصل يا ستي."
الحاجة فاطمة، بابتسامة مطمئنة:
"دخلية يا بتي."
هنيه أشارت للطبيب ليدخل:
"اتفضل يا دكتور، اتفضل."
الدكتور، بابتسامة هادئة:
"خير يا حاجة سلمتك."
الحاجة فاطمة، بابتسامة ودودة:
"الله يسلمك يا دكتور، أنا بخير، بس ولدي ده بعافية شوية، طمنا عليه يا ولدي."
الدكتور، بجدية واهتمام:
"حاضر، أكشف عليه الأول وإن شاء الله خير."
بدأ الطبيب في الكشف على آسر، الذي كان لا يزال يشعر بالخوف في البداية، لكن وجود الحاجة فاطمة بجانبه هدأ من روعه.
جلست الحاجة فاطمة بجواره، تمسك بيده الصغير، وتحاول أن تزرع فيه الطمأنينة. أنهى الطبيب الكشف، ونظرت إليه الحاجة فاطمة بقلق.
الحاجة فاطمة، بصوت منخفض يكاد يكون همسًا:
"خير يا دكتور؟"
الدكتور نظر إلى الحاجة فاطمة بجدية، قائلاً:
"خير يا حاجة، الولد عنده انهيار عصبي، شكله اتعرض لحاجة عملتله صدمة قوية، ودخوله في حالة اكتئاب هي اللي سببت الحالة دي. أنا هكتب له على العلاج، وأهم حاجة إنه ما يفضلش لوحده."
الحاجة فاطمة، بامتنان:
"أكيد يا دكتور، هنعمل كده."
الدكتور قام من مكانه وهو يقول:
"سلام عليكم."
الحاجة فاطمة:
"وعليكم السلام، هنيه، وصلي الدكتور يا بتي."
هنيه، بحماس:
"حاضر يا حجة، اتفضل يا دكتور."
بعدما خرج الطبيب، عادت الحاجة فاطمة وجلست بجوار آسر، نظرتها كانت مزيجاً من الحنان والحزن.
لم تستطع إخفاء مشاعرها، فصوتها خرج محملاً بالشجن وهي تقول:
"حبيبي يا ولدي، جول لي لما شوفتك امبارح، وأنا قلبي بيبكي عليك يا غالي، وكل لما عيوني تنظرلك بتفكرني بولدي زين وهو صغير لما عرف بموت أبوه. ألف رحمة ونور عليك يا غالي."
حاولت أن تتماسك، وتكمل بنفس النبرة الحنونة:
"ما تخافش يا ولدي، أنا جاراك أهو، هجيبلك الأكل علشان تاكل لقمة."
وقفت من جواره وهي تنوي الخروج، لكن يد الصغير تشبثت بها بقوة، كانت تلك اللمسة الصغيرة مليئة بالخوف والاحتياج. نادت بصوت مرتفع: "يا هنيه!"
هنيه، مسرعة من المطبخ:
"أيوه يا حجة، جاية أهو."
الحاجة فاطمة بحنان:
"جيبي الأكل ومعاكي يا بتي، الولد ما أكلش حاجة، يلا همّي بسرعة."
هنيه بطاعة:
"ثواني والأكل يكون جاهز."
مرت دقائق قليلة، وعادت هنيه تحمل صينية كبيرة مليئة بالأطعمة المختلفة.
وضعتها على المنضدة الصغيرة بجوار الحاجة، وبدأت الحاجة فاطمة في محاولة إطعام آسر. كان الصغير مترددًا، يرفض الأكل في البداية، لكن مع إلحاح الحاجة وحنانها، تناول قليلاً.
بعد أن انتهوا من الأكل، أخذته هنيه ليغتسل، وأحضرت له الثياب النظيفة التي سيرتديها. بعدها، نزلوا معًا إلى الحديقة الكبيرة للقصر.
جلس آسر بجانب الحاجة، صامتًا، عيناه تراقبان كل شيء حوله دون أن يبدي أي رد فعل.
جلست هنيه معهما، تحاول الحديث معه أو إضحاكه، لكن دون جدوى. لم تستطع كبح مشاعرها، فتكلمت بحزن: "صعبان عليا جوي يا حاجة."
الحاجة فاطمة، بتنهيدة:
"واني كمان يا بتي، في إيدي إيه أعمله علشان يضحك بس؟ ربنا معاه، اللي حصل كان صعب عليه جوي."
هنيه، محاولة تغيير الموضوع قليلاً:
"زين بيه جاي في الطريق، هو رن على التلفون وقت لما الدكتور كان أهنه."
الحاجة فاطمة، بتحفز:
"طب قومي يا بتي حضري الأكل عمال ما يجي، قومي."
هنيه، وهي تتحرك نحو المطبخ:
"حاضر يا حاجة."
عادت الحاجة فاطمة لتركيزها على آسر، الذي كان يجلس بجوارها بصمت.
انتظرت وصول زين، متمنية أن يكون حضوره قادرًا على تخفيف الألم الذي يثقل قلب الصغير.
كانت تعلم أن الطريق طويل، لكن مع زين، كانت تشعر بأن لديهم فرصة للبدء في شفاء الجروح العميقة التي تركتها الأحداث الأخيرة.
................
عندما وصل زين إلى القصر، دخل الحديقة الأمامية، حيث كان جده يجلس تحت ظل شجرة قديمة. تقدم بخطواته الواثقة نحوه وألقى عليه التحية، ثم علم منه مكان والدته. بدأ يسير باتجاهها بخطوات متزنة، حتى لمحها جالسة بجوار آسر في الحديقة الخلفية.
تقدم نحوها وانحنى ليقبل يدها بحب واحترام.
"إزيك يا مَاى؟"
قالها زين بصوت مليء بالحنان.
الحاجة فاطمة ابتسمت برقة وردت عليه:
"بخير يا ولدي، حمد لله على سلامتك."
جلس زين بجوارها، لكنه سرعان ما لاحظ الصغير آسر جالسًا بهدوء بجانبها. توجه إليه بابتسامة دافئة قائلاً:
"البطل الصغير عامل إيه؟"
بمجرد أن سمع آسر صوته، هرول نحوه، دموعه تملأ عينيه، واحتضنه بقوة كأنما يبحث عن الأمان الذي فقده. كان الحزن واضحًا في ملامح الحاجة فاطمة وهي ترى ابنها يبكي من جديد.
فعاتبت زين بحنان: "اكده يا ولدي، تبكيه تاني؟"
زين طمأنها وهو يمسح على ظهر آسر بحنان:
"ما تجلجيش يا مَاى، دا بطل، مش كده ولا إيه؟"
وجه كلماته الأخيرة للصغير، الذي أومأ برأسه موافقًا وهو ما زال متشبثًا به.
ابتسمت الحاجة فاطمة بسعادة وارتاح قلبها لرؤية الصغير يتعلق بابنها بهذه الطريقة، وقالت بدعاء صادق:
"ربنا يسعدك يا ولدي."
حمل زين الصغير وجلس به على المقعد بجانبه، وضعه على قدمه واستمر في الحديث مع والدته.
قص عليها كل ما حدث بالتفصيل بخصوص آسر، وما يجب عليهم فعله لحمايته.
بينما كان يتحدث، لاحظ زين أن جسد آسر بدأ يرتجف من جديد، وبشكل مفاجئ، نزل الصغير من على قدمه وابتعد عنه بخطوات مترددة.
كانت نظراته تائهة، وكأن شيئًا أثقل قلبه الصغير. اقترب زين منه بخطوات حذرة، قلقًا على ما يجول في خاطر الطفل.
قال بحزن وحيرة:
"مالك يا حبيبي، في إيه؟"
لم يرد آسر، بل استمر في الابتعاد، لكن زين لم يستسلم، اقترب منه أكثر وأمسك بذراعيه برفق، وقال بنبرة حنونة:
"إنت مش عاوز تروح هناك؟"
آسر أومأ برأسه بالموافقة، وعيناه ملأهما الخوف. ضمه زين لصدره بقوة، كأنه يحاول أن ينقل له كل الطمأنينة التي يستطيع، وقال بصوت مليء بالحنان:
"ما تقلقش يا حبيبي، مش هتروح هناك. أنا هنا، وهفضل جنبك."
ظلت الحاجة فاطمة تراقب المشهد، ودمعة حارقة سالت من عينها. شعرت بالامتنان لابنها، الذي كان يُعطي لآسر الأمان الذي يحتاجه، وكانت تعلم أن تلك اللحظات كانت بداية رحلة طويلة، لكنها كانت واثقة أن زين سيظل الدرع الحامي للصغير.
....................
بعد مرور عام كامل على يوم الوفاة، تغيرت حياة آسر بشكل ملحوظ.
كان الصبي قد اندمج في حياة زين وأسرته، محاطًا بحب واهتمام لم يعهده منذ فقد والديه.
بات يتحدث مرة أخرى، وانقشعت سحابة الصمت التي كانت تخيم على حياته، ولكن الكوابيس التي تلاحقه في الليل ما زالت تُلقي بظلالها عليه.
كان آسر يجد الأمان بين جدران هذا القصر الريفي وبين أذرع زين، والحاجة فاطمة، وجده عبد الحميد، وحتى هنيه التي كانت تعتبره ابنها الذي لم تنجبه.
أحبهم بكل قلبه، وهم بدورهم كانوا يرونه النور الذي أضاء حياتهم.
ومع اقتراب موعد دخوله المدرسة، بدأ يلوح في الأفق شبح العودة إلى القاهرة.
كان عليه أن يعود ليعيش مع جدته. تلك المرأة التي حاولت مرارًا وتكرارًا أن تقترب منه، لكن الخوف منها كان يتسلل إلى قلبه كلما اقتربت.
كان يشعر في كل مرة تُمسك بيده وكأنها تُعيده إلى كوابيسه القديمة. لم تكن مجرد جدته؛ كانت تذكِره بالألم والخسارة.
جدته، التي كانت تعيش في ظل إحساس دائم بالفشل، لم تجد مفرًا من استخدام حيلها للضغط على زين.
تلك الحيل التي بَنَت بها سورًا حول آسر، لإعادته إلى حضنها، مستغلة براءة الطفل وثقة زين التي طالما كانت عمياء عن حقيقة نواياها.
في صباح اليوم الذي كان من المقرر أن يعود فيه آسر إلى القاهرة، جلس زين مع آسر بهدوء، محاولاً أن يشرح له الأمر برفق.
كان زين يُدرك أن الرحيل من هذا المكان الذي أصبح منزله سيكسر قلب الطفل. لكنه كان مضطرًا لإقناعه.
تحدث زين بصوت ملؤه الحنان:
"حبيبي، لازم ترجع مع جدتك لفترة المدرسة. لكن مش هتكون لوحدك، أنا هكون معاك كل يوم بالتليفون، ولما تنزل إجازة هنروح سوا نشوف الحاجة فاطمة ونتفسح، تمام؟"
كانت عيون آسر الكبيرة تراقب زين بتردد. كان يشعر بشيء غامض يخيم على كلماته، كأنها خيوط وهمية تحاول أن تربطه بأمان زائف. وأخيرًا، بعد لحظات من الصمت، هز آسر رأسه بالموافقة. لم يكن مقتنعًا تمامًا، لكنه كان يثق في زين أكثر من أي شخص آخر.
وعندما أخبر زين الجدة عايده بأنه سيعيد آسر اليوم، انفجرت دموع الفرح في عينيها. كانت تلك الدموع مزيفة، فهي لم تكن تعني بها فرحها بعودة آسر بقدر ما كانت تنبع من انتصارها الشخصي.
كانت تعلم أن آسر لن يتحدث عما حدث له، وأنها بذلك نجحت في السيطرة عليه مرة أخرى.
فكان القلق ينهش قلبها بعد معرفة تحسن حالته، لذالك بدأت في خطتها الايقاع بيه في قبضتها مره أخري، لكي تضمن سكوته.
ترسم ابتسامه نصر على ثغرها، بعد العداوه التي فعلتها بين ورد الياسمين وزين. وأناه هو من يقف لهم الآن. أقنعته أنهم تخلوا عنه، وقد خانت وعدها له بعدم أخبارهم عن آسر، لكن هم رفضوه أخذه، غضب بشده وقرر عدم البحث ورائهم فلا يريد معرفة شئ بعد الان.
وقبل الرحيل، وقف آسر أمام الحاجة فاطمة.
نظرت إليه بعينين تملؤهما الحزن، وقالت بصوت يكاد ينكسر:
"هتوحشيني قوي يا ولدي."
كان صوته يخرج محملاً بكل ما تحمله من مشاعر الحب والألم والخوف من المجهول.
أجابته الحاجة فاطمة بصوت مفعم بالحزن:
"وانت كمان هتوحشني، أنا هاجي تاني، عمو زين وعدني، مش كده؟"
كان زين يقف بجانبهم، وهو يحاول رسم ابتسامة على وجهه المتعب، فقال:
"أيوه، كل لما أنزل إجازة هاجي أخدك معايا للبلد، وفسحك كمان، بس عاوزك توعدني إنك هتسمع الكلام وهتروح التمارين علشان تكون بطل."
تأمل آسر وجه زين بعينين تملؤهما البراءة والتساؤل، وقال:
"بطل زيك انت وبابا."
في تلك اللحظة، شعر زين بمرارة غريبة في حلقه، وكأن كلمات آسر قد أثارت جرحًا لم يندمل بعد.
لكنه أجاب بابتسامة متعبة: "أيوه يا حبيبي، بطل زي بابا."
اقترب آسر من جده عبد الحميد وقبله على خده، ثم قال:
"مع السلامة يا جدي."
كانت الكلمات تخرج منه بصعوبة، وكأن كل حرف منها يحمل في طياته وداعًا مؤلمًا.
رد عليه الجد بحنان بالغ:
"مع السلامة يا ولدي، خلي بالك على حالك."
كان في صوته رجاءً خفيًا بأن يعود آسر إليهم قريبًا، رغم علمه بأن ذلك قد لا يحدث.
وعندما همّ زين بالمغادرة، قبل يد أمه وجده، وقال لهما:
"مع السلامة يا أماي... مع السلامة يا جدي."
كانت تلك اللحظة مشحونة بالمشاعر، وكأنها الوداع الأخير قبل أن يدخلوا جميعًا في فصل جديد من حياتهم، فصل قد لا يحمل لهم سوى المزيد من الألم والفراق.
وانطلق زين وآسر في السيارة، متجهين نحو القاهرة، تاركين خلفهم ذكريات عامٍ كامل من الحب والألم، بينما كانت الجدة ترسم في ذهنها خططًا جديدة لضمان بقاء آسر تحت سيطرتها.
بعدما غادر زين وآسر القصر، كان الصمت يلف بينهما بينما كانا يركبان السيارة. أدار زين المحرك، ونظر إلى آسر برفق:
"في حاجة عاوزها قبل ما نمشي؟"
آسر، بصوت خافت وكأنه يحاول أن يخفي حزنه:
"لا... نِجي تاني؟"
زين، بابتسامة طمأنة:
"حاضر، هنيجي تاني."
أخذ زين طريقه نحو القاهرة، لكنه توقف أمام سوبر ماركت كبير. نزل من السيارة والتفت إلى آسر:
"هنزل أجيب حاجة تأكلها. هتفضل في العربية ولا تيجي معايا؟"
آسر، بنبرة طفولية ملؤها الحذر:
"أجي معاك."
فتح زين الباب لآسر، وأخذه معه إلى داخل المتجر.
كان آسر يشير إلى أشياء هنا وهناك، وكل ما أشار إليه، اشتراه زين دون تردد.
كان زين يشعر أن هذه اللحظات الصغيرة تعني الكثير لآسر، وأنه يحاول ملء الفراغ الذي يشعر به. بعد أن امتلأت السلة، قال زين:
"كده خلاص؟"
آسر، وهو ينظر إلى السلة الممتلئة:
"أيوه."
زين بحب:
"يلا علشان نحاسب."
عادا إلى السيارة مع الأكياس المليئة بالطعام والحلوى. بدأ زين يقود السيارة مرة أخرى، وكان يحاول التحدث إلى آسر بين الحين والآخر لتهدئته.
كلما اقتربا من القاهرة، كان زين يلاحظ التوتر يتسلل إلى آسر، وكأن الخوف بدأ يجتاح قلبه من جديد.
وأخيراً، وصلوا إلى وجهتهم. أوقف زين السيارة أمام منزل لم يألفه آسر من قبل.
كانت عيناه تبحثان في المكان بعينين تملؤهما الحيرة والارتباك. أين هو؟ هذا ليس بيت جدته، وليس بيتهم القديم. شعر زين بتردد الصغير، فتقدم نحوه ووضع ذراعه حول عنقه بحنان، محاولاً طمأنته، بصوت هادئ ومليء بالعطف:
"ده بيت جدتك الجديد. هي دلوقتي عايشة هنا."
تردد آسر للحظة، ثم نظر إلى زين وكأنما يطلب منه تأكيداً، طمأنه زين بابتسامة حنونة. شعر آسر بالراحة، ولو قليلاً، من كلمات زين، لكن داخله كان لا يزال قلقًا مما ينتظره داخل هذا البيت الجديد.
آسر كان يقف بجوار زين، متشبثًا بيده الصغيرة وكأنه يحاول بكل قوته أن يمنع هذا الفصل من حياته من الانفتاح أمامه.
نظر إلى زين بعينين تملؤهما الرغبة في الهروب، في البقاء بعيدًا عن كل ما يخيفه في هذا المكان.
كان يريد أن يصرخ، أن يطلب من زين أن يأخذه بعيدًا، لكن صوته خانه؛ ظل الصمت يخنق رغبته في الكلام.
صعد زين به إلى الطابق الرابع، حيث توجد شقة جدته. كل خطوة كانت تثقل قلب آسر بالخوف.
اختبأ خلف زين عندما بدأ الأخير يطرق الباب. لم تمر سوى لحظات قليلة حتى فتحت سمر الباب، وهي ترحب بزوارها بحماس.
سمر:
"أهلا يا زين بيه!"
زين بجدية:
"أهلا بيكي يا سمر."
ابتسمت سمر عندما رأت آسر، وحاولت أن تبدو دافئة ومشجعة.
"أسوره، حبيبي، وحشتني! تعال سلم على عمتك."
لكن آسر لم يرد، بل اختبأ خلف زين أكثر. شعر زين بارتجافة الصغير، فمال إليه وحدثه بنبرة حنونة:
"آسر، ارفع وشك، روح حبيبي سلم على عمتك، روح."
لكن آسر ظل متسمرا في مكانه، وكأن جسده قد جمده الخوف. أمسك زين بيده وحركه قليلا نحو سمر، لكنها سرعان ما قبضت على يده وسحبته إلى صدرها، ضمته بقوة. كان رد فعل آسر مخيفا؛ ارتعد بشدة، واندفع مرة أخرى للاختباء خلف زين، يمسح دموعه التي بدأت تتساقط بلا توقف.
سمر، بابتسامة مجبرة:
"تفضل يا زين بيه، مش هتفضل واقف على الباب."
دخل زين الشقة، ومعه آسر الذي لم يترك يده، يتمسك بها وكأنها آخر ملاذ له.
عايدة، بابتسامة واسعة وهي تحتضن آسر:
"أهلا بحبيب نانا، أهلا. حبيبي، وحشتني أوي! كده تغيب عني كل ده؟"
كان زين يشعر بالخوف الذي يعصف بقلب آسر، ولكن عندما رأى عايدة وهي تغمره بالحب والحنان، شعر ببعض الارتياح.
لكن تلك المشاعر المتضاربة كانت تمزقه؛ كيف يمكنه أن يطمئن وهو يرى الصغير متمسكا به بهذا الشكل، خائفا من أي اقتراب؟
بعد ساعة من الجلوس والمراقبة، رأى زين أن آسر بدأ يتحرك بحذر مع عايدة داخل الشقة، حتى قادته إلى غرفته المزينة بالألعاب والدمى. شعر زين ببعض الطمأنينة أخيرًا، لكنه قرر الرحيل عندما رأى أن الصغير قد ارتاح قليلا.
نادى زين على آسر ليودعه، لكن الصغير بكى بقوة واندفع نحوه، وكأنه يحاول الإمساك باللحظة الأخيرة من الأمان.
زين بحب ونبرة هادئة:
"أنا هاجي تاني وهكلمك كل يوم، أنا معاك."
استمر آسر في البكاء، يهز رأسه بنعم دون أن يستطيع التوقف عن الدموع.
عايدة، وهي تحاول تهدئة الصغير:
"مع السلامة يا ابني، واطمن، آسر في عيوني. دا ابن الغالي، وحشني أوي."
استمرت عايدة في تقبيل آسر، بينما زين يبتسم بارتباك على ما يفعله أمامه.
بعد خروج زين، شعرت عايدة بالراحة. نظرت إلى الصغير ببرود مفاجئ، وتغيرت ملامحها بشكل مخيف.
عايدة، بحدة:
"إنت هتفضل واقف عندك كتير؟ ادخل يلا علشان أقفل الباب."
آسر كان ينظر إليها برعب، وكأنما تأكد الآن من مخاوفه. كانت تلك المرأة التي تظهر أمامه الآن هي الحقيقة المخيفة التي كان يشعر بها طوال الوقت.
عايدة، وهي ترفع صوتها:
"يلا!"
هرول آسر نحو غرفته، وأغلق الباب خلفه بسرعة. ارتجف من الخوف، وانخرط في نوبة بكاء محموم، حتى غرق في نوم ثقيل، هاربًا من واقعه القاسي إلى عالم الأحلام.
في صباح اليوم التالي، كان المنزل يعج بالصراخ الذي يتردد في أرجائه، لينهي هدوء الليل الذي كان آسر يحتمي به.
استيقظ الصغير بفزع على صوت جدته عايدة، التي كانت تقف أمام فراشه، وجهها مشدود بالغضب، ونظراتها تشبه السكاكين التي تطعن قلبه الخائف.
آسر، بصوت متقطع ينبع من رعبه:
"إي، إي، يا نانا، في إيه؟"
عايدة، بنبرة حادة مليئة بالازدراء:
"إنت هتأتأ كمان؟ اتكلم عدل! ويلا قوم، مش هتفضل نايم طول اليوم!"
آسر، بصوت مهتز:
"حااااضر."
قام آسر بسرعة من فراشه، لا يعرف ما الخطأ الذي ارتكبه ليغضبها بهذا الشكل.
خرج متجهًا نحو المرحاض، يغتسل ويغير ملابسه، ثم بخطوات مترددة توجه نحو غرفة الطعام.
كانت عايدة تجلس على مقعدها أمام مائدة الطعام الكبيرة، وعلى جانبيها ابنتها وزوجها وأولادهما.
رآهم آسر من بعيد، وتوقف للحظة، مترددًا في الاقتراب. مشاعر الحزن والخوف كانت تتصارع داخله، فوقف للحظة يبكي بصمت. اقترب أخيرًا بحذر، كأنه يسير على جمر، وقال بخوف وهو يحاول أن يخفي دموعه:
"نانا..."
عايدة، دون أن تنظر إليه، وبنبرة باردة:
"خير؟"
نظر آسر إلى مائدة الطعام، حيث كانوا جميعًا مشغولين بأكلهم، أما هو، فقد أحس بالغربة، وكأنه ليس جزءًا من هذه العائلة.
تراجع خطوة إلى الوراء، ثم جلس بعيدًا عنهم، يشعر بالجوع الشديد لكن خوفه كان أكبر من أن يطلب شيئًا. كانت عيناه تملؤهما الدموع، بينما ينتظر بصمت.
عندما انتهت عايدة من طعامها، قامت من مكانها، واقتربت منه بنظرة خالية من أي مشاعر. كانت نظراتها قاسية، وكلماتها تحمل أكثر من أمر واحد؛ كان صوتها مزيجًا من النصر والسلطة، كأنها كانت تستمتع بتحطيم روحه البريئة.
عايدة، بأمر صارم:
"قوم كل، يلا خلص."
تقدم آسر ببطء نحو السفرة، منكسراً وخائفاً، وعيونه الحزينة لم تتوقف عن البكاء. جلس على الكرسي أمام الأطباق الفارغة، التي لم يتبق فيها سوى القليل من الطعام. حاول أن يأخذ لقمة من الطعام، لكن الحزن الذي يعتصر قلبه منع الحلق من بلعها. شعر بالغصة، فترك المائدة فجأة، واندفع نحو غرفته، حيث يستطيع أن يبكي بحرية دون أن يراه أحد. كان القهر والألم يعصفان به؛ لم يعرف معنى الألم الحقيقي إلا عندما فقد والديه، والآن يشعر وكأنه فقد جزءًا آخر من حياته.
تابعت عايدة المشهد بابتسامة نصر خفية؛ كانت سعيدة برؤيته محطمًا هكذا، وكأنها تحققت من قوتها عليه. تقدمت نحوه، ووقفت أمامه كما لو كانت تقف أمام فريسة هشة، وقالت بصوت مليء بالازدراء والفخر بما فعلت:
"إنت رايح فين؟"
آسر، وهو يمسح دموعه التي لم تتوقف:
"هروح الأوضة."
عايدة، بنفس النبرة القاسية: "شيل الأطباق دي وديها الحوض، يلا."
تحرك آسر بخطواته الصغيرة ليؤدي الأوامر التي أمرته بها عايدة. لم يخلُ اليوم من كثرة طلباتها وأوامرها القاسية، وكلماتها التي كانت تنغرس في قلبه كالسكاكين.
كان كلامها سامًا، يقتله ببطء، يحطم روحه شيئًا فشيئًا. يتكرر هذا المشهد يوميًا، مع اختلاف المهام التي تُجبره على القيام بها، بينما يزداد حزنه يوما بعد يوم.
في كل وجبة، سواء كان الغداء أو العشاء، كان يجلس متوترًا، محاولًا تجنب نظراتها الحادة وكلماتها الجارحة.
بعد وفاة والديه، لم يعرف طعم الراحة، ولم يبتسم منذ ذلك الحين. الحزن والوجع والخوف كانوا رفقاءه الدائمين، ولم يكن هناك هاتف ليتحدث مع زين، الرجل الذي كان يشعر معه بالأمان.
كان غياب زين الطويل بسبب عمله يزيد من خوفه وقلقه؛ أحيانًا يغيب زين لأسابيع أو شهور، وكانت هذه الفترة بالنسبة لآسر كابوسًا متواصلًا.
ومع مرور الأيام، ازداد خوفه. حتى عندما أتيح له التحدث مع زين عبر الهاتف، لم يستطع إخباره بشيء. كانت عايدة تراقب كل كلمة، واقفة فوق رأسه، تحدق فيه بعينين مليئتين بالتهديد.
كان آسر يشتاق إلى زين، إلى الحاجة فاطمة، وإلى الجد. كانوا يمثلون له عائلته الحقيقية، وكان ينتظر نزول زين في إجازة ليأخذه بعيدًا عن هذا السجن الذي يعيش فيه.
كان الخوف يسيطر عليه لدرجة أنه حتى عندما كان مع زين بمفرده، لم يكن يجرؤ على الحديث عن معاناته. تدهورت حالته أكثر من السابق، حيث أصبح يتلعثم في الكلام، وبدلاً من أن ترحمه عايدة، زادت قسوتها عليه، ووصلت إلى حد ضربه في بعض الأحيان. لم يستطع الصغير المقاومة، ولا حتى الصراخ؛ فقد خانه صوته، ولم يبقَ له سوى الدموع للتعبير عن ألمه، ورعشة جسده التي كانت تعكس حالة الرعب التي يعيشها.
مرّت الأيام، يومًا بعد الآخر، حتى انتهى الفصل الدراسي الأول، وبدأت إجازة نصف العام.
وعده زين بأنه سيأتي قريبًا ويأخذه للملاهي، لكن آسر طلب شيئًا آخر. عندما علم بقدوم زين، هرول نحو السيارة وصعد بجانبه. كان وجهه مليئًا بالتردد والحيرة، لكنه أخيرًا تحدث:
"لاء، أنا عاوز أروح شقتنا."
زين، متعجبًا:
"شقة إيه؟"
آسر بإرتباك :
"بيتنا، أنا وبابا وماما... أنت قلت إنه لسه موجود."
زين، محاولًا فهم طلبه:
"أيوه، بس انت عاوز تعمل هناك إيه؟"
آسر، بصوت مملوء بالحنين: "أجيب صور بابا وماما، وفي حاجات ماما كانت بتحبها. أنا عاوز أحس بماما."
جلس زين يفكر، وعقله لا يسعفه بما يجب أن يقوله. كان يرى في عيون آسر إصرارًا وحزنًا عميقًا، فتنهد بعمق قبل أن يرد بلطف:
"حاضر، يلا بينا."
آسر، مترددًا:
"ممكن طلب أخير؟"
زين، بابتسامة مشجعة:
"أكيد، طبعًا."
آسر، بصوت خائف:
"مش عاوز حد يعرف... عن حاجة ماما. دي حاجة تخصها، وكانت سر بينا، وأنا عاوز أحافظ على سرها. أنا كنت وعدتها بكدا يوم ما هي قالتلي على سرها. أرجوك."
زين، بعيون دافئة وابتسامة مطمئنة:
"إنت تطلب وأنا أنفذ، طلباتك أوامر يا باشا."
كانت ابتسامة زين تلك كافية لتخفف بعضًا من الألم في قلب آسر. شعر الصغير براحة لم يشعر بها منذ وقت طويل، وعيون زين البنية اللامعة زادت من جمال اللحظة. أخيرًا، نطق آسر بثقة أكبر:
"يلا بينا."
زين ظلّ محتفظًا بابتسامته وهو يقود السيارة، متجهًا نحو منزل صديقه العزيز. عندما وصلا، نزل زين وآسر من السيارة، ولم ينتظر آسر أن يفتح له زين الباب، فقد كان متشوقًا لرؤية السر الذي تخفيه والدته. لم يكن يدرك ما الذي ينتظره داخل المنزل، لكن كل شيء في داخله تبخر عندما رأى المكان. الذكريات هاجمت عقله وأخذت تشكّل أمام عينيه مشاهد أشبه بفيلم رعب.
حين صعدا السلم، كان آسر يرى أمامه الرجال الذين حملوا النعش في ذلك اليوم المروّع، كما رأى جدته وهي تحتضنه باكية. دموعه نزلت بغزارة، وارتجف جسده حتى لاحظ زين شروده وتوتره. نزل زين على ركبتيه ليكون في مستوى آسر وقال له بصوت مليء بالحنان والقلق:
"آسر، إنت كويس؟ من أول ما دخلنا العمارة وانت ساكت ودموعك نازلة، حبيبي ليه؟ تحب نرجع، وأنا أجبلك اللي إنت عاوزه؟ قوللي على المكان وأنا هجيبهم."
ردّ آسر بصوت متقطع:
"أنا كويس يا عمو زين."
ضمّه زين إلى حضنه ليهدئه، وبعدها توجّه إلى الباب ليفتحه. أما الصغير، فقد أغلق عينيه بقوة محاولًا الهروب من الذكرى السيئة التي احتلت ذهنه. كان يرى والدته وهي غارقة في دمائها.التي طغت على ذاكرته. تردد في خطواته، وكاد ينهار تحت وطأة هذه الذكريات،
أفاق من ذكرياته على صوت زين وهو يسأله عن الغرفة، فأشار له آسر إليها وتوجها سوياً. عندما دخل الغرفة، اتجه آسر مباشرة إلى الخزانة وأخرج منها صندوقًا متوسط الحجم.
حمله زين ووضعه على الفراش.
آسر فتح الصندوق وأخذ منه صورة.
كانت تلك اللحظة كالسكين التي قطعت أوتار قلبه، فبكى بحرقة ووجع عميقين. تقدم زين ليرى الصورة، فاكتشف أنها صورة لآسر مع والديه قبل وفاتهما، حين كان في الخامسة من عمره.
أخذ زين آسر في حضنه محاولًا تهدئته، وبدأ بحركات لطيفة على ظهره الصغير، بينما مسح دموعه بيده الأخرى. شعر آسر ببعض الهدوء وتحرك في حضن زين ليضع الصورة بجواره. بعد لحظة صمت، أخرج آسر كتابًا كبيرًا من الصندوق وقال بصوت يملؤه الحنين والحزن:
"دا سر ماما."
نظر زين إلى الكتاب بدهشة وقال:
"الكتاب دا؟"
آسر، متمسكًا بذكرى والدته:
"دا مش كتاب، دا فيه حياة ماما كلها. ماما هي اللي قالت كده."
ثم استجمع آسر شجاعته وبدأ يسترجع اللحظة التي حدثته فيها والدته عن "السر". بعيون تلمع بالدموع والذكريات، قال:
"كنت قاعد أنا وماما، وفجأة ماما قالت..."
تذكر آسر تلك اللحظة بوضوح شديد، وكأنها حدثت للتو. كان حينها صغيرًا، لم يتجاوز الخامسة من عمره، وكانت والدته إيمان تبدو حزينة بشكل لم يفهمه في ذلك الوقت. كانت تجلس بجواره على السرير، وعيناها تغمرهما الدموع رغم محاولتها إخفاءها.
إيمان:
"عاوزة أقولك على حاجة يا آسر."
آسر، بنبرة قلقة:
"إي يا ماما، انتي بتعيطي ليه؟"
ردّ آسر، وهو لا يفهم سبب بكائها:
"إيه يا ماما؟ إنتي بتعيطي ليه؟"
ابتسمت والدته بحزن وقالت:
"لا يا حبيبي، مش بعيط ولا حاجة. أنا بس كنت عاوزة منك وعد."
في تلك اللحظة، لم يفهم آسر معنى الوعد، فقال ببراءة:
"وعد إيه يا ماما؟ أنا مش فاهم حاجة."
شرحت له إيمان معنى الوعد، وطلبت منه أن يحفظ سرّها مهما كان. وبعد أن وافق آسر على وعدها،
آسر بفضول:
"وإيه هو السر اللي عايزة أوعدك عليه؟"
توجهت إيمان نحو الدولاب وأخرجت صندوقًا قديمًا، وفتحته بهدوء. أخرجت منه كتابًا كبيرًا مغلفًا بعناية، وقدمته لآسر.
إيمان، بصوت يحمل مشاعر مختلطة من الحنين والألم:
"هو دا السر... الكتاب دا فيه قصة حياتي كلها، من وأنا عندي 15 سنة لحد دلوقتي."
آسر، وقد امتلأت عيناه بالدهشة:
"يعني انتي بتكتبي كل حاجة بتحصل معاكي في كتاب؟"
إيمان، مبتسمة:
"أيوه، اسمها مذكرة، ودي بقا مذكراتي."
آسر، وقد ظهر الحماس في عينيه:
"أنا كمان هكتب مذكراتي، علشان لما أكبر أولادي يقروها زي ما أنا هقرأ مذكراتك."
ابتسمت إيمان ودمعة تراود عينيها، ثم قال آسر بطفولة وحماس:
"أنا عاوز أقراها!"
إيمان، ضاحكة برقة:
"إنت لسه صغير أوي يا أوزعه."
آسر، بنبرة غاضبة طفولية:
"أنا مش صغير، أنا عندي خمس سنين، أنا في KG2 يا ماما!"
كانت ضحكته بريئة ومليئة بالطفولة، وقد عبر عن غضبه بتعابير وجهه اللطيفة التي جعلت إيمان تضحك بصوت أعلى.
"خلاص، خلاص، ما تزعلش. وبعدين تعرف إنك بتفكرني بيها أوي؟ كل لما كنت أقول لها مش هتعرفي، كانت تقعد تعد لي هي بتعرف تتكلم كام لغة."
آسر، بفضول:
"إنتي على طول بتقول هي، وأنا مش عارف هي مين. أنا بحبها من كتر ما إنتي بتتكلمي عنها، بس نفسي أشوفها أوي يا ماما."
إيمان، وقد ازدادت ملامحها لطفًا:
"امسك يا سيدي المذكرة دي بقا، فيها كل حاجة، مش بس قصة حياتي، وكمان قصص حياتهم، وازاي إحنا اتعرفنا على بعض، وكل أيامنا الجميلة والصعبة، الحلوة والوحشة، كل حاجة أنا كتبتها هنا."
ثم أكملت كلامها بنبرة جادة:
"الوعد اللي عاوزاك توعدني بيه، إنك تحافظ عليه، وأوعى حد يعرف عنه حاجة غير شخص تكون واثق إنه بيحبك بجد."
آسر، بثقة بريئة:
"ما فيش حد بيحبني غيرك إنتي وبابا وعمو زين."
إيمان، وهي تمد يدها للصغير بابتسامة مليئة بالمحبة:
"توعدني يا آسر؟"
لم يتردد آسر لحظة، مد يده الصغيرة نحو يد والدته وعانقها بقوة، ثم قال بصدق وإصرار:
"أوعدك يا ماما."
كان ذلك الوعد محفورًا في قلب آسر، لم ينسه أبدًا، وكان يعلم في قرارة نفسه أنه سيفعل المستحيل ليحافظ على هذا السر كما وعد والدته.
استفاق آسر من ذكرياته العميقة، والتفت نحو زين الذي كان ينظر إليه بعينين مملوءتين بالفضول والمحبة.
آسر، بنبرة مترددة:
"أنا عارف إنك بتحبني، علشان كدا حكيتلك على سر ماما. أنا عاوز أخد الكتاب وحاجات ماما معايا، بس مش عاوز حد يشوفهم، أعمل إيه؟"
ابتسم زين وطمأنه:
"سيب الموضوع عليا، أنا هتصرف. بس هتقدر تخبيهم ولا أخدهم معايا؟"
هزّ آسر رأسه بالإيجاب:
"لا، هقدر. أنا عاوزهم معايا على طول."
سأل زين بابتسامة مشجعة:
"في حاجة تانية عاوزها من هنا غير الصندوق؟"
أجاب آسر وهو يهز رأسه:
"لا، دا بس كده خلاص."
قام زين بوضع الأشياء بعناية في الصندوق وأغلقه، ثم حمله وخرج مع آسر من الشقة.
سارا معًا نحو السيارة، واتجها نحو شقة الجدة. قبل أن يصعد زين إلى السيارة، اتصل بعيسى وطلب منه أن يحضر سمر وعايدة إلى مطعم قريب، موضحًا أنه يرغب في تناول العشاء معهم وقضاء بعض الوقت سوياً.
وافق عيسى وبلغ الجميع، وبدأوا جميعًا في التجهيز للخروج.
وقف زين بعيدًا عن المنزل، يراقبهم وهم يغادرون بسيارة عيسى دون أن يلاحظوا وجوده.
بعد رحيلهم، عاد زين مع آسر إلى الشقة، وبحكم عمله كان من السهل عليه فتح الباب. دخلا إلى الغرفة وأخفيا الصندوق في الدولاب بعناية، ثم أغلقا الشقة وغادرا.
كان زين يخطط لتحويل انتباه الجميع بعيدًا حتى يتمكن من تأمين مقتنيات آسر دون أن يلاحظ أحد.
وصلوا إلى المطعم وتناولوا العشاء، ولكن الجو كان مشحونًا بالصمت، مع بعض الكلمات القليلة المتبادلة. كانت عايدة تبدو قلقة، راغبة في إنهاء العشاء بسرعة خوفًا من أن يفصح آسر عن معاملتها السيئة له.
بعد الانتهاء من العشاء، استأذنوا للمغادرة. وقف زين وقال بابتسامة:
"تمام، موافق، بس بشرط تتكرر مرة تانية أكيد."
هز الجميع رؤوسهم بالموافقة، ثم قال عيسى بمرح:
"أكيد طبعًا يا قائد."
وبابتسامة هادئة، قال زين:
"تمام، يلا."
ثم قام زين باصطحاب آسر إلى السيارة، وبينما كان يفتح الباب، تذكر شيئًا وعاد ليتحدث إلى عيسى:
"آه، نسيت أقولكم، إن شاء الله الإجازة الجاية أنا هآخذ آسر معايا. هيكون تقريبًا في نهاية الترم الثاني، وهو ما عندوش امتحانات."
كانت هذه الكلمات تحمل وعدًا جديدًا لآسر، وتعبيرًا عن حرص زين على رعايته والاهتمام به، خصوصًا بعد كل ما مر به.
عايدة، بتوتر ملحوظ وصوت متردد:
"بس كدا، هتكون الدراسة لسه شغالة، هو هيغيب شهرين قبل ما السنة تخلص."
زين، بنبرة حازمة:
"ما هو في سنة أولى، يعني مش هيحصل حاجة. وبعدين أنا أخدت إجازة لمدة شهر، وحابب إنه يكون معايا. هو هيغيب شهر مع إجازة آخر السنة، يعني شهر مش اتنين. وحضرتك لما قلتي إنك عايزاه، أنا عملت كل حاجة عشان أجيبهولك، رغم إني شايف إنه مش مبسوط وحالته بترجع زي الأول. كويس إنه معايا بيتكلم شوية، السنة اللي قعدها عندي كان اتحسن كتير، المفروض إن حالته تكون للأحسن معاكوا مش كدا."
توقف زين للحظة منتظرًا رد فعلهم على كلماته الغاضبة، لكن لم يتلقَ أي رد، فاستمر:
"وعلى فكرة، في حاجات أنا جبتها لآسر، هي معايا في العربية، دي حاجات تخصه هو لوحده. أظن إن كلامي واضح، وأنا ساكت بمزاجي بس."
كانت نبرة زين واضحة وحاسمة، وهو يعرف تمامًا أن الرسالة وصلت إليهم:
"لو آسر بس يقول عن اللي مضايقه، تأكدوا إني مش هرحم اللي كان السبب، أيًا كان هو مين. أنا قلت اللي عندي، الإجازة الجاية هآخده، وإذا كان على المدرسة أنا هتصرف. هيقضي الإجازة عندي كلها... تمام."
ألقى زين كلماته بحزم، وأدرك الجميع مغزى كلامه. فقد وصل إلى علمهم أن آسر يتعرض لسوء معاملة، ولو اكتشف زين التفاصيل، فلن يتردد في التصرف.
عايدة كانت على وشك الاعتراض، لكن خوفها وتوترها سيطرا عليها، فالرعب ملأ قلبها وهي تدرك أن زين قد قال كلمته ولا مجال للمقاومة.
عايدة، بتردد:
"بس يعني هو..."
زين، مقاطعًا بحدة:
"أظن إن كلامي واضح. مش هيرجع من عندي غير على بداية السنة الجديدة اللي هتكون ثانية، مش كدا؟ وأنا وعدته بكدا."
سمر، محاولة تهدئة الأجواء:
"أيوه، ما هو في أولى في إجازة نص السنة."
زين، بحزم:
"تمام."
بهذا انتهى الحديث، وزين قد وضع الأمور في نصابها بوضوح. عايدة لم تجد مفرًا من القبول بما قاله، وهي تدرك أن زين لن يتهاون في حماية آسر والاعتناء به، خاصة بعد ما لاحظه من تدهور حالته.
بعدما تأكد زين أن آسر بأمان في السيارة، فتح له الباب بابتسامة مطمئنة ليخفف من القلق الذي كان يسيطر على ملامحه الصغيرة.
"آسر معايا في العربية، هوصله لحد البيت. اتفضلوا انتوا."
جلس زين بجانب آسر في السيارة، وكان واضحًا أن الصغير لم يتمكن من إخفاء قلقه.
آسر، بصوت ممتلئ بالأسئلة: "بتعمل إيه كل دا يا عمو زين؟ انت اتأخرت أوي."
زين، محاولًا طمأنته:
"كنت بقولهم إني هاخدك معايا الإجازة الجاية."
آسر، بدهشة وقلق:
"إزاي؟ والمدرسة هتكون لسه شغالة!"
زين، بابتسامة توحي بالثقة:
"ما تقلقش، أنا هتصرف. الإجازة هتكون كبيرة."
آسر، بعدما شعر بالراحة من كلام زين:
"فعلاً؟ يعني كده مش هروح غير شوية صغيرين، بس انت هتنزل إجازة إمتى؟"
زين بصوت هادئ مليئ بالحنان:
"يعني بعد شهرين كده."
آسر، وهو يبتسم بشوق:
"حلو أوي."
زين، مبتسمًا من فرحته بإسعاد آسر:
"مبسوط؟"
آسر، بإخلاص وحنين:
"أيوه، وحشوني أوي كلهم."
زين، بلهجة محبّة:
"وأنت كمان وحشتهم أوي. يلا يا بطل وصلنا."
حينها، نزل آسر من السيارة وبدأ في حمل الشنط والأشياء التي اشتراها له زين.
لكن زين لم يسمح له بالاستمرار، فتدخل بلطف وحزم في آنٍ واحد.
"استنى بس، أنا هوصلك."
لكن عايدة، التي كانت تراقب المشهد من بعيد، لم تتمكن من كبح تدخلها. فاقتربت بصوت هادئ لكن يحمل في طياته بعض الحدة:
"عندك يا ابني، خلي عيسى يشيلهم مكانك."
زين، بلهجة حاسمة وهادئة لا تقبل النقاش:
"لا، اتفضلوا انتوا. أنا هطلعهم فوق بنفسي. يلا يا آسر."
صعدوا جميعًا إلى الشقة، وزين حرص على أن يكون مع آسر في كل خطوة، يدخل بالأشياء ويضعها في مكانها. لم يكتفِ بذلك، بل ساعده في ترتيب كل شيء بدقة واهتمام، وكأنه يحاول أن يزيل عنه أي ثقل أو مشقة.
وبعدما انتهى من ترتيب كل شيء، استأذن زين وانصرف.
أما عايدة، فكانت تغلي من الداخل، رغبة عارمة في تفريغ غضبها على آسر بسبب ما سمعته من زين، لكنها كانت مرعوبة من تهديداته الصريحة والواضحة. لذا اختارت أن تبتعد وتذهب إلى غرفتها لتنام، وهي تسبه في سرها.
أما سمر وعيسى، فعادوا أيضًا إلى بيتهم القريب من بيت عايدة، بعد ليلة كانت مشحونة بالتوتر والقلق.
لكنهما كانا يعلمان جيدًا أن زين لن يقف مكتوف الأيدي إذا حدث أي مكروه لآسر، فهو بمثابة الحارس الأمين على مستقبل هذا الطفل الذي عاش تجربة قاسية أثرت في حياته وحياة كل من حوله.
. ❝ ⏤ياسمين خاطر
عندما وصل زين إلى منزل المقدم أحمد، كانت الهدوء يسود المكان، لكنه كان يشعر بثقل الحزن والكآبة في الأجواء.
دخل ببطء، وجلس مع عايدة التي كانت تنتظره بفارغ الصبر. تحدثا في موضوع آسر وورد الياسمين، وكانت كلماته تفيض بالمسؤولية والاهتمام.
أكد لها أن آسر سيكون بأمان معهم، وأنهم سيبقون في مصر، ما سيتيح لها رؤية حفيدها متى شاءت. كانت هذه الكلمات كبلسم على جراح قلبها المثقل بالحزن.
عايدة، بعد انتهاء الحديث، شعرت بأن حملاً ثقيلاً قد أُزيح عن كاهلها. ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، كانت تختزن في طياتها مزيجًا من الراحة والانتصار.
لقد انتهى أكبر كابوس كانت تخشاه، ولكن في داخلها كانت تتماوج أفكار أخرى، لم تكن على نفس البراءة التي بدت على ملامحها. فقد جاءت إليها فكرة شيطانية، فكرة يمكن أن تستغلها لصالحها في هذه اللحظة الحساسة.
جلست عايدة على الكرسي بهدوء، تراقب زين وهو يغادر. كانت تخطط بدقة في ذهنها، تفكر كيف يمكنها أن تستخدم هذه الفرصة لتحقق هدفًا أكبر. كانت تعلم أن أمامها فرصة لا يمكن أن تفوتها، فرصة قد تقلب الأمور لصالحها تمامًا. في تلك اللحظة، لم تكن ....... [المزيد]