❞ الذي رأى قطة تتلصص على مائدة في خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك. الذي رأى مثل تلك القطة ونظر إلى عينيها وهي تسرق لن ينسى أبداً تلك النظرة التي تملؤها الإحساس بالذنب.
إن القطة وهي الحيوان الأعجم تشعر شعوراً مبهماً أنها ترتكب إثماً .. فإذا لحقها العقاب ونالت ضربة على رأسها فإنها تغض من رأسها وتطأطئ بصرها ، وكأنها تدرك إدراكاً مبهماً أنها نالت ما تستحق.
هو إحساس الفطرة الأولى الذي ركبه الخالق في بنية المخلوق .. إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتى في الحيوان الأعجم.
والقط إذ يتبرز ثم ينثني علي ما فعل ويهيل عليه التراب حتى يخفيه عن الأنظار.
ذلك الفعل الغريزي يدل على إحساس بالقبح وعلى المبادرة بستر هذا القبح.
وذلك الفعل هو أيضاً فطرة أخلاقية لم تكتسب بالتعلم .. وإنما بهذه الفطرة وُلِد كل القطط.
وبالمثل غضبة الجمل بعد تكرار الإهانة من صاحبه وبعد طول الصبر والتحمل .. وكبرياء الأسد وترفعه عن أن يهاجم فريسته غدراً من الخلف وإنما دائماً من الأمام ومواجهة .. ولا يفترس إلا ليأكل .. ولا يفكر في أكل أو افتراس إلّا إذا جاع.
كل هذه أخلاق مفطورة في الحشوة الحية وفي الحيوان.
ثم الوفاء الزوجي عند الحمام.
والولاء للجماعة في الحيوانات التي تتحرك في قطعان.
نحن أمام الأسس الأولى للضمير .. نكتشفها تحت الجلد وفي الدم لم يعلمها معلم وإنما هي في الخلقة.
ونحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطري بالمسئولية .. ثم نشعر بالعبء أثناء الفعل نتيجة تحري الصواب .. ونشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ.
هذه المشاعر الفطرية التي يشترك فيها المثقف والبدائي والطفل هي دليل على شعور باطن بالقانون والنظام وأن هناك محاسبة .. وأن هناك عدالة .. وإن كل واحد فينا مُطَالب بالعدالة كما أن له الحق في أن يطلبها .. وإن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذي خلقنا ومن طبيعتنا ذاتها.
فإذا نظرنا إلى العالم المادي من الذرات المتناهية في الصغر إلى المجرات المتناهية في العظم وجدنا كل شيء يجري بقوانين و بحساب و انضباط .
حتى الإلكترون لا ينتقل من مدار إلى مدار في فلك النواة إلّا إذا أعطى أو أخذ حزماً من الطاقة تساوي مقادير انتقاله و كأنه راكب في قطار لا يستطيع أن يستقل القطار إلّا إذا دفع ثمن التذكرة .
و ميلاد النجوم و موتها له قوانين و أسباب.
و حركة الكواكب في دولاب الجاذبية لها معادلة .
و تحول المادة إلى طاقة و تحول جسم الشمس إلى نور له معادلة .
و انتقال النور له سرعة .
و كل موجة لها طول و لها ذبذبة و لها سرعة .
كما أن كل معدن له طيف و له خطوط امتصاص مميزة يُعرَف بها في جهاز المطياف .
و كل معدن يتمدد بمقدار و يتقلص بمقدار بالحرارة و البرودة .. و كل معدن له كتلة و كثافة و وزن ذري جزيئي و ثوابت و خواص .
و أينشتين أثبت لنا أن هناك علاقة بين كتلة الجسم و سرعته .. و بين الزمن و نظام الحركة داخل مجموعة متحركة .. و بين الزمان و المكان .
و الذي يفرق المواد إلى جوامد و سوائل و غازات هو معدل السرعة بين جزيئاتها .
و لأن الحرارة تعجّل من هذه السرعة فإنها تستطيع أن تصهر الجوامد و تحولها إلى سوائل ثم تبخر السوائل و تحولها إلى غازات .
كما أن الكهرباء تتولد بقوانين .. كما يتحرك التيار الكهربائي و يفعل و يؤثرعلى أساس من فرق الجهد و الشدة .
كما تتوقف جاذبية كل نجم على مقدار جرمه و كتلته .
و الزلازل التي تبدو أنواعاً من الفوضى لها هي الأخرى نظام و أحزمة و
خطوط تحدث فيها و يمكن رسم و تتبع الأحزمة الزلزالية بطول الكرة
الأرضية و عرضها .
و الكون كله جدول من القوانين المنضبطة الصريحة التي لا غش فيها و لا خداع .
سوف يرتفع صوت ليقول : و ما رأيك فيما نحن فيه من الغش و الخداع و الحروب و المظالم و قتل بعضنا البعض بغياً و عدواناً .. أين النظام هنا ؟ و سوف أقول له : هذا شيء آخر .. فإن ما يحدث بيننا نحن دولة بني آدم يحدث لأن الله أخلفنا في الأرض و أقامنا ملوكاً نحكم و أعطانا الحرية .. و عرض علينا الأمانة فقبلناها .
و كان معنى إعطائنا الحرية أن تصبح لنا إمكانية الخطأ و الصواب .
و كان كل ما نرى حولنا في دنيانا البشرية هو نتيجة هذه الحرية التي
أسأنا استعمالها .
إن الفوضى هي فعلنا نحن و هي النتيجة المترتبة على حريتنا ، أما العالم فهو بالغ الذروة في الانضباط و النظام .
و لو شاء الله لأخضعنا نحن أيضاً للنظام قهراً كما أخضع الجبال و البحار و النجوم و الفضاء .. و لكنه شاء أن يفني عنّا القهر لتكتمل بذلك عدالته .. و ليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذي هو من جنس دخيلته .
أراد بذلك عدلاً ليكون بعثنا بعد ذلك على مقامات و درجات هو إحقاق الحق و وضع كل شيء في نصابه .
و الحياة مستمرة .
و ليس ما نحياه من الحياة في دنيانا هو كل الحياة .
و معنى هذا أن الفترة الاعتراضية من المظالم و الفوضى هي فترة لها حِكمتها و أسبابها و أنها عين العدالة من حيث هي امتحان لما يلي من حياة مستمرة أبداً .
إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها و ما قبلها ، و هي ليست كل الحقيقة و لا كل القصة .. و إنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولاً .
وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة.
أدركها الإنسان البدائي.
وقال بها الأنبياء إخباراً عن الغيب.
وقال بها العقل والعلم الذي أدرك أن الإنسان جسد وروح كما ذكرنا في فصول سابقة .. وإن الإنسان يستشعر بروحه من إحساسه الداخلي العميق المستمر بالحضور رغم شلال التغيرات الزمنية من حوله ، وهو إحساس ينبئ بأنه يملك وجوداً داخلياً متعالياً على التغيرات مجاوزاً للزمن والفناء والموت.
وفلاسفة مثل عمانويل كانت وبرجسون وكيركجارد ، لهم وزنهم في الفكر قالوا بحقيقة الروح والبعث.
وفي كتاب «جمهورية أفلاطون».. فصل رائع عن خلود الروح.
هي حقيقة كانت تفرض نفسها إذن على أكبر العقول وعلى أصغر العقول وكانت تقوم كبداهة يصعب إنكارها.
ولكن أهم برهان على البعث في نظري هو ذلك الإحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعا ونتصرف على أساسه ، أن هناك نظاماً مُحكَماً وقانوناً وعدلاً.
ونحن نطالب أنفسنا ونطالب غيرنا فطرياً وغريزياً بهذا العدل.
وتحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل.
ونحارب لنرسي دعائم ذلك العدل.
ونموت في سبيل العدل.
وفي النهاية لا نحقق أبداً ذلك العدل.
وهذا يعني أنه سوف يتحقق بصورة ما لاشك فيها .. لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها على عقولنا وضمائرنا طول الوقت.
وإذا كنا لا نرى ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة ولأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة.
وإلّا فلماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم ولماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلاً .. لماذا نحرص كل هذا الحرص ونشتعل غضباً على ما لا وجود له.
يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان :
إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل .. ولأنه لا عدل في الدنيا .. فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي.
إن شعورنا الداخلي الفطري هو الدليل القطعي على أن العدل حق .. وإن كنا لا نراه اليوم .. فإننا سوف نراه غداً .. هذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا .. وهو الصدق لأنه وحي البداهة..
والبداهة والفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش وهي قانون من ضمن القوانين العديدة التي ينضبط بها الوجود.
سوف يرتفع صوت ليقول : لندع عالم الآدميين ونسأل : لماذا خلق الله الخنزير خنزيراً والكلب كلباً .. والحشرة حشرة .. ما ذنب هذه الكائنات لتخلق على تلك الصورة المنحطة .. وأين العدل هنا ؟
وإذا كان الله سوف يبعث كل ذي روح فلماذا لا يبعث القرد والكلب والخنزير؟
والسؤال وجيه ولكن يلقيه عقل لا يعرف إلّا نصف القضية .. أو سطراً واحداً من ملف التحقيق .. ومع ذلك يتعجل معرفة الحكم وحيثياته.
والواقع أن كل الكائنات الحيوانية نفوس.
والله قد اختار لكل نفس القالب المادي الذي تستحقه.
والله قد خلق الخنزير خنزيراً لأنه خنزير..
ونحن لا نعلم شيئا عن تلك النفوس الخنزيرية قبل أن يودعها الله في قالبها المادي الخنزيري..
ولا نعلم لماذا وكيف كان الميلاد على تلك الصورة .. وما قبل الميلاد محجوب.
كما أن ما بعد الموت محجوب.
ولكن أهل المشاهدة يقولون كما يقول القرآن إننا كنا قبل الميلاد في عالم ( يسمونه عالم الذر ) ونكون بعد الموت في عالم. والحياة أبدية ولا موت وإنما انتقال وارتقاء في معراج لا ينتهي . صعوداً وتطوراً وتسامياً وكدحاً إلى الله.
وهذا الاستمرار يقول به العقل أيضاً.
والعدل هو الحقيقة الأزلية التي وقرها الله في الفطرة وفي الحشوة الآدمية.. وحتي في الحشوة الحيوانية كما قدمت في بداية مقالي.
هذا العدل حقيقة مطلقة سوف تقول لنا أن جميع القوالب المادية والحيوانية هي استحقاقات مؤكدة لا ندري شيئا عن تفاصيلها ولا كيف كانت ، ولكننا نستطيع أن نقول بداهة أنها استحقاقات .. وأن الله خلق الخنزير خنزيراً لأن نفسه كانت نفسا خنزيرية فكان هذا ثوبها وقالبها الملائم.
أما بعث الحيوانات فالقرآن يقول به :
( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) (الأنعام – 38).
هي أمم من الأنفس يقول لنا القرآن أنها تُحشَر كما نُحشَر.. أما ما يجري عليها بعد ذلك وأين تكون وما مصيرها .. فهو غيب .. وتطلع إلى محجوبات .. وفضول لن نجد له جواباً شافياً.
والعلم بكل شيء في داخل اللحظة المحدودة وفي عمرنا الدنيوي هو طمع في مستحيل.
ولكن إذا كان نصيبنا من العلم وإذا كان ما غنمناه بالتأمل هو أن العدل حقيقة أزلية وأن الله وقرها وأودعها في الفطرة فقد علمنا الكثير وأدركنا كفايتنا.
وبالصورة التي أدركنا بها الله في مقالنا الأول على أنه العقل الكلي المحيط وأنه القادر المبدع الملهم المعني بمخلوقاته ، بهذه الصورة سوف نفهم كيف أودع الله هذه الفطرة الهادية المرشدة في مخلوقاته فهذا مقتضي عنايته وعدله .. أن يخلق مخلوقاته ويخلق لها النور الذي تهتدي به. وسوف نصدق أيضا أن الله أرسل الأنبياء وأوحي بالكتب .. فإن الله لا يكون رباً ولا إلهاً ملهماً مدبراً بغير ذلك.
وسوف يكون دليلا على صدق الكتب السماوية وهو ما تأتينا به من علم وغيب وحكمة وتشريع وحق مما لا يتأتي لجهد فردي أن يهتدي إليه بالمحاولة الشخصية.
إن الله الخالق العادل الملهم الذي خلق مخلوقاته وألهمها الطريق.. (وهو لباب الأديان كلها)..
هو مبدأ أولي يصل إليه العقل دون إجهاد. وتوحي به الفطرة بداهة.
وإنما الافتعال كل الافتعال.. هو القول بغير ذلك.
والإنكار يحتاج إلى الجهد كل الجهد وإلى الالتفاف والدوران واللجاجة والجدل العقيم ثم نهايته إلى التهافت .. لأنه لا يقوم على أساس .. ولأنه يدخل في باب المكابرة والعناد أكثر مما يدخل في باب التأمل المحايد النزيه والفطرة السوية.
وهذا هو ما قالته لي رحلتي الفكرية الطويلة .. من بدايتها المزهوة في كتاب ( الله والإنسان ) إلى وقفتها الخاشعة على أبواب القرآن والتوراة والإنجيل وليس متديناً في نظري من تعصب وتحزب وتصور أن نبيه هو النبي الوحيد وأن الله لم يأت بغيره .. فإن هذا التصور لله هو تصور طفولي متخلف يظن أن الله أشبه بشيخ قبيلة .. ومثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تديناً.
وإنما التصور الحق لله .. أنه الكريم الذي يعطي الكل ويرسل الرسل للكل.
( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )
(فاطر – 24)
و( لقد بعثنا في كل أمة رسولاً )
(النحل – 36)
( وما كان ربك مُهلِك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً )
( القصص – 59)
( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك )
( النساء – 164)
ومعنى هذه الآية أن بوذا يمكن أن يكون رسولا وإن لم يرد ذكره في القرآن.
وإخناتون يمكن أن يكون رسولاً .. ويمكن أن يكون ما وصلنا من تعاليمهم قد خضع للتحريف .. والله يريد بهذا أن يوحي بالإيمان المنفتح الذي يحتضن كل الرسالات وكل الأنبياء وكل الكتب بلا تعصب وبلا تحيز.
وأصدق مثل للوعي الديني المتفتح هو وعي رجل مثل غاندي .. هندوسي ومع ذلك يقرأ في صلاته فقرات من القرآن والتوراة والإنجيل وكتاب ( الدامابادا ) لبوذا .. في خشوع ومحبة.. مؤمناً بكل الكتب وكل الرسل .. وبالخالق الواحد الذي أرسلها.
وهو رجل حياته مثل كلامه أنفقها في الحب والسلام.
والدين واحد من الناحية العقائدية وإن اختلفت الشرائع في الأديان المتعددة . كما أن الرب واحد.
والفضلاء من جميع الأديان هم على دين واحد.
لأن المتدين الفاضل لا يتصور الله خالقاً له وحده وهادياً له وحده أو لفئة وحدها .. وإنما هو نور السموات والأرض .. المتاح لكل من يجهد باحثا عنه .. الرحمن الرحيم المرسل للهداة المنزل للوحي في جميع الأعصر والدهور .. وهذا مقتضى عدله الأزلي .. وهذا هو المعنى الجدير بالمقام الإلهي .. وبدون هذا الإيمان المنفتح لا يكون المتدين متديناً.
أما الأديان التي تنقسم شيعاً يحارب بعضها بعضاً باسم الدين فإنها ترفع راية الدين كذباً .. وما الراية المرفوعة إلا راية العنصر والعرق والجنس وهي مازالت في جاهلية الأوس والخزرج وحماسيات عنترة .. تحارب للغرور .. وإن ظنت أنها تحارب لله .. وهي هالكة ، الغالب فيها والمغلوب .. مشركة .. كل منها عابد لتمثاله ولذاته ولتصوره الشخصي وليس عابداً لله.
وإنما تبدأ عبادة الله بمعرفة الله ومقامه الأسمى . وتبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الأدنى.
وهذا هو الطريق .. والصراط .. والمعراج الذي يبدأ منه عروج السالكين في هجرتهم الكبرى إلى الحق.
مقال : العدل الأزلي .
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان .
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الذي رأى قطة تتلصص على مائدة في خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك. الذي رأى مثل تلك القطة ونظر إلى عينيها وهي تسرق لن ينسى أبداً تلك النظرة التي تملؤها الإحساس بالذنب.
إن القطة وهي الحيوان الأعجم تشعر شعوراً مبهماً أنها ترتكب إثماً . فإذا لحقها العقاب ونالت ضربة على رأسها فإنها تغض من رأسها وتطأطئ بصرها ، وكأنها تدرك إدراكاً مبهماً أنها نالت ما تستحق.
هو إحساس الفطرة الأولى الذي ركبه الخالق في بنية المخلوق . إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتى في الحيوان الأعجم.
والقط إذ يتبرز ثم ينثني علي ما فعل ويهيل عليه التراب حتى يخفيه عن الأنظار.
ذلك الفعل الغريزي يدل على إحساس بالقبح وعلى المبادرة بستر هذا القبح.
وذلك الفعل هو أيضاً فطرة أخلاقية لم تكتسب بالتعلم . وإنما بهذه الفطرة وُلِد كل القطط.
وبالمثل غضبة الجمل بعد تكرار الإهانة من صاحبه وبعد طول الصبر والتحمل . وكبرياء الأسد وترفعه عن أن يهاجم فريسته غدراً من الخلف وإنما دائماً من الأمام ومواجهة . ولا يفترس إلا ليأكل . ولا يفكر في أكل أو افتراس إلّا إذا جاع.
كل هذه أخلاق مفطورة في الحشوة الحية وفي الحيوان.
ثم الوفاء الزوجي عند الحمام.
والولاء للجماعة في الحيوانات التي تتحرك في قطعان.
نحن أمام الأسس الأولى للضمير . نكتشفها تحت الجلد وفي الدم لم يعلمها معلم وإنما هي في الخلقة.
ونحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطري بالمسئولية . ثم نشعر بالعبء أثناء الفعل نتيجة تحري الصواب . ونشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ.
هذه المشاعر الفطرية التي يشترك فيها المثقف والبدائي والطفل هي دليل على شعور باطن بالقانون والنظام وأن هناك محاسبة . وأن هناك عدالة . وإن كل واحد فينا مُطَالب بالعدالة كما أن له الحق في أن يطلبها . وإن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذي خلقنا ومن طبيعتنا ذاتها.
فإذا نظرنا إلى العالم المادي من الذرات المتناهية في الصغر إلى المجرات المتناهية في العظم وجدنا كل شيء يجري بقوانين و بحساب و انضباط .
حتى الإلكترون لا ينتقل من مدار إلى مدار في فلك النواة إلّا إذا أعطى أو أخذ حزماً من الطاقة تساوي مقادير انتقاله و كأنه راكب في قطار لا يستطيع أن يستقل القطار إلّا إذا دفع ثمن التذكرة .
و ميلاد النجوم و موتها له قوانين و أسباب.
و حركة الكواكب في دولاب الجاذبية لها معادلة .
و تحول المادة إلى طاقة و تحول جسم الشمس إلى نور له معادلة .
و انتقال النور له سرعة .
و كل موجة لها طول و لها ذبذبة و لها سرعة .
كما أن كل معدن له طيف و له خطوط امتصاص مميزة يُعرَف بها في جهاز المطياف .
و كل معدن يتمدد بمقدار و يتقلص بمقدار بالحرارة و البرودة . و كل معدن له كتلة و كثافة و وزن ذري جزيئي و ثوابت و خواص .
و أينشتين أثبت لنا أن هناك علاقة بين كتلة الجسم و سرعته . و بين الزمن و نظام الحركة داخل مجموعة متحركة . و بين الزمان و المكان .
و الذي يفرق المواد إلى جوامد و سوائل و غازات هو معدل السرعة بين جزيئاتها .
و لأن الحرارة تعجّل من هذه السرعة فإنها تستطيع أن تصهر الجوامد و تحولها إلى سوائل ثم تبخر السوائل و تحولها إلى غازات .
كما أن الكهرباء تتولد بقوانين . كما يتحرك التيار الكهربائي و يفعل و يؤثرعلى أساس من فرق الجهد و الشدة .
كما تتوقف جاذبية كل نجم على مقدار جرمه و كتلته .
و الزلازل التي تبدو أنواعاً من الفوضى لها هي الأخرى نظام و أحزمة و
خطوط تحدث فيها و يمكن رسم و تتبع الأحزمة الزلزالية بطول الكرة
الأرضية و عرضها .
و الكون كله جدول من القوانين المنضبطة الصريحة التي لا غش فيها و لا خداع .
سوف يرتفع صوت ليقول : و ما رأيك فيما نحن فيه من الغش و الخداع و الحروب و المظالم و قتل بعضنا البعض بغياً و عدواناً . أين النظام هنا ؟ و سوف أقول له : هذا شيء آخر . فإن ما يحدث بيننا نحن دولة بني آدم يحدث لأن الله أخلفنا في الأرض و أقامنا ملوكاً نحكم و أعطانا الحرية . و عرض علينا الأمانة فقبلناها .
و كان معنى إعطائنا الحرية أن تصبح لنا إمكانية الخطأ و الصواب .
و كان كل ما نرى حولنا في دنيانا البشرية هو نتيجة هذه الحرية التي
أسأنا استعمالها .
إن الفوضى هي فعلنا نحن و هي النتيجة المترتبة على حريتنا ، أما العالم فهو بالغ الذروة في الانضباط و النظام .
و لو شاء الله لأخضعنا نحن أيضاً للنظام قهراً كما أخضع الجبال و البحار و النجوم و الفضاء . و لكنه شاء أن يفني عنّا القهر لتكتمل بذلك عدالته . و ليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذي هو من جنس دخيلته .
أراد بذلك عدلاً ليكون بعثنا بعد ذلك على مقامات و درجات هو إحقاق الحق و وضع كل شيء في نصابه .
و الحياة مستمرة .
و ليس ما نحياه من الحياة في دنيانا هو كل الحياة .
و معنى هذا أن الفترة الاعتراضية من المظالم و الفوضى هي فترة لها حِكمتها و أسبابها و أنها عين العدالة من حيث هي امتحان لما يلي من حياة مستمرة أبداً .
إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها و ما قبلها ، و هي ليست كل الحقيقة و لا كل القصة . و إنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولاً .
وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة.
أدركها الإنسان البدائي.
وقال بها الأنبياء إخباراً عن الغيب.
وقال بها العقل والعلم الذي أدرك أن الإنسان جسد وروح كما ذكرنا في فصول سابقة . وإن الإنسان يستشعر بروحه من إحساسه الداخلي العميق المستمر بالحضور رغم شلال التغيرات الزمنية من حوله ، وهو إحساس ينبئ بأنه يملك وجوداً داخلياً متعالياً على التغيرات مجاوزاً للزمن والفناء والموت.
وفلاسفة مثل عمانويل كانت وبرجسون وكيركجارد ، لهم وزنهم في الفكر قالوا بحقيقة الروح والبعث.
وفي كتاب «جمهورية أفلاطون». فصل رائع عن خلود الروح.
هي حقيقة كانت تفرض نفسها إذن على أكبر العقول وعلى أصغر العقول وكانت تقوم كبداهة يصعب إنكارها.
ولكن أهم برهان على البعث في نظري هو ذلك الإحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعا ونتصرف على أساسه ، أن هناك نظاماً مُحكَماً وقانوناً وعدلاً.
ونحن نطالب أنفسنا ونطالب غيرنا فطرياً وغريزياً بهذا العدل.
وتحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل.
ونحارب لنرسي دعائم ذلك العدل.
ونموت في سبيل العدل.
وفي النهاية لا نحقق أبداً ذلك العدل.
وهذا يعني أنه سوف يتحقق بصورة ما لاشك فيها . لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها على عقولنا وضمائرنا طول الوقت.
وإذا كنا لا نرى ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة ولأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة.
وإلّا فلماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم ولماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلاً . لماذا نحرص كل هذا الحرص ونشتعل غضباً على ما لا وجود له.
يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان :
إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل . ولأنه لا عدل في الدنيا . فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي.
إن شعورنا الداخلي الفطري هو الدليل القطعي على أن العدل حق . وإن كنا لا نراه اليوم . فإننا سوف نراه غداً . هذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا . وهو الصدق لأنه وحي البداهة.
والبداهة والفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش وهي قانون من ضمن القوانين العديدة التي ينضبط بها الوجود.
سوف يرتفع صوت ليقول : لندع عالم الآدميين ونسأل : لماذا خلق الله الخنزير خنزيراً والكلب كلباً . والحشرة حشرة . ما ذنب هذه الكائنات لتخلق على تلك الصورة المنحطة . وأين العدل هنا ؟
وإذا كان الله سوف يبعث كل ذي روح فلماذا لا يبعث القرد والكلب والخنزير؟
والسؤال وجيه ولكن يلقيه عقل لا يعرف إلّا نصف القضية . أو سطراً واحداً من ملف التحقيق . ومع ذلك يتعجل معرفة الحكم وحيثياته.
والواقع أن كل الكائنات الحيوانية نفوس.
والله قد اختار لكل نفس القالب المادي الذي تستحقه.
والله قد خلق الخنزير خنزيراً لأنه خنزير.
ونحن لا نعلم شيئا عن تلك النفوس الخنزيرية قبل أن يودعها الله في قالبها المادي الخنزيري.
ولا نعلم لماذا وكيف كان الميلاد على تلك الصورة . وما قبل الميلاد محجوب.
كما أن ما بعد الموت محجوب.
ولكن أهل المشاهدة يقولون كما يقول القرآن إننا كنا قبل الميلاد في عالم ( يسمونه عالم الذر ) ونكون بعد الموت في عالم. والحياة أبدية ولا موت وإنما انتقال وارتقاء في معراج لا ينتهي . صعوداً وتطوراً وتسامياً وكدحاً إلى الله.
وهذا الاستمرار يقول به العقل أيضاً.
والعدل هو الحقيقة الأزلية التي وقرها الله في الفطرة وفي الحشوة الآدمية. وحتي في الحشوة الحيوانية كما قدمت في بداية مقالي.
هذا العدل حقيقة مطلقة سوف تقول لنا أن جميع القوالب المادية والحيوانية هي استحقاقات مؤكدة لا ندري شيئا عن تفاصيلها ولا كيف كانت ، ولكننا نستطيع أن نقول بداهة أنها استحقاقات . وأن الله خلق الخنزير خنزيراً لأن نفسه كانت نفسا خنزيرية فكان هذا ثوبها وقالبها الملائم.
أما بعث الحيوانات فالقرآن يقول به :
( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) (الأنعام – 38).
هي أمم من الأنفس يقول لنا القرآن أنها تُحشَر كما نُحشَر. أما ما يجري عليها بعد ذلك وأين تكون وما مصيرها . فهو غيب . وتطلع إلى محجوبات . وفضول لن نجد له جواباً شافياً.
والعلم بكل شيء في داخل اللحظة المحدودة وفي عمرنا الدنيوي هو طمع في مستحيل.
ولكن إذا كان نصيبنا من العلم وإذا كان ما غنمناه بالتأمل هو أن العدل حقيقة أزلية وأن الله وقرها وأودعها في الفطرة فقد علمنا الكثير وأدركنا كفايتنا.
وبالصورة التي أدركنا بها الله في مقالنا الأول على أنه العقل الكلي المحيط وأنه القادر المبدع الملهم المعني بمخلوقاته ، بهذه الصورة سوف نفهم كيف أودع الله هذه الفطرة الهادية المرشدة في مخلوقاته فهذا مقتضي عنايته وعدله . أن يخلق مخلوقاته ويخلق لها النور الذي تهتدي به. وسوف نصدق أيضا أن الله أرسل الأنبياء وأوحي بالكتب . فإن الله لا يكون رباً ولا إلهاً ملهماً مدبراً بغير ذلك.
وسوف يكون دليلا على صدق الكتب السماوية وهو ما تأتينا به من علم وغيب وحكمة وتشريع وحق مما لا يتأتي لجهد فردي أن يهتدي إليه بالمحاولة الشخصية.
إن الله الخالق العادل الملهم الذي خلق مخلوقاته وألهمها الطريق. (وهو لباب الأديان كلها).
هو مبدأ أولي يصل إليه العقل دون إجهاد. وتوحي به الفطرة بداهة.
وإنما الافتعال كل الافتعال. هو القول بغير ذلك.
والإنكار يحتاج إلى الجهد كل الجهد وإلى الالتفاف والدوران واللجاجة والجدل العقيم ثم نهايته إلى التهافت . لأنه لا يقوم على أساس . ولأنه يدخل في باب المكابرة والعناد أكثر مما يدخل في باب التأمل المحايد النزيه والفطرة السوية.
وهذا هو ما قالته لي رحلتي الفكرية الطويلة . من بدايتها المزهوة في كتاب ( الله والإنسان ) إلى وقفتها الخاشعة على أبواب القرآن والتوراة والإنجيل وليس متديناً في نظري من تعصب وتحزب وتصور أن نبيه هو النبي الوحيد وأن الله لم يأت بغيره . فإن هذا التصور لله هو تصور طفولي متخلف يظن أن الله أشبه بشيخ قبيلة . ومثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تديناً.
وإنما التصور الحق لله . أنه الكريم الذي يعطي الكل ويرسل الرسل للكل.
( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )
(فاطر – 24)
و( لقد بعثنا في كل أمة رسولاً )
(النحل – 36)
( وما كان ربك مُهلِك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً )
( القصص – 59)
( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك )
( النساء – 164)
ومعنى هذه الآية أن بوذا يمكن أن يكون رسولا وإن لم يرد ذكره في القرآن.
وإخناتون يمكن أن يكون رسولاً . ويمكن أن يكون ما وصلنا من تعاليمهم قد خضع للتحريف . والله يريد بهذا أن يوحي بالإيمان المنفتح الذي يحتضن كل الرسالات وكل الأنبياء وكل الكتب بلا تعصب وبلا تحيز.
وأصدق مثل للوعي الديني المتفتح هو وعي رجل مثل غاندي . هندوسي ومع ذلك يقرأ في صلاته فقرات من القرآن والتوراة والإنجيل وكتاب ( الدامابادا ) لبوذا . في خشوع ومحبة. مؤمناً بكل الكتب وكل الرسل . وبالخالق الواحد الذي أرسلها.
وهو رجل حياته مثل كلامه أنفقها في الحب والسلام.
والدين واحد من الناحية العقائدية وإن اختلفت الشرائع في الأديان المتعددة . كما أن الرب واحد.
والفضلاء من جميع الأديان هم على دين واحد.
لأن المتدين الفاضل لا يتصور الله خالقاً له وحده وهادياً له وحده أو لفئة وحدها . وإنما هو نور السموات والأرض . المتاح لكل من يجهد باحثا عنه . الرحمن الرحيم المرسل للهداة المنزل للوحي في جميع الأعصر والدهور . وهذا مقتضى عدله الأزلي . وهذا هو المعنى الجدير بالمقام الإلهي . وبدون هذا الإيمان المنفتح لا يكون المتدين متديناً.
أما الأديان التي تنقسم شيعاً يحارب بعضها بعضاً باسم الدين فإنها ترفع راية الدين كذباً . وما الراية المرفوعة إلا راية العنصر والعرق والجنس وهي مازالت في جاهلية الأوس والخزرج وحماسيات عنترة . تحارب للغرور . وإن ظنت أنها تحارب لله . وهي هالكة ، الغالب فيها والمغلوب . مشركة . كل منها عابد لتمثاله ولذاته ولتصوره الشخصي وليس عابداً لله.
وإنما تبدأ عبادة الله بمعرفة الله ومقامه الأسمى . وتبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الأدنى.
وهذا هو الطريق . والصراط . والمعراج الذي يبدأ منه عروج السالكين في هجرتهم الكبرى إلى الحق.
مقال : العدل الأزلي .
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان .
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ والنتيجة هي مفاجأة أكثر إدهاشًا من كل المفاجآت السابقة ..
الكتلة مرادفة للوزن في لغة الكلام العادي .. والذين يذكرون بعض المعلومات التي أخذوها في كتب الطبيعة يعلمون أن للكتلة تعريفًا مختلفًا ..
فهي : خاصية مقاومة الحركة .. هكذا يسميها الفقهاء .
وقد تعلمنا من هؤلاء الفقهاء أن الكتلة كمٌ ثابت .. وأنها لا تتأثر بحركة الجسم أو بسكونه .. فهي صفة جوهرية فيه .
ولكن أينشتين الذي قلب وجه الفقه الطبيعي أثبت أن الكتلة نسبية مثل الزمان والمكان .. وأنها مقدار متغير، وأنها تتغير بحركة الجسم .
كلما ازدادت سرعة الجسم كلما ازدادت كتلته ..
ولا تبدو هذه الفروق في السرع الصغيرة المألوفة حولنا ولهذا تفوتنا فلا نلاحظها .. ولكنها في السرَع العالية التي تقترب من سرعة الضوء تصبح فروقاً هائلة .. حتى إذا بلغت سرعة الجسم مثل سرعة الضوء فإن كتلته تصبح لا نهائية .. وبالتالي تصبح مقاومته للحركة لا نهائية وبالتالي يتوقف .
وهذه فرضية مستحيلة طبعًا .. لأنه لا يوجد جسم يمكنه أن يتحرك بسرعة الضوء ..
واستطاع أينشتين أن يقدم المعادلة الدقيقة التي تبين العلاقة بين كتلة الجسم وسرعته ..
لينك المعادلة :
http://im35.gulfup.com/MlRL9.jpg
حيث أن ك1 هي كتلة الجسم وهو متحرك ، ك كتلته وهو ساكن ، ع سرعته ، ص سرعة الضوء .
والذين يذكرون أوليات علم الجبر يعلمون أن ع حينما تكون مقاديرها صغيرة لا تؤثر بكثير في المعادلة .. ولكن حينما تقترب ع من سرعة الضوء فإن النتيجة تتضخم بشكل هائل وتصبح قيمة الجذر التربيعي أقرب إلى الصفر .. وتصبح الكتلة الجديدة هي ك مقسومة على صفر .. أي لا نهاية ..
ولم تلبث المعامل أن قدمت لنا التجربة الملموسة التي تثبت صدق هذه المعادلة .. وبهذا خرجت بها من حيز الافتراضات الجبرية إلى حيز الحقائق العلمية المعترف بها ..
أثبتت التجارب أن القذائف المشعة التي تطلقها مادة الراديوم واليورانيوم ( وهي دقائق مادية متناهية في الصِغَر تنطلق بسرعة قريبة من سرعة الضوء ) تزداد كتلتها بما يتفق مع حسابات أينشتين ..
وخطا أينشتين خطوة أخرى في تفكيره النظري قائلًا :
إنه مادام الجسم يكتسب مزيدًا من الكتلة حينما يكتسب مزيدًا من الحركة .. وبما أن الحركة شكل من أشكال الطاقة .. فإن معنى هذا أن الجسم حينما يكتسب طاقة يكتسب في نفس الوقت كتلة ..
أي أن الطاقة يمكن أن تتحول إلى كتلة، والكتلة يمكن أن تتحول إلى طاقة .
وما لبث أن قدم المعادلة التاريخية لهذه العلاقة بين الطاقة والكتلة .. وهي المعادلة التي صُنِعت القنبلة الذرية على أساسها :
طـ = ك X ص2 .
أو أن الطاقة المتحصلة من كتلة معينة تساوي حاصل ضرب هذه الكتلة بالجرام في مربع سرعة الضوء بالسنتيمتر/ ثانية ..
ويلاحَظ هنا أن الطاقة الناتجة من تفجير جرام واحد كمية هائلة جدًا .. وأنها يمكن أن تحرق مدينة .. أو تزوِّد مديرية كاملة بالوقود لمدة سنة .
فإذا أردنا أن نحسب كمية الكتلة المتحصلة من تركيز كمية الطاقة، فإن المعادلة تكون أن .. الكتلة تساوي الطاقة مقسومة على سرعة الضوء بالسنتيمتر ثانية .. أي مقدار ضئيل جدًا ..
والمعادلة تفسر لنا السر في أزلية هذا الكون وقِدَمه ..
السر أن هذا العدد الهائل من النجوم مضت عليه آماد طويلة من بلايين السنين وهو يشع نورًا وطاقة وحرارة .. ولم تبد عليه مخايل الفناء بعد ..
والسر هو أن النجوم تحترق بطريقة أخرى غير احتراق السجاير .. والكبريت .. فالكبريت يشتعل بطريقة كيميائية .. والنار التي تخرج منه هي حرارة اتحاد عناصر بعضها ببعض .. هي حرارة إتحاد الكبريت بالأوكسجين لينتج ثاني أكسيد الكربون ..
الكبريت لا يفنَى وإنما يتحول إلى مركبات أخرى .. هي الدخان .
أما احتراق الشمس والنجوم فإنه احتراق فَناء ..
ذرات الشمس والنجوم تتحطم وتتدفق شعاعًا في كل أقطار الكون، وهذا النوع من الاحتراق النووي بطيء جدًا .. لأن قليلًا جدً جدًا من المادة يملأ الفضاء بالكثير جدًا جدًا من الطاقة ..
فالنجوم تخسر قليلًا جدًا من مادتها كل يوم .. وهذا سر عمرها الطويل الأزلي، ولو كانت الشمس تحترق بالطريقة التي تحترق بها السجائر وعيدان الكبريت لانطفأت في لحظة ولتحولت الأرض إلى صقيع وانقرض ما عليها من صنوف الحياة .
ولقد كان انفجار قنبلة هيروشيما ، واختراع القنبلة الهيدروجينية بعد ذلك ، ثم قنبلة النيوترون بداية فتح رهيب في عالَم الطاقة .
لقد سلَّم أينشتين مفاتيح جهنم للعلماء .. وللساسة المخبولين .. وللمجانين من هواة الحروب .. بهذه المعادلة البسيطة ..
وأصبح ممكنًا بالحساب والأرقام معرفة كمية المادة اللازمة لنسف دولة وإفناء شعب .. وهي في العادة قليل من جرامات اليورانيوم والماء الثقيل والكوبالت .. أقل مما يملأ قبضة اليد ..
وانفتح في نفس الوقت باب لبحوث الفضاء .. وأصبح السفر في صواريخ هائلة تنطلق بسرعة خارقة وتخرج من جاذبية الأرض ممكنًا .. نتيجة اختراع صنوف جديدة من الوقود الذرّي .
لكن أهم من هذه التطبيقات العملية .. كانت هناك نتيجة نظرية خطيرة ترتبت على هذه الخطوة ..
أن الحاجز بين المادة والطاقة قد سقط نهائيًا .. وأصبحت المادة هي الطاقة ، والطاقة هي المادة .
لا فرق بين الصوت والضوء والحرارة والحركة والمغنطيسية والكهرباء .. وبين المادة الخاملة التي لا يخرج منها صوت ولا تندّ عنها حركة .
فالمادة هي كل هذه الظواهر مختزنة مركَّزة .
المادة هي الحركة مضغوطة محبوسة .
هي قمقم سليمان فيه عفريت .
وأينشتين هو الذي أطلق تعزيمة الرموز والطلاسم الجبرية فانفتح القمقم وخرج العفريت .
المادة ليست مادة ..
إنها حركة ..
ما الفرق بين أن نقول ذلك ، وبين أن نقول إنها روح .. ؟!
الروح تعبير صوفي نقصد به الفعالية الخالصة التي بلا جسد ..
والمادة اتضح أنها فعالية خالصة ( حركة ) وأن جسمها الملموس وَهم من أوهام الحواس ..
الألفاظ تختلط ببعضها .. وكل شيء جائز .
ومنذ اللحظة التي حطم فيها أينشتين السدّ الوهميّ بين المادة والطاقة ، انهار كل يقين حسي ملموس .. وتحولت الدنيا إلى خواء مشحون بطاقة غير مرئية .. مثل الجن والعفاريت ..
مرة يسميها العِلم موجات مغناطيسية كهربائية .. ومرة يسميها أشعة كونية .. ومرة يسميها أشعة إكس .. ومرة يسميها جزيئات بيتا .. ومرة يسميها أشعة جاما ..
وأغلبها أشياء تقتل في الظلام دون أن تدركها الحواس .. وهذه الأشياء هي نفسها المادة الساذجة الخاملة التي نتداولها بين أيدينا كل يوم ..
وسط هذا التشويش والغموض وَجَدت بعض المعضلات العلمية تفسيرها .. المشكلة التي أثارها ماكس بلانك : هل طبيعة الضوء ذرية .. أو موجية .. ؟!
مثل هذا الازدواج أصبح طبيعيًا .. فالضوء مادة وفي نفس الوقت طاقة .. ولابد أن يحمل أثر هذه الطبيعة المزدوجة .. وهي ازدواج وليس تناقضًا ..
لأن الذرة ليست شكلًا ثابتًا وحيدًا للمادة .. وإنما هي في ذات الوقت يمكن أن تتبعثر أمواجًا ..
مقال / الكتلة
من كتاب / اينشتين والنسبيه
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ والنتيجة هي مفاجأة أكثر إدهاشًا من كل المفاجآت السابقة .
الكتلة مرادفة للوزن في لغة الكلام العادي . والذين يذكرون بعض المعلومات التي أخذوها في كتب الطبيعة يعلمون أن للكتلة تعريفًا مختلفًا .
فهي : خاصية مقاومة الحركة . هكذا يسميها الفقهاء .
وقد تعلمنا من هؤلاء الفقهاء أن الكتلة كمٌ ثابت . وأنها لا تتأثر بحركة الجسم أو بسكونه . فهي صفة جوهرية فيه .
ولكن أينشتين الذي قلب وجه الفقه الطبيعي أثبت أن الكتلة نسبية مثل الزمان والمكان . وأنها مقدار متغير، وأنها تتغير بحركة الجسم .
كلما ازدادت سرعة الجسم كلما ازدادت كتلته .
ولا تبدو هذه الفروق في السرع الصغيرة المألوفة حولنا ولهذا تفوتنا فلا نلاحظها . ولكنها في السرَع العالية التي تقترب من سرعة الضوء تصبح فروقاً هائلة . حتى إذا بلغت سرعة الجسم مثل سرعة الضوء فإن كتلته تصبح لا نهائية . وبالتالي تصبح مقاومته للحركة لا نهائية وبالتالي يتوقف .
وهذه فرضية مستحيلة طبعًا . لأنه لا يوجد جسم يمكنه أن يتحرك بسرعة الضوء .
واستطاع أينشتين أن يقدم المعادلة الدقيقة التي تبين العلاقة بين كتلة الجسم وسرعته .
لينك المعادلة :
http://im35.gulfup.com/MlRL9.jpg
حيث أن ك1 هي كتلة الجسم وهو متحرك ، ك كتلته وهو ساكن ، ع سرعته ، ص سرعة الضوء .
والذين يذكرون أوليات علم الجبر يعلمون أن ع حينما تكون مقاديرها صغيرة لا تؤثر بكثير في المعادلة . ولكن حينما تقترب ع من سرعة الضوء فإن النتيجة تتضخم بشكل هائل وتصبح قيمة الجذر التربيعي أقرب إلى الصفر . وتصبح الكتلة الجديدة هي ك مقسومة على صفر . أي لا نهاية .
ولم تلبث المعامل أن قدمت لنا التجربة الملموسة التي تثبت صدق هذه المعادلة . وبهذا خرجت بها من حيز الافتراضات الجبرية إلى حيز الحقائق العلمية المعترف بها .
أثبتت التجارب أن القذائف المشعة التي تطلقها مادة الراديوم واليورانيوم ( وهي دقائق مادية متناهية في الصِغَر تنطلق بسرعة قريبة من سرعة الضوء ) تزداد كتلتها بما يتفق مع حسابات أينشتين .
وخطا أينشتين خطوة أخرى في تفكيره النظري قائلًا :
إنه مادام الجسم يكتسب مزيدًا من الكتلة حينما يكتسب مزيدًا من الحركة . وبما أن الحركة شكل من أشكال الطاقة . فإن معنى هذا أن الجسم حينما يكتسب طاقة يكتسب في نفس الوقت كتلة .
أي أن الطاقة يمكن أن تتحول إلى كتلة، والكتلة يمكن أن تتحول إلى طاقة .
وما لبث أن قدم المعادلة التاريخية لهذه العلاقة بين الطاقة والكتلة . وهي المعادلة التي صُنِعت القنبلة الذرية على أساسها :
طـ = ك X ص2 .
أو أن الطاقة المتحصلة من كتلة معينة تساوي حاصل ضرب هذه الكتلة بالجرام في مربع سرعة الضوء بالسنتيمتر/ ثانية .
ويلاحَظ هنا أن الطاقة الناتجة من تفجير جرام واحد كمية هائلة جدًا . وأنها يمكن أن تحرق مدينة . أو تزوِّد مديرية كاملة بالوقود لمدة سنة .
فإذا أردنا أن نحسب كمية الكتلة المتحصلة من تركيز كمية الطاقة، فإن المعادلة تكون أن . الكتلة تساوي الطاقة مقسومة على سرعة الضوء بالسنتيمتر ثانية . أي مقدار ضئيل جدًا .
والمعادلة تفسر لنا السر في أزلية هذا الكون وقِدَمه .
السر أن هذا العدد الهائل من النجوم مضت عليه آماد طويلة من بلايين السنين وهو يشع نورًا وطاقة وحرارة . ولم تبد عليه مخايل الفناء بعد .
والسر هو أن النجوم تحترق بطريقة أخرى غير احتراق السجاير . والكبريت . فالكبريت يشتعل بطريقة كيميائية . والنار التي تخرج منه هي حرارة اتحاد عناصر بعضها ببعض . هي حرارة إتحاد الكبريت بالأوكسجين لينتج ثاني أكسيد الكربون .
الكبريت لا يفنَى وإنما يتحول إلى مركبات أخرى . هي الدخان .
أما احتراق الشمس والنجوم فإنه احتراق فَناء .
ذرات الشمس والنجوم تتحطم وتتدفق شعاعًا في كل أقطار الكون، وهذا النوع من الاحتراق النووي بطيء جدًا . لأن قليلًا جدً جدًا من المادة يملأ الفضاء بالكثير جدًا جدًا من الطاقة .
فالنجوم تخسر قليلًا جدًا من مادتها كل يوم . وهذا سر عمرها الطويل الأزلي، ولو كانت الشمس تحترق بالطريقة التي تحترق بها السجائر وعيدان الكبريت لانطفأت في لحظة ولتحولت الأرض إلى صقيع وانقرض ما عليها من صنوف الحياة .
ولقد كان انفجار قنبلة هيروشيما ، واختراع القنبلة الهيدروجينية بعد ذلك ، ثم قنبلة النيوترون بداية فتح رهيب في عالَم الطاقة .
لقد سلَّم أينشتين مفاتيح جهنم للعلماء . وللساسة المخبولين . وللمجانين من هواة الحروب . بهذه المعادلة البسيطة .
وأصبح ممكنًا بالحساب والأرقام معرفة كمية المادة اللازمة لنسف دولة وإفناء شعب . وهي في العادة قليل من جرامات اليورانيوم والماء الثقيل والكوبالت . أقل مما يملأ قبضة اليد .
وانفتح في نفس الوقت باب لبحوث الفضاء . وأصبح السفر في صواريخ هائلة تنطلق بسرعة خارقة وتخرج من جاذبية الأرض ممكنًا . نتيجة اختراع صنوف جديدة من الوقود الذرّي .
لكن أهم من هذه التطبيقات العملية . كانت هناك نتيجة نظرية خطيرة ترتبت على هذه الخطوة .
أن الحاجز بين المادة والطاقة قد سقط نهائيًا . وأصبحت المادة هي الطاقة ، والطاقة هي المادة .
لا فرق بين الصوت والضوء والحرارة والحركة والمغنطيسية والكهرباء . وبين المادة الخاملة التي لا يخرج منها صوت ولا تندّ عنها حركة .
فالمادة هي كل هذه الظواهر مختزنة مركَّزة .
المادة هي الحركة مضغوطة محبوسة .
هي قمقم سليمان فيه عفريت .
وأينشتين هو الذي أطلق تعزيمة الرموز والطلاسم الجبرية فانفتح القمقم وخرج العفريت .
المادة ليست مادة .
إنها حركة .
ما الفرق بين أن نقول ذلك ، وبين أن نقول إنها روح . ؟!
الروح تعبير صوفي نقصد به الفعالية الخالصة التي بلا جسد .
والمادة اتضح أنها فعالية خالصة ( حركة ) وأن جسمها الملموس وَهم من أوهام الحواس .
الألفاظ تختلط ببعضها . وكل شيء جائز .
ومنذ اللحظة التي حطم فيها أينشتين السدّ الوهميّ بين المادة والطاقة ، انهار كل يقين حسي ملموس . وتحولت الدنيا إلى خواء مشحون بطاقة غير مرئية . مثل الجن والعفاريت .
مرة يسميها العِلم موجات مغناطيسية كهربائية . ومرة يسميها أشعة كونية . ومرة يسميها أشعة إكس . ومرة يسميها جزيئات بيتا . ومرة يسميها أشعة جاما .
وأغلبها أشياء تقتل في الظلام دون أن تدركها الحواس . وهذه الأشياء هي نفسها المادة الساذجة الخاملة التي نتداولها بين أيدينا كل يوم .
وسط هذا التشويش والغموض وَجَدت بعض المعضلات العلمية تفسيرها . المشكلة التي أثارها ماكس بلانك : هل طبيعة الضوء ذرية . أو موجية . ؟!
مثل هذا الازدواج أصبح طبيعيًا . فالضوء مادة وفي نفس الوقت طاقة . ولابد أن يحمل أثر هذه الطبيعة المزدوجة . وهي ازدواج وليس تناقضًا .
لأن الذرة ليست شكلًا ثابتًا وحيدًا للمادة . وإنما هي في ذات الوقت يمكن أن تتبعثر أمواجًا .
مقال / الكتلة
من كتاب / اينشتين والنسبيه
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله). ❝