❞ إذا كنت في البحر وأردت أن تحدد وضعك، فأنت في حاجة إلى نسبة هذا الوضع إلى بعدين .. هما الطول والعرض ..
فأنت عند التقاء خط طول كذا بعرض كذا .
أما إذا كنت طائرًا في الهواء وأردت أن تحدد موضعك، فأنت في حاجة إلى ثلاثة أبعاد .. الطول والعرض والإرتفاع .. لتحدد النقطة التي أنت فيها بالضبط .
وهذه الأبعاد الثلاثة لا تصف لنا حركتك .. لأن وضعك يتغير من لحظة لأخرى على محور رابع غير منظور ولا ملموس .. هو الزمن .
فإذا أردت أن تعرف حركتك .. فإن الأبعاد الثلاثة لا تكفي، ولابد أن تضيف إليها بعدًا رابعًا .. هو الزمن .. فأنت على خط طول كذا وخط عرض كذا في ارتفاع كذا في الوقت كذا ..
ولأن كل شيء في الطبيعة في حالة حركة .. فالأبعاد الثلاثة هي حدود غير واقعية للأحداث الطبيعية .. والحقيقة ليست ثلاثية في أبعادها ولكنها رباعية .
إنها .. المكان والزمان معًا ( في متصل واحد ) .. ( Space – time continuum )
ولكن المكان والزمان يظهران دائمًا منفصلين في إحساسنا .. لأننا لا نرى الزمان ولا نمسكه كما نمسك بالأبعاد المكانية الأخرى .. ولا نعرف له معادلًا موضوعيًا خاصًا به كما المكان .. ومع هذا فاتصال الزمان بالمكان حقيقة ..
بدليل أننا إذا أردنا أن نتتبع الزمان فإننا نتتبعه في المكان .. فنترجم النقلات الزمانية بنقلات مكانية ..
فنقول " فُلان بيكبر " ونقصد في السِن، والحجم ..
ونقول " وقت الغروب " ونقصد انحدار الشمس في المكان بالنسبة للأرض ..
ونقول " اليوم .. والشهر .. والسنة .. " وهي إشارات للأوضاع المكانية التي تحتلها الأرض حول الشمس .
ونحن حينما ننظر في أعماق السماء بالتلسكوب .. لنشاهد نجومًا بعيدة جدًا بيننا وبينها ألوف السنين الضوئية، نحن في الحقيقة ننظر في الزمان لا في المكان وحده .. نحن ننظر في ماضي هذه النجوم .. وما نراه هو صورتها حينما غادرها الضوء ليصل إلينا بعد هذه الألوف من السنين .
ومع هذا فنحن لا نستطيع أن نتخيل شكلًا ذا أبعاد أربعة ..
إن هذه التركيبة الخيالية تُحدِث لنا دَوارًا ..
فكيف يمكن أن يضاف الزمان إلى الأبعاد الثلاثة ليصنع شكلًا ذا أبعاد أربعة .. وماذا تكون صفة هذا الشكل .. !
وأينشتين يقول أننا سجناء حواسّنا المحدودة .. ولهذا نعجز عن رؤية هذه الحقيقة وتصورها .
ولكن كل ما في الكون من أحداث يثبت أن هذه التركيبة ليست تركيبة فرضيّة رياضية .. وإنما هي حقيقة ..
فالزمان غير منفصل عن المكان، وإنما هما نسيج واحد ..
وهذا النسيج هو " المجال " الذي تدور فيه كل الحركات الكونية .. وعند كلمة " مجال " نتوقف قليلًا .. فهي كلمة لها عند أينشتين معنى جديد عميق ..
** ** **
كلمة " مجــال " .. هي الكلمة التي رد بها أينشتين على نظرية الجاذبية لنيوتن ..
نيوتن يقول إن الجاذبية قوة كامنة في الأجسام تجذب بعضها إلى بعض وتؤثر عن بُعد .
ولكن أينشتين يرفض نظرية التأثير عن بُعد .. وينكر أن الجاذبية قوة .. ويقول إن الأجسام لا تشد بعضها بعضًا .. ولكنها تخلق حولها " مجالًا " ..
كل جسم يحدِث اضطرابًا في الصفات القياسية للفضاء حوله .. كما تُحدِث السمكة اضطرابًا في الماء حولها .. ويخلق حوله مجالًا ( نتيجة التعديلات التي تحدث في الزمان والمكان حوله ) ..
وكما في المغناطيس يمكن تخطيط هذا المجال عن طريق رش برادة الحديد .. كذلك يمكننا عن طريق الحساب والمعادلات أن نحسب شكل وتركيب مجال جسم معين عن طريق كتلته ..
وقد استطاع أينشتين أن يقدم بالفعل هذه المعادلات المعروفة بمعادلات التركيب .. وأرفق بها مجموعة أخرى من المعادلات سماها معادلات الحركة .. لحساب حركة أي جسم يقع في ذلك المجال ..
وتفسير ما يحدث في نظر أينشتين حينما يجذب المغناطيس برادة الحديد .. أن برادة الحديد تتراص في صفوف في الفضاء وفقًا للمجال .. لأنها لا تستطيع أن تسلك سُبلًا أخرى في حركتها نتيجة التعديلات التي أحدثها وجود المغناطيس في الخواص القياسية للفضاء حوله ..
إن المغناطيس لا يجذب البرادة ..
والبرادة لا تنجذب إلى المغناطيس ..
ولكنها لا تجد طريقًا تسلكه سوى هذه السكك الفضائية الجديدة التي اسمها المجال المغنطيسي ..
تمامًا كما تَخلق السمكة نتيجة حركتها في الماء تيارًا تسير فيه ذرات الغبار العالقة بالماء .. ويبدو على هذه الذرات أنها تسير منجذبة إلى السمكة .. ولكنها في الواقع تتحرك وفقًا للدوامة المائية وللتيارات التي خلقتها السمكة بحركتها في الماء ..
إنها لا تتحرك بقوة السمكة .. بل هي تتحرك وفقًا لمجال .
وكان من الممكن أن تمر هذه النظرية على أنها نوع من التخريف والهذيان، لولا أن معادلات أينشتين قد استطاعت أن تتنبأ بظواهر طبيعية وفلكية .. كانت تُعتبَر إلى وقت قريب من الألغاز .
فقد ظلت حركة عطارد حول الشمس لغزًا حتى فسرتها هذه المعادلات ..
والظاهرة التي كانت تحير العلماء أن هذا الكوكب الصغير ينحرف عن مداره بمقدار معين كل عدد معين من السنين .. وأن المجال الذي يدور فيه ينتقل من مكانه بمضي الزمن ..
وقد تنبأت معادلات أينشتين بمقدار الإنحراف بالضبط .. وكان التفسير الذي قدمه أينشتين لهذه الظاهرة أن شدة اقتراب عطارد من الشمس بالإضافة إلى سرعة دورانه وعِظَم جاذبية الشمس .. هو الذي يؤدي إلى هذا الاضطراب في المجال والانحراف المشاهَد في مدار الكوكب ..
أما النبوءة الثانية فكانت أخطر من الأولى، وأكثر إثارة للأوساط العلمية ..
فقد كان معلومًا أن الضوء ينتشر في خطوط مستقيمة .. وهكذا تعلمنا في كتب الضوء الأولية التي درسناها في المدارس ..
ولكن أينشتين كان له رأي آخر ..
فمادام الضوء طاقة، والطاقة مادة .. فلابد أن يخضع الضوء لخواص المجال كما تخضع برادة الحديد فيسير في خطوط منحنية حينما يقترب من جسم مثل جسم الشمس .. ذي مجال جاذبية قوي ..
فلو رصدنا نجمًا يمر ضوؤه بجوار الشمس لوجدنا أن الشعاع القادم إلينا ينحرف إلى الداخل ناحية مجال الشمس ولرأينا الصورة بالتالي تنحرف إلى الخارج بزاوية معينة قدَّرها أينشتين 1.75 درجة ..
وكان رصد مثل هذا النجم يقتضي الانتظار حتى يأتي وقت الكسوف .. لتكون رؤيته إلى جوار الشمس ممكنة .
** ** **
ولقد أسرع العلماء يبنون مراصدهم في المناطق الإستوائية .. وعلى ذرى الجبال .. في انتظار اللحظة الحاسمة التي يمتحنون فيها هذه النظرية الخرافية ..
فماذا كانت النتيجة .. ؟
سجلت المراصد انحرافًا قدره 1.64 درجة .. أي قريبًا جدًا من نبوءة أينشتين ..
إذًا أينشتين على صواب .. والضوء مادة، والأشعة الضوئية لا تسير في خطوط مستقيمة .. وإنما تنحني وفقًا لخطوط المجال ..
هل هذا الرجل شيخ طريقة يَعلَم الغيب ويحسب حساب النجوم ويعرف مقدّراتها دون أن يراها .. ؟!
هل هو رجل مكشوف عنه الحِجاب .. ؟!
وما هذا السر الذي وضع يده عليه .. وبدأ يفض به مكنونات الوجود .. ؟!
ما حكاية " المجال " الذي يتكلم عنه .. وما معناه .. ؟
وما معنى النسيج الواحد من المكان والزمان ذي الأربعة أبعاد .. ؟
وكيف يَخلُق الجسم مجالًا حوله .. ؟
أينشتين يشرح هذا الغموض قائلًا .. إن أي جسم يوجد في مكان وزمان .. فإنه يُحدِث تغييرات في الخواص القياسية لهذا المكان والزمان .. فينحني الفضاء حول هذا الجسم كما تنحني خطوط القوى حول المغانطيس .. وهذه التغييرات هي المجال .
وكل ذرة مادية تقع في هذا المجال تعدّل سيرها وفقًا له .. كما تتراص برادة الحديد وفقًا لخطوط المجال حول المغناطيس ..
وعلى هذا الأساس تدور الأرض حول الشمس .. لا بسبب قوة جذب الشمس .. ولكن بسبب خصائص المجال الذي تخلقه الشمس حولها .
الأرض لا تجد مسلكًا تسير فيه سوى هذا المسلك الدائري .. وكل الكواكب محكومة في مسالكها بخطوط دائرية .. هي انحناءات المجال حول الأجسام الأكبر منها ..
الجاذبية ظاهرة أشبه بظاهرة القصور .. الأجسام قاصرة عن أن تتعدى مجالاتها المرسومة ..
ولا يُجدي أن نقول إن الفضاء واسع .. فلماذا تأخذ الأجسام هذه المسارات الدائرية وتعجز عن الخروج منها .. !
فالبحر واسع أيضًا .. ومع هذا حينما تتلقف دوامة حطام إحدى المراكب فإنها تظل تدور به في مجالاتها لا تفلته .. ويعجز بدوره عن الخروج من قبضتها مع أن البحر واسع لا حدود لآفاقه ..
ونحن نرى الطائرات في الجو تتجنب المطبات الهوائية .. والدوامات .. لأنها تفقد تحكمها إذا وقعت في أسرها ..
ولا شك أن جانبًا كبيرًا من غموض المسألة سببه أن عيوننا لا ترى هذه الأشياء التي اسمها خطوط المجال .. إنما نحن نتتبعها عن طريق قياس أثرها ثم نحسب حسبتها في ذهننا عن طريق المعادلات والرموز الرياضية .. ثم نبني لها شكلًا خياليًا في عقلنا ..
أما حكاية المكان والزمان اللذان يؤلفان نسيجًا واحدًا .. فهي مشكلة المشاكل في النسبية ..
فإننا بحكم حواسنا المحدودة لا نستطيع أن نرسم صورة أو شكلًا لهذا الشيء ذي الأبعاد الأربعة ..
..
مقال / البعد الرابع .
من كتاب / أينشتين والنسبية
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ إذا كنت في البحر وأردت أن تحدد وضعك، فأنت في حاجة إلى نسبة هذا الوضع إلى بعدين . هما الطول والعرض .
فأنت عند التقاء خط طول كذا بعرض كذا .
أما إذا كنت طائرًا في الهواء وأردت أن تحدد موضعك، فأنت في حاجة إلى ثلاثة أبعاد . الطول والعرض والإرتفاع . لتحدد النقطة التي أنت فيها بالضبط .
وهذه الأبعاد الثلاثة لا تصف لنا حركتك . لأن وضعك يتغير من لحظة لأخرى على محور رابع غير منظور ولا ملموس . هو الزمن .
فإذا أردت أن تعرف حركتك . فإن الأبعاد الثلاثة لا تكفي، ولابد أن تضيف إليها بعدًا رابعًا . هو الزمن . فأنت على خط طول كذا وخط عرض كذا في ارتفاع كذا في الوقت كذا .
ولأن كل شيء في الطبيعة في حالة حركة . فالأبعاد الثلاثة هي حدود غير واقعية للأحداث الطبيعية . والحقيقة ليست ثلاثية في أبعادها ولكنها رباعية .
إنها . المكان والزمان معًا ( في متصل واحد ) . ( Space – time continuum )
ولكن المكان والزمان يظهران دائمًا منفصلين في إحساسنا . لأننا لا نرى الزمان ولا نمسكه كما نمسك بالأبعاد المكانية الأخرى . ولا نعرف له معادلًا موضوعيًا خاصًا به كما المكان . ومع هذا فاتصال الزمان بالمكان حقيقة .
بدليل أننا إذا أردنا أن نتتبع الزمان فإننا نتتبعه في المكان . فنترجم النقلات الزمانية بنقلات مكانية .
فنقول " فُلان بيكبر " ونقصد في السِن، والحجم .
ونقول " وقت الغروب " ونقصد انحدار الشمس في المكان بالنسبة للأرض .
ونقول " اليوم . والشهر . والسنة . " وهي إشارات للأوضاع المكانية التي تحتلها الأرض حول الشمس .
ونحن حينما ننظر في أعماق السماء بالتلسكوب . لنشاهد نجومًا بعيدة جدًا بيننا وبينها ألوف السنين الضوئية، نحن في الحقيقة ننظر في الزمان لا في المكان وحده . نحن ننظر في ماضي هذه النجوم . وما نراه هو صورتها حينما غادرها الضوء ليصل إلينا بعد هذه الألوف من السنين .
ومع هذا فنحن لا نستطيع أن نتخيل شكلًا ذا أبعاد أربعة .
إن هذه التركيبة الخيالية تُحدِث لنا دَوارًا .
فكيف يمكن أن يضاف الزمان إلى الأبعاد الثلاثة ليصنع شكلًا ذا أبعاد أربعة . وماذا تكون صفة هذا الشكل . !
وأينشتين يقول أننا سجناء حواسّنا المحدودة . ولهذا نعجز عن رؤية هذه الحقيقة وتصورها .
ولكن كل ما في الكون من أحداث يثبت أن هذه التركيبة ليست تركيبة فرضيّة رياضية . وإنما هي حقيقة .
فالزمان غير منفصل عن المكان، وإنما هما نسيج واحد .
وهذا النسيج هو " المجال " الذي تدور فيه كل الحركات الكونية . وعند كلمة " مجال " نتوقف قليلًا . فهي كلمة لها عند أينشتين معنى جديد عميق .
******
كلمة " مجــال " . هي الكلمة التي رد بها أينشتين على نظرية الجاذبية لنيوتن .
نيوتن يقول إن الجاذبية قوة كامنة في الأجسام تجذب بعضها إلى بعض وتؤثر عن بُعد .
ولكن أينشتين يرفض نظرية التأثير عن بُعد . وينكر أن الجاذبية قوة . ويقول إن الأجسام لا تشد بعضها بعضًا . ولكنها تخلق حولها " مجالًا " .
كل جسم يحدِث اضطرابًا في الصفات القياسية للفضاء حوله . كما تُحدِث السمكة اضطرابًا في الماء حولها . ويخلق حوله مجالًا ( نتيجة التعديلات التي تحدث في الزمان والمكان حوله ) .
وكما في المغناطيس يمكن تخطيط هذا المجال عن طريق رش برادة الحديد . كذلك يمكننا عن طريق الحساب والمعادلات أن نحسب شكل وتركيب مجال جسم معين عن طريق كتلته .
وقد استطاع أينشتين أن يقدم بالفعل هذه المعادلات المعروفة بمعادلات التركيب . وأرفق بها مجموعة أخرى من المعادلات سماها معادلات الحركة . لحساب حركة أي جسم يقع في ذلك المجال .
وتفسير ما يحدث في نظر أينشتين حينما يجذب المغناطيس برادة الحديد . أن برادة الحديد تتراص في صفوف في الفضاء وفقًا للمجال . لأنها لا تستطيع أن تسلك سُبلًا أخرى في حركتها نتيجة التعديلات التي أحدثها وجود المغناطيس في الخواص القياسية للفضاء حوله .
إن المغناطيس لا يجذب البرادة .
والبرادة لا تنجذب إلى المغناطيس .
ولكنها لا تجد طريقًا تسلكه سوى هذه السكك الفضائية الجديدة التي اسمها المجال المغنطيسي .
تمامًا كما تَخلق السمكة نتيجة حركتها في الماء تيارًا تسير فيه ذرات الغبار العالقة بالماء . ويبدو على هذه الذرات أنها تسير منجذبة إلى السمكة . ولكنها في الواقع تتحرك وفقًا للدوامة المائية وللتيارات التي خلقتها السمكة بحركتها في الماء .
إنها لا تتحرك بقوة السمكة . بل هي تتحرك وفقًا لمجال .
وكان من الممكن أن تمر هذه النظرية على أنها نوع من التخريف والهذيان، لولا أن معادلات أينشتين قد استطاعت أن تتنبأ بظواهر طبيعية وفلكية . كانت تُعتبَر إلى وقت قريب من الألغاز .
فقد ظلت حركة عطارد حول الشمس لغزًا حتى فسرتها هذه المعادلات .
والظاهرة التي كانت تحير العلماء أن هذا الكوكب الصغير ينحرف عن مداره بمقدار معين كل عدد معين من السنين . وأن المجال الذي يدور فيه ينتقل من مكانه بمضي الزمن .
وقد تنبأت معادلات أينشتين بمقدار الإنحراف بالضبط . وكان التفسير الذي قدمه أينشتين لهذه الظاهرة أن شدة اقتراب عطارد من الشمس بالإضافة إلى سرعة دورانه وعِظَم جاذبية الشمس . هو الذي يؤدي إلى هذا الاضطراب في المجال والانحراف المشاهَد في مدار الكوكب .
أما النبوءة الثانية فكانت أخطر من الأولى، وأكثر إثارة للأوساط العلمية .
فقد كان معلومًا أن الضوء ينتشر في خطوط مستقيمة . وهكذا تعلمنا في كتب الضوء الأولية التي درسناها في المدارس .
ولكن أينشتين كان له رأي آخر .
فمادام الضوء طاقة، والطاقة مادة . فلابد أن يخضع الضوء لخواص المجال كما تخضع برادة الحديد فيسير في خطوط منحنية حينما يقترب من جسم مثل جسم الشمس . ذي مجال جاذبية قوي .
فلو رصدنا نجمًا يمر ضوؤه بجوار الشمس لوجدنا أن الشعاع القادم إلينا ينحرف إلى الداخل ناحية مجال الشمس ولرأينا الصورة بالتالي تنحرف إلى الخارج بزاوية معينة قدَّرها أينشتين 1.75 درجة .
وكان رصد مثل هذا النجم يقتضي الانتظار حتى يأتي وقت الكسوف . لتكون رؤيته إلى جوار الشمس ممكنة .
******
ولقد أسرع العلماء يبنون مراصدهم في المناطق الإستوائية . وعلى ذرى الجبال . في انتظار اللحظة الحاسمة التي يمتحنون فيها هذه النظرية الخرافية .
فماذا كانت النتيجة . ؟
سجلت المراصد انحرافًا قدره 1.64 درجة . أي قريبًا جدًا من نبوءة أينشتين .
إذًا أينشتين على صواب . والضوء مادة، والأشعة الضوئية لا تسير في خطوط مستقيمة . وإنما تنحني وفقًا لخطوط المجال .
هل هذا الرجل شيخ طريقة يَعلَم الغيب ويحسب حساب النجوم ويعرف مقدّراتها دون أن يراها . ؟!
هل هو رجل مكشوف عنه الحِجاب . ؟!
وما هذا السر الذي وضع يده عليه . وبدأ يفض به مكنونات الوجود . ؟!
ما حكاية " المجال " الذي يتكلم عنه . وما معناه . ؟
وما معنى النسيج الواحد من المكان والزمان ذي الأربعة أبعاد . ؟
وكيف يَخلُق الجسم مجالًا حوله . ؟
أينشتين يشرح هذا الغموض قائلًا . إن أي جسم يوجد في مكان وزمان . فإنه يُحدِث تغييرات في الخواص القياسية لهذا المكان والزمان . فينحني الفضاء حول هذا الجسم كما تنحني خطوط القوى حول المغانطيس . وهذه التغييرات هي المجال .
وكل ذرة مادية تقع في هذا المجال تعدّل سيرها وفقًا له . كما تتراص برادة الحديد وفقًا لخطوط المجال حول المغناطيس .
وعلى هذا الأساس تدور الأرض حول الشمس . لا بسبب قوة جذب الشمس . ولكن بسبب خصائص المجال الذي تخلقه الشمس حولها .
الأرض لا تجد مسلكًا تسير فيه سوى هذا المسلك الدائري . وكل الكواكب محكومة في مسالكها بخطوط دائرية . هي انحناءات المجال حول الأجسام الأكبر منها .
الجاذبية ظاهرة أشبه بظاهرة القصور . الأجسام قاصرة عن أن تتعدى مجالاتها المرسومة .
ولا يُجدي أن نقول إن الفضاء واسع . فلماذا تأخذ الأجسام هذه المسارات الدائرية وتعجز عن الخروج منها . !
فالبحر واسع أيضًا . ومع هذا حينما تتلقف دوامة حطام إحدى المراكب فإنها تظل تدور به في مجالاتها لا تفلته . ويعجز بدوره عن الخروج من قبضتها مع أن البحر واسع لا حدود لآفاقه .
ونحن نرى الطائرات في الجو تتجنب المطبات الهوائية . والدوامات . لأنها تفقد تحكمها إذا وقعت في أسرها .
ولا شك أن جانبًا كبيرًا من غموض المسألة سببه أن عيوننا لا ترى هذه الأشياء التي اسمها خطوط المجال . إنما نحن نتتبعها عن طريق قياس أثرها ثم نحسب حسبتها في ذهننا عن طريق المعادلات والرموز الرياضية . ثم نبني لها شكلًا خياليًا في عقلنا .
أما حكاية المكان والزمان اللذان يؤلفان نسيجًا واحدًا . فهي مشكلة المشاكل في النسبية .
فإننا بحكم حواسنا المحدودة لا نستطيع أن نرسم صورة أو شكلًا لهذا الشيء ذي الأبعاد الأربعة .
.
مقال / البعد الرابع .
من كتاب / أينشتين والنسبية
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ هل نحن نرى الدنيا على حقيقتها ؟
هل هذه السماء زرقاء فعلًا .. وهل الحقول خضراء .. وهل الرمال صفراء ؟
وهل العسل حلو .. والعلقَم مُر ؟
هل الماء سائل .. والجليد صلب ؟
وهل الخشب مادة جامدة كما تقول لنا حواسّنا ؟
وهل حجارة الأرض مادة موات، لا حركة فيها ولا دبيب ؟
وهل الزجاج شفاف كما يبدو لنا .. والجدران صمّاء كما نراها ؟
وهل الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين كما تقول لنا الهندسة التقليدية التي تعلمناها .. وهل مجموع زوايا المثلث تساوي 2 ق ؟
وهل أحداث الكون كلها ممتدة في زمن واحد .. بحيث يمكن أن تتواقت بعضها مع بعض في آن واحد في أماكن متفرقة .. كما يتواقت خروج الموظفين مثلًا من مختلف الوزارات في ذات الوقت والساعة .. فنقارن أحداثًا تجري في الأرض مع أحداث تجري في المريخ .. والزهرة وسديم الجبار .. ونقول إنها حدثت في وقت واحد .. أو أن أحدها كان قبل الآخر ..
وهل يمكننا أن نقطع في يقين أن جسمًا ما من الأجسام يتحرك وأن جسمًا آخر لا يتحرك ؟
♦♦ كل هذه الأسئلة التي يُخيّل لك أنك تستطيع الإجابة عنها في بساطة، والتي كان العلماء يظنون أنهم قد انتهوا منها من زمن .. قد تحولت الآن إلى ألغاز ..
لقد انهار اليقين العلمي القديم ..
والمطرقة التي حطمت هذا اليقين، وكشفت لنا عن أنه كان يقينا ساذجا، هي عقل أينشتين الجبار ..
ونظريته التي غيرت الصورة الموضوعة للعالم .. نظرية النسبية .
*********
والنظرية النسبية قد عاشت سنوات منذ بداية وضعها في سنة 1905 إلى الآن في برج عاجي لا يقربها إلا المختصون ..
وكان القارئ العادي يسمع عنها في خوف كما يسمع عن الكِهانات الغامضة والطقوس الماسونية .. ولا يجرؤ على الخوض فيها ..
ومن المأثور عن الدكتور "مشرفة" أنه كان يقول دائما إن هذه النظرية " النظرية النسبية " لا يفهمها في العالم كله إلا عشرة ..
ولكن النظرية النسبية ترتبت عليها القنبلة الذرية ..
إنها لم تعد نظرية .. وإنما تحولت إلى تطبيقات خطيرة تمس كيان كل فرد وتؤثر في مصيره .
لقد خرجت من حيز الفروض والمعادلات الرياضية لتتحول إلى واقع رهيب ..
وأصبح من حق كل فرد أن يعرف عنها شيئا .
ولقد تعددت المحاولات من العلماء لتبسيطها وتقريبها إلى الفهم .. من ادنجتون إلى جيمس جينز .. إلى لنكولن بارنت .. إلى راسِل ..
وكان أينشتين نفسه يحاول أن يبسط ما في نظريته من غموض .. وكان يقول إن قَصْر المعلومات على عدد قليل من العلماء بحجة التعمق والتخصص .. يؤدي إلى عزلة العِلم .. ويؤدي إلى موت روح الشعب الفلسفية وفقره الروحي، وكان يكره الكهانة العلمية والتلَفُح بالغموض، والادعاء .. والتعاظم ..
وكان يقول إن الحقيقة بسيطة .
وفي آخر محاولاته التي أتمها في عام 1949 كان يبحث عن قانون واحد يفسر به كل علاقات الكون .
ونظرية النسبية ليست كلها معادلات .. وإنما لها جوانب فلسفية .
وحتى المعادلات الرياضية .. يقول أينشتين أنها انبعثت في ذهنه نتيجة شطحاته التي حاول فيها أن يتصور الكون على صورة جديدة ..
وأمام هذه الشطحات الفلسفية سوف نقف قليلًا .. تاركين المعادلات الرياضية لأربابها من القادرين عليها، محاولين أن نشرح بعض ما أراد ذلك العالِم العظيم أن يقوله، على قدر الإمكان، إمكان فهمنا .
وسوف نبدأ من البداية .. من قبل أينشتين .. من السؤال الذي بدأنا به المقال :
هل نحن نرى الدنيا على حقيقتها ؟
هل هذه السماء زرقاء فعلًا .. وهل الحقول خضراء .. وهل الرمال صفراء ؟
وهل العسل حلو .. والعلقَم مُر ؟
هل الماء سائل .. والجليد صلب ؟
وهل الخشب مادة جامدة كما تقول لنا حواسّنا ؟
وهل حجارة الأرض مادة موات، لا حركة فيها ؟
وهل الزجاج شفاف .. والجدران صمّاء ؟
# # # # #
لا ..
ليست هذه هي الحقيقة ..
هذا ما نراه .. وما نحسه بالفعل .. ولكنه ليس كل الحقيقة ..
فالنور الأبيض الذي نراه أبيض .. إذا مررناه خلال منشور زجاجي .. يتحلل إلى سبعة ألوان .. هي ألوان الطيف المعروفة .. الأصفر والبرتقالي والأحمر والأخضر والأزرق والبنفسجي .. إلخ .
فإذا حاولنا أن ندرس ماهية هذه الألوان، لم نجد أنها ألوان .. وإنما وجدناها موجات لا تختلف في شيء إلا في طولها ..
ذبذبات متفاوتة في ترددها .. وهذه كل الحكاية .. ولكن عيننا لا تستطيع أن ترى هذه الأمواج كأمواج .. ولا تستطيع أن تحس بهذه الذبذبات كذبذبات .. وانما كل ما يحدث أن الخلايا العصبية في قاع العين تتأثر بكل نوع من هذه الذبذبات بطريقة مختلفة ..
ومراكز البصر في المخ تترجم هذا التأثر العصبي على شكل ألوان ..
ولكن هذه المؤثرات الضوئية ليست ألوانًا .. وإنما هي محض موجات واهتزازات .. والمخ بلغته الإصطلاحية .. لكي يميزها عن بعضها .. يطلق عليها هذه التعريفات التي هي عبارة عن تصورات .. وهذه هي حكاية الألوان ..
والحقول التي نراها خضراء ليست خضراء .. وإنما كل ما يحدث أن أوراق النباتات تمتص كل أمواج الضوء بكافة أطوالها ما عدا تلك الموجة ذات الطول المعين التي تدخل عيننا وتؤثر في خلاياها فيكون لها هذا التأثير الذي هو في اصطلاح المخ "أخضر" ..
وبالمثل .. أي لون .. ليس له لون .. وإنما هو مؤثِر يفرقه المخ عن غيره بهذه الطريقة الاصطلاحية .. بأن يلونه .. ويتضح هذا الخلط أكثر حينما ننتقل إلى المثل الثاني .. العســل ..
فالعسل في فمنا حلو .. ونحن نتلذذ به ونلحسه لحسًا ونمصمصه بلساننا .. ولكن دودة المش لها رأي مختلف تمامًا في العسل .. بدليل أنها لا تقربه ولا تذوقه بعكس المش الذي تغوص فيه وتلتهمه التهامًا وتبيض وتفقس وتعشش فيه .
الحلاوة إذًا لا يمكن أن تكون صفة مطلقة موضوعية في العسل .. وإنما هي صفة نسبية نِسبةً إلى أعضاء التذوق في لساننا .. إنها ترجمتنا الإصطلاحية الخاصة للمؤثرات التي تُحدِثها ذرات العسل فينا ..
وقد يكون لهذه المؤثرات بالنسبة للأعضاء الحسيّة في حيوان آخر طعمًا مختلفًا هو بالمرارة أشبه ..
♦ فإذا جئنا للسؤال الثالث لنسأل أنفسنا .. هل الماء سائل .. وهل الجليد صلب .. فإن المشكلة تتضح أكثر ..
فالماء والبخار والجليد .. مادة كيميائية واحدة تركيبها الكيميائي ( اتحاد الأيدروجين بالأوكسجين 1:2 ) .. وما بينها من اختلاف ليس اختلافًا في حقيقتها وإنما هو اختلافًا في كيفيتها ..
فحينما نضع الماء على النار فإننا نعطيه حرارة .. أو بمعنى آخر طاقة .. فتزداد حركة جزيئاته وبالتالي تتفرق وتتفركش نتيجة اندفاعها الشديد في كل اتجاه ويكون نتيجة هذه الفركشة عند لحظة معينة أن تتفكك تمامًا وتتحول إلى جزيئات سابحة بعيدة عن بعضها (غاز) .. فإذا فقدت هذه الحرارة الكامنة التي أخذتها عن طريق النار حتى تصل في لحظة إلى درجة من التقارب نترجمها بحواسنا على أنها (صلابة) .
الحالة الغازية والسائلة والصلبة هي ظواهر كيفية لحقيقة واحدة .. هي درجة تقارب الجزيئات من بعضها البعض لمادة واحدة هي الماء ..
وشفافية الماء وعتامة الثلج سببها أن جزيئات الماء متباعدة لدرجة تسمح لنا بالرؤية من خلالها .
ولا يعني هذا أن جزيئات الثلج متلاصقة .. وإنما هي متباعدة هي الأخرى ولكن بدرجة أقل .
وجزيئات كل المواد حتى الحديد مخلخلة ومنفصلة عن بعضها .. بل إن الجزئ نفسه مؤلف من ذرات منفصلة .. والذرّة مؤلفة من بروتونات وإلكترونات هي الأخرى منفصلة ومخلخلة ومتباعدة تباعد الشمس عن كواكبها .
كل المواد الصُلبة عبارة عن خلاء منثورة فيه ذرّات .. ولو أن حِسّنَا البصري مكتمل لأمكننا أن نرى من خلال الجدران لأن نسيجها مخلخل كنسيج الغربال ..
ولو كنا نرى عن طريق أشعة إكس لا عن طريق النور العادي لرأينا بعضنا عبارة عن هياكل عظمية، لأن أشغة اكس تخترق المسافات الجزيئية في اللحم .. وتراه في شفافية الزجاج ..
♦ مرة أخرى ..
رؤيتنا العاجزة هي التي ترى الجدران صماء .. وهي ليست صمّاء .. بل هي مخلخلة أقصى درجات التخلخل .. ولكن وسائلنا المحدودة والأشعة التي نرى عن طريقها .. لا تنفد فيها، وإنما تنعكس على سطوحها وتبدو لنا وكأنها ســدّ يقف في طريق رؤيتنا .
إنها جميعًا أحكام نسبية تلك التي نطلقها على الأشياء .. ( نسبة إلى حواسنا المحدودة ) وليست أحكامًا حقيقية ..
والعالَم الذي نراه ليس هو العالَم الحقيقي .. وإنما هو عالَم اصطلاحي بَحتْ .. نعيش فيه معتقَلين في الرموز التي يختلقها عقلنا .. ليدلنا على الأشياء التي لا يعرف لها ماهية أو كَنَهًا .
والرسّام التجريدي على حق حينما يحاول أن يعبر عما يراه .. على طريقته .. فهو يدرك بالفطرة أن ما يراه بعينه ليس هو كل الحقيقة، وبالتالي فهو ليس ملزِمًا له .. وفي إمكانه أن يتلَمّس الحقيقة .. لا بعينه .. وإنما بعقله .. وربما بعقله الباطن .. أو وجدانه .. أو روحه ..
وهو لا يكون مجنونـــًا .. وقد نكون نحن المجــانين .
ورجل العلم له وسائل أخرى غير رجل الفن ..
الفنان يبحث عن الحقيقة معتمدًا على وسائله .. عن طريق الإلهام .. والروح .. والوجدان .
ورجل العلم يلجأ إلى الحسابات والمعادلات .. والفروض النظرية .. التي يحاول أن يتثبت منها بتجارب عملية .
وأينشتين في مغامرته العقلية لم يكن يختلف كثيرًا عن الرسّام التجريدي في مغامرته الفنية .
ومعظم ما كتبه أينشتين في معادلاته كان في الحقيقة تجريدًا للواقع على شكل أرقام وحدود رياضية .. ومحاولة جادة من رجل العلم في أن يهزم العلاقات المألوفة للأشياء ويزيحها لتبدو من خلفها لمحات من الحقيقة المدهشة التي تتخفى في ثياب العادة والألفة ..
وماذا هناك في الواقع المحسوس المألوف ؟
إننا لا نرى الأشياء مشوهة عن أصلها فقط .. وإنما لا نراها إطلاقًا .. وأحيانًا يكون ما نراه لا وجود له بالمرة ..
فهناك غير ألوان الطيف السبعة .. أمواج أقصر من أن ندركها .. هي فوق البنفسجية .. وأمواج أخرى أطول من أن ندركها .. هي تحت الحمراء .. وتكون النتيجة ألا نراها مع أنها موجودة ويمكن إثباتها باللوح الفوتوغرافي الحساس .. وبالترمومتر ..
وعلى العكس نرى أحيانًا أشياء لا وجود لها ..
فبعض النجوم التي نراها بالتلسكوب في أعماق السماء تبعد عنا بمقدار 500 مليون سنة ضوئية .. أي أن الضوء المنبعث منها يحتاج إلى خمسمائة مليون سنة ليصل إلى عيوننا .. وبالتالي فالضوء الذي نلمحها به هو ضوء خرج منها منذ هذا العدد الهائل من السنين .. فنحن لا نراها في الحقيقة .. وإنما نرى ماضيها السحيق الموغَل في القِدَم ..
أما ماهيتها الآن .. فالله وحده يعلم .. وربما تكون قد انفجرت واختفت .. أو انطفأت .. أو ارتحلت بعيدًا في أطراف ذلك الخلاء الأبدي وخرجت من مجال الرؤية بكل وسائلها .. فحالها الآن لا يمكن أن يصلنا خبره إلا بعد مضي خمسمائة مليون سنة ..
إننا قد نكون محملقين في شيء يلمع دون أن يكون له وجود بالمرة .
إلى هذه الدرجة يبلغ عدم اليقين ..
وإلى هذه الدرجة يمكن أن تضللنا الحواس ..
ما دليلنا في هذا التِيه .. ؟!
وكيف نهتدي إلى الحقيقة في هذه الظلمات المطبقة ؟!
مقال / أينشتين والنظرية النسبية .
من كتاب : اينشتين والنسبيه.
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ هل نحن نرى الدنيا على حقيقتها ؟
هل هذه السماء زرقاء فعلًا . وهل الحقول خضراء . وهل الرمال صفراء ؟
وهل العسل حلو . والعلقَم مُر ؟
هل الماء سائل . والجليد صلب ؟
وهل الخشب مادة جامدة كما تقول لنا حواسّنا ؟
وهل حجارة الأرض مادة موات، لا حركة فيها ولا دبيب ؟
وهل الزجاج شفاف كما يبدو لنا . والجدران صمّاء كما نراها ؟
وهل الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين كما تقول لنا الهندسة التقليدية التي تعلمناها . وهل مجموع زوايا المثلث تساوي 2 ق ؟
وهل أحداث الكون كلها ممتدة في زمن واحد . بحيث يمكن أن تتواقت بعضها مع بعض في آن واحد في أماكن متفرقة . كما يتواقت خروج الموظفين مثلًا من مختلف الوزارات في ذات الوقت والساعة . فنقارن أحداثًا تجري في الأرض مع أحداث تجري في المريخ . والزهرة وسديم الجبار . ونقول إنها حدثت في وقت واحد . أو أن أحدها كان قبل الآخر .
وهل يمكننا أن نقطع في يقين أن جسمًا ما من الأجسام يتحرك وأن جسمًا آخر لا يتحرك ؟
♦♦ كل هذه الأسئلة التي يُخيّل لك أنك تستطيع الإجابة عنها في بساطة، والتي كان العلماء يظنون أنهم قد انتهوا منها من زمن . قد تحولت الآن إلى ألغاز .
لقد انهار اليقين العلمي القديم .
والمطرقة التي حطمت هذا اليقين، وكشفت لنا عن أنه كان يقينا ساذجا، هي عقل أينشتين الجبار .
ونظريته التي غيرت الصورة الموضوعة للعالم . نظرية النسبية .
*********
والنظرية النسبية قد عاشت سنوات منذ بداية وضعها في سنة 1905 إلى الآن في برج عاجي لا يقربها إلا المختصون .
وكان القارئ العادي يسمع عنها في خوف كما يسمع عن الكِهانات الغامضة والطقوس الماسونية . ولا يجرؤ على الخوض فيها .
ومن المأثور عن الدكتور ˝مشرفة˝ أنه كان يقول دائما إن هذه النظرية ˝ النظرية النسبية ˝ لا يفهمها في العالم كله إلا عشرة .
ولكن النظرية النسبية ترتبت عليها القنبلة الذرية .
إنها لم تعد نظرية . وإنما تحولت إلى تطبيقات خطيرة تمس كيان كل فرد وتؤثر في مصيره .
لقد خرجت من حيز الفروض والمعادلات الرياضية لتتحول إلى واقع رهيب .
وأصبح من حق كل فرد أن يعرف عنها شيئا .
ولقد تعددت المحاولات من العلماء لتبسيطها وتقريبها إلى الفهم . من ادنجتون إلى جيمس جينز . إلى لنكولن بارنت . إلى راسِل .
وكان أينشتين نفسه يحاول أن يبسط ما في نظريته من غموض . وكان يقول إن قَصْر المعلومات على عدد قليل من العلماء بحجة التعمق والتخصص . يؤدي إلى عزلة العِلم . ويؤدي إلى موت روح الشعب الفلسفية وفقره الروحي، وكان يكره الكهانة العلمية والتلَفُح بالغموض، والادعاء . والتعاظم .
وكان يقول إن الحقيقة بسيطة .
وفي آخر محاولاته التي أتمها في عام 1949 كان يبحث عن قانون واحد يفسر به كل علاقات الكون .
ونظرية النسبية ليست كلها معادلات . وإنما لها جوانب فلسفية .
وحتى المعادلات الرياضية . يقول أينشتين أنها انبعثت في ذهنه نتيجة شطحاته التي حاول فيها أن يتصور الكون على صورة جديدة .
وأمام هذه الشطحات الفلسفية سوف نقف قليلًا . تاركين المعادلات الرياضية لأربابها من القادرين عليها، محاولين أن نشرح بعض ما أراد ذلك العالِم العظيم أن يقوله، على قدر الإمكان، إمكان فهمنا .
وسوف نبدأ من البداية . من قبل أينشتين . من السؤال الذي بدأنا به المقال :
هل نحن نرى الدنيا على حقيقتها ؟
هل هذه السماء زرقاء فعلًا . وهل الحقول خضراء . وهل الرمال صفراء ؟
وهل العسل حلو . والعلقَم مُر ؟
هل الماء سائل . والجليد صلب ؟
وهل الخشب مادة جامدة كما تقول لنا حواسّنا ؟
وهل حجارة الأرض مادة موات، لا حركة فيها ؟
وهل الزجاج شفاف . والجدران صمّاء ؟
# # # # #
لا .
ليست هذه هي الحقيقة .
هذا ما نراه . وما نحسه بالفعل . ولكنه ليس كل الحقيقة .
فالنور الأبيض الذي نراه أبيض . إذا مررناه خلال منشور زجاجي . يتحلل إلى سبعة ألوان . هي ألوان الطيف المعروفة . الأصفر والبرتقالي والأحمر والأخضر والأزرق والبنفسجي . إلخ .
فإذا حاولنا أن ندرس ماهية هذه الألوان، لم نجد أنها ألوان . وإنما وجدناها موجات لا تختلف في شيء إلا في طولها .
ذبذبات متفاوتة في ترددها . وهذه كل الحكاية . ولكن عيننا لا تستطيع أن ترى هذه الأمواج كأمواج . ولا تستطيع أن تحس بهذه الذبذبات كذبذبات . وانما كل ما يحدث أن الخلايا العصبية في قاع العين تتأثر بكل نوع من هذه الذبذبات بطريقة مختلفة .
ومراكز البصر في المخ تترجم هذا التأثر العصبي على شكل ألوان .
ولكن هذه المؤثرات الضوئية ليست ألوانًا . وإنما هي محض موجات واهتزازات . والمخ بلغته الإصطلاحية . لكي يميزها عن بعضها . يطلق عليها هذه التعريفات التي هي عبارة عن تصورات . وهذه هي حكاية الألوان .
والحقول التي نراها خضراء ليست خضراء . وإنما كل ما يحدث أن أوراق النباتات تمتص كل أمواج الضوء بكافة أطوالها ما عدا تلك الموجة ذات الطول المعين التي تدخل عيننا وتؤثر في خلاياها فيكون لها هذا التأثير الذي هو في اصطلاح المخ ˝أخضر˝ .
وبالمثل . أي لون . ليس له لون . وإنما هو مؤثِر يفرقه المخ عن غيره بهذه الطريقة الاصطلاحية . بأن يلونه . ويتضح هذا الخلط أكثر حينما ننتقل إلى المثل الثاني . العســل .
فالعسل في فمنا حلو . ونحن نتلذذ به ونلحسه لحسًا ونمصمصه بلساننا . ولكن دودة المش لها رأي مختلف تمامًا في العسل . بدليل أنها لا تقربه ولا تذوقه بعكس المش الذي تغوص فيه وتلتهمه التهامًا وتبيض وتفقس وتعشش فيه .
الحلاوة إذًا لا يمكن أن تكون صفة مطلقة موضوعية في العسل . وإنما هي صفة نسبية نِسبةً إلى أعضاء التذوق في لساننا . إنها ترجمتنا الإصطلاحية الخاصة للمؤثرات التي تُحدِثها ذرات العسل فينا .
وقد يكون لهذه المؤثرات بالنسبة للأعضاء الحسيّة في حيوان آخر طعمًا مختلفًا هو بالمرارة أشبه .
♦ فإذا جئنا للسؤال الثالث لنسأل أنفسنا . هل الماء سائل . وهل الجليد صلب . فإن المشكلة تتضح أكثر .
فالماء والبخار والجليد . مادة كيميائية واحدة تركيبها الكيميائي ( اتحاد الأيدروجين بالأوكسجين 1:2 ) . وما بينها من اختلاف ليس اختلافًا في حقيقتها وإنما هو اختلافًا في كيفيتها .
فحينما نضع الماء على النار فإننا نعطيه حرارة . أو بمعنى آخر طاقة . فتزداد حركة جزيئاته وبالتالي تتفرق وتتفركش نتيجة اندفاعها الشديد في كل اتجاه ويكون نتيجة هذه الفركشة عند لحظة معينة أن تتفكك تمامًا وتتحول إلى جزيئات سابحة بعيدة عن بعضها (غاز) . فإذا فقدت هذه الحرارة الكامنة التي أخذتها عن طريق النار حتى تصل في لحظة إلى درجة من التقارب نترجمها بحواسنا على أنها (صلابة) .
الحالة الغازية والسائلة والصلبة هي ظواهر كيفية لحقيقة واحدة . هي درجة تقارب الجزيئات من بعضها البعض لمادة واحدة هي الماء .
وشفافية الماء وعتامة الثلج سببها أن جزيئات الماء متباعدة لدرجة تسمح لنا بالرؤية من خلالها .
ولا يعني هذا أن جزيئات الثلج متلاصقة . وإنما هي متباعدة هي الأخرى ولكن بدرجة أقل .
وجزيئات كل المواد حتى الحديد مخلخلة ومنفصلة عن بعضها . بل إن الجزئ نفسه مؤلف من ذرات منفصلة . والذرّة مؤلفة من بروتونات وإلكترونات هي الأخرى منفصلة ومخلخلة ومتباعدة تباعد الشمس عن كواكبها .
كل المواد الصُلبة عبارة عن خلاء منثورة فيه ذرّات . ولو أن حِسّنَا البصري مكتمل لأمكننا أن نرى من خلال الجدران لأن نسيجها مخلخل كنسيج الغربال .
ولو كنا نرى عن طريق أشعة إكس لا عن طريق النور العادي لرأينا بعضنا عبارة عن هياكل عظمية، لأن أشغة اكس تخترق المسافات الجزيئية في اللحم . وتراه في شفافية الزجاج .
♦ مرة أخرى .
رؤيتنا العاجزة هي التي ترى الجدران صماء . وهي ليست صمّاء . بل هي مخلخلة أقصى درجات التخلخل . ولكن وسائلنا المحدودة والأشعة التي نرى عن طريقها . لا تنفد فيها، وإنما تنعكس على سطوحها وتبدو لنا وكأنها ســدّ يقف في طريق رؤيتنا .
إنها جميعًا أحكام نسبية تلك التي نطلقها على الأشياء . ( نسبة إلى حواسنا المحدودة ) وليست أحكامًا حقيقية .
والعالَم الذي نراه ليس هو العالَم الحقيقي . وإنما هو عالَم اصطلاحي بَحتْ . نعيش فيه معتقَلين في الرموز التي يختلقها عقلنا . ليدلنا على الأشياء التي لا يعرف لها ماهية أو كَنَهًا .
والرسّام التجريدي على حق حينما يحاول أن يعبر عما يراه . على طريقته . فهو يدرك بالفطرة أن ما يراه بعينه ليس هو كل الحقيقة، وبالتالي فهو ليس ملزِمًا له . وفي إمكانه أن يتلَمّس الحقيقة . لا بعينه . وإنما بعقله . وربما بعقله الباطن . أو وجدانه . أو روحه .
وهو لا يكون مجنونـــًا . وقد نكون نحن المجــانين .
ورجل العلم له وسائل أخرى غير رجل الفن .
الفنان يبحث عن الحقيقة معتمدًا على وسائله . عن طريق الإلهام . والروح . والوجدان .
ورجل العلم يلجأ إلى الحسابات والمعادلات . والفروض النظرية . التي يحاول أن يتثبت منها بتجارب عملية .
وأينشتين في مغامرته العقلية لم يكن يختلف كثيرًا عن الرسّام التجريدي في مغامرته الفنية .
ومعظم ما كتبه أينشتين في معادلاته كان في الحقيقة تجريدًا للواقع على شكل أرقام وحدود رياضية . ومحاولة جادة من رجل العلم في أن يهزم العلاقات المألوفة للأشياء ويزيحها لتبدو من خلفها لمحات من الحقيقة المدهشة التي تتخفى في ثياب العادة والألفة .
وماذا هناك في الواقع المحسوس المألوف ؟
إننا لا نرى الأشياء مشوهة عن أصلها فقط . وإنما لا نراها إطلاقًا . وأحيانًا يكون ما نراه لا وجود له بالمرة .
فهناك غير ألوان الطيف السبعة . أمواج أقصر من أن ندركها . هي فوق البنفسجية . وأمواج أخرى أطول من أن ندركها . هي تحت الحمراء . وتكون النتيجة ألا نراها مع أنها موجودة ويمكن إثباتها باللوح الفوتوغرافي الحساس . وبالترمومتر .
وعلى العكس نرى أحيانًا أشياء لا وجود لها .
فبعض النجوم التي نراها بالتلسكوب في أعماق السماء تبعد عنا بمقدار 500 مليون سنة ضوئية . أي أن الضوء المنبعث منها يحتاج إلى خمسمائة مليون سنة ليصل إلى عيوننا . وبالتالي فالضوء الذي نلمحها به هو ضوء خرج منها منذ هذا العدد الهائل من السنين . فنحن لا نراها في الحقيقة . وإنما نرى ماضيها السحيق الموغَل في القِدَم .
أما ماهيتها الآن . فالله وحده يعلم . وربما تكون قد انفجرت واختفت . أو انطفأت . أو ارتحلت بعيدًا في أطراف ذلك الخلاء الأبدي وخرجت من مجال الرؤية بكل وسائلها . فحالها الآن لا يمكن أن يصلنا خبره إلا بعد مضي خمسمائة مليون سنة .
إننا قد نكون محملقين في شيء يلمع دون أن يكون له وجود بالمرة .
إلى هذه الدرجة يبلغ عدم اليقين .
وإلى هذه الدرجة يمكن أن تضللنا الحواس .
ما دليلنا في هذا التِيه . ؟!
وكيف نهتدي إلى الحقيقة في هذه الظلمات المطبقة ؟!
مقال / أينشتين والنظرية النسبية .
من كتاب : اينشتين والنسبيه.
❞ إنه ليبدو لاولئك الذين يدرسون الحياة قد ضلوا طريقهم في غاب متشابك الاشجار ..أو أنهم في قلب دغل سحري لا تكف اشجاره التي لا عداد لها عن تغيير أماكنها واحجامها..فهم يرزحون تحت عبء أكداس من الحقائق التي يستطيعون أن يصفوها ولكنهم يعجزون عن تَعرِفَها او تحديدها في معادلات جبرية. ❝ ⏤
❞ إنه ليبدو لاولئك الذين يدرسون الحياة قد ضلوا طريقهم في غاب متشابك الاشجار .أو أنهم في قلب دغل سحري لا تكف اشجاره التي لا عداد لها عن تغيير أماكنها واحجامها.فهم يرزحون تحت عبء أكداس من الحقائق التي يستطيعون أن يصفوها ولكنهم يعجزون عن تَعرِفَها او تحديدها في معادلات جبرية. ❝
❞ خُضرة الحقول اليانعة .. وزرقة السماء الصافية .. وحُمرة الورود الدامية .. وصفرة الرمال الذهبية .. وكل الألوان المبهجة التي نشاهدها في الأشياء لا وجود لها أصلًا في الأشياء ..
وإنما هي اصطلاحات جهازنا العصبي وشفرته التي يترجم بها أطوال الموجات الضوئية المختلفة التي تنعكس عليه .
إنها كآلام الوخز التي نشعر بها من الإبر .. ليست هي الصورة الحقيقية للإبر .. وإنما هي صورة لتأثرنا بالإبر .
وبالمثل طعم الأشياء ورائحتها وملمسها وصلابتها وليونتها وشكلها الهندسي وحجمها، لا تقدم لنا صورة حقيقية لما نلمسه ونشمه ونذوقه، وإنما هي مجرد الطريقة التي نتأثر بها بهذه الأشياء ..
إنها ترجمة ذاتية لا وجود لها خارجنا .
كل ما نراه ونتصوره .. خيالات مترجَمة لا وجود لها في الأصل، مجرد صور رمزية للمؤثرات المختلفة صورها جهازنا العصبي بأدواته الحسية المحدودة ..
أهي أحــــلام .. ؟
هل نحن نحلم .. ولا وجود لهذا العالَم .. هل هذه الصفات تقوم في ذهننا دون أن يكون لها مقابل في الخارج .. ؟؟
البداهة والفطرة تنفي هذا الرأي .. فالعالَم الخارجي موجود .. وحواسنا تحيلنا دائمًا على شيء آخر خارجنا .. ولكن هناك فجوة بيننا وبين هذا العالَم .. حواسنا لا تستطيع أن تراه على حقيقته .. وإنما هي تترجمه دائمًا بلغة خاصة وذاتية .. وبشفرة مختلفة ..
ولو أننا كنا نحلم .. ولو أننا كنا نهذي كل منا على طريقته لما استطعنا أن نتفاهم .. ولما استطعنا أن نتفق على حقيقة موضوعية مشتركة ..
ولكننا في الحقيقة نتناول بين أيدينا تراجم حسية .. ربما ناقصة .. وربما غير صحيحة .. ولكنها تراجِم لها أصل أمامنا ..
هناك نسخة موضوعية من الحقيقة نحاول أن نغش منها على قدر الإمكان .. هناك حقيقة خارجنا ..
إننا لا نحلـــم ..
وإنما نحن سجناء حواسنا المحدودة .. وسجناء طبيعتنا العاجزة .. وما نراه يُنقَل إلينا دائمًا مشوَّهًا وناقصًا ومبتورًا نتيجة رؤيتنا الكليلة .
والنتيجة أن هناك أكثر من دنيا ..
هناك الدنيا كما هي في الحقيقة وهذه لا نعرفها .. ولا يعرفها إلا الله .
وهناك الدنيا كما يراها الصرصور .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيانا، لأن الجهاز العصبي للصرصور مختلف تمامًا عن جهازنا .. فهو يرى الشمس يطريقة مختلفة .. وهو لا يرى الشجرة كما نراها نحن شجرة .. وهو لا يميز الألوان ..
وهناك الدنيا كما تراها دودة الإسكارس .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيا الصرصور .. فهي دنيا كلها ظلام .. دنيا خالية من المناظر .. ليس فيها سوى إحساسات بليدة تنتقل عن طريق الجِلد ..
وهكذا كل طبقة من المخلوقات لها دنيا خاصة بها .
ومنذ لحظة الميلاد يتسلم كل مخلوق بطاقة دعوة إلى محفل من محافل هذه الدنيا .. ويجلس إلى مائدة مختلفة ليتذوّق أطعمة مختلفة .. ولذائذ وآلام مختلفة .
وكل طبقة من المخلوقات تعيش سجينة في تصوراتها .. لا تستطيع أن تصف الصور التي تراها الطبقات الأخرى ..
لا يمكننا نحن الآدميون أن نتكلم مع الطيور أو الزواحف أو الديدان أو الحشرات لنشرح لها ما نراه من الدنيا .
ولا يستطيع اصرصور أن يخاطبنا ويصف لنا العالَم الذي يعيش فيه .
وربما لو حدث هذا في يومٍ ما لأمكننا أن نصل إلى ما يشبه حجر رشيد .. ولأمكننا أن نتوصل إلى عدة شفرات، ولغات مختلفة للدنيا نضعها تحت بعضها ونفكك طلاسمها .. ونستنبط منها الحقيقة التي تحاول هذه الشفرات الرمزية أن تصفها .. ونعرف ســر هذه الدنيا .
ولكن هذا الاتصال غير ممكن .. لأننا الوحيدون في هذه الدنيا الذين نعرف اللغة .. وبقية المخلوقات عجماء ..
مــا الحــل .. ؟!
هل ننتظر حتى نسافر إلى الفضاء ونعثر على مخلوقات في المريخ تقرأ وتكتب .. ؟!
علماء الرياضة يقولون لنا أنه لا داعي لهذا الانتظار .. هناك طريقة أخرى .. طريقة صعبة ولكنها توصل إلى سكة الحقيقة ..
هذه الطريقة هي أن نضع جانبًا كل ما تقوله الحواس .. ونستعمل أساليب أخرى غير السمع والبصر والشم واللمس ..
نستعمل الحساب والأرقام .. نجرد كل المحسوسات إلى أرقام .. ومقادير ..
القائمة الطويلة المعروفة للأشعة الضوئية .. الأصفر والبرتقالي والأحمر والبنفسجي والأزرق والأخضر .. إلخ .. نجردها إلى أرقام ..
كل موجة طولها كذا .. وذبذبتها كذا ..
وكذلك كل صنوف الإشعاع .. أشعة إكس .. أشعة الراديوم .. الأشعة الكونية ..
كلها أمواج .. مثل أمواج اللاسلكي التي نسمع المذيع يقول كل يوم إنها كذا كيلو سيكل في الثانية ..
مجــرد أرقـــام .. نستطيع أن نقيسها ونحسبها ونجمعها ونطرحها .. إذًا نغمض أعيننا ونفكر بطريقة جديدة ..
وبدل أن نقول اللون الأخضر ، واللون الأحمر .. نقول كذا كيلو سيكل ثانية .
والذي أغمض عينيه وبدأ يفكر بهذه الطريقة الجديدة التي أحدَثَت انقلابًا في العلوم .. كان هو العالِم الرياضي ماكس بلانك .. الذي طلع في سنة 1900 بنظريته المعروفة في الطبيعة النظرية الكمّية .. ( Quantum Theory )
وقد بدأ من حقيقة بسيطة معروفة .. أنك إذا سخنت قضيبًا من الحديد .. فإنه في البداية يحمر، ثم يتحول إلى برتقالي، ثم أصفر، ثم أبيض متوهج ..
إذًا هناك علاقة حسابية بين الطاقة التي يشعها الحديد الساخن .. وطول أو ذبذبة الموجة الضوئية التي تنبعث منه ..
هناك معادلة ..
وبدأ يبحث عن هذه المعادلة حتى عثر عليها ..
وجد ببساطة أن الطاقة المشعة مقسومة على الذبذبة ( ن ) تساوي دائمًا كمًا ثابتًا (مثل النسبة التقريبية في الدائرة) هذا الكَم أسماه .. ثابت بلانك ( هـ ) .
والمعادلة هي : الطاقـــة = هـ X ن .
وهي معادلة تقوم على افتراض .. بأن الطاقة المشعة تنبعث في كميات متتابعة .. في دفعات .. أو حزم .. أو حبيبات من الطاقة .. أو ذرّات .
وأطلق على هذه الذرات الضوئية إسم " فوتونات " ..
وفي رسالة نال عليها أينشتين جائزة نوبل قدم دراسة وافية بالمعادلات والأرقام عن العلاقة بين هذه الفوتونات الضوئية الساقطة على لوح معدني .. وبين الكهرباء التي تتولد منه ..
وعلى أساس هذه المعادلات قامت فكرة اختراع التليفزيون فيما بعد ..
يقول أينشتين إن من الظاهرات المعروفة في المعمل أنك إذا أسقطت شعاعًا من الضوء على لوح معدني فإن عددًا من الإلكترونات تنطلق من اللوح .. ولا تتأثر سرعة انطلاق هذه الإلكترونات بشدة الضوء، فمهما خفّ الضوء ومهما ابتعد مصدره فالإلكترونات تنطلق بسرعة ثابتة .. ولكن بعدد أقل .. وإنما تزداد هذه السرعة كلما كانت الموجة الضوئية الساقطة عالية الذبذبة .. ولهذا تزيد في الأشعة البنفسجية وتقل في الحمراء .
وهو يفسر انطلاق هذه الإلكترونات بأن الضوء لا يسقط على اللوح المعدني في سيال متصل .. وإنما في حِزَم من الطاقة .. " فوتونات " وتصطدم هذه الفوتونات بالإلكترونات في اللوح المعدني كما تصدم العصا بكرات البلياردو فتطلقها حرة خارج مداراتها ..
وكلما كانت الأشعة الضوئية ذات ذبذبة عالية ( البنفسجية مثلًا ) كلما كان الفوتون يختزن طاقة أكثر .. كلما أطلق الإلكترونات بسرعة أكثر ..
وربَط هذه العلاقات في سلسلة من المعادلات الرياضية ..
وعمد التليفزيون إلى تطبيق هذه النظرية في جهاز الإرسال التليفزيوني ..
فأنت حينما تجلس أمام كاميرا التليفزيون فإنها تنقل صورتك التي هي عبارة عن نقط من الظل ونقط من النور إلى اللوح المعدني الحساس ..
ونقط النور ونقط الظل الساقطة على اللوح المعدني تطلق سيالًا من الإلكترونات يتفاوت في العدد وفي السرعة حسب الظل والنور في الصورة .. وهذه الخفقات الإلكترونية الكهربائية تنتقل إلى عمود الإرسال وتُذاع على شكل موجات مغناطيسية كهربائية إلى أجهزة الإستقبال .
وأينشتين لم يفكر حينما وضع معادلاته في اختراع التليفزيون .
وعلماء الرياضة لم يُثِر اهتمامهم في ذلك الحين ولا فيما بعد .. ظهور التليفزيون .. وإنما الذي أثارهم هو هذا الإفتراض الجديد الذي أقام عليه ماكس بلانك معادلاته في النظرية الكمّية، وأقام عليه أينشتين معادلاته في الظاهرة الضوئية الكهربائية ..
أن الضوء ينطلق في ذرّات أو فوتونات لا في أمواج متصلة .. فالضوء حتى ذلك الحين كانت طبيعته موجية .. فكيف يصبح شأنه شأن المادة .. مؤلَف من ذرات أو فوتونات .. !
وماذا تكون هذه الفوتونات .. ؟؟
هل هي كرات من الطاقة لها حيز، ولها أوضاع في المكان .. شأنها في ذلك شأن جزيئات المادة .. ؟!
وإذا كان الضوء ذرّات .. فكيف يتصرف كما لو كان أمواجًا .. ؟!
لماذا يحيد الضوء حينما يدخل من ثقب ضيق كما تحيد أمواج البحر حينما تدخل في مضيق .. ولماذا ينعطف الضوء حول شعرة رفيعة فلا يبدو لها ظل .. كما تنعطف الأمواج وتتلاحم حول عصا مرشوقة في البحر .. ؟!
وكيف نفرِّق بين المعادلات التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته موجية متصلة وبين المعادلات الجديدة التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته ذريّة متقطعة .. !
أم أن للضوء طبيعة مزدوجة .. ؟! وكيــف .. ؟؟ !!
كيف تكون الحقيقة بهذا التناقض .. ؟!
أم أنه لا توجد حقيقة واحدة ... ؟!
مقال / كل شيء ذرّات
من كتاب / أينشتين والنسبيه
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ خُضرة الحقول اليانعة . وزرقة السماء الصافية . وحُمرة الورود الدامية . وصفرة الرمال الذهبية . وكل الألوان المبهجة التي نشاهدها في الأشياء لا وجود لها أصلًا في الأشياء .
وإنما هي اصطلاحات جهازنا العصبي وشفرته التي يترجم بها أطوال الموجات الضوئية المختلفة التي تنعكس عليه .
إنها كآلام الوخز التي نشعر بها من الإبر . ليست هي الصورة الحقيقية للإبر . وإنما هي صورة لتأثرنا بالإبر .
وبالمثل طعم الأشياء ورائحتها وملمسها وصلابتها وليونتها وشكلها الهندسي وحجمها، لا تقدم لنا صورة حقيقية لما نلمسه ونشمه ونذوقه، وإنما هي مجرد الطريقة التي نتأثر بها بهذه الأشياء .
إنها ترجمة ذاتية لا وجود لها خارجنا .
كل ما نراه ونتصوره . خيالات مترجَمة لا وجود لها في الأصل، مجرد صور رمزية للمؤثرات المختلفة صورها جهازنا العصبي بأدواته الحسية المحدودة .
أهي أحــــلام . ؟
هل نحن نحلم . ولا وجود لهذا العالَم . هل هذه الصفات تقوم في ذهننا دون أن يكون لها مقابل في الخارج . ؟؟
البداهة والفطرة تنفي هذا الرأي . فالعالَم الخارجي موجود . وحواسنا تحيلنا دائمًا على شيء آخر خارجنا . ولكن هناك فجوة بيننا وبين هذا العالَم . حواسنا لا تستطيع أن تراه على حقيقته . وإنما هي تترجمه دائمًا بلغة خاصة وذاتية . وبشفرة مختلفة .
ولو أننا كنا نحلم . ولو أننا كنا نهذي كل منا على طريقته لما استطعنا أن نتفاهم . ولما استطعنا أن نتفق على حقيقة موضوعية مشتركة .
ولكننا في الحقيقة نتناول بين أيدينا تراجم حسية . ربما ناقصة . وربما غير صحيحة . ولكنها تراجِم لها أصل أمامنا .
هناك نسخة موضوعية من الحقيقة نحاول أن نغش منها على قدر الإمكان . هناك حقيقة خارجنا .
إننا لا نحلـــم .
وإنما نحن سجناء حواسنا المحدودة . وسجناء طبيعتنا العاجزة . وما نراه يُنقَل إلينا دائمًا مشوَّهًا وناقصًا ومبتورًا نتيجة رؤيتنا الكليلة .
والنتيجة أن هناك أكثر من دنيا .
هناك الدنيا كما هي في الحقيقة وهذه لا نعرفها . ولا يعرفها إلا الله .
وهناك الدنيا كما يراها الصرصور . وهي مختلفة تمامًا عن دنيانا، لأن الجهاز العصبي للصرصور مختلف تمامًا عن جهازنا . فهو يرى الشمس يطريقة مختلفة . وهو لا يرى الشجرة كما نراها نحن شجرة . وهو لا يميز الألوان .
وهناك الدنيا كما تراها دودة الإسكارس . وهي مختلفة تمامًا عن دنيا الصرصور . فهي دنيا كلها ظلام . دنيا خالية من المناظر . ليس فيها سوى إحساسات بليدة تنتقل عن طريق الجِلد .
وهكذا كل طبقة من المخلوقات لها دنيا خاصة بها .
ومنذ لحظة الميلاد يتسلم كل مخلوق بطاقة دعوة إلى محفل من محافل هذه الدنيا . ويجلس إلى مائدة مختلفة ليتذوّق أطعمة مختلفة . ولذائذ وآلام مختلفة .
وكل طبقة من المخلوقات تعيش سجينة في تصوراتها . لا تستطيع أن تصف الصور التي تراها الطبقات الأخرى .
لا يمكننا نحن الآدميون أن نتكلم مع الطيور أو الزواحف أو الديدان أو الحشرات لنشرح لها ما نراه من الدنيا .
ولا يستطيع اصرصور أن يخاطبنا ويصف لنا العالَم الذي يعيش فيه .
وربما لو حدث هذا في يومٍ ما لأمكننا أن نصل إلى ما يشبه حجر رشيد . ولأمكننا أن نتوصل إلى عدة شفرات، ولغات مختلفة للدنيا نضعها تحت بعضها ونفكك طلاسمها . ونستنبط منها الحقيقة التي تحاول هذه الشفرات الرمزية أن تصفها . ونعرف ســر هذه الدنيا .
ولكن هذا الاتصال غير ممكن . لأننا الوحيدون في هذه الدنيا الذين نعرف اللغة . وبقية المخلوقات عجماء .
مــا الحــل . ؟!
هل ننتظر حتى نسافر إلى الفضاء ونعثر على مخلوقات في المريخ تقرأ وتكتب . ؟!
علماء الرياضة يقولون لنا أنه لا داعي لهذا الانتظار . هناك طريقة أخرى . طريقة صعبة ولكنها توصل إلى سكة الحقيقة .
هذه الطريقة هي أن نضع جانبًا كل ما تقوله الحواس . ونستعمل أساليب أخرى غير السمع والبصر والشم واللمس .
نستعمل الحساب والأرقام . نجرد كل المحسوسات إلى أرقام . ومقادير .
القائمة الطويلة المعروفة للأشعة الضوئية . الأصفر والبرتقالي والأحمر والبنفسجي والأزرق والأخضر . إلخ . نجردها إلى أرقام .
كل موجة طولها كذا . وذبذبتها كذا .
وكذلك كل صنوف الإشعاع . أشعة إكس . أشعة الراديوم . الأشعة الكونية .
كلها أمواج . مثل أمواج اللاسلكي التي نسمع المذيع يقول كل يوم إنها كذا كيلو سيكل في الثانية .
مجــرد أرقـــام . نستطيع أن نقيسها ونحسبها ونجمعها ونطرحها . إذًا نغمض أعيننا ونفكر بطريقة جديدة .
وبدل أن نقول اللون الأخضر ، واللون الأحمر . نقول كذا كيلو سيكل ثانية .
والذي أغمض عينيه وبدأ يفكر بهذه الطريقة الجديدة التي أحدَثَت انقلابًا في العلوم . كان هو العالِم الرياضي ماكس بلانك . الذي طلع في سنة 1900 بنظريته المعروفة في الطبيعة النظرية الكمّية . ( Quantum Theory )
وقد بدأ من حقيقة بسيطة معروفة . أنك إذا سخنت قضيبًا من الحديد . فإنه في البداية يحمر، ثم يتحول إلى برتقالي، ثم أصفر، ثم أبيض متوهج .
إذًا هناك علاقة حسابية بين الطاقة التي يشعها الحديد الساخن . وطول أو ذبذبة الموجة الضوئية التي تنبعث منه .
هناك معادلة .
وبدأ يبحث عن هذه المعادلة حتى عثر عليها .
وجد ببساطة أن الطاقة المشعة مقسومة على الذبذبة ( ن ) تساوي دائمًا كمًا ثابتًا (مثل النسبة التقريبية في الدائرة) هذا الكَم أسماه . ثابت بلانك ( هـ ) .
والمعادلة هي : الطاقـــة = هـ X ن .
وهي معادلة تقوم على افتراض . بأن الطاقة المشعة تنبعث في كميات متتابعة . في دفعات . أو حزم . أو حبيبات من الطاقة . أو ذرّات .
وأطلق على هذه الذرات الضوئية إسم ˝ فوتونات ˝ .
وفي رسالة نال عليها أينشتين جائزة نوبل قدم دراسة وافية بالمعادلات والأرقام عن العلاقة بين هذه الفوتونات الضوئية الساقطة على لوح معدني . وبين الكهرباء التي تتولد منه .
وعلى أساس هذه المعادلات قامت فكرة اختراع التليفزيون فيما بعد .
يقول أينشتين إن من الظاهرات المعروفة في المعمل أنك إذا أسقطت شعاعًا من الضوء على لوح معدني فإن عددًا من الإلكترونات تنطلق من اللوح . ولا تتأثر سرعة انطلاق هذه الإلكترونات بشدة الضوء، فمهما خفّ الضوء ومهما ابتعد مصدره فالإلكترونات تنطلق بسرعة ثابتة . ولكن بعدد أقل . وإنما تزداد هذه السرعة كلما كانت الموجة الضوئية الساقطة عالية الذبذبة . ولهذا تزيد في الأشعة البنفسجية وتقل في الحمراء .
وهو يفسر انطلاق هذه الإلكترونات بأن الضوء لا يسقط على اللوح المعدني في سيال متصل . وإنما في حِزَم من الطاقة . ˝ فوتونات ˝ وتصطدم هذه الفوتونات بالإلكترونات في اللوح المعدني كما تصدم العصا بكرات البلياردو فتطلقها حرة خارج مداراتها .
وكلما كانت الأشعة الضوئية ذات ذبذبة عالية ( البنفسجية مثلًا ) كلما كان الفوتون يختزن طاقة أكثر . كلما أطلق الإلكترونات بسرعة أكثر .
وربَط هذه العلاقات في سلسلة من المعادلات الرياضية .
وعمد التليفزيون إلى تطبيق هذه النظرية في جهاز الإرسال التليفزيوني .
فأنت حينما تجلس أمام كاميرا التليفزيون فإنها تنقل صورتك التي هي عبارة عن نقط من الظل ونقط من النور إلى اللوح المعدني الحساس .
ونقط النور ونقط الظل الساقطة على اللوح المعدني تطلق سيالًا من الإلكترونات يتفاوت في العدد وفي السرعة حسب الظل والنور في الصورة . وهذه الخفقات الإلكترونية الكهربائية تنتقل إلى عمود الإرسال وتُذاع على شكل موجات مغناطيسية كهربائية إلى أجهزة الإستقبال .
وأينشتين لم يفكر حينما وضع معادلاته في اختراع التليفزيون .
وعلماء الرياضة لم يُثِر اهتمامهم في ذلك الحين ولا فيما بعد . ظهور التليفزيون . وإنما الذي أثارهم هو هذا الإفتراض الجديد الذي أقام عليه ماكس بلانك معادلاته في النظرية الكمّية، وأقام عليه أينشتين معادلاته في الظاهرة الضوئية الكهربائية .
أن الضوء ينطلق في ذرّات أو فوتونات لا في أمواج متصلة . فالضوء حتى ذلك الحين كانت طبيعته موجية . فكيف يصبح شأنه شأن المادة . مؤلَف من ذرات أو فوتونات . !
وماذا تكون هذه الفوتونات . ؟؟
هل هي كرات من الطاقة لها حيز، ولها أوضاع في المكان . شأنها في ذلك شأن جزيئات المادة . ؟!
وإذا كان الضوء ذرّات . فكيف يتصرف كما لو كان أمواجًا . ؟!
لماذا يحيد الضوء حينما يدخل من ثقب ضيق كما تحيد أمواج البحر حينما تدخل في مضيق . ولماذا ينعطف الضوء حول شعرة رفيعة فلا يبدو لها ظل . كما تنعطف الأمواج وتتلاحم حول عصا مرشوقة في البحر . ؟!
وكيف نفرِّق بين المعادلات التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته موجية متصلة وبين المعادلات الجديدة التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته ذريّة متقطعة . !
أم أن للضوء طبيعة مزدوجة . ؟! وكيــف . ؟؟ !!
كيف تكون الحقيقة بهذا التناقض . ؟!
أم أنه لا توجد حقيقة واحدة .. ؟!
مقال / كل شيء ذرّات
من كتاب / أينشتين والنسبيه
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝