❞ وأصل المعاصي كُلها العجز
, فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات
, وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي
, وتحول بينه وبينها
, فيقع في المعاصي
, فجمع هذا الحديث الشريف في استعاذته أصول الشر وفروعه
, ومباديه وغاياته
, وموارده ومصادره
, وهو مشتمل على ثماني خصال
, كُلُّ خصلتين منها قرينتان فقال ﷺ ( أعُوذُ بِكَ مِنَ الهم والحَزَنِ )
, وهما قرينان فإن المكروه الوارد على القلب ينقسِمُ باعتبار سببه إلى قسمين
, فإنه إما أن يكون سببه أمراً ماضياً
, فهو يُحدِث الحَزَنَ
, وإما أن يكون توقع أمر مستقبل
, فهو يُحدث الهم
, وكلاهما من العجز
, فإن ما مضى لا يُدفع بالحزن
, بل
, بالرضى والحمد والصبر والإيمان بالقدر
, وقول العبد ( قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ )
, وما يُستقبل لا يُدفع أيضاً بالهم
, بل إما أن يكون له حيلة في دفعه
, فلا يعجز عنه
, وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه
, فلا يجزع منه
, ويلبس له لباسه
, ويأخذ له عُدته
, ويتأهب له أهبته اللائقة به
, ويَسْتَجِن بجُنَّة حصينة من التوحيد والتوكل
, والانطراح بين يدي الرب تعالى
, والاستسلام له والرضى به رباً في كل شيء
, ولا يرضى به رباً فيما يحب دون ما يكره
, فإذا كان هكذا
, لم يرض به رباً على الإطلاق
, فلايرضاه الرب له عبداً على الإطلاق
, فالهم والحَزَنُ لا يَنفَعَانِ العبد البتة
, بل مضرَّتُهما أكثر من منفعتهما
, فإنهما يُضعفان العزم
, ويُوهنان القلب
, ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه ويقطعان عليه طريق السير
, أو يُنكسانه إلى وراء أو يعوقَانِهِ ويَقِفَانه
, أو يَحْجُبانه عن العَلَمِ الذي كلما رآه شمر إليه وجد في سيره
, فهما حمل ثقيل على ظهر السائر
, بل إن عاقه الهم والحزن عن شهواته وإراداته التي تضره في معاشه ومعاده انتفع به من هذا الوجه
, وهذا من حكمة العزيز الحكيم أن سلط هذَيْنِ الجندَيْنِ على القلوب المعرضة عنه
, الفارغة من محبته
, وخوفه يرضاه
, ورجائه والإنابة إليه والتوكل عليه والأنس به والفرار إليه والانقطاع إليه
, ليردها بما يبتليها به من الهموم والغموم والأحزان والآلام القلبية عن كثير من معاصيها وشهواتها المُرْدِية
, وهذه القلوب في سجن من الجحيم في هذه الدار
, وإن أريد بها الخير كان حظها من سجن الجحيم في معادها
, ولا تزال في هذا السجن حتى تتخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله والأنس به وجعل محبته في محل دبيب خواطر القلب ووساوسه
, بحيث يكون ذكره تعالى وحبه وخوفه ورجاؤه والفرح به والابتهاج بذكره هو المستولي على القلب الغالب عليه
, الذي متى فقده فقد قُوتَهُ الذي لا قوام له إلا به ولا بقاء له بدونه
, ولا سبيل إلى خلاص القلب من هذه الآلام التي هي أعظم أمراضه وأفسدها له إلَّا بذلك
, ولا بلاغ إلا بالله وحده
, فإنه لا يُوصل إليه إلا هو
, ولا يأتي بالحسنات إلا هو
, ولا يَصِرف السيئاتِ إِلَّا هو
, ولا يدلُّ عليه إلا هو
, وإذا أرادَ عَبْدَه لأمر هيَّأه له
, فمنه الإيجاد ومنه الإعداد ومنه الإمداد وإذا أقامه في مقام أي مقام كان
, فبحمده أقامه فيه وبحكمته أقامه فيه
, ولا يليق به غيره ولا يصلح له سواه
, ولا مانع لما أعطى الله
, ولا معطي لما يمنع فيكون بمنعه ظالماً له
, بل إنما منعه ليتوسل إليه بمحابه ليعبده
, وليتضرع إليه ويتذلل بين يديه ويتملقه
, ويُعطي فقره إليه حقه
, بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقة تامة إليه على تعاقب الأنفاس
, وهذا هو الواقع في نفس الأمر
, وإن لم يشهده العبد فلم يمنع الرب عبده ما العبد محتاج إليه بخلاً منه
, ولا نقصاً من خزائنه
, ولا استثاراً عليه بما حق للعبد
, بل منعه ليرده إليه وليعزه بالتذلل له وليغنيه بالافتقار إليه وليَجْبُرَهُ بالانكسار بين يديه وليذيقه بمرارة المنع حلاوة الخضوع له ولذة الفقر إليه وليلبسه خلعة العبودية ويوليه بعزه أشرف الولايات
, وليُشهده حكمته في قدرته ورحمته في عزته ويره ولطفه في قهره
, وأن منعه عطاء
, وعزله تولية وعقوبته تأديب وامتحانه محبة وعطية وتسليط أعدائه عليه سائق يسوقه به إليه. ❝