█ المجموعة القصصية حدثتني جدتي للكاتبة أريج دكه الشرفا قبل أن تبدأ رحلتك مع هذا الكتاب الذي كُتب بقلم فلسطيني أصيل تعبر الحدود بقطار يقوده القلم تجتاز معبر رفح دون أوراق رسمية أو تصاريح عبور رغم أنف المعتدين والعابثين بتاريخ بلادنا لا تنس تحمل معك حلم الشعوب العربية أجمعين بمجرد تأملك للغلاف ستذهب بخيالك لتجلس بين قدمي تلك الجدة الفلسطينية التي ستروي لك قصص برائحة خير الأرض الصامدة استنشق ربيع وجمالها بلا خريف الرائحة ستصل إليك بمجرد تأمل ذلك الغلاف وما يحمله من أصالة ومعاني لن تندثر أبدًا سيهدأ خوفك المستقبل لأنه ما زال فينا الحكيمة وهذه الطفلة الذكية النبيهة تعلمت الدرس بمهارة ستدركها بدأ أولى الصفحات حيث إهداء الكاتبة يؤكد بداخل هذه الأوراق ستكون يملئها الترابط الأسري والحب والعطاء بطعم جذورنا نعتقد أننا نسيناها ضغوط الحياة مذاقها بنكهة خيرات وأصالة أهلها ورائحتها عبير موسم حصاد الزيتون فلسطين الحبيبة تتمتع كاتبة متمكن حروفه قادر التعبير بطريقة بلاغتها وتفردها إلّا أنها تصل سريعًا إلى القلب فلا تحتاج لبذل مجهود لقراءة الأسطر ولا الوصول لما ترمى إليه كتاب مجاناً PDF اونلاين 2024
❞ حدّثتنا جدتي يوماً أنه في إحدى ليالي الشتاء الباردة اجتمع الحاضرون حول موقدِ النار يستمدون منه الحرارة، ويستمد منهم طيب الحديث كعلاقةٍ تكافلية. من بين الجالسين كان صديق قديم لجدي خالط الكدر والضيق ملامح وجهه، وبدأ عليه الأسى، وحين سأله جدي عن السبب، بكل تذمرٍ ذكر ما قد نسى، أخذ شهيقاً عميقاً وصدحَ أنه قد خانه صديقٌ له في تجارته، سرقَ ماله وتركَ له الديون، وهاجر دون أن تراه العيون.
هوّن الجالسون عليه عُسر حاله، وضيق صدره وقلةَ ماله، وقالت جدتي: ˝لا تحزن يا ولدي على مالٍ ذهب، بل احزن على صديقٍ سرق ثقتك ونهب˝، وأردفت تحكي قصةً تُريح بها أنينَ قلبه، وتخفف من وقع نبضه، فقالت: ˝يُروى أنه في تلكَ الأزمان، عاشَ تاجرُ أقمشةٍ في حي الرمان، ذاعَ صيته في كل مكان، وحظيت أقمشته برضا السلطان.
تاجرٌ فذٌ ذو عقلٍ رصين، بالحنكةِ يعمل وللخبرة هو فطين،
لا يعرفُ للغش باباً، يبيعُ أجودَ الأقمشةِ بسعرٍ ثمين، ويبيعُ رديئها بثمنٍ بخسٍ للسائلين، ليسَ غريباً عليه فقد كان اسمه أمين.
يأتيهِ الأمراءُ من كل حدبٍ وصوب، ويطرقُ بابه من يريدُ أن يمتازَ بأجملِ ثوب.
وفي إحدى الأيام زار حي الرمان شابٌ يبحثُ عن عملٍ يقتاتُ منه لقمةً حلال، دلّهُ الناسُ على دكانِ أمين التاجرِ طيبِ الخصال.
أُعجبَ أمين بشغفِ الشابّ الغريب، وقرر تعليمه المهنة دونَ ترددٍ منه أو ترهيب.
كان الشاب مجتهداً دؤوباً، يستيقظُ باكراً ينظفُ الدكان، وينتظرُ بابتسامته الجميلة قدوم الزبائن، بكلامه المعسول جذبهم للبضاعة، وبشكله المقبول راقت لهم نصائحه حول الباعة.
استطاعَ الشاب خلالَ فترةٍ وجيزة تعلم المهنة، فجمعَ نقوداً لفتح دكانه الخاص، وكان سعيداً جداً لإخبار رب عمله التاجر أمين بذلك ليفرح لفرحه، وما أن هلَّ التاجرُ أمين بوقاره وشخصه الرزين حتى أخبره الشاب بتلك البشرى السارة، فرح أمين ودعا له الله بالتوفيق.
بعدَ أسبوعٍ افتتح الشاب محله في مكانٍ بعيد عن دكان التاجر أمين، وبفضلٍ من الله زادت تجارته وبارك الله له بها. زارهُ التاجرُ أمين يوماً فأخذته الغبطة وزارَ قلبه الحسد عندما رأى الحياة التي تضج بدكان الشاب حتى أنه رأى الكثير من زبائنه يترددون على الدكان وقد ألقوا عليه أطيب السلام.
غادرَ الدكان طالباً من الشاب أن يأتي لبيته ليحادثه في أمرٍ هام، وعد الشاب بالحضور في الموعد بالتمام.
حينما أغلق الشاب دكانه، قصدَ بيت التاجر أمين ليرى ما خطبه لمَا أراد إتيانه.
طرق الباب، دخل البيت، وجلس برفقة التاجر أمين، بدأ حديثه بالجمائل الكثيرة التي أنعم بها عليه، فهو من علمه المهنة، وهو من كبّره وأعلا من شأنه، لم يفهم الشاب ما جدوى التمنن وما مقصد كلامه عن التحنن؛ فسأله عن مبتغاه، أجابه: ˝أريدُ منك أن لا تبيع زبائني وإن أتوك ردهم إليّ، احتفظ بزبائنك الجدد، واترك البقية فهم زبائني!˝،
استغرب الشاب من هذا الكلام المريب، وطفقَ يشرح له أن الرزق من الرب الرزاق المجيب، فانظر إلى الدكاكين متشابهة السلع تلتصق ببعضها بعضاً، والله يرزق من يشاء بغير حساب، قد يأتي زبائني إليك وقد يأتي زبائنك إليّ، الأمر سيّان يا سيدي والرزق على رب منّان.
لم يعجب التاجر أمين الكلام وأنهى حديثه وخرج الشاب حائراً في أمره مما سمع.
في صباح اليوم التالي أخذ التاجرُ أمين يمشي بين الناس ذاماً بضاعة الشاب، يذكر مساوئها ويتلذذ في قتل مزاياها.
يوماً بعد يوم زادَ حقده على الشاب، وزادت أفكاره في تشويه سمعته، ولكن الله كان أكرم فقد كان بالسر عليم، خرج من بيته أمين واقفاً على رجليه، قاصداً دكانه، وفجأة انهارت قواه وسقط وسط السوق وأضحى ميتاً دون حراك. جنى على نفسه كما جنت على نفسها براقش، مات ولم يحصد من رزق الشاب ولا حتى قيدَ أنملة˝ .
أنهت جدتي قصتها وقالت: ˝لا تخشَ من خانك وللسوءِ أردفك، بل اخشَ رباً في السماء ما نسيَك يوماً وبين العباد أنصفك˝ . ❝
❞ حدثتنا جدتي يوماً أنها كانت تجلسُ عِشاءً بجوارِ موقدِ النار (الكانون) تُلقمُ النار قطعَ الحطب المصفوفةَ بعنايةٍ في كيسٍ كبيرٍ يرقدُ جوارها. يجلسُ جدّي قُبالتها يوزعُ أرغفة الخبز حولَ الموقدِ؛ لتكتسبَ قرمشةً لذيذة ولوناً ذهبياً مُحمراً تتضاعفُ لرؤياه الشهيّة، وتزيدُ برائحته الزكيّة القابليّة، وأجلسَ برّادَ الشاي على حافةِ الموقد حتى يهنؤوا بشايٍ نكّهته ورقاتُ النعناع وأثيرُ الحطب. وفي هذه الأثناء خرجت عمتي إليهم بصينيةٍ كبيرةٍ تحتضنُ ما طابَ مخزون البيتِ من أطباق، زبديةٌ من الفولِ المدمسِ الغارقِ بسيلٍ من زيت الزيتون، صحنٌ ترقدُ فيهِ حباتُ زيتونٍ حديثةَ القطاف مدقوقةً بعنايةٍ ومنقوعةً بالملحِ والفلفلِ والليمون، صحنٌ ثانٍ تمتزجُ فيه اللبنة البيتية بقليلٍ من قطرات الزيت، صحنٌ آخر يتناثرُ فيه فتاتُ الزعتر كلما اهتزّ عنوةً بفعلِ خطى العمةِ المتعجلة، وآخرُ صنعت فيه الدُّقة الفلسطينية بحيرةً مع زيت الزيتون، وآخر تعتمره حباتُ البيض المسلوق، وطبقٌ يتوسطُ المائدة يبرقُ بدبسٍ أسود مع إطارٍ من الطحينيةِ يطوِّقه، وصحنٌ يختبئُ بين الأطباق لعشاق الفلفل الأحمر المطحون مع زيت الزيتون وعصرةٍ من الليمون. وضعت العمةُ الصينيةَ على جذعِ شجرةٍ _قد اقتصه جدي من الأرض وصنعَ منه طاولةً جميلة تُزين جلساتهم المسائية وسطَ كراسي الخيزران والقش_ وذهبت تنادي أخواتها الأربعة، وإخوتها الخمسة للاستمتاعِ بعشاءٍ يسردون خلاله أحداثَ اليوم.
ما إن التفّ الأبناء حول المائدةِ المهيبة، إلا وانهالت على الباب طرقاتٌ مريبة. دخلت البنات يستترنَ في إحدى الغُرف، وخرجَ أحدُ الأبناءِ يكتشفُ طارقَ البابِ أجاء بحزنٍ أم ترف؟!
فتحَ الباب وانهالتْ على وجههِ علاماتُ الخيبة، فهذا جارهم أكيد جاءَ يحملُ كعادتهِ الكثير من الغيبة.
دخلَ بكرشهِ المتهدِّل، ولباسه غيرَ المتبدِّل، وأشداقهِ التي تسعى وراءَ اللُّقم، ولسانهِ الذي يذكرُ كلّ شيءٍ إلّا النِّعم.
دلفَ إلى حيثُ يرقدونَ، أخذتهُ روائحُ الطعامِ والخبزِ المزيون. تهلّلَ وجهه واستبشر، فجاء على موعدِ العشاءِ دون تأخُّر.
ردَّ السلام على عجل، وجلسَ ينتظرُ دعوةً دونَ ملل.
أقسمَ عليه جدّي أن يتذوق، شمّرَ عن ساعديهِ وشرعَ دون تملُّق. راوغَ الأطباقَ كما يراوغُ الثعلبُ الفريسة. نظرَ إليهِ الأبناءُ في دهشةٍ فكأنه غول، فما تركَ في الأطباقِ ولا حتى لقمةَ فول.
شبعَ بعد أن نفدت الأطباق، ابتلت العروق وانتفخت الأشداق.
رفعَ يديه شاكراً حامداً ربّه، ثمَّ تجشَّأ فأراحَ قليلاً قلبَه . ❝
❞ كلما مرت حربٌ هوجاء على قطاع غزة تأتي جدتي للمبيتِ في بيتنا، نهرعُ إليها، نلتفُّ حولها كحباتِ لؤلؤ مكنون، ونبدأ الهتاف والمطالبة بسماعِ قصةٍ جديدة، متناسين بذلك ضرب النار من حولنا، تاركين مخاوف الحرب تجوب الأرجاء فنحن هنا حولها بحمى الحكايا والذكرى، تبتسمُ جدتي مظهرةً ابتسامتها ما تآكل من أسنانها، وتبدأ بسرد الحكايا التي بها تذكر لنا مجد جدي الذي رحل وتركها تتوكأُ على جميلِ ذكراه . ❝