█ _ مصطفى محمود 1986 حصريا كتاب ❞ حوار مع صديقي الملحد ❝ عن دار العودة 2024 الملحد: رد أسئله لملحدين الدين الإسلامي رائع بالدلائل والأمثله يجيب تساؤلات عقلنا فترة نمر بها ويرد الآخرين الماديين صديقى رجل يحب الجدل ويهوى الكلام وهو يعتقد أننا أنفسنا المؤمنون السذج نقتات بالاوهام ونضحك بالجنة والحوار العين وتفوتنا لذات الدنيا ومفاتنها وصديقى بهذه المناسبة تخرج من فرنسا وحصل دكتوراه وعاش الهيبيز تاريخ آخر ينكر لا تقل لي كعادتك أنا مخيـَّر فليس هناك فرية أكبر هذه الفرية ودعني أسألك هل خُـيّرتُ ميلادي وجنسي وطولي وعرضي ولوني ووطني ؟ هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر ينزل عليَّ القضاء ويفاجئني الموت وأقع المأساة فلا أجد مخرجاً إلا الجريمة لماذا يُكرهني الله فعل ثم يؤاخذني عليه ؟ وإذا قلت إنك حر وإن لك مشيئة إلى جوار ألا تشرك بهذا وتقع القول بتعدد المشيئات ؟ ثم ما قولك حكم البيئة والظروف وفي الحتميات التي يقول الماديون التاريخيون ؟ أطلق صاحبي الرصاصات راح يتنفس الصعداء راحة وقد تصوَّر أني توفيت وانتهيت ولم يبق أمامه استحضار الكفن قلت له هدوء أنت واقع عدة مغالطات فأفعالك معلومة عند كتابه ولكنها ليست مقدورة عليك بالإكراه إنها مقدَّرة علمه فقط كما تقدِّر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني يحدث بالفعل فهل أكرهته أو كان هذا تقديراً العلم أصاب علمك أما كلامك الحرية بأنها وتدليلك ذلك بأنك لم تخيَّر ميلادك ولا جنسك طولك لونك موطنك وأنك لا تملك نقل مكانها هو تخليط وسبب التخليط المرة أنك تتصوَّر بالطريقة غير تلك نتصورها نحن المؤمنين أنت تتكلم حرية مطلقة فتقول أكنت أستطيع أخلق نفسي أبيض أسود طويلا قصيراً بإمكاني أنقل أوقفها مدارها أين حريتي ؟ ونحن نقول : تسأل التصرف الكون وهذه ملك لله وحده أيضاً { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } 68 سورة القصص ليس لأحد الخيرة مسألة الخلق لأن الذي يخلق يشاء ويختار ولن يحاسبك قِصَرك ولن يعاتبك يعاقبك لأنك توقف ولكن مجال المساءلة التكليف وأنت المجال هي الحدود نتكلم فيها تقمع شهوتك وتلجم غضبك وتقاوم نفسك وتزجر نياتك الشريرة وتشجع ميولك الخيرة أنت تستطيع تجود بمالك ونفسك تصدق وأن تكذب وتستطيع تكف يدك المال الحرام بصرك عورات تمسك لسانك السباب والغيبة والنميمة في أحرار وفي نُحاسَب ونُسأل الحرية يدور حولها البحث النسبية وليست المطلقة الإنسان التكليف وهذه حقيقة ودليلنا عليها شعورنا الفطري داخلنا فنحن نشعر بالمسئولية وبالندم الخطأ وبالراحة للعمل الطيب ونحن كل لحظة نختار ونوازن بين احتمالات متعددة بل إن وظيفة الأولى الترجيح والاختيار البديلات ونحن نفرق بشكل واضح وحاسم يدنا وهي ترتعش بالحمى ويدنا تكتب خطاباً فنقول حركة جبرية قهرية والحركة الثانية حرة اختيارية ولو كنا مسيرين الحالتين لما استطعنا التفرقة ويؤكد به استحالة إكراه القلب شيء يرضاه تحت أي ضغط فيمكنك تُكره امرأة بالتهديد والضرب تخلع ثيابها ولكنك بأي تهديد تجعلها تحبك قلبها ومعنى أعتق قلوبنا صنوف الإكراه والإجبار وأنه فطرها ولهذا جعل والنية عمدة الأحكام فالمؤمن ينطق بعبارة الشرك والكفر التهديد والتعذيب يحاسب طالما قلبه الداخل مطمئن بالإيمان استثناه المؤاخذة قوله تعالى: إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ٌ} 106 النحل والوجه الآخر الخلط المسألة بعض الناس يفهم علو المشيئة وانفراد بالأمر فيتهم القائلين بالحرية بأنهم أشركوا بالله وجعلوا أنداداً يأمرون كأمره ويحكمون كحكمه وهذا فهمته فقلت فهم خاطئ فالحرية الإنسانية تعلو الإلهية إن قد يفعل بحريته ينافي الرضا الإلهي ولكنه يستطيع الله أعطانا نعلو رضاه "فنعصيه" يعط أحداً يعلو مشيئته وهنا وجه وجوه نسبية وكل منا داخل وضمنها خالف وجانب الشريعة وحريتنا ذاتها كانت منحة إلهية وهبة منحها لنا الخالق باختياره نأخذها منه كرهاً غصباً إن حريتنا عين ومن هنا معنى الآية {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن اللَّهُ 30 الإنسان لأن مشيئتنا ضمن ومنحة كرمه وفضله فهي إرادته ثنائية تناقض منافسة لأمر وحكمه والقول المعنى التوحيد يجعل يحكمون ويأمرون فإن حرياتنا أمره ومشيئته والوجه الثالث للخلط تناولوا والقدر والتسيير والتخيير فهموا بأنه للإنسان طبعه وطبيعته خطأ وقعت فيه نفى نفسه بآيات صريحة {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 4 الشعراء والمعنى أنه الممكن نُكره الإيمان بالآيات الملزمة ولكننا نفعل لأنه ليس سنتنا { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ 256 البقرة { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ 99 يونس ليس سُنة والقضاء يصح يُفهم للناس طبائعهم وإنما العكس يقضي إنسان جنس نيته ويشاء ويريد تسيير تخيير العبد يسيِّر امرئ هوى وعلى مقتضى نياته يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ حَرْثِهِ وَمَن الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا 20 الشورى { قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً 10 البقرة { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى 17 محمد وهو يخاطب الأسرى القرآن إِن يَعْلَمِ قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ 70 الأنفال الله ويقدِّر ويجري قضاءه وقدره النية والقلب شراً فشر خيراً فخير ومعنى التسيير التخيير الله يسيِّرنا اخترناه بقلوبنا ونياتنا ظلم جبر قهر طبائعنا { فَأَمَّا أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ لِلْعُسْرَى 5 الليل { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى الأنفال هنا تلتقي رمية والرمية المقدَّرة الرب فتكون واحدة مفتاح لغز التمكين فخير فشر والحرية مقداراً ثابتاً قدرة قابلة للزيادة الإنسان يزيد حريته بالعلم باختراع الوسائل والأدوات والمواصلات استطاع يطوي الأرض ويهزم المسافات ويخترق قيود الزمان والمكان وبدراسة قوانين يتحكم ويسخرها لخدمته وعرف كيف يهزم الحر والبرد والظلام وبذلك يضاعف حرياته الفعل العلم وسيلة كسر القيود والأغلال وإطلاق أما الوسيلة فكانت الاستمداد بالتقرب والأخذ عنه بالوحي والتلقي والتأييد الأنبياء ومن دربهم سخّر سليمان الجن وركب الريح وكلّم الطير بمعونة ومدده وشق موسى البحر وأحيا المسيح الموتى ومشى الماء وأبرأ الأكمه والأبرص والأعمى ونقرأ الأولياء أصحاب الكرامات الذين تُطوى لهم وتكشف المغيبات وهي درجات اكتسبوها بالاجتهاد العبادة والتقرب والتحبب إليه فأفاض عليهم المكنون إنه مرة أخرى ولكنه "اللدني" ولهذا يُلخص أبو حامد الغزالي مشكلة المخيَّر والمسيَّر قائلاً كلمتين الإنسان مخيَّر فيما يعلم مسيَّر وهو يعني كلما اتسع سواء المقصود الموضوعي اللدنِّي ويخطئ المفكرون أشد حينما يتصورون أسير التاريخية والطبقية ويجعلون حلقة سلسلة الحلقات فكاك مهرب الخضوع لقوانين الاقتصاد وحركة المجتمع كأنما قشة تيار بلا ذراعين وبلا إرادة والكلمة يرددونها يتعبون ترديدها وكأنها قانون "حتمية الصراع الطبقي" كلمة خاطئة التحليل العلمي حتميات الإنساني الأكثر ترجيحات واحتمالات الفرق وبين التروس والآلات والأجسام المادية فيمكن التنبوء بخسوف بالدقيقة والثانية ويمكن التنبؤ بحركاتها المستقبلة مدى أيام وسنين أما يمكن أحد ماذا يُضمر وماذا يُخبئ غداً بعد غد معرفة سبيل الاحتمال والترجيح والتخمين وذلك فرض توفر المعلومات الكافية للحكم وقد أخطأت جميع تنبؤات كارل ماركس فلم تبدأ الشيوعية بلد متقدم تنبأ متخلف يتفاقم الرأسمالية والشيوعية تقارب الاثنان حالة التعايش السلمي وأكثر فتحت البلاد أبوابها لرأس الأمريكي تتصاعد التناقضات الرأسمالي الإفلاس توقعه ازدهر ووقع الشقاق والخلاف أطراف المعسكر الاشتراكي ذاته أخطأت حسابات جميعها دالة بذلك منهجه الحتمي ورأينا صراع العصر يحرك التاريخ اللاطبقي الصين وروسيا وليس الطبقي جعله عنوان وكلها شواهد فشل الفكر المادي والتاريخ وتخبطه حساب المستقبل وجاء نتيجة جوهري ذبابة شبكة ونسي تماماً أنّ أمّا كلام والمجتمع يعيش تتحرك فراغ نقول ردّاً كمقاومات للحرية الفردية إنما يؤكد الجدلي لهذه ينفيه تؤكد ّ مقاومة تزحزحها أما إذا يتحرك فراغ نوع فإنه يكون حراً بالمعنى المفهوم لن تكون عقبة يتغلب ويؤكد خلالها الرد الإلحاد مجاناً PDF اونلاين روح المناقشات الدينية تناقش بالعقل بما قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ فَإِن تَنَازَعْتُمْ شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) النساء , لذا يحتوي القسم الكتب اللتي ترد الالحاد والملحدين وفرقهم عقلاني نفس الوقت بالآدلة الواقعة والسنة
❞ وهل تكون السعادة الحقة إلا حالة من السلام والسكينة النفسية والتحرر الروحى من كافة العبوديات كافة .. وهل هى فى تعريفها النهائي إلا حالة صلح بين الإنسان ونفسه وبين الانسان والآخريين وبين الانسان والله ! وهذه المصالحة لا تتحقق إلا بالعمل بأن يضع الانسان قوته وماله وصحته فى خدمة الاخريين وبأن يحيا حياة الخير نية وعملا وأن تتصل العلاقة بينه وبين الله صلاة وخشوعاً فيزيده الله سكينة ونوراً ومدداً .. وهل هذه السعادة إلا الدين بعينه . ❝
❞ - حكمة الصلاة أن يتحطم هذا الكبرياء المزيف الذي تعيش فيه لحظة سجودك وملامسة جبهتك التراب وقولك بلسانك وقلبك : " سبحان ربي الأعلى ".. وقد عرفت مكانك أخيراً وأنك أنت الأدنى وهو الأعلى.. وأنك تراب على التراب.. وهو ذات منزهة من فوق سبع سماوات..أما لماذا الحركات في الصلاة، ولماذا لا نكتفي بالخشوع القلبي فإني أسألك بدوري :ولماذا خلق لك الجسد أصلاً.. و لماذا لا تكتفي بالحب الشفوي فتريد أن تعانق وتقبل.. لماذا لا تكتفي بالكرم الشفوي فتجود باليد و المال .. بل خلق الله لك الجسد إذا كان خشوعك صادقاً فاض على جسدك فركعت وسجدت .. وإن كان خشوعك زائفاً لم يتعد لسانك ..
كتاب/ حوار مع صديقي الملحد . ❝
❞ وأوهن البيوت فى القرآن هو بيت العنكبوت .. لم يقل الله خيط العنكبوت بل قال بيت العنكبوت .. وخيط العنكبوت كما هو معلوم أقوى من مثيله من الصلب أربع مرات .. إنما الوهن فى البيت لا فى الخيط .. حيث يكون البيت اسوأ ملجأ لمن يحتمى فيه ، فهو مصيدة لمن يقع فيه من الزوار الغرباء .. وهو مقتل حتى لأهله .. فالعنكبوت الأنثى تأكل زوجها بعد التلقيح .. وتأكل اولادها عند الفقس والأولاد يأكل بعضهم بعضا ..
إن بيت العنكبوت هو أبلغ مثال يضرب عن سوء الملجأ وسوء المصير وهكذا حال من يلجأ لغير الله !!
كتاب " حوار مع صديقى الملحد " . ❝
❞ حوار مع صديقي الملحد
صديقي رجل يحب الجدل ويهوى الكلام.. وهو يعتقد أننا – نحن المؤمنين السذج – نقتات بالأوهام ونضحك على أنفسنا بالجنة والحور العين وتفوتنا لذات الدنيا ومفاتنها .. وصديقي بهذه المناسبة تخرج في فرنسا وحصل على دكتوراه .. وعاش مع الهيبز وأصبح ينكر كل شيء.
قال لي ساخراً: أنتم تقولون : إن الله موجود .. وعمدة براهينكم هو قانون "السببية" الذي ينص على أن لكل صنعة صانعاً.. ولكل خلق خالقاً .. ولكل وجود موجدا .. النسيج يدل على النسّاج .. والرسم يدل على الرسّام .. والنقش يدل على النقّاش .. والكون بهذا المنطق أبلغ دليل على الإله القدير الذي خلقه ..
صدّقنا وآمنّا بهذا الخالق .. ألا يحق لنا بنفس المنطق أن نسأل .. ومن خلق الخالق .. من خلق الله الذي تحدثوننا عنه .. ألا تقودنا نفس استدلالاتكم إلى هذا .. وتبعاً لنفس قانون السببية .. ما رأيكم في هذا المطب دام فضلكم ؟
ونحن نقول له : سؤالك فاسد .. ولا مطب ولا حاجة فأنت تسلّم بأن الله خالق ثم تقول مَن خلقه ؟! فتجعل منه خالقاً ومخلوقا ًفي نفس الجملة وهذا تناقض..
والوجه الآخر لفساد السؤال أنك تتصور خضوع الخالق لقوانين مخلوقاته .. فالسببية قانوننا نحن أبناء الزمان والمكان .
والله الذي خلق الزمان والمكان هو بالضرورة فوق الزمان والمكان ولا يصح لنا أن نتصوره مقيداً بالزمان والمكان .. ولا بقوانين الزمان والمكان .
والله هو الذي خلق قانون السببية .. فلا يجوز أن نتصوره خاضعاً لقانون السببية الذي خلقه .
وأنت بهذه السفسطة أشبه بالعرائس التي تتحرك بزمبلك .. وتتصور أن الإنسان الذي صنعها لا بد هو الآخر يتحرك بزمبلك .. فإذا قلنا لها بل هو يتحرك من تلقاء نفسه .. قالت : مستحيل أن يتحرك شيء من تلقاء نفسه .. إني أرى في عالمي كل شيء يتحرك بزمبلك .
وأنت بالمثل لا تتصور أن الله موجود بذاته بدون موجد .. لمجرد أنك ترى كل شيء حولك في حاجة إلى موجد .
وأنت كمن يظن أن الله محتاج إلى براشوت لينزل على البشر ومحتاج إلى أتوبيس سريع ليصل إلى أنبيائه.. سبحانه وتعالى عن هذه الأوصاف علوّاً كبيراً ..
"وعمانويل كانت" الفيلسوف الألماني في كتابه "نقد العقل الخالص" أدرك أن العقل لا يستطيع أن يحيط بكنه الأشياء وأنه مُهيّأ بطبيعته لإدراك الجزئيات والظواهر فقط .. في حين أنه عاجز عن إدراك الماهيات المجردة مثل الوجود الإلهي .. وإنما عرفنا الله بالضمير وليس بالعقل .. شوقنا إلى العدل كان دليلنا على وجود العادل .. كما أن ظمأنا إلى الماء هو دليلنا على وجود الماء ..
أما أرسطو فقد استطرد في تسلسل الأسباب قائلاً : إن الكرسي من الخشب والخشب من الشجرة .. والشجرة من البذرة .. والبذرة من الزارع .. واضطر إلى القول بأن هذا الاستطراد المتسلسل في الزمن اللانهائي لابد أن ينتهي بنا في البدء الأول إلى سبب في غير حاجة إلى سبب .. سبب أول أو محرك أول في غير حاجة إلى من يحركه .. خالق في غير حاجة إلى خالق .. وهو نفس ما نقوله عن الله .
أما ابن عربي فكان رده على هذا السؤال "سؤال مَنْ خلق الخالق".. بأنه سؤال لا يرد إلا على عقل فاسد.. فالله هو الذي يبرهن على الوجود ولا يصح أن نتخذ من الوجود برهاناً على الله.. تماماً كما نقول إن النور يبرهن على النهار .. ونعكس الآية لو قلنا إن النهار يبرهن على النور ..
يقول الله في حديث قدسي: ( أنا يُستدل بي .. أنا لا يُستدل عليّ ) ..
فالله هو الدليل الذي لا يحتاج إلى دليل .. لأنه الله الحق الواضح بذاته .. وهو الحجة على كل شيء .. الله ظاهر في النظام والدقة والجمال والإحكام .. في ورقة الشجر .. في ريشة الطاووس .. في جناح الفراش .. في عطر الورد .. في صدح البلبل .. في ترابط النجوم والكواكب.. في هذا القصيد السيمفوني الذي اسمه الكون ..
لو قلنا إن كل هذا جاء مصادفة .. لكنا كمن يتصور أن إلقاء حروف مطبعة في الهواء يمكن أن يؤدي إلى تجمعها تلقائياً على شكل قصيدة شعر لشكسبير بدون شاعر وبدون مؤلف.
والقرآن يغنينا عن هذه المجادلات بكلمات قليلة وبليغة فيقول بوضوح قاطع ودون تفلسف:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفواً أحد} سورة الإخلاص:1
ويسألنا صاحبنا ساخراً : ولماذا تقولون إن الله واحد ..؟ لماذا لا يكون الآلهة متعددين ..؟ يتوزعون بينهم الاختصاصات ؟
وسوف نرد عليه بالمنطق الذي يعترف به .. بالعلم وليس بالقرآن ..
سوف نقول له إن الخالق واحد ، لأن الكون كله مبني من خامة واحدة وبخطة واحدة .. فمن الأيدروجين تألفت العناصر الاثنان والتسعون التي في جدول "مندليف" بنفس الطريقة .. "بالادماج" وإطلاق الطاقة الذرية التي تتأجج بها النجوم وتشتعل الشموس في فضاء الكون .
كما أن الحياة كلها بنيت من مركبات الكربون "جميع صنوف الحياة تتفحم بالاحتراق" وعلى مقتضى خطة تشريحية واحدة .. تشريح الضفدعة ، والأرنب ، والحمامة ، والتمساح ، والزرافة ، والحوت ، يكشف عن خطة تشريحية واحدة ، نفس الشرايين والأوردة وغرفات القلب ، ونفس العظام ، كل عظمة لها نظيرتها .. الجناح في الحمامة هو الذراع في الضفدعة .. نفس العظام مع تحور طفيف ..والعنق في الزرافة على طوله نجد فيه نفس الفقرات السبع التي تجدها في عنق القنفذ .. والجهاز العصبي هو هو في الجميع ، يتألف من مخ وحبل شوكي وأعصاب حس وأعصاب حركة .. والجهاز الهضمي من معدة واثني عشر ، وأمعاء دقيقة وأمعاء غليظة والجهاز التناسلي نفس المبيض والرحم والخصية وقنواتها .. والجهاز البولي الكلية والحالب ، وحويصلة البول .. ثم الوحدة التشريحية في الجميع هي الخلية .. وهي في النبات كما في الحيوان كما في الإنسان، بنفس المواصفات، تتنفس وتتكاثر وتموت وتولد بنفس الطريقة ..
فأية غرابة بعد هذا أن نقول إن الخالق واحد ؟ .. ألا تدل على ذلك وحدة الأساليب .ولماذا يتعدد الكامل ..؟ وهل به نقص ليحتاج إلى من يكمله ؟ .. إنما يتعدد الناقصون .ولو تعدد الآلهة لاختلفوا ، ولذهب كل إله بما خلق ، ولفسدت السماوات والأرض , والله له الكبرياء والجبروت وهذه صفات لا تحتمل الشركة ..
ويسخر صاحبنا من معنى الربوبية كما نفهمه .. ويقول أليس عجيباً ذلك الرب الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة ، فيأخذ بناصية الدابة ، ويوحي إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتاً ، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ، وما تخرج من ثمرات من أكمامها إلاّ أحصاها عدداً ، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه .. وإذا عثرت قدم في حفرة فهو الذي أعثرها.. وإذا سقطت ذبابة في طعام فهو الذي أسقطها .. وإذا تعطلت الحرارة في تليفون فهو الذي عطلها .. وإذا امتنع المطر فهو الذي منعه ، وإذا هطل فهو الذي أهطله .. ألا تشغلون إلهكم بالكثير التافه من الأمور بهذا الفهم ..
ولا أفهم أيكون الرب في نظر السائل أجدر بالربوبية لو أنه أعفى نفسه من هذه المسؤوليات وأخذ إجازة وأدار ظهره للكون الذي خلقه وتركه يأكل بعضه بعضاً !هل الرب الجدير في نظره هو رب عاطل مغمى عليه لا يسمع ولا يرى ولا يستجيب ولا يعتني بمخلوقاته ؟ .. ثم من أين للسائل بالعلم بأن موضوعاً ما تافه لا يستحق تدخل الإله، وموضوعاً آخر مهماً وخطير الشأن ؟
إن الذبابة التي تبدو تافهة في نظر السائل لا يهم في نظره أن تسقط في الطعام أو لا تسقط، هذه الذبابة يمكن أن تغيّر التاريخ بسقوطها التافه ذلك .. فإنها يمكن أن تنقل الكوليرا إلى جيش وتكسب معركة لطرف آخر، تتغير بعدها موازين التاريخ كله.
ألم تقتل الإسكندر الأكبر بعوضة ؟
إن أتفه المقدمات ممكن أن تؤدي إلى أخطر النتائج .. وأخطر المقدمات ممكن أن تنتهي إلى لا شيء .. وعالم الغيب وحده هو الذي يعلم قيمة كل شيء .
وهل تصور السائل نفسه وصيّاً على الله يحدد له اختصاصاته .. تقدّس وتنزّه ربنا عن هذا التصور الساذج .
إنما الإله الجدير بالألوهية هنا هو الإله الذي أحاط بكل شيء علماً .. لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . الإله السميع المجيب ، المعتني بمخلوقاته.
من كتــاب/ حوار مع صديقي الملحد
للدكتور/ مصطفى محمود رحمه الله . ❝
❞ - وما رأيك في كلام القرآن عن العلم الإلهي ؟ :
( إن الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام و ما تدرى نفس ماذا تكسب غداً و ما تدرى نفس بأي أرض تموت ) 34- لقمان
يقول القرآن إن الله اختص نفسه بهذا العلم لا يعلمه غيره :
( و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) 51- الأنعام
فما بالك الآن بالطبيب الذي يستطيع أن يعلم ما بالأرحام ، ويستطيع أن يتنبأ إن كان ذكراً أم أنثى .. و ما بالك بالعلماء الذين أنزلوا المطر الصناعي بالأساليب الكيماوية .
- لم يتكلم القرآن عن إنزال المطر وإنما عن إنزال الغيث ، و هو المطر الغزير الكثيف الذي ينزل بكميات تكفى لتغيير مصير أمة و إغاثتها و نقلها من حال الجدب إلى حال الخصب و الرخاء .. و المطر بهذه الكميات لا يمكن إنزاله بتجربة .
أما علم الله لما في الأرحام فهو علم كلي محيط و ليس فقط علماً بجنس المولود هل هو ذكر أو أنثى ، و إنما علم بمن يكون ذلك المولود و ما شأنه و ماذا سيفعل في الدنيا ، و ما تاريخه من يوم يولد إلى يوم يموت : و هو أمر لا يستطيع أن يعلمه طبيب .
- و ما حكاية كرسي الله الذي تقولون إنه وسع السموات والأرض .. و عرش الله الذي يحمله ثمانية .
- إن عقلك يسع السموات والأرض و أنت البشر الذي لا تذكر .. فكيف لا يسعها كرسي الله .. و الأرض و الشمس و الكواكب و النجوم وا لمجرات محمولة بقوة الله في الفضاء .. فكيف تعجب لحمل عرش ..
- و ما هو الكرسي و ما العرش ؟
- قل لي ما الإلكترون أقل لك ما الكرسي ؟ قل لي ما الكهرباء ؟ قل لي ما الجاذبية ؟ قل لي ما الزمان ؟ إنك لا تعرف ماهية أي شيء لتسألني ما الكرسي و ما العرش ؟ إن العالم مملوء بالأسرار و هذه بعض أسراره .
- و النملة التي تكلمت في القرآن و حذرت بقية النمل من قدوم سليمان و جيشه :
( قالت نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده ) 18- النمل
- لو قرأت القليل عن علم الحشرات الآن لما سألت هذا السؤال .. إن علم الحشرات حافل بدراسات مستفيضة عن لغة النمل و لغة النحل .
و لغة النمل الآن حقيقة مؤكدة .. فما كان من الممكن أن تتوزع الوظائف في خلية من مئات الألوف و يتم التنظيم و تنقل الأوامر و التعليمات بين هذا الحشد الحاشد لولا أن هناك لغة للتفاهم ، و لا محل للعجب في أن نملة عرفت سليمان .. ألم يعرف الإنسان الله ؟
- و كيف يمحو الله ما يكتب في لوح قضائه :
( يمحو الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب ) 38- الرعد
أيخطيء ربكم كما نخطيء في الحساب فنمحو و نثبت .. أم يراجع نفسه كما نراجع أنفسنا ؟!
- الله يمحو السيئة بأن يلهمك بالحسنة ويقول في كتابه :
( إن الحسنات يذهبن السيئات ) 114- هود
و يقول عن عباده الصالحين : ( و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة ) 73- الأنبياء
و بذلك يمحو الله دون أن يمحو و هذا سر الآية 39 من سورة الرعد التي ذكرتها .
- و ما رأيك في الآية ؟
( و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) 56- الذاريات
هل كان الله في حاجة لعبادتنا ؟!
- بل نحن المحتاجون لعبادته .. أتعبد المرأة الجميلة حباً بأمر تكليف ، أم أنك تلتذ بهذا الحب و تنتشي و تسعد لتذوقك لجمالها ؟
كذلك الله و هو الأجمل من كل جميل إذا عرفت جلاله و جماله و قدره عبدته ، و وجدت في عبادتك له غاية السعادة و النشوة .
إن العبادة عندنا لا تكون إلا عن معرفة .. والله لا يعبد إلا بالعلم .. و معرفة الله هي ذروة المعارف كلها ، و نهاية رحلة طويلة من المعارف تبدأ منذ الميلاد و أول ما يعرف الطفل عند ميلاده هو ثدي أمه ، و تلك أول لذة ، ثم يتعرف على أمه وأبيه و عائلته و مجتمعه و بيئته ، ثم يبدأ في استغلال هذه البيئة لمنفعته ، فإذا هي ثدي آخر كبير يدر عليه الثراء و المغانم و الملذات ، فهو يخرج من الأرض الذهب و الماس ، و من البحر اللآليء ، و من الزرع الفواكه و الثمار ، و تلك هي اللذة الثانية في رحلة المعرفة .
ثم ينتقل من معرفته لبيئته الأرضية ليخرج إلى السموات و يضع رجله على القمر ، و يطلق سفائنه إلى المريخ في ملاحة نحو المجهول ليستمتع بلذة أخرى أكبر هي لذة استطلاع الكون ، ثم يرجع ذلك الملاح ليسأل نفسه .. و من أنا الذي عرفت هذا كله .. ليبدأ رحلة معرفة جديدة إلى نفسه .. بهدف معرفة نفسه و التحكم في طاقاتها و إدارتها لصالحه و صالح الآخرين ، و تلك لذة أخرى ..
ثم تكون ذروة المعارف بعد معرفة النفس هي معرفة الرب الذي خلق تلك النفس .. و بهذه المعرفة الأخيرة يبلغ الإنسان ذروة السعادات ، لأنه يلتقى بالكامل المتعال الأجمل من كل جميل .. تلك هي رحلة العابد على طريق العبادة .. و كلها ورود و مسرات ..
و إذا كانت في الحياة مشقة ، فلأن قاطف الورود لابد أن تدمي يديه الأشواك .. و الطامع في ذرى اللانهاية لابد أن يكدح إليها .. و لكن وصول العابد إلى معرفة ربه و انكشاف الغطاء عن عينيه .. ما أروعه .
يقول الصوفي لابس الخرقة : " نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف "
تلك هي لذة العبادة الحقة .. و هي من نصيب العابد .. و لكن الله في غنى عنها و عن العالمين .. و نحن لا نعبده بأمر تكليف و لكنا نعبده لأننا عرفنا جماله و جلاله .. و نحن لا نجد في عبادته ذلاً بل تحرراً و كرامة .. تحرراً من كل عبوديات الدنيا .. تحرراً من الشهوات و الغرائز و الأطماع و المال .. و نحن نخاف الله فلا نعود نخاف أحداً بعده و لا نعود نعبأ بأحد ..
خوف الله شجاعة .. و عبادته حرية .. و الذل له كرامة .. و معرفته يقين و تلك هي العبادة ..
نحن الذين نجني أرباحها و مسراتها .. أما الله فهو الغني عن كل شيء .. إنما خلقنا الله ليعطينا لا ليأخذ منا .. خلقنا ليخلع علينا من كمالاته فهو السميع البصير ، و قد أعطانا سمعاً و بصراً و هو العليم الخبير ، و قد أعطانا العقل لنتزود من علمه ، و الحواس لنتزود من خبرته و هو يقول لعبده المقرب في الحديث القدسى : ( عبد أطعني أجعلك ربانيا تقول للشيء كن فيكون ) ..
ألم يفعل هذا لعيسى عليه السلام .. فكان عيسى يحي الموتى بإذنه و يخلق من الطين طيراً بإذنه و يشفى الأعمى و الأبرص بإذنه .
العبودية لله إذن هي عكس العبودية في مفهومنا .. فالعبودية في مفهومنا هي أن يأخذ السيد خير العبد ، أما العبودية لله فهي على العكس ، أن يعطى السيد عبده ما لا حدود له من النعم ، و يخلع عليه ما لا نهاية من الكمالات .. فحينما يقول الله : ( و ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) فمعناها الباطن ما خلقت الجن والإنس إلا لأعطيهم و أمنحهم حباً و خيراً ، و كرامة و عزة ، و أخلع عليهم ثوب التشريف و الخلافة .
فالسيد الرب غني مستغن عن عبادتنا .. و نحن المحتاجون إلى هذه العبادة و الشرف ، و المواهب و الخيرات التي لا حد لها .
فالله الكريم سمح لنا أن ندخل عليه في أي وقت بلا ميعاد ، و نبقى في حضرته ما شئنا و ندعوه ما وسعنا .. بمجرد أن نبسط سجادة الصلاة و نقول "الله أكبر" نصبح في حضرته نطلب منه ما نشاء .
أين هو الملك الذي نستطيع أن ندخل عليه بلا ميعاد و نلبث في حضرته ما نشاء ؟!
و في ذلك يقول مولانا العبد الصالح الشيخ محمد متولي الشعراوي في شعر جميل :
حسب نفسي عزاً إنني عبد
يحتفل بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز و لكن
أنا ألقى متى وحين أحب
و يقول : أرونى صنعة تعرض على صانعها خمس مرات في اليوم "يقصد الصلوات الخمس " و تتعرض للتلف !
و هذه بعض المعاني الباطنة في الآية التي أثارت شكوكك : ( و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون ) و لو تأملتها لما أثارت فيك إلا الذهول و الإعجاب .
من كتاب / حوار مع صديقي الملحد
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ حوار مع صديقي الملحد .
الجنه والنار ؟
كان صديقنا الدكتور واثقا من نفسه كل الثقة هذه المرة وهو يلوك الكلمات ببطء ليلقي بالقنبلة
- كيف يعذبنا الله وهو الرحمن الرحيم على ذنب محدود في الزمن بعذاب لا محدود في الأبد ( النار خالدين فيها أبدا )
ومن نحن وماذا نساوي بالنسبة لعظمة الله حتى ينتقم منا هذا الانتقام ..
وما الإنسان إلا ذرة أو هبأة في الكون وهو بالنسبة لجلال الله أهون من ذلك بكثير .. بل هو اللاشيء بعينه .
ونحن نصحح معلومات الدكتور فنقول .
أولا - إننا لسنا ذرة ولا هبأة في الكون .. وإن شاننا عند الله ليس هينا بل عظيما ..
ألم ينفخ فينا من روحه ..
ألم يسجد لنا الملائكة ..
ألم يعدنا بميراث السماوات والأرض ويقول عنا :
( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) .
إن فينا إذا من روح الله .
ونحن بالنسبة للكون لسنا ذرة ولا هبأة ..
إننا نبدو بالنظر إلى أجسادنا كذرة أو هبأة بالنسبة للكون الفسيح الواسع .
ولكن ألا نحتوي على هذا الكون ونستوعبه بعقلنا وندرك قوانينه وأفلاكه ونرسم لكل كوكب مداره ..
ثم ينزل رائد الفضاء على القمر فيكتشف أن كل ما استوعبناه بعقلنا على الأرض كان صحيحا ..
وكل ما رسمناه كان دقيقا .
ألا يدل هذا على أننا بالنظر إلى روحنا أكبر من الكون وأننا نحتوي عليه وأن الشاعر كان على حق حينما خاطب الإنسان قائلا :
وتحسب أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
وإن الإنسان كما يقول الصوفية هو الكتاب الجامع والكون صفحاته .
إذا الإنسان عظيم الشأن كبير الخطر.
وهو من روح الله .
وأعماله تستوجب المحاسبة .
أما عن الذنب المحدود في الزمان الذي يحاسبنا الله عليه بعذاب اللامحدود في الأبد ..
فمغالطة أخرى وقع فيها الدكتور العزيز الواثق من نفسه .
فالله يقول عن هؤلاء المخلدين في النار حينما يطلبون العودة إلى الدنيا ليعملوا غير ما عملوا ..
يقول سبحانه :
( ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون).
أي أن ذنبهم ليس ذنبا محدودا في الزمان بل هو خصلة ثابتة سوف تتكرر في كل زمان ..
ولو ردوا لعادوا إلى ذنبهم وإنهم لكاذبون .
هي إذن صفحة مؤبدة في النفس وليست سقطة عارضة في ظرف عارض في الدنيا .
وهو يقول عنهم في مكان آخر :
( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء .. ألا إنهم هم الكاذبون ) .
هنا لون آخر من الإصرار والتحدي يصل إلى أنهم يواجهون الله بالكذب والحلف الكذب وهم بين يديه يوم الموقف العظيم يوم ترفع الحجب وينكشف الغطاء ..
وهذا غاية الجبروت والصلف .
ولسنا هنا أمام ذنب محدود في الزمان . بل أمام ذنب مستمر في الزمان وبعد أن يطوى الزمان وكل زمان ..
نحن هنا أمام نفس تحمل معها شرها الأبدي .
ومن هنا كان تأبيد العذاب لهذه النفس عدلا .
ولهذا تقول عنهم الآية في صراحة :
( وما هم بخارجين من النار )
ويقول ابن عربي :
إن الرحمة بالنسبة لهؤلاء أنهم سوف يتعودون على النار .. وتصبح تلك النار في الآباد المؤبدة بيئتهم الملائمة .
ولا شك أن هناك مجانسة بين بعض النفوس المجرمة وبين النار ..
فبعض تلك النفوس هي في حقيقتها شعلة حسد وحقد وشهوة وغيرة وغل وضرام من الغضب والنقمة والثورة والمشاعر الإجرامية المحتدمة وكأنها نار بالفعل .
مثل تلك النفوس لا تستطيع أن تعيش في سلام .. ولا تستطيع أن تحيا ساعة دون أن تشعل حولها حربا .. ودون أن تضرم حولها النيران .. لأن النيران هي بيئتها وطبيعتها .
ومثل تلك النفوس يكون قرارها في النار هو الحكم العدل ويكون هذا المصير من قبيل وضع الشيء في مكانه ..
فلو أنها أدخلت الجنة لما تذوقتها .
ألم تكن ترفض السلام في الأرض ؟
وينبغي أن نفهم النار والجنة في الآخرة فهما واسع الأفق ..
فالنار في الآخرة ليست شواية . وليس ما يجري فيها هو الحريق بالمعنى الدنيوي فالله يقول إن المذنبين يتكلمون ويتلاعنون وأن النار فيها شجرة لها ثمر ..
هي شجرة الزقوم التي تخرج من أصل الجحيم .. كما أن فيها ماء حميما يشرب منه المعذبون .
مثل تلك النار التي فيها شجرة الزقوم وفيها ماء ..
ويتكلم فيها الناس فلا بد أنها نار غير النار :
( كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ).
إنهم يتكلمون وهم في النار وهي نار :
(وقودها الناس والحجارة )
هذه النار إذا من قبيل الغيب ..
وما ورد عنها إشارات .
ولا يجب أن يفهم من هذا الكلام أننا ننكر العذاب الحسي ونقول بالعذاب المعنوي ..
فإن العذاب الحسي صريح لا يجوز الشك فيه ونحن نؤمن بوجوده .
وإنما نقول إن تفاصيل هذا العذاب وكيفيته .. كما أن كيفية تلك النار وأوصافها التفصيلية ..
هي غيب مجهول .. فهي على ما يبدو في الإشارات القرآنية .. نار غير النار ..
كما أن أجسامنا في تحملها لتلك النار هي غير الأجسام الترابية الهشة التي لنا الآن ...
ونفس الشيء في الجنة .. فهي ليست سوق خضار وبلح ورمان وعنب ..
وإنما تلك الأوصاف القرآنية هي مجرد إشارات وضرب أمثلة وتقريب إلى الأذهان .
( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه )
" مثل الجنة " .. أي أننا نضرب مثلا يقرب فهم الجنة إليك ولكن الحقيقة أن التفاصيل غيب .
( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) .
( جنة عرضها السموات والأرض ) .
فهي لا يمكن أن تكون مجرد حديقة .
( وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة ) .
فهي غير فاكهتنا المقطوعة والممنوعة .. وخمر:
( لا يصدعون عنها ولا ينزفون ) .
فهي غير خمرنا التي تصدع الرأس وتنزف العقل
ويقول القرآن عن أهل الجنة :
( ونزعنا ما في صدورهم من غل )
ها هنا نفوس طهرت بطريقة لا نعلمها .
الجنة إذا هي الأخرى غيب وليس في هذا الكلام أي إنكار للنعيم الحسي فنحن نؤمن بأن الجنة نعيم حسي ومعنوي معا كما أن النار عذاب حسي ومعنوي ولكن ما نريد تأكيده أن تفاصيل هذا النعيم أو العذاب وكيفياته غيب .
وأن الجنة ليست سوقا للفاكهة والخضار ولا النار فرنا لشوي اللحم .
وإن التعذيب في الآخرة ليس تجبرا من الله على عباده وإنما هو تطهير وتعريف وتقويم ورحمة .
( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم )
فالأصل هو عدم العذاب .
والله لا يعذب العارف المؤمن وإنما ينصب عذابه على الجاحد المنكر الذي فشلت معه كل وسائل الهداية والتعريف والتفهيم .
( ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ) .
سنة الله أن يذيق هؤلاء من العذاب الأصغر في الدنيا لإيقاظهم من غفلتهم ولإزعاجهم من هذا المم والسبات .. " لعلهم يرجعون " .
فإذا لم تفلح كل الوسائل ..
وظل المنكر على إنكاره لم يبق إلا مواجهته بالعذاب الحق لتعريفه ..
والتعريف بالحق هو عين الرحمة ..
ولو أن الله تركهم على عماهم وجهلهم وأهملهم لكان في حقه ظلما ..
سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ..فالعرض على النار بالنسبة لهؤلاء الجهال .. عناية .
وكل أفعال الله رحمة ..
يرحم الجاهل بالجحيم تأديبا وتعليما .
ويرحم العارف بالجنة فضلا وكرامة .
( عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء )
فجعل رحمته تسع كل شيء حتى العذاب .
ثم دعونا نسأل الدكتور ..
أيكون الله أكثر عدلا في نظره لو أنه ساوى بين الظالمين والمظلومين وبين السفاحين وضحاياهم فقدم لكل حفلة شاي في الآخرة .
وهل العدل في نظر الدكتور أن يستوي الأبيض والأسود .
وللذين يستبعدون عن الله أن يعذب نقول : ألا يعذبنا الله بالفعل في دنيانا ؟..
وماذا تكون الشيخوخة والمرض والسرطان إلا العذاب بعينه .
ومن خالق الميكروب ..؟!!
أليست جميعها إنذارات بأننا أمام إله يمكن أن يعذب .
من كتــاب حوار مع صديقي الملحد
للدكتور مصطفى محمود رحمه الله . ❝
❞ قال صديقي في شماتة وقد تصور أنه أمسكني من عنقي وأنه لامهرب لي هذه المرة: أنتم تقولون إن الله يجري كل شيء في مملكته بقضاء وقدر، وإن الله قدر علينا أفعالنا ، فإذا كان هذا هو حالي ، وأن أفعالي كلها مقدرة عنده فلماذا يحاسبني عليها ؟ لا تقل لي كعادتك .. أنا مخير .. فليس هناك قرية أكبر من هذه القرية ودعني أسألك: هل خيرت في ميلادي وجنسي وطولي وعرضي ولوني ووطني هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر ؟ هل باختياري ينزل على القضاء ويفاجئني الموت وأقع في المأساة فلا أحد مخرجاً إلا الجريمة.. لماذا يكرهني الله على فعل ثم يؤاخذني عليه ؟ وإذا قلت إنك حر ، وإن لك مشيئة إلى حوار مشيئة الله ألا تشرك بهذا الكلام وتقع في القول بتعدد المشبنات ؟ ثم ما قولك في حكم البيئة والظروف ، وفي الحتميات التي يقول بها الماديون التاريخيون ؟
أطلق صاحبي هذه الرصاصات ثم راح يتنفس الصعداء في راحة وقد تصور أني توفيت وانتهيت ، ولم يبق أمامه إلا استحضار الكفن..
قلت له في هدوء: أنت واقع في عدة مغالطات .. فأفعالك معلومة عند الله في كتابه ، ولكنها ليست مقدورة عليك بالإكراه .. إنها مقدرة في علمه فقط .. كما تقدر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني .. ثم يحدث أن يزني بالفعل .. فهل أكرهته .. أو كان هذا تقديراً في العلم وقد أصاب علمك..
أما كلامك عن الحرية بأنها قرية ، وتدليلك على ذلك بأنك لم تخير في ميلادك ولا في جنسك ولا في طولك ولا في لونك ولا في موطنك ، وأنك لا تملك نقل الشمس من مكانها .. هو تخليط آخر.. وسبب التخليط هذه المرة أنك تتصور الحرية بالطريقة غير تلك التي نتصورها نحن المؤمنين.. أنت تتكلم عن حرية مطلقة .. فتقول .. أكنت أستطيع أن أخلق نفسي أبيض أو أسود أو طويلا أو قصيراً .. هل بإمكاني أن أنقل الشمس من مكانها أو أوقفها في مدارها .. أين حريتي ؟.
ونحن نقول له : أنت تسأل عن حرية مطلقة .. حرية التصرف في الكون وهذه ملك لله وحده .. نحن أيضا لا نقول بهذه الحرية { ورثك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخبرة } 68 سورة القصص ليس لأحد الخيرة في مسألة الخلق ، لأن الله هو الذي يخلق ما بشاء ويختار..
ولن يحاسبك الله على قصرك ولن يعاتبك على طولك ولن يعاقبك لانك لم توقف الشمس عن مدارها . ❝
❞ حوار مع صديقي الملحد
هل الدين افيون ..؟
قال لي صاحبي الدكتور وهو يغمز بعينيه :
وما رايك في الذين يقولون ان الدين افيون ...!!
وانه يخدر الفقراء والمظلومين ليناموا على ظلمهم وفقرهم ويحلموا بالجنة والحور العين ..
في حين يثبت الاغنياء على غناهم باعتبار انه حق ..
وان الله خلق الناس درجات ...؟.
وما رايك في الذين يقولون ان الدين لم ينزل من عند الله ..
وانما هو طلع من الارض من الظروف والدواعي الاجتماعية ليكون سلاحاً لطبقة على طبقة ..؟
وهو يشير بذلك الى الماديين وافكارهم ..
قلت :
ليس ابعد من الخطأ القائل بان الدين افيون .. فالدين في حقيقته اعباء وتكاليف وتبعات ..
وليس تخفيفاً وتحللاً .. وبالتالي ليس مهرباً من المسئوليات وليس افيوناً ..
وديننا عمل وليس كسل ..
( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم )
ونحن نقول بالتوكل وليس التواكل ..
والتوكل يقتضي عندنا العزم واستفراغ الوسع ..
وبذل غاية الطاقة والحيلة .
ثم التسليم بعد ذلك لقضاء الله وحكمه .
( فاذا عزمت فتوكل على الله )
العزم اولاً ..
والنبي يقول لمن اراد ان يترك ناقته سائبة توكلاً على حفظ الله ( اعقلها وتوكل )
أي ابذل وسعك اولا فثبتها في عقالها ثم توكل ..
والدين صحو وانتباه ويقظة . ومحاسبة للنفس ومراقبة للضمير ..
في كل فعل وفي كل كلمة وكل خاطر . وليس هذا حال اكل الافيون .
انما اكل الافيون الحقيقي هو المادي الذي ينكر الدين هرباً من تبعاته ومسئولياته .
ويتصور ان لحظته ملكه . وانه لاحسيب ولا رقيب ولا بعث بعد الموت ..
فيفعل ما يخطر على باله . وأين هذا الرجل من المتدين المسلم الذي يعتبر نفسه مسئولاً عن سابع جار ..
واذا جاع فرد في امته او ضربت دابة عاتب نفسه بانه لم يقم بواجب الدين في عنقه ..
وليس صحيحاً ان ديننا خرج من الارض .. من الظروف والدواعي الاجتماعية ..
ليكون سلاحاً لطبقة على طبقة وتثبيتاً لغنى الاغنياء وفقر الفقراء ..
والعكس هو الصحيح ...
فالاسلام جاء ثورة على الاغنياء والكانزين المال والمستغلين الظالمين ..
فامر صراحة بالا يكون المال دولة بين الاغنياء يحتكرونه ويتداولونه بينهم ..
وانما يكون حقاً للكل ..
( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم )
والانفاق يبدا من زكاة اجبارية ( 2،5 ) في المائة ..
ثم يتصاعد اختيارياً الى كل ما في الجيب وكل ما في اليد .
فلا تبقي لنفسك الا خبزك .. كفافك ..
( يسألونك ماذا ينفقون قل العفو )
والعفو هو كل ما زاد على الكفاف والحاجة ..
وبهذا جمع الاسلام بين التكليف الجبري القانوني والتكليف الاختياري القائم على الضمير ..
وهذا اكرم للانسان من نزع املاكه بالقهر والمصادرة ..
ووصل إلى الانفاق إلى ما فوق التسعين في المائة بدون ارهاق ..
ولم يأت الاسلام ليثبت ظلم الظالمين . بل جاء ثورة صريحة على كل الظالمين .
وجاء سيفاً وحربا على رقاب الطواغين والمستبدين ..
اما التهمة التي يسوقها الماديون بأن الدين رجعي وطبقي بدليل الايات ..
( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق )
( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات )
فنحن نرد بان هذه الايات تنطبق على لندن وباريس وبرلين وموسكو ..
بمثل ما تنطبق على القاهرة ودمشق وجدة ..
واذا مشينا في شوارع موسكو فسوف نجد من يسير على رجليه ..
ومن يركب بسكليت . ومن يركب عربة موسكوفتش ..
ومن يركب عربة زيم فاخرة ..
وماذا يكون هذا الا التفاضل في الرزق بعينه والدرجات والرتب الاقتصادية ..
والتفاوت بين الناس حقيقة جوهرية ..
ولم تستطع الشيوعية ان تلغي التفاوت ..
ولم يقل حتى غلاة المادية والفوضوية بالمساواة ..
والمساواة غير ممكنة فكيف نساوي بين غير متساويين ..
الناس يولدون من لحظة الميلاد غير متساوين في الذكاء والقوة والجمال والمواهب ..
يولدون درجات في كل شيء ..
واقصى ما طمعت فيه المذاهب الاقتصادية هي المساواة في الفرص وليس المساواة بين الناس ..
ان يلقى كل واحد نفس الفرصة في التعليم والعلاج والحد الادنى للمعيشة ..
وهو نفس ما تحض عليه الاديان ..
اما الغاء الدرجات والغاء التفاوت فهو الظلم بعينه والامر الذي ينافي الطبيعة ..
والطبيعة تقوم كلها على اساس التفاضل والتفاوت والتنوع في ثمار الارض وفي البهائم وفي الناس ..
في القطن نجد طويل التيلة . وقصير التيلة ..
وفي الحيوان والانسان نجد الرتب والدرجات والتفاوت اكثر ..
هذا هو قانون الوجود كله .. التفاضل ..
وحكمة هذا القانون واضحة . فلو كان جميع الناس يولدون بخلقة واحدة وقالب واحد ونسخة واحدة ..
لما كان هناك داع لميلادهم اصلا .
وكان يكفي ان نأتي بنسخة واحدة فتغني عن الكل ..
وكذلك الحال في كل شيء ..
ولانتهي الامر إلى فقر الطبيعة وافلاسها ..
وانما غنى الطبيعة وخصبها لايظهر الا بالتنوع في ثمارها وغلاتها والتفاوت في الوانها واصنافها ..
ومع ذلك فالدين لم يسكت على هذا التفاوت بين الاغنياء والفقراء ..
بل امر بتصحيح الاوضاع وجعل للفقير نصيباً من مال الغني .
وقال ان هذا التفاوت فتنة وامتحان ..
( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة اتصبرون )
سوف نرى ماذا يفعل القوي بقوته .
هل ينجد بها الضعفاء او يضرب ويقتل ويكون جباراً في الارض ...؟
وسوف نرى ماذا يفعل الغني بغناه ..
هل يسرف ويطغى ..؟ او يعطف ويحسن ..؟
وسوف نرى ماذا يفعل الفقير بفقره ..
هل يحسد ويحقد ويسرق ويختلس ..
او يعمل ويكد ويجتهد ليرفع مستوى معيشته بالشرع والعدل ..
وقد امر الدين بالعدل وتصحيح الاوضاع بالمساواة بين الفرص ..
وهدد بعذاب الاخرة وقال ان الاخرة ستكون ايضاً درجات اكثر تفاوتاً لتصحيح ما لم يجر تصحيحه في الارض .
(( وللاخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا ))
وللذين يتهمون الإسلام بالرجعية السياسية نقول إن الإسلام أتى بأكثر الشرائع تقدمية في نظم الحكم .
احترام الفرد في الإسلام بلغ الذروة .. وسبق ميثاق حقوق الإنسان وتفوق عليه .. فماذا يساوي الفرد الواحد في الإسلام إنه يساوي الإنسانية كلها .
( من قتل نفا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) .
لا تغني المنجزات ولا الإصلاحات المادية ولا التعمير ولا السدود ولا المصانع .. إذا قتل الحاكم فردا واحدا ظلما في سبيل هذا الإصلاح ، فإنه يكون قد قتل الناس جميعا.
ذروة في احترام الفرد لم يصل إليها مذهب سياسي قديم أو جديد .. فالفرد في الإسلام له قيمة مطلقة بينما في كل المذاهب السياسية له قيمة نسبية .. والفرد في الإسلام آمن في بيته .. وفي أسراره " لا تجسس ولا غيبة " آمن في ماله ورزقه وملكيته وحريته .
كل شيء حتى التحية حتى إفساح المجلس حتى الكلمة الطيبة لها مكان في القرآن .
وقد نهى القرآن عن التجبر والطغيان والإنفراد بالحكم .
وقال الله للنبي " وهو من هو في كماله وصلاحيته " .
( وما أنت عليهم بجبار ) .
( فذكر إنما أنت مذكر .. لست عليهم بمسيطر ) .
( إنما المؤمنون إخوة ) .
ونهى عن عبادة الحاكم وتأليه العظيم :
( لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) .
( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) .
ونهى عن الغوغائية وتملق الدهماء والسوقة والجري وراء الأغلبية المضللة وقال أن :
( بل أكثر الناس لا يعلمون ) .
( بل أكثرهم لا يعقلون ) .
( أكثر الناس لا يؤمنون ) .
( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) . " يكذبون "
( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل ) .
ونهى عن العنصرية والعرقية :
( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) .
وبالمعنى العلمي كان الإسلام تركيبا جدليا جامعا بين مادية اليهودية وروحانية المسيحية ، بين العدل الصارم الجاف الذي يقول : السن بالسن والعين بالعين . وبين المحبة والتسامح المتطرف الذي يقول : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر .
وجاء القرآن وسطا بين التوراة التي حرفت حتى أصبحت كتابا ماديا ليس فيه حرف واحد عن الآخرة ، وبين الإنجيل الذي مال إلى رهبانية تامة ، ونادى القرآن بناموس الرحمة الجامع بين العدل والمحبة فقال بشرعية الدفاع عن النفس ولكنه فضل العفو والصفح والمغفرة .
( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) .
وإذا كانت الرأسمالية أطلقت للفرد حرية الكسب إلى درجة استغلال الآخرين .. وإذا كانت الشيوعية سحقت هذه الحرية تماما .. فإن الإسلام قدم الحل الوسط .
( للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) .
الفرد حر في الكسب ولكن ليس له أن يأخذ ثمرة أرباحه كلها .. وإنما له فيها نصيب .. وللفقير نصيب يؤخذ زكاة وإنفاقا من 2.5 في المائة إلى 90% جبرا واختيارا .. وهذا النصيب ليس تصدقا وتفضلا وإنما هو حق الله في الربح .. وبهذه المعادلة الجميلة حفظ الإسلام للفرد حريته وللفقير حقه .
ولهذا أصاب القرآن كل الصواب حينما خاطب أمة الإسلام قائلا :
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) .
فقد اختار الإسلام الوسط العدل في كل شيء .
وهو ليس الوسط الحسابي وإنما الوسط الجدلي أو التركيب الذي يجمع النقيضين " اليمين واليسار " ويتجاوزهما ويزيد عليهما .. ولذلك ليس في الإسلام يمين ويسار وإنما فيه " صراط " الاعتدال الوسط الذي نسميه الصراط المستقيم من خارج عنه باليمين أو اليسار فقد انحرف .
ولم يقيدنا القرآن بدستور سياسي محدد أو منهج مفصل للحكم لعلم الله بأن الظروف تتغير بما يقتضي الاجتهاد في وضع دساتير متغيرة في الأزمنة المتغيرة ، وحتى يكون الباب مفتوحا أمام المسلمين للأخذ والعطاء من المعارف المتاحة في كل عصر دون انغلاق على دستور بعينه .
ولهذا اكتفى القرآن بهذه التوصيات السياسية العامة السالفة كخصائص للحكم الأمثل .. ولم يكبلنا بنظرية وهذا سر من أسرار إعجازه وتفوقه وليس فقرا ولا نقصا فيه .
وتلك لمسة أخرى من تقديمة القرآن التي سبقت كل التقديمات .
ونرد على القائلين بأن الدين جمود وتحجر .. بأن الإسلام لم يكن أبدا دين تجمد وتحجر وإنما كان دائما وأبدا دين نظر وفكر وتطوير وتغيير بدليل آياته الصريحة .
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) .
( فلينظر الإنسان مم خلق .. خلق من ماء دافق .. يخرج من بين الصلب والترائب )
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى
لأرض كيف سطحت ) .
أوامر صريحة بالنظر في خلق الإنسان وفي خلق الحيوان وفي خلق الجبال وفي طبقات الأرض وفي السماء وأفلاكها .. والتشريح والفسيولوجيا والبيولوجيا وعلم الأجنة .
أوامر صريحة بالسير في الأرض وجمع الشواهد واستنباط الأحكام والقوانين ومعرفة كيف بدأ الخلق .. وهو ما نعرفه الآن بعلوم التطور .
ولا خوف من الخطأ .
فالإسلام يكافئ الذي يجتهد ويخطئ بأجر والذي يجتهد ويصيب بأجرين .
وليس صحيحا ما يقال من أننا تخلفنا بالدين وتقدم الغرب بالإلحاد .. والحق أننا تخلفنا حينما هجرنا أوامر ديننا .
وحينما كان المسلمون يأتمرون بهذه الآيات حقا كان هناك تقدم وكانت هناك دولة من المحيط إلى الخليج وعلماء مثل ابن سينا في الطب وابن رشد في الفلسفة وابن الهيثم في الرياضيات وابن النفيس في التشريح وجابر بن حيان في الكيمياء .
وكانت الدنيا تأخذ عنا علومنا .. وما زالت مجمعات النجوم وأبراجها تحتفظ إلى الآن بأسمائها العربية في المعاجم الأوروبية .. وما زالوا يسمون جهاز التقطير بالفرنسية imbique ومنه الفعل من كلمة أمبيق العربية . imbiquer ولم يتقدم الغرب بالإلحاد بل بالعلم .
وإنما وقع الخلط مما حدث في العصور الوسطى من طغيان الكنيسة ومحاكم التفتيش وحجرها على العلم والعلماء وما حدث من سجن غاليليو وحرق جيوردانو برونو .
حينما حكمت الكنيسة وانحرف بها البابوات عن أهدافها النبيلة فكانت عنصر تأخر .. فتصور النقاد السطحيون أن هذا ينسحب أيضا على الإسلام وهو خطأ .. فالإسلام ليس بابوية ولا كهنوت ..
الله لم يقم بينه وبين المسلمين أوصياء ولا وسطاء .
وحينما حكم الإسلام بالفعل كان عنصر تقدم كما شرحنا وكما يقول التاريخ مكذبا هذه المزاعم السطحية .
وآيات القرآن الصريحة تحض على العلم وتأمر بالعلم ولا تقيم بين العلم والدين أي تناقض :
( وقل رب زدني علما ) .
( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .
( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) .
جعل الله الملائكة وأولي العلم في الآية مقترنين بشرف اسمه ونسبته .
وأول آية في القران وأول كلمة كانت " اقرأ " والعلماء في القرآن موعودون بأرفع الدرجات :
( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) .
وتتكرر كلمة العلم ومشتقاته في القرآن نحوا من ثمانمائة وخمسين مرة .
فكيف يتكلم بعد هذا متكلم عن تناقض بين الدين والعلم أو حجر من الدين على العلم .
والنظر في الدين وتطوير فهمه مطلوب ، وتاريخ الإسلام كله حركات إحياء وتطوير .. والقرآن بريء من تهمة التحجير على الناس وكل شيء في ديننا يقبل التطوير .. ما عدا جوهر العقيدة وصلب الشريعة .. لأن الله واحد ولن يتطور إلى اثنين أو ثلاثة .. هذا أمر مطلق .. وكذلك الشر شر والخير خير .. لن يصبح القتل فضيلة ولا السرقة حسنة ولا الكذب حلية يتحلى بها الصالحون .
وفيما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر والاجتهاد والإضافة والتطوير .
وجوهر الإسلام عقلاني منطقي يقبل الجدل والحوار ويحض على استخدام العقل والمنطق .
وفي أكثر من مكان وفي أكثر من صفحة في القرآن نعثر على التساؤل .. " أفلا يعقلون " .. " أفلا يفقهون " .
وأهل الدين عندنا هم " أولو الألباب " .
( شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) .
( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ) .
احترام العقل في لب وصميم الديانة .
والإيجابية عصبها والثورة روحها .
لم يكن الإسلام أبدا خانعا ولا سلبيا .
( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) .
( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) .
والجهاد بالنفس والمال والأولاد .. والقتال والثبات وعدم النكوص على الأعقاب ، ومواجهة اليأس والمصابة والمرابطة في صلب ديننا .
فكيف يمكن لدين بهذه المرونة والعقلانية والعلمية والإيجابية والثورة أن يتهم بالتحجر والجمود إلا من صديق عزيز مثل الدكتور القادم من فرنسا لا يعرف من أوليات دينه شيئا ولم يقرأ في قرآنه حرفا .
من كتاب : حوار مع صديقي الملحد
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } 17 سورة الأنفال
هنا تلتقي رمية العبد والرمية المقدَّرة من الرب ، فتكون رمية واحدة.. وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر .. على العبد النية، وعلى الله التمكين، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر
والحرية الإنسانية ليست مقداراً ثابتاً ، ولكنها قدرة نسبية قابلة للزيادة . ❝
❞ الفصل السادس عشر
كـــهـــيــعــص ..
قلت لصديقي الملحد :
♦ ♦ لا شك أن هذه الحروف المقطعة في أوائل السور قد صدمتك حينما طالعتها لأول مرة .. هذه الـ حم ، طسم ، الم ، كهيعص ، ق ، ص ..
تُرى ماذا قلت لنفسك و أنت تقرأها ؟
إكتفى بأن يمط شفتيه في لا مبالاة و يقول في غمغمة مبتورة :-
♦ يعنى .
♦ ♦ يعنى ماذا .. ؟
♦ يعنى .. أي كلام يضحك به النبي عليكم .
♦ ♦ حسنـًا دعنا نختبر هذا الكلام الذي تدَّعي أنه كلام فارغ و الذي تصورت أن النبي يضحك به علينا .
و دعنا نأخذ سورة صغيرة بسيطة من هذه السور .. سورة ق مثـلاً .. و نُجرى تجربة .. فَنَعُد ما فيها من قافات و سنجد أن فيها 57 قافـًا .. ثم نأخذ السورة التالية و هي سورة الشورى و هي ضعفها في الطول و في فواتحها حرف ق أيضـًا .. و سنجد أن فيها هي الأخرى 57 قافـًا .
هل هي صدفة .. ؟!
لنجمع 57 + 57 = 114 عدد سور القرآن ..
هل تذكر كيف تبدأ سورة ق .. و كيف تختتم .. في بدايتها (( ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ )) و في ختامها .. ((فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ )) ..
و كأنما هي إشارات بأن ق ترمز للقرآن .. ( و مجموع القافات 114 و هي مجموع سور القرآن) .
قال صاحبي في لا مبالاة :
♦ هذه أمور من قبيل الصدف .
قلت في هدوء :
♦ ♦ سنمضى في التجربة و نضع ســور القرآن في العقل الإلكترونيّ و نسأله أن يقدم لنا إحصائية بمعدلات توارد حرف القاف في جميع السور .
قال و قد توترت أعصابه و تيقظ تمامـًا :
♦ و هل فعلوها ؟
قلت في هدوء :
♦ ♦ نعم فعلوها .
♦ و ماذا كانت النتيجة ؟
♦ ♦ قال لنا العقل الإلكترونيّ أن أعلى المتوسطات و المعدلات موجودة في سورة ق و أن هذه السورة قد تفوقت حسابيـًا على كل المصحف في هذا الحرف .. هل هي صدفة أخرى ؟ !
♦ غريب .
♦ ♦ و ســورة الرعـد تبدأ بالحروف ( ا ل م ر ) قدم لنا العقل الإلكترونيّ إحصائية بتوارد هذه الحروف في داخل الســور كالآتى :
( ا ) تَرِدْ 625 مرة .
( ل ) تَرِدْ 479 مرة .
( م ) تَرِدْ 260 مرة .
( ر ) تَرِدْ 137 مرة .
هكذا و في ترتيب تنازلي ( ا ثم ل ثم م ثم ر ) .. بنفس الترتيب الذي كُتِبَتْ به ( ا ل م ر ) تنازليـًا
ثم قام العقل الإلكترونيّ بإحصاء معدلات توارد هذه الحروف في المصحف كله .. و ألقى إلينا بالقنبلة الثانية ..
أن أعلى المعدلات و المتوسطات لهذه الحروف هي في سورة الرعد .. و أن هذه السورة تفوقت حسابيـًا في هذه الحروف على جميع المصحف .
نفس الحكاية في ( ا ل م ) البقرة :
( ا ) وردت 4592 مرة .
( ل ) وردت 3204 مرات .
( م ) وردت 2195 مرة .
بنفس الترتيب التنازلي ( ا ل م ) .
ثم يقول لنا العقل الإلكترونيّ أن هذه الحروف الثلاثة لها تفوق حسابي على باقي الحروف في داخل سورة البقرة .
نفس الحكاية في ( ا ل م ) سورة آل عمران :
( ا ) وردت 2578 مرة .
( ل ) وردت 1885 مرة .
( م ) وردت 1251 مرة .
بنفس الترتيب التنازلي ( ا ل م ) .
و هي تتوارد في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف .
نفس الحكاية ( ا ل م ) سورة العنكبوت :
( ا ) وردت 784 مرة .
( ل ) وردت 554 مرة .
( م ) وردت 344 مرة .
بنفس الترتيب التنازلي ( ا ل م ) و هي تتوارد في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف .
نفس الحكاية في ( ا ل م ) سورة الروم :
( ا ) وردت 547 مرة .
( ل ) وردت 396 مرة .
( م ) وردت 318 مرة .
بنفس الترتيب ( ا ل م ) ثم هي تتوارد في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف .
و في جميع السور التي ابتدأت بالحروف ( ا ل م ) نجد أن السور المكية تتفوق حسابيـًا في معدلاتها على باقي السور المكية ..
و المدنية تتفوق حسابيـًا في معدلاتها من هذه الحروف على باقي السور المدنية .
و بالمثل في ( ا ل م ص ) سورة الأعراف :
يقول لنا العقل الإلكترونيّ أن معدلات هذه الحروف هي أعلى ما تكون في سورة الأعراف ، و أنها تتفوق حسابيـًا على كل السور المكية في المصحف .
و في سورة طـه نجد أن الحرف ( طـ ) و الحرف ( هـ ) يتواردان فيها بمعدلات تتفوق على كل السور المكية .. و كذلك في ( كهيعص ) مريم ترتفع معدلات هذه الحروف على كل السور المكية في المصحف .
كما نجد أن جميع السور التي افتتحت بالحروف ( حـم ) .. إذا ضمت إلى بعضها فإن معدلات توارد الحرف ( ح ) و الحرف ( م ) تتفوق على كل السور المكية في المصحف .
و بالمثل السورتان اللتان افتتحتا بحرف ( ص ) و هما سورة" ص " و الأعراف ( ا ل م ص ) و يلاحظ أنهما نزلتا متتابعتين في الوحي .. إذا ضمتا معـًا تفوقتا حسابيـًا في هذه الحروف على باقي المصحف .
و كذلك السور التي افتتحت بالحروف ( ا ل ر ) و هي إبراهيم و يونس و هود و يوسف و الحجر و أربع منها جاءت متتابعة في تواريخ الوحي .. إذا ضمت لبعضها .. أعطانا العقل الإلكترونيّ أعلى معدلات في نسبة توارد حروفها ( ا ل ر ) على كل السور المكية في المصحف .
أما في سورة يـس فإننا نلاحظ أن الدلالة موجودة و لكنها انعكست ..
لأن ترتيب الحروف انعكس : فالياء في الأول .. يـس " بعكس الترتيب الأبجدي " . و لهذا نرى أن توارد الحرف ( ي ) و الحرف ( س ) هو أقل من توارده في جميع المصحف مدنيـًا و مكـيًا .
فالدلالة الإحصائية هنا موجودة و لكنها انعكست .
# كان صاحبي قد سكت تمامـًا . قلت وأنا أطمئنه :
♦ ♦ أنا لا أقول هذا الكلام من عند نفسي و إنما هي دراسة قام بها عالم مصريّ في أمريكا هو الدكتور رشاد خليفة ..
و هذا الكتاب الذي بين يديك يقدم لك هذه الدراسة مفصلة :Miracle of Quranslamic Productions international in St. Louis mo
و قدمت إليه كتابًا إنجليزيًا مطبوعًا في أمريكا للمؤلف .
أخذ صاحبي يقلب الكتاب في صمت . قلت :
♦ ♦ لم تعد المسألة صدفة .. و إنما نحن أمام قوانين محكمـة و حروف محسوبة كل حرف وُضِع بميزان .. و رحت أتلو عليه من سورة الشورى : { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } الشورى – 17 . و أي ميـــزان ! ! .. نحن هنا أمام ميزان يدق حتى يزن الشعرة و الحرف ..
أظن أن فكرة النبي الذي يؤلف القرآن و يقول لنفسه سلفـًا سوف أؤلف ســورة الرعد من حروف ( ا ل م ر ) و أورد بها أعلى معدلات من هذه الحروف على باقي الكتاب و هو لم يؤلف بعد الكتاب .. مثل هذا الظن لم يعد جائزًا ..
و أين هذا الذي يُحصى له هذه المعدلات و هي مهمة لا يستطيع أن يقوم بها إلا عقل إلكتروني و لو تكفل هو بها فإنه سيقضى بضع سنين ليحصي الحروف في سورة واحدة يجمع و يطرح بعلوم عصره و هو لا يعرف حتى علوم عصره و هو سيؤلف أو يشتغل عدادًا للحروف .
نحن هنا أمام إستحالة . فإذا عرفنا أن القرآن نزل مفرَقـًا و مقطعًا على23 سنة .. فإنا سوف نعرف أن وضع معدلات إحصائية مسبقة بحروفه هي استحالة أخرى .. و أمر لا يمكن أن يعرفه إلا العليم الذي يعلم كل شيء قبل حدوثه و الذي يحصى بأسرع و أدق من كل العقول الإلكترونية .. الله الذي أحاط بكل شيء علمًا ..
و ما هذه الحروف المقطعة في فواتح السور إلا رموز علمه بثها في تضاعيف كتابه لنكشفها نحن على مدى الزمان .
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَ فِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } فصلت - 53 .
و لا أقول أن هذه كل أسرار الحروف .. بل هي مجرد بداية لا أحد يدرى إلى أي آفاق سوف توصلنا . و هذه الحروف بهذه الدلالة الجديدة تنفي نفيًا باتًا شبهة التأليف .
ثم هي تضعنا أمام موازين دقيقة و دلالات عميقة لكل حرف فلا يجرؤ أحدنا أن يقول أنه أمام .. أي كلام ..
ألا ترى يا صاحبي أنك أمام كلام لا يمكن أن يكون أي كلام ..
و لم يُجِب صاحبي .. و إنما ظل يقلب الكتاب الإنجليزى و يتصفحه ثم يعود يقلبه دون أن ينطق بحرف .
كتاب /حوار مع صديقى الملحد . ❝
❞ ونجد هذه الدقة القرآنية مرة أخرى في تناول القرآن للزمن .. فالمستقبل يأتي ذكره على لسان الخالق على أنه ماض .. فأحداث يوم القيامة ترد كلها على أنها ماض :
" و نفخ في الصور"
"و انشقت السماء فهي يومئذ واهية "
"و برزت الجحيم للغاوين"
"وعرضوا على ربك صفا"
و السر في ذلك أن كل الأحداث حاضرها و مستقبلها قد حدثت في علم الله و ليس عند الله زمن يحجب عنه المستقبل ، فهو سبحانه فوق الزمان والمكان ، و لهذا نقرأ العبارة القرآنية أحياناً فنجد أنها تتحدث عن زمانين مختلفين ، و تبدو في ظاهرها متناقضة مثل :
"أتى أمر الله فلا تستعجلوه"
فالأمر قد أتى و حدث في الماضي .
لكن الله يخاطب الناس بألا يستعجلوه كما لو كان مستقبلًا لم يحدث بعد .. و السر كما شرحنا أنه حدث في علم الله ، لكنه لم يحدث بعد في علم الناس ، ولا تناقض .. و إنما دقة و إحكام ، و خفاء و استسرار ، و صدق في المعاني العميقة . ❝
❞ والقضاء والقدر لا يصح أن يُفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم .. وإنما على العكس
الله يقضي على كل إنسان من جنس نيته .. ويشاء له من جنس مشيئته ، ويريد له من جنس إرادته ، لا ثنائية ... تسيير الله هو عين تخيير العبد ، لأنه الله يسيِّر كل امرئ على هوى قلبه وعلى مقتضى نياته . ❝
❞ فارق كبير بين الكبرياء والتواضع.. وبين العلو وخفض الجناح.. بين الجبروت والوداعة.. ولهذا فأنتم في ديانتكم الوثنية وإيمانكم بهذه القوة الكهرمغناطيسية العمياء لا تصلون ولا تسجدون..
– ولماذا نصلي ولمن نصلي إني لا أرى لصلاتكم هذه أي حكمةولماذا كل تلك الحركات أما كان يكفي الخشوع
– حكمة الصلاة أن يتحطم هذا الكبرياء المزيف الذي تعيش فيه لحظة سجودك وملامسة جبهتك التراب وقولك بلسانك وقلبك سبحان ربي الأعلى وقد عرفت مكانك أخيراً وأنك أنت الأدنى وهو الأعلى.. وأنك تراب على التراب.. وهو ذات منزهة من فوق سبع سماوات..أما لماذا الحركات في الصلاة، ولماذا لا نكتفي بالخشوع القلبي فإني أسألك بدوري :ولماذا خلق لك الجسد أصلاً.. و لماذا لا تكتفي بالحب الشفوي فتريد أن تعانق وتقبل.. لماذا لا تكتفي بالكرم الشفوي فتجود باليد و المال .. بل خلق الله لك الجسد إذا كان خشوعك صادقاً فاض على جسدك فركعت وسجدت .. وإن كان خشوعك زائفاً لم يتعد لسانك ..
– هل تعتقد أنك ستدخل الجنة..؟
– كلنا سنرِدُ النار.. ثم ينجي الله الذين اتقوا.. ولا أعرف هل اتقيت أم لا ؟.. يعلم هذا علام القلوب.. و كل عملي – للأسف – حبر على ورق .. و قد يسلم العمل و لا تسلم النية .. و قد تسلم النية و لا يسلم الإخلاص .. فيظن الواحد منا أنه يعمل الخير لوجه الله وهو يعمله للشهرة والدنيا والجاه بين الناس.. وما أكثر ما يخدع الواحد منا في نفسه ويدخل عليه التلبيس وحسن الظن والاطمئنان الكاذب من حيث لا يدري.. نسأل الله السلامة..
– وهل يستطيع الإنسان أن يكون مخلصاً ؟
– لا يملك ذلك من تلقاء نفسه.. وإنما الله هو الذي يخلص القلوب.. ولهذا يتكلم القرآن في أكثر الآيات عن المخلَصين – بفتح اللام – وليس المخلِصين بكسر اللام.. ولكن الله وعد بأن ” يهدي إليه من ينيب ”
أي كل من يؤوب ويرجع إليه.. فعليك بالرجوع إليه.. و عليه الباقي..🤎
. ❝
❞ حوار مع صديقي الملحد .
إذا كان الله قدَّر عليّ أفعالي فلماذا يحاسبني؟
قال صديقي في شماتة وقد تصوّر أنه أمسكني من عنقي وأنه لا مهرب لي هذه المرة :
أنتم تقولون إن الله يُجري كل شيء في مملكته بقضاء وقدر، وإن الله قدَّر علينا أفعالنا ، فإذا كان هذا هو حالي ، وأن أفعالي كلها مقدّرة عنده فلماذا يحاسبني عليها ؟
لا تقل لي كعادتك .. أنا مخيـَّر .. فليس هناك فرية أكبر من هذه الفرية ودعني أسألك :
هل خُـيّرتُ في ميلادي وجنسي وطولي وعرضي ولوني ووطني ؟
هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر ؟
هل باختياري ينزل عليَّ القضاء ويفاجئني الموت وأقع في المأساة فلا أجد مخرجاً إلا الجريمة ..
لماذا يُكرهني الله على فعل ثم يؤاخذني عليه ؟
وإذا قلت إنك حر ، وإن لك مشيئة إلى جوار مشيئة الله ألا تشرك بهذا الكلام وتقع في القول بتعدد المشيئات ؟
ثم ما قولك في حكم البيئة والظروف ، وفي الحتميات التي يقول بها الماديون التاريخيون ؟
أطلق صاحبي هذه الرصاصات ثم راح يتنفس الصعداء في راحة وقد تصوَّر أني توفيت وانتهيت ، ولم يبق أمامه إلا استحضار الكفن..
قلت له في هدوء :
أنت واقع في عدة مغالطات .. فأفعالك معلومة عند الله في كتابه ، ولكنها ليست مقدورة عليك بالإكراه .. إنها مقدَّرة في علمه فقط .. كما تقدِّر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني .. ثم يحدث أن يزني بالفعل .. فهل أكرهته .. أو كان هذا تقديراً في العلم وقد أصاب علمك ..
أما كلامك عن الحرية بأنها فرية ، وتدليلك على ذلك بأنك لم تخيَّر في ميلادك ولا في جنسك ولا في طولك ولا في لونك ولا في موطنك ، وأنك لا تملك نقل الشمس من مكانها .. هو تخليط آخر ..
وسبب التخليط هذه المرة أنك تتصوَّر الحرية بالطريقة غير تلك التي نتصورها نحن المؤمنين ..
أنت تتكلم عن حرية مطلقة .. فتقول .. أكنت أستطيع أن أخلق نفسي أبيض أو أسود أو طويلا أو قصيراً .. هل بإمكاني أن أنقل الشمس من مكانها أو أوقفها في مدارها .. أين حريتي ؟
ونحن نقول له : أنت تسأل عن حرية مطلقة .. حرية التصرف في الكون وهذه ملك لله وحده .. نحن أيضاً لا نقول بهذه الحرية { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } 68 سورة القصص
ليس لأحد الخيرة في مسألة الخلق ، لأن الله هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ..
ولن يحاسبك الله على قِصَرك ولن يعاتبك على طولك ولن يعاقبك لأنك لم توقف الشمس في مدارها ، ولكن مجال المساءلة هو مجال التكليف .. وأنت في هذا المجال حر .. وهذه هي الحدود التي نتكلم فيها ..
أنت حر في أن تقمع شهوتك وتلجم غضبك وتقاوم نفسك وتزجر نياتك الشريرة وتشجع ميولك الخيرة..
أنت تستطيع أن تجود بمالك ونفسك ..
أنت تستطيع أن تصدق وأن تكذب ..
وتستطيع أن تكف يدك عن المال الحرام ..
وتستطيع أن تكف بصرك عن عورات الآخرين ..
وتستطيع أن تمسك لسانك عن السباب والغيبة والنميمة ..
في هذا المجال نحن أحرار ..
وفي هذا المجال نُحاسَب ونُسأل ..
الحرية التي يدور حولها البحث هي الحرية النسبية وليست الحرية المطلقة حرية الإنسان في مجال التكليف..
وهذه الحرية حقيقة ودليلنا عليها هو شعورنا الفطري بها في داخلنا فنحن نشعر بالمسئولية وبالندم على الخطأ ، وبالراحة للعمل الطيب .. ونحن نشعر في كل لحظة أننا نختار ونوازن بين احتمالات متعددة ، بل إن وظيفة عقلنا الأولى هي الترجيح والاختيار بين البديلات ..
ونحن نفرق بشكل واضح وحاسم بين يدنا وهي ترتعش بالحمى ، ويدنا وهي تكتب خطاباً .. فنقول إن حركة الأولى جبرية قهرية ، والحركة الثانية حرة اختيارية .. ولو كنا مسيرين في الحالتين لما استطعنا التفرقة ..
ويؤكد هذه الحرية ما نشعر به من استحالة إكراه القلب على شيء لا يرضاه تحت أي ضغط .. فيمكنك أن تُكره امرأة بالتهديد والضرب على أن تخلع ثيابها .. ولكنك لا تستطيع بأي ضغط أو تهديد أن تجعلها تحبك من قلبها ومعنى هذا أن الله أعتق قلوبنا من كل صنوف الإكراه والإجبار ، وأنه فطرها حرة ..
ولهذا جعل الله القلب والنية عمدة الأحكام ، فالمؤمن الذي ينطق بعبارة الشرك والكفر تحت التهديد والتعذيب لا يحاسب على ذلك طالما أن قلبه من الداخل مطمئن بالإيمان ، وقد استثناه الله من المؤاخذة في قوله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ٌ} 106 سورة النحل
والوجه الآخر من الخلط في هذه المسألة أن بعض الناس يفهم حرية الإنسان بأنها علو على المشيئة ، وانفراد بالأمر ، فيتهم القائلين بالحرية بأنهم أشركوا بالله وجعلوا له أنداداً يأمرون كأمره ، ويحكمون كحكمه ، وهذا ما فهمته أنت أيضاً .. فقلت بتعدد المشيئات .. وهو فهم خاطئ .. فالحرية الإنسانية لا تعلو على المشيئة الإلهية ..
إن الإنسان قد يفعل بحريته ما ينافي الرضا الإلهي ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما ينافي المشيئة ..
الله أعطانا الحرية أن نعلو على رضاه "فنعصيه" ، ولكن لم يعط أحداً الحرية في أن يعلو على مشيئته .. وهنا وجه آخر من وجوه نسبية الحرية الإنسانية ..
وكل ما يحدث منا داخل في المشيئة الإلهية وضمنها ، وإن خالف الرضا الإلهي وجانب الشريعة ..
وحريتنا ذاتها كانت منحة إلهية وهبة منحها لنا الخالق باختياره .. ولم نأخذها منه كرهاً ولا غصباً ..
إن حريتنا كانت عين مشيئته ..
ومن هنا معنى الآية : {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ } 30 سورة الإنسان
لأن مشيئتنا ضمن مشيئته ، ومنحة منه ، وهبة من كرمه وفضله ، فهي ضمن إرادته لا ثنائية ولا تناقض ، ولا منافسة منا لأمر الله وحكمه ..
والقول بالحرية بهذا المعنى لا ينافي التوحيد ، ولا يجعل لله أنداداً يحكمون كحكمه ويأمرون كأمره .. فإن حرياتنا كانت عين أمره ومشيئته وحكمه ..
والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسيير والتخيير .. فهموا القضاء والقدر بأنه إكراه للإنسان على غير طبعه وطبيعته وهذا خطأ وقعت فيه أنت أيضاً .. وقد نفى الله عن نفسه الإكراه بآيات صريحة :
{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 4 سورة الشعراء
والمعنى واضح .. أنه كان من الممكن أن نُكره الناس على الإيمان بالآيات الملزمة ، ولكننا لم نفعل .. لأنه ليس في سنتنا الإكراه ..
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } 256 سورة البقرة
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } 99 سورة يونس
ليس في سُنة الله الإكراه ..
والقضاء والقدر لا يصح أن يُفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم .. وإنما على العكس ..
الله يقضي على كل إنسان من جنس نيته .. ويشاء له من جنس مشيئته ، ويريد له من جنس إرادته ، لا ثنائية ... تسيير الله هو عين تخيير العبد ، لأنه الله يسيِّر كل امرئ على هوى قلبه وعلى مقتضى نياته ..
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا } 20 سورة الشورى
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } 10 سورة البقرة
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } 17 سورة محمد
وهو يخاطب الأسرى في القرآن :
{ إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } 70 سورة الأنفال
الله يقضي ويقدِّر ، ويجري قضاءه وقدره على مقتضى النية والقلب .. إن شراً فشر وإن خيراً فخير..
ومعنى هذا أنه لا ثنائية .. التسيير هو عين التخيير .. ولا ثنائية ولا تناقض ..
الله يسيِّرنا إلى ما اخترناه بقلوبنا ونياتنا، فلا ظلم ولا إكراه ولا جبر ، ولا قهر لنا على غير طبائعنا ..
{ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } 5 سورة الليل
{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } 17 سورة الأنفال
هنا تلتقي رمية العبد والرمية المقدَّرة من الرب ، فتكون رمية واحدة.. وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر .. على العبد النية، وعلى الله التمكين، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر..
والحرية الإنسانية ليست مقداراً ثابتاً ، ولكنها قدرة نسبية قابلة للزيادة ..
الإنسان يستطيع أن يزيد من حريته بالعلم .. باختراع الوسائل والأدوات والمواصلات استطاع الإنسان أن يطوي الأرض ، ويهزم المسافات ، ويخترق قيود الزمان والمكان .. وبدراسة قوانين البيئة استطاع أن يتحكم فيها ويسخرها لخدمته، وعرف كيف يهزم الحر والبرد والظلام ، وبذلك يضاعف من حرياته في مجال الفعل ..
العلم كان وسيلة إلى كسر القيود والأغلال وإطلاق الحرية ..
أما الوسيلة الثانية فكانت الدين .. الاستمداد من الله بالتقرب منه .. والأخذ عنه بالوحي والتلقي والتأييد .. وهذه وسيلة الأنبياء ومن في دربهم ..
سخّر سليمان الجن وركب الريح وكلّم الطير بمعونة الله ومدده ..
وشق موسى البحر .. وأحيا المسيح الموتى .. ومشى على الماء .. وأبرأ الأكمه والأبرص والأعمى ..
ونقرأ عن الأولياء أصحاب الكرامات الذين تُطوى لهم الأرض وتكشف لهم المغيبات ..
وهي درجات من الحرية اكتسبوها بالاجتهاد في العبادة والتقرب إلى الله والتحبب إليه .. فأفاض عليهم من علمه المكنون ..
إنه العلم مرة أخرى ..
ولكنه هذه المرة العلم "اللدني" ..
ولهذا يُلخص أبو حامد الغزالي مشكلة المخيَّر والمسيَّر قائلاً في كلمتين :
الإنسان مخيَّر فيما يعلم ..
مسيَّر فيما لا يعلم ..
وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته .. سواء كان العلم المقصود هو العلم الموضوعي أو العلم اللدنِّي ..
ويخطئ المفكرون الماديون أشد الخطأ حينما يتصورون الإنسان أسير الحتميات التاريخية والطبقية .. ويجعلون منه حلقة في سلسلة من الحلقات لا فكاك له ، ولا مهرب من الخضوع لقوانين الاقتصاد وحركة المجتمع ، كأنما هو قشة في تيار بلا ذراعين وبلا إرادة ..
والكلمة التي يرددونها ولا يتعبون من ترديدها وكأنها قانون : "حتمية الصراع الطبقي" وهي كلمة خاطئة في التحليل العلمي ، لأنه لا حتميات في المجال الإنساني ، وإنما على الأكثر ترجيحات واحتمالات .. وهذا هو الفرق بين الإنسان ، وبين التروس ، والآلات والأجسام المادية .. فيمكن التنبوء بخسوف الشمس بالدقيقة والثانية ، ويمكن التنبؤ بحركاتها المستقبلة على مدى أيام وسنين .. أما الإنسان فلا يمكن أن يعلم أحد ماذا يُضمر وماذا يُخبئ في نياته ، وماذا يفعل غداً أو بعد غد .. ولا يمكن معرفة هذا إلا على سبيل الاحتمال والترجيح والتخمين ، وذلك على فرض توفر المعلومات الكافية للحكم ..
وقد أخطأت جميع تنبؤات كارل ماركس ، فلم تبدأ الشيوعية في بلد متقدم كما تنبأ ، بل في بلد متخلف ، ولم يتفاقم الصراع بين الرأسمالية والشيوعية ، بل تقارب الاثنان إلى حالة من التعايش السلمي ، وأكثر من هذا فتحت البلاد الشيوعية أبوابها لرأس المال الأمريكي .. ولم تتصاعد التناقضات في المجتمع الرأسمالي إلى الإفلاس الذي توقعه كارل ماركس ، بل على العكس ، ازدهر الاقتصاد الرأسمالي ووقع الشقاق والخلاف بين أطراف المعسكر الاشتراكي ذاته ..
أخطأت حسابات ماركس جميعها دالة بذلك على خطأ منهجه الحتمي .. ورأينا صراع العصر الذي يحرك التاريخ هو الصراع اللاطبقي بين الصين وروسيا ، وليس الصراع الطبقي الذي جعله ماركس عنوان منهجه .. وكلها شواهد على فشل الفكر المادي في فهم الإنسان والتاريخ ، وتخبطه في حساب المستقبل .. وجاء كل ذلك نتيجة خطأ جوهري ، هو أن الفكر المادي تصوَّر أن الإنسان ذبابة في شبكة من الحتميات .. ونسي تماماً أنّ الإنسان حر .. وأن حريته حقيقة ..
أمّا كلام الماديين عن حكم البيئة والمجتمع والظروف ، وأن الإنسان لا يعيش وحده ولا تتحرك حريته في فراغ ..
نقول ردّاً على هذا الكلام : إن حكم البيئة والمجتمع والظروف كمقاومات للحرية الفردية إنما يؤكد المعنى الجدلي لهذه الحرية ولا ينفيه .. فالحرية الفردية .. لا تؤكد ذاتها إلا ّ في وجه مقاومة تزحزحها..
أما إذا كان الإنسان يتحرك في فراغ بلا مقاومة من أي نوع فإنه لا يكون حراً بالمعنى المفهوم للحرية، لأنه لن تكون هناك عقبة يتغلب عليها ويؤكد حريته من خلالها ..
كتاب حوار مع صديقي الملحد
للدكتور مصطفى محمود رحمه الله . ❝