█ حصريا تحميل كتاب مجاناً PDF اونلاين 2024
❞ بعد عشرين عاماً أمضاها في الغربة، رجع إلى قريتهِ (كوت ثويني)، حاملاً حقيبة متخمة بمؤلفاته الشعرية والقصصية. كان يوماً قائظاً من شهر حزيران، حين نزل من سيارة الأجرة في منتصف الطريق المعبّد، توقف لحظة قبل أن ينعطف يميناً، ليجوس بخطاه الشارع الترابي، الذي يتحوّل أثناء المطر إلى مادة صمغية تنزع الأحذية من الأقدام. أستنشق غبار حافات ذكرياته الأليمة.. (التمرّد على المجتمع والزمن)؛ غمغم مع نفسه وهو يحوّل الحقيبة من يده اليمنى إلى اليسرى، رَسمَ في مخيلته صوراً جميلة لاستقبال ذويه: (أختاي لابدّ إنهما تزوّجتا وأنجبتا الأطفال). أشرقت ابتسامة على محيّاه، شعر بشيء من الودّ، جعله يعجّل بخطواته في اجتياز جذوع النخيل المرصوفة فوق جداول الحياة، مراوغاً ظلال الاشتياق، المتطايرة فوق غبار أعوامه الخمسين . ❝
❞ كانت ملامح وجهه غير واضحة بسبب الدماء، لكنني ميزت شقاً صغيراً في رأسه يتدفق منه الدم، صاح أحدهم: (يجب إنقاذه، انه يموت؟).
فكرت بعائلته، بنجاته، تألمت لمنظره،لكن ما أصابني بالفزع، هو تدافع أولئك الصغار.. (اقزام! ما هذا!) تساءلت وأنا أراهم يفرّون، كمن أُطلق صراحه بعفو عام، دنوت منه، تحملت تدافع الناس، لم أكن في حلم، حتى أنني صفعت وجهي. رأيتهم يتساقطون من رأسه، بعضهم يرتدي قلنسوات، طرابيش، عمائم، ملابس رثة مثل التي ترتديها أنت الآن، نساء ورجال وصبية، صحت يا إلهي، ذُهلت وأنا أراهم يتفرقون مًسرعين بين أرجل الناس، اختفوا في جحور أو ربما شقوق جدران . ❝
❞ لحظة انحدار الشمس خلف صف المنازل، أهمل عبدالله النظر إلى وسط الشارع، حيث كان يركّز نظره على الحفر والمطبّات الصغيرة، يتألم لمرأى أكوام القمامة المتناثرة هنا وهناك، وصعّدَ بصره إلى واجهات الدور المغبرّة، ثم إلى النوافذ المغلقة وأفياء الأشجار الوارفة. وفي حين كان يمسح كل ذلك بنظرات صامتة متسائلة، كانت أشياء الشارع تفقد لونها الطبيعي، إذ أصبح الفضاء أكثر عتمة، ذهبتْ حمرة السماء وانبسطت ظُلمة باهتة كغطاء سميك يحجب الأبصار، فاتخذت الأشياء صوراً أخرى، لها رهبة تهزّ القلب.وبينما كان يقف متأملاً، وقد اعتاد على ذلك في أغلب المساءات، اجتازت سيارة (إيفا) الشارع بسرعة جنونية، تسبّبت في إثارة الغبار وتطاير الحصى الناعم، الذي أرغمهُ على التراجع للخلف، حاجباً وجههُ بمنديل، يسعل بحدّة . ❝
❞ ˝بين الماء والسماء نجدّف في سكون وصمت،
وقد ضرب الله على ذان الطبيعة، وختم على أفواه الخليقة،
فلا نحس حركة ولا نسمع رِكزاً غير إيقاع المجاديف على أنغام الموج˝.
البحيرة/ ألفونس دو لامارتين . ❝
❞ ثم اجتاز المجاز المظلّل بعريشة شجرة العنب، متجهاً نحو باب الحديقة، وقد ميّز رائحة النهر، رغم عَبق الحديقة العامرة بشتى أنواع الزهور. بحركة ناشطة امتط الدراجة وانطلق، تلفح وجهه ريح باردة، جعلته شديد الرغبة بالتجول في هذا الصباح النقي، فكر: إذا ذهبت إلى السوق الكبيرة سيتبقى لي شيء من النقود، فالأشياء هُناك أرخص سعراً . ❝