❞ إن من المؤلم أن يسمع الإنسان ـ من بعض المنتسبين إلى هذه الأمة ـ من يزهّد في نصوص الوحي ـ قرآناً وسنة ـ بل ويصرح بعضهم بكلماتٍ خطيرة الدلالة والمآل تدور على أن زمنية الوحي، وأن صلاحيته محدودة بزمن معين، أو ظرف معين، بل ـ وهذا هو الكفر الصراح ـ من يرى أن سبب تخلف الأمة هو تمسكها بهذا القرآن، فأنى لهؤلاء أن يستضيئوا بنور الوحي؟!. ❝ ⏤عمر بن عبد الله المقبل
❞ إن من المؤلم أن يسمع الإنسان ـ من بعض المنتسبين إلى هذه الأمة ـ من يزهّد في نصوص الوحي ـ قرآناً وسنة ـ بل ويصرح بعضهم بكلماتٍ خطيرة الدلالة والمآل تدور على أن زمنية الوحي، وأن صلاحيته محدودة بزمن معين، أو ظرف معين، بل ـ وهذا هو الكفر الصراح ـ من يرى أن سبب تخلف الأمة هو تمسكها بهذا القرآن، فأنى لهؤلاء أن يستضيئوا بنور الوحي؟! . ❝
❞ كان من أسباب انصرافي عن القرآن في شبابي ما قرأته عن أنهار العسل و أنهار الخمر في الجنة.. و أنا لا أحب العسل و لا أحب الخمر.. فاعتبرت هذه سذاجات و انسحب حكمي على القرآن ثم على الدين كله.
و الساذج في واقع الأمر.. لم يكن إلا أنا.
فأنا لم أحاول أن أتفهم النص القرآني و لا أن أعكف حتى على ظاهر عبارته فما بال باطنها.. و كنت في عجلة من أمري.. و كان الانصراف غايتي و شهوتي.. و غطت هذه الشهوة على كل شيء فضاعت معالم الحقيقة من أمامي.. و فاتتني أمور كانت شديدة الوضوح.
و الآية تبدأ بأنها ضرب مثل. ((مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ.. )) و ليست إيرادا لأوصاف حرفية. فهذا أمر مستحيل لأن الجنة و الجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها في كلمات من قاموسنا.
تماما كما يسألك الطفل عن اللذة الجنسية.. فتحتار كيف تصفها له فهي بالنسبة له غيب خارج عن حدود خبراته تماما. و بعد أن تعجز عن توصيل المعنى إليه تقول على سبيل ضرب المثل و على سبيل التقريب.. إنها شيء مثل السكر.
لقد اخترت له شيئا من خبراته اليومية.
و مع ذلك فما أبعد المعنى.
و ما أبعد الفارق بين اللذة الجنسية و بين طعم السكر العادي المبتذل.
و بالمثل كان موقف القرآن في مخاطبة البدوي البسيط.
و كل أمنية البدوي الذي يعيش في هجير الصحراء أن يعثر على نبع ماء عذب. فكل ما يجد من مياه ما هي إلا ينابيع مالحة آسنة.
و كذلك اللبن.. فما أسرع ما يختمرو يتغير طعمه في حر الصحارى.. فيضرب له القرآن المثل من أعز ما يتمنى.
ها هو ذا يبين لنا حقيقة جديدة.. فيقول إنه يورد الألفاظ للتخويف. و لكنه ليس تخويفا على غير أساس.
إنه مثل تخويفك لابنك حين تحذره من إهمال نظافة أسنانه و تقول له: إذا لم تنظف أسنانك بالفرشاة فإن السوس سوف يأكل أسنانك.. تقول ذلك محبة منك و رحمة لطفلك.
و بالطبع.. السوس لن يأكل أسنانه.. إنما هي ميكروبات و فيروسات غير مرئية.
و لكن التخويف كان على أساس.. لأن ما سوف يحدث له إذا أهمل نظافة أسنانه سيكون ألعن من أكل السوس.
و من جرب الآلام الرهيبة لضرس مسوس.. يعرف أنها أسوأ من كل ما سمع من تحذيرات.
إنه تخويف العزيز الرحيم من شيء سوف يحدث بالفعل و سيكون أسوأ من جميع ما قيل و كتب.. مما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.
إن العذاب حق.. و الثواب حق.
و هنا يعترض معترض.
ألا يتنافى مع رحمة الله و مع عظمته أن يعذب.. و يعذب من !.. إنسانا مسكينا لا يساوي ذرة أو هباء في مملكة الله اللانهائية.
و هو اعتراض كان يشغلني دائما و كان يصرفني دائما عن قبول فكرة العذاب و بالتالي عن القرآن و عن الدين كله.
و السؤال يحتاج منا إلى أن نتعمق في معنى كلمة عذاب.
و الله بالفعل لا يعذب.
إنما هو فقط يعدل.
و لو أنه ساوى في آخرته بين ظالم و مظلوم.. و بين قتيل و القاتل الذي قتله.. لو أنه فعل ذلك بحجة الرحمة لكان أبعد ما يمكن عن الرحمة.. و عن العدل.. فالمساواة بين غير المتساويين ظلم فادح.. تعالى الله عن أن يقع فيه.
ثم هي الفوضى أن يكون الأبيض في عين الله كالأسود، و الأعمى كالبصير، و الميت كالحي، و الذي يسمع كمن لا يسمع.
و الكون ينفي الفوضى.
تأمل كل جزئية في الكون تكشف لك عن النظام المحكم و القانون الذي لا يفوته واحد من ألف من المليجرام.
و حركة إليكترون من مدار إلى مدار في داخل الذرة لا تتم إلا بحساب، فهو لا بد أن يعطي حزمة من الطاقة ليقفز إلى الخارج قفزة مساوية، و لا بد له أن يمتص حزمة أخرى ليقفز إلى الداخل قفزة مساوية.. إنه محاسب في حركاته.. و هو إليكترون.. فما بال الإنسان العاقل و هو بالنسبة للإليكترون كالمجرة و الفلك بالنسبة للإنسان.. و قد نفخ الله فيه من روحه فهو شيء عظيم.. و ليس في هوان الذرة و لا الإليكترون.
ثم ما معنى أن يموت مظلوما و ظالما فيصبح ترابا بلا بعث و يذهب ما حصله من خير و شر و علم و حكمة سدى.
مستحيل أن ينتهي كل هذا إلى باطل.. لا بد أن هناك استمرار بطريقة ما.. و لا بد أن يتضح لنا الحكمة من كل هذا في ميقاتها.
إتها قضية عدالة و قضية منطق و ليست قضية تعذيب لهدف التعذيب، و الذي سوف يحدث لنا بعد البعث هو أن كل واحد ستلازمه رتبته و درجته التي حصلها في الدنيا لا أكثر.
الله يعتبر الخزي في هذه الآية أشد من النار إيلاما.
و كما يصف الإنجيل هذا العالم الآخر (( عالم البكاء و صرير الأسنان )). المجرم فيه يصر على أسنانه ندما على ما يرى من هوان شأنه أمام الدرجات العالية التي أصابها الآخرون. و يصف القرآن أهل الجنة في تلك الدرجات بأنهم المقربون. المقربون من الله.. من الحق.
إنها إذن مسألة مقامات. كل واحد يبعث على رتبته و مقامه.
الله لا يعذب للعذاب.
و إنما يأتي العذاب و احتراق الصدر من إحساس من هم في أسافل الدرجات بالغيرة و الحسد و الهوان و الخسران الأبدي الذي لا مخرج منه.. و سوف يحرق هذا الإحساس الصدور كما تحرقها النار و أكثر.. و سوف يكون هو النكال و التنكيل.. ينكل الواحد منا بنفسه بالدرجة التي وضع نفسه فيها و التي انحدر إليها بأعماله في الدنيا.
و مما يدل على أن النار في الآخرة هي غير ما نعرف من نارنا هذه الآيات من سورة الأعراف:
إنه حوار و مكالمة في النار تجرى بين المعذبين.. و في مثل نارنا لا يمكن أن يجرى حوار بين اثنين يحترقان.
و المعنى الثاني العميق في الآية (( لكل ضعف و لكن لا تعلمون )).
إن أمامنا اثنين يتعذب الواحد منهما ضعف الآخر مع أنهما في المكان نفسه، و معنى هذا أن العذاب في الشخص و ليس في المكان ذاته.. و هذا لا ينفي أن يكون العذاب المذكور حسيا، بل إنه من الممكن أن يكون معنويا و حسيا في نفس الوقت ( كما يحدث أن يتعرض اثنان للحر اللافح فيصاب أحدهما بالصداع على حين يتحمل الآخر بسبب اختلاف درجات اللياقة عند الإثنين ) و الصداع ألم حسي و معنوي.
و لا ينفي أن يكون نارا و لكنها نار غير ما نعرف من نارنا.
و يروي القرآن عن أهل الجنة و كيف أنهم يتذكرون و هم يأكلون فاكهة الجنة أنهم قد رزقوا أنواع هذه الفاكهة حينما كانوا على الأرض ( مع الفارق في الجودة ).
و كيف أن لهم زوجات في الجنة و لكنهن زوجات مطهرات ( لسن كزوجات الأرض يعانين الحيض و المخاض شكسات غيورات متسلطات ).
و الجنة بهذه الصورة هي درجة و مقام.. فيها كل ما نعرف على الأرض و لكن مع تفاوت هائل في الرتبة.. تفاوت يفوق التصور.. تفاوت مثل التفاوت بين الزمن و الأبد و مثل التفاوت الذي ذكرناه بين طعم قطعة السكر و طعم اللذة الجنسية الحادة بالنسبة لبالغ.
و إذا ذكر العسل في مثل هذه الجنة فهو عسل و لكم لا كما نعرف من عسل، و اللبن هو اللبن و لكن لا كما نعرف من لبن، و النساء لا كما نعرف من نساء.
إنها ستكون أشياء مدهشة كالغيب بالنسبة لما نعلم.. يقول الشاعر عن امرأة يحبها إن جسمها يضيء كأنها صيغت من النور.. إنها أحلام يمكن أن تكون هناك حقائق.
و بالمثل ما يروي القرآن عن النار.. فهي نار لا كما نعرف من نار.. نار تنبت فيها شجرة لها ثمر ( شجرة الزقوم ).. و فيها ماء حميم يشربه أهلها.. و المعذبون فيها يتكلمون و يتحاورون فأجسادهم لا يمكن أن تكون لها نفس كيمياء الأجساد كما نعلمها و إلا لتبخرت دخانا في لحظات و لما استطاعوا أن يتبادلوا كلمة.
و معنى هذا أننا سوف نبعث أجسادا و لكن لا كالأجساد.. ربما كيانات لها ذات الهيئة و الصورة و لكن من مادة مختلفة هي بالنسبة لنا غيب.. إنها لن تكون الأجساد الترابية التي نتكون منها الآن في حياتنا الأرضية.
و لهذا يمكن أن تتضاعف المتع حسيا و معنويا بطريقة نجهلها.
كما تتضاعف درجات العذاب حسيا و معنويا عما نعلم و كما يتوزع الناس مراتب و درجات بحسب لياقتهم.. تكون لكل مرتبة مواصفاتها الحياتية التي تكفل لمن فيها حظوظا من السعادة أو الشقاء كل حسب قدره، و أتصور أن أعلى الناس قدرا في الجنة هم الذين سيرتفعون عن متع الحواس و جنة الحواس و يختار لهم الرحمن درجة الحياة الروحية الخالصة إلى جواره في سدرة المنتهى، حيث لا تكون اللذة هي لذة طعام و لا لذة شراب و لا لذة حور عين و إنما لذة النظر إلى الله في كماله و لذة تأمل الحق و الجمال و صورة الخير المطلق.
إنها لذة الجالس (( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) )) [ القمر ]
و هي مرتبة المفضلين من الأنبياء و من في مقامهم.
و هكذا تشتمل الجنة على جميع الدرجات من المتع الحسية من مأكل و مشرب ارتفاعا حتى المتع الروحية الخالصة ينال كل منا ما تؤهله له رتبته.
كل هذه آيات كواشف ذات دلالة تدلنا على أن النار ليست هي نارنا و لا الجنة هي سوق الخضار و لا الله هو الباطش الإرهابي.
و إنما الله سوف يبعث كل واحد على رتبته و مقامه و درجته، لأن هذا عين العدل و هو العادل.
و إنما سوف يتأتى العذاب من تفاوت الرتب تفاوتا عظيما، ثم بالسقوط في تقييم أبدي لا مخرج منه يلزم صاحبه كما تلزم الإصبع بصمتها.
و هو عذاب أكيد و جحيم أكيد سوف نراه عيانا و يقينا:
و لأن الله يعلم أن هذا العذاب سوف يكون رهيبا.. فقد حذرنا و خوفنا بالألفاظ المجلجلة و أرسل لنا الأنبياء مبشرين منذرين مؤيدين بالمعجزات و الخوارق و الآيات و الكتب.. فعل ذلك رحمة منه و حنانا و عطفا.. و هو القائل في حديثه القدسي: (( سبقت رحمتي غضبي )).
و في سورة الفاتحة يصف نفسه أولا بأنه الرحمن الرحيم قبل أن يقول مالك يوم الدين.. و هو يوم الحساب.. يوم الغضب.. يوم يحق القول على العالمين بلا رجعة.
و لأنه رحيم فقد فتح باب التوبة و إصلاح الخطأ على مصراعيه.
و أمر بالصلاة.. ثم قال: (( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.. (45) )) [ العنكبوت ]
أن تتذكر أن هناك قوة إلهية و أن يشخص هذا المعنى في ذاكرتك و في أفعالك على الدوام.. ينجيك و يحقق لك شرط المؤمن و يكون أفضل من صلاة المصلي الذي ليس في قلبه ذكر.
و كلمة (( الذكر )) في القرآن كلمة عميقة المعنى و الدلالة. فالقرآن نفسه اسمه ذكر، و التدين و الإيمان هو مجرد تذكر:
إن أحدث النظريات النفسية تقول لنا: إن المعارف كلها تكون مخبوءة مكنوزة داخل نفس الإنسان و لكن تحجبها عنه غرائزه و شهواته.. و لهذا فالتعلم هو في حقيقته تذكر. بارتفاع حجب النفس و شفوفها.. و لا يكون تعلما من عدم.
فالطفل لا يتعلم أن ( 2 + 2 = 4 ) و إنما هو فقط يتذكر حقيقة باطنة في روحه، ولد بها.
و بالمثل الإحساس بالجمال و الطرب هو نوع من التذكر المبهم لعالم القدس و ما فيه.. عالم الملكوت الذي كنا فيه قبل النزول إلى الأرحام.
و لهذا السبب فإن جمال المرأة مثلا هو جمال زائر و ليس جمالا مقيما لأنه ليس جمالها هي.. و إنما هو ظل ينعكس عليها من الملكوت.. ثم ما يلبث أن يفارقها حينما يتغلب قانون المادة و الشيخوخة و التراب.
و الآية تروي ما كان في الغيب قبل الميلاد و قبل النزول إلى الدنيا.
و كل الخلائق مما خلق الله و يخلق و سيخلق مثل الذر في كفه ينظر إليهم و يشهدهم على أنفسهم.. ألست بربكم.. فيقولون بلى شهدنا.. و هو بهذا يأخذ عليهم ميثاقا غليظا لأنه يعلم أنه بعد الهبوط في الأرحام و انسدال حجاب اللحم الكثيف و نزول غشاوة الحواس و الشهوات و الغرائز و الأهواء أنهم سوف ينسون تماما.. و سوف يتخبطون في نكران وكفر و جهالة.
لأن اتصال الوجود الدنيوي بالتذكر بالوجود الملكوتي الأول ثم بالوجود الأخروي.. هو فطنة الإنسان إلى حياته بكاملها. و هي الحياة كل الحياة.
و الله ليس بحاجة إلى صلاتنا و لا إلى صيامنا و لكن نحن المحتاجون.. لعلنا في صلاتنا العميقة نتذكر و لعلنا بالعبادة و التوجه نتصل بنبع وجودنا.. و نستمد منه حياتنا.
إن الصلاة و العبادة استمداد. نحن الذين نحتاج إليها لتكون لنا حياة. و ليس الله.. لأن الله هو الحي بذاته المستغني بوجوده عن كل شيء.
أما نحن فلا يمكن أن تكون لنا حياة إلا بمدد منه.. من الله.. الحي الذي به الحياة.
و نفهم من هذا أن الله فرض الفروض ووضع شرائع العبادات من أجلنا و ليس من أجل أن يشعر بألوهيته. فهو في غنى عنا.. و في غنى عن أن يعذبنا.. و في غنى عن أن يطلب منا طلبا أو يفرض علينا فرضا.
و هو بالفعل لا يفرض علينا فرضا و لا يطالبنا بطلب و لا يقيم علينا عذابا، كل هذا يبدو من ظاهر العبارات فقط. أما باطن القرآن الذي يكشف نفسه لكل من جاهد في الفهم، إن الله هو الرحيم مطلق الرحمة، العادل مطلق العدل الذي يعطي مطلق العطاء و لا يأخذ شيئا و لا يحتاج لشيء.
و إذا كان في الدنيا ألوان من العذاب فهي من عيون رحمته.
إنها محاولات لإيقاظ العقل الغافل لعله يتذكر و يرجع و ينجو بنفسه من عذاب أكبر في الطريق. عذاب لن يكون منه مخرج و لا مهرب. حينما تحق على كل واحد رتبته و درجته.
و نفهم من القرآن أن سنة الله أن يوقظ الغافلين في الأرض فيبتليهم بكل صنوف البؤس و المرض و العذاب لعلهم يفطنون إلى ما في الدنيا من زوال و ما وراءها من حقيقة باقية.. يفعل هذا رحمة بهم و لأنه يعلم ما ينتظرهم من ناموس عادل لن يلطف بهم.. حتى إذا نفذت فيهم كل هذه الآلام الدنيوية و لم يتيقظوا.. فتح الله عليهم أبواب كنوزه ليتمتعوا.. و حقت عليهم كلمته بالهلاك في الآخرة.
فليس الخير الظاهر في الدنيا و النعمة الغامرة بعلامة رضا الله في جميع الأحوال.. و لا عذاب الدنيا و بلائها بعلامة غضب الله في كل حال.. فقد يكون الخير غضبا و قد يكون البلاء لطفا.. و لا يكشف لك عن الحقيقة إلا صوت ضميرك.. إذا رأيت البلاء يطهرك فهو نعمة.. و إذا رأيت النعمة تطغيك فهي غضب.
إن الله يعلم أنهم لو ردوا للدنيا لعادوا إلى كبريائهم.
إنه جهل و إصرار على الجهل لا وسيلة لعلاجه.. لا الأنبياء و لا المعجزات و لا الخوارق و الآيات.. و لا حتى مرورهم على الجحيم بكاف لردهم إلى معرفة.
و من هنا يبدو البقاء في الجحيم رحمة، فهو بالنسبة لبعض الجبارين الوسيلة الوحيدة إلى المعرفة و التقويم.
إن الله رحيم دائما حتى في جحيمه.. و لهذا سمى نفسه (( الرحمن )).. أي الرحيم مطلق الرحمة في جميع الأحوال لمن يستحق و من لا يستحق.. يرحم من يستحق بالجنة و يرحم من لا يستحق بالجحيم.. فالجحيم كما رأينا هو تعريف لمن لا يعرف و لمن فشلت معه كل وسائل التعريف فهو نوع من الرحمة.. و لهذا يقول في أجمل آياته:
و الحساب هنا يبدو أنه حساب النفس للنفس و تنكيل النفس بالنفس و مواجهة النفس للنفس.
لقد لزم كل واحد عمله كظله و لا خلاص.. و حق القول.. و نفذ العدل الأزلي.
و لكن هذه المعاني تضيع في النظرة المتعجلة و القراءة السطحية و الوقوف عند الحروف و عند جلجلة الألفاظ.
و الألفاظ التي وصف الله بها القيامة كلها ألفاظ رهيبة ذات جلجلة و صلصلة.. تقرع الآذان كالأجراس، فهي الساعة، و الواقعة، و القارعة، و الزلزلة، و الدمدمة، و الغاشية، و الراجفة، و الرادفة، و الزجرة، و السكرة، و الطامة، و الحاقة، و الصاخة.
هل سمعت لفظا اسمه (( الصاخة )) ؟!
إنه لفظ يخرق طبلة الأذن.. لأن الله علم أن الواحد منا في هذه الدنيا تتخطفه الشهوات و تبرق في عينيه المطامع فهو لا يعقل.. و هو أصم لا يسمع.
فهتف في أذنه بهذه الكلمة.. التي تكاد تخرق السمع من فرط ارتفاع ذبذبتها ليوقظه:
فعل هذا رحمة و لطفا و حنانا.. تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.
و ما العذاب إلا لزوم ما يلزم و حلول الصفة بموصوفها و انتظام الأرواح في سلم درجاتها الحق و انسدال الستار على هذا العالم الذي يتبارى فيه الناس على نوال ما لا يستحقون.
و نعطي مثلا لهذا التفاوت في الرتب فيما يشعر به كل منا في حياته الخاصة.. من تفاوت المستويات التي يمكن أن يعيش فيها.. لا نقصد مستويات الدخل.. و إنما نقصد شيئا أعمق.. نقصد المستويات الوجودية ذاتها.
فالواحد منا يمكن أن يعيش على مستوى متطلبات جسده، كل همه أن يأكل و يشرب و يضاجع كالبهيمة.
و يمكن أن يسكت ذلك السعار الجسدي ليستسلم لسعار آخر هو سعار النفس بين غيرة و حسد و غضب و شماتة و رغبة في السيطرة و جوع للظهور و تعطش للشهرة و استئثار لأسباب القوة بتكديس الأموال و الممتلكات و تربص لاصطياد المناصب.
و أكثر الناس لا يرتفعون عن هذه الدرجة و يموتون عليها و لا يكون العقل عندهم إلا وسيلة احتيال لبلوغ هذه الاسباب.
و الحياة بالنسبة لهذه الكثرة من الناس غابة و الشعور الطبيعي هو العدوان و تنازع البقاء و الصراع.. و الهدف هو التهام كل ما يمكن التهامه و انتهاز ما يمكن انتهازه.. و الواحد منهم تجده يتأرجح كالبندول من لهيب رغبة إلى لهيب رغبة أخرى.. يسلمه مطمع إلى مطمع و هو في ضرام من هذه الرغبات لا ينتهي.
و هناك قلة قليلة تكتشف زيف هذه الحياة و تصحو على إدراك واضح بأن هذا اللون من الحياة عبودية لا حرية.. و أنها كانت حياة أشبه بالسخرة و الأشغال الشاقة خضوعا لغرائز همجية لا تشبع و أطماع لا مضمون لها و لا معنى و لا قيمة.. كلها إلى زوال.
فتبدأ هذه القلة القليلة في إسكات هذا الصوت و في تكبيل هذه النفس الهائجة، و قد اكتشفت أنها حجاب على الرؤية و تشويش على الفهم.
و هكذا ترتفع هذه القلة القليلة في الرتبة لتعيش بمنطق آخر.. هو أن تعطي لا أن تأخذ.. و تحب لا أن تكره.. و تصبح هموم هذه القلة هي إدراك الحقيقة.
و على هذه القلة تنزل سكينة القلب فيتذكر الواحد منهم ماضيه حينما كان عبدا لسعار نفسه و كأنه خارج من جحيم !
و مثل هؤلاء يموتون و قد انعتقوا من وهم النفس و الجسد و بلغوا خلاصهم الروحي و أيقنوا حقيقة ذواتهم كأرواح كانت تبتلى في تجربة.
و ما أشبه الجسد – في الرتبة – بالتراب.. و النفس بالنار و الروح بالنور و هي مجرد ألفاظ للتقريب.. و لكنها تكشف لنا أن حكاية الرتب هي حكاية حقيقية.. و أن كل من يموت على رتبة يبعث عليها و أن هذا هو عين العدل و ليس تجبرا.. و قد يكون العذاب فوق الوصف إذا تجردت النفوس من أجسادها الترابية و لم يبق منها إلا سعار خالص و جوع بحت و اضطرام مطلق برغبات لا ترتوي ثم عدوان بين نفوس شرسة لا هدنة بينها و لا سلام و لا مصالحة إلى الأبد.. على عكس أرواح تتعايش في محبة و تتأمل الحق في عالم ملكوتي.
أكاد أجزم بأن ألفاظ القرآن بما فيها من جلجلة و صلصلة حينما تصف الجحيم إنما هي نذير حقيقي بعذاب فوق التصور و سوف نعذبه لأنفسنا بأنفسنا عدلا و صدقا على رتبة استحقها كل منا بعمله.. و أكاد أضع يدي على الحقيقة.. لا ريب فيها.
تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.. و هو الحق العدل الحكم.
و في أخبار داود أن الله قال له:
(( يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني و جليس لمن جالسني و صاحب لمن صاحبني و مختار لمن اختارني.. و مطيع لمن أطاعني.. من طلبني بالحق وجدني و من طلب غيري لم يجدني )).
أنعم به من رب رحيم.. و تقدس و تعالى عن الظلم و العدوان.
~~. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ كان من أسباب انصرافي عن القرآن في شبابي ما قرأته عن أنهار العسل و أنهار الخمر في الجنة.. و أنا لا أحب العسل و لا أحب الخمر.. فاعتبرت هذه سذاجات و انسحب حكمي على القرآن ثم على الدين كله.
و الساذج في واقع الأمر.. لم يكن إلا أنا.
فأنا لم أحاول أن أتفهم النص القرآني و لا أن أعكف حتى على ظاهر عبارته فما بال باطنها.. و كنت في عجلة من أمري.. و كان الانصراف غايتي و شهوتي.. و غطت هذه الشهوة على كل شيء فضاعت معالم الحقيقة من أمامي.. و فاتتني أمور كانت شديدة الوضوح.
و الآية تبدأ بأنها ضرب مثل. ((مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ.. )) و ليست إيرادا لأوصاف حرفية. فهذا أمر مستحيل لأن الجنة و الجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها في كلمات من قاموسنا.
تماما كما يسألك الطفل عن اللذة الجنسية.. فتحتار كيف تصفها له فهي بالنسبة له غيب خارج عن حدود خبراته تماما. و بعد أن تعجز عن توصيل المعنى إليه تقول على سبيل ضرب المثل و على سبيل التقريب.. إنها شيء مثل السكر.
لقد اخترت له شيئا من خبراته اليومية.
و مع ذلك فما أبعد المعنى.
و ما أبعد الفارق بين اللذة الجنسية و بين طعم السكر العادي المبتذل.
و بالمثل كان موقف القرآن في مخاطبة البدوي البسيط.
و كل أمنية البدوي الذي يعيش في هجير الصحراء أن يعثر على نبع ماء عذب. فكل ما يجد من مياه ما هي إلا ينابيع مالحة آسنة.
و كذلك اللبن.. فما أسرع ما يختمرو يتغير طعمه في حر الصحارى.. فيضرب له القرآن المثل من أعز ما يتمنى.
ها هو ذا يبين لنا حقيقة جديدة.. فيقول إنه يورد الألفاظ للتخويف. و لكنه ليس تخويفا على غير أساس.
إنه مثل تخويفك لابنك حين تحذره من إهمال نظافة أسنانه و تقول له: إذا لم تنظف أسنانك بالفرشاة فإن السوس سوف يأكل أسنانك.. تقول ذلك محبة منك و رحمة لطفلك.
و بالطبع.. السوس لن يأكل أسنانه.. إنما هي ميكروبات و فيروسات غير مرئية.
و لكن التخويف كان على أساس.. لأن ما سوف يحدث له إذا أهمل نظافة أسنانه سيكون ألعن من أكل السوس.
و من جرب الآلام الرهيبة لضرس مسوس.. يعرف أنها أسوأ من كل ما سمع من تحذيرات.
إنه تخويف العزيز الرحيم من شيء سوف يحدث بالفعل و سيكون أسوأ من جميع ما قيل و كتب.. مما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.
إن العذاب حق.. و الثواب حق.
و هنا يعترض معترض.
ألا يتنافى مع رحمة الله و مع عظمته أن يعذب.. و يعذب من !.. إنسانا مسكينا لا يساوي ذرة أو هباء في مملكة الله اللانهائية.
و هو اعتراض كان يشغلني دائما و كان يصرفني دائما عن قبول فكرة العذاب و بالتالي عن القرآن و عن الدين كله.
و السؤال يحتاج منا إلى أن نتعمق في معنى كلمة عذاب.
و الله بالفعل لا يعذب.
إنما هو فقط يعدل.
و لو أنه ساوى في آخرته بين ظالم و مظلوم.. و بين قتيل و القاتل الذي قتله.. لو أنه فعل ذلك بحجة الرحمة لكان أبعد ما يمكن عن الرحمة.. و عن العدل.. فالمساواة بين غير المتساويين ظلم فادح.. تعالى الله عن أن يقع فيه.
ثم هي الفوضى أن يكون الأبيض في عين الله كالأسود، و الأعمى كالبصير، و الميت كالحي، و الذي يسمع كمن لا يسمع.
و الكون ينفي الفوضى.
تأمل كل جزئية في الكون تكشف لك عن النظام المحكم و القانون الذي لا يفوته واحد من ألف من المليجرام.
و حركة إليكترون من مدار إلى مدار في داخل الذرة لا تتم إلا بحساب، فهو لا بد أن يعطي حزمة من الطاقة ليقفز إلى الخارج قفزة مساوية، و لا بد له أن يمتص حزمة أخرى ليقفز إلى الداخل قفزة مساوية.. إنه محاسب في حركاته.. و هو إليكترون.. فما بال الإنسان العاقل و هو بالنسبة للإليكترون كالمجرة و الفلك بالنسبة للإنسان.. و قد نفخ الله فيه من روحه فهو شيء عظيم.. و ليس في هوان الذرة و لا الإليكترون.
ثم ما معنى أن يموت مظلوما و ظالما فيصبح ترابا بلا بعث و يذهب ما حصله من خير و شر و علم و حكمة سدى.
مستحيل أن ينتهي كل هذا إلى باطل.. لا بد أن هناك استمرار بطريقة ما.. و لا بد أن يتضح لنا الحكمة من كل هذا في ميقاتها.
إتها قضية عدالة و قضية منطق و ليست قضية تعذيب لهدف التعذيب، و الذي سوف يحدث لنا بعد البعث هو أن كل واحد ستلازمه رتبته و درجته التي حصلها في الدنيا لا أكثر.
الله يعتبر الخزي في هذه الآية أشد من النار إيلاما.
و كما يصف الإنجيل هذا العالم الآخر (( عالم البكاء و صرير الأسنان )). المجرم فيه يصر على أسنانه ندما على ما يرى من هوان شأنه أمام الدرجات العالية التي أصابها الآخرون. و يصف القرآن أهل الجنة في تلك الدرجات بأنهم المقربون. المقربون من الله.. من الحق.
إنها إذن مسألة مقامات. كل واحد يبعث على رتبته و مقامه.
الله لا يعذب للعذاب.
و إنما يأتي العذاب و احتراق الصدر من إحساس من هم في أسافل الدرجات بالغيرة و الحسد و الهوان و الخسران الأبدي الذي لا مخرج منه.. و سوف يحرق هذا الإحساس الصدور كما تحرقها النار و أكثر.. و سوف يكون هو النكال و التنكيل.. ينكل الواحد منا بنفسه بالدرجة التي وضع نفسه فيها و التي انحدر إليها بأعماله في الدنيا.
و مما يدل على أن النار في الآخرة هي غير ما نعرف من نارنا هذه الآيات من سورة الأعراف:
إنه حوار و مكالمة في النار تجرى بين المعذبين.. و في مثل نارنا لا يمكن أن يجرى حوار بين اثنين يحترقان.
و المعنى الثاني العميق في الآية (( لكل ضعف و لكن لا تعلمون )).
إن أمامنا اثنين يتعذب الواحد منهما ضعف الآخر مع أنهما في المكان نفسه، و معنى هذا أن العذاب في الشخص و ليس في المكان ذاته.. و هذا لا ينفي أن يكون العذاب المذكور حسيا، بل إنه من الممكن أن يكون معنويا و حسيا في نفس الوقت ( كما يحدث أن يتعرض اثنان للحر اللافح فيصاب أحدهما بالصداع على حين يتحمل الآخر بسبب اختلاف درجات اللياقة عند الإثنين ) و الصداع ألم حسي و معنوي.
و لا ينفي أن يكون نارا و لكنها نار غير ما نعرف من نارنا.
و يروي القرآن عن أهل الجنة و كيف أنهم يتذكرون و هم يأكلون فاكهة الجنة أنهم قد رزقوا أنواع هذه الفاكهة حينما كانوا على الأرض ( مع الفارق في الجودة ).
و كيف أن لهم زوجات في الجنة و لكنهن زوجات مطهرات ( لسن كزوجات الأرض يعانين الحيض و المخاض شكسات غيورات متسلطات ).
و الجنة بهذه الصورة هي درجة و مقام.. فيها كل ما نعرف على الأرض و لكن مع تفاوت هائل في الرتبة.. تفاوت يفوق التصور.. تفاوت مثل التفاوت بين الزمن و الأبد و مثل التفاوت الذي ذكرناه بين طعم قطعة السكر و طعم اللذة الجنسية الحادة بالنسبة لبالغ.
و إذا ذكر العسل في مثل هذه الجنة فهو عسل و لكم لا كما نعرف من عسل، و اللبن هو اللبن و لكن لا كما نعرف من لبن، و النساء لا كما نعرف من نساء.
إنها ستكون أشياء مدهشة كالغيب بالنسبة لما نعلم.. يقول الشاعر عن امرأة يحبها إن جسمها يضيء كأنها صيغت من النور.. إنها أحلام يمكن أن تكون هناك حقائق.
و بالمثل ما يروي القرآن عن النار.. فهي نار لا كما نعرف من نار.. نار تنبت فيها شجرة لها ثمر ( شجرة الزقوم ).. و فيها ماء حميم يشربه أهلها.. و المعذبون فيها يتكلمون و يتحاورون فأجسادهم لا يمكن أن تكون لها نفس كيمياء الأجساد كما نعلمها و إلا لتبخرت دخانا في لحظات و لما استطاعوا أن يتبادلوا كلمة.
و معنى هذا أننا سوف نبعث أجسادا و لكن لا كالأجساد.. ربما كيانات لها ذات الهيئة و الصورة و لكن من مادة مختلفة هي بالنسبة لنا غيب.. إنها لن تكون الأجساد الترابية التي نتكون منها الآن في حياتنا الأرضية.
و لهذا يمكن أن تتضاعف المتع حسيا و معنويا بطريقة نجهلها.
كما تتضاعف درجات العذاب حسيا و معنويا عما نعلم و كما يتوزع الناس مراتب و درجات بحسب لياقتهم.. تكون لكل مرتبة مواصفاتها الحياتية التي تكفل لمن فيها حظوظا من السعادة أو الشقاء كل حسب قدره، و أتصور أن أعلى الناس قدرا في الجنة هم الذين سيرتفعون عن متع الحواس و جنة الحواس و يختار لهم الرحمن درجة الحياة الروحية الخالصة إلى جواره في سدرة المنتهى، حيث لا تكون اللذة هي لذة طعام و لا لذة شراب و لا لذة حور عين و إنما لذة النظر إلى الله في كماله و لذة تأمل الحق و الجمال و صورة الخير المطلق.
إنها لذة الجالس (( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ (55) )) [ القمر ]
و هي مرتبة المفضلين من الأنبياء و من في مقامهم.
و هكذا تشتمل الجنة على جميع الدرجات من المتع الحسية من مأكل و مشرب ارتفاعا حتى المتع الروحية الخالصة ينال كل منا ما تؤهله له رتبته.
كل هذه آيات كواشف ذات دلالة تدلنا على أن النار ليست هي نارنا و لا الجنة هي سوق الخضار و لا الله هو الباطش الإرهابي.
و إنما الله سوف يبعث كل واحد على رتبته و مقامه و درجته، لأن هذا عين العدل و هو العادل.
و إنما سوف يتأتى العذاب من تفاوت الرتب تفاوتا عظيما، ثم بالسقوط في تقييم أبدي لا مخرج منه يلزم صاحبه كما تلزم الإصبع بصمتها.
و هو عذاب أكيد و جحيم أكيد سوف نراه عيانا و يقينا:
و لأن الله يعلم أن هذا العذاب سوف يكون رهيبا.. فقد حذرنا و خوفنا بالألفاظ المجلجلة و أرسل لنا الأنبياء مبشرين منذرين مؤيدين بالمعجزات و الخوارق و الآيات و الكتب.. فعل ذلك رحمة منه و حنانا و عطفا.. و هو القائل في حديثه القدسي: (( سبقت رحمتي غضبي )).
و في سورة الفاتحة يصف نفسه أولا بأنه الرحمن الرحيم قبل أن يقول مالك يوم الدين.. و هو يوم الحساب.. يوم الغضب.. يوم يحق القول على العالمين بلا رجعة.
و لأنه رحيم فقد فتح باب التوبة و إصلاح الخطأ على مصراعيه.
و أمر بالصلاة.. ثم قال: (( وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.. (45) )) [ العنكبوت ]
أن تتذكر أن هناك قوة إلهية و أن يشخص هذا المعنى في ذاكرتك و في أفعالك على الدوام.. ينجيك و يحقق لك شرط المؤمن و يكون أفضل من صلاة المصلي الذي ليس في قلبه ذكر.
و كلمة (( الذكر )) في القرآن كلمة عميقة المعنى و الدلالة. فالقرآن نفسه اسمه ذكر، و التدين و الإيمان هو مجرد تذكر:
إن أحدث النظريات النفسية تقول لنا: إن المعارف كلها تكون مخبوءة مكنوزة داخل نفس الإنسان و لكن تحجبها عنه غرائزه و شهواته.. و لهذا فالتعلم هو في حقيقته تذكر. بارتفاع حجب النفس و شفوفها.. و لا يكون تعلما من عدم.
فالطفل لا يتعلم أن ( 2 + 2 = 4 ) و إنما هو فقط يتذكر حقيقة باطنة في روحه، ولد بها.
و بالمثل الإحساس بالجمال و الطرب هو نوع من التذكر المبهم لعالم القدس و ما فيه.. عالم الملكوت الذي كنا فيه قبل النزول إلى الأرحام.
و لهذا السبب فإن جمال المرأة مثلا هو جمال زائر و ليس جمالا مقيما لأنه ليس جمالها هي.. و إنما هو ظل ينعكس عليها من الملكوت.. ثم ما يلبث أن يفارقها حينما يتغلب قانون المادة و الشيخوخة و التراب.
و الآية تروي ما كان في الغيب قبل الميلاد و قبل النزول إلى الدنيا.
و كل الخلائق مما خلق الله و يخلق و سيخلق مثل الذر في كفه ينظر إليهم و يشهدهم على أنفسهم.. ألست بربكم.. فيقولون بلى شهدنا.. و هو بهذا يأخذ عليهم ميثاقا غليظا لأنه يعلم أنه بعد الهبوط في الأرحام و انسدال حجاب اللحم الكثيف و نزول غشاوة الحواس و الشهوات و الغرائز و الأهواء أنهم سوف ينسون تماما.. و سوف يتخبطون في نكران وكفر و جهالة.
لأن اتصال الوجود الدنيوي بالتذكر بالوجود الملكوتي الأول ثم بالوجود الأخروي.. هو فطنة الإنسان إلى حياته بكاملها. و هي الحياة كل الحياة.
و الله ليس بحاجة إلى صلاتنا و لا إلى صيامنا و لكن نحن المحتاجون.. لعلنا في صلاتنا العميقة نتذكر و لعلنا بالعبادة و التوجه نتصل بنبع وجودنا.. و نستمد منه حياتنا.
إن الصلاة و العبادة استمداد. نحن الذين نحتاج إليها لتكون لنا حياة. و ليس الله.. لأن الله هو الحي بذاته المستغني بوجوده عن كل شيء.
أما نحن فلا يمكن أن تكون لنا حياة إلا بمدد منه.. من الله.. الحي الذي به الحياة.
و نفهم من هذا أن الله فرض الفروض ووضع شرائع العبادات من أجلنا و ليس من أجل أن يشعر بألوهيته. فهو في غنى عنا.. و في غنى عن أن يعذبنا.. و في غنى عن أن يطلب منا طلبا أو يفرض علينا فرضا.
و هو بالفعل لا يفرض علينا فرضا و لا يطالبنا بطلب و لا يقيم علينا عذابا، كل هذا يبدو من ظاهر العبارات فقط. أما باطن القرآن الذي يكشف نفسه لكل من جاهد في الفهم، إن الله هو الرحيم مطلق الرحمة، العادل مطلق العدل الذي يعطي مطلق العطاء و لا يأخذ شيئا و لا يحتاج لشيء.
و إذا كان في الدنيا ألوان من العذاب فهي من عيون رحمته.
إنها محاولات لإيقاظ العقل الغافل لعله يتذكر و يرجع و ينجو بنفسه من عذاب أكبر في الطريق. عذاب لن يكون منه مخرج و لا مهرب. حينما تحق على كل واحد رتبته و درجته.
و نفهم من القرآن أن سنة الله أن يوقظ الغافلين في الأرض فيبتليهم بكل صنوف البؤس و المرض و العذاب لعلهم يفطنون إلى ما في الدنيا من زوال و ما وراءها من حقيقة باقية.. يفعل هذا رحمة بهم و لأنه يعلم ما ينتظرهم من ناموس عادل لن يلطف بهم.. حتى إذا نفذت فيهم كل هذه الآلام الدنيوية و لم يتيقظوا.. فتح الله عليهم أبواب كنوزه ليتمتعوا.. و حقت عليهم كلمته بالهلاك في الآخرة.
فليس الخير الظاهر في الدنيا و النعمة الغامرة بعلامة رضا الله في جميع الأحوال.. و لا عذاب الدنيا و بلائها بعلامة غضب الله في كل حال.. فقد يكون الخير غضبا و قد يكون البلاء لطفا.. و لا يكشف لك عن الحقيقة إلا صوت ضميرك.. إذا رأيت البلاء يطهرك فهو نعمة.. و إذا رأيت النعمة تطغيك فهي غضب.
إن الله يعلم أنهم لو ردوا للدنيا لعادوا إلى كبريائهم.
إنه جهل و إصرار على الجهل لا وسيلة لعلاجه.. لا الأنبياء و لا المعجزات و لا الخوارق و الآيات.. و لا حتى مرورهم على الجحيم بكاف لردهم إلى معرفة.
و من هنا يبدو البقاء في الجحيم رحمة، فهو بالنسبة لبعض الجبارين الوسيلة الوحيدة إلى المعرفة و التقويم.
إن الله رحيم دائما حتى في جحيمه.. و لهذا سمى نفسه (( الرحمن )).. أي الرحيم مطلق الرحمة في جميع الأحوال لمن يستحق و من لا يستحق.. يرحم من يستحق بالجنة و يرحم من لا يستحق بالجحيم.. فالجحيم كما رأينا هو تعريف لمن لا يعرف و لمن فشلت معه كل وسائل التعريف فهو نوع من الرحمة.. و لهذا يقول في أجمل آياته:
و الحساب هنا يبدو أنه حساب النفس للنفس و تنكيل النفس بالنفس و مواجهة النفس للنفس.
لقد لزم كل واحد عمله كظله و لا خلاص.. و حق القول.. و نفذ العدل الأزلي.
و لكن هذه المعاني تضيع في النظرة المتعجلة و القراءة السطحية و الوقوف عند الحروف و عند جلجلة الألفاظ.
و الألفاظ التي وصف الله بها القيامة كلها ألفاظ رهيبة ذات جلجلة و صلصلة.. تقرع الآذان كالأجراس، فهي الساعة، و الواقعة، و القارعة، و الزلزلة، و الدمدمة، و الغاشية، و الراجفة، و الرادفة، و الزجرة، و السكرة، و الطامة، و الحاقة، و الصاخة.
هل سمعت لفظا اسمه (( الصاخة )) ؟!
إنه لفظ يخرق طبلة الأذن.. لأن الله علم أن الواحد منا في هذه الدنيا تتخطفه الشهوات و تبرق في عينيه المطامع فهو لا يعقل.. و هو أصم لا يسمع.
فهتف في أذنه بهذه الكلمة.. التي تكاد تخرق السمع من فرط ارتفاع ذبذبتها ليوقظه:
فعل هذا رحمة و لطفا و حنانا.. تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.
و ما العذاب إلا لزوم ما يلزم و حلول الصفة بموصوفها و انتظام الأرواح في سلم درجاتها الحق و انسدال الستار على هذا العالم الذي يتبارى فيه الناس على نوال ما لا يستحقون.
و نعطي مثلا لهذا التفاوت في الرتب فيما يشعر به كل منا في حياته الخاصة.. من تفاوت المستويات التي يمكن أن يعيش فيها.. لا نقصد مستويات الدخل.. و إنما نقصد شيئا أعمق.. نقصد المستويات الوجودية ذاتها.
فالواحد منا يمكن أن يعيش على مستوى متطلبات جسده، كل همه أن يأكل و يشرب و يضاجع كالبهيمة.
و يمكن أن يسكت ذلك السعار الجسدي ليستسلم لسعار آخر هو سعار النفس بين غيرة و حسد و غضب و شماتة و رغبة في السيطرة و جوع للظهور و تعطش للشهرة و استئثار لأسباب القوة بتكديس الأموال و الممتلكات و تربص لاصطياد المناصب.
و أكثر الناس لا يرتفعون عن هذه الدرجة و يموتون عليها و لا يكون العقل عندهم إلا وسيلة احتيال لبلوغ هذه الاسباب.
و الحياة بالنسبة لهذه الكثرة من الناس غابة و الشعور الطبيعي هو العدوان و تنازع البقاء و الصراع.. و الهدف هو التهام كل ما يمكن التهامه و انتهاز ما يمكن انتهازه.. و الواحد منهم تجده يتأرجح كالبندول من لهيب رغبة إلى لهيب رغبة أخرى.. يسلمه مطمع إلى مطمع و هو في ضرام من هذه الرغبات لا ينتهي.
و هناك قلة قليلة تكتشف زيف هذه الحياة و تصحو على إدراك واضح بأن هذا اللون من الحياة عبودية لا حرية.. و أنها كانت حياة أشبه بالسخرة و الأشغال الشاقة خضوعا لغرائز همجية لا تشبع و أطماع لا مضمون لها و لا معنى و لا قيمة.. كلها إلى زوال.
فتبدأ هذه القلة القليلة في إسكات هذا الصوت و في تكبيل هذه النفس الهائجة، و قد اكتشفت أنها حجاب على الرؤية و تشويش على الفهم.
و هكذا ترتفع هذه القلة القليلة في الرتبة لتعيش بمنطق آخر.. هو أن تعطي لا أن تأخذ.. و تحب لا أن تكره.. و تصبح هموم هذه القلة هي إدراك الحقيقة.
و على هذه القلة تنزل سكينة القلب فيتذكر الواحد منهم ماضيه حينما كان عبدا لسعار نفسه و كأنه خارج من جحيم !
و مثل هؤلاء يموتون و قد انعتقوا من وهم النفس و الجسد و بلغوا خلاصهم الروحي و أيقنوا حقيقة ذواتهم كأرواح كانت تبتلى في تجربة.
و ما أشبه الجسد – في الرتبة – بالتراب.. و النفس بالنار و الروح بالنور و هي مجرد ألفاظ للتقريب.. و لكنها تكشف لنا أن حكاية الرتب هي حكاية حقيقية.. و أن كل من يموت على رتبة يبعث عليها و أن هذا هو عين العدل و ليس تجبرا.. و قد يكون العذاب فوق الوصف إذا تجردت النفوس من أجسادها الترابية و لم يبق منها إلا سعار خالص و جوع بحت و اضطرام مطلق برغبات لا ترتوي ثم عدوان بين نفوس شرسة لا هدنة بينها و لا سلام و لا مصالحة إلى الأبد.. على عكس أرواح تتعايش في محبة و تتأمل الحق في عالم ملكوتي.
أكاد أجزم بأن ألفاظ القرآن بما فيها من جلجلة و صلصلة حينما تصف الجحيم إنما هي نذير حقيقي بعذاب فوق التصور و سوف نعذبه لأنفسنا بأنفسنا عدلا و صدقا على رتبة استحقها كل منا بعمله.. و أكاد أضع يدي على الحقيقة.. لا ريب فيها.
تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.. و هو الحق العدل الحكم.
و في أخبار داود أن الله قال له:
(( يا داود أبلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني و جليس لمن جالسني و صاحب لمن صاحبني و مختار لمن اختارني.. و مطيع لمن أطاعني.. من طلبني بالحق وجدني و من طلب غيري لم يجدني )).
أنعم به من رب رحيم.. و تقدس و تعالى عن الظلم و العدوان.
❞ استمرت الثقافة النوبية تطلّ في رواية ˝زلنبح˝ برأسها بشكل ضمني غير مباشر، إذ تخلّل النسيج الروائي بعض الطقوس التي طالما اهتم واحتفى بها المجتمع النوبي، مثل الرقص والأعياد والمهرجانات والأعراس. أما اللغة التي اعتمدها الكاتب، فكانت الفصحى السلسة شديدة العذوبة كثيفة الدلالة، كما كانت دائماً في كل نصوص حجاج أدول وكان يبرز دوماً خلالها ارتفاع الحس الإنساني الذي يعبّر بصورة أو بأخرى عن المجتمع النوبي ويميّز أهله بشكل خاص. ❝ ⏤حجاج حسن محمد
❞ استمرت الثقافة النوبية تطلّ في رواية ˝زلنبح˝ برأسها بشكل ضمني غير مباشر، إذ تخلّل النسيج الروائي بعض الطقوس التي طالما اهتم واحتفى بها المجتمع النوبي، مثل الرقص والأعياد والمهرجانات والأعراس. أما اللغة التي اعتمدها الكاتب، فكانت الفصحى السلسة شديدة العذوبة كثيفة الدلالة، كما كانت دائماً في كل نصوص حجاج أدول وكان يبرز دوماً خلالها ارتفاع الحس الإنساني الذي يعبّر بصورة أو بأخرى عن المجتمع النوبي ويميّز أهله بشكل خاص . ❝
❞ مقدمة
نبذة عن الأمثال الشعبية
ارتبط المجتمع العربي بقول الأمثال والاستدلال بها، في مختلف المواقف، فالأمثال ميراث الآباء للأبناء، ويرى البعض أنها ضرورة، وما من أمة أو مجتمع إلا واستعان بهذا الأدب الشعبي، فعبارة موجزة بليغة تغني عن شرح وسرد موقف أو إهداء نصيحة بحوار طويل، والمثل يعد من أفضل الآداب التي يمكن للمرء التعبير بها في أثناء الحديث، وإيصال الفكرة المطلوبة بسهولة، وهو يعبر عن موضوعات عامة ومشتركة بين الناس. وفي الغالب يصاحب المثل قصة من الممكن أن تكون حقيقية ووقعت بالفعل، ولكن في أغلب الأحيان تكون القصة من الخيال، ولذا نجد تعدد بعض القصص للمثل الواحد وتغير المشاهد من قصة لأخرى، ذلك لطول العهد بين رؤية المستدل بالمثل وصاحب القصة، وحاجة المجتمع لهذا النوع من الإضافة والتوضيح.
ونرى أن قائل المثل يردده بقوة صاحب الحجة والبرهان، وكأنه استدل بخبر من السماء، وعلى المستمع السمع والطاعة والرضوخ، وأحيانًا لا يحق للمستمع حتى المناقشة، لأن القائل معه الحجة والبرهان، ولا تملك رد قوله لأن معه الدليل كما يظن.
المثل له معنى في اللغة وآخر في المصطلح..
المثل في اللغة: النظير والشبه.
المثل في المصطلح: هو الأقوال التي تورث من الآباء للأبناء، وتعكس ثقافة المجتمع، وهو جملة مفيدة موجزة متواترة شفهيًا من جيل إلى جيل، والأمثال ˝علم سماعي˝ ينتقل شفهيًا عبر الأجيال والأقطار، وقد يضاف إليه أو يحذف منه، ويظل المعنى في الأعم الأغلب واحدًا.
ويصدر المثل عن جموع الناس كل الناس، وهو عبارة بليغة موجزة جميلة الصياغة، وقوية التأثير والدلالة، وعادةً ما يحظى بالقبول والانتشار والتداول والتواتر.
ولا يشترط أن يكون المثل صحيح المعنى، فهناك أمثال غير صحيحة الدلالة، وشُرِح ذلك في الجزء الأول من هذه السلسلة، في كتاب ˝دور الحكمة والأمثال الشعبية في المجتمع˝، وهناك مثل عكس مثل، نعم، لأن الأمثال قول البشر، ولا تصدر عن نفس الشخص، ويختلف الزمان والمكان بين كل مثل وعكسه، وكذلك ثقافة المجتمع الصادر منه المثل، ومن هنا كان الاختلاف.
وقد يكون الاختلاف مقبولًا ويصح الجمع بينهما، فليس كل اختلاف تضادًا، فقد يكون الاختلاف في الحالة التي يستدل بها على المثل، وهناك أمثال تخالف الشرع والدين، وفي المقابل هناك أمثال من القرآن والسنة، والمولى -سبحانه وتعالى- ضرب لنا الأمثال في كتابه العزيز، نجد أيضًا في السنة المطهرة العديد من الأمثال، وقد ذكرنا في الجزء الأول من هذه السلسلة أنواع الأمثال في الكتاب والسنة، التي ذكرت لتوضيح المعنى وتبسيط المعلومة، وهناك أمثال تحاكي تجارب الحكماء، والنصح والإرشاد، والعلم والتعليم، والصناعة، والزراعة، والطقس، والآداب.
باختصار الأمثال وردت في كل فنون الحياة.
المطلوب: مراجعة المثل ومعايرته، فإن اختلف مع الشرع والدين والثوابت والموروثات الصحيحة، لا نعتقد فيه ولا نردده، وننصح بعدم قبوله وقوله وتداوله، وإن اتفق قبلناه، لأن المولى -سبحانه وتعالى- سيسأل العباد عن الأقوال والأفعال والاعتقاد. قال سبحانه: (وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). والرسول (ص) قال: ˝أو لا يكب الناس على وجوههم في النار يوم القيامة إلا من حصائد ألسنتهم˝.
فالكلمة أمانة، والعبد مسؤول عنها، ولذا لزم ضبط الأقوال التي نرددها، وننصح بها مع ميزان الشرع.
الفرق بين المثل والحكمة
المثل لا يشترط أن يكون صحيح المعنى، ولكنه صادف ظرفًا اشتهر به، وتم تداوله وتواتره بين الناس. أما الحكمة فلا بد أن تكون صادقة في كل الأحوال، لأن نظرة قائل المثل موضوعية، صادرة من عامة الناس، أما قائل الحكمة حكيم وذو نظرة شمولية من جميع الجوانب، ولا بد أن تتفق مع شرع الله.
باب معنى القصة والحكاية والفرق بينهما
سنتعرض في هذا الكتاب لقصة مثل أو حكاية مثل، وبداية لا بد أن نوضح الفرق بين القصة والحكاية، ومعنى الحكاية التي سنتخذها وسيلة لعرض الأحداث، وأنواعها.
الحكاية والقصة والفرق بينهما:
الحكاية: هي نص شفهي روائي، يرويه جيل عن جيل، وهي متوارثة، ويضاف إليها أو يحذف منها، والإبداع فيها يعتمد على الراوي وطريقة عرض الحكاية، فليس لها كاتب، وهي موروث ولسان الجماعة وملك للجميع.
القصة: هي لكاتب معين، تعبر عنه وعن رؤيته الخاصة، بمنظور فردي، وليست رؤية مجتمعية، ولا يجوز الإضافة أو الحذف منها، والحكاية كلمة اشتُقَت من كلمة (حكي) وهي التلقي بطريقة شفهية، ولا يستطيع المتلقي (المستمع) أن يضيف عليها بخياله، والمكان بالحكاية غير ذي قيمة أو تأثير بالغ كما بالقصة، أما القصة لها ضوابط مختلفة، وتسمح للقارئ بالتخيل، والحكاية من الممكن أن تتحول إلى قصة بعد إعادة صياغتها وكتابتها، وخلق أحداث وحبكة ترويها شخصيات القصة لا الراوي، وتم ذلك في بعض القصص التاريخية وترجمة بعض الحكايات الشعبية الموروثة وتحويلها إلى قصص.
والشاهد: أن الأمثال الهدف منها الدرس والعبرة والنصح والتحذير، في صور بسيطة موجزة، ولذا فقصة المثل أو حكاية المثل تأتي في نفس السياق، ويأتي المثل من الخيال، ويضاف إليه أو يحذف منه، أو يُسقَط، ولذا نرى أن حكاية المثل تأتي وقد تولد من أصل الحكاية (فتكون حكاية المثل)، ومن الممكن أن يكون المثل ثم تأتي الحكاية لتوضيح معنى ومغزى المثل، وقد تُروى حكاية المثل على لسان إنسان أو حيوان، والأصل في سرد الحكاية أنها متواترة لهذا المثل، وقد يرد للمثل أكثر من حكاية، نتعرض لها أو نروي أكثرها انتشارًا وتداولًا بين الناس، وقد نستعين ببعض الحكايات لشرح بعض الأمثال، رأينا أنها مناسبة لشرح وتوضيح المعنى.
د. عادل سالم محمد خلف. ❝ ⏤عادل سالم محمد خلف
❞ مقدمة نبذة عن الأمثال الشعبية ارتبط المجتمع العربي بقول الأمثال والاستدلال بها، في مختلف المواقف، فالأمثال ميراث الآباء للأبناء، ويرى البعض أنها ضرورة، وما من أمة أو مجتمع إلا واستعان بهذا الأدب الشعبي، فعبارة موجزة بليغة تغني عن شرح وسرد موقف أو إهداء نصيحة بحوار طويل، والمثل يعد من أفضل الآداب التي يمكن للمرء التعبير بها في أثناء الحديث، وإيصال الفكرة المطلوبة بسهولة، وهو يعبر عن موضوعات عامة ومشتركة بين الناس. وفي الغالب يصاحب المثل قصة من الممكن أن تكون حقيقية ووقعت بالفعل، ولكن في أغلب الأحيان تكون القصة من الخيال، ولذا نجد تعدد بعض القصص للمثل الواحد وتغير المشاهد من قصة لأخرى، ذلك لطول العهد بين رؤية المستدل بالمثل وصاحب القصة، وحاجة المجتمع لهذا النوع من الإضافة والتوضيح. ونرى أن قائل المثل يردده بقوة صاحب الحجة والبرهان، وكأنه استدل بخبر من السماء، وعلى المستمع السمع والطاعة والرضوخ، وأحيانًا لا يحق للمستمع حتى المناقشة، لأن القائل معه الحجة والبرهان، ولا تملك رد قوله لأن معه الدليل كما يظن.
المثل له معنى في اللغة وآخر في المصطلح.. المثل في اللغة: النظير والشبه. المثل في المصطلح: هو الأقوال التي تورث من الآباء للأبناء، وتعكس ثقافة المجتمع، وهو جملة مفيدة موجزة متواترة شفهيًا من جيل إلى جيل، والأمثال ˝علم سماعي˝ ينتقل شفهيًا عبر الأجيال والأقطار، وقد يضاف إليه أو يحذف منه، ويظل المعنى في الأعم الأغلب واحدًا. ويصدر المثل عن جموع الناس كل الناس، وهو عبارة بليغة موجزة جميلة الصياغة، وقوية التأثير والدلالة، وعادةً ما يحظى بالقبول والانتشار والتداول والتواتر. ولا يشترط أن يكون المثل صحيح المعنى، فهناك أمثال غير صحيحة الدلالة، وشُرِح ذلك في الجزء الأول من هذه السلسلة، في كتاب ˝دور الحكمة والأمثال الشعبية في المجتمع˝، وهناك مثل عكس مثل، نعم، لأن الأمثال قول البشر، ولا تصدر عن نفس الشخص، ويختلف الزمان والمكان بين كل مثل وعكسه، وكذلك ثقافة المجتمع الصادر منه المثل، ومن هنا كان الاختلاف. وقد يكون الاختلاف مقبولًا ويصح الجمع بينهما، فليس كل اختلاف تضادًا، فقد يكون الاختلاف في الحالة التي يستدل بها على المثل، وهناك أمثال تخالف الشرع والدين، وفي المقابل هناك أمثال من القرآن والسنة، والمولى -سبحانه وتعالى- ضرب لنا الأمثال في كتابه العزيز، نجد أيضًا في السنة المطهرة العديد من الأمثال، وقد ذكرنا في الجزء الأول من هذه السلسلة أنواع الأمثال في الكتاب والسنة، التي ذكرت لتوضيح المعنى وتبسيط المعلومة، وهناك أمثال تحاكي تجارب الحكماء، والنصح والإرشاد، والعلم والتعليم، والصناعة، والزراعة، والطقس، والآداب. باختصار الأمثال وردت في كل فنون الحياة. المطلوب: مراجعة المثل ومعايرته، فإن اختلف مع الشرع والدين والثوابت والموروثات الصحيحة، لا نعتقد فيه ولا نردده، وننصح بعدم قبوله وقوله وتداوله، وإن اتفق قبلناه، لأن المولى -سبحانه وتعالى- سيسأل العباد عن الأقوال والأفعال والاعتقاد. قال سبحانه: (وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). والرسول (ص) قال: ˝أو لا يكب الناس على وجوههم في النار يوم القيامة إلا من حصائد ألسنتهم˝. فالكلمة أمانة، والعبد مسؤول عنها، ولذا لزم ضبط الأقوال التي نرددها، وننصح بها مع ميزان الشرع. الفرق بين المثل والحكمة المثل لا يشترط أن يكون صحيح المعنى، ولكنه صادف ظرفًا اشتهر به، وتم تداوله وتواتره بين الناس. أما الحكمة فلا بد أن تكون صادقة في كل الأحوال، لأن نظرة قائل المثل موضوعية، صادرة من عامة الناس، أما قائل الحكمة حكيم وذو نظرة شمولية من جميع الجوانب، ولا بد أن تتفق مع شرع الله. باب معنى القصة والحكاية والفرق بينهما سنتعرض في هذا الكتاب لقصة مثل أو حكاية مثل، وبداية لا بد أن نوضح الفرق بين القصة والحكاية، ومعنى الحكاية التي سنتخذها وسيلة لعرض الأحداث، وأنواعها.
الحكاية والقصة والفرق بينهما: الحكاية: هي نص شفهي روائي، يرويه جيل عن جيل، وهي متوارثة، ويضاف إليها أو يحذف منها، والإبداع فيها يعتمد على الراوي وطريقة عرض الحكاية، فليس لها كاتب، وهي موروث ولسان الجماعة وملك للجميع. القصة: هي لكاتب معين، تعبر عنه وعن رؤيته الخاصة، بمنظور فردي، وليست رؤية مجتمعية، ولا يجوز الإضافة أو الحذف منها، والحكاية كلمة اشتُقَت من كلمة (حكي) وهي التلقي بطريقة شفهية، ولا يستطيع المتلقي (المستمع) أن يضيف عليها بخياله، والمكان بالحكاية غير ذي قيمة أو تأثير بالغ كما بالقصة، أما القصة لها ضوابط مختلفة، وتسمح للقارئ بالتخيل، والحكاية من الممكن أن تتحول إلى قصة بعد إعادة صياغتها وكتابتها، وخلق أحداث وحبكة ترويها شخصيات القصة لا الراوي، وتم ذلك في بعض القصص التاريخية وترجمة بعض الحكايات الشعبية الموروثة وتحويلها إلى قصص. والشاهد: أن الأمثال الهدف منها الدرس والعبرة والنصح والتحذير، في صور بسيطة موجزة، ولذا فقصة المثل أو حكاية المثل تأتي في نفس السياق، ويأتي المثل من الخيال، ويضاف إليه أو يحذف منه، أو يُسقَط، ولذا نرى أن حكاية المثل تأتي وقد تولد من أصل الحكاية (فتكون حكاية المثل)، ومن الممكن أن يكون المثل ثم تأتي الحكاية لتوضيح معنى ومغزى المثل، وقد تُروى حكاية المثل على لسان إنسان أو حيوان، والأصل في سرد الحكاية أنها متواترة لهذا المثل، وقد يرد للمثل أكثر من حكاية، نتعرض لها أو نروي أكثرها انتشارًا وتداولًا بين الناس، وقد نستعين ببعض الحكايات لشرح بعض الأمثال، رأينا أنها مناسبة لشرح وتوضيح المعنى. د. عادل سالم محمد خلف . ❝
♦ ♦ لا شك أن هذه الحروف المقطعة في أوائل السور قد صدمتك حينما طالعتها لأول مرة .. هذه الـ حم ، طسم ، الم ، كهيعص ، ق ، ص ..
تُرى ماذا قلت لنفسك و أنت تقرأها ؟
إكتفى بأن يمط شفتيه في لا مبالاة و يقول في غمغمة مبتورة :-
♦ يعنى .
♦ ♦ يعنى ماذا .. ؟
♦ يعنى .. أي كلام يضحك به النبي عليكم .
♦ ♦ حسنـًا دعنا نختبر هذا الكلام الذي تدَّعي أنه كلام فارغ و الذي تصورت أن النبي يضحك به علينا .
و دعنا نأخذ سورة صغيرة بسيطة من هذه السور .. سورة ق مثـلاً .. و نُجرى تجربة .. فَنَعُد ما فيها من قافات و سنجد أن فيها 57 قافـًا .. ثم نأخذ السورة التالية و هي سورة الشورى و هي ضعفها في الطول و في فواتحها حرف ق أيضـًا .. و سنجد أن فيها هي الأخرى 57 قافـًا .
هل هي صدفة .. ؟!
لنجمع 57 + 57 = 114 عدد سور القرآن ..
هل تذكر كيف تبدأ سورة ق .. و كيف تختتم .. في بدايتها (( ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ )) و في ختامها .. ((فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ )) ..
و كأنما هي إشارات بأن ق ترمز للقرآن .. ( و مجموع القافات 114 و هي مجموع سور القرآن) .
قال صاحبي في لا مبالاة :
♦ هذه أمور من قبيل الصدف .
قلت في هدوء :
♦ ♦ سنمضى في التجربة و نضع ســور القرآن في العقل الإلكترونيّ و نسأله أن يقدم لنا إحصائية بمعدلات توارد حرف القاف في جميع السور .
قال و قد توترت أعصابه و تيقظ تمامـًا :
♦ و هل فعلوها ؟
قلت في هدوء :
♦ ♦ نعم فعلوها .
♦ و ماذا كانت النتيجة ؟
♦ ♦ قال لنا العقل الإلكترونيّ أن أعلى المتوسطات و المعدلات موجودة في سورة ق و أن هذه السورة قد تفوقت حسابيـًا على كل المصحف في هذا الحرف .. هل هي صدفة أخرى ؟ !
♦ غريب .
♦ ♦ و ســورة الرعـد تبدأ بالحروف ( ا ل م ر ) قدم لنا العقل الإلكترونيّ إحصائية بتوارد هذه الحروف في داخل الســور كالآتى :
( ا ) تَرِدْ 625 مرة .
( ل ) تَرِدْ 479 مرة .
( م ) تَرِدْ 260 مرة .
( ر ) تَرِدْ 137 مرة .
هكذا و في ترتيب تنازلي ( ا ثم ل ثم م ثم ر ) .. بنفس الترتيب الذي كُتِبَتْ به ( ا ل م ر ) تنازليـًا
ثم قام العقل الإلكترونيّ بإحصاء معدلات توارد هذه الحروف في المصحف كله .. و ألقى إلينا بالقنبلة الثانية ..
أن أعلى المعدلات و المتوسطات لهذه الحروف هي في سورة الرعد .. و أن هذه السورة تفوقت حسابيـًا في هذه الحروف على جميع المصحف .
نفس الحكاية في ( ا ل م ) البقرة :
( ا ) وردت 4592 مرة .
( ل ) وردت 3204 مرات .
( م ) وردت 2195 مرة .
بنفس الترتيب التنازلي ( ا ل م ) .
ثم يقول لنا العقل الإلكترونيّ أن هذه الحروف الثلاثة لها تفوق حسابي على باقي الحروف في داخل سورة البقرة .
نفس الحكاية في ( ا ل م ) سورة آل عمران :
( ا ) وردت 2578 مرة .
( ل ) وردت 1885 مرة .
( م ) وردت 1251 مرة .
بنفس الترتيب التنازلي ( ا ل م ) .
و هي تتوارد في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف .
نفس الحكاية ( ا ل م ) سورة العنكبوت :
( ا ) وردت 784 مرة .
( ل ) وردت 554 مرة .
( م ) وردت 344 مرة .
بنفس الترتيب التنازلي ( ا ل م ) و هي تتوارد في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف .
نفس الحكاية في ( ا ل م ) سورة الروم :
( ا ) وردت 547 مرة .
( ل ) وردت 396 مرة .
( م ) وردت 318 مرة .
بنفس الترتيب ( ا ل م ) ثم هي تتوارد في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف .
و في جميع السور التي ابتدأت بالحروف ( ا ل م ) نجد أن السور المكية تتفوق حسابيـًا في معدلاتها على باقي السور المكية ..
و المدنية تتفوق حسابيـًا في معدلاتها من هذه الحروف على باقي السور المدنية .
و بالمثل في ( ا ل م ص ) سورة الأعراف :
يقول لنا العقل الإلكترونيّ أن معدلات هذه الحروف هي أعلى ما تكون في سورة الأعراف ، و أنها تتفوق حسابيـًا على كل السور المكية في المصحف .
و في سورة طـه نجد أن الحرف ( طـ ) و الحرف ( هـ ) يتواردان فيها بمعدلات تتفوق على كل السور المكية .. و كذلك في ( كهيعص ) مريم ترتفع معدلات هذه الحروف على كل السور المكية في المصحف .
كما نجد أن جميع السور التي افتتحت بالحروف ( حـم ) .. إذا ضمت إلى بعضها فإن معدلات توارد الحرف ( ح ) و الحرف ( م ) تتفوق على كل السور المكية في المصحف .
و بالمثل السورتان اللتان افتتحتا بحرف ( ص ) و هما سورة" ص " و الأعراف ( ا ل م ص ) و يلاحظ أنهما نزلتا متتابعتين في الوحي .. إذا ضمتا معـًا تفوقتا حسابيـًا في هذه الحروف على باقي المصحف .
و كذلك السور التي افتتحت بالحروف ( ا ل ر ) و هي إبراهيم و يونس و هود و يوسف و الحجر و أربع منها جاءت متتابعة في تواريخ الوحي .. إذا ضمت لبعضها .. أعطانا العقل الإلكترونيّ أعلى معدلات في نسبة توارد حروفها ( ا ل ر ) على كل السور المكية في المصحف .
أما في سورة يـس فإننا نلاحظ أن الدلالة موجودة و لكنها انعكست ..
لأن ترتيب الحروف انعكس : فالياء في الأول .. يـس " بعكس الترتيب الأبجدي " . و لهذا نرى أن توارد الحرف ( ي ) و الحرف ( س ) هو أقل من توارده في جميع المصحف مدنيـًا و مكـيًا .
فالدلالة الإحصائية هنا موجودة و لكنها انعكست .
# كان صاحبي قد سكت تمامـًا . قلت وأنا أطمئنه :
♦ ♦ أنا لا أقول هذا الكلام من عند نفسي و إنما هي دراسة قام بها عالم مصريّ في أمريكا هو الدكتور رشاد خليفة ..
و هذا الكتاب الذي بين يديك يقدم لك هذه الدراسة مفصلة :Miracle of Quranslamic Productions international in St. Louis mo
و قدمت إليه كتابًا إنجليزيًا مطبوعًا في أمريكا للمؤلف .
أخذ صاحبي يقلب الكتاب في صمت . قلت :
♦ ♦ لم تعد المسألة صدفة .. و إنما نحن أمام قوانين محكمـة و حروف محسوبة كل حرف وُضِع بميزان .. و رحت أتلو عليه من سورة الشورى : { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } الشورى – 17 . و أي ميـــزان ! ! .. نحن هنا أمام ميزان يدق حتى يزن الشعرة و الحرف ..
أظن أن فكرة النبي الذي يؤلف القرآن و يقول لنفسه سلفـًا سوف أؤلف ســورة الرعد من حروف ( ا ل م ر ) و أورد بها أعلى معدلات من هذه الحروف على باقي الكتاب و هو لم يؤلف بعد الكتاب .. مثل هذا الظن لم يعد جائزًا ..
و أين هذا الذي يُحصى له هذه المعدلات و هي مهمة لا يستطيع أن يقوم بها إلا عقل إلكتروني و لو تكفل هو بها فإنه سيقضى بضع سنين ليحصي الحروف في سورة واحدة يجمع و يطرح بعلوم عصره و هو لا يعرف حتى علوم عصره و هو سيؤلف أو يشتغل عدادًا للحروف .
نحن هنا أمام إستحالة . فإذا عرفنا أن القرآن نزل مفرَقـًا و مقطعًا على23 سنة .. فإنا سوف نعرف أن وضع معدلات إحصائية مسبقة بحروفه هي استحالة أخرى .. و أمر لا يمكن أن يعرفه إلا العليم الذي يعلم كل شيء قبل حدوثه و الذي يحصى بأسرع و أدق من كل العقول الإلكترونية .. الله الذي أحاط بكل شيء علمًا ..
و ما هذه الحروف المقطعة في فواتح السور إلا رموز علمه بثها في تضاعيف كتابه لنكشفها نحن على مدى الزمان .
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَ فِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } فصلت - 53 .
و لا أقول أن هذه كل أسرار الحروف .. بل هي مجرد بداية لا أحد يدرى إلى أي آفاق سوف توصلنا . و هذه الحروف بهذه الدلالة الجديدة تنفي نفيًا باتًا شبهة التأليف .
ثم هي تضعنا أمام موازين دقيقة و دلالات عميقة لكل حرف فلا يجرؤ أحدنا أن يقول أنه أمام .. أي كلام ..
ألا ترى يا صاحبي أنك أمام كلام لا يمكن أن يكون أي كلام ..
و لم يُجِب صاحبي .. و إنما ظل يقلب الكتاب الإنجليزى و يتصفحه ثم يعود يقلبه دون أن ينطق بحرف .
كتاب /حوار مع صديقى الملحد. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الفصل السادس عشر كـــهـــيــعــص ..
قلت لصديقي الملحد :
♦ ♦ لا شك أن هذه الحروف المقطعة في أوائل السور قد صدمتك حينما طالعتها لأول مرة .. هذه الـ حم ، طسم ، الم ، كهيعص ، ق ، ص .. تُرى ماذا قلت لنفسك و أنت تقرأها ؟ إكتفى بأن يمط شفتيه في لا مبالاة و يقول في غمغمة مبتورة :-
♦ يعنى .
♦ ♦ يعنى ماذا .. ؟
♦ يعنى .. أي كلام يضحك به النبي عليكم .
♦ ♦ حسنـًا دعنا نختبر هذا الكلام الذي تدَّعي أنه كلام فارغ و الذي تصورت أن النبي يضحك به علينا . و دعنا نأخذ سورة صغيرة بسيطة من هذه السور .. سورة ق مثـلاً .. و نُجرى تجربة .. فَنَعُد ما فيها من قافات و سنجد أن فيها 57 قافـًا .. ثم نأخذ السورة التالية و هي سورة الشورى و هي ضعفها في الطول و في فواتحها حرف ق أيضـًا .. و سنجد أن فيها هي الأخرى 57 قافـًا . هل هي صدفة .. ؟! لنجمع 57 + 57 = 114 عدد سور القرآن .. هل تذكر كيف تبدأ سورة ق .. و كيف تختتم .. في بدايتها (( ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ )) و في ختامها .. ((فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ )) .. و كأنما هي إشارات بأن ق ترمز للقرآن .. ( و مجموع القافات 114 و هي مجموع سور القرآن) .
قال صاحبي في لا مبالاة :
♦ هذه أمور من قبيل الصدف .
قلت في هدوء :
♦ ♦ سنمضى في التجربة و نضع ســور القرآن في العقل الإلكترونيّ و نسأله أن يقدم لنا إحصائية بمعدلات توارد حرف القاف في جميع السور . قال و قد توترت أعصابه و تيقظ تمامـًا :
♦ و هل فعلوها ؟
قلت في هدوء :
♦ ♦ نعم فعلوها .
♦ و ماذا كانت النتيجة ؟
♦ ♦ قال لنا العقل الإلكترونيّ أن أعلى المتوسطات و المعدلات موجودة في سورة ق و أن هذه السورة قد تفوقت حسابيـًا على كل المصحف في هذا الحرف .. هل هي صدفة أخرى ؟ !
♦ غريب .
♦ ♦ و ســورة الرعـد تبدأ بالحروف ( ا ل م ر ) قدم لنا العقل الإلكترونيّ إحصائية بتوارد هذه الحروف في داخل الســور كالآتى : ( ا ) تَرِدْ 625 مرة . ( ل ) تَرِدْ 479 مرة . ( م ) تَرِدْ 260 مرة . ( ر ) تَرِدْ 137 مرة . هكذا و في ترتيب تنازلي ( ا ثم ل ثم م ثم ر ) .. بنفس الترتيب الذي كُتِبَتْ به ( ا ل م ر ) تنازليـًا
ثم قام العقل الإلكترونيّ بإحصاء معدلات توارد هذه الحروف في المصحف كله .. و ألقى إلينا بالقنبلة الثانية .. أن أعلى المعدلات و المتوسطات لهذه الحروف هي في سورة الرعد .. و أن هذه السورة تفوقت حسابيـًا في هذه الحروف على جميع المصحف .
نفس الحكاية في ( ا ل م ) البقرة : ( ا ) وردت 4592 مرة . ( ل ) وردت 3204 مرات . ( م ) وردت 2195 مرة . بنفس الترتيب التنازلي ( ا ل م ) .
ثم يقول لنا العقل الإلكترونيّ أن هذه الحروف الثلاثة لها تفوق حسابي على باقي الحروف في داخل سورة البقرة .
نفس الحكاية في ( ا ل م ) سورة آل عمران : ( ا ) وردت 2578 مرة . ( ل ) وردت 1885 مرة . ( م ) وردت 1251 مرة . بنفس الترتيب التنازلي ( ا ل م ) . و هي تتوارد في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف .
نفس الحكاية ( ا ل م ) سورة العنكبوت : ( ا ) وردت 784 مرة . ( ل ) وردت 554 مرة . ( م ) وردت 344 مرة . بنفس الترتيب التنازلي ( ا ل م ) و هي تتوارد في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف .
نفس الحكاية في ( ا ل م ) سورة الروم : ( ا ) وردت 547 مرة . ( ل ) وردت 396 مرة . ( م ) وردت 318 مرة . بنفس الترتيب ( ا ل م ) ثم هي تتوارد في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف .
و في جميع السور التي ابتدأت بالحروف ( ا ل م ) نجد أن السور المكية تتفوق حسابيـًا في معدلاتها على باقي السور المكية .. و المدنية تتفوق حسابيـًا في معدلاتها من هذه الحروف على باقي السور المدنية .
و بالمثل في ( ا ل م ص ) سورة الأعراف : يقول لنا العقل الإلكترونيّ أن معدلات هذه الحروف هي أعلى ما تكون في سورة الأعراف ، و أنها تتفوق حسابيـًا على كل السور المكية في المصحف . و في سورة طـه نجد أن الحرف ( طـ ) و الحرف ( هـ ) يتواردان فيها بمعدلات تتفوق على كل السور المكية .. و كذلك في ( كهيعص ) مريم ترتفع معدلات هذه الحروف على كل السور المكية في المصحف . كما نجد أن جميع السور التي افتتحت بالحروف ( حـم ) .. إذا ضمت إلى بعضها فإن معدلات توارد الحرف ( ح ) و الحرف ( م ) تتفوق على كل السور المكية في المصحف .
و بالمثل السورتان اللتان افتتحتا بحرف ( ص ) و هما سورة" ص " و الأعراف ( ا ل م ص ) و يلاحظ أنهما نزلتا متتابعتين في الوحي .. إذا ضمتا معـًا تفوقتا حسابيـًا في هذه الحروف على باقي المصحف . و كذلك السور التي افتتحت بالحروف ( ا ل ر ) و هي إبراهيم و يونس و هود و يوسف و الحجر و أربع منها جاءت متتابعة في تواريخ الوحي .. إذا ضمت لبعضها .. أعطانا العقل الإلكترونيّ أعلى معدلات في نسبة توارد حروفها ( ا ل ر ) على كل السور المكية في المصحف .
أما في سورة يـس فإننا نلاحظ أن الدلالة موجودة و لكنها انعكست .. لأن ترتيب الحروف انعكس : فالياء في الأول .. يـس " بعكس الترتيب الأبجدي " . و لهذا نرى أن توارد الحرف ( ي ) و الحرف ( س ) هو أقل من توارده في جميع المصحف مدنيـًا و مكـيًا . فالدلالة الإحصائية هنا موجودة و لكنها انعكست .
# كان صاحبي قد سكت تمامـًا . قلت وأنا أطمئنه :
♦ ♦ أنا لا أقول هذا الكلام من عند نفسي و إنما هي دراسة قام بها عالم مصريّ في أمريكا هو الدكتور رشاد خليفة .. و هذا الكتاب الذي بين يديك يقدم لك هذه الدراسة مفصلة :Miracle of Quranslamic Productions international in St. Louis mo و قدمت إليه كتابًا إنجليزيًا مطبوعًا في أمريكا للمؤلف . أخذ صاحبي يقلب الكتاب في صمت . قلت :
♦ ♦ لم تعد المسألة صدفة .. و إنما نحن أمام قوانين محكمـة و حروف محسوبة كل حرف وُضِع بميزان .. و رحت أتلو عليه من سورة الشورى : ﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ الشورى – 17 . و أي ميـــزان ! ! .. نحن هنا أمام ميزان يدق حتى يزن الشعرة و الحرف ..
أظن أن فكرة النبي الذي يؤلف القرآن و يقول لنفسه سلفـًا سوف أؤلف ســورة الرعد من حروف ( ا ل م ر ) و أورد بها أعلى معدلات من هذه الحروف على باقي الكتاب و هو لم يؤلف بعد الكتاب .. مثل هذا الظن لم يعد جائزًا .. و أين هذا الذي يُحصى له هذه المعدلات و هي مهمة لا يستطيع أن يقوم بها إلا عقل إلكتروني و لو تكفل هو بها فإنه سيقضى بضع سنين ليحصي الحروف في سورة واحدة يجمع و يطرح بعلوم عصره و هو لا يعرف حتى علوم عصره و هو سيؤلف أو يشتغل عدادًا للحروف .
نحن هنا أمام إستحالة . فإذا عرفنا أن القرآن نزل مفرَقـًا و مقطعًا على23 سنة .. فإنا سوف نعرف أن وضع معدلات إحصائية مسبقة بحروفه هي استحالة أخرى .. و أمر لا يمكن أن يعرفه إلا العليم الذي يعلم كل شيء قبل حدوثه و الذي يحصى بأسرع و أدق من كل العقول الإلكترونية .. الله الذي أحاط بكل شيء علمًا .. و ما هذه الحروف المقطعة في فواتح السور إلا رموز علمه بثها في تضاعيف كتابه لنكشفها نحن على مدى الزمان . ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَ فِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ فصلت - 53 .
و لا أقول أن هذه كل أسرار الحروف .. بل هي مجرد بداية لا أحد يدرى إلى أي آفاق سوف توصلنا . و هذه الحروف بهذه الدلالة الجديدة تنفي نفيًا باتًا شبهة التأليف . ثم هي تضعنا أمام موازين دقيقة و دلالات عميقة لكل حرف فلا يجرؤ أحدنا أن يقول أنه أمام .. أي كلام ..
ألا ترى يا صاحبي أنك أمام كلام لا يمكن أن يكون أي كلام ..
و لم يُجِب صاحبي .. و إنما ظل يقلب الكتاب الإنجليزى و يتصفحه ثم يعود يقلبه دون أن ينطق بحرف .