❞ في حضرة الحياة وكأسٍ من القهوة
جلسَت أمامي حياة بثوبِ العجائزِ المُرهَقات، تَلفُّ أناملَها المُتغضّنةَ حولَ فنجانٍ من القهوةِ المُرّة، تحتسيه كأنّها تَبتلعُ معهُ بقايا الأوهامِ الّتي غَصَّت بها حَناجرُ العُمر. أرهَقتها سِجِلّاتُ النّاسِ ومُجرَياتُ أيّامِهم، ففتَحت دفاتِرَها العَتيقةَ وألقَت أمامي كِسرةً من حِكمتِها، وكأنّها تَهَبُني تَذكرةً للعَبورِ في هذا العالَمِ دونَ أن أُغرِقَ ذاتي في وَحلِهِ.
قالت، وقد وسمَتِ المرارةُ صوتَها كما يُوسِمُ القَطرانُ الأياديَ الّتي تتجرّأُ عليهِ:
\"ما أكثرَ ما يتوهّمُ النّاسُ فَهمَ بعضِهم، وما أَخبثَ ما يُضمِرونَ وراءَ ظُهورِهم، وما أجبنَهم حينَ يُسلّطونَ نيرانَهم على الضّعيفِ ويتملّقونَ القويَّ بوجهٍ أملَسَ كصَفحةِ ماءٍ آسنٍ... اسمعي، يا ابنتي، واعِي ما سأبوحُ به لكِ، فإنّ هذا القَطعَ المُتعَفّنَ مِنَ العُمرِ، الذي نسمّيهِ عالَمًا، لا يُعطي لأحدٍ سوى بِمقابلٍ يُفني نصفَهُ أو أكثرَ.\"
ثمّ ألقت بنظرةٍ بعيدةٍ كأنّها تنقّبُ في سراديبِ الذّاكرة، وهزّت رأسَها بتنهيدةٍ امتزجَت بِرائحةِ القهوةِ الباردةِ قبلَ أن تُتابعَ كلامَها، وبدأت تُساقِطُ حِكمَها كأنّها تَزرعُها في تُربةِ الإدراكِ، واحدةً تلوَ الأخرى...
1️⃣ الناسُ لا ينظُرونَ إليكَ كما أنت، بل كما يريدونَ أن تكون، فإن خيّبتَ توقعاتهم، انقلبَ عليكَ وُدُّهُم، وإن أرضيتَها، ضحّيتَ بنَفسِكَ من أجلِ الوَهمِ. فاخترْ إنقاذَ ذاتِك.
2️⃣ لا تُصَدّقِ الألسنةَ المُغلفةَ بالعسل، فغالبًا ما تَكمنُ العقاربُ بينَ لَدائنِ الحَلوى، وما من لَفظٍ مُعسَّلٍ إلّا وأخفى وراءَهُ سُمًّا للغافلينَ.
3️⃣ الغالبيةُ يَعيشونَ حيواتٍ مُستَنسَخَةً من بعضِهم، يعيدونَ أخطاءَ أسلافِهم ويصرخونَ أنّهم مُتفرّدون، فلا تَغرّنكَ ادّعاءاتُ التميّزِ، فالسّوادُ الأعظمُ ليسَ إلّا تكرارًا صاخبًا بنَبرةٍ مُختلفة.
4️⃣ لن يَغفِرَ لكَ أحدٌ تفوّقَك، ولن يَحتَفي بكَ أحدٌ إلّا إذا احتاجَ إلى ظلِّك ليختبِئَ تحته، فانجُ برُوحِك، فالنّاسُ لا يَهوَونَ إلّا منكسِري الجناحِ.
5️⃣ الأفكارُ ليست مُلكًا لأحد، ولكنّ العُقولَ التي تتبنّاها إمّا تُطلقُها كالرّيحِ أو تَدفِنُها كاللّعنةِ. فاخترِ النّفاذَ من القيودِ بدلًا من الموتِ صامتًا.
6️⃣ إذا سقطتَ في محنةٍ، سيهرولُ النّاسُ لمواساتِك كي لا يتّهمَهم المجتمعُ بالقسوة، لكن إن طالَ انكسارُك، تركوكَ ومَضَوا إلى مَن هُم أبرعُ في حياكةِ الدّموعِ منكَ. فاجمَع نفسَكَ ولا تنتظرْ أحدًا.
7️⃣ أقدامُ البشرِ تسيرُ فوقَ جُثثِ الأحلامِ التي قتَلوها بأيديهم، ولا يَلتفِتونَ لصريرِ العظامِ تحتَهم، فإيّاكَ أن تَمنحَ أحدًا قلبَكَ ثمَّ تُطالِبَهُ برُدّهِ، فلن يعيدَهُ لكَ إلّا مُهشَّمًا.
8️⃣ المديحُ يُوزَّعُ في هذا العالمِ إمّا كرشوةٍ أو كمُخدّر، فحينَ تُسمعُ كلماتُ الإطراءِ، قِفْ، واسألْ: \"ماذا يريدونَ مِنّي؟\" ولا تَبتسمْ طويلاً، فالثّمنُ قادمٌ لا مَحالَةَ.
9️⃣ سيُحدّثونَك عن المساواةِ، عن الإنصافِ، عن العدلِ، لكن إن أمعنتَ في الواقعِ، ستُدركُ أنّ كلَّ شيءٍ في هذه الأرضِ مُصمَّمٌ ليَجعلَ البعضَ فوقَ رؤوسِ البعضِ، مهما حاولتَ المُقاومة.
🔟 إنَّ الكُرهَ في هذا العالَمِ هو القاعدةُ، والمحبّةُ استثناءٌ عابرٌ، لا تعوّلْ على كَثرةِ الأصدقاء، فهم أمواجٌ تأتي حينَ يَحتاجونَكَ، وتتبدّدُ حينَ تحتاجُهم. فامضِ وحدَكَ إن اقتضى الأمرُ.
1️⃣1️⃣ الغيرةُ ليست دَليلَ حُبّ، بل هي خوفٌ مُقنَّعٌ، فالرّجالُ يخافونَ أن تفوقَهم النّساءُ، والنّساءُ يخشَينَ أن تُخلفَهنَّ النّساءُ الأُخرياتُ. لا تُشفقْ على أحدٍ، فالجميعُ في مَعرَكَةِ مَن يَستولِي على الأمانِ.
1️⃣2️⃣ النّميمةُ ليست حِرفةً وضِيعةً كما يُقال، بل هي رُكنٌ من أركانِ التواصلِ البشريّ، فمتى سُحِبَت النّميمةُ من مُجالسِ النّاسِ، صارَ الصّمتُ مَخيفًا. فراقبْ فقط، دونَ أن تكونَ أداةً.
1️⃣3️⃣ المُعاناةُ لا تجعلُ البشرَ أرقّ، بل تَزرعُ فيهم غِلظةً مُرعبةً، فأولئك الذين ذاقوا القهرَ، يُمارسونهُ بشَرَهٍ حينَ تسنَحُ لهم الفُرصةُ، فلا تُراهنْ على طيبةِ مَن ذاقَ المَرارةَ.
1️⃣4️⃣ البشَرُ لا يُحبّونَ التواضُعَ، بل يحبّونَ أن تُشعِرَهم أنكَ دونَهُم، فإن زِدتَهم إشراقًا، احترقوا بغَيرتهم وصاروا سُمًّا في طَريقِكَ. فلا تُضيءَ إلّا لمَن يَستحقُّ.
1️⃣5️⃣ الحقيقةُ وَحشٌ ضارٍ، لا يَجرؤُ أحدٌ على التّحديقِ في عَينَيهِ، لذا يَحتمي البَشرُ بالخِداعِ، يكذبونَ بلباقةٍ، ويُبرّرونَها بالحِكمةِ، ويَعيشونَ بأمانٍ زائفٍ.
وأكملت تسلسلَها، وكلّ كلمةٍ تَسقُطُ في أعماقي كمِطرقةٍ تهشّمُ ما تبقّى من الأحلامِ الرّغيدةِ. كانت تَروي، وأنا أتَحسَّسُ سخونةَ الكوبِ بينَ يديَّ، أتَأمّلُ الدّخانَ المُتصاعِدَ منهُ كأنَّهُ أرواحُ الأمنياتِ المُحترقةِ، وأُصغي إلى حياة، علّني أَعبُرُ دونَ أن يَدهَسَني هذا العالَمُ، أو أتحوَّلَ إلى شظيةٍ مِن أنقاضِهِ.
✦•┈┈⛧┈♛┈⛧┈┈•✦ #ᴡʀ_ᴄʜɪʙᴏᴜʙ_ᴋʜᴅɪᴅᴊᴀ ✦•┈┈⛧┈♛┈⛧┈┈•✦. ❝ ⏤Khadidja Chiboub
❞ في حضرة الحياة وكأسٍ من القهوة
جلسَت أمامي حياة بثوبِ العجائزِ المُرهَقات، تَلفُّ أناملَها المُتغضّنةَ حولَ فنجانٍ من القهوةِ المُرّة، تحتسيه كأنّها تَبتلعُ معهُ بقايا الأوهامِ الّتي غَصَّت بها حَناجرُ العُمر. أرهَقتها سِجِلّاتُ النّاسِ ومُجرَياتُ أيّامِهم، ففتَحت دفاتِرَها العَتيقةَ وألقَت أمامي كِسرةً من حِكمتِها، وكأنّها تَهَبُني تَذكرةً للعَبورِ في هذا العالَمِ دونَ أن أُغرِقَ ذاتي في وَحلِهِ.
قالت، وقد وسمَتِ المرارةُ صوتَها كما يُوسِمُ القَطرانُ الأياديَ الّتي تتجرّأُ عليهِ:
˝ما أكثرَ ما يتوهّمُ النّاسُ فَهمَ بعضِهم، وما أَخبثَ ما يُضمِرونَ وراءَ ظُهورِهم، وما أجبنَهم حينَ يُسلّطونَ نيرانَهم على الضّعيفِ ويتملّقونَ القويَّ بوجهٍ أملَسَ كصَفحةِ ماءٍ آسنٍ.. اسمعي، يا ابنتي، واعِي ما سأبوحُ به لكِ، فإنّ هذا القَطعَ المُتعَفّنَ مِنَ العُمرِ، الذي نسمّيهِ عالَمًا، لا يُعطي لأحدٍ سوى بِمقابلٍ يُفني نصفَهُ أو أكثرَ.˝
ثمّ ألقت بنظرةٍ بعيدةٍ كأنّها تنقّبُ في سراديبِ الذّاكرة، وهزّت رأسَها بتنهيدةٍ امتزجَت بِرائحةِ القهوةِ الباردةِ قبلَ أن تُتابعَ كلامَها، وبدأت تُساقِطُ حِكمَها كأنّها تَزرعُها في تُربةِ الإدراكِ، واحدةً تلوَ الأخرى..
1️⃣ الناسُ لا ينظُرونَ إليكَ كما أنت، بل كما يريدونَ أن تكون، فإن خيّبتَ توقعاتهم، انقلبَ عليكَ وُدُّهُم، وإن أرضيتَها، ضحّيتَ بنَفسِكَ من أجلِ الوَهمِ. فاخترْ إنقاذَ ذاتِك.
2️⃣ لا تُصَدّقِ الألسنةَ المُغلفةَ بالعسل، فغالبًا ما تَكمنُ العقاربُ بينَ لَدائنِ الحَلوى، وما من لَفظٍ مُعسَّلٍ إلّا وأخفى وراءَهُ سُمًّا للغافلينَ.
4️⃣ لن يَغفِرَ لكَ أحدٌ تفوّقَك، ولن يَحتَفي بكَ أحدٌ إلّا إذا احتاجَ إلى ظلِّك ليختبِئَ تحته، فانجُ برُوحِك، فالنّاسُ لا يَهوَونَ إلّا منكسِري الجناحِ.
5️⃣ الأفكارُ ليست مُلكًا لأحد، ولكنّ العُقولَ التي تتبنّاها إمّا تُطلقُها كالرّيحِ أو تَدفِنُها كاللّعنةِ. فاخترِ النّفاذَ من القيودِ بدلًا من الموتِ صامتًا.
6️⃣ إذا سقطتَ في محنةٍ، سيهرولُ النّاسُ لمواساتِك كي لا يتّهمَهم المجتمعُ بالقسوة، لكن إن طالَ انكسارُك، تركوكَ ومَضَوا إلى مَن هُم أبرعُ في حياكةِ الدّموعِ منكَ. فاجمَع نفسَكَ ولا تنتظرْ أحدًا.
7️⃣ أقدامُ البشرِ تسيرُ فوقَ جُثثِ الأحلامِ التي قتَلوها بأيديهم، ولا يَلتفِتونَ لصريرِ العظامِ تحتَهم، فإيّاكَ أن تَمنحَ أحدًا قلبَكَ ثمَّ تُطالِبَهُ برُدّهِ، فلن يعيدَهُ لكَ إلّا مُهشَّمًا.
8️⃣ المديحُ يُوزَّعُ في هذا العالمِ إمّا كرشوةٍ أو كمُخدّر، فحينَ تُسمعُ كلماتُ الإطراءِ، قِفْ، واسألْ: ˝ماذا يريدونَ مِنّي؟˝ ولا تَبتسمْ طويلاً، فالثّمنُ قادمٌ لا مَحالَةَ.
9️⃣ سيُحدّثونَك عن المساواةِ، عن الإنصافِ، عن العدلِ، لكن إن أمعنتَ في الواقعِ، ستُدركُ أنّ كلَّ شيءٍ في هذه الأرضِ مُصمَّمٌ ليَجعلَ البعضَ فوقَ رؤوسِ البعضِ، مهما حاولتَ المُقاومة.
🔟 إنَّ الكُرهَ في هذا العالَمِ هو القاعدةُ، والمحبّةُ استثناءٌ عابرٌ، لا تعوّلْ على كَثرةِ الأصدقاء، فهم أمواجٌ تأتي حينَ يَحتاجونَكَ، وتتبدّدُ حينَ تحتاجُهم. فامضِ وحدَكَ إن اقتضى الأمرُ.
1️⃣1️⃣ الغيرةُ ليست دَليلَ حُبّ، بل هي خوفٌ مُقنَّعٌ، فالرّجالُ يخافونَ أن تفوقَهم النّساءُ، والنّساءُ يخشَينَ أن تُخلفَهنَّ النّساءُ الأُخرياتُ. لا تُشفقْ على أحدٍ، فالجميعُ في مَعرَكَةِ مَن يَستولِي على الأمانِ.
1️⃣2️⃣ النّميمةُ ليست حِرفةً وضِيعةً كما يُقال، بل هي رُكنٌ من أركانِ التواصلِ البشريّ، فمتى سُحِبَت النّميمةُ من مُجالسِ النّاسِ، صارَ الصّمتُ مَخيفًا. فراقبْ فقط، دونَ أن تكونَ أداةً.
1️⃣3️⃣ المُعاناةُ لا تجعلُ البشرَ أرقّ، بل تَزرعُ فيهم غِلظةً مُرعبةً، فأولئك الذين ذاقوا القهرَ، يُمارسونهُ بشَرَهٍ حينَ تسنَحُ لهم الفُرصةُ، فلا تُراهنْ على طيبةِ مَن ذاقَ المَرارةَ.
1️⃣4️⃣ البشَرُ لا يُحبّونَ التواضُعَ، بل يحبّونَ أن تُشعِرَهم أنكَ دونَهُم، فإن زِدتَهم إشراقًا، احترقوا بغَيرتهم وصاروا سُمًّا في طَريقِكَ. فلا تُضيءَ إلّا لمَن يَستحقُّ.
1️⃣5️⃣ الحقيقةُ وَحشٌ ضارٍ، لا يَجرؤُ أحدٌ على التّحديقِ في عَينَيهِ، لذا يَحتمي البَشرُ بالخِداعِ، يكذبونَ بلباقةٍ، ويُبرّرونَها بالحِكمةِ، ويَعيشونَ بأمانٍ زائفٍ.
وأكملت تسلسلَها، وكلّ كلمةٍ تَسقُطُ في أعماقي كمِطرقةٍ تهشّمُ ما تبقّى من الأحلامِ الرّغيدةِ. كانت تَروي، وأنا أتَحسَّسُ سخونةَ الكوبِ بينَ يديَّ، أتَأمّلُ الدّخانَ المُتصاعِدَ منهُ كأنَّهُ أرواحُ الأمنياتِ المُحترقةِ، وأُصغي إلى حياة، علّني أَعبُرُ دونَ أن يَدهَسَني هذا العالَمُ، أو أتحوَّلَ إلى شظيةٍ مِن أنقاضِهِ.
❞ حارتنا لها روح تستيقظ عند الفجر، تحلق أعلى شارع الخرنفش وتدور على البيوت والدروب والأزقة تباركها وتأخذ بيد العجائز وتبشر الأطفال وتصل إلينا ضاحكة ومتعبة قليلا فترتاح عند مدخل معبد سيدنا موسى بن ميمون تهشنا خالتنا كأفراخ فراشات دب النبض فيها للتو.. ❝ ⏤أشرف الصباغ
❞ حارتنا لها روح تستيقظ عند الفجر، تحلق أعلى شارع الخرنفش وتدور على البيوت والدروب والأزقة تباركها وتأخذ بيد العجائز وتبشر الأطفال وتصل إلينا ضاحكة ومتعبة قليلا فترتاح عند مدخل معبد سيدنا موسى بن ميمون تهشنا خالتنا كأفراخ فراشات دب النبض فيها للتو. ❝
❞ و أذكر فيما أذكر الآن ما كانوا يحكون لي عن جدي و أنا صغير و كيف أنه حج سبع حجات ، و كان الحج في ذلك الزمان البعيد منذ مائة سنة على الأقدام و على الإبل و بالبحر في سفن شراعية بدائية و في الحجة السابعة يروي الجد أهوالا .. عاصفة هبت على الحجيج و هم في عرض البحر و اقتلعت الشراع و حطمت الدفة ، و الكل يصرخ و يتضرع و يستنجد ، و المركب تدور في الدوامة كالفلك و الدوار ، و الموج المتلاطم يلف الجميع .
ثم يروي كيف تفسخت المركب إلى ألواح ابتلعتها اللجة في لحظات ، و كيف أفاق ليجد نفسه سابحا على طوف خشبي و أمامه جراب الزاد ، و كانوا يسمونه في تلك الأيام (( الذهاب )) .. كل حاج كان يطلع إلى الحج و معه ذهابه الخاص و به ما يلزم من المئونة و الأدوات و الثياب .
و كان أمرا عجيبا أن يهدأ البحر و تقلع الرياح و تنتهي العاصفة ، و ينجو وحده و معه ذهابه بهذه الطريقة التي تبدو كالمعجزة .
و تدمع عينا الجد و يومض بصره الكليل ، و كأنما يرى شريطا سريعا من اللقطات الرهيبة .. و يروي كيف قضى ليلتين في البحر ثم انتشله مركب شراعي آخر قاصدا إلى الحج .. و كيف أتم حجته السابعة ثم عاد بسلام .
و يروي كيف كان الموت يترصد الحاج في كل خطوة في البحر و في البر و في الصحارى .. و بين الحر المحرق و الرمال و العطش إذا ضل طريقه أو ماتت راحلته .. و على أيدي قطاع الطرق إذا ألقى به سوء حظه إلى عصبة من عصاباتهم .. أو بمرض معدٍ في زمان لم يكن يعرف شيئا اسمه طب وقائي أو يسمع عن لقاح للكوليرا أو التيفود .. و كانت الرحلة تطول إلى ستة شهور و سبعة شهور و سنة ، و كان الخارج إليها مفقودا و العائد مولودا .
و كان يختم قصته مبتسما بفمه الخالي من الأسنان ..
و برغم كل هذه الأهوال فقد حجيت سبع مرات و هاأناذا أموت بينكم في الفراش كما يموت الكسالى من العجائز ، لتعلموا يا أولادي أن كل شيء بأمر الله .. و أنه لا البحر يغرق و لا المرض يهلك و لا نار الصحارى تحرق ، و إنما هو الله وحده الذي يصرف الآجال كيف يشاء .
و أذكر الآن قصة هذا الجد الطيب و تطوف بذهني تلك الصور و أنا أضع قدمي في الطائرة لأصل جدة في ساعتين ، و في ساعة ثالثة أكون في الحرم أطوف بالكعبة ثم في الساعة التالية أكون صاعد إلى عرفات ، و بعد غروب الشمس أكون نازلا إلى منى لرمي الجمرات ثم طواف الإفاضة ثم تنتهي كل المناسك في أمان .
و أتذكر السرب الطويل من خمسين ألف عربة تحمل نصف مليون حاج و تصعد كلها في وقت واحد في عدة طرق دائرية حديثة الرصف .. و كل شيء يتم في سرعة و نظام و دون حادث و قد تناثرت وحدات الكشافة لتنظيم المرور .. و على الجبل تراصت مستشفيات كاملة التجهيز لعلاج و عزل أي حالة اشتباه .. و طوال ساعات الليل و النهار تطوف الرشاشات لقتل الذباب و البعوض في أماكن توالده ، و تطوف فرق أخرى لجمع القمامة و حرقها .
و بين مكة و المدينة يمتد أوتوستراد أملس كالحرير تنزلق عليه العربات في نعومة ، و ينام الراكب في حضن كرسيه في استرخاء لذيذ .
ما أبعد اليوم من الأمس .
و ما أكثر ما نتقلب فيه من النعم .
و كلما أحاطتنا النعمة ازددنا لله هجرانا .
أين إيمان اليوم .. من إيمان النبي العظيم منذ ألف و أربعمائة سنة و هو خارج في غزوة تبوك على رأس اثنى عشر ألفا من المسلمين في شهور القيظ المحرق ، ليخوض في رياح السموم و الحرور القاتلة سبع ليال يتهدده العطش في كل خطوة .. و قد ترك من خلفه الأمان و الظل الظليل و الراحة في خيام زوجاته .. ليلقى الله و ليبلغ الرسالة .. و ليحارب من ؟! .. الروم .. الذين احتشدوا على الحدود بمئات الألوف .
و اليوم ترتفع حرارة الجو بضع درجات فندير جهاز التكييف و نغلق أبواب غرفنا لا نبرحها لأن الخروج إلى الشارع مجازفة غير مأمونة .
و ما أبعد اليوم من الأمس حقاً .
و ما أفدح ما خسرنا حينما خسرنا الإيمان
...
كتاب/ الإسلام ماهو
للــدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ و أذكر فيما أذكر الآن ما كانوا يحكون لي عن جدي و أنا صغير و كيف أنه حج سبع حجات ، و كان الحج في ذلك الزمان البعيد منذ مائة سنة على الأقدام و على الإبل و بالبحر في سفن شراعية بدائية و في الحجة السابعة يروي الجد أهوالا . عاصفة هبت على الحجيج و هم في عرض البحر و اقتلعت الشراع و حطمت الدفة ، و الكل يصرخ و يتضرع و يستنجد ، و المركب تدور في الدوامة كالفلك و الدوار ، و الموج المتلاطم يلف الجميع .
ثم يروي كيف تفسخت المركب إلى ألواح ابتلعتها اللجة في لحظات ، و كيف أفاق ليجد نفسه سابحا على طوف خشبي و أمامه جراب الزاد ، و كانوا يسمونه في تلك الأيام (( الذهاب )) . كل حاج كان يطلع إلى الحج و معه ذهابه الخاص و به ما يلزم من المئونة و الأدوات و الثياب .
و كان أمرا عجيبا أن يهدأ البحر و تقلع الرياح و تنتهي العاصفة ، و ينجو وحده و معه ذهابه بهذه الطريقة التي تبدو كالمعجزة .
و تدمع عينا الجد و يومض بصره الكليل ، و كأنما يرى شريطا سريعا من اللقطات الرهيبة . و يروي كيف قضى ليلتين في البحر ثم انتشله مركب شراعي آخر قاصدا إلى الحج . و كيف أتم حجته السابعة ثم عاد بسلام .
و يروي كيف كان الموت يترصد الحاج في كل خطوة في البحر و في البر و في الصحارى . و بين الحر المحرق و الرمال و العطش إذا ضل طريقه أو ماتت راحلته . و على أيدي قطاع الطرق إذا ألقى به سوء حظه إلى عصبة من عصاباتهم . أو بمرض معدٍ في زمان لم يكن يعرف شيئا اسمه طب وقائي أو يسمع عن لقاح للكوليرا أو التيفود . و كانت الرحلة تطول إلى ستة شهور و سبعة شهور و سنة ، و كان الخارج إليها مفقودا و العائد مولودا .
و كان يختم قصته مبتسما بفمه الخالي من الأسنان .
و برغم كل هذه الأهوال فقد حجيت سبع مرات و هاأناذا أموت بينكم في الفراش كما يموت الكسالى من العجائز ، لتعلموا يا أولادي أن كل شيء بأمر الله . و أنه لا البحر يغرق و لا المرض يهلك و لا نار الصحارى تحرق ، و إنما هو الله وحده الذي يصرف الآجال كيف يشاء .
و أذكر الآن قصة هذا الجد الطيب و تطوف بذهني تلك الصور و أنا أضع قدمي في الطائرة لأصل جدة في ساعتين ، و في ساعة ثالثة أكون في الحرم أطوف بالكعبة ثم في الساعة التالية أكون صاعد إلى عرفات ، و بعد غروب الشمس أكون نازلا إلى منى لرمي الجمرات ثم طواف الإفاضة ثم تنتهي كل المناسك في أمان .
و أتذكر السرب الطويل من خمسين ألف عربة تحمل نصف مليون حاج و تصعد كلها في وقت واحد في عدة طرق دائرية حديثة الرصف . و كل شيء يتم في سرعة و نظام و دون حادث و قد تناثرت وحدات الكشافة لتنظيم المرور . و على الجبل تراصت مستشفيات كاملة التجهيز لعلاج و عزل أي حالة اشتباه . و طوال ساعات الليل و النهار تطوف الرشاشات لقتل الذباب و البعوض في أماكن توالده ، و تطوف فرق أخرى لجمع القمامة و حرقها .
و بين مكة و المدينة يمتد أوتوستراد أملس كالحرير تنزلق عليه العربات في نعومة ، و ينام الراكب في حضن كرسيه في استرخاء لذيذ .
ما أبعد اليوم من الأمس .
و ما أكثر ما نتقلب فيه من النعم .
و كلما أحاطتنا النعمة ازددنا لله هجرانا .
أين إيمان اليوم . من إيمان النبي العظيم منذ ألف و أربعمائة سنة و هو خارج في غزوة تبوك على رأس اثنى عشر ألفا من المسلمين في شهور القيظ المحرق ، ليخوض في رياح السموم و الحرور القاتلة سبع ليال يتهدده العطش في كل خطوة . و قد ترك من خلفه الأمان و الظل الظليل و الراحة في خيام زوجاته . ليلقى الله و ليبلغ الرسالة . و ليحارب من ؟! . الروم . الذين احتشدوا على الحدود بمئات الألوف .
و اليوم ترتفع حرارة الجو بضع درجات فندير جهاز التكييف و نغلق أبواب غرفنا لا نبرحها لأن الخروج إلى الشارع مجازفة غير مأمونة .
و ما أبعد اليوم من الأمس حقاً .
و ما أفدح ما خسرنا حينما خسرنا الإيمان
..
كتاب/ الإسلام ماهو
للــدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝
❞ يُحكى أن تاجر قماش من عكا علق على الجدار خلف مكتبه لَوْحةً كتب فيها : كيدُ الرِّجالِ غَلب كيد النساء ....
وحدث أن امرأةً دخلت عليه ذات يوم لتشتري بعض حَاجَاتِها ولما قَرَأتْ مَا عَلَّقَهُ التَّاجِرُ أَبدَتْ امتعاضاً شَدِيداً وقَالتْ له : إِنَّ كَيْدَ النِّساءِ غَلَبَ كَيدَ الرجال . وتشارعا ما شاء الله لهما أن يتشارعًا دونما فائدة ثمَّ إِنَّ المرأة مضت في سبيلها وعاد التاجر الى تجارته .
وَطَوَالَ الطَّرِيقِ إلى بيتها ظلت المرأة تفكر بطريقة تكسر فيها رأس هذا التاجر العنيد .
صبيحة اليوم التالي تنكرت بثياب امرأة على مشارف الستين وحملت عكازاً ووضعت نظارة سميكة العدسات حتى بَدَتْ من دُنيا العجائز حقاً .
دخلت على التَّاجِرِ فلم يعرفها وقالت له بصوت باهت أيُّها التاجرُ إنَّ الله ابتلاني بولد نغصَ عَلَيَّ حَياتِي فلا يسمع لي نصحاً ولا يُعير لي سمعاً وإنه قد عشق امرأة متزوجة وأنا
حاولت أن أثنيه عن ذلك دون جدوى ..... ❝ ⏤أدهم شرقاوي
❞ يُحكى أن تاجر قماش من عكا علق على الجدار خلف مكتبه لَوْحةً كتب فيها : كيدُ الرِّجالِ غَلب كيد النساء ..
وحدث أن امرأةً دخلت عليه ذات يوم لتشتري بعض حَاجَاتِها ولما قَرَأتْ مَا عَلَّقَهُ التَّاجِرُ أَبدَتْ امتعاضاً شَدِيداً وقَالتْ له : إِنَّ كَيْدَ النِّساءِ غَلَبَ كَيدَ الرجال . وتشارعا ما شاء الله لهما أن يتشارعًا دونما فائدة ثمَّ إِنَّ المرأة مضت في سبيلها وعاد التاجر الى تجارته .
وَطَوَالَ الطَّرِيقِ إلى بيتها ظلت المرأة تفكر بطريقة تكسر فيها رأس هذا التاجر العنيد .
صبيحة اليوم التالي تنكرت بثياب امرأة على مشارف الستين وحملت عكازاً ووضعت نظارة سميكة العدسات حتى بَدَتْ من دُنيا العجائز حقاً .
دخلت على التَّاجِرِ فلم يعرفها وقالت له بصوت باهت أيُّها التاجرُ إنَّ الله ابتلاني بولد نغصَ عَلَيَّ حَياتِي فلا يسمع لي نصحاً ولا يُعير لي سمعاً وإنه قد عشق امرأة متزوجة وأنا
حاولت أن أثنيه عن ذلك دون جدوى. ❝