❞ استفاقت من ذكرياتها على ارتطام الكلبشات إثر تحرُّك (البوكس) مجددًا، فتساءلت في سخريةٍ مريرةٍ إن كان هذا هو نصيبها من (الغوايش)! انحسرت عنها موسيقى عمر خيرت وعادت للتخبط يمينًا ويسارًا، بينما اقتحمت روائح العادم أنفها، بيد أنها لم تبال، حاولت الحفاظ على أثر الموسيقى في روحها، وأن تستمتع بالنور والهواء قدر المستطاع.
وصلوا إلى المحكمة أخيرًا، بعد- ربما- ألف مطب وخمسمائة حفرة؛ فُتح باب السيارة فرأت طلعت ونسرين بانتظارها ومعهما رجل وقور أشيب الفوْدين، قدَّرت أنه المحامي، مسحت بعينيها الساحة بحثًا عن زوجها فوجدته على مقربةٍ يُدخن سيجارة. متى عاد للتدخين؟ لا تعرف...". ❝ ⏤نهى داود
❞ استفاقت من ذكرياتها على ارتطام الكلبشات إثر تحرُّك (البوكس) مجددًا، فتساءلت في سخريةٍ مريرةٍ إن كان هذا هو نصيبها من (الغوايش)! انحسرت عنها موسيقى عمر خيرت وعادت للتخبط يمينًا ويسارًا، بينما اقتحمت روائح العادم أنفها، بيد أنها لم تبال، حاولت الحفاظ على أثر الموسيقى في روحها، وأن تستمتع بالنور والهواء قدر المستطاع.
وصلوا إلى المحكمة أخيرًا، بعد- ربما- ألف مطب وخمسمائة حفرة؛ فُتح باب السيارة فرأت طلعت ونسرين بانتظارها ومعهما رجل وقور أشيب الفوْدين، قدَّرت أنه المحامي، مسحت بعينيها الساحة بحثًا عن زوجها فوجدته على مقربةٍ يُدخن سيجارة. متى عاد للتدخين؟ لا تعرف..˝. ❝
❞ وبينما أسحب نفساً من سيجارة أخيرة، يرتفع صوت المآذن معلناً صلاة الفجر. ومن غرفة بعيدة يأتي بكاء طفل أيقظ صوته أنحاء كل البيت..
فأحسد المآذن، وأحسد الأطفال الرضّع، لأنهم يملكون وحدهم حق الصراخ والقدرة عليه، قبل أن تروض الحياة حبالهم الصوتية، وتعلِّمهم الصمت.. ❝ ⏤أحلام مستغانمي
❞ وبينما أسحب نفساً من سيجارة أخيرة، يرتفع صوت المآذن معلناً صلاة الفجر. ومن غرفة بعيدة يأتي بكاء طفل أيقظ صوته أنحاء كل البيت.
فأحسد المآذن، وأحسد الأطفال الرضّع، لأنهم يملكون وحدهم حق الصراخ والقدرة عليه، قبل أن تروض الحياة حبالهم الصوتية، وتعلِّمهم الصمت. ❝
❞ هل أنت صادق ؟
سؤال سوف يجيب عليه الكل بنعم .. فكل واحد يتصور أنه صادق وأنه لا يكذب .. وقد يعترف أحدهم بكذبة أو بكذبتين ويعتبر نفسه بلغ الغاية من الدقة والصراحة مع النفس وأنه أدلى بحقيقة لا تقبل مراجعة .
ومع ذلك فدعونا نراجع معًا هذا الإدعاء العريض وسوف نكتشف أن الصدق شيء نادر جدّاً .. وأن الصادق الحقيقي يكاد يكون غير موجود .
وأكثرنا في الواقع مغشوش في نفسه حينما يتصور أنه من أهل الصدق .
بل إننا نبدأ في الكذب من لحظة أن نتيقظ في الصباح وقبل أن نفتح فمنا بكلمة .
أحياناً تكون مجرد تسريحة الشعر التي نختارها كذبة .
الكهل الذي يسرح شعره خنافس ليبدو أصغر من سِنه يكذب , والمرأة العجوز التي تصبغ شعرها لتبدو أصغر من سنها تكذب .
والباروكة على رأس الأصلع كذبة .
وطقم الأسنان في فم الأهتم كذبة .
والبدلة السبور الخفيفة التي تخفي تحتها فانلة صوف كذبة .
والكورسيه والمشدّات حول البطن المترهلة كذبة .
والنهد الكاوتشوك على الصدر المنهك من الرضاع كذبة .
والمكياج الذي يحاول صاحبه إن يخفي به التجاعيد هو نوع آخر من الكذب الصامت .
والبودرة والأحمر والكحل والريميل والرموش الصناعية .. كلها أكاذيب ينطق بها لسان الحال قبل أن يفتح الواحد منا فمه ويتكلم .
بل إن مجرد ضفيرة المدارس على رأس بنت الثلاثين كذبة .
واللبانة في فم رجل كهل هي كذبة أكثر وقاحة .
كل هذا ولم يبدأ اللسان ينطق ولم يُفتح الفم بعد .
فإذا فتح الواحد منا فمه وقال صباح الخير .. فإنه يقولها على سبيل العرف والعادة .. لم ينوي له الخير ولم ينوي له الشر .. فهو يكذب .. وهو يقرأ السلام على من يبيت له العدوان .. فهو يكذب .
فإذا رفع سماعة التليفون مضى يطلب ما لا يريد من الأشياء لمجرد أنها مظاهر ومجاملات .. فهو يكذب .. وقد يرفض ما يريد خجلًا وادعاء .. فهو يكذب .
والولد والبنت يتكلمان طوال ساعتين في كل شيء إلا ما يتحرقان شوقًا إلى أن يتصارحا به .. فهما يكذبان .
وفتاة البار تبدؤك الحديث بالحب وهو لا يخطر لها على بال ولا تشغلها سوى حافظة نقودك . وكم زجاجة من الشمبانيا ستفتح لها .
والإعلان الذي يصف لك نكهة السيجارة وفوائدها الصحية يكذب عليك .
والإعلان الذي يقول لك إن قرص الإسبرين يشفي من الإنفلونزا كذب حتى بالقياس إلى علم الأدوية ذاته .
وكل ما يدور في عالم البيع والشراء يبدأ بالكذب .
وصورة لاعب التنس في يده زجاجة ويسكي وصورة الأسد الذي يحتضن زجاجة الكينا .. وبطل الجري الذي يدخن سيجارة فرجينيا كلها صنوف من الأكاذيب الظريفة التي تراها ملصقة على الجدران وعلى أغلفة الصحف وفي إعلانات السينما والتلفزيون وكأنما أصبح الكذب عُرفًا تجاريًا لا لوم عليه .
وفي عالم السياسة والسياسيين وفي أروقة الأمم المتحدة وعلى أفواه الدبلوماسيين نجد أن الكذب هو القاعدة .
بل إن فن الدبلوماسية الرفيع هو كيف تستطيع أن تجعل الكذب يبدو كالصدق .. وكيف تقول ما لا تعني .. وكيف تخفي ما تريد .. وكيف تحب ما تكره .. وكيف تكره ما تحب .
وأذكر بهذه المناسبة النكتة التي رويت عن تشرشل حينما رأى شاهد مقبرة مكتوبًا عليها ..
(( هنا يرقد الرجل الصادق والسياسي العظيم )) .
فقال ضاحكاً :
هذه أول مرة أرى فيها رجلين يدفنان في تابوت واحد .
فلم يكن من الممكن إطلاقاً في نظر تشرشل أن يكون الرجل الصادق والسياسي العظيم رجلاً واحداً .. إذ أن أول مؤهلات العظمة السياسية في نظر تشرشل هو الكذب .
وشرط السياسة هو أن تخفي الحقيقة لحساب المصلحة .. وتتأخر العاطفة لتتقدم الحيلة .. والفطنة .. والذكاء .. والمراوغة .
والدبلوماسي الذي يجاهر بعاطفته هو دبلوماسي أبله .. بل إنه لا يكون دبلوماسيّاً على الإطلاق .
وفي عالم الدين ودنيا العبادات يطل الكذب الخفي من وراء الطقوس والمراسيم .
شهر الصيام الذي هو امتناع عن الأكل يتحول إلى شهر أكل فتظهر المشهيات والحلويات والمخللات والمتبلات .. من كنافة إلى مشمشية إلى قطايف إلى مكسرات ويرتفع استهلاك اللحم في شهر رمضان فتقول لنا الإحصاءات بالأرقام إنه يصل إلى الضعف ويصبح شهر رمضان هو شهر الصواني والطواجن .
وبين كل مائة مُصَل أكثر من تسعين يقفون بين يدي الله وهم شاردون مشغولون بصوالحهم الدنيوية يعبدون الله وهم في الحقيقة يعبدون مصالحهم وأغراضهم ويركعون الركعة لتُقضَى لهم هذه المصالح والأغراض .
وقد عاش بابوات القرون الوسطى في ترف الملوك والسلاطين وسبحوا في الذهب والحرير والسلطة والنفوذ , وامتلكوا الإقطاعيات والقصور بإسم الدين وبإسم الإنجيل الذي يقول إن الغني لن يدخل ملكوت الله إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة .
بل إنهم تصوروا أنهم امتلكوا الجنة فباعوها صكوكًا لطالبي الغفران .
وفي دولة الحب نجد أن مخادعة النفس هي الأسلوب المتعارف عليه .. يخدع كل واحد نفسه ويخدع الآخر أحيانًا بوعي وأحيانًا بدون وعي .. فيتحدث العاشقان عن الحب وهما يريدان أن يقدما مبررًا شريفًا مقبولًا للوصول إلى الفراش .. ويخيل للحبيب أنه قد جن حبّاً وهو في الواقع يلتمس لنفسه وسيلة للهرب من واقع مرير .
كنوع من إظهار البراعة والمهارة أو كمظهر من مظاهر النجاح .
وأحياناً تكون كلمة الحب كذبة معسولة تخفي وراءها رغبة شريرة في الإمتلاك والإستحواذ والسيطرة .
وأحياناً تكون كلمة الحب خطة محبوكة وشِركاً للوصول إلى ميراث .
وهي في أكثر صورها شيوعاً وسيلة للوصول إلى لذّة سريعة وطريقة لتدليك الضمير والتغلب على الخجل ورفع الكلفة .
وهي ذريعتنا الدائمة للتغلب على عقدة الذنب فتخلع المرأة آخر قطعة ثياب وهي تطمئن نفسها بأنها ضحية الحب .. وأن الحب إحساس طاهر وأنه أمر الله وأنه قضاء وقدر .. وأنها ليست أول من أحبت ولا آخر من أعطت .
ولا توجد شبكة حريرية من الأكاذيب كما توجد في الحب .. ففي كل كلمة كذبة .. وفي كل لمسة كذبة .. والغريزة الجنسية ذاتها تكذب فما أسرع ما تشتعل وما أسرع ما تنطفئ . وما أسرع ما تضجر وتمل وتطالب بتغيير الطعام .
والصدق في الحب وقصص الحب نادر أندر من الماس في الصحاري .. وهو من أخلاق الصديقين وليس من أخلاق الغمر العادي من الناس .
وتتواطأ أغاني الحب وقصص الحب وتتآمر هي الأخرى لتنصب شراكاً من الأكاذيب المنمقة الجميلة وترسي دعامات ساحرة من الأوهام والأحلام الوردية والصور البراقة الخادعة عن القبلة والضمة ولقاء الفراش ولذة العذاب وعذاب اللذة ولسعة الحرمان ودموع الوسادة وإغماء السعادة وصحوة الفراق .. وضباب وضباب .. وعطور وصور خلابة مرسومة بريشة فنانين كذابين عظام .
والكذب في الفن عادة قديمة بدأها الشعراء من زمن طويل .
وقصائد المديح وقصائد الهجاء في شعرنا العربي شاهد على انتشار هذه العادة السيئة .
والفن وليد الهوى والخاطر والمزاج .. والمزاج متقلب .
ما أكثر الكذب حقّاً !
إننا لنكذب حتى في الأكل فنأكل حتى ونحن شبعانون .
أين الصدق إذن ؟
ومتى تأتي هذه اللحظة الشحيحة التي نتحرى فيها الحق والحق وحده ؟
إنها تأتي على ندرة .
في معمل العالم الذي يضع عينه على ميكروسكوب بحثاً عن حقيقة .
هنا نجد العقل يتطلع في شوق حقيقي وصادق ويبحث في حياد مطلق .. ويفكر في موضوعية على هدى أرقام دقيقة ومقادير وقوانين .
والعلم بذاته هو النظرة الموضوعية المستقلة عن الهوى والمزاج وأداته الوحيدة .. صدق الإستقراء .. وصدق الفراسة .
واللحظة الأخرى الصادقة هي لحظة الخلوة مع النفس حينما يبدأ ذلك الحديث السري .. ذلك الحوار الداخلي .
تلك المكالمة الإنفرادية حيث يصغي الواحد إلى نفسه دون أن يخشى أذناً أخرى تتلصص على الخط .
ذلك الإفضاء والإفشاء والإعتراف والطرح الصريح من الأعماق إلى سطح الوعي في محاولة مخلصة للفهم .
وهي لحظة من أثمن اللحظات .
إن الحياة تتوقف في تلك اللحظة لتبوح بحكمتها .
والزمن يتوقف ليعطي ذلك الشعور المديد بالحضور .. حيث نحن في حضرة الحق .. وحيث لا يجوز الكذب والخداع والتزييف .. كما لا يجوز لحظة الموت ولحظة الحشرجة .
إننا نكتشف ساعتها أننا عشنا عمرنا من أجل هذه اللحظة .. وأننا تألمنا وتعذبنا من أجل أن نصل إلى هذه المعرفة الثمينة عن نفوسنا .
وقد تأتي تلك اللحظة في العمر مرة فتكون قيمتها بالعمر كله .
أما إذا تأخرت ولم تأت إلا ساعة الموت .. فقد ضاع العمر دون معنى ودون حكم .. و أكلته الأكاذيب .. وجاءت الصحوة بعد فوات الأوان .
ولهذا كانت الخلوة مع النفس شيئاً ضروريّاً ومقدساً بالنسبة لإنسان العصر الضائع في متاهات الكذب والتزييف .. وهي بالنسبة له طوق النجاة وقارب الإنقاذ .
والإنسان يولد وحده ويموت وحده ويصل إلى الحق وحده .
وليست مبالغة أن توصف الدنيا .. بأنها باطل الأباطيل .. الكل باطل وقبض الريح ..
فكل ما حولنا من مظاهر الدنيا يتصف بالبطلان والزيف .
ونحن نقتل بعضنا بعضاً في سبيل الغرور وإرضاء لكبرياء كاذب .
والدنيا ملهاة قبل أن تكون مأساة .
ومع ذلك نحن نتحرق شوقاً في سبيل الحق ونموت سعداء في سبيله .
والشعور بالحق يملؤنا تماماً وإن كنا نعجز عن الوصول إليه .
إننا نشعر به ملء القلب وإن كنا لا نراه حولنا .
وهذا الشعور الطاغي هو شهادة بوجوده .
إننا وإن لم نر الحق وإن لم نصل إليه وإن لم نبلغه فهو فينا .. وهو يحفزنا .. وهو مثال مطلق لا يغيب عن ضميرنا لحظة وبصائرنا مفتوحة عليه دوماً .
ولحظة التأمل الصافي تقودنا إليه .
والعلم يقودنا إليه .
ومراقبتنا لأنفسنا من الداخل تقودنا إليه .
وبصائرنا تهدي إليه .
والحق في القرآن هو الله .. وهو أحد أسمائه الحسنى .
وكل هذه المؤثرات الداخلية تدل عليه .
وهو متجاوز للدنيا متعالٍ عليها .
نراه رؤية بصيرة لا رؤية بصر .
وتبرهن عليه أرواحنا بكل شوقها وبكل نزوعها .
والعجب كل العجب لمن يسألنا عن برهان على وجود الله .. على وجود الحق .. وهو نازع إليه بكليته مشغوف به بجماع قلبه .
وكيف يكون موضع شك من هو قِلبة كل القلوب ومهوى جميع الأفئدة وهدف جميع البصائر ؟
كيف نشك في وجوده وهو مستولٍ على كل مشاعرنا ؟
كيف نشك في الحق ونطلب عليه دليلاً من الباطل ؟
كيف ننزلق مع المنطق المراوغ إلى هذه الدرجة من التناقض فنجعل من لب الوجود وحقيقة حقائقه محل سؤال ؟
إني لا أجد نصيحة أثمن من أن أقول ليعد كل منا إلى فطرته .. ليعد إلى بكارته وعذريته التي لم تدنسها لفلفات المنطق ومراوغات العقل .
ليعد كل منا إلى قلبه في ساعة خلوة .
وليسأل قلبه .
وسوف يدل قلبه على كل شيء .
فقد أودع الله في قلوبنا تلك البوصلة التي لا تخطئ .. والتي اسمها الفطرة والبداهة .
وهي فطرة لا تقبل التبديل ولا التشويه لأنها محور الوجود ولُبَه ومداره وعليها تقوم كل المعارف والعلوم .
(( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ))
(الروم – 30)
لقد جعل الله هذه الفطرة نازعة إليه بطبيعتها تطلبه دواماً كما تطلب البوصلة أقطابها مشيرة إليه دالة عليه .
فليكن كل منا كما تملي عليه طبيعته لا أكثر .
وسوف تدله طبيعته على الحق .
وسوف تهديه فطرته إلى الله بدون جهد .
كن كما أنت .. وسوف تهديك نفسك إلى الصراط .
مقال / ماذا قالت لي الخلوة ؟!
من كتاب / رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ هل أنت صادق ؟
سؤال سوف يجيب عليه الكل بنعم . فكل واحد يتصور أنه صادق وأنه لا يكذب . وقد يعترف أحدهم بكذبة أو بكذبتين ويعتبر نفسه بلغ الغاية من الدقة والصراحة مع النفس وأنه أدلى بحقيقة لا تقبل مراجعة .
ومع ذلك فدعونا نراجع معًا هذا الإدعاء العريض وسوف نكتشف أن الصدق شيء نادر جدّاً . وأن الصادق الحقيقي يكاد يكون غير موجود .
وأكثرنا في الواقع مغشوش في نفسه حينما يتصور أنه من أهل الصدق .
بل إننا نبدأ في الكذب من لحظة أن نتيقظ في الصباح وقبل أن نفتح فمنا بكلمة .
أحياناً تكون مجرد تسريحة الشعر التي نختارها كذبة .
الكهل الذي يسرح شعره خنافس ليبدو أصغر من سِنه يكذب , والمرأة العجوز التي تصبغ شعرها لتبدو أصغر من سنها تكذب .
والباروكة على رأس الأصلع كذبة .
وطقم الأسنان في فم الأهتم كذبة .
والبدلة السبور الخفيفة التي تخفي تحتها فانلة صوف كذبة .
والكورسيه والمشدّات حول البطن المترهلة كذبة .
والنهد الكاوتشوك على الصدر المنهك من الرضاع كذبة .
والمكياج الذي يحاول صاحبه إن يخفي به التجاعيد هو نوع آخر من الكذب الصامت .
والبودرة والأحمر والكحل والريميل والرموش الصناعية . كلها أكاذيب ينطق بها لسان الحال قبل أن يفتح الواحد منا فمه ويتكلم .
بل إن مجرد ضفيرة المدارس على رأس بنت الثلاثين كذبة .
واللبانة في فم رجل كهل هي كذبة أكثر وقاحة .
كل هذا ولم يبدأ اللسان ينطق ولم يُفتح الفم بعد .
فإذا فتح الواحد منا فمه وقال صباح الخير . فإنه يقولها على سبيل العرف والعادة . لم ينوي له الخير ولم ينوي له الشر . فهو يكذب . وهو يقرأ السلام على من يبيت له العدوان . فهو يكذب .
فإذا رفع سماعة التليفون مضى يطلب ما لا يريد من الأشياء لمجرد أنها مظاهر ومجاملات . فهو يكذب . وقد يرفض ما يريد خجلًا وادعاء . فهو يكذب .
والولد والبنت يتكلمان طوال ساعتين في كل شيء إلا ما يتحرقان شوقًا إلى أن يتصارحا به . فهما يكذبان .
وفتاة البار تبدؤك الحديث بالحب وهو لا يخطر لها على بال ولا تشغلها سوى حافظة نقودك . وكم زجاجة من الشمبانيا ستفتح لها .
والإعلان الذي يصف لك نكهة السيجارة وفوائدها الصحية يكذب عليك .
والإعلان الذي يقول لك إن قرص الإسبرين يشفي من الإنفلونزا كذب حتى بالقياس إلى علم الأدوية ذاته .
وكل ما يدور في عالم البيع والشراء يبدأ بالكذب .
وصورة لاعب التنس في يده زجاجة ويسكي وصورة الأسد الذي يحتضن زجاجة الكينا . وبطل الجري الذي يدخن سيجارة فرجينيا كلها صنوف من الأكاذيب الظريفة التي تراها ملصقة على الجدران وعلى أغلفة الصحف وفي إعلانات السينما والتلفزيون وكأنما أصبح الكذب عُرفًا تجاريًا لا لوم عليه .
وفي عالم السياسة والسياسيين وفي أروقة الأمم المتحدة وعلى أفواه الدبلوماسيين نجد أن الكذب هو القاعدة .
بل إن فن الدبلوماسية الرفيع هو كيف تستطيع أن تجعل الكذب يبدو كالصدق . وكيف تقول ما لا تعني . وكيف تخفي ما تريد . وكيف تحب ما تكره . وكيف تكره ما تحب .
وأذكر بهذه المناسبة النكتة التي رويت عن تشرشل حينما رأى شاهد مقبرة مكتوبًا عليها .
(( هنا يرقد الرجل الصادق والسياسي العظيم )) .
فقال ضاحكاً :
هذه أول مرة أرى فيها رجلين يدفنان في تابوت واحد .
فلم يكن من الممكن إطلاقاً في نظر تشرشل أن يكون الرجل الصادق والسياسي العظيم رجلاً واحداً . إذ أن أول مؤهلات العظمة السياسية في نظر تشرشل هو الكذب .
وشرط السياسة هو أن تخفي الحقيقة لحساب المصلحة . وتتأخر العاطفة لتتقدم الحيلة . والفطنة . والذكاء . والمراوغة .
والدبلوماسي الذي يجاهر بعاطفته هو دبلوماسي أبله . بل إنه لا يكون دبلوماسيّاً على الإطلاق .
وفي عالم الدين ودنيا العبادات يطل الكذب الخفي من وراء الطقوس والمراسيم .
شهر الصيام الذي هو امتناع عن الأكل يتحول إلى شهر أكل فتظهر المشهيات والحلويات والمخللات والمتبلات . من كنافة إلى مشمشية إلى قطايف إلى مكسرات ويرتفع استهلاك اللحم في شهر رمضان فتقول لنا الإحصاءات بالأرقام إنه يصل إلى الضعف ويصبح شهر رمضان هو شهر الصواني والطواجن .
وبين كل مائة مُصَل أكثر من تسعين يقفون بين يدي الله وهم شاردون مشغولون بصوالحهم الدنيوية يعبدون الله وهم في الحقيقة يعبدون مصالحهم وأغراضهم ويركعون الركعة لتُقضَى لهم هذه المصالح والأغراض .
وقد عاش بابوات القرون الوسطى في ترف الملوك والسلاطين وسبحوا في الذهب والحرير والسلطة والنفوذ , وامتلكوا الإقطاعيات والقصور بإسم الدين وبإسم الإنجيل الذي يقول إن الغني لن يدخل ملكوت الله إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة .
بل إنهم تصوروا أنهم امتلكوا الجنة فباعوها صكوكًا لطالبي الغفران .
وفي دولة الحب نجد أن مخادعة النفس هي الأسلوب المتعارف عليه . يخدع كل واحد نفسه ويخدع الآخر أحيانًا بوعي وأحيانًا بدون وعي . فيتحدث العاشقان عن الحب وهما يريدان أن يقدما مبررًا شريفًا مقبولًا للوصول إلى الفراش . ويخيل للحبيب أنه قد جن حبّاً وهو في الواقع يلتمس لنفسه وسيلة للهرب من واقع مرير .
كنوع من إظهار البراعة والمهارة أو كمظهر من مظاهر النجاح .
وأحياناً تكون كلمة الحب كذبة معسولة تخفي وراءها رغبة شريرة في الإمتلاك والإستحواذ والسيطرة .
وأحياناً تكون كلمة الحب خطة محبوكة وشِركاً للوصول إلى ميراث .
وهي في أكثر صورها شيوعاً وسيلة للوصول إلى لذّة سريعة وطريقة لتدليك الضمير والتغلب على الخجل ورفع الكلفة .
وهي ذريعتنا الدائمة للتغلب على عقدة الذنب فتخلع المرأة آخر قطعة ثياب وهي تطمئن نفسها بأنها ضحية الحب . وأن الحب إحساس طاهر وأنه أمر الله وأنه قضاء وقدر . وأنها ليست أول من أحبت ولا آخر من أعطت .
ولا توجد شبكة حريرية من الأكاذيب كما توجد في الحب . ففي كل كلمة كذبة . وفي كل لمسة كذبة . والغريزة الجنسية ذاتها تكذب فما أسرع ما تشتعل وما أسرع ما تنطفئ . وما أسرع ما تضجر وتمل وتطالب بتغيير الطعام .
والصدق في الحب وقصص الحب نادر أندر من الماس في الصحاري . وهو من أخلاق الصديقين وليس من أخلاق الغمر العادي من الناس .
وتتواطأ أغاني الحب وقصص الحب وتتآمر هي الأخرى لتنصب شراكاً من الأكاذيب المنمقة الجميلة وترسي دعامات ساحرة من الأوهام والأحلام الوردية والصور البراقة الخادعة عن القبلة والضمة ولقاء الفراش ولذة العذاب وعذاب اللذة ولسعة الحرمان ودموع الوسادة وإغماء السعادة وصحوة الفراق . وضباب وضباب . وعطور وصور خلابة مرسومة بريشة فنانين كذابين عظام .
والكذب في الفن عادة قديمة بدأها الشعراء من زمن طويل .
وقصائد المديح وقصائد الهجاء في شعرنا العربي شاهد على انتشار هذه العادة السيئة .
❞ حوار مع صديقي الملحد
هل مناسك الحج وثنية ؟
قال صاحبي وهو يفرك يديه ارتياحا ويبتسم ابتسامة خبيثة تبدي نواجذه وقد لمعت عيناه بذلك البريق الذي يبدو في وجه الملاكم حينما يتأهب لتوجيه ضربة قاضية .
- ألا تلاحظ معي أن مناسك الحج عندكم هي وثنية صريحة . ذلك البناء الحجري الذي تسمونه الكعبة وتتمسحون به وتطوفون حوله ، ورجم الشيطان .. والهرولة بين الصفا والمروة ، وتقبيل الحجر الأسود ..
وحكاية السبع طوفات والسبع رجمات والسبع هرولات وهي بقايا من خرافة الأرقام الطلسمية في الشعوذات القديمة ، وثوب الإحرام الذي تلبسونه على اللحم ..
لا تؤاخذني إذا كنت أجرحك بهذه الصراحة ولكن لا حياء في العلم .
وراح ينفث دخان سيجارته ببطء ويراقبني من وراء نظارته .
قلت في هدوء :
- ألا تلاحظ معي أنت أيضا أن في قوانين المادة التي درستها أن الأصغر يطوف حول الأكبر ،
الإلكترون في الذرة يدور حول النواة ، والقمر حول الأرض ، والأرض حول الشمس ، والشمس حول المجرة ، والمجرة حول مجرة أكبر ، إلى أن نصل إلى " الأكبر مطلقا " وهو الله .. ألا نقول " الله أكبر " .. أي أكبر من كل شيء ..
وأنت الآن تطوف حوله ضمن مجموعتك الشمسية رغم أنفك ولا تملك إلا أن تطوف فلا شيء ثابت في الكون إلا الله هو الصمد الصامد الساكن والكل في حركة حوله ..
وهذا هو قانون الأصغر والأكبر الذي تعلمته في الفيزياء ..
أما نحن فنطوف باختيارنا حول بيت الله ..
وهو أول بيت اتخذه الإنسان لعبادة الله ..
فأصبح من ذلك التاريخ السحيق رمزا وبيتا لله ..
ألا تطوفون أنتم حول رجل محنط في الكرملين تعظمونه وتقولون أنه أفاد البشرية ، ولو عرفتم لشكسبير قبرا لتسابقتم إلى زيارته بأكثر مما نتسابق إلى زيارة محمد عليه الصلاة والسلام ..
ألا تضعون باقة ورد على نصب حجري وتقولون أنه يرمز للجندي المجهول فلماذا تلوموننا لأننا نلقي حجرا على نصب رمزي نقول أنه يرمز إلى الشيطان ..
ألا تعيش في هرولة من ميلادك إلى موتك ثم بعد موتك يبدأ ابنك الهرولة من جديد وهي نفس الرحلة الرمزية من الصفا " الصفاء أو الخواء أو الفراغ رمز للعدم " إلى المروة وهي النبع الذي يرمز إلى الحياة و الوجود ..
من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم ..
أليست هذه هي الحركة البندولية لكل المخلوقات ..
ألا ترى في مناسك الحج تلخيصا رمزيا عميقا لكل هذه الأسرار .
ورقم 7 الذي تسخر منه .. دعني أسألك ما السر في أن درجات السلم الموسيقي 7 صول لا سي دو ري مي فا ثم بعد المقام السابع يأتي جواب الصول من جديد .. فلا نجد 8 وإنما نعود إلى سبع درجات أخرى وهلم جرا ، وكذلك درجات الطيف الضوئي 7 وكذلك تدور الإلكترونات حول نواة الذرة في نطاقات 7 والجنين لا يكتمل إلا في الشهر 7 وإذا ولد قبل ذلك يموت وأيام الأسبوع عندنا وعند جميع أفراد الجنس البشري 7 وضعوها كذلك دون أن يجلسوا ويتفقوا ..
ألا يدل ذلك على شيء ..أم أن كل هذه العلوم هي الأخرى شعوذات طلسمية.
ألا تقبل خطابا من حبيبتك .. هل أنت وثني ؟ فلماذا تلومنا إذا قبلنا إذا قبلنا ذلك الحجر الأسود الذي حمله نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في ثوبه وقبله . لا وثنية في ذلك بالمرة .. لأننا لا نتجه بمناسك العبادة نحو الحجارة ذاتها .. وإنما نحو المعاني العميقة والرموز والذكريات .
إن مناسك الحج هي عدة مناسبات لتحريك الفكر وبعث المشاعر وإثارة التقوى في القلب . أما ثوب الإحرام الذي نلبسه على اللحم ونشترط ألا يكون مخيطا فهو رمز للخروج من زينة الدنيا وللتجرد التام أمام حضرة الخالق .. تماما كما نأتي إلى الدنيا في اللفة ونخرج من الدنيا في لفة وندخل القبر في لفة .. ألا تشترطون أنتم لبس البدل الرسمية لمقابلة الملك ونحن نقول : إنه لا شيء يليق بجلالة الله إلا التجرد وخلع جميع الزينة لأنه أعظم من جميع الملوك ولأنه لا يصلح في الوقفة أمامه إلا التواضع التام والتجرد .. ولأن هذا الثوب البسيط الذي يلبسه الغني والفقير والمهراجا والمليونير أمام الله فيه معنى آخر للأخوة رغم تفاوت المراتب والثروات .
والحج عندنا اجتماع عظيم ومؤتمر سنوي ..
ومثله صلاة الجمعة وهي المؤتمر الصغير الذي نلتقي فيه كل أسبوع .
هي كلها معان جميلة لمن يفكر ويتأمل .. وهي أبعد ما تكون عن الوثنية .
ولو وقفت معي في عرفة بين عدة ملايين يقولون الله أكبر ويتلون القرآن بأكثر من عشرين لغة ويهتفون لبيك اللهم لبيك ويبكون ويذوبون شوقا وحبا – لبكيت أنت أيضا دون أن تدري وتذوب في الجمع الغفير من الخلق .. وأحسست بذلك الفناء والخشوع أمام الإله العظيم مالك الملك الذي بيده مقاليد كل شيء .
من كتاب / حوار مع صديقي الملحد
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ حوار مع صديقي الملحد
هل مناسك الحج وثنية ؟
قال صاحبي وهو يفرك يديه ارتياحا ويبتسم ابتسامة خبيثة تبدي نواجذه وقد لمعت عيناه بذلك البريق الذي يبدو في وجه الملاكم حينما يتأهب لتوجيه ضربة قاضية .
- ألا تلاحظ معي أن مناسك الحج عندكم هي وثنية صريحة . ذلك البناء الحجري الذي تسمونه الكعبة وتتمسحون به وتطوفون حوله ، ورجم الشيطان . والهرولة بين الصفا والمروة ، وتقبيل الحجر الأسود .
وحكاية السبع طوفات والسبع رجمات والسبع هرولات وهي بقايا من خرافة الأرقام الطلسمية في الشعوذات القديمة ، وثوب الإحرام الذي تلبسونه على اللحم .
لا تؤاخذني إذا كنت أجرحك بهذه الصراحة ولكن لا حياء في العلم .
وراح ينفث دخان سيجارته ببطء ويراقبني من وراء نظارته .
قلت في هدوء :
- ألا تلاحظ معي أنت أيضا أن في قوانين المادة التي درستها أن الأصغر يطوف حول الأكبر ،
الإلكترون في الذرة يدور حول النواة ، والقمر حول الأرض ، والأرض حول الشمس ، والشمس حول المجرة ، والمجرة حول مجرة أكبر ، إلى أن نصل إلى ˝ الأكبر مطلقا ˝ وهو الله . ألا نقول ˝ الله أكبر ˝ . أي أكبر من كل شيء .
وأنت الآن تطوف حوله ضمن مجموعتك الشمسية رغم أنفك ولا تملك إلا أن تطوف فلا شيء ثابت في الكون إلا الله هو الصمد الصامد الساكن والكل في حركة حوله .
وهذا هو قانون الأصغر والأكبر الذي تعلمته في الفيزياء .
أما نحن فنطوف باختيارنا حول بيت الله .
وهو أول بيت اتخذه الإنسان لعبادة الله .
فأصبح من ذلك التاريخ السحيق رمزا وبيتا لله .
ألا تطوفون أنتم حول رجل محنط في الكرملين تعظمونه وتقولون أنه أفاد البشرية ، ولو عرفتم لشكسبير قبرا لتسابقتم إلى زيارته بأكثر مما نتسابق إلى زيارة محمد عليه الصلاة والسلام .
ألا تضعون باقة ورد على نصب حجري وتقولون أنه يرمز للجندي المجهول فلماذا تلوموننا لأننا نلقي حجرا على نصب رمزي نقول أنه يرمز إلى الشيطان .
ألا تعيش في هرولة من ميلادك إلى موتك ثم بعد موتك يبدأ ابنك الهرولة من جديد وهي نفس الرحلة الرمزية من الصفا ˝ الصفاء أو الخواء أو الفراغ رمز للعدم ˝ إلى المروة وهي النبع الذي يرمز إلى الحياة و الوجود .
من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم .
أليست هذه هي الحركة البندولية لكل المخلوقات .
ألا ترى في مناسك الحج تلخيصا رمزيا عميقا لكل هذه الأسرار .
ورقم 7 الذي تسخر منه . دعني أسألك ما السر في أن درجات السلم الموسيقي 7 صول لا سي دو ري مي فا ثم بعد المقام السابع يأتي جواب الصول من جديد . فلا نجد 8 وإنما نعود إلى سبع درجات أخرى وهلم جرا ، وكذلك درجات الطيف الضوئي 7 وكذلك تدور الإلكترونات حول نواة الذرة في نطاقات 7 والجنين لا يكتمل إلا في الشهر 7 وإذا ولد قبل ذلك يموت وأيام الأسبوع عندنا وعند جميع أفراد الجنس البشري 7 وضعوها كذلك دون أن يجلسوا ويتفقوا .
ألا يدل ذلك على شيء .أم أن كل هذه العلوم هي الأخرى شعوذات طلسمية.
ألا تقبل خطابا من حبيبتك . هل أنت وثني ؟ فلماذا تلومنا إذا قبلنا إذا قبلنا ذلك الحجر الأسود الذي حمله نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في ثوبه وقبله . لا وثنية في ذلك بالمرة . لأننا لا نتجه بمناسك العبادة نحو الحجارة ذاتها . وإنما نحو المعاني العميقة والرموز والذكريات .
إن مناسك الحج هي عدة مناسبات لتحريك الفكر وبعث المشاعر وإثارة التقوى في القلب . أما ثوب الإحرام الذي نلبسه على اللحم ونشترط ألا يكون مخيطا فهو رمز للخروج من زينة الدنيا وللتجرد التام أمام حضرة الخالق . تماما كما نأتي إلى الدنيا في اللفة ونخرج من الدنيا في لفة وندخل القبر في لفة . ألا تشترطون أنتم لبس البدل الرسمية لمقابلة الملك ونحن نقول : إنه لا شيء يليق بجلالة الله إلا التجرد وخلع جميع الزينة لأنه أعظم من جميع الملوك ولأنه لا يصلح في الوقفة أمامه إلا التواضع التام والتجرد . ولأن هذا الثوب البسيط الذي يلبسه الغني والفقير والمهراجا والمليونير أمام الله فيه معنى آخر للأخوة رغم تفاوت المراتب والثروات .
والحج عندنا اجتماع عظيم ومؤتمر سنوي .
ومثله صلاة الجمعة وهي المؤتمر الصغير الذي نلتقي فيه كل أسبوع .
هي كلها معان جميلة لمن يفكر ويتأمل . وهي أبعد ما تكون عن الوثنية .
ولو وقفت معي في عرفة بين عدة ملايين يقولون الله أكبر ويتلون القرآن بأكثر من عشرين لغة ويهتفون لبيك اللهم لبيك ويبكون ويذوبون شوقا وحبا – لبكيت أنت أيضا دون أن تدري وتذوب في الجمع الغفير من الخلق . وأحسست بذلك الفناء والخشوع أمام الإله العظيم مالك الملك الذي بيده مقاليد كل شيء .
من كتاب / حوار مع صديقي الملحد
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ هي قادمة من لندن منذ أيام بعد سياحة قصيرة... ذهبت وعلى وجهها براءة وفي خطوتها حياء.. وعادت متنمرة متحفزة تتدلى من شفتيها سيجارة تنفث دخانها متواصلا كمدخنة , وقد وضعت ساقاً على ساق وراحت تحملق في وجهي في صرامة وحدة ..
كنت في عجب من التغير السريع ..
أين ذهبت الأنوثة الفياضة والملامح اللذيذة الهشة مثل غزل البنات التي كانت تتلون بحمرة الخجل لأقل خاطر
أنا أمام شيخ غفر
سألت في توجس لعلي أكتشف السر ..
ترى , كيف رأيت لندن ؟
جاء ردها كطلقات مدفع رشاش
رأيت الجنة .. إنهم هناك يعيشون في الجنة.. حرية .. حرية .. حرية في كل شيء .. البنت هناك تفعل ما تشاء كما تشاء .. تخرج وقتما تريد تعود وقتما تريد .. أو لا تعود .. إذا حلا لها أن لاتعود .. تعانق فتاها أمام الجميع , وتقبله أمام الجميع , وتختلي به ويختلي بها , وتفعل به ويفعل بها كل ما يلذ لهما دون خوف من أن تتلصص عيون الآخرين لتعرف ماذا يجري تحت الملاءة .. العسكري يحرس المنظر الجميل من الفضوليين ويحمي الخلوة بقوة القانون .. الأهل يباركون هذه الحرية الجنسية ولا يدسّون أنفهم فيها ، لا أحد يسأل .. هل هو زوجك .. هل هو خطيبك .. متى نقول مبروك .. كل واحد في حاله .. كل واحد له لذته وخلوته وصاحبته..
هذه هي الحياة .. هذا هو التقدم .. هذه هي الجنة ..
كنت أستمع في دهشة .. وأذكر زيارتي أنا الآخر للندن وكيف أعجبت بها .. ولكن لسبب آخر مختلف تماما .. فقد أعجبني فيها النظام والجدية والعمل والإنتاج والديمقراطية... ولم ألق بالا لظاهرة الهيبيز والتحلل الجنسي.. فقد رأيت فيها في ذلك الوقت مظهرا لتداعي إمبراطورية عظيمة وعرضا من أعراض تصدعها .. ولو أن شباب بريطانيا بدا بهذه الصورة الرخوة المنحلة لما قام لبريطانيا بتاء تحت الشمس , ولما استطاعت أن تقتحم بأساطيلها البحار السبعة .. قصة ميلاد وموت الإمبراطوريات كما تعلمناها من التاريخ.. تبدأ بالعصامية والفقر والصبر والكفاح وتنتهي بالشيخوخة في الترف والإنحلال .. قصة لا يمل التاريخ من تكرارها على أسماعنا .. وأفقت من ذكرياتي وتأملاتي على صوت صاحبتنا يصفعني من جديد..
هيه . متى تتقدمون أيها الرجال .. وتخلعون عنكم ثياب الرجعية والتخلف وتعاملون المرأة كآدمية لها الحق في أن تستمتع .. متى نعيش أحرارا ؟
قلت وأنا مازلت مندهشاً من هذا التحفز في نبراتها
ولكنك على ما اعلم حرة .. أنت حرة .. في إمكانك أن تفعلي ما تشائين .. ليس في رفقتك شرطي وليس في يدك أغلال .. ولست رهن تحقيق أو اعتقال .. وإذا قررت بينك وبين نفسك أن تفوزي بمتعة فأنت تحصلين عليها في غفلة من الجميع وبرغم أنفهم
فصاحت بحدة
ولماذا لا أستمتع علنا أمام الكل ؟ لماذا لا تكون الأحضان والقبلات مثل التموين المشروع نتبادلها دون خوف ؟ لماذا لا تكون الحرية الجنسية في بطاقة تمويننا ؟ مثل السكر والزيت والشاي حقا مقررا لا نقاش فيه ولا عيب ولا حرام ؟
لبثت لحظة أمسك رأسي محملقا في هذه التي عرفتها عذراء مثل فتافيت السكر .. كيف تتكلم في ضراوة مثل الغولة ؟
وأعجب ما في الأمر .. أنها كانت تتكلم في زهو و خيلاء .. وكأنما تحمل إلى العالم بشارة جديدة أو نظرية عميقة أو مذهبا فلسفيا
قلت لها
ولكن هذا مذهب القرود .. وهو امر قديم جدا لا تقدم فيه ولا تقدمية .. فالقرود يتناكحون ويتلاقحون ويتعانقون في الأقفاص ونحن نصفق لهم ونبارك حريتهم ونلقي إليهم بالموز والسوداني.. هذه نظرية لا يحتاج اكتشافها رحلة إلى لندن وإنما تكفي رحلة إلى جبلاية القرود .. لقد كلفت نفسك مشوارا طويلا دون مقتضى
قالت في غيظ ..
سوف تعود إلى كلامك الفارغ
والحقيقة أنني كنت في حيرة من كل هذا الغل الذي جرى به الحوار.. فليس بيننا ثأر قديم على ما أعلم وإن كنت أدعو إلى العفة .. فإني لا أفعل ذلك لحسابي الخاص.. وإنما هي حقيقة وخبرة وممارسة ومعاناة وخلاصة عمر.. أحاول أن أوصل ثمرتها إلى الآخرين.. وأطرح أمامهم رأيا حرا وليس في المسألة تحد
وجاءني صوتها عنيداً مكابراً
على العموم إذا كنت أتفادى الصدام معكم إلى الآن .. وإذا كنت أخضع أحيانا لتقاليدكم البالية أيها الرجال .. فإنما أفعل هذا إشفاقا عليكم لأنكم مساكين.. إشفاقا على الأب والأخ والصديق
أخيرا قالت كلمة حق .. فنحن فعلا مساكين .. ومع مثل هذه العقلية النسائية سنكون جيلا مسكينا من الرجال
وليست جنة أبداً تلك الخلوة التي تجمعنا مع مثل هذه العينة من النساء ولو كانت في هايدبارك في لندن تحت أشجار الزيزفون يفعل كل منا بالآخر ما يلذ له ..
فهؤلاء لسن نساء .. إنما غيلان
ونظرت إلى وجهها المتنمر ورحت أبحث عن فتافيت السكر التي كانت تلمس شغاف القلب .. فوجدت وجها تبخرت منه الأنثى وبقي شيء متصلب لا يصلح لأن يكون وجها لأنثى ولا وجها لرجل .. ولا حتى سحنة لشيخ الغفر!
من كتاب / الروح والجسد
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ هي قادمة من لندن منذ أيام بعد سياحة قصيرة.. ذهبت وعلى وجهها براءة وفي خطوتها حياء. وعادت متنمرة متحفزة تتدلى من شفتيها سيجارة تنفث دخانها متواصلا كمدخنة , وقد وضعت ساقاً على ساق وراحت تحملق في وجهي في صرامة وحدة .
كنت في عجب من التغير السريع .
أين ذهبت الأنوثة الفياضة والملامح اللذيذة الهشة مثل غزل البنات التي كانت تتلون بحمرة الخجل لأقل خاطر
أنا أمام شيخ غفر
سألت في توجس لعلي أكتشف السر .
ترى , كيف رأيت لندن ؟
جاء ردها كطلقات مدفع رشاش
رأيت الجنة . إنهم هناك يعيشون في الجنة. حرية . حرية . حرية في كل شيء . البنت هناك تفعل ما تشاء كما تشاء . تخرج وقتما تريد تعود وقتما تريد . أو لا تعود . إذا حلا لها أن لاتعود . تعانق فتاها أمام الجميع , وتقبله أمام الجميع , وتختلي به ويختلي بها , وتفعل به ويفعل بها كل ما يلذ لهما دون خوف من أن تتلصص عيون الآخرين لتعرف ماذا يجري تحت الملاءة . العسكري يحرس المنظر الجميل من الفضوليين ويحمي الخلوة بقوة القانون . الأهل يباركون هذه الحرية الجنسية ولا يدسّون أنفهم فيها ، لا أحد يسأل . هل هو زوجك . هل هو خطيبك . متى نقول مبروك . كل واحد في حاله . كل واحد له لذته وخلوته وصاحبته.
هذه هي الحياة . هذا هو التقدم . هذه هي الجنة .
كنت أستمع في دهشة . وأذكر زيارتي أنا الآخر للندن وكيف أعجبت بها . ولكن لسبب آخر مختلف تماما . فقد أعجبني فيها النظام والجدية والعمل والإنتاج والديمقراطية.. ولم ألق بالا لظاهرة الهيبيز والتحلل الجنسي. فقد رأيت فيها في ذلك الوقت مظهرا لتداعي إمبراطورية عظيمة وعرضا من أعراض تصدعها . ولو أن شباب بريطانيا بدا بهذه الصورة الرخوة المنحلة لما قام لبريطانيا بتاء تحت الشمس , ولما استطاعت أن تقتحم بأساطيلها البحار السبعة . قصة ميلاد وموت الإمبراطوريات كما تعلمناها من التاريخ. تبدأ بالعصامية والفقر والصبر والكفاح وتنتهي بالشيخوخة في الترف والإنحلال . قصة لا يمل التاريخ من تكرارها على أسماعنا . وأفقت من ذكرياتي وتأملاتي على صوت صاحبتنا يصفعني من جديد.
هيه . متى تتقدمون أيها الرجال . وتخلعون عنكم ثياب الرجعية والتخلف وتعاملون المرأة كآدمية لها الحق في أن تستمتع . متى نعيش أحرارا ؟
قلت وأنا مازلت مندهشاً من هذا التحفز في نبراتها
ولكنك على ما اعلم حرة . أنت حرة . في إمكانك أن تفعلي ما تشائين . ليس في رفقتك شرطي وليس في يدك أغلال . ولست رهن تحقيق أو اعتقال . وإذا قررت بينك وبين نفسك أن تفوزي بمتعة فأنت تحصلين عليها في غفلة من الجميع وبرغم أنفهم
فصاحت بحدة
ولماذا لا أستمتع علنا أمام الكل ؟ لماذا لا تكون الأحضان والقبلات مثل التموين المشروع نتبادلها دون خوف ؟ لماذا لا تكون الحرية الجنسية في بطاقة تمويننا ؟ مثل السكر والزيت والشاي حقا مقررا لا نقاش فيه ولا عيب ولا حرام ؟
لبثت لحظة أمسك رأسي محملقا في هذه التي عرفتها عذراء مثل فتافيت السكر . كيف تتكلم في ضراوة مثل الغولة ؟
وأعجب ما في الأمر . أنها كانت تتكلم في زهو و خيلاء . وكأنما تحمل إلى العالم بشارة جديدة أو نظرية عميقة أو مذهبا فلسفيا
قلت لها
ولكن هذا مذهب القرود . وهو امر قديم جدا لا تقدم فيه ولا تقدمية . فالقرود يتناكحون ويتلاقحون ويتعانقون في الأقفاص ونحن نصفق لهم ونبارك حريتهم ونلقي إليهم بالموز والسوداني. هذه نظرية لا يحتاج اكتشافها رحلة إلى لندن وإنما تكفي رحلة إلى جبلاية القرود . لقد كلفت نفسك مشوارا طويلا دون مقتضى
قالت في غيظ .
سوف تعود إلى كلامك الفارغ
والحقيقة أنني كنت في حيرة من كل هذا الغل الذي جرى به الحوار. فليس بيننا ثأر قديم على ما أعلم وإن كنت أدعو إلى العفة . فإني لا أفعل ذلك لحسابي الخاص. وإنما هي حقيقة وخبرة وممارسة ومعاناة وخلاصة عمر. أحاول أن أوصل ثمرتها إلى الآخرين. وأطرح أمامهم رأيا حرا وليس في المسألة تحد
وجاءني صوتها عنيداً مكابراً
على العموم إذا كنت أتفادى الصدام معكم إلى الآن . وإذا كنت أخضع أحيانا لتقاليدكم البالية أيها الرجال . فإنما أفعل هذا إشفاقا عليكم لأنكم مساكين. إشفاقا على الأب والأخ والصديق
أخيرا قالت كلمة حق . فنحن فعلا مساكين . ومع مثل هذه العقلية النسائية سنكون جيلا مسكينا من الرجال
وليست جنة أبداً تلك الخلوة التي تجمعنا مع مثل هذه العينة من النساء ولو كانت في هايدبارك في لندن تحت أشجار الزيزفون يفعل كل منا بالآخر ما يلذ له .
فهؤلاء لسن نساء . إنما غيلان
ونظرت إلى وجهها المتنمر ورحت أبحث عن فتافيت السكر التي كانت تلمس شغاف القلب . فوجدت وجها تبخرت منه الأنثى وبقي شيء متصلب لا يصلح لأن يكون وجها لأنثى ولا وجها لرجل . ولا حتى سحنة لشيخ الغفر!
من كتاب / الروح والجسد
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝