❞ في حضرة الحياة وكأسٍ من القهوة
جلسَت أمامي حياة بثوبِ العجائزِ المُرهَقات، تَلفُّ أناملَها المُتغضّنةَ حولَ فنجانٍ من القهوةِ المُرّة، تحتسيه كأنّها تَبتلعُ معهُ بقايا الأوهامِ الّتي غَصَّت بها حَناجرُ العُمر. أرهَقتها سِجِلّاتُ النّاسِ ومُجرَياتُ أيّامِهم، ففتَحت دفاتِرَها العَتيقةَ وألقَت أمامي كِسرةً من حِكمتِها، وكأنّها تَهَبُني تَذكرةً للعَبورِ في هذا العالَمِ دونَ أن أُغرِقَ ذاتي في وَحلِهِ.
قالت، وقد وسمَتِ المرارةُ صوتَها كما يُوسِمُ القَطرانُ الأياديَ الّتي تتجرّأُ عليهِ:
\"ما أكثرَ ما يتوهّمُ النّاسُ فَهمَ بعضِهم، وما أَخبثَ ما يُضمِرونَ وراءَ ظُهورِهم، وما أجبنَهم حينَ يُسلّطونَ نيرانَهم على الضّعيفِ ويتملّقونَ القويَّ بوجهٍ أملَسَ كصَفحةِ ماءٍ آسنٍ... اسمعي، يا ابنتي، واعِي ما سأبوحُ به لكِ، فإنّ هذا القَطعَ المُتعَفّنَ مِنَ العُمرِ، الذي نسمّيهِ عالَمًا، لا يُعطي لأحدٍ سوى بِمقابلٍ يُفني نصفَهُ أو أكثرَ.\"
ثمّ ألقت بنظرةٍ بعيدةٍ كأنّها تنقّبُ في سراديبِ الذّاكرة، وهزّت رأسَها بتنهيدةٍ امتزجَت بِرائحةِ القهوةِ الباردةِ قبلَ أن تُتابعَ كلامَها، وبدأت تُساقِطُ حِكمَها كأنّها تَزرعُها في تُربةِ الإدراكِ، واحدةً تلوَ الأخرى...
1️⃣ الناسُ لا ينظُرونَ إليكَ كما أنت، بل كما يريدونَ أن تكون، فإن خيّبتَ توقعاتهم، انقلبَ عليكَ وُدُّهُم، وإن أرضيتَها، ضحّيتَ بنَفسِكَ من أجلِ الوَهمِ. فاخترْ إنقاذَ ذاتِك.
2️⃣ لا تُصَدّقِ الألسنةَ المُغلفةَ بالعسل، فغالبًا ما تَكمنُ العقاربُ بينَ لَدائنِ الحَلوى، وما من لَفظٍ مُعسَّلٍ إلّا وأخفى وراءَهُ سُمًّا للغافلينَ.
3️⃣ الغالبيةُ يَعيشونَ حيواتٍ مُستَنسَخَةً من بعضِهم، يعيدونَ أخطاءَ أسلافِهم ويصرخونَ أنّهم مُتفرّدون، فلا تَغرّنكَ ادّعاءاتُ التميّزِ، فالسّوادُ الأعظمُ ليسَ إلّا تكرارًا صاخبًا بنَبرةٍ مُختلفة.
4️⃣ لن يَغفِرَ لكَ أحدٌ تفوّقَك، ولن يَحتَفي بكَ أحدٌ إلّا إذا احتاجَ إلى ظلِّك ليختبِئَ تحته، فانجُ برُوحِك، فالنّاسُ لا يَهوَونَ إلّا منكسِري الجناحِ.
5️⃣ الأفكارُ ليست مُلكًا لأحد، ولكنّ العُقولَ التي تتبنّاها إمّا تُطلقُها كالرّيحِ أو تَدفِنُها كاللّعنةِ. فاخترِ النّفاذَ من القيودِ بدلًا من الموتِ صامتًا.
6️⃣ إذا سقطتَ في محنةٍ، سيهرولُ النّاسُ لمواساتِك كي لا يتّهمَهم المجتمعُ بالقسوة، لكن إن طالَ انكسارُك، تركوكَ ومَضَوا إلى مَن هُم أبرعُ في حياكةِ الدّموعِ منكَ. فاجمَع نفسَكَ ولا تنتظرْ أحدًا.
7️⃣ أقدامُ البشرِ تسيرُ فوقَ جُثثِ الأحلامِ التي قتَلوها بأيديهم، ولا يَلتفِتونَ لصريرِ العظامِ تحتَهم، فإيّاكَ أن تَمنحَ أحدًا قلبَكَ ثمَّ تُطالِبَهُ برُدّهِ، فلن يعيدَهُ لكَ إلّا مُهشَّمًا.
8️⃣ المديحُ يُوزَّعُ في هذا العالمِ إمّا كرشوةٍ أو كمُخدّر، فحينَ تُسمعُ كلماتُ الإطراءِ، قِفْ، واسألْ: \"ماذا يريدونَ مِنّي؟\" ولا تَبتسمْ طويلاً، فالثّمنُ قادمٌ لا مَحالَةَ.
9️⃣ سيُحدّثونَك عن المساواةِ، عن الإنصافِ، عن العدلِ، لكن إن أمعنتَ في الواقعِ، ستُدركُ أنّ كلَّ شيءٍ في هذه الأرضِ مُصمَّمٌ ليَجعلَ البعضَ فوقَ رؤوسِ البعضِ، مهما حاولتَ المُقاومة.
🔟 إنَّ الكُرهَ في هذا العالَمِ هو القاعدةُ، والمحبّةُ استثناءٌ عابرٌ، لا تعوّلْ على كَثرةِ الأصدقاء، فهم أمواجٌ تأتي حينَ يَحتاجونَكَ، وتتبدّدُ حينَ تحتاجُهم. فامضِ وحدَكَ إن اقتضى الأمرُ.
1️⃣1️⃣ الغيرةُ ليست دَليلَ حُبّ، بل هي خوفٌ مُقنَّعٌ، فالرّجالُ يخافونَ أن تفوقَهم النّساءُ، والنّساءُ يخشَينَ أن تُخلفَهنَّ النّساءُ الأُخرياتُ. لا تُشفقْ على أحدٍ، فالجميعُ في مَعرَكَةِ مَن يَستولِي على الأمانِ.
1️⃣2️⃣ النّميمةُ ليست حِرفةً وضِيعةً كما يُقال، بل هي رُكنٌ من أركانِ التواصلِ البشريّ، فمتى سُحِبَت النّميمةُ من مُجالسِ النّاسِ، صارَ الصّمتُ مَخيفًا. فراقبْ فقط، دونَ أن تكونَ أداةً.
1️⃣3️⃣ المُعاناةُ لا تجعلُ البشرَ أرقّ، بل تَزرعُ فيهم غِلظةً مُرعبةً، فأولئك الذين ذاقوا القهرَ، يُمارسونهُ بشَرَهٍ حينَ تسنَحُ لهم الفُرصةُ، فلا تُراهنْ على طيبةِ مَن ذاقَ المَرارةَ.
1️⃣4️⃣ البشَرُ لا يُحبّونَ التواضُعَ، بل يحبّونَ أن تُشعِرَهم أنكَ دونَهُم، فإن زِدتَهم إشراقًا، احترقوا بغَيرتهم وصاروا سُمًّا في طَريقِكَ. فلا تُضيءَ إلّا لمَن يَستحقُّ.
1️⃣5️⃣ الحقيقةُ وَحشٌ ضارٍ، لا يَجرؤُ أحدٌ على التّحديقِ في عَينَيهِ، لذا يَحتمي البَشرُ بالخِداعِ، يكذبونَ بلباقةٍ، ويُبرّرونَها بالحِكمةِ، ويَعيشونَ بأمانٍ زائفٍ.
وأكملت تسلسلَها، وكلّ كلمةٍ تَسقُطُ في أعماقي كمِطرقةٍ تهشّمُ ما تبقّى من الأحلامِ الرّغيدةِ. كانت تَروي، وأنا أتَحسَّسُ سخونةَ الكوبِ بينَ يديَّ، أتَأمّلُ الدّخانَ المُتصاعِدَ منهُ كأنَّهُ أرواحُ الأمنياتِ المُحترقةِ، وأُصغي إلى حياة، علّني أَعبُرُ دونَ أن يَدهَسَني هذا العالَمُ، أو أتحوَّلَ إلى شظيةٍ مِن أنقاضِهِ.
✦•┈┈⛧┈♛┈⛧┈┈•✦ #ᴡʀ_ᴄʜɪʙᴏᴜʙ_ᴋʜᴅɪᴅᴊᴀ ✦•┈┈⛧┈♛┈⛧┈┈•✦. ❝ ⏤Khadidja Chiboub
❞ في حضرة الحياة وكأسٍ من القهوة
جلسَت أمامي حياة بثوبِ العجائزِ المُرهَقات، تَلفُّ أناملَها المُتغضّنةَ حولَ فنجانٍ من القهوةِ المُرّة، تحتسيه كأنّها تَبتلعُ معهُ بقايا الأوهامِ الّتي غَصَّت بها حَناجرُ العُمر. أرهَقتها سِجِلّاتُ النّاسِ ومُجرَياتُ أيّامِهم، ففتَحت دفاتِرَها العَتيقةَ وألقَت أمامي كِسرةً من حِكمتِها، وكأنّها تَهَبُني تَذكرةً للعَبورِ في هذا العالَمِ دونَ أن أُغرِقَ ذاتي في وَحلِهِ.
قالت، وقد وسمَتِ المرارةُ صوتَها كما يُوسِمُ القَطرانُ الأياديَ الّتي تتجرّأُ عليهِ:
˝ما أكثرَ ما يتوهّمُ النّاسُ فَهمَ بعضِهم، وما أَخبثَ ما يُضمِرونَ وراءَ ظُهورِهم، وما أجبنَهم حينَ يُسلّطونَ نيرانَهم على الضّعيفِ ويتملّقونَ القويَّ بوجهٍ أملَسَ كصَفحةِ ماءٍ آسنٍ.. اسمعي، يا ابنتي، واعِي ما سأبوحُ به لكِ، فإنّ هذا القَطعَ المُتعَفّنَ مِنَ العُمرِ، الذي نسمّيهِ عالَمًا، لا يُعطي لأحدٍ سوى بِمقابلٍ يُفني نصفَهُ أو أكثرَ.˝
ثمّ ألقت بنظرةٍ بعيدةٍ كأنّها تنقّبُ في سراديبِ الذّاكرة، وهزّت رأسَها بتنهيدةٍ امتزجَت بِرائحةِ القهوةِ الباردةِ قبلَ أن تُتابعَ كلامَها، وبدأت تُساقِطُ حِكمَها كأنّها تَزرعُها في تُربةِ الإدراكِ، واحدةً تلوَ الأخرى..
1️⃣ الناسُ لا ينظُرونَ إليكَ كما أنت، بل كما يريدونَ أن تكون، فإن خيّبتَ توقعاتهم، انقلبَ عليكَ وُدُّهُم، وإن أرضيتَها، ضحّيتَ بنَفسِكَ من أجلِ الوَهمِ. فاخترْ إنقاذَ ذاتِك.
2️⃣ لا تُصَدّقِ الألسنةَ المُغلفةَ بالعسل، فغالبًا ما تَكمنُ العقاربُ بينَ لَدائنِ الحَلوى، وما من لَفظٍ مُعسَّلٍ إلّا وأخفى وراءَهُ سُمًّا للغافلينَ.
4️⃣ لن يَغفِرَ لكَ أحدٌ تفوّقَك، ولن يَحتَفي بكَ أحدٌ إلّا إذا احتاجَ إلى ظلِّك ليختبِئَ تحته، فانجُ برُوحِك، فالنّاسُ لا يَهوَونَ إلّا منكسِري الجناحِ.
5️⃣ الأفكارُ ليست مُلكًا لأحد، ولكنّ العُقولَ التي تتبنّاها إمّا تُطلقُها كالرّيحِ أو تَدفِنُها كاللّعنةِ. فاخترِ النّفاذَ من القيودِ بدلًا من الموتِ صامتًا.
6️⃣ إذا سقطتَ في محنةٍ، سيهرولُ النّاسُ لمواساتِك كي لا يتّهمَهم المجتمعُ بالقسوة، لكن إن طالَ انكسارُك، تركوكَ ومَضَوا إلى مَن هُم أبرعُ في حياكةِ الدّموعِ منكَ. فاجمَع نفسَكَ ولا تنتظرْ أحدًا.
7️⃣ أقدامُ البشرِ تسيرُ فوقَ جُثثِ الأحلامِ التي قتَلوها بأيديهم، ولا يَلتفِتونَ لصريرِ العظامِ تحتَهم، فإيّاكَ أن تَمنحَ أحدًا قلبَكَ ثمَّ تُطالِبَهُ برُدّهِ، فلن يعيدَهُ لكَ إلّا مُهشَّمًا.
8️⃣ المديحُ يُوزَّعُ في هذا العالمِ إمّا كرشوةٍ أو كمُخدّر، فحينَ تُسمعُ كلماتُ الإطراءِ، قِفْ، واسألْ: ˝ماذا يريدونَ مِنّي؟˝ ولا تَبتسمْ طويلاً، فالثّمنُ قادمٌ لا مَحالَةَ.
9️⃣ سيُحدّثونَك عن المساواةِ، عن الإنصافِ، عن العدلِ، لكن إن أمعنتَ في الواقعِ، ستُدركُ أنّ كلَّ شيءٍ في هذه الأرضِ مُصمَّمٌ ليَجعلَ البعضَ فوقَ رؤوسِ البعضِ، مهما حاولتَ المُقاومة.
🔟 إنَّ الكُرهَ في هذا العالَمِ هو القاعدةُ، والمحبّةُ استثناءٌ عابرٌ، لا تعوّلْ على كَثرةِ الأصدقاء، فهم أمواجٌ تأتي حينَ يَحتاجونَكَ، وتتبدّدُ حينَ تحتاجُهم. فامضِ وحدَكَ إن اقتضى الأمرُ.
1️⃣1️⃣ الغيرةُ ليست دَليلَ حُبّ، بل هي خوفٌ مُقنَّعٌ، فالرّجالُ يخافونَ أن تفوقَهم النّساءُ، والنّساءُ يخشَينَ أن تُخلفَهنَّ النّساءُ الأُخرياتُ. لا تُشفقْ على أحدٍ، فالجميعُ في مَعرَكَةِ مَن يَستولِي على الأمانِ.
1️⃣2️⃣ النّميمةُ ليست حِرفةً وضِيعةً كما يُقال، بل هي رُكنٌ من أركانِ التواصلِ البشريّ، فمتى سُحِبَت النّميمةُ من مُجالسِ النّاسِ، صارَ الصّمتُ مَخيفًا. فراقبْ فقط، دونَ أن تكونَ أداةً.
1️⃣3️⃣ المُعاناةُ لا تجعلُ البشرَ أرقّ، بل تَزرعُ فيهم غِلظةً مُرعبةً، فأولئك الذين ذاقوا القهرَ، يُمارسونهُ بشَرَهٍ حينَ تسنَحُ لهم الفُرصةُ، فلا تُراهنْ على طيبةِ مَن ذاقَ المَرارةَ.
1️⃣4️⃣ البشَرُ لا يُحبّونَ التواضُعَ، بل يحبّونَ أن تُشعِرَهم أنكَ دونَهُم، فإن زِدتَهم إشراقًا، احترقوا بغَيرتهم وصاروا سُمًّا في طَريقِكَ. فلا تُضيءَ إلّا لمَن يَستحقُّ.
1️⃣5️⃣ الحقيقةُ وَحشٌ ضارٍ، لا يَجرؤُ أحدٌ على التّحديقِ في عَينَيهِ، لذا يَحتمي البَشرُ بالخِداعِ، يكذبونَ بلباقةٍ، ويُبرّرونَها بالحِكمةِ، ويَعيشونَ بأمانٍ زائفٍ.
وأكملت تسلسلَها، وكلّ كلمةٍ تَسقُطُ في أعماقي كمِطرقةٍ تهشّمُ ما تبقّى من الأحلامِ الرّغيدةِ. كانت تَروي، وأنا أتَحسَّسُ سخونةَ الكوبِ بينَ يديَّ، أتَأمّلُ الدّخانَ المُتصاعِدَ منهُ كأنَّهُ أرواحُ الأمنياتِ المُحترقةِ، وأُصغي إلى حياة، علّني أَعبُرُ دونَ أن يَدهَسَني هذا العالَمُ، أو أتحوَّلَ إلى شظيةٍ مِن أنقاضِهِ.
❞ إلى نفسي،
أكتب لكِ هذه الكلمات على عتبة من الانكسار الذي لا تنحني له الجبال، على شفا الهاوية التي لا يسقط فيها إلا من تخلى عن صموده. أكتب لكِ وفي داخلي هدوءٌ يسبق العاصفة، ويقينٌ يلتف حوله الضباب. أتساءل، أيّ ظلال هي تلك التي تسكن أعماقكِ؟ أهي ظلال الأحلام التي كنتِ تسيرين خلفها بخطى مضطربة، أم هي ظلال الخوف الذي يلتهم كل فكرة طارت نحوكِ مبتغية النور؟
أنتِ التي تخافين من السقوط، كأن السقوط لا يعلمكِ سوى الضعف، كأن الأرض لا تعيد بناء نفسها من جديد بعد كل انهيار. أيّ وهمٍ هو الذي يطوق قلبكِ، ويحجب عنكِ حقيقتكِ القوية؟
ألم تلاحظي كيف أن الأوقات التي مرت بكِ لم تكن سوى دروسٍ مكثفة، تُمتحن فيها عزيمتكِ وفرادتكِ؟ ألا تدركين أن الألم ليس سوى مرايا لتصقل به شخصيتكِ؟ وأن الفشل، في عُرف الحياة، هو مجرد مرآة متشظية، تعكس صورًا غير مكتملة لتكتمل في النهاية؟
تتسائلين لماذا تقفين في مواجهة المجهول، في الوقت الذي كان ينبغي لكِ فيه أن تسيرين بلا التواءات؟ أهو الخوف من المجهول أم هو الجهل بقدرتكِ على تحويل المجهول إلى طيفٍ من الضوء؟ أنتِ تمتلكين مفاتيح الفهم، وتجاهلينها في ركنٍ من روحكِ المتعبة.
أنتِ التي تشعرين أن الكون يعاديكِ، وأن الزمن لا يكف عن طعن قلبكِ بأشواكه؛ أذكركِ أن كل دقيقةٍ تذبل فيها أحلامكِ، هي لحظةً تضاف إلى سجلٍ غير مرئي من القوة. هل عرفتِ أن الحقيقة الوحيدة التي لا تفنى هي التي تتحقق على صخور التحديات؟
لا تتوقفي عن الخوض في لججكِ، ولا تظني أن الأبواب المغلقة هي نهاية الطريق. فكري في الأبواب التي تفتح لكِ عندما تتخلين عن انكساركِ. هل تعلمين أن التغيير يبدأ في تلك اللحظة التي تجرئين فيها على أن تكوني نفسكِ في أقصى تجلياتها، دون خوفٍ من الظهور على حقيقتكِ؟
إلى نفسي، لا تكوني فريسة للوقت أو لظروفٍ لا تحكمين عليها. فالحياة ليست سوى مرآةٍ تحتفظ بكل تفاصيلكِ، من تقلباتكِ، من صراعكِ الداخلي، ومن صمتكِ الذي يعبر عن أسرارٍ لا يسبر أغوارها إلا من رآكِ في كامل تجلياتكِ، من دون أقنعة.
# شيبوب خديجة 🇩🇿. ❝ ⏤Khadidja Chiboub
❞ إلى نفسي،
أكتب لكِ هذه الكلمات على عتبة من الانكسار الذي لا تنحني له الجبال، على شفا الهاوية التي لا يسقط فيها إلا من تخلى عن صموده. أكتب لكِ وفي داخلي هدوءٌ يسبق العاصفة، ويقينٌ يلتف حوله الضباب. أتساءل، أيّ ظلال هي تلك التي تسكن أعماقكِ؟ أهي ظلال الأحلام التي كنتِ تسيرين خلفها بخطى مضطربة، أم هي ظلال الخوف الذي يلتهم كل فكرة طارت نحوكِ مبتغية النور؟
أنتِ التي تخافين من السقوط، كأن السقوط لا يعلمكِ سوى الضعف، كأن الأرض لا تعيد بناء نفسها من جديد بعد كل انهيار. أيّ وهمٍ هو الذي يطوق قلبكِ، ويحجب عنكِ حقيقتكِ القوية؟
ألم تلاحظي كيف أن الأوقات التي مرت بكِ لم تكن سوى دروسٍ مكثفة، تُمتحن فيها عزيمتكِ وفرادتكِ؟ ألا تدركين أن الألم ليس سوى مرايا لتصقل به شخصيتكِ؟ وأن الفشل، في عُرف الحياة، هو مجرد مرآة متشظية، تعكس صورًا غير مكتملة لتكتمل في النهاية؟
تتسائلين لماذا تقفين في مواجهة المجهول، في الوقت الذي كان ينبغي لكِ فيه أن تسيرين بلا التواءات؟ أهو الخوف من المجهول أم هو الجهل بقدرتكِ على تحويل المجهول إلى طيفٍ من الضوء؟ أنتِ تمتلكين مفاتيح الفهم، وتجاهلينها في ركنٍ من روحكِ المتعبة.
أنتِ التي تشعرين أن الكون يعاديكِ، وأن الزمن لا يكف عن طعن قلبكِ بأشواكه؛ أذكركِ أن كل دقيقةٍ تذبل فيها أحلامكِ، هي لحظةً تضاف إلى سجلٍ غير مرئي من القوة. هل عرفتِ أن الحقيقة الوحيدة التي لا تفنى هي التي تتحقق على صخور التحديات؟
لا تتوقفي عن الخوض في لججكِ، ولا تظني أن الأبواب المغلقة هي نهاية الطريق. فكري في الأبواب التي تفتح لكِ عندما تتخلين عن انكساركِ. هل تعلمين أن التغيير يبدأ في تلك اللحظة التي تجرئين فيها على أن تكوني نفسكِ في أقصى تجلياتها، دون خوفٍ من الظهور على حقيقتكِ؟
إلى نفسي، لا تكوني فريسة للوقت أو لظروفٍ لا تحكمين عليها. فالحياة ليست سوى مرآةٍ تحتفظ بكل تفاصيلكِ، من تقلباتكِ، من صراعكِ الداخلي، ومن صمتكِ الذي يعبر عن أسرارٍ لا يسبر أغوارها إلا من رآكِ في كامل تجلياتكِ، من دون أقنعة.
❞ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف روي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقينوس . وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب ، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى . وقيل : كانوا قبل عيسى ، والله أعلم . وقال ابن عباس : إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس . وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى - عليه السلام - فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام ، وكان بها سبعة أحداث يعبدون الله سرا ، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا ، ومروا براع معه كلب فتبعهم فأووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار ، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم ، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا ; فقال الملك : سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا . وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة ، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم - فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ; فرفع أمرهم إلى الملك وقيل له : إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته ، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ; فقالوا له فيما روي : ربنا رب السماوات والأرض - إلى قوله - وإذ اعتزلتموهم وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك : إنكم شبان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم بل أستأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلا ، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم : إني أعرف كهفا في جبل كذا ، وكان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا ; فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة ، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم . وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك . وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى ابن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها ، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة ، فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم الله - تعالى - فآمنوا به واتبعوه على دينه ، واشتهرت خلطتهم به ; فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها ، فنهاه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه ، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعا ; فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما ; ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف . وقيل في خروجهم غير هذا .
وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم ، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم ; قاله ابن عباس . واسم الكلب حمران وقيل قطمير .
وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية ، والسند في معرفتها واه . والذي ذكره الطبري هي هذه : مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومحسيميلنينا ويمليخا ، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم ، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس . قال مقاتل : وكان الكلب لمكسلمينا ، وكان أسنهم وصاحب غنم .
الثانية : هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة . وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فارا بدينه ، وكذلك أصحابه ، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة " النحل " . وقد نص الله - تعالى - على ذلك في " براءة " وقد تقدم . وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم ، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين . فسكنى الجبال ودخول الغيران ، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق ، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء - صلوات الله عليهم - والأولياء . وقد فضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزلة ، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس ، وقد نص الله - تعالى - عليها في كتابه فقال : فأووا إلى الكهف .
قال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت ; وقد جاء في الخبر : إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك . ولم يخص موضعا من موضع . وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك ، إن كنت بين أظهرهم . وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت . وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم صوامع المؤمنين بيوتهم من مراسل الحسن وغيره . وقال عقبة بن عامر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما النجاة يا رسول الله ؟ فقال : يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك . وقال - صلى الله عليه وسلم - : يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن . خرجه البخاري . وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رءوس الجبال . وذكر أيضا علي بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة . قالوا : يا رسول الله ، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج ؟ قال : إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران . قالوا وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها .
قلت : أحوال الناس في هذا الباب تختلف ، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال ، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في بداية أمره ، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية ، فقال : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف . ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل ; وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم . ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم ، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن . وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال : جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم . فقال : لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ، ولا بد لهم منك ، ولك إليهم حوائج ، ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعا ، أعمى بصيرا ، سكوتا نطوقا . وقد قيل : إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب ; مثل الاعتكاف في المساجد ، ولزوم السواحل للرباط والذكر ، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس . وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - والله أعلم - لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها ; فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه ، كما ذكرنا ، والله الموفق وبه العصمة . وروى عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله - عز وجل - انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة . خرجه النسائي .
الثالثة : قوله تعالى : وهيئ لنا من أمرنا رشدا لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله - تعالى - فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة أي مغفرة ورزقا .
وهيئ لنا من أمرنا رشدا توفيقا للرشاد . وقال ابن عباس : مخرجا من الغار في سلامة . وقيل صوابا . ومن هذا المعنى أنه - عليه السلام - كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .. ❝ ⏤محمد بن صالح العثيمين
❞ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف روي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقينوس . وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب ، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى . وقيل : كانوا قبل عيسى ، والله أعلم . وقال ابن عباس : إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس . وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى - عليه السلام - فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام ، وكان بها سبعة أحداث يعبدون الله سرا ، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا ، ومروا براع معه كلب فتبعهم فأووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار ، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم ، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا ; فقال الملك : سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا . وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة ، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم - فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ; فرفع أمرهم إلى الملك وقيل له : إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته ، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ; فقالوا له فيما روي : ربنا رب السماوات والأرض - إلى قوله - وإذ اعتزلتموهم وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك : إنكم شبان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم بل أستأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلا ، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم : إني أعرف كهفا في جبل كذا ، وكان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا ; فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة ، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم . وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك . وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى ابن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها ، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة ، فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم الله - تعالى - فآمنوا به واتبعوه على دينه ، واشتهرت خلطتهم به ; فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها ، فنهاه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه ، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعا ; فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما ; ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف . وقيل في خروجهم غير هذا .
وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم ، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم ; قاله ابن عباس . واسم الكلب حمران وقيل قطمير .
وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية ، والسند في معرفتها واه . والذي ذكره الطبري هي هذه : مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومحسيميلنينا ويمليخا ، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم ، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس . قال مقاتل : وكان الكلب لمكسلمينا ، وكان أسنهم وصاحب غنم .
الثانية : هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة . وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فارا بدينه ، وكذلك أصحابه ، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة " النحل " . وقد نص الله - تعالى - على ذلك في " براءة " وقد تقدم . وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم ، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين . فسكنى الجبال ودخول الغيران ، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق ، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء - صلوات الله عليهم - والأولياء . وقد فضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزلة ، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس ، وقد نص الله - تعالى - عليها في كتابه فقال : فأووا إلى الكهف .
قال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت ; وقد جاء في الخبر : إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك . ولم يخص موضعا من موضع . وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك ، إن كنت بين أظهرهم . وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت . وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم صوامع المؤمنين بيوتهم من مراسل الحسن وغيره . وقال عقبة بن عامر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما النجاة يا رسول الله ؟ فقال : يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك . وقال - صلى الله عليه وسلم - : يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن . خرجه البخاري . وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رءوس الجبال . وذكر أيضا علي بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة . قالوا : يا رسول الله ، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج ؟ قال : إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران . قالوا وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها .
قلت : أحوال الناس في هذا الباب تختلف ، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال ، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في بداية أمره ، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية ، فقال : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف . ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل ; وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم . ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم ، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن . وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال : جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم . فقال : لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ، ولا بد لهم منك ، ولك إليهم حوائج ، ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعا ، أعمى بصيرا ، سكوتا نطوقا . وقد قيل : إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب ; مثل الاعتكاف في المساجد ، ولزوم السواحل للرباط والذكر ، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس . وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - والله أعلم - لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها ; فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه ، كما ذكرنا ، والله الموفق وبه العصمة . وروى عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله - عز وجل - انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة . خرجه النسائي .
الثالثة : قوله تعالى : وهيئ لنا من أمرنا رشدا لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله - تعالى - فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة أي مغفرة ورزقا .
وهيئ لنا من أمرنا رشدا توفيقا للرشاد . وقال ابن عباس : مخرجا من الغار في سلامة . وقيل صوابا . ومن هذا المعنى أنه - عليه السلام - كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ❝