❞ تفسير الحرية بزيادة الشهوات جعل الإنسان يشوه طبيعته الأصيلة إذ دخلت فيها الرغبات الجنونية والأوهام السخيفة والتقاليد العرجاء. إنهم لا يعيشون إلا لتبادل الحسد، للرفاهة وللزهو والتظاهر بالعظمة. يتسابقون إلى الأطعمة والزيارات والعربات والمراتب والخدم ويعتبرونها ضروريات لكنهم يضحون بالحياة وبالكرامة وبالمشاعر الإنسانية، حتى راح عدد منهم يلجأ إلى الانتحار إذا لم يكف رغباته. ❝ ⏤فيودور دوستويفسكي
❞ تفسير الحرية بزيادة الشهوات جعل الإنسان يشوه طبيعته الأصيلة إذ دخلت فيها الرغبات الجنونية والأوهام السخيفة والتقاليد العرجاء. إنهم لا يعيشون إلا لتبادل الحسد، للرفاهة وللزهو والتظاهر بالعظمة. يتسابقون إلى الأطعمة والزيارات والعربات والمراتب والخدم ويعتبرونها ضروريات لكنهم يضحون بالحياة وبالكرامة وبالمشاعر الإنسانية، حتى راح عدد منهم يلجأ إلى الانتحار إذا لم يكف رغباته. ❝
❞ حضارة اليوم طابعها الملل .
الحب يولد ليموت والمرأة طبق شهي لوجبة واحدة ثم يصفق القلب طالبا تغيير الطبق .. العين تمل واللسان يمل والمعدة تمل .. الأسطوانة تكتسح السوق اليوم .. وغداً لا تجد من يشتريها.
الموضة الفستان الجرار المتهدل على الساقين. الموضة فوق الركبة. الموضة المفتوح. الموضة المقفول. الموضة الشوال،الموضة الممزق.
التغيير .. التغيير .. حتى في الفن والفكر. سارتر ينادي بالوجودية. سارتر يهجر الوجودية. سارتر يقول أنا ماركسي. راسل شيوعي. راسل يهاجم الشيوعية. الواقعية في الفن .. السيريالية .. التأثيرية .. كل مذهب ينتشر يفقد قيمته.
وكل فلسفة يظهر لها متحمسون فدائيون ثم ينفض من حولها السامر تماماً كماركات العربات والتسريحات .. الملل .. الملل .. كل جديد يصبح قديماً بمجرد تداوله. وكل لهفة تتحول إلى فتور ثم ضجر قاتل. وطريق الخلاص سيجارة وكأس ولفافة مخدر وقرص منوم وألف مسكن ومسكن للأعصاب و أبونيه عند أطباء الأمراض النفسية.
لم يعد زبون الكباريه تثيره مفاتن الراقصة العارية التي كشفت له عن مفاتنها ثم دعته إلى شقتها. ولكن اللذة الطبيعية أصبحت عادية .. والحواس تبلدت. والملل يلتمس مهربا أخيراً في الشذوذ.
ثم الإفراط إلى حد الإعياء.. ولا حل. وفي محاولة أخيرة يلجأ الزبون إلى مائدة القمار. ثم ينحدر برجليه خطوة خطوة في طريق الإنتحار.
أفيشات السينمات .. إعلانات الصيدليات .. عناوين الكتب .. (( مانشيتات )) الجرائد .. صور الكاباريهات .. تصرخ نحن في عصر الملل.
الوجوه الشاحبة والأذرع المدلاة والعيون المحمرة والأنامل المرتجفة في عصبية .. تصرخ .. نحن في عصر الملل .. الحب كذبة عمرها عمر المناوشات والمناورات .. تذكيها الإثارة .. وحمى يؤججها التمنُّع والتدلُّل حتى يصل إلى الفراش فتهبط الحرارة ويشفي الحبيبـان ويستحمان في عرق العافية ويتحول الحب إلى عادة حميدة يعقبها دش مرطب وأكلة طيبة وأمل خبيث في مغامرة جديدة تنعش الذي مات من العواطف.
النقود تثيرك طالما هي في جيب غيرك فإذا دخلت جيبك فقدت جاذبيتها. الشهادة حلمك وغايتك وأملك حتى تحصل عليها فتنسى أمرها تماماً. الوظيفة هدف براق حتى تنالها فتتحول إلى عبء ثقيل.
لماذا كل هذا الملل. لأننا فى عصر إفلاس القيم.
قيمة الحب التي تُروّجها الأغاني والرويات سقطت وأفلست .. لأن المرأة لا تصلح لأن تكون هدف يُطلب لذاته. المرأة طريق. نحن نحب المرأة الجميلة كطريق يوصلنا فيما بعد إلى محبة الجمال .. المرأة نافذة إلى شيء وليست هدفاً نهائياً. وإذا اتخذناها هدفاً نهائياً كما تقول لنا الأغاني والروايات فأننا سوف نقتل هذا الهدف بحثاً في الفراش ولن يتبقى لنا شيء نجري وراءه.
المرأة زيت يوقد المصباح لنرى على ضوئه أشياء أخرى غير المرأة .. معان وقيماً ومثاليات نعشقها بلا ملل. وبدون مثاليات وبدون إيمان لا يمكن لحياة أن تعاش وحضارة هذا العصر سقطت لأن ما فيها من فكر مادي أسقط الأديان ولم يستطيع أن يُقيم لها بديلاً روحياً، إنه يقول لك أنك تستطيع أن تدخل الجنة بخمسين ليرة في الكازينو فترى حور العين من اللؤلؤ المكنون لابسات الحرير وترى أنهار من الخمر وأنهار من العسل وزيادة ذلك تستمتع بفرق أكروبات وتجرب حظك على مائدة الروليت.
وفى المدرسة يعلمونك أن آدم ليس من تراب ولكن من أسلاف من جنس القرود وأنه سليل تطور انحدر من الحشرات وميكروبات المستنقعات. وبسقوط هيبة الأديان يقف الأنسان وحيداً بلا سند ولا أيمان في انتظار جودو الذي لا يأتي.
كل ما يملكه حياة فانية بعدها التراب ولا شيء وهو يتحوّل بهذا دون أن يدري إلى يأس قاتم لا مخرج منه .. وعطش لا ارتواء له .. فهو ينتقل من لذة لا تروى .. إلى لذة لا تروى ... ولا شبع ولا نهاية. فهو قد اكتشف أن لاشيء حقيقي. لا قيمة باقية ولا معنى لشيء..
الملل هو كل ما يتبقى له .. وهو ملل لا علاج له إلا بالعودة إلى فكرة الروح إلى الإيمان بأن الإنسان لا يموت وأن في الدنيا قيم خالدة .. وأن هناك حقيقة خلف عالم الظواهر والأوهام.
حقيقة تبث في من يبحث عنها الحماس الذي لا حدود له .. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ حضارة اليوم طابعها الملل .
الحب يولد ليموت والمرأة طبق شهي لوجبة واحدة ثم يصفق القلب طالبا تغيير الطبق . العين تمل واللسان يمل والمعدة تمل . الأسطوانة تكتسح السوق اليوم . وغداً لا تجد من يشتريها.
الموضة الفستان الجرار المتهدل على الساقين. الموضة فوق الركبة. الموضة المفتوح. الموضة المقفول. الموضة الشوال،الموضة الممزق.
التغيير . التغيير . حتى في الفن والفكر. سارتر ينادي بالوجودية. سارتر يهجر الوجودية. سارتر يقول أنا ماركسي. راسل شيوعي. راسل يهاجم الشيوعية. الواقعية في الفن . السيريالية . التأثيرية . كل مذهب ينتشر يفقد قيمته.
وكل فلسفة يظهر لها متحمسون فدائيون ثم ينفض من حولها السامر تماماً كماركات العربات والتسريحات . الملل . الملل . كل جديد يصبح قديماً بمجرد تداوله. وكل لهفة تتحول إلى فتور ثم ضجر قاتل. وطريق الخلاص سيجارة وكأس ولفافة مخدر وقرص منوم وألف مسكن ومسكن للأعصاب و أبونيه عند أطباء الأمراض النفسية.
لم يعد زبون الكباريه تثيره مفاتن الراقصة العارية التي كشفت له عن مفاتنها ثم دعته إلى شقتها. ولكن اللذة الطبيعية أصبحت عادية . والحواس تبلدت. والملل يلتمس مهربا أخيراً في الشذوذ.
ثم الإفراط إلى حد الإعياء. ولا حل. وفي محاولة أخيرة يلجأ الزبون إلى مائدة القمار. ثم ينحدر برجليه خطوة خطوة في طريق الإنتحار.
أفيشات السينمات . إعلانات الصيدليات . عناوين الكتب . (( مانشيتات )) الجرائد . صور الكاباريهات . تصرخ نحن في عصر الملل.
الوجوه الشاحبة والأذرع المدلاة والعيون المحمرة والأنامل المرتجفة في عصبية . تصرخ . نحن في عصر الملل . الحب كذبة عمرها عمر المناوشات والمناورات . تذكيها الإثارة . وحمى يؤججها التمنُّع والتدلُّل حتى يصل إلى الفراش فتهبط الحرارة ويشفي الحبيبـان ويستحمان في عرق العافية ويتحول الحب إلى عادة حميدة يعقبها دش مرطب وأكلة طيبة وأمل خبيث في مغامرة جديدة تنعش الذي مات من العواطف.
النقود تثيرك طالما هي في جيب غيرك فإذا دخلت جيبك فقدت جاذبيتها. الشهادة حلمك وغايتك وأملك حتى تحصل عليها فتنسى أمرها تماماً. الوظيفة هدف براق حتى تنالها فتتحول إلى عبء ثقيل.
لماذا كل هذا الملل. لأننا فى عصر إفلاس القيم.
قيمة الحب التي تُروّجها الأغاني والرويات سقطت وأفلست . لأن المرأة لا تصلح لأن تكون هدف يُطلب لذاته. المرأة طريق. نحن نحب المرأة الجميلة كطريق يوصلنا فيما بعد إلى محبة الجمال . المرأة نافذة إلى شيء وليست هدفاً نهائياً. وإذا اتخذناها هدفاً نهائياً كما تقول لنا الأغاني والروايات فأننا سوف نقتل هذا الهدف بحثاً في الفراش ولن يتبقى لنا شيء نجري وراءه.
المرأة زيت يوقد المصباح لنرى على ضوئه أشياء أخرى غير المرأة . معان وقيماً ومثاليات نعشقها بلا ملل. وبدون مثاليات وبدون إيمان لا يمكن لحياة أن تعاش وحضارة هذا العصر سقطت لأن ما فيها من فكر مادي أسقط الأديان ولم يستطيع أن يُقيم لها بديلاً روحياً، إنه يقول لك أنك تستطيع أن تدخل الجنة بخمسين ليرة في الكازينو فترى حور العين من اللؤلؤ المكنون لابسات الحرير وترى أنهار من الخمر وأنهار من العسل وزيادة ذلك تستمتع بفرق أكروبات وتجرب حظك على مائدة الروليت.
وفى المدرسة يعلمونك أن آدم ليس من تراب ولكن من أسلاف من جنس القرود وأنه سليل تطور انحدر من الحشرات وميكروبات المستنقعات. وبسقوط هيبة الأديان يقف الأنسان وحيداً بلا سند ولا أيمان في انتظار جودو الذي لا يأتي.
كل ما يملكه حياة فانية بعدها التراب ولا شيء وهو يتحوّل بهذا دون أن يدري إلى يأس قاتم لا مخرج منه . وعطش لا ارتواء له . فهو ينتقل من لذة لا تروى . إلى لذة لا تروى .. ولا شبع ولا نهاية. فهو قد اكتشف أن لاشيء حقيقي. لا قيمة باقية ولا معنى لشيء.
الملل هو كل ما يتبقى له . وهو ملل لا علاج له إلا بالعودة إلى فكرة الروح إلى الإيمان بأن الإنسان لا يموت وأن في الدنيا قيم خالدة . وأن هناك حقيقة خلف عالم الظواهر والأوهام.
حقيقة تبث في من يبحث عنها الحماس الذي لا حدود له. ❝
❞ كل منا يحمل جثته على كتفيه..
ليس هناك أغرب من الموت..
إنه حادث غريب..
أن يصبح الشيء .. لا شيء..
ثياب الحداد .. و السرادق .. و المباخر .. و نحن كأننا
نتفرج على رواية .. و لا نصدق و لا أحد يبدو عليه أنه يصدق..
حتى المشيعين الذين يسيرون خلف الميت لا يفكرون إلا في المشوار.
و أولاد الميت لا يفكرون إلا في الميراث.
و الحانوتية لا يفكرون إلا في حسابهم.
و المقرئون لا يفكرون إلا في أجورهم..
و كل واحد يبدو أنه قلق على وقته أو صحته أو فلوسه..
و كل واحد يتعجل شيئاً يخشى أن يفوته .. شيئاً ليس الموت أبداً.
إن عملية القلق على الموت بالرغم من كل هذا المسرح التأثيري هي مجرد قلق على الحياة..
لا أحد يبدو أنه يصدق أو يعبأ بالموت .. حتى الذي يحمل النعش على أكتافه.
الخشبة تغوص في لحم أكتافه .. و عقله سارح في اللحظة المقبلة و كيف يعيشها..
الموت لا يعني أحداً .. و إنما الحياة هي التي تعني الكل.
نكتة.. !
من الذي يموت إذاً ؟..
الميت ؟..
و حتى هذا .. لا يدري مصيره..
إن الجنازة لا تساوي إلا مقدار الدقائق القليلة التي تعطل فيها المرور و هي تعبر الشارع..
و هي عطلة نتراكم فيها العربات على الجانبين .. كل عربة تنفخ في غيرها في قلق . لتؤكد مرة أخرى
أنها تتعجل الوصول إلى هدفها .. و أنها لا تفهم .. هذا الشيء الذي اسمه الموت.
ما الموت .. و ما حقيقته..
و لماذا يسقط الموت من حسابنا دائماً . حتى حينما نواجهه.
* * *
لأن الموت في حقيقته حياة.
و لأنه لا يحتوي على مفاجأة..
و لأن الموت يحدث في داخلنا في كل لحظة حتى و نحن أحياء..
كل نقطة لعاب .. و كل دمعة .. و كل قطرة عرق .. فيها خلايا ميتة .. نشيعها إلى الخارج دون
احتفال..
ملايين الكرات الحمر تولد و تعيش و تموت .. في دمنا .. دون أن ندري عنها شيئاً .. و مثلها الكرات
البيض .. و خلايا اللحم و الدهن و الكبد و الأمعاء .. كلها خلايا قصيرة العمر تولد و تموت و يولد
غيرها و يموت .. و تدفن جثثها في الغدد أو تطرد في الإفرازات في هدوء و صمت .. دون أن نحس أن
شيئاً ما قد يحدث.
مع كل شهيق و زفير .. يدخل الأكسجين .. مثل البوتوجاز إلى فرن الكبد فيحرق كمية من اللحم و
يولد حرارة تطهي لنا لحماً آخر جديداً نضيفه إلى أكتافنا.
هذه الحرارة هي الحياة..
و لكنها أيضاً احتراق .. الموت في صميمها .. و الهلاك في طبيعتها.
أين المفاجأة إذن و كل منا يشبه نعشاً يدب على الساقين .. كل منا يحمل جثته على كتفيه في كل لحظة
..
حتى الأفكار تولد و تورق و تزدهر في رؤوسنا ثم تذبل و تسقط .. حتى العواطف .. تشتعل و تتوهج
في قلوبنا ثم تبرد .. حتى الشخصية كلها تحطم شرنقتها مرة بعد أخرى .. و تتحول من شكل .. إلى
شكل..
إننا معنوياً نموت و أدبياً نموت و مادياً نموت في كل لحظة.
و أصدق من هذا أن نقول أننا نعيش . مادياً نعيش و أدبياً نعيش و معنوياً نعيش .. لأنه لا فرق يذكر
بين الموت و الحياة .. لأن الحياة هي عملية الموت.
لأن الأوراق التي تنبت من فروع الشجرة .. ثم تذبل و تموت و تسقط .. و ينبت غيرها .. و غيرها ..
هذه العملية الدائبة هي الشجرة..
لأن الحاضر هو جثة الماضي في نفس الوقت.
لأن الحركة هي وجودي في مكان ما و انعدامي من هذا المكان في نفس اللحظة . فبهذا وحده أمشي و
أتحرك .. و تمضي معي الأشياء..
لأن الحياة ليست تعادلية , و لكنها شد و جذب و صراع بين نقيضين , و محاولة عاجزة للتوفيق بينها في
تراكيب واهية هي في ذاتها في حاجة للتوفيق بينها .. مرة .. و مرة و مرات .. بدون نهاية و بدون نجاح
أبداً .. و بدون الوصول إلى أي تعادلية..
الحياة ليست تعادلية بين الموت و الوجود و لكنها اضطراب بين الاثنين و صراع يرفع أحدهما مرة و
يخفضه مرة أخرى.
الحياة أزمة .. و توتر..
و نحن نذوق الموت في كل لحظة .. و نعيشه .. فلا نضطرب بل على العكس .. نحس بكياننا من خلال
هذا الموت الذي داخلنا .. و نفوز بأنفسنا , و ندركها , و نستمتع بها..
و لا نكتفي بهذا.. بل ندخل في معركة مع مجتمعنا .. و ندخل في موت و حياة من نوع آخر . موت و
حياة على نطاق واسع تتصارع فيه مجتمعات و نظم و تراكيب إنسانية كبيرة.
و من خلال هذا الصراع الأكبر . نحس بأنفسنا أكثر .. و أكثر .. إنها ليست خلايا تتولد و تموت في
جسد رجل واحد . و لكنها أيضاً مجموعات بشرية تولد و تموت في جسم المجتمع كله.
إ.ا الموت يحدث على مستويات أكبر.
الموت إذن حدث دائب مستمر .. يعتري الإنسان و هو على قدميه و يعتري المجتمعات و هي في عنفوانها
.
و هو في نسيج الإنسان .. في جسده .. و في كل نبضة ينبضها قلبه مهما تدفقت بالصحة و العافية.
و بالموت تكون الحياة .. و تأخذ شكلها الذي نحسه و نحياه .. لأن ما نحسه و نحياه هو المحصلة بين
القوتين معاً .. الوجود و العدم و هما يتناوبان الإنسان شداً .. و جذباً.
ما السر إذن في هذه الدهشة التي تصبينا حينما يقع أحدنا ميتاً.
و لماذا يبدو لنا هذا الحديث .. غير معقول , غير قابل للتصديق.
و لماذا نقف مشدوهين أمام الحادث نكذّب عيوننا .. و نكذّب حواسنا و نكذّب عقولنا .. ثم نمضي ..
و قد أسقطنا كل شيء من حسابنا .. وصرفنا النظر .. و اعتبرنا ما كان .. واجباً .. و لباقة . و مجاملة
.. أديناها و انتهينا منها.
لماذا لا نحمل هذا الحادث على محمل الجد..
ولماذا نرتجف من الرعب حينما نفكر فيه .. و تنخلع قلوبنا حينما نصدقه و تضطرب حياتنا حينما ندخله
في حسابنا و نضعه موضع الاعتبار.
السبب أنه الحادث الوحيد المصحوب برؤية مباشرة .. فما يحدث داخلنا من موت لا نراه .. لا نرى
كرات الدم و هي تولد و تموت .. لا نرى الخلايا و هي تحترق .. لا نرى صراع الميكروبات و هي
تقتلنا و نقتلها..
و خلايانا لا ترى نفسها و هي تفنى..
كل ما يحدث في داخلنا يحدث في الظلام .. و نحن ننام ملء جفوننا و قلوبنا تدق بانتظام و تنفسنا يتردد
في هدوء.
الموت يسترق الخطى كاللص تحت جنح الليل .. و يمشي على رؤوسنا فتبيض له شعراتنا .. شعرة ..
شعرة .. دون أن نحس .. لأن دبيبه و هو يمشي هو دبيب الحياة نفسها.
إن أوراق الشجر تتساقط و لكن الشجرة تظل مائلة للعيان دائمة الخضرة دائمة الازدهار .. تظل هكذا
حتى تهب عاصفة تخلعها من جذورها وتلقي بها في عرض الطريق..
و حينئذ فقط يبدو منظرها قاتماً يبعث على التشاؤم .. تبدو فروعها معروفة عارية .. و جذورها نخرة ..
و أوراقها مصفرة..
لقد انتهت .. لم تعد شجرة .. أصبحت شيئاً آخر .. أصبحت خشباً.
و هذا ما يحدث .. حينما نشاهد الإنسان و هو يسقط جثة هامدة.
إنه يبدو شيئاً آخر و يبدو الحادث الذي حدث فجأة .. حادثاً غريباً بلا مقدمات..
لقد انتهى الإنسان كله فجأة..
و يبدأ العقل في التساؤل..
هل أنتهي أنا أيضاً كلي فجأة كما انتهى ذلك الإنسان .. و كيف و لا شيء في إحساسي يدل على
هذه النهاية أبداً.
كيف يحدث هذا .. و أنا جياش بالرغبة . ممتلئ بالإرادة .. بل أنا الامتلاء نفسه.
كيف يتحول الامتلاء إلى فراغ .. و فجوة.
أنا .. أنا ؟ .. !الذي أحتوي على الدنيا .. كيف أنتهي هكذا و أصبح شيئاً تحتوي عليه الدنيا.
أنا ؟..
إن كلمة .. أنا .. كلمة كهربائية .. إنها كالضوء أرى بها كل شيء .. و لا يستطيع شيء أن يراها ..
إنها أكبر من أي كلمة أخرى و أكبر من أي حقيقة .. لأن بها تكون الحقائق حقائق..
إنها فوق كل شيء و فوقي أنا أيضاً لأنها تراني و تشعر بي..
إنها مصدر الإشعاع كله .. و حيث يتمثل لي هذا المنظر المفجع الذي يلقى فيه الإنسان مصرعه .. فهي
فوق هذا المنظر أيضاً .. لأنها تراه .. و فوق الطبيعة .. و فوق قوانينها .. و فوق ظواهرها.
أنا الموت..!
من أنا
ومن هذا الذي مات..
إنه بعض مني .. منظر ملايين المناظر الذي تعبر خاطري . فكيف أموت أنا أيضاً..
إن التساؤل ما يلبث أن يتحول على تمزق فظيع يحطم فيه المنطق نفسه بنفسه .. و يصطدم باستحالات لا
حل لها..
و هكذا تبدأ المشكلة الأزلية..
لغز الموت..
إن مصدر اللغز هو هذا الموقف الذي ينتقل فيه العقل من رؤية مباشرة للموت إلى استنتاج مباشر عن
موته هو أيضاً .. و هو أبو الأشياء .. و نظامها .. و تفسيرها .. و نورها.
و لكنه يعود فيقول:
لا..
إن الذين يموتون هم الآخرون.
إن التاريخ كله لا يروي قصة واحدة عن موت ال .. أنا..
إن الموضوعات تتغير و تتبدل و تولد و تذبل و تموت و الآخرون يموتون.
أنا أنا .. هذه ال أنا .. لا توجد سابقة واحدة عن موتها.
أنا من مادة أخرى غير كل هذه الموضوعات .. و لهذا أمسك بها و أتناولها و أفهمها .. و لا أستطيع أن
أمسك بنفسي و أنا أتناولها و أفهمها.
أنا فوق متناول الجميع .. و فوق متناولي أنا أيضاً .. و فوق متناول القوانين و الظواهر..
هناك حلقة مفقودة..
و هي تفتح باباً تدخل منه الفلسفة .. و يتسلل منه الفكر .. و لكنه باب ضيق .. ضيق جداً .. يؤدي
إلى سراديب أغلبها مغلقة و رحلة الفكر في هذه السراديب مخيفة مزعجة و لكنها تثير الاهتمام.
و أي شيء يبعث الاهتمام أكثر من الحياة .. والمصير .. و من أين .. و إلى أين .. و كيف.
مقال / اللغز
من كتاب / لغز الموت
للدكتور / مصطفي محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ كل منا يحمل جثته على كتفيه.
ليس هناك أغرب من الموت.
إنه حادث غريب.
أن يصبح الشيء . لا شيء.
ثياب الحداد . و السرادق . و المباخر . و نحن كأننا
نتفرج على رواية . و لا نصدق و لا أحد يبدو عليه أنه يصدق.
حتى المشيعين الذين يسيرون خلف الميت لا يفكرون إلا في المشوار.
و أولاد الميت لا يفكرون إلا في الميراث.
و الحانوتية لا يفكرون إلا في حسابهم.
و المقرئون لا يفكرون إلا في أجورهم.
و كل واحد يبدو أنه قلق على وقته أو صحته أو فلوسه.
و كل واحد يتعجل شيئاً يخشى أن يفوته . شيئاً ليس الموت أبداً.
إن عملية القلق على الموت بالرغم من كل هذا المسرح التأثيري هي مجرد قلق على الحياة.
لا أحد يبدو أنه يصدق أو يعبأ بالموت . حتى الذي يحمل النعش على أكتافه.
الخشبة تغوص في لحم أكتافه . و عقله سارح في اللحظة المقبلة و كيف يعيشها.
الموت لا يعني أحداً . و إنما الحياة هي التي تعني الكل.
نكتة. !
من الذي يموت إذاً ؟.
الميت ؟.
و حتى هذا . لا يدري مصيره.
إن الجنازة لا تساوي إلا مقدار الدقائق القليلة التي تعطل فيها المرور و هي تعبر الشارع.
و هي عطلة نتراكم فيها العربات على الجانبين . كل عربة تنفخ في غيرها في قلق . لتؤكد مرة أخرى
أنها تتعجل الوصول إلى هدفها . و أنها لا تفهم . هذا الشيء الذي اسمه الموت.
ما الموت . و ما حقيقته.
و لماذا يسقط الموت من حسابنا دائماً . حتى حينما نواجهه.
**
لأن الموت في حقيقته حياة.
و لأنه لا يحتوي على مفاجأة.
و لأن الموت يحدث في داخلنا في كل لحظة حتى و نحن أحياء.
كل نقطة لعاب . و كل دمعة . و كل قطرة عرق . فيها خلايا ميتة . نشيعها إلى الخارج دون
احتفال.
ملايين الكرات الحمر تولد و تعيش و تموت . في دمنا . دون أن ندري عنها شيئاً . و مثلها الكرات
البيض . و خلايا اللحم و الدهن و الكبد و الأمعاء . كلها خلايا قصيرة العمر تولد و تموت و يولد
غيرها و يموت . و تدفن جثثها في الغدد أو تطرد في الإفرازات في هدوء و صمت . دون أن نحس أن
شيئاً ما قد يحدث.
مع كل شهيق و زفير . يدخل الأكسجين . مثل البوتوجاز إلى فرن الكبد فيحرق كمية من اللحم و
يولد حرارة تطهي لنا لحماً آخر جديداً نضيفه إلى أكتافنا.
هذه الحرارة هي الحياة.
و لكنها أيضاً احتراق . الموت في صميمها . و الهلاك في طبيعتها.
أين المفاجأة إذن و كل منا يشبه نعشاً يدب على الساقين . كل منا يحمل جثته على كتفيه في كل لحظة
.
حتى الأفكار تولد و تورق و تزدهر في رؤوسنا ثم تذبل و تسقط . حتى العواطف . تشتعل و تتوهج
في قلوبنا ثم تبرد . حتى الشخصية كلها تحطم شرنقتها مرة بعد أخرى . و تتحول من شكل . إلى
شكل.
إننا معنوياً نموت و أدبياً نموت و مادياً نموت في كل لحظة.
و أصدق من هذا أن نقول أننا نعيش . مادياً نعيش و أدبياً نعيش و معنوياً نعيش . لأنه لا فرق يذكر
بين الموت و الحياة . لأن الحياة هي عملية الموت.
لأن الأوراق التي تنبت من فروع الشجرة . ثم تذبل و تموت و تسقط . و ينبت غيرها . و غيرها .
هذه العملية الدائبة هي الشجرة.
لأن الحاضر هو جثة الماضي في نفس الوقت.
لأن الحركة هي وجودي في مكان ما و انعدامي من هذا المكان في نفس اللحظة . فبهذا وحده أمشي و
أتحرك . و تمضي معي الأشياء.
لأن الحياة ليست تعادلية , و لكنها شد و جذب و صراع بين نقيضين , و محاولة عاجزة للتوفيق بينها في
تراكيب واهية هي في ذاتها في حاجة للتوفيق بينها . مرة . و مرة و مرات . بدون نهاية و بدون نجاح
أبداً . و بدون الوصول إلى أي تعادلية.
الحياة ليست تعادلية بين الموت و الوجود و لكنها اضطراب بين الاثنين و صراع يرفع أحدهما مرة و
يخفضه مرة أخرى.
الحياة أزمة . و توتر.
و نحن نذوق الموت في كل لحظة . و نعيشه . فلا نضطرب بل على العكس . نحس بكياننا من خلال
هذا الموت الذي داخلنا . و نفوز بأنفسنا , و ندركها , و نستمتع بها.
و لا نكتفي بهذا. بل ندخل في معركة مع مجتمعنا . و ندخل في موت و حياة من نوع آخر . موت و
حياة على نطاق واسع تتصارع فيه مجتمعات و نظم و تراكيب إنسانية كبيرة.
و من خلال هذا الصراع الأكبر . نحس بأنفسنا أكثر . و أكثر . إنها ليست خلايا تتولد و تموت في
جسد رجل واحد . و لكنها أيضاً مجموعات بشرية تولد و تموت في جسم المجتمع كله.
إ.ا الموت يحدث على مستويات أكبر.
الموت إذن حدث دائب مستمر . يعتري الإنسان و هو على قدميه و يعتري المجتمعات و هي في عنفوانها
.
و هو في نسيج الإنسان . في جسده . و في كل نبضة ينبضها قلبه مهما تدفقت بالصحة و العافية.
و بالموت تكون الحياة . و تأخذ شكلها الذي نحسه و نحياه . لأن ما نحسه و نحياه هو المحصلة بين
القوتين معاً . الوجود و العدم و هما يتناوبان الإنسان شداً . و جذباً.
ما السر إذن في هذه الدهشة التي تصبينا حينما يقع أحدنا ميتاً.
و لماذا يبدو لنا هذا الحديث . غير معقول , غير قابل للتصديق.
و لماذا نقف مشدوهين أمام الحادث نكذّب عيوننا . و نكذّب حواسنا و نكذّب عقولنا . ثم نمضي .
و قد أسقطنا كل شيء من حسابنا . وصرفنا النظر . و اعتبرنا ما كان . واجباً . و لباقة . و مجاملة
. أديناها و انتهينا منها.
لماذا لا نحمل هذا الحادث على محمل الجد.
ولماذا نرتجف من الرعب حينما نفكر فيه . و تنخلع قلوبنا حينما نصدقه و تضطرب حياتنا حينما ندخله
في حسابنا و نضعه موضع الاعتبار.
السبب أنه الحادث الوحيد المصحوب برؤية مباشرة . فما يحدث داخلنا من موت لا نراه . لا نرى
كرات الدم و هي تولد و تموت . لا نرى الخلايا و هي تحترق . لا نرى صراع الميكروبات و هي
تقتلنا و نقتلها.
و خلايانا لا ترى نفسها و هي تفنى.
كل ما يحدث في داخلنا يحدث في الظلام . و نحن ننام ملء جفوننا و قلوبنا تدق بانتظام و تنفسنا يتردد
في هدوء.
الموت يسترق الخطى كاللص تحت جنح الليل . و يمشي على رؤوسنا فتبيض له شعراتنا . شعرة .
شعرة . دون أن نحس . لأن دبيبه و هو يمشي هو دبيب الحياة نفسها.
إن أوراق الشجر تتساقط و لكن الشجرة تظل مائلة للعيان دائمة الخضرة دائمة الازدهار . تظل هكذا
حتى تهب عاصفة تخلعها من جذورها وتلقي بها في عرض الطريق.
و حينئذ فقط يبدو منظرها قاتماً يبعث على التشاؤم . تبدو فروعها معروفة عارية . و جذورها نخرة .
و أوراقها مصفرة.
لقد انتهت . لم تعد شجرة . أصبحت شيئاً آخر . أصبحت خشباً.
و هذا ما يحدث . حينما نشاهد الإنسان و هو يسقط جثة هامدة.
إنه يبدو شيئاً آخر و يبدو الحادث الذي حدث فجأة . حادثاً غريباً بلا مقدمات.
لقد انتهى الإنسان كله فجأة.
و يبدأ العقل في التساؤل.
هل أنتهي أنا أيضاً كلي فجأة كما انتهى ذلك الإنسان . و كيف و لا شيء في إحساسي يدل على
هذه النهاية أبداً.
كيف يحدث هذا . و أنا جياش بالرغبة . ممتلئ بالإرادة . بل أنا الامتلاء نفسه.
كيف يتحول الامتلاء إلى فراغ . و فجوة.
أنا . أنا ؟ . !الذي أحتوي على الدنيا . كيف أنتهي هكذا و أصبح شيئاً تحتوي عليه الدنيا.
أنا ؟.
إن كلمة . أنا . كلمة كهربائية . إنها كالضوء أرى بها كل شيء . و لا يستطيع شيء أن يراها .
إنها أكبر من أي كلمة أخرى و أكبر من أي حقيقة . لأن بها تكون الحقائق حقائق.
إنها فوق كل شيء و فوقي أنا أيضاً لأنها تراني و تشعر بي.
إنها مصدر الإشعاع كله . و حيث يتمثل لي هذا المنظر المفجع الذي يلقى فيه الإنسان مصرعه . فهي
فوق هذا المنظر أيضاً . لأنها تراه . و فوق الطبيعة . و فوق قوانينها . و فوق ظواهرها.
أنا الموت.!
من أنا
ومن هذا الذي مات.
إنه بعض مني . منظر ملايين المناظر الذي تعبر خاطري . فكيف أموت أنا أيضاً.
إن التساؤل ما يلبث أن يتحول على تمزق فظيع يحطم فيه المنطق نفسه بنفسه . و يصطدم باستحالات لا
حل لها.
و هكذا تبدأ المشكلة الأزلية.
لغز الموت.
إن مصدر اللغز هو هذا الموقف الذي ينتقل فيه العقل من رؤية مباشرة للموت إلى استنتاج مباشر عن
موته هو أيضاً . و هو أبو الأشياء . و نظامها . و تفسيرها . و نورها.
و لكنه يعود فيقول:
لا.
إن الذين يموتون هم الآخرون.
إن التاريخ كله لا يروي قصة واحدة عن موت ال . أنا.
إن الموضوعات تتغير و تتبدل و تولد و تذبل و تموت و الآخرون يموتون.
أنا أنا . هذه ال أنا . لا توجد سابقة واحدة عن موتها.
أنا من مادة أخرى غير كل هذه الموضوعات . و لهذا أمسك بها و أتناولها و أفهمها . و لا أستطيع أن
أمسك بنفسي و أنا أتناولها و أفهمها.
أنا فوق متناول الجميع . و فوق متناولي أنا أيضاً . و فوق متناول القوانين و الظواهر.
هناك حلقة مفقودة.
و هي تفتح باباً تدخل منه الفلسفة . و يتسلل منه الفكر . و لكنه باب ضيق . ضيق جداً . يؤدي
إلى سراديب أغلبها مغلقة و رحلة الفكر في هذه السراديب مخيفة مزعجة و لكنها تثير الاهتمام.
و أي شيء يبعث الاهتمام أكثر من الحياة . والمصير . و من أين . و إلى أين . و كيف.
مقال / اللغز
من كتاب / لغز الموت
للدكتور / مصطفي محمود (رحمه الله). ❝
❞ سارت العربة بمحاذاة القطار المنخور بالرصاص، والمركون على الخطّ الخامس، وكان المستشار زدنيتشيك يُمعن النَّظَر في الثقوب التي أحدثَها رصاص الرشّاشات في العربات التي نزعتْ سقوفها. صعد رئيس المحطّة إلى الطابق الأوّل، حيث راح يزعق ويقلب الكراسي، ويجعل فتات الكلس يتساقط في غرفة المكتب، كان يصيح باتّجاه فناء التهوية:
- لم يعد ثمّة أخلاق! كل شيء بات فاسداً! كما في مدينة «سدوم» القديمة!. ❝ ⏤بوهوميل هرابال
❞ سارت العربة بمحاذاة القطار المنخور بالرصاص، والمركون على الخطّ الخامس، وكان المستشار زدنيتشيك يُمعن النَّظَر في الثقوب التي أحدثَها رصاص الرشّاشات في العربات التي نزعتْ سقوفها. صعد رئيس المحطّة إلى الطابق الأوّل، حيث راح يزعق ويقلب الكراسي، ويجعل فتات الكلس يتساقط في غرفة المكتب، كان يصيح باتّجاه فناء التهوية:
- لم يعد ثمّة أخلاق! كل شيء بات فاسداً! كما في مدينة «سدوم» القديمة!
❞ ✍️البـــــــــــــــدايــــــــة ✍️
في العام 1985 كنت جالسا أمام التلفاز لمشاهدة فيلم عربي قديم مع العلم كنت وما زلت أعشق الدراما القديمة ( ابيض وأسود )
وكان جالسا بجواري والدي عليه رحمة الله وبدأت الشاشه بعرض أسماء الممثلين وكنت معتادا أن أقرأ مقدمة الافلام بصوت مرتفع كنوع من الحماس لمشاهدة الفيلم .
وكان أحد أبطال الفيلم الفنان القدير / أحمد مظهر عليه رحمة الله
وعندما قرأت اسم الفنان أحمد مظهر كأحد أبطال الفيلم
وجدت أبي قفز من مقعده وقال ( بتقول مين ؟)
قلت له أحمد مظهر في أيه ؟ هو أنت تعرفه ولا حاجة وقهقهت ضاحكا
قال لي أبي أقراه مرة أخري قلت له لقد تغيرت الشاشة الاسم لا يظهر لأكثر من ثلاث او خمس ثواني
قال ابي تعرف يا أحمد هذا الرجل هو معلمي وقائدي . قلت له ماذا تقول يا ابي هذا ممثل فنان وانت رجل بسيط تعيش في الصعيد كيف كان معلمك وقائدك أنت تمزح بكل تأكيد
رد قائلا عندما تعرف القصة ستصدق ما أقوله لك وأخذ يسرد لي قصة أغرب من الخيال . ..
قال لي أنا من مواليد 1925 وعندما بلغت العشرين من عمري أي في العام 1945 طلبوني للجهادية ( يقصد طلب للتجنيد في الجيش )
وأكمل قائلا : وأبي كان متوفيا وأنا عندي تسع سنوات يقصد جدى عليه رحمة الله
وكان الناس الاغنياء يدفعون البدلة لكي لا يذهبوا للجهادية
استوقفته قائلا وما هي البدلة ( ثمن بدلة العسكري يعني )
ضحك قائلا لا
البدلة هو مبلغ من المال يتم دفعه للدولة لكي تعفي الشخص من الالتحاق بالجهادية
وكم قيمة المبلغ يا ابي قال لي قرابة ستون أو ثمانون جنيها .
قلت له ولماذا لم تدفع قال ضاحكا في ذلك الوقت الذي يمسك مبلغ العشر جنيهات يحسب علي الباشوات وانا مرتبي بعد الجهادية كان سبع جنيهات ونصف في الشهر فكيف لنا ندفع ستون جنيها ونحن لا نجد العشرة جنيهات .
أكمل قائلا عندما دخلت الجهادية عام 1945 قضيت بها خمس سنوات كاملة وانهيت خدمتي في العام 1950 قلت له يعني أنهيت الخدمة قبل ثورة عبدالناصر وحضرت حرب 48 ( حرب فلسطين ) قال نعم
سالته ومتي تعرفت علي أحمد مظهر في تلك السنوات الخمس ؟
قال لي تقصد اليوزباشي / أحمد مظهر
قلت له كان يوزباشي قال نعم كان يوزباشي في سلاح الفرسان الملكي أيام الملك فاروق
وكان مدير مدرسة الفرسان التي قضيت بها قرابة التسعة أشهر وكان يدربنا علي ركوب الخيل
وفجأة قفز أبي مرة أخري معتدلا في جلسته ناظرا للشاشة الفضية
هذا هو اليوزباشي أحمد مظهر وبالفعل وجدته يشير علي الفنان أحمد مظهر وهو يجسد دور الامير علاء في فيلم ( رد قلبي )
حينها بدأت اتيقن أن أحمد مظهر كان معلم والدي في مدرسة الفروسية التابعة لسلاح الفرسان الملكي .
فطلبت من والدي أن يقص لي بقية قصة التحاقه بالجيش ( الجهادية ) وما أغرب المواقف التي قابلته .
أكمل قائلا : كنت شابا في العشرين من عمري ممتلئ بالقوة والحيوية وكنت أتدرب علي ركوب الخيل حتي أصبت بتسلخات الفخذين نظرا لبدانة جسمي .
لان أبي عليه رحمة الله كان متوسط الطول ممتلئ الجسم أسمر اللون وأبيض القلب ولقد ورثت عنه كل هذه الصفات ومن شابه أباه فما ظلم .
أستطرد قائلا بعد إنهاء فترة التدريب التحقت لوحدة حراسة السفارات الاجنبية
وكنت أري الفرنساويين والايطاليين والنمساويين والانجليز وهم يلعبون ( الكريكيت والرمح )
وما هي تلك الالعاب يا أبي .!؟
شرح لي قائلا هي العاب تلعب من فوق ظهر الحصان .
الكريكيت عبارة عن كرة يتقاذفونها فيما بينهم وهم ركوبا فوق ظهور الخيل .
والرمح هي ان تمسك رمحا طويلا وتلتقط به منديلا من القماش مغروسا في كومة رمال .
وما هو دورك في هذه الالعاب .
كنت مجرد حارسا لتامين السفراء وأبناءهم .
وذكر لي أنه كان يحضر هم بعض الجرائد الأجنبية
مثال
الجازيت و ليموند .
وما هي أصعب المواقف التي مرت بك في الجيش يا ابي ؟
قال لي موقفين ::
*الاول عندما سقطت من فوق الحصان عند قفزه فوق المانع في أحد التدريبات وكسر ضلعي وجلست في المستشفى قرابة الثلاث شهور وامسك بيدي يحسسني علي ضلعه المكسور ووجدت فعلا في ضلوعه اليسرى ضلعا غير مستوي وفيه بروزات عظمية دليل علي انه كسر في الماضي والتئم .
*أما الموقف الثاني . ذكر لي قائلا .
في العام 1948 طلبوا من سلاح الفرسان أن يقفوا علي مداخل الشوارع الجانبية لمنع المواطنين من العبور الي الشارع العمومي في العباسية ومصر الجديدة . بادرته متسائلا لماذا هل هو موكب الملك ام موكب احد الضيوف العظماء !؟
لا يا ولدي .
انه موكب شهداء حرب 48 العائدون من فلسطين قتلي وجرحي . 😭😭
كيف ؟
قال كان الشهداء والجرحى محملين في عربات السكة الحديد القادم من فلسطين والدم يسيل علي عجلات القطار ويتساقط علي الارض .
أنه دم شهداء حرب 48 يروي الارض وقد عاد الجيش بين شهيد وجريح بعد هزيمة 48 .
ووجدته متأثرا والدموع سالت من عينيه .
فقلت له كفاية اليوم ونكمل قصتنا فيما بعد .
عزيزي القارىء
هل أنت متحمس لمعرفة البقية من أسرار الصندوق الاسود. ❝ ⏤أحمد أبو تليح
❞ ✍️البـــــــــــــــدايــــــــة ✍️
في العام 1985 كنت جالسا أمام التلفاز لمشاهدة فيلم عربي قديم مع العلم كنت وما زلت أعشق الدراما القديمة ( ابيض وأسود )
وكان جالسا بجواري والدي عليه رحمة الله وبدأت الشاشه بعرض أسماء الممثلين وكنت معتادا أن أقرأ مقدمة الافلام بصوت مرتفع كنوع من الحماس لمشاهدة الفيلم .
وكان أحد أبطال الفيلم الفنان القدير / أحمد مظهر عليه رحمة الله
وعندما قرأت اسم الفنان أحمد مظهر كأحد أبطال الفيلم
وجدت أبي قفز من مقعده وقال ( بتقول مين ؟)
قلت له أحمد مظهر في أيه ؟ هو أنت تعرفه ولا حاجة وقهقهت ضاحكا
قال لي أبي أقراه مرة أخري قلت له لقد تغيرت الشاشة الاسم لا يظهر لأكثر من ثلاث او خمس ثواني
قال ابي تعرف يا أحمد هذا الرجل هو معلمي وقائدي . قلت له ماذا تقول يا ابي هذا ممثل فنان وانت رجل بسيط تعيش في الصعيد كيف كان معلمك وقائدك أنت تمزح بكل تأكيد
رد قائلا عندما تعرف القصة ستصدق ما أقوله لك وأخذ يسرد لي قصة أغرب من الخيال . .
قال لي أنا من مواليد 1925 وعندما بلغت العشرين من عمري أي في العام 1945 طلبوني للجهادية ( يقصد طلب للتجنيد في الجيش )
وأكمل قائلا : وأبي كان متوفيا وأنا عندي تسع سنوات يقصد جدى عليه رحمة الله
وكان الناس الاغنياء يدفعون البدلة لكي لا يذهبوا للجهادية
استوقفته قائلا وما هي البدلة ( ثمن بدلة العسكري يعني )
ضحك قائلا لا
البدلة هو مبلغ من المال يتم دفعه للدولة لكي تعفي الشخص من الالتحاق بالجهادية
وكم قيمة المبلغ يا ابي قال لي قرابة ستون أو ثمانون جنيها .
قلت له ولماذا لم تدفع قال ضاحكا في ذلك الوقت الذي يمسك مبلغ العشر جنيهات يحسب علي الباشوات وانا مرتبي بعد الجهادية كان سبع جنيهات ونصف في الشهر فكيف لنا ندفع ستون جنيها ونحن لا نجد العشرة جنيهات .
أكمل قائلا عندما دخلت الجهادية عام 1945 قضيت بها خمس سنوات كاملة وانهيت خدمتي في العام 1950 قلت له يعني أنهيت الخدمة قبل ثورة عبدالناصر وحضرت حرب 48 ( حرب فلسطين ) قال نعم
سالته ومتي تعرفت علي أحمد مظهر في تلك السنوات الخمس ؟
قال لي تقصد اليوزباشي / أحمد مظهر
قلت له كان يوزباشي قال نعم كان يوزباشي في سلاح الفرسان الملكي أيام الملك فاروق
وكان مدير مدرسة الفرسان التي قضيت بها قرابة التسعة أشهر وكان يدربنا علي ركوب الخيل
وفجأة قفز أبي مرة أخري معتدلا في جلسته ناظرا للشاشة الفضية
هذا هو اليوزباشي أحمد مظهر وبالفعل وجدته يشير علي الفنان أحمد مظهر وهو يجسد دور الامير علاء في فيلم ( رد قلبي )
حينها بدأت اتيقن أن أحمد مظهر كان معلم والدي في مدرسة الفروسية التابعة لسلاح الفرسان الملكي .
فطلبت من والدي أن يقص لي بقية قصة التحاقه بالجيش ( الجهادية ) وما أغرب المواقف التي قابلته .
أكمل قائلا : كنت شابا في العشرين من عمري ممتلئ بالقوة والحيوية وكنت أتدرب علي ركوب الخيل حتي أصبت بتسلخات الفخذين نظرا لبدانة جسمي .
لان أبي عليه رحمة الله كان متوسط الطول ممتلئ الجسم أسمر اللون وأبيض القلب ولقد ورثت عنه كل هذه الصفات ومن شابه أباه فما ظلم .
أستطرد قائلا بعد إنهاء فترة التدريب التحقت لوحدة حراسة السفارات الاجنبية
وكنت أري الفرنساويين والايطاليين والنمساويين والانجليز وهم يلعبون ( الكريكيت والرمح )
وما هي تلك الالعاب يا أبي .!؟
شرح لي قائلا هي العاب تلعب من فوق ظهر الحصان .
الكريكيت عبارة عن كرة يتقاذفونها فيما بينهم وهم ركوبا فوق ظهور الخيل .
والرمح هي ان تمسك رمحا طويلا وتلتقط به منديلا من القماش مغروسا في كومة رمال .
وما هو دورك في هذه الالعاب .
كنت مجرد حارسا لتامين السفراء وأبناءهم .
وذكر لي أنه كان يحضر هم بعض الجرائد الأجنبية
مثال
الجازيت و ليموند .
وما هي أصعب المواقف التي مرت بك في الجيش يا ابي ؟
قال لي موقفين ::
الاول عندما سقطت من فوق الحصان عند قفزه فوق المانع في أحد التدريبات وكسر ضلعي وجلست في المستشفى قرابة الثلاث شهور وامسك بيدي يحسسني علي ضلعه المكسور ووجدت فعلا في ضلوعه اليسرى ضلعا غير مستوي وفيه بروزات عظمية دليل علي انه كسر في الماضي والتئم .
أما الموقف الثاني . ذكر لي قائلا .
في العام 1948 طلبوا من سلاح الفرسان أن يقفوا علي مداخل الشوارع الجانبية لمنع المواطنين من العبور الي الشارع العمومي في العباسية ومصر الجديدة . بادرته متسائلا لماذا هل هو موكب الملك ام موكب احد الضيوف العظماء !؟
لا يا ولدي .
انه موكب شهداء حرب 48 العائدون من فلسطين قتلي وجرحي . 😭😭
كيف ؟
قال كان الشهداء والجرحى محملين في عربات السكة الحديد القادم من فلسطين والدم يسيل علي عجلات القطار ويتساقط علي الارض .
أنه دم شهداء حرب 48 يروي الارض وقد عاد الجيش بين شهيد وجريح بعد هزيمة 48 .
ووجدته متأثرا والدموع سالت من عينيه .
فقلت له كفاية اليوم ونكمل قصتنا فيما بعد .
عزيزي القارىء
هل أنت متحمس لمعرفة البقية من أسرار الصندوق الاسود. ❝