❞ الذي رأى قطة تتلصص على مائدة في خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك. الذي رأى مثل تلك القطة ونظر إلى عينيها وهي تسرق لن ينسى أبداً تلك النظرة التي تملؤها الإحساس بالذنب.
إن القطة وهي الحيوان الأعجم تشعر شعوراً مبهماً أنها ترتكب إثماً .. فإذا لحقها العقاب ونالت ضربة على رأسها فإنها تغض من رأسها وتطأطئ بصرها ، وكأنها تدرك إدراكاً مبهماً أنها نالت ما تستحق.
هو إحساس الفطرة الأولى الذي ركبه الخالق في بنية المخلوق .. إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتى في الحيوان الأعجم.
والقط إذ يتبرز ثم ينثني علي ما فعل ويهيل عليه التراب حتى يخفيه عن الأنظار.
ذلك الفعل الغريزي يدل على إحساس بالقبح وعلى المبادرة بستر هذا القبح.
وذلك الفعل هو أيضاً فطرة أخلاقية لم تكتسب بالتعلم .. وإنما بهذه الفطرة وُلِد كل القطط.
وبالمثل غضبة الجمل بعد تكرار الإهانة من صاحبه وبعد طول الصبر والتحمل .. وكبرياء الأسد وترفعه عن أن يهاجم فريسته غدراً من الخلف وإنما دائماً من الأمام ومواجهة .. ولا يفترس إلا ليأكل .. ولا يفكر في أكل أو افتراس إلّا إذا جاع.
كل هذه أخلاق مفطورة في الحشوة الحية وفي الحيوان.
ثم الوفاء الزوجي عند الحمام.
والولاء للجماعة في الحيوانات التي تتحرك في قطعان.
نحن أمام الأسس الأولى للضمير .. نكتشفها تحت الجلد وفي الدم لم يعلمها معلم وإنما هي في الخلقة.
ونحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطري بالمسئولية .. ثم نشعر بالعبء أثناء الفعل نتيجة تحري الصواب .. ونشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ.
هذه المشاعر الفطرية التي يشترك فيها المثقف والبدائي والطفل هي دليل على شعور باطن بالقانون والنظام وأن هناك محاسبة .. وأن هناك عدالة .. وإن كل واحد فينا مُطَالب بالعدالة كما أن له الحق في أن يطلبها .. وإن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذي خلقنا ومن طبيعتنا ذاتها.
فإذا نظرنا إلى العالم المادي من الذرات المتناهية في الصغر إلى المجرات المتناهية في العظم وجدنا كل شيء يجري بقوانين و بحساب و انضباط .
حتى الإلكترون لا ينتقل من مدار إلى مدار في فلك النواة إلّا إذا أعطى أو أخذ حزماً من الطاقة تساوي مقادير انتقاله و كأنه راكب في قطار لا يستطيع أن يستقل القطار إلّا إذا دفع ثمن التذكرة .
و ميلاد النجوم و موتها له قوانين و أسباب.
و حركة الكواكب في دولاب الجاذبية لها معادلة .
و تحول المادة إلى طاقة و تحول جسم الشمس إلى نور له معادلة .
و انتقال النور له سرعة .
و كل موجة لها طول و لها ذبذبة و لها سرعة .
كما أن كل معدن له طيف و له خطوط امتصاص مميزة يُعرَف بها في جهاز المطياف .
و كل معدن يتمدد بمقدار و يتقلص بمقدار بالحرارة و البرودة .. و كل معدن له كتلة و كثافة و وزن ذري جزيئي و ثوابت و خواص .
و أينشتين أثبت لنا أن هناك علاقة بين كتلة الجسم و سرعته .. و بين الزمن و نظام الحركة داخل مجموعة متحركة .. و بين الزمان و المكان .
و الذي يفرق المواد إلى جوامد و سوائل و غازات هو معدل السرعة بين جزيئاتها .
و لأن الحرارة تعجّل من هذه السرعة فإنها تستطيع أن تصهر الجوامد و تحولها إلى سوائل ثم تبخر السوائل و تحولها إلى غازات .
كما أن الكهرباء تتولد بقوانين .. كما يتحرك التيار الكهربائي و يفعل و يؤثرعلى أساس من فرق الجهد و الشدة .
كما تتوقف جاذبية كل نجم على مقدار جرمه و كتلته .
و الزلازل التي تبدو أنواعاً من الفوضى لها هي الأخرى نظام و أحزمة و
خطوط تحدث فيها و يمكن رسم و تتبع الأحزمة الزلزالية بطول الكرة
الأرضية و عرضها .
و الكون كله جدول من القوانين المنضبطة الصريحة التي لا غش فيها و لا خداع .
سوف يرتفع صوت ليقول : و ما رأيك فيما نحن فيه من الغش و الخداع و الحروب و المظالم و قتل بعضنا البعض بغياً و عدواناً .. أين النظام هنا ؟ و سوف أقول له : هذا شيء آخر .. فإن ما يحدث بيننا نحن دولة بني آدم يحدث لأن الله أخلفنا في الأرض و أقامنا ملوكاً نحكم و أعطانا الحرية .. و عرض علينا الأمانة فقبلناها .
و كان معنى إعطائنا الحرية أن تصبح لنا إمكانية الخطأ و الصواب .
و كان كل ما نرى حولنا في دنيانا البشرية هو نتيجة هذه الحرية التي
أسأنا استعمالها .
إن الفوضى هي فعلنا نحن و هي النتيجة المترتبة على حريتنا ، أما العالم فهو بالغ الذروة في الانضباط و النظام .
و لو شاء الله لأخضعنا نحن أيضاً للنظام قهراً كما أخضع الجبال و البحار و النجوم و الفضاء .. و لكنه شاء أن يفني عنّا القهر لتكتمل بذلك عدالته .. و ليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذي هو من جنس دخيلته .
أراد بذلك عدلاً ليكون بعثنا بعد ذلك على مقامات و درجات هو إحقاق الحق و وضع كل شيء في نصابه .
و الحياة مستمرة .
و ليس ما نحياه من الحياة في دنيانا هو كل الحياة .
و معنى هذا أن الفترة الاعتراضية من المظالم و الفوضى هي فترة لها حِكمتها و أسبابها و أنها عين العدالة من حيث هي امتحان لما يلي من حياة مستمرة أبداً .
إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها و ما قبلها ، و هي ليست كل الحقيقة و لا كل القصة .. و إنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولاً .
وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة.
أدركها الإنسان البدائي.
وقال بها الأنبياء إخباراً عن الغيب.
وقال بها العقل والعلم الذي أدرك أن الإنسان جسد وروح كما ذكرنا في فصول سابقة .. وإن الإنسان يستشعر بروحه من إحساسه الداخلي العميق المستمر بالحضور رغم شلال التغيرات الزمنية من حوله ، وهو إحساس ينبئ بأنه يملك وجوداً داخلياً متعالياً على التغيرات مجاوزاً للزمن والفناء والموت.
وفلاسفة مثل عمانويل كانت وبرجسون وكيركجارد ، لهم وزنهم في الفكر قالوا بحقيقة الروح والبعث.
وفي كتاب «جمهورية أفلاطون».. فصل رائع عن خلود الروح.
هي حقيقة كانت تفرض نفسها إذن على أكبر العقول وعلى أصغر العقول وكانت تقوم كبداهة يصعب إنكارها.
ولكن أهم برهان على البعث في نظري هو ذلك الإحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعا ونتصرف على أساسه ، أن هناك نظاماً مُحكَماً وقانوناً وعدلاً.
ونحن نطالب أنفسنا ونطالب غيرنا فطرياً وغريزياً بهذا العدل.
وتحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل.
ونحارب لنرسي دعائم ذلك العدل.
ونموت في سبيل العدل.
وفي النهاية لا نحقق أبداً ذلك العدل.
وهذا يعني أنه سوف يتحقق بصورة ما لاشك فيها .. لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها على عقولنا وضمائرنا طول الوقت.
وإذا كنا لا نرى ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة ولأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة.
وإلّا فلماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم ولماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلاً .. لماذا نحرص كل هذا الحرص ونشتعل غضباً على ما لا وجود له.
يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان :
إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل .. ولأنه لا عدل في الدنيا .. فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي.
إن شعورنا الداخلي الفطري هو الدليل القطعي على أن العدل حق .. وإن كنا لا نراه اليوم .. فإننا سوف نراه غداً .. هذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا .. وهو الصدق لأنه وحي البداهة..
والبداهة والفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش وهي قانون من ضمن القوانين العديدة التي ينضبط بها الوجود.
سوف يرتفع صوت ليقول : لندع عالم الآدميين ونسأل : لماذا خلق الله الخنزير خنزيراً والكلب كلباً .. والحشرة حشرة .. ما ذنب هذه الكائنات لتخلق على تلك الصورة المنحطة .. وأين العدل هنا ؟
وإذا كان الله سوف يبعث كل ذي روح فلماذا لا يبعث القرد والكلب والخنزير؟
والسؤال وجيه ولكن يلقيه عقل لا يعرف إلّا نصف القضية .. أو سطراً واحداً من ملف التحقيق .. ومع ذلك يتعجل معرفة الحكم وحيثياته.
والواقع أن كل الكائنات الحيوانية نفوس.
والله قد اختار لكل نفس القالب المادي الذي تستحقه.
والله قد خلق الخنزير خنزيراً لأنه خنزير..
ونحن لا نعلم شيئا عن تلك النفوس الخنزيرية قبل أن يودعها الله في قالبها المادي الخنزيري..
ولا نعلم لماذا وكيف كان الميلاد على تلك الصورة .. وما قبل الميلاد محجوب.
كما أن ما بعد الموت محجوب.
ولكن أهل المشاهدة يقولون كما يقول القرآن إننا كنا قبل الميلاد في عالم ( يسمونه عالم الذر ) ونكون بعد الموت في عالم. والحياة أبدية ولا موت وإنما انتقال وارتقاء في معراج لا ينتهي . صعوداً وتطوراً وتسامياً وكدحاً إلى الله.
وهذا الاستمرار يقول به العقل أيضاً.
والعدل هو الحقيقة الأزلية التي وقرها الله في الفطرة وفي الحشوة الآدمية.. وحتي في الحشوة الحيوانية كما قدمت في بداية مقالي.
هذا العدل حقيقة مطلقة سوف تقول لنا أن جميع القوالب المادية والحيوانية هي استحقاقات مؤكدة لا ندري شيئا عن تفاصيلها ولا كيف كانت ، ولكننا نستطيع أن نقول بداهة أنها استحقاقات .. وأن الله خلق الخنزير خنزيراً لأن نفسه كانت نفسا خنزيرية فكان هذا ثوبها وقالبها الملائم.
أما بعث الحيوانات فالقرآن يقول به :
( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) (الأنعام – 38).
هي أمم من الأنفس يقول لنا القرآن أنها تُحشَر كما نُحشَر.. أما ما يجري عليها بعد ذلك وأين تكون وما مصيرها .. فهو غيب .. وتطلع إلى محجوبات .. وفضول لن نجد له جواباً شافياً.
والعلم بكل شيء في داخل اللحظة المحدودة وفي عمرنا الدنيوي هو طمع في مستحيل.
ولكن إذا كان نصيبنا من العلم وإذا كان ما غنمناه بالتأمل هو أن العدل حقيقة أزلية وأن الله وقرها وأودعها في الفطرة فقد علمنا الكثير وأدركنا كفايتنا.
وبالصورة التي أدركنا بها الله في مقالنا الأول على أنه العقل الكلي المحيط وأنه القادر المبدع الملهم المعني بمخلوقاته ، بهذه الصورة سوف نفهم كيف أودع الله هذه الفطرة الهادية المرشدة في مخلوقاته فهذا مقتضي عنايته وعدله .. أن يخلق مخلوقاته ويخلق لها النور الذي تهتدي به. وسوف نصدق أيضا أن الله أرسل الأنبياء وأوحي بالكتب .. فإن الله لا يكون رباً ولا إلهاً ملهماً مدبراً بغير ذلك.
وسوف يكون دليلا على صدق الكتب السماوية وهو ما تأتينا به من علم وغيب وحكمة وتشريع وحق مما لا يتأتي لجهد فردي أن يهتدي إليه بالمحاولة الشخصية.
إن الله الخالق العادل الملهم الذي خلق مخلوقاته وألهمها الطريق.. (وهو لباب الأديان كلها)..
هو مبدأ أولي يصل إليه العقل دون إجهاد. وتوحي به الفطرة بداهة.
وإنما الافتعال كل الافتعال.. هو القول بغير ذلك.
والإنكار يحتاج إلى الجهد كل الجهد وإلى الالتفاف والدوران واللجاجة والجدل العقيم ثم نهايته إلى التهافت .. لأنه لا يقوم على أساس .. ولأنه يدخل في باب المكابرة والعناد أكثر مما يدخل في باب التأمل المحايد النزيه والفطرة السوية.
وهذا هو ما قالته لي رحلتي الفكرية الطويلة .. من بدايتها المزهوة في كتاب ( الله والإنسان ) إلى وقفتها الخاشعة على أبواب القرآن والتوراة والإنجيل وليس متديناً في نظري من تعصب وتحزب وتصور أن نبيه هو النبي الوحيد وأن الله لم يأت بغيره .. فإن هذا التصور لله هو تصور طفولي متخلف يظن أن الله أشبه بشيخ قبيلة .. ومثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تديناً.
وإنما التصور الحق لله .. أنه الكريم الذي يعطي الكل ويرسل الرسل للكل.
( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )
(فاطر – 24)
و( لقد بعثنا في كل أمة رسولاً )
(النحل – 36)
( وما كان ربك مُهلِك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً )
( القصص – 59)
( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك )
( النساء – 164)
ومعنى هذه الآية أن بوذا يمكن أن يكون رسولا وإن لم يرد ذكره في القرآن.
وإخناتون يمكن أن يكون رسولاً .. ويمكن أن يكون ما وصلنا من تعاليمهم قد خضع للتحريف .. والله يريد بهذا أن يوحي بالإيمان المنفتح الذي يحتضن كل الرسالات وكل الأنبياء وكل الكتب بلا تعصب وبلا تحيز.
وأصدق مثل للوعي الديني المتفتح هو وعي رجل مثل غاندي .. هندوسي ومع ذلك يقرأ في صلاته فقرات من القرآن والتوراة والإنجيل وكتاب ( الدامابادا ) لبوذا .. في خشوع ومحبة.. مؤمناً بكل الكتب وكل الرسل .. وبالخالق الواحد الذي أرسلها.
وهو رجل حياته مثل كلامه أنفقها في الحب والسلام.
والدين واحد من الناحية العقائدية وإن اختلفت الشرائع في الأديان المتعددة . كما أن الرب واحد.
والفضلاء من جميع الأديان هم على دين واحد.
لأن المتدين الفاضل لا يتصور الله خالقاً له وحده وهادياً له وحده أو لفئة وحدها .. وإنما هو نور السموات والأرض .. المتاح لكل من يجهد باحثا عنه .. الرحمن الرحيم المرسل للهداة المنزل للوحي في جميع الأعصر والدهور .. وهذا مقتضى عدله الأزلي .. وهذا هو المعنى الجدير بالمقام الإلهي .. وبدون هذا الإيمان المنفتح لا يكون المتدين متديناً.
أما الأديان التي تنقسم شيعاً يحارب بعضها بعضاً باسم الدين فإنها ترفع راية الدين كذباً .. وما الراية المرفوعة إلا راية العنصر والعرق والجنس وهي مازالت في جاهلية الأوس والخزرج وحماسيات عنترة .. تحارب للغرور .. وإن ظنت أنها تحارب لله .. وهي هالكة ، الغالب فيها والمغلوب .. مشركة .. كل منها عابد لتمثاله ولذاته ولتصوره الشخصي وليس عابداً لله.
وإنما تبدأ عبادة الله بمعرفة الله ومقامه الأسمى . وتبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الأدنى.
وهذا هو الطريق .. والصراط .. والمعراج الذي يبدأ منه عروج السالكين في هجرتهم الكبرى إلى الحق.
مقال : العدل الأزلي .
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان .
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الذي رأى قطة تتلصص على مائدة في خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك. الذي رأى مثل تلك القطة ونظر إلى عينيها وهي تسرق لن ينسى أبداً تلك النظرة التي تملؤها الإحساس بالذنب.
إن القطة وهي الحيوان الأعجم تشعر شعوراً مبهماً أنها ترتكب إثماً . فإذا لحقها العقاب ونالت ضربة على رأسها فإنها تغض من رأسها وتطأطئ بصرها ، وكأنها تدرك إدراكاً مبهماً أنها نالت ما تستحق.
هو إحساس الفطرة الأولى الذي ركبه الخالق في بنية المخلوق . إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتى في الحيوان الأعجم.
والقط إذ يتبرز ثم ينثني علي ما فعل ويهيل عليه التراب حتى يخفيه عن الأنظار.
ذلك الفعل الغريزي يدل على إحساس بالقبح وعلى المبادرة بستر هذا القبح.
وذلك الفعل هو أيضاً فطرة أخلاقية لم تكتسب بالتعلم . وإنما بهذه الفطرة وُلِد كل القطط.
وبالمثل غضبة الجمل بعد تكرار الإهانة من صاحبه وبعد طول الصبر والتحمل . وكبرياء الأسد وترفعه عن أن يهاجم فريسته غدراً من الخلف وإنما دائماً من الأمام ومواجهة . ولا يفترس إلا ليأكل . ولا يفكر في أكل أو افتراس إلّا إذا جاع.
كل هذه أخلاق مفطورة في الحشوة الحية وفي الحيوان.
ثم الوفاء الزوجي عند الحمام.
والولاء للجماعة في الحيوانات التي تتحرك في قطعان.
نحن أمام الأسس الأولى للضمير . نكتشفها تحت الجلد وفي الدم لم يعلمها معلم وإنما هي في الخلقة.
ونحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطري بالمسئولية . ثم نشعر بالعبء أثناء الفعل نتيجة تحري الصواب . ونشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ.
هذه المشاعر الفطرية التي يشترك فيها المثقف والبدائي والطفل هي دليل على شعور باطن بالقانون والنظام وأن هناك محاسبة . وأن هناك عدالة . وإن كل واحد فينا مُطَالب بالعدالة كما أن له الحق في أن يطلبها . وإن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذي خلقنا ومن طبيعتنا ذاتها.
فإذا نظرنا إلى العالم المادي من الذرات المتناهية في الصغر إلى المجرات المتناهية في العظم وجدنا كل شيء يجري بقوانين و بحساب و انضباط .
حتى الإلكترون لا ينتقل من مدار إلى مدار في فلك النواة إلّا إذا أعطى أو أخذ حزماً من الطاقة تساوي مقادير انتقاله و كأنه راكب في قطار لا يستطيع أن يستقل القطار إلّا إذا دفع ثمن التذكرة .
و ميلاد النجوم و موتها له قوانين و أسباب.
و حركة الكواكب في دولاب الجاذبية لها معادلة .
و تحول المادة إلى طاقة و تحول جسم الشمس إلى نور له معادلة .
و انتقال النور له سرعة .
و كل موجة لها طول و لها ذبذبة و لها سرعة .
كما أن كل معدن له طيف و له خطوط امتصاص مميزة يُعرَف بها في جهاز المطياف .
و كل معدن يتمدد بمقدار و يتقلص بمقدار بالحرارة و البرودة . و كل معدن له كتلة و كثافة و وزن ذري جزيئي و ثوابت و خواص .
و أينشتين أثبت لنا أن هناك علاقة بين كتلة الجسم و سرعته . و بين الزمن و نظام الحركة داخل مجموعة متحركة . و بين الزمان و المكان .
و الذي يفرق المواد إلى جوامد و سوائل و غازات هو معدل السرعة بين جزيئاتها .
و لأن الحرارة تعجّل من هذه السرعة فإنها تستطيع أن تصهر الجوامد و تحولها إلى سوائل ثم تبخر السوائل و تحولها إلى غازات .
كما أن الكهرباء تتولد بقوانين . كما يتحرك التيار الكهربائي و يفعل و يؤثرعلى أساس من فرق الجهد و الشدة .
كما تتوقف جاذبية كل نجم على مقدار جرمه و كتلته .
و الزلازل التي تبدو أنواعاً من الفوضى لها هي الأخرى نظام و أحزمة و
خطوط تحدث فيها و يمكن رسم و تتبع الأحزمة الزلزالية بطول الكرة
الأرضية و عرضها .
و الكون كله جدول من القوانين المنضبطة الصريحة التي لا غش فيها و لا خداع .
سوف يرتفع صوت ليقول : و ما رأيك فيما نحن فيه من الغش و الخداع و الحروب و المظالم و قتل بعضنا البعض بغياً و عدواناً . أين النظام هنا ؟ و سوف أقول له : هذا شيء آخر . فإن ما يحدث بيننا نحن دولة بني آدم يحدث لأن الله أخلفنا في الأرض و أقامنا ملوكاً نحكم و أعطانا الحرية . و عرض علينا الأمانة فقبلناها .
و كان معنى إعطائنا الحرية أن تصبح لنا إمكانية الخطأ و الصواب .
و كان كل ما نرى حولنا في دنيانا البشرية هو نتيجة هذه الحرية التي
أسأنا استعمالها .
إن الفوضى هي فعلنا نحن و هي النتيجة المترتبة على حريتنا ، أما العالم فهو بالغ الذروة في الانضباط و النظام .
و لو شاء الله لأخضعنا نحن أيضاً للنظام قهراً كما أخضع الجبال و البحار و النجوم و الفضاء . و لكنه شاء أن يفني عنّا القهر لتكتمل بذلك عدالته . و ليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذي هو من جنس دخيلته .
أراد بذلك عدلاً ليكون بعثنا بعد ذلك على مقامات و درجات هو إحقاق الحق و وضع كل شيء في نصابه .
و الحياة مستمرة .
و ليس ما نحياه من الحياة في دنيانا هو كل الحياة .
و معنى هذا أن الفترة الاعتراضية من المظالم و الفوضى هي فترة لها حِكمتها و أسبابها و أنها عين العدالة من حيث هي امتحان لما يلي من حياة مستمرة أبداً .
إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها و ما قبلها ، و هي ليست كل الحقيقة و لا كل القصة . و إنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولاً .
وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة.
أدركها الإنسان البدائي.
وقال بها الأنبياء إخباراً عن الغيب.
وقال بها العقل والعلم الذي أدرك أن الإنسان جسد وروح كما ذكرنا في فصول سابقة . وإن الإنسان يستشعر بروحه من إحساسه الداخلي العميق المستمر بالحضور رغم شلال التغيرات الزمنية من حوله ، وهو إحساس ينبئ بأنه يملك وجوداً داخلياً متعالياً على التغيرات مجاوزاً للزمن والفناء والموت.
وفلاسفة مثل عمانويل كانت وبرجسون وكيركجارد ، لهم وزنهم في الفكر قالوا بحقيقة الروح والبعث.
وفي كتاب «جمهورية أفلاطون». فصل رائع عن خلود الروح.
هي حقيقة كانت تفرض نفسها إذن على أكبر العقول وعلى أصغر العقول وكانت تقوم كبداهة يصعب إنكارها.
ولكن أهم برهان على البعث في نظري هو ذلك الإحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعا ونتصرف على أساسه ، أن هناك نظاماً مُحكَماً وقانوناً وعدلاً.
ونحن نطالب أنفسنا ونطالب غيرنا فطرياً وغريزياً بهذا العدل.
وتحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل.
ونحارب لنرسي دعائم ذلك العدل.
ونموت في سبيل العدل.
وفي النهاية لا نحقق أبداً ذلك العدل.
وهذا يعني أنه سوف يتحقق بصورة ما لاشك فيها . لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها على عقولنا وضمائرنا طول الوقت.
وإذا كنا لا نرى ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة ولأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة.
وإلّا فلماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم ولماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلاً . لماذا نحرص كل هذا الحرص ونشتعل غضباً على ما لا وجود له.
يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان :
إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل . ولأنه لا عدل في الدنيا . فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي.
إن شعورنا الداخلي الفطري هو الدليل القطعي على أن العدل حق . وإن كنا لا نراه اليوم . فإننا سوف نراه غداً . هذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا . وهو الصدق لأنه وحي البداهة.
والبداهة والفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش وهي قانون من ضمن القوانين العديدة التي ينضبط بها الوجود.
سوف يرتفع صوت ليقول : لندع عالم الآدميين ونسأل : لماذا خلق الله الخنزير خنزيراً والكلب كلباً . والحشرة حشرة . ما ذنب هذه الكائنات لتخلق على تلك الصورة المنحطة . وأين العدل هنا ؟
وإذا كان الله سوف يبعث كل ذي روح فلماذا لا يبعث القرد والكلب والخنزير؟
والسؤال وجيه ولكن يلقيه عقل لا يعرف إلّا نصف القضية . أو سطراً واحداً من ملف التحقيق . ومع ذلك يتعجل معرفة الحكم وحيثياته.
والواقع أن كل الكائنات الحيوانية نفوس.
والله قد اختار لكل نفس القالب المادي الذي تستحقه.
والله قد خلق الخنزير خنزيراً لأنه خنزير.
ونحن لا نعلم شيئا عن تلك النفوس الخنزيرية قبل أن يودعها الله في قالبها المادي الخنزيري.
ولا نعلم لماذا وكيف كان الميلاد على تلك الصورة . وما قبل الميلاد محجوب.
كما أن ما بعد الموت محجوب.
ولكن أهل المشاهدة يقولون كما يقول القرآن إننا كنا قبل الميلاد في عالم ( يسمونه عالم الذر ) ونكون بعد الموت في عالم. والحياة أبدية ولا موت وإنما انتقال وارتقاء في معراج لا ينتهي . صعوداً وتطوراً وتسامياً وكدحاً إلى الله.
وهذا الاستمرار يقول به العقل أيضاً.
والعدل هو الحقيقة الأزلية التي وقرها الله في الفطرة وفي الحشوة الآدمية. وحتي في الحشوة الحيوانية كما قدمت في بداية مقالي.
هذا العدل حقيقة مطلقة سوف تقول لنا أن جميع القوالب المادية والحيوانية هي استحقاقات مؤكدة لا ندري شيئا عن تفاصيلها ولا كيف كانت ، ولكننا نستطيع أن نقول بداهة أنها استحقاقات . وأن الله خلق الخنزير خنزيراً لأن نفسه كانت نفسا خنزيرية فكان هذا ثوبها وقالبها الملائم.
أما بعث الحيوانات فالقرآن يقول به :
( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) (الأنعام – 38).
هي أمم من الأنفس يقول لنا القرآن أنها تُحشَر كما نُحشَر. أما ما يجري عليها بعد ذلك وأين تكون وما مصيرها . فهو غيب . وتطلع إلى محجوبات . وفضول لن نجد له جواباً شافياً.
والعلم بكل شيء في داخل اللحظة المحدودة وفي عمرنا الدنيوي هو طمع في مستحيل.
ولكن إذا كان نصيبنا من العلم وإذا كان ما غنمناه بالتأمل هو أن العدل حقيقة أزلية وأن الله وقرها وأودعها في الفطرة فقد علمنا الكثير وأدركنا كفايتنا.
وبالصورة التي أدركنا بها الله في مقالنا الأول على أنه العقل الكلي المحيط وأنه القادر المبدع الملهم المعني بمخلوقاته ، بهذه الصورة سوف نفهم كيف أودع الله هذه الفطرة الهادية المرشدة في مخلوقاته فهذا مقتضي عنايته وعدله . أن يخلق مخلوقاته ويخلق لها النور الذي تهتدي به. وسوف نصدق أيضا أن الله أرسل الأنبياء وأوحي بالكتب . فإن الله لا يكون رباً ولا إلهاً ملهماً مدبراً بغير ذلك.
وسوف يكون دليلا على صدق الكتب السماوية وهو ما تأتينا به من علم وغيب وحكمة وتشريع وحق مما لا يتأتي لجهد فردي أن يهتدي إليه بالمحاولة الشخصية.
إن الله الخالق العادل الملهم الذي خلق مخلوقاته وألهمها الطريق. (وهو لباب الأديان كلها).
هو مبدأ أولي يصل إليه العقل دون إجهاد. وتوحي به الفطرة بداهة.
وإنما الافتعال كل الافتعال. هو القول بغير ذلك.
والإنكار يحتاج إلى الجهد كل الجهد وإلى الالتفاف والدوران واللجاجة والجدل العقيم ثم نهايته إلى التهافت . لأنه لا يقوم على أساس . ولأنه يدخل في باب المكابرة والعناد أكثر مما يدخل في باب التأمل المحايد النزيه والفطرة السوية.
وهذا هو ما قالته لي رحلتي الفكرية الطويلة . من بدايتها المزهوة في كتاب ( الله والإنسان ) إلى وقفتها الخاشعة على أبواب القرآن والتوراة والإنجيل وليس متديناً في نظري من تعصب وتحزب وتصور أن نبيه هو النبي الوحيد وأن الله لم يأت بغيره . فإن هذا التصور لله هو تصور طفولي متخلف يظن أن الله أشبه بشيخ قبيلة . ومثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تديناً.
وإنما التصور الحق لله . أنه الكريم الذي يعطي الكل ويرسل الرسل للكل.
( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )
(فاطر – 24)
و( لقد بعثنا في كل أمة رسولاً )
(النحل – 36)
( وما كان ربك مُهلِك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً )
( القصص – 59)
( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك )
( النساء – 164)
ومعنى هذه الآية أن بوذا يمكن أن يكون رسولا وإن لم يرد ذكره في القرآن.
وإخناتون يمكن أن يكون رسولاً . ويمكن أن يكون ما وصلنا من تعاليمهم قد خضع للتحريف . والله يريد بهذا أن يوحي بالإيمان المنفتح الذي يحتضن كل الرسالات وكل الأنبياء وكل الكتب بلا تعصب وبلا تحيز.
وأصدق مثل للوعي الديني المتفتح هو وعي رجل مثل غاندي . هندوسي ومع ذلك يقرأ في صلاته فقرات من القرآن والتوراة والإنجيل وكتاب ( الدامابادا ) لبوذا . في خشوع ومحبة. مؤمناً بكل الكتب وكل الرسل . وبالخالق الواحد الذي أرسلها.
وهو رجل حياته مثل كلامه أنفقها في الحب والسلام.
والدين واحد من الناحية العقائدية وإن اختلفت الشرائع في الأديان المتعددة . كما أن الرب واحد.
والفضلاء من جميع الأديان هم على دين واحد.
لأن المتدين الفاضل لا يتصور الله خالقاً له وحده وهادياً له وحده أو لفئة وحدها . وإنما هو نور السموات والأرض . المتاح لكل من يجهد باحثا عنه . الرحمن الرحيم المرسل للهداة المنزل للوحي في جميع الأعصر والدهور . وهذا مقتضى عدله الأزلي . وهذا هو المعنى الجدير بالمقام الإلهي . وبدون هذا الإيمان المنفتح لا يكون المتدين متديناً.
أما الأديان التي تنقسم شيعاً يحارب بعضها بعضاً باسم الدين فإنها ترفع راية الدين كذباً . وما الراية المرفوعة إلا راية العنصر والعرق والجنس وهي مازالت في جاهلية الأوس والخزرج وحماسيات عنترة . تحارب للغرور . وإن ظنت أنها تحارب لله . وهي هالكة ، الغالب فيها والمغلوب . مشركة . كل منها عابد لتمثاله ولذاته ولتصوره الشخصي وليس عابداً لله.
وإنما تبدأ عبادة الله بمعرفة الله ومقامه الأسمى . وتبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الأدنى.
وهذا هو الطريق . والصراط . والمعراج الذي يبدأ منه عروج السالكين في هجرتهم الكبرى إلى الحق.
مقال : العدل الأزلي .
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان .
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ هدية إلى الأحباب
في تفسير أم الكتاب
ويليه
متن طالب التفسير
تأليف
أبي الحسن هشام
المحجوبي وأبي مريم
عبدالكريم صكاري
طبعة منقحة ومخرجة الأحاديث
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين\" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ\" \"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا\" \"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)\"
وبعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أجارنا الله جميعا من النار.
إن الله تعالى خلق الجن والإنس وأمرهم بعبادته فقال عزَّ من قائل \" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)\" وبين سبحانه وتعالى كيفية عبادته في الكتب التي أنزل على أنبيائه وآخرها وأفضلها وناسخها القرآن الكريم قال تعالى: \" وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ \" ولايمكن أن يصل الإنسان إلى العبادة الصحيحة التي ترضي الله تعالى إلا من طريق علم التفسير الذي هو: علم يبحث في الكشف عن معاني القرآن على مراد الله وبمنهاج رسول الله وأصحابه، لذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحفظون عشرة آيات من القرآن فلا يتعدونها حتى يعلموا معناه ويعملوا بما فيها، عن ابن مسعود، قال: كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، \"
فعلم التفسير يوصل إلى الفهم الصحيح للقرآن والفهم الصحيح يوصل إلى العمل الصحيح والعمل الصحيح يوصل إلى رضوان الله ورضوان الله يوصل إلى الجنة، لذا يعد علم التفسير سيد العلوم وأشرفها وسبيل النجاة من الضلالات والانحرافات والخرافات.
وجميع العلوم الشرعية خادمة له فلا يمكن أن يفسر عالم القرآن حتى يكون ملما باللغة العربية التي هي لغة القرآن وعلم العقيدة وعلم أصول الفقه والفقه وعلم مصطلح الحديث وعلم السير والمغازي، ومن بركات هذا العلم الكريم أن فاهم القرآن يتخشع في صلاته ويتدبر معانيه ويتلذذ بقراءته ما يدفعه إلى حفظ القرآن والإكثار من قراءته والتهجد والتنفل به قال تعالى: \" قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ\" وقال أبو جعفر ابن جرير الطبري: \" إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله، كيف يلتذ بقراءته \" .
وقد ورد في فضل طالب العلم الجليل أن رحمة الله تغشاه وتنزل عليه الملائكة والسكينة ويذكره الله في الملإ الأعلى، ففي الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»
و أفضل سور القرآن الفاتحة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: \" هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ \" وعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: \" أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]. ثُمَّ قَالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ» . ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: «أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»، قَالَ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] «هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ»
و سميت بالفاتحة لأن المصحف يفتح بها وتفتح بها الصلاة، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قال، قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»
ومن أسمائها: أم الكتاب وأم القرآن، قَال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» أي المشتملة على أصول معاني القرآن اللذان هما توحيد الله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأصل الأول مضمن من أولها إلى قوله تعالى: \" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ \" والأصل الثاني مضمن من قوله تعالى \" اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ\" إلى آخرها ـ ومن أسمائها السبع المثاني والقرآن العظيم أي آياتها السبع التي استثنيت بها أمة النبي صلى الله عليه وسلم بالتفضيل على باقي الأمم قال تعالى: \" وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ\" و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمُّ القُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ» و من أسمائها الراقية لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرقي بها من الأمراض فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ ؟فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَابِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ»، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا »فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا\" ومن أسمائها الشافية أي يشفي الله بها عباده من الأمراض المعنوية كالضلال والأمراض الحسية، قال صلى الله عليه وسلم: \" فاتحة الكتاب شفاء من كل سم \"ومن أسمائها الحمد لأنها تبتدئ به قال تعالى: \"الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ \"
و من أسمائها الصلاة أي روحها الصلاة وقيل لا تصح الصلاة إلا بها فعن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: \" قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي – وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي – فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ \"
وقد سماها بعض العلماء بالكنز والأساس والكافية والواقية وغير ذلك.
فهي سورة مكية أي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وقيل مدنية وقيل نزل نصفها في مكة ونصفها في المدينة، وقيل نزلت مرتين في مكة وفي المدينة، والصحيح المشهور بين المفسرين القول الأول.
ولأن المؤمن يقرأ هذه السورة على الأقل سبع عشرة مرة في اليوم في صلواته المفروضة، أقبلنا على تفسير هذه السورة العظيمة بأسلوب ميسر ومفصل وجامع لأجود ما ذكره سادتنا المفسرون في تفاسيرهم راجين من الله تعالى القبول والثواب وأن يجمعنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومع خدمة كتابه الكريم في جنات النعيم إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تفسير الاستعاذة:
اتَّفق المفسِّرون أن(الاستعاذة)ليست من القرآن، وأشهر صِيغها الواردة في السُّنة: \"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم\"، \"أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم\"، وزِيد عليهما في بعض الروايات \"من همزه ونفثه ونفخه\" ، وقد اشتق البعض من القرآن: \"أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ\" و \"أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ \" و\"أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ \"و \"أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ\"
ويَجوز فيها السر والجهر على المشهور، وقد اختلف العلماء في موضع قراءتها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها قبل القراءة؛ لأن العِلة منها طرد وساوس الشيطان عند القراءة، وقدَّروا فِعل: فإذا أردت أن تقرأ القرآن، \"فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ\".
القول الثاني: يُحكى عن أبي هريرة وبعض العلماء أنها تكون بعد القراءة لطرد عُجب النفس والسُّمعة وعمَلاً بظاهر الآية: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ النحل: 98.
القول الثالث: ذهب بعض المفسِّرين إلى مشروعيتها قبل القراءة وبعدها عملاً بالوجهين، والمشهور القول الأول، وقد اختلفوا في حُكمها، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى وجوبها؛ لأن الأمر يفيد الوجوب ما لم تصرفه القرينة، والصحيح - والله تعالى أعلم - أن الأمر مصروف إلى الاستحباب لقرينة أنه صلى الله عليه وسلم استدل ببعض الآيات من غير أن يستعيذ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ»، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ أي: ألتجئ وأعتصم وأتحَصَّن بالله من أذى الشيطان الرجيم، و\"أعوذ\" فعل مضارع يُفيد الاستمرار عكس الفعل الماضي الذي يفيد الانقطاع،
والمعنى كأن الله تعالى يأمرنا بالمداومة على الاستعاذة؛ لأن الشيطان عَدُوٌّ مبين لا يَملُّ ولا يَكلُّ مِن سعْيه لإضلال الإنسان؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168، وقال على لسانه: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ الأعراف: 16، 17، وفي الحديث: ((إن الشيطان يبعث في الصباح سراياه فيقول من يُضلُّ اليوم مُسلمًا أُلبسه التاجَ))
وقد بُدئ الفعل المضارع بهمزة المضارعة لفائدتين - والله تعالى أعلم:
الفائدة الأولى: استدعاء حضور القلب عند القراءة؛ لأن الهمزة تُفيد الحضور.
الفائدة الثانية: استِشعار التواضع والتبرُّؤ من الكِبْر الذي أضل الشيطان، لأن الهمزة تُفيد الإفراد، ولو كانت بدَلها النون لأفادت الإحساس بالتعظيم.
الله: أصل الأسماء الحسنى وأعظمها، وهو المعبود الذي يتقرَّب إليه العباد بشتى الطاعات حبًّا وتعظيمًا، مشتق من ألَه يأْله إلهة؛ أي: عَبَد يعبد عبادة؛ ففي قراءة ابن عباس: ﴿ وَيَذَرَكَ وَإلَهَتَكَ ﴾، وقيل: الذي حيَّر العقول، مشتقٌّ من الولَه؛ أي: الحيرة وهو بعيد، وقيل: غير مشتق، والصحيح المشهور: القول الأول.
وأما الشيطان فهو الجِنِّي أو الإنسيُّ الكافر المُحارِب للإسلام، مشتقٌّ من شَطَن أي: بعُد عن رحمة الله، وقيل: الشِّياط، والمقصود في هذا السياق شيطان الجنِّ.
الرجيم: وصف له، وهو مفعول في معناه على وزن فعيل، قيل: سُمِّي بالرجيم لأنه أتى إبراهيم عليه السلام وهاجر وإسماعيل في منى، فاستعطف إبراهيمَ حتى لا يذبح ولده، فقال: أعوذ بالله منك فرجمه، ثم استعطف هاجر على ولدها فقالت: أعوذ بالله منك فرجمته، ثم استعطف إسماعيل عليه السلام على نفسه، فقال: أعوذ بالله منك فرجمه\"، فصار الرجم من مناسك الحج إلى يوم القيامة،
وقيل: سُمِّي بالرجيم؛ لأنه يسترق السمع في السماء فترجُمُه الملائكة؛ قال سبحانه: ﴿ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾ [الحجر: 18]، وقيل: وُصف بذلك لأن أتباعه يرجمونه في النار.
السميع: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه الذي لا يَخفى عليه صوت مهما خَفُت، وينقسم إلى سمع عام وهو الذي عرفناه، وسمع خاص ومعناه: الذي يستجيب دعاء عباده.
وأما العليم: فهو من أسماء الله الحسنى، ومن أسمائه أيضًا: العالم والعلّام والأعلم والخبير، ومعناه: صاحب العلم الواسع المطلق؛ بحيث لا يَخفى عليه شيء.
وأما الهمز والنفث والنفخ، فالهمز: جنس من الجنون يُقال له: الموتة، والنفث: الشِّعر القبيح، والنفْخ: الكِبر، فعن ابن جبير بن مطعم، عن أبيه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة، قال عمرو: لا أدرى أي صلاة هي، فقال: ((الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)) ثلاثًا، ((أعوذ بالله من الشيطان من نفخه، ونفثه، وهمزه)) ، قال: نفثه: الشِّعر، ونفخه: الكبر، وهمزه: الموتة.
تفسير البسملة
فالبسملة اختصار لـ \"بسم الله الرحمن الرحيم\" كالحمدلة والصلصلة والحوقلة، جاء في فضلها حديث موقوف حُكمه الرفع، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: \"مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ التِّسْعَةَ عَشَرَ فَلْيَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فيجعل اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا جُنَّةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ \" .
ومعناها الإجمالي: طلب العون والبركة من الله وأسمائه الحسنى صاحِبِ الرحمة الشاملة والخاصة قبل الشروع في القول أو الفعل.
فالباء للاستعانة والتبرُّك، و\"اسم\" مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، ومعناه اللفظ الذي وُضع للشيء لِرِفعة شأنه وتمييزه عن غيره، مشتق من السُّموِّ، وقيل: من السِّمة، والمعنى هنا: أستعين وأتبرك بجميع أسماء الله الحسنى؛ لأن المفرد المضاف يفيد العموم، كقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]؛ أي: جميع نعم الله؛ لأن ﴿ نِعْمَةَ ﴾ مفرد مضاف إلى اسم الجلالة.
الله: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وهو أعظم اسم من أسماء الله الحسنى؛ لذلك جاء مُبَيَّنًا بعد العموم؛ لأن الخاص بعد العام يفيد الأهمية والشرف، ومعناه المعبود الذي يَتقرب إليه العباد حبًّا وتعظيمًا بشتى الطاعات، مشتق من ألَه يأْله إلاهة؛ أي: عَبَد يعبد عبادة، قال سبحانه: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُو ﴾ [الحشر: 22]، وقد استنبط المحققون من أهل العلم من هذا الاسم العظيم أن المخلوقات في الأصل لا أول لها؛ لأنه سبحانه وتعالى الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء في ذاته وأسمائه وصفاته، ويلزم من هذا الاسم وجود العباد له، فالمخلوقات في جنسها وأفرادها لها أوَّل كما لها آخر، أما في أصل الخَلق فلا أول له؛ لأن من أسمائه اللهَ والخالق والرب وغيرها، والله تعالى أعلم.
الرحمن الرحيم: اسمان عظيمان من أسماء الله الحسنى، قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]، وهما بدل من الله تابعان له في جره، وقيل: نعت.
الرحمن: على وزن فعلان، وهذا الوزن يفيد السَّعَة والامتلاء؛ أي: صاحب الرحمة الشاملة التي تشمل جميع الخَلق، فلولاها لما رُزق الكافر قطرة ماء، قال سبحانه: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فعرشه سبحانه يتوسط الكون ويعلوه، وهو سبحانه وتعالى فوق عرشه يُغدق رحمته على جميع خلقه.
الرحيم: على وزن فعيل؛ أي: صاحب الرحمة الخاصة بالمؤمنين، فبها وُفِّقوا إلى طاعته وأُدخِلوا الجنة، قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، وفي الحديث الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فالجزء الأول يرجع إلى اسم الرحمن، والتسعة والتسعون جزءًا يرجعون إلى اسم الرحيم.
وقيل: الرحمن الذي إذا سُئل أعطى، والرحيم إذا لم يُسأل يغضب، وهما مشتقان من الرحم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: \"قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي فَمَنْ وصلها وصلته ومن قطعها بتته\" .
والجار والمجرور متعلق بفعل تقديره: \"أبدأ\"، ويجوز أن يُقدَّر اسمًا \"ابتدائي\" على أنه مبتدأ، والمشهور أن يُقدَّر فعلاً لبلاغته، ويجوز أن يُقدَّر خاصًّا: أقرأ أو أتلو، والأفضل - والله أعلم - أن يُقدر عامًّا \"أبدأ\"؛ لأنه يشمل جميع العبادات والأفعال، فمثلاً تلاوة القرآن فيها القراءة والتدبر والنظر إلى المصحف.
والأصل أن يُقدَّر في أول الكلمة: \"أبدأ بسم الله الرحمن الرحيم\"، لكن الأفضل أن يُقدر في آخرها: \"بسم الله الرحمن الرحيم أبدأ\"؛ لأن تأخير ما حقُّه التقديم يفيد الحصر والقصر والاختصاص، فيكون المعنى: أي لا أطلب العون والبركة إلا من الله، وفي هذا إدخال للتوحيد في البسملة، الذي هو إفراد الله بالعبادة.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى استحبابها قبل الأقوال والأفعال؛ فبِها بدأ الله كلامه، وكان يبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أكله وشربه وجِماعه ودخوله إلى الخلاء ودخوله إلى البيت وخروجه منه، وغير ذلك.
واتفق العلماء أنها جزء آية من سورة النمل: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [النمل: 29، 30]، وأنها ليست في أول سورة التوبة التي فُضح فيها المنافقون ووُعدوا فيها بأشد العذاب، فلا يليق أن تُبدأ برحمة الله،
واختلفوا هل هي جزء آية من أول كل سورة، أو آية، أو ليست بآية أصلاً، أو آية من سورة الفاتحة؟ والصحيح - والله تعالى أعلم - الذي ترجح لنا أنها آية منفردة في المصحف ليست من السور، أُنزلت للفصل بينها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الفصل ما بين السورة والسورة، حتى ينزل عليه جبريل بـ\"بسم الله الرحمن الرحيم\".
ويجوز الإسرار بها والجهر في الصلاة وغيرها؛ جمعًا بين الروايات.
وقد بيَّن القُرَّاء أوجه قراءتها، فأباحوا جميع الأوجه، ومنعوا واحدًا:
الأوجه الجائزة:
أولاً: الفصل بينها وبين آخر السورة وأول السورة التي تليها.
ثانيًا: الجمع بينها وبين آخر السورة وأول السورة التي تليها.
ثالثًا: الفصل بينها وبين آخر السورة وجمعها بأول السورة التي تليها.
رابعًا: حذفها بالكلية.
أما الوجه الممنوع؛ فهو جمعها بآخر السورة وفصلها عن أول السورة التي تليها؛ مخافة أن يُظنَّ أنها من آخر السورة، وفيه تعطيل لمعناها المتعلق بالبدء لا بالانتهاء.
فهذا تفسير البسملة الذي ينبغي لكل طالب علم أن يَعْلَمه ويُتقنه؛ لوجودها في أول كلام الله وأوائل المتون والكتب العلمية، ولكل مسلم؛ حتى يحضر قلبه ويخشى ربه ويتذوق حلاوة البَدء بها.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1)}:
إعراب الآية:
الحمد: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
لله: ل: حرف جر، الله: اسم جلالة مجرور اختياري وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وشبه جملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مبتدأ.
رب: بدل من الله تابع له في جره وقيل نعت تابع له في جره وهو مضاف.
العالمين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء.
وجه المناسبة بين البسملة وهذه الآية والله تعالى أعلم أن الله تعالى يعد قارئ القرآن ومفسره والعامل به بالرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة
و المعنى الإجمالي للآية أي جميع الثناء والشكر والمدح مستحق لله تعالى خالق ومالك ومدبر جميع شؤون خلقه \"فالحمد\" هو الثناء على شيء بحب وتقدير وهو قريب من الشكر والمدح، فالفرق بينه وبين الشكر من وجهين.
فالحمد أعم من الشكر من جهة السبب فهو يكون مقابل الإحسان وفي غيره، نقول: \" فلان يحمد على حسن خلقته \" كما يقال: \" يحمد على حسن ضيافته \" فأما الشكر فلا يكون إلا مقابل الإحسان فهو أعم من الحمد من جهة الآلة فهو يكون باللسان والجوارح وأما الحمد فيكون باللسان قال تعالى: \"اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ \"سورة سبأ – الآية: 12، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا»
و أما الفرق بين الحمد والمدح:
-فالحمد يكون بحب وأما المدح فيكون بحب وبغير حب.
- والحمد يكون للعاقل والمدح يكون للعاقل وغير العاقل نقول مدح شاعر الحمراء مراكش،
- والحمد يكون موجزا وأما المدح فيكون في الأغلب أوسع من الحمد، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحمد أفضل ذكر بعد القرآن الكريم لأن الله تعالى بدأ به كتابه الكريم وأثنى به على نفسه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ به خطبه، إذ ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبدأ به خطبه فيقول:
«إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ» و هو ذكر أهل الجنة يلهمونه كما يلهمون النفس فهو في الدنيا تكليف وفي الآخرة تشريف، قال تعالى: \" إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) \". سورة يونس الآيات: 9- 10
و هو ذكر الحافين بالعرش قال تعالى: \"وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ \" سورة الزمر - الآية: 75
و لازِمه جميع معاني الأذكار فما استَحق الثناءَ سبحانه وتعالى إلا وهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له المنزه عن النقص والرذائل الأكبر من كل شيء، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: \" أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ \" : فيحمل على من أفضل، ومثال ذلك عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: \" أَنْ يُسْلِمَ قَلْبُكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ \"، قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: \" الْإِيمَانُ \"، قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: \" تُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ \"، قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: \" الْهِجْرَةُ \"، قَالَ: فَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: \" تَهْجُرُ السُّوءَ \"، قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: \" الْجِهَادُ \"، قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: \" أَنْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إِذَا لَقِيتَهُمْ \"، قَالَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: \" مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ \"، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: \" ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا: حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ \"
\" رَبِّ الْعَالَمِينَ \"
\"رَبِّ \": الرب لغة: السيد أو المالك نقول رب الأسرة، وقال سيدنا يوسف على العزيز \" إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ \"سورة يوسف – الآية: 23
و شرعا: هو الخالق المالك المدبر، من أسماء الله الحسنى المتضمنة لصفات أصلية لازمها باقي صفات الكمال فهو سبحانه ما كان خالقا ومالكا ومدبرا حتى كان عليما خبيرا غنيا حكيما رزاقا.
\"الْعَالَمِينَ\": جمع عالم قيل هو كل جنس مخلوق عاقل كعالم الملائكة وعالم الإنس وعالم الجن، وقيل كل جنس مخلوق فيه روح، وقيل كل جنس مخلوق على الإطلاق وهو الصحيح المشهور.
فهذه الآية الكريمة اشتملت على أصل الإسلام العظيم الذي هو التوحيد فتوحيد الألوهية مضمن في قوله تعالى \": الحمد لله \" وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات مضمن في قوله تعالى: \"رَبِّ الْعَالَمِينَ \"، وهنا لنا وقفة لبيان التوحيد.
إنّ توحيد الله لا يتحقق إلا إذا قام على التصديق بأن الله هو الربّ والإله الذي لا شريك له ولا مثيل.
لقد أكد كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على حقيقة التوحيد في صيغ متعددة. فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1- 4]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾سورة البقرة – الآية: 163، وقوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ المائدة - الآية: 73
وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: \"لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: \"إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيه أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى...\"
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: \"بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ \"
إنه ولِما لتوحيد الله من أهمية بالغة فقد حرص علماء الإسلام على تبيان الأصول التي يقوم عليها وما يقتضيه الإيمان بكل واحد منها.
توحيد الله وأصوله: يقوم توحيد الله تعالى على ثلاثة أصول هي:
1- توحيد الربوبية.
2- توحيد الألوهية.
3- توحيد أسماء الله وصفاته.
هذه الأصول هي حسبما اهتدى إليه العلماء متضمَّنة في الآية: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]، فتوحيد الربوبية متضمَّن في شق الآية: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، أما توحيد الألوهية فمتضمَّن في: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾، وأما توحيد أسماء الله وصفاته فمُتضمن في: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ أي هل تعلم له شبيها ومثيلا في أسمائه وصفاته.
1- توحيد الربوبية:
يعني توحيد الله في الربوبية إفراده سبحانه بالخلق والملك والتدبير، أي الاعتقاد الجازم بأن لا خالق ولا مالك ولا مُدبر في الكون إلا اللهُ سبحانه وتعالى.
لقد نص القرآن الكريم على ربوبية الله فذَكر تفرده سبحانه بالخلق على غيره، قال تعالى: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾سورة فاطر- الآية: 3، كما أفرد الله نفسه بالملك فقال: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك: 1]، أما الدليل على إفراد الله ذاته بالتدبير فنجده في قوله تعالى: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾سورة الأعراف – الآية: 54، والمراد بالأمر هنا التدبير.
2- توحيد الألوهية:
يعني توحيد الألوهية إفرادَ العبد ربَّه بالعبادة. والعبادة كما عرَّفها ابن تيمية هي: \"اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة\" ، قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 3
إن الإنسان لا يصير مُوحِّدًا حتى تكون عبادته كلها موجهة لله دون غيره، بحيث لا يدعو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه ولا يستعين إلا به ولا يحب شيئا مثل حبه ولا يخاف من شيء مثل خوفه ولا يرضى بالتحاكم بغير شرعه سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، فتوحيد الألوهية هو حقّ الله على العباد، لأنه خلقهم ورزقهم فاستحق بذلك عبادتهم، وقد وعد سبحانه وتعالى من أفرده بالعبادة بالجنة والنجاة من النار، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل: \" يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ \"، فقال معاذ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: \"يُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ\"
لقد كان غالبية المشركين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُقِرُّون بتوحيد الربوبية، وهو ما أكده القرآن في حديثه عنهم، حيث قال تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [الزخرف: 88]، لكنهم كانوا يرفضون الإقرار بتوحيد الألوهية فمنعهم ذلك من الدخول في الإسلام، لأن الدخول فيه لا يتم إلا إذا رافق توحيد الربوبية توحيد الألوهية.
3- توحيد أسماء الله تعالى وصفاته:
يعني توحيدُ أسماء الله تعالى وصفاتِه، إفرادَ الله تعالى بأسمائه التي سمّى بها نفسه وصفاته التي وصف بها ذاته في كتابه والتي أخبر بها رسوله - صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الأصل في التوحيد لَيُبيّن للعبد سبيل التعرف على ربه والتأدب معه في الحدود التي ارتضاها سبحانه لمقامه. ويقتضي الإيمان به مراعاة القواعد التسع التالية:
أولها: لا تُستمد أسماء الله تعالى وصفاته إلا من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأنها غيب والغيب لا يُعلم إلاَّ من الوحي. قال الله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ النجم: 1، 4.
ثانيها: التسليم بأن جميع أسماء الله تعالى حسنى في منتهى الحسن، وبأن صفاته كاملة في منتهى الكمال. قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 181]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"إن الله جميل يحب الجمال \"
ثالثها: يجب إثبات أسماء الله تعالى وصفاته كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله دون تحريف ولا تشبيه ولا نفي مع تفويض كيفيتها إلى الله. إن تفسير غنى الله سبحانه وتعالى في الآية: ﴿ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 41]، بالقدرة هو تأويل لا يجوز، أما القول بأن غناه - سبحانه وتعالى - مثل غنى أغنى الناس، فهو تشبيه لا يجوز، وأما الزعم بأن الله غني من غير غنى فهو نفي وتعطيل لا يجوز.
إن هذه التأويل يعارض قول الله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ففي قوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ نفي الشبيه عن الله، وفي قوله: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ إثبات لأسماء الله تعالى وصفاته.
إن الفهم الصحيح للآية: ﴿ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾سورة التغابن – الآية: 6، يقتضى التسليمَ بأن الله غني غنى مطلقًا ليس كغنى خلقه الذي يتسم بالمحدودية والحاجة له - سبحانه.
رابعها: لا يجوز اشتقاق أسماء الله تعالى من صفاته، بينما يجوز اشتقاق صفاته تعالى من أسمائه. قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾سورة طه – الآية: 5، لا يجوز لنا هنا أن نشتق من صفة \"الاستواء\" اسم \"المستوي\". أما في قول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾، فيجوز لنا إضفاء صفة الغنى على الله؛ لأنها جاءت متضمّنة في اسم الغني ولأن أسماءه سبحانه وتعالى أتت دالة على كماله.
خامسها: لا يجوز حصر أسماء الله عز وجل في تسعةٍ وتسعين اسمًا لوجود دليل من السنة نَصَّ على أن هناك أسماء أخرى استأثر الله تعالى بعلمها وحده دون غيره.
لقد دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القول في دعائه: \"أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ...\"
إن هذا الدعاء ليشير إلى وجود أسماء استأثر الله بعلمها وحده، ولهذا يُحمل الحديث النبوي: \"لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة\"
على أن عدد هذه الأسماء جاء على سبيل الذكر لا الحصر.
سادسها: إن للهِ تعالى صفات ذاتية وأخرى فعلية. أما صفات الله الذاتية فهي الصفات اللازمة لذاته كصفة البركة والحياة والعلم واليد والوجه.
وأما صفات الله الفعلية فهي صفات تابعة لمشيئته كصفة الاستواء على العرش وصفة الرضى وصفة الغضب، فهو يفعلها متى شاء ويدعها متى شاء.
سابعها: لا يجوز أن يُفرَد الله تعالى بصفات كالمكر والاستهزاء والخداع لما فيها من تنقيص منه سبحانه بل يعمد إلى مقابلتها بأفعال المخلوقين. إنها لا تطلق على الله إلا فيما سيقت فيه من الآيات كقوله تعالى: ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾. سورة آل عمران – الآية: 54، وقوله: ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 14، 15]، وقوله: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142].
ثامنها: لا يجوز التفصيل في الصفات التي نفاها الله عن ذاته لما يحمله ذلك من قلة أدب في حق الله عز وجل، ويُسمى كل ما نفاه الله عن ذاته صفاتًا سلبية لما فيها من نقص كنفي الولد والنوم؛ قال تعالى: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾، وقال - سبحانه -: ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾، فمثلاً إذا قال إنسان لملِك أنت لست فقيرًا ولا ضعيفًا ولا ذليلًا ولو كنت كذلك لما صرت ملكًا، فلا شك أن مثل هذه الأوصاف لا تُلاقى بالتَّرحاب.
تاسعها: إذا أطلقنا على الله اسم \"الصانع\" و\"المقصود\"، فإن ذلك يعد حقًّا في ذاته - سبحانه - لأنه في حقيقة الأمر صانع للكون، ومقصود بالعبادة والرجاء، ولو لم يرد دليل مباشر في الكتاب والسنة على ذلك؛ لذا فقد سمى العلماء ما كان حقًّا في ذات الله، ولم يرد به نصٌّ إِخبارًا.
إن لتوحيد سبعة شروط تسمى عند العلماء بأركان وشروط لا إله إله إلا الله و لا يصير المرء موحدا حتى يحققها، فالركنان هما: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله: قال تعالى: \" فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ \" سورة البقرة - الآية: 256
وقال أيضا: \" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ\"سورة الزخرف - الآيات: 26-27 فالكفر بالطاغوت متجلي في قوله عليه السلام: \" إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ \"و الإيمان بالله متجلي في قوله: \" إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي \"
فالكفر بالطاغوت هو نفي استحقاق العبادة عن غير الله ويدخل فيه بغض كل مدع للألوهية وجهاده إن توفرت الشروط الشرعية المبينة في كتب العقيدة والفقه.
والطاغوت لغة: هو المتجاوز لحده،
وشرعا هو كل مجاوز حده من معبود أو متبوع أو مطاع برضاه، وقد يعرف بكل مشارك لله في حقه على الناس الذي هو العبادة، ورؤوس الطواغيت خمسة:
الرأس الأول: الشيطان، قال تعالى: \" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ \"سورة النحل – الآيات: 36
الرأس الثاني: كل من دعى الناس لعبادة نفسه، كفرعون قال تعالى: \" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ \" سورة الفجر، الآيات: 6-12
الرأس الثالث: كل من عبد من غير الله ورضي وسكت.
الرأس الرابع: كل من ادعى علم الغيب وتعامل مع الشياطين لإذاية الناس كالسحرة والعرافين، قال تعالى: \" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ \" سورة النساء – الآية: 51
الرأس الخامس: الحاكم الذي يستحل الحكم بغير ما أنزل الله، قال تعالى: \" يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا \"سورة النساء – الآية: 60 وأما إن كان يعتقد أن شرع الله هو الحق وحكم بغيره بسبب هوى في نفسه أو حرص على مصلحة دنيوية فهو واقع في الشرك الأصغر الذي لا يخرج من الملة ولا يدخل في الطواغيت.
و أما الإيمان بالله فهو التصديق بوجوده وإفراده بما يختص به على الوجه الذي بيناه في معنى التوحيد، وهو يتضمن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله على وجه الإجمال والتفصيل، وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص.
و أما شروط التوحيد التي تسمى عند العلماء بشروط لا إله إلاّ الله فهي سبعة: العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والانقياد.
الشرط الأول: العلم معنى التوحيد وهو إدراك معنى التوحيد بدليله. فالإنسان لا يمكن أن يعمل بشيء ويُطَبّقه في حياته حتى يعلمه. فالعلم لازم للعمل، قال الله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ ﴾. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"من مات وهو يعلم لا إله إلاّ الله دخل الجنة\"
الشرط الثاني: اليقين وهو اعتقاد التوحيد من غير شك. قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾سورة الحجرات – الآية: 15. وقال تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾سورة إبراهيم – الآية: 10
الشرط الثالث: الصدق وهو استقامة الظاهر والباطن على توحيد الله سبحانه وتعالى وطاعته. قال سبحانه وتعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقينَ ﴾ سورة التوبة – الآية: 119. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ [ص: 38] مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . وضد الصدق النفاق، فهو من أشرَّ الكفر بالله ويعني إبطان الكفر وإظهار الإسلام. قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾سورة النساء – الآية: 145
الشرط الرابع: الإخلاص، وهو الابتغاء بالتوحيد والعمل به وجَه الله تعالى وثوابه دون رياء ولا سمعة. قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ سورة البينة – الآية: 5. وقال سبحانه وتعالى أيضا: ﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ﴾سورة الزمر – الآية: 14. وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ \" وللإخلاص قوادح تفسده، يجب معرفتها واجتنابها.
القادح الأول: الرياء، وهو فعل العبادة أمام الناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»
القادح الثاني: السمعة، وهي ذكر العبادة والعمل الصالح للناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»
أي من سمَّع في الدنيا أسمع الله النّاسَ عيوبه يوم القيامة. والسمعة أخطر من الرياء، لأن الإنسان قد يفعل عبادة ويُخلِص فيها ثم يفسدها بالسمعة بعد سنين.
الشرط الخامس: المحبة، وتعني حبَّ الله تعالى وحبّ ما يحبّ وكراهية ما يكره؛ لقد نعت الله عباده المؤمنين بأنهم أشد الناس حبا له، فهم لا يتخذون من دونه أنداداً كما يفعل غيرهم، قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ﴾سورة البقرة-الآية: 165 وعلامة حب العبد ربَّهُ تقديم كل ما يُحب الله على ما يحبه هو وتميل إليه نفسه، وبغض جميع ما يُبغِض ربُّه وإن مالت إليه نفسه.
الشرط السادس: القَبول، ويعني أن نقبل بالتوحيد كما هو دون أدنى تردّد أو تمنُّع. لقد حدثنا الله تعالى في كتابه عن حال الأمم التي استكبرت ورَدّت كلمة التوحيد متَّهِمَةً من دَعاها إليها بالجنون فقال: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴾. سورة الصافات – الآيات: 35-36. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصحا: \"قل آمنت بالله ثم استقم\"
الشرط السابع: الانقياد، وهو الإذعان لأمر الله تعالى بالرضى المستحق. قال تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾، وقال أيضا: ﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾سورة لقمان – الآية: 22 ومعنى ﴿ يُسْلِمْ وَجْهَهُ ﴾ أي يذعن، ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾أي موحد، والعروة الوثقى فسّرها علماء الإسلام بـ\"لا إله إلاّ الله\"
و لا يقبل الله تعالى توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات من العبد إلا من طريق توحيد الاتباع بعد بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو إفراد النبي صلى الله علي وسلم بالمتابعة في الدين فقد أجمع العلماء أن من وصلته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه فهو كافر قال تعالى: \" فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا \"سورة النساء – الآية: 65وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»
وقال أيضا: \" لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي \" .
و لا يحقق العبد توحيد الاتباع إلا بالشروط السبعة التالية:
الشرط الأول: العلم بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم.
إن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يتم إلا بمعرفة سنته - صلى الله عليه وسلم -. قال - صلى الله عليه وسلم -: \"عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ\" وقال أيضا: \"طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ\" ومِن أَوْجَبِ العلمِ تَعلُّمُ سنته - صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثاني: محبته - صلى الله عليه وسلم.
وتعني أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ للمسلم من نفسه وولده، فعن أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»
و قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب: \" لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ\" فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: \"الآنَ يَا عُمَرُ\"
الشرط الثالث: التصديق بما أخبر به - صلى الله عليه وسلم.
إنَّ كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعدّ وحيا من الله، لذا وجب تصديقه سواء كان خبراً ماضيا كقَصص الأنبياء والصالحين، أو خبراً حاضراً كأحوال الملائكة والجن، أو خبراً مستقبَلا كعلامات الساعة وأحوال أهل الجنة والنار. قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ﴾سورة الحديد – الآية: 28.أي صدِّقوه فيما قال.
الشرط الرابع: طاعته - صلى الله عليه وسلم-.
أمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سورة الأنفال – الآية: 20. أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد قال: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»
ومن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك ما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾[31]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا\"
الشرط الخامس: تحقيق عبادة الله على منهاجه - صلى الله عليه وسلم.
إن الله سبحانه وتعالى لا يقبل عبادةً حتى تكون على سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: ﴿ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾سورة الأعراف – الآية: 158. أي تَأسَّوْا به في عبادتكم لربكم.
الشرط السادس: الإيمان بأفضليته - صلى الله عليه وسلم.
إن رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل الرسل دون تنقيص من رسول أو تحقير. قال - صلى الله عليه وسلم -: \" أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...\"
الشرط السابع: الإيمان بخاتَمِيَّته - صلى الله عليه وسلم.
ويعني الاعتقاد الجازم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو آخر الأنبياء والمرسلين؛ قال الله تعالى: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾.سورة الأحزاب – الآية: 40، فلا يقبل مسلم بِمُدَّعٍ لنُبُوَّة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهما كانت مكانته. قال - صلى الله عليه وسلم -: \"لا نبيّ بعدي\" . أي لَا لِأحد أن يدَّعي النبوة بعدي.
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن الحمد خير ذكر بعد القرآن، لذا بدأ به سبحانه قرآنه.
- جميع المحاميد مستحقة له سبحانه لكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
- من أسمائه سبحانه وتعالى \" الله \" وهو: المعبود الذي يتقرب إليه العباد بشتى الطاعات حبا وتعظيما.
- أن من أسمائه سبحانه \"الرب\" وهو الخالق المالك المدبر.
- اشتملت الآية على أقسام التوحيد الثلاثة وهي: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
\"الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ\"
إعراب الآية:
الرحمان: بدل من الله تابع له في جره وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وقيل نعت تابع لمنعوته في جره.
الرحيم: لها نفس إعراب الرحمان
مر تفسيرها معنا في البسملة ووجه المناسبة والله أعلم بينها وبين الآية التي قبلها أن الله تعالى يعد موحده وحامده بالرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة فهي قبله في البسملة وبعده في هذه الآية قال تعالى: \" وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا \" سورة الأحزاب - الآيات: 43-44
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن من أسمائه سبحانه: \"الرحمان\" وهو صاحب الرحمة الواسعة التي تشمل جميع الخلق.
- أن من أسمائه سبحانه وتعالى: \"الرحيم \" وهو صاحب الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين.
- يستحب أن يقرن الرحمان بالرحيم في الدعاء وغيره لورود الآية بذلك وبيان فضل الله تعالى على عباده المؤمنين الذين خصهم بالرحمة الأخروية من دون سائر الناس.
\" مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ \":
إعراب لآية:
مالك: بدل من الله تابع له في جره وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره وقيل نعت تابع لمنعوته في جره وهو مضاف.
يوم: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره.
الشرح:
\" مَالِكِ \": أي المتصرف في يوم القيامة وقرئت أيضا ب \" مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ \" أي الحاكم المتصرف وهو أبلغ من مالك مشتق من الملك أما الأول فإنه مشتق من المِلك فكل ملك مالِك وليس كل مالِك ملك وجميع آيات القرآن تأتي بضم الميم كقوله تعالى: \"لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ \"سورة المائدة – الآية: 120 وقوله تعالى: \" لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ\"سورة غافر - الآية: 16
وقوله تعالى: \" لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ \" سورة البقرة - الآيات: 106و من أسمائه سبحانه \" مالك وملك ومليك \" قال تعالى: \" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) \" سورة القمر - الآيات: 54-55
و معناه صاحب الملك الواسع.
\" يَوْمِ الدِّينِ \": هو يوم الجزاء لأن الله تعالى يبعث فيه الناس ليجزيهم على أعمالهم فمن كان مسلما وغلبت حسناته سيئاته دخل الجنة، وإن غلبت سيئاته حسناته دخل النار حتى يطهر من الذنوب فيدخل الجنة إلا إذا غفر الله له أو أدركته شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد المؤمنين فإنه يدخل الجنة من أول مرة،
و أما الكافر فمآله النار خالدين فيها أبدا وبئس المصير قال تعالى: \" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) \" سورة البينة - الآيات: 6-8
وقيل سمي بيوم الدين: لأنه اليوم الذي ينصر فيه الإسلام ويظهر للجميع أنه الحق.
و من أسمائه \" يوم القيامة \": أي اليوم الذي يقوم فيه الخلق من قبورهم للحساب والجزاء قال تعالى: \" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ \" سورة القيامة – الآية: 1
و من أسمائه: \" يوم الفصل \": قال تعالى: \" إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ \"سورة الدخان - الآيات: 40 أي اليوم الذي يفصل فيه الله بين الكفر والإيمان والحق والباطل والظالم والمظلوم،
و سمي أيضا \" بيوم التغابن \": أي اليوم الذي يَغبُنُ فيه أهل الجنة أهل النار قال تعالى: \" ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ \" سورة التغابن – الآية: 9
و سمي \" بيوم الجمع \" لأنه تعالى يجمع فيه جميع الخلق فلا يفلت منهم أحد، قال تعالى: \" يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ\"سورة التغابن – الآية: 9
وسمي \" بالغاشية \": لأنه يُطبق على الناس ويغشاهم بحيث لا يجدون منه مفرا قال تعالى: \" هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ\" سورة الغاشية – الآية: 1
و سمي \"بالقارعة \" لأنه يقرع القلوب بأهواله، قال تعالى: \" الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) \" سورة القارعة
و سمي بيوم الحشر: لأن الناس يحشرون فيه، قال تعالى: \" وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا \" سورة يونس – الآية: 28
و سمي بالواقعة: أي يقع على الناس فجأة، قال تعالى: \"إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ \" سورة الواقعة – الآيات: 1-2
و سمي: \"بالحاقة \": أي يحق فيه ما أنكر من البعث والحساب والجزاء والقرآن، قال تعالى: \" الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)\"سورة الحاقة – الآيات: 1-3
و سمي بيوم البعث: لأن الناس يبعثون فيه من قبورهم، قال تعالى: \" قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ \". سورة يس– الآية: 51
و سمي بيوم الحساب: لأن الناس يحاسبون فيه على أعمالهم، قال تعالى: \" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا \" سورة الانشقاق – الآيات: 7-8
و سمي\" بالساعة\": لأنه هو وقت تحول الناس من الدنيا إلى الآخرة، قال تعالى: \"قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ \" سورة الأنعام – الآية: 30
و سمي بالصاخة: قال تعالى: \" فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ \" سورة عبس- الآية: 33قال البغوي رحمه الله: \" الصاخة \" يعني صيحة يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها.
و سمي بالطامة الكبرى: قال تعالى: \" فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى \"سورة النازعات – الآية: 34 قال البغوي في تفسيره: وسميت القيامة \" طامة \" لأنها تطم على كل هائلة من الأمور، فتعلوا فوقها وتغمر ما سواها والطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع .
و سمي بالمعاد: قال تعالى: \" إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ\"سورة القصص – الآية: 85
و سمي بيوم التلاقي: لأن العبد يلتقي فيه بربه، قال تعالى: \"رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ \"سورة غافر – الآية: 15
و سمي بيوم الوعيد: قال تعالى: \"وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ \"سورة ق – الآية: 20 أي اليوم الذي يتوعد فيه الله تعالى الظالمين بأشد العذاب.
و هو تعالى مَلك ومالك ليوم القيامة وغيره، وإنما خص يوم القيامة بالمُلك في هذا السياق والله تعالى أعلم لبيان عظمت ذلك اليوم الذي ينتهي فيه ملك كل أحد ويبقى ملك الواحد الأحد سبحانه قال الله تعالى: \"لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ \"سورة غافر – الآية: 16، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: \" يَطْوِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ. ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ \"
و فسرت هذه الآية بالقادر على إقامة يوم الدين وهو ضعيف من جهة اللغة والشرع فالمُلك منفصل عن القدرة ومن أسمائه تعالى الملك والمالك والقادر والقدير فيبعد تفسير المُلك بالقدرة.
ووجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هاته الآية والآيتين السابقتين أنه تعالى سيرحم أهل القرآن والتوحيد والحمد يوم القيامة ويرون ذلك بأعينهم قال تعالى: \" يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ \"سورة الحديد – الآية: 12
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن من أسمائه تعالى: \"المالك\" وهو المتصرف.
- أن من أسماه تعالى: \"الملك\" وهو الحاكم المتصرف.
- أن يوم القيامة لا ريب فيه.
- أن من أصول الإيمان الإيمان بيوم القيامة التي يقوم فيها الناس ليحاسبوا ويجزوا على أعمالهم، لذا ذكره سبحانه وتعالى في أعظم سورة في القرآن الكريم.
- أن من أسماء يوم القيامة: \" يوم الدين \" أي يوم الجزاء.
\"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ\":
إعراب الآية:
إيا: ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم.
الكاف: حرف خطاب مبني على الفتح.
نعبد: فعل مضارع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره نحن.
الواو: واو العطف.
إياك نستعين: جملة فعلية معطوفة على الآية التي قبلها.
الشرح:
العبادة لغة: مأخوذة من قول العرب الطريق معبد أي ممهد للسير.
و شرعا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: \" هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة \"
أي كل قول أو فعل دل دليل على أن الله يحب أن يتقرب له به فهو داخل في مسمى العبادة، كالدعاء والركوع والسجود والذبح والصوم والحكم وغير ذلك، ولكل عبادة منها ركنان وشرطان لا تصح العبادة إلا بهما.
الركنان هما: تمام الحب وتمام الذل له سبحانه، قال تعالى: \" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ\" وقال أيضا: \" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ \"سورة المائدة – الآية: 54 وقال أيضا في سورة المؤمنين: \" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ \" وقال أيضا في سورة البقرة: \" وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ \"
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وعبادة الرحمن غاية حبه... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر... ما دار حتى قامت القطبان
وأما الشرطان فهما الإخلاص لله والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى \" فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا \" أي من كان يريد حسن اللقاء مع ربه يوم القيامة فليصلح عمله باتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا يرد به غير وجه ربه الأعلى، وقال أيضا: \" وما كان لمومن ولامومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا \"
فالإخلاص لغة هو الصفاء نقول: \" خالص ماء الورد \"
و شرعا هو: الابتغاء بالعبادة رضوان الله وتوابه دون رياء ولا سمعة ولا مصلحة دنيوية، قال تعالى: \" وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء...\" وقال أيضا: \" قل الله أعبد مخلصا له ديني \"
و له ثلاثة قوادح تفسده وبالتالي تفسد العبادة على صاحبها.
القادح الأول: الرياء وهو: إظهار العبادة لناس ابتغاء إعجابهم، قال صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: \" أنا أغنى الشركاء عن الشرك من أشرك بي شيئا تركته وشركه\" وقال عليه الصلاة والسلام: \" أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي، قيل ما الشرك الخفي يا رسول الله، قال: الرياء \" وفي رواية: \" يزين الرجل صلاته ليراها الرجل \"
القادح الثاني: السمعة وهي: تحديث الناس بالعبادة ابتغاء إعجابهم، قال صلى الله عليه وسلم: \" من رأى راء الله به ومن سمع سمع الله به \" أي من سمع في الدنيا أسمع الله عيوبه الناس يوم القيامة.
القادح الثالث: فعل العبادة ابتغاء مصلحة دنيوية: كالذي يدعي التدين ليتزوج من امرأة تقية، أو الذي يطلب العلم ليشتهر به ويحصل المال والجاه: قال تعالى: \" إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم \"، فعن عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
أما الاتباع لغة: تقفي الأثر.
و شرعا: موافقة العبادة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في الأصل والتفاصيل والسبب والعدد والصفة والزمان والمكان والقدر والجنس.
المقصود بالأصل: أن يكون لها دليل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
و التفاصيل: أي توافق سنة النبي صلى الله عليه في الجزئيات المضمنة في الأصل.
و السبب: مثل دعاء دخول المسجد فسببه هو دخول المسجد.
و العدد: مثل عدد ركعات الصلاة.
و الصفة: كموافقة هيئة النبي صلى الله عليه والسلام في الصلاة أو في الحج.
و الزمان: كأداء الصلاة في وقتها الذي بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
و المكان: كأداء ركعتي تحية المسجد في المسجد.
و القدر: كإخراج زكاة المال من القدر الذي بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
و الجنس: كالتضحية في العيد بجنس الأنعام.
و أما الاستعانة فهي طلب العون من الله، فهي عبادة قلبية لها علاقة بالدعاء، قال تعالى: \" وعلى الله فليتوكل المومنون \" وقال أيضا: \" فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين \" وقال صلى الله عليه وسلم: \"فإذا استعنت فاستعن بالله \"
و لا يجوز أن تطلب في الأصل من غير الله إلا بشروط.
الشرط الأول: أن يعتقد المستعين أن المستعان به أعانه بقدر الله وتوفيقه.
الشرط الثاني أن يكون المستعان به حيا.
الشرط الثالث: أن يكون المستعان به حاضرا.
الشرط الرابع: أن يكون المستعان به قادرا على الإعانة. والدليل على هذه الشروط، قوله تعالى: \"فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ \" سورة القصص – الآية: 15
و المعنى الإجمالي للآية \" إياك نعبد وإياك نستعين\" ألا نتقرب بالعبادة ولا نطلب العون على ذلك وغيره إلا منك سبحانك.
ف\"إِيَّا \": ضمير منفصل مبني في محل نصب مفعول به مقدم والأصل في المفعول به أن يؤخر عن الفعل، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والقصر والاختصاص، أي لا نعبد غيرك ولا نستعين بغيرك، والكاف حرف خطاب يفيد وجوب حضور القلب في الصلاة لأن انتقال الخطاب من الغائب إلى الحاضر يستدعي الانتباه وحضور القلب، ويفيد أيضا قرب الله تعالى من عبده خاصة في الصلاة فمن أسمائه تعالى \"القريب\" قال تعالى: \" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) \" سورة البقرة – الآية: 186وقال عليه الصلاة والسلام: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»
و من معاني هذه الآية الكريمة: أنه تعالى يعظم عباده الموحدين لأن نون الجمع في فعل المضارع \" نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ \" تفيد التعظيم إذا أطلقت على الفرد قال تعالى: \" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) \" وفيها إشارة إلى أن المؤمنين أمة واحدة متماسكة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا لدلالة النون على الجماعة، قال تعالى: \" إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ \"سورة الأنبياء – الآية: 92 وقال أيضا: \" الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ \"سورة الأنعام - الآية: 159 وقال صلى الله عليه وسلم: \" مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى \" وعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»
و فيها إشارة إلى أن الأصل في صلاة الرجل الجماعة لدلالة النون عليها قال سبحانه وتعالى: \" وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ \" وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» وفي رواية: «تَفْضُلُهَا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»
و قد اختلف العلماء في حكمها بين القول أنها شرط صحة في الصلاة وأنها واجبة وأنها سنة مؤكدة والمشهور من مذهب الإمام مالك أنها سنة مؤكدة والله تعالى أعلم.
و من معانيها أيضا أنه تعالى يحب أن يستمر عباده على الطاعة لأن الفعل المضارع يفيد الاستمرار عكس الفعل الماضي الذي يفيد الانقطاع، قال تعالى: \" يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ \"سورة إبراهيم – الآية: 27 وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ»
و ينبغي الإشارة إلى تنبيه قارئ هذه الآية من خطإ شائع يحرف معناها ويبطل الصلاة إن كان بتقصير وهو نطق الياء مخففة من غير شدة \"إيَاك\" ف \"الإيَا \" هو ضوء الشمس فيصير المعنى ضوء شمسك نعبد ونستعين.
و وجه المناسبة بين هذه الآية والآيات التي قبلها والله تعالى أعلم أن الله تعالى يحاسب الناس يوم القيامة على العبادة لا على الخِلقة والأرزاق والآجال.
الفوائد المستخلصة من الآية:
-أن أعظم أصل في الدين هو التوحيد.
-أن الله تعالى يعظم عباده الموحدين.
- أنه تعالى يحب أن يكون عباده جسدا واحدا كالبنيان المرصوص.
- أن صلاة الرجل مع الجماعة سنة مؤكدة.
- أنه ينبغي للعبد أن يطلب العون من الله على العبادة وغيرها.
- أن الخشوع من واجبات الصلاة.
- أن الله تعالى قريب من عباده المؤمنين.
- أنه تعالى يحب أن يستمر عباده على الطاعة.
\"اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ\"
اعراب الآية:
اهدنا: فعل أمر بمعنى الدعاء مبني على حذف الياء والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت، نا: ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول.
الصراط: مفعول به ثان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
المستقيم: نعت تابع لصراط في نصبه وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
شرح الآية:
أي وفقنا وأرشدنا برحمتك ومنك وكرمك إلى طريق الجنة الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام.
اهْدِنَا: دعاء، ويكون الدعاء بصيغة الأمر ممن هو أسفل إلى من هو أعلى،
والهداية تنقسم إلى قسمين هداية توفيق وهداية دعوة وإرشاد.
فهداية التوفيق لا يملكها إلا الله سبحانه وهي في قوله تعالى: \" إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ \" وفي قوله تعالى: \" لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ \" وفي قوله تعالى: \" وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ \"
و أما هداية الدعوة والإرشاد فهي: إرشاد الناس إلى الحق والخير وتحذيرهم من الضلال والشر، وقد جعلها سبحانه وتعالى بيد أنبيائه ودعاته، وهي في قوله تعالى: \" وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ \" وفي قوله تعالى: \" أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ \"
و في هذه الآية الكريمة \" اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ \" استحباب أن يكثر المؤمن من الدعاء لنفسه ولأخوانه المسلمين، قال سبحانه: \" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ \" وقال أيضا: \" وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ \" وقال تعالى: \" وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ \" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \" إن الله يحب العبد الملحاح \" أي كثير الدعاء وقال أيضا: \" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير \"
و قد عبر سبحانه وتعالى في هذه الآية على الإسلام بالصراط المستقيم لأنه منهاج حياة متكامل وقويم يدفع الإنسان إلى الخير ويبعده عن الشر ويوصله إلى رضوان ربه وجنته، قال تعالى: \" قد جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ \" وقال تعالى: \" إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) \"
الإسلام في اللغة هو الاستسلام.
وفي الشرع هو الانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى بالإخلاص والرضى المستحق له سبحانه. فهو مبنيّ على الاستجابة للأمر الإلهي من غير اعتراض ولا تمَنّع. وينقسم إلى قسمين: إسلام عامّ وإسلام خاص. الإسلام العام هو الاستجابة والانقياد لأمر الله تعالى في كل زمان، فهو دين جميع الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم. والدليل قوله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾. وقال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾.
وأما الإسلام الخاص فهو اتّباع شرع محمد - صلى الله عليه وسلم -. فالله عز وجل لا يقبل شرعا ولا دينا بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - إلا دينه - عليه الصلاة والسلام -. قال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾. وفي الحديث الصحيحالذي رواه الامام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، وَمَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ». وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"لو كان أخي موسى حيّا ما وسعه إلا أن يتّبعني\".
وضد الإسلام الكفر، ويعني في اللغة: التغطية، تُسمّي العرب الزُّرّاع بالكفار لأنهم يغطون الزرع. قال الله تعالى: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾، أي الزّراع. وفي الشرع هو رفض الإسلام وله سبعة أصول تَرجع إليها جميع شعب الكفر وصوره.
الأصل الأول: كُفر الشرك، وهو عبادة غير الله معه كدعاء الأموات والذبح لهم وحب شيء مثل حب الله والخوف من شيء مثل خوف الله والرضى بالتحاكم لغير شرع الله إلخ. قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾. وقال سبحانه وتعالى في شرك المحبة: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾
وينقسم الشرك إلى شرك أكبر وشرك أصغر. الشرك الأكبر سُمّي بالأكبر لأنه يُخرج من الإسلام، وهو الذي عرّفناه. وأما الشرك الأصغر فهو الذنب الذي سُمّي بالشّرك في الشرع ولا يُخرج من الإسلام، لذا سُمّي بالأصغر، إلا أنه أقبح من كبائر الذنوب، ونذكر بعض أنواعه:
النوع الأول: الحَلِفُ بغير الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"من حلَف بغير الله فقد أشرك\"
النوع الثاني: الشرك اللفظي، وهو الشرك في اللّفظ دون القصد، كقول الرجل لولا الله والكلب لسُرق البيت، والصحيح أن يقول لولا الله ثم الكلب، لأن الواو تفيد المعية والتسوية وأما ثُمّ فتفيد التراخي، أي الكلب بعد الله. قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: \"لو شاء الله وشئت، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أجعلتني لله نِدّا، قل ما شاء الله وحده\" وفي رواية: \"قل لو شاء الله ثم محمد\". وفي حديث آخر: \"رأى رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه يمشي في طريق من طرق المدينة، فالتقى بنفر من اليهود قال نِعم القوم أنتم اليهود، لولا أنكم تقولون عُزير ابن الله، فقالت اليهود نِعم القوم أنتم المسلمون لولا أنكم تقولون لو شاء الله ومحمد، ثم التقى بنفر من النصارى فقال لهم نِعم القوم أنتم النصارى لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، فقالت النصارى نِعم القوم أنتم المسلمون لولا أنكم تقولون لو شاء الله ومحمد، فلما أصبح الرجل ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال - صلى الله عليه وسلم - اجمَعُوا الناس ثم صعد المنبر وقال يأيها الناس لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ \"
النوع الثالث: الرياء، وهو إظهار العبادة للناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»
النوع الرابع: السمعة، وهي إخبار الناس بالعبادة ابتغاء ثنائهم وإعجابهم، وهي داخلة في الشرك الخفي.
النوع الخامس: التّطيّر، وهو التشاؤم بأشياء معينة كالرجل الأسود أو الهِرّ الأسود. وسُمّي بالتطير لأن العرب في الجاهلية كانوا إذا همّوا بالخروج إلى سفر أطلقوا طائرا، فإن طار يمينا تفاءلوا وسافروا وإن طار شمالا تشاءموا ورجعوا. قال - صلى الله عليه وسلم -: \"الطِّيَرة شرك\". وأما التفاؤل بالخير فلا بأس به، كالتفاؤل بالأذان أو سماع القرآن أو رؤية رجل صالح، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه الفأل الحسن.
الأصل الثاني: كُفر الجحود والعناد، وهو التكذيب بالإسلام رُغم العلم بصِدقه ككفر آل فرعون، قال سبحانه وتعالى في حقهم: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾، أي كفروا بلا إله إلاّ الله رُغم علمهم بصدقها.
الأصل الثالث: كفر التكذيب، وهو الكفر بالإسلام جهلا بصِدقه، قال سبحانه وتعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾
الأصل الرابع: كفر الإيباء والاستكبار، وهو الكفر بالإسلام بسبب احتقار أهله ككفر إبليس، قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾
الأصل الخامس: كفر الشك، وهو التردد في صدق الإسلام، قال سبحانه: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
الأصل السادس: كفر الإعراض، وهو إهمال الإسلام وترك تعلّمه والعمل به، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾. وقال تعالى أيضا: ﴿ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ﴾
الأصل السابع: كفر النفاق، وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾. وقال تعالى أيضا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾
وينقسم الكفر إلى كفر أكبر وكفر أصغر، الكفر الأكبر هو الذي بيّنّا أصوله وأما الكفر الأصغر فهو الذنب الذي سُمّي في الشرع بالكفر ولا يُخرج من الإسلام، لذلك سُمّي بالأصغر كقتال المؤمن، قال - صلى الله عليه وسلم -: \"سِباب المؤمن فسوق وقتاله كفر\" والدليل الذي صَرَف الكفر في الحديث من الكفر الأكبر إلى الكفر الأصغر قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾. قال الحافظ بن كثير فقد أثبت سبحانه وتعالى الإيمان لِكلا الطائفتين رُغم اقتتالهم.
وموانع اتباع الكفار للإسلام ستة:
المانع الأول: التعصب لما كان عليه الآباء والأجداد، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾سورة البقرة – الآية: 170
المانع الثاني: اتباع الهوى، وهو شهوة النفس، قال سبحانه: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾سورة ص – الآية: 26
المانع الثالث: الكِبْر، وهو احتقار الناس والتعالي عليهم، فهو السبب الذي منع إبليس من الإسلام. قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾.سورة البقرة – الآية: 35
المانع الرابع: الخوف من زوال مصلحة دُنيوية كالملك أو المال أو الجاه، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ﴾سورة التغابن الآية: 15.وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» أي الحرص على المال والجاه يُفسد الدِّين كما يفسد الذنبان الجائعان الغنم. وقد كان الحرص على المُلك سببا في ارتداد هِرقل ملك الروم بعدما آمن.
المانع الخامس: الحسد، وهو تمنِّي زوال النعمة عن الغير، فهو من أسباب كُفر اليهود لأنهم حسدوا العرب على (النبي صلى الله عليه وسلم) وعلى القرآن. قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ سورة البقرة – الآية: 109.
المانع السادس: الجهل، وهو هنا عدم معرفة الإسلام، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ﴾. سورة التوبة – الآية: 6
و وجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هذه الآية والآية التي قبلها أنه تعالى:
- لا يقبل عبادة من أحد حتى يكون مسلما، قال تعالى: \"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) \" سورة آل عمران – الآية: 85
- أن من آداب الدعاء أن يبدأ بالثناء على الله لأن الآيات التي قبل هذه الآية ثناء عليه سبحانه.
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن التوفيق إلى الحق بيد الله سبحانه وتعالى.
-استحباب أن يدعو المؤمن لنفسه وإخوانه.
- أن الله تعالى لا يقبل دينا غير الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
- أن الإسلام هو منهاج الحياة القويم والمتكامل الذي يدفع البشرية إلى السعادة ويبعدها عن الشقاوة في الدنيا والآخرة.
\"صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ\"
إعراب الآية:
صراط: بدل تابع للمبدل منه في نصبه وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر مضاف إليه.
أنعمت: فعل ماض مبني على السكون والتاء ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل.
عليهم: على: حرف جر، هم: ضمير متصل مبني على الكسر في محل جر اسم مجرور، وجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
شرح الآية:
أي دين ومنهاج الذين أنعم الله عليهم بالمنهاج القويم والدين الحق والسعادة الدنيوية والجنة والنظر إلى وجه الله في الآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
قال تعالى: \"وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)\"سورة النساء – الآيات: 69-70
والنبي هو الرجل الإنسي العاقل المعصوم من الكفر والكبائر والرذائل والمكلف بتبليغ رسالة ربه،فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول والفرق بينهما على أرجح أقوال أهل العلم،
الرسول هو: الذي أوحي إليه بشرع جديد غالبا ويبعث إلى قوم مشركين،وقلنا غالبا ليخرج من القاعدة سيدنا إسماعيل عليه السلام فهو رسول نبي أبقاه الله على شرع أبيه ابراهيم عليه السلام،وأما النبي فهو: الذي أوحي إليه بإحياء شرع من قبله غالبا ويبعث إلى قوم مؤمنين وقلنا غالبا لأنه يستثنى من القاعدة آدم عليه السلام فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبي ولا شك أن لا شرع قبله لكونه أبو البشر وقد أخطأ من عرف النبي بالذي أوحي إليه بالرسالة ولم يؤمر بالتبليغ والرسول أمر بالتبليغ لأن هذا يتنافى مع الحكمة الإلهية المطلقة ويتعارض مع قوله تعالى : \" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ \"سورة آل عمران – الآية: 187
فأما الصديق فهو المبالغ في الإخلاص لربه والصدق في دينه كسيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه قال تعالى: \" وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ \" سورة الحديد – الآية: 19
و أما الشهيد فهو الذي قتل في جهاد مشروع لتكون كلمة الله هي العليا، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (لو يشار لمن له حكم الشهيد كقوله صلى الله عليه وسلم قال: «المبطون شهيد، والمطعون شهيد» صحيح البخاري (7/ 131))
و أما الصالح هو الذي يصلح حياته وآخرته بامتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه قال تعالى: \" وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ \" سورة الأعراف – الآية: 170
و وجه المناسبة بين هاته الآية والله تعالى أعلم والآية التي قبلها، أن الإسلام هو الدين الحق والمنهاج القويم الذي ينعم أتباعه بالسعادة الدنيوية والأخروية، قال تعالى: \" أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ\". سورة القلم – الآيات: 35-36
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء والصالحين في كل مكان وزمان.
- أن الإسلام هو أقوم منهاج حياة يكفل للإنسان السعادة الدنيوية والأخروية.
- أن أعظم نعمة هي الهداية إلى العمل بالإسلام لأن الإنسان يعيش بها كريما سعيدا وينال بها السعادة الأبدية وهي الجنة،
- أن من صفاته سبحانه وتعالى \" الإنعام\" وليس من أسمائه المنعم، لأن اسم الله يشتق من الاسم لا الفعل قال تعالى: \" وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ \" سورة النحل – الآية: 53
\"غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ \"
إعراب الآية:
غير: بدل تابع للمبدل منه في جره المضمر في عليهم وقيل المضمر في الذين أو نعت تابع له في جره وهو مضاف.
المغضوب: مضاف إليه
عليهم: جار ومجرور متعلق بالمغضوب
و: الواو للعطف
لا: زائدة لتأكيد والتنبيه.
وقد قرئت الراء بالفتح \" غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ \" (وهي قراءة شاذة): أي لا تجعلنا على دين ومنهاج الذين غضب الله عليهم بسبب تركهم العمل بالعلم كإبليس واليهود ومن كان على شاكلتهم ولا الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم بسبب جهلهم بالدين كرهبان النصارى وغلاة الخوارج والتصوف ومن كان على شاكلتهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وإنَّ الضَّالِّينَ النَّصَارَى»
و ينقسم العمل بالعلم إلى كفر ومعصية ومكروه ومباح.
فالكفر: كترك اعتقاد أصول الإيمان والعمل بالتوحيد
و أما المعصية كشرب الخمر مع العلم أنها حرام
و أما المكروه: كترك المستحبات.
و أماالمباح: كترك العمل بسنن العادات مثل طريقة مشيته صلى الله عليه وسلم وما يحبه من المأكولات.
و الكفر والمعصية يوجبان غضبه سبحانه قال تعالى: \"وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ \"سورة البقرة الآية: 61
وقال أيضا: \" بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ \"سورة البقرة – الآية: 90
و ينقسم الضلال إلى كفر وبدعة:
فالكفر هو الذي دل الدليل على أنه يخرج من الإسلام كاعتقاد إيمان وصلاح إبليس قال تعالى: \" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ \"سورة آل عمران – الآية: 90
و أما البدعة في هذا السياق: فهي التقرب بعبادة إلى الله لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذكر بالشطحات والرقصات الطرقية، قال تعالى: \" وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا \"سورة النساء – الآية: 115 وقد دلت هذه الآية \"غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ \" على صفة فعلية من صفاته تعالى وهي الغضب، فهو تعالى يغضب غضبا يليق به لا كغضب الخلق،
والصفات الفعلية تابعة لمشيئته سبحانه وتعالى فهو يغضب متى شاء على من شاء بعدل مطلق وحكمة بالغة وإرادة نافذة.
و وجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هاته الآية والآية التي قبلها:
أصل الولاء والبراء، فالولاء حب الله تعالى وحب جميع محبوباته وهو مضمن في قوله تعالى: \"اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ \"
و البراء هو بغض جميع مبغوضاته تعالى وهو مضمن في قوله تعالى: \"غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ \"
قال تعالى: \" قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ \"سورة الممتحنة – الآية: 4و قال أيضا: \"و إذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) \" سورة الزخرف - الآيات: 26-27
الفوائد المستخلصة من الآية:
-أن من صفاته تعالى الفعلية الغضب.
- أن الله تعالى يغضب على من ترك العمل مع علمه به.
- لزوم وصف الضلال لكل جاهل بالإسلام.
- أن المغضوب عليهم والضالين في النار عكس المنعم عليهم.
- أن العالم التارك للعمل أشر من الجاهل لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين.
- أن من أراد أن يرض ربه عنه ويكون على صراطه المستقيم فعليه الجمع بين العلم والعمل.
آمين:
اتفق المفسرون أنها ليست من الفاتحة إنما هي جواب على الدعاء المضمن في الفاتحة ومعناها: \" اللهم استجب \"
و حكمها: تجب على المأموم إن أمن الإمام لقول النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: \" إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ \"
و أما إذا لم يؤمن الإمام فلا يجوز للمأموم أن يؤمن فعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: \" إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، \"
و وقت تأمين المأموم بعيدة تأمين الإمام والدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال: \" إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا \"
و محل الشاهد أن أمن فعل ماض يفيد الانقطاع وقيل يؤمن مع الامام والراجح القول الأول.
و يستحب التأمين للمنفرد والامام، وفي الصلاة السرية للمأموم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمن في هذه الحالات، ويجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: تَرَكَ النَّاسُ التَّأْمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ: \" {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قَالَ: «آمِينَ» حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَيَرْتَجُّ بِهَا الْمَسْجِدُ \"
و يستحب أيضا أن يُمد بها الصوت فعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقَالَ: \" آمِينَ \" يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ\"
و نقول في النهاية أن سورة الفاتحة بحر شاسع من العلم والحكم والمواعظ البليغة مهما درسنا وتحرينا وجمعنا وكتبنا فلن نصل إلى ساحله وأملنا في الله أن يتقبل منا ما كتبناه ويحفظه بما حفظ الذكر الحكيم ويكتب له الانتشار والقبول بين الناس ويجعله هاديا إلى الصراط المستقيم والمنهاج السليم ورضوان الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله يوم الأحد 18رمضان 1436 بمدينة مراكش الحمراء. على الساعة السابعة مساء
و الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
مَتْنُ طَاِلبِ التَّفْسِيرِ
تأليف
أبي الحسن هشام المحجوبي
و
أبي مريم عبد الكريم صكاري
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحمدُ لِلهِ مُبَيِّنِ القرآنِ بسنة خيرِ الآنامِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وعلى آل بيتهِ وصحابتهِ الكرامِ.
عِلْم أُصولِ التفسيرِ
اِعلمْ وفقكَ اللهُ أنَّ أُصولَ التَّفسيرِ عِلمٌ يبحثُ في الأصولِ والقواعدِ والمناهجِ الشرعيةِ التي توصلُ المفسِّرَ إلى المعنى الصحيحِ لكتابِ اللهِ، وأولُ من ألفَ فيهِ الإمامُ أبو جعفرَ مُحمدٌ اِبنُ جريرٍ الطبريُّ في مقدمةِ تفسيرهِ \"جَامِعُ البَيَانِ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ \" وحُكمهُ فرضُ كِفايةٍ، وأمَّا ثَمرتُهُ فهي صَوْنُ الفهمِ عنِ الخَطإِ في تأويلِ كتابِ اللهِ.
وَ يشتمِلُ هذا العلمُ على عدَّةِ مباحثَ.
المبحثُ الأولُ: معرفةُ المنهجيةِ الصَّحيحةِ للتفسيرِ.
فالتفسيرُ هو: الكَشفُ عن معاني القرآنِ.
و منهجيَّتُهُ الصَّحِيحةُ هي: تَفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ وتفسيرُ القرآنِ بالسنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وتفسيرُ القرآنِ بأقوالِ الصَّحابةِ وتفسيرُ القرآنِ بأقوالِ التابعينَ وتفسيرُ القرآنِ باللغةِ العربيةِ.
المبحثُ الثَّانِي: مَعرفةُ الدَّلاَلاَتِ اللغويةِ الَّتِي يحتاجُ إِليهَا المُفسرُ.
كالخبرِ والإنشاءِ والمشتركِ المعنوي والمترادفِ.
فالخبرُ: هوَ كلُّ قولٍ يحتملُ الصِّدقَ والكذبَ ؛ كقولِكَ: \"خليلٌ يقرأُ القرآنَ\".و أمَّا الإنشاءُ فهوَ مَا لاَ يحتمِلُ الصدقَو لا الكذِبَ ويتضمَّنُ كلاً منَ الأمرِ والنَّهيِ والدُّعاءِ والإلْتِمَاسِ والإستفهامِ والتمنِّي و الرجاءِ والعرْضِ والتَّحْضِيضِ والقسمِ والذَّمِّ والمدحِ وصيغِ البيعِ.فالأمرُ: هو طلبُ الفعلِ مِمَّنْ هوَ أَعلى إلى مَنْ هوَ أَدْنى على سبيلِ الوجوبِ حتَّى تصرفَهُ قرينَةٌ إلى النَّدبِ أو الإباحَةِ، ويكونُ بصيغةِ إفعلْ أو مُضَمَّنا في الخبرِ.و أمَّا النَّهْيُ: فهو طلبُ تركِ الفعلِ مِمَّنْ هو أعلى لِمَنْ هوَ أدْنَى على سبيلِ المنْعِحتَّى تَصْرِفَهُ قرينَةٌ إلى الكَراهةِ، ويكونُ على صِيغَةِ لا تفعلْ أو مضمنا في الخبر.
و أما الدُّعاءُ: فهو طلبٌ مِمَّنْ هو أدْنَى إلى مَنْ هو أَعْلى.و أمَّا الإلْتِمَاسُ: فَهُوَ طلبٌ مِنْ مُساوٍ.و أَمَّا الإسْتِفْهامُ: فهوَ تَوْجيهُ السُّؤالِ.و أمَّا التَّمَنِّي: فهو الرَّغْبَةُ في شَيْءٍ بعيدِ المنالِ.
و أمَّا الرَّجَاءُ: فهوَ الرغبة في شيء قريبِ المنالِ.و أما العرْضُ: فهو طَلَبُ الشَّيْءِ برفْقٍ ولِينٍ.و أما التَّحْضيضُ: فهو طلب الشيء بشدةٍ.و أما القَسَمُ: فهو الحلفُ.و أما الذَّمُّ: فهو ذِكْرُ المَعَايِبِ .و أما المدحُ: فهو ذكر المحاسنِ.و أما صِيَغُ البيعِ: كقولك بِعتُكَ كذا بكذا.
النوع السادس: إطلاقُ الكُلِّ على الجُزءِ ؛
كقَول الله تَعَالَى في الحديثِ القدسي: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ \"
النوع السابع: إطلاق المُسَبَّبِ على السَّبَبِ ؛ كقوله تعالى: \"وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا \"
النوع الثامن: إطلاق السبب على المسبب ؛ كقوله تعالى: \"أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا \"
و أما المُشْتَرَكُ: فهو اللَّفْظُ الواحدُ الَّذي يتضمَّنُ عِدَّةَ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً مثل كلمةِ \"اشْتَرَى \"
وينقسمُ إلى مشتركٍ حرفيٍ ومشتركٍ اسميٍ ومشتركٍ فِعليٍ.
و أما المُترادِفُ فهو اللألْفَاظ المُخْتلِفةُ في البناءِ والمُتَّفِقةِ في المعنى كالعلْمِ والمعْرِفةِ.
المبحث الثالث: معرفةُ دَلَالَاتِ التفسيرِ
تنقسمُ دلالاتُ التَّفْسيرِ إلى دلالاتٍ يُحتَجُّ بها وإلى دلالات لا يُحتَجُّبها.
الدلالات التي يحتج بها هي: المُحْكَمُ، والظَّاهِرُ، والمُبَيَّنُ، والمَنْطوقُ، ومَفْهومُ المُوافقةِ، ومفهومُ المخالفةِ، ودلالةُ السِّيَّاقِ، ودلالةُ الإشارةِ، ودلالةُ الاِقْتِضاءِ، ودلالةُ الإيماءِ.
فالمُحْكَمُ هُوَ: النَّصُّ الواضحُ، بحيثُ لا يَحتاجُ إلى نصٍ آخرَ لِبيانِ معناهُ وأما الظَّاهر فهو: الدَّلالةُ الشَّرْعِيَّةُ المُتَضَمِّنَةُ لِمعنى راجحٍ.
وأما المُبَيَّنُ فهو: الدَّلَالَةُ الشَّرْعيةُ المُفَسِّرَةُ لِلْمُتَشَابِهِ.
و أما المَنْطُوقُ فهو: دَلَالَةُ الَّلفْظِ الظَّاهِرَةِ. وأما مفهوم المُوَافَقَةِ فهو: المعنى المَسْكُوتُ عَنْهُ المُوَافِقِ لِلْمَنْطُوقِ.
و أما مفهوم المُخَالَفَةِ فهو: المعنى المَسْكُوتُ عنه المُخَالِفِ لِلْمَنْطُوقِ.و أما دَلَالَةُ السِّيَّاقِ فهي: المعنى الذي قَبْلَ الكَلَامِ وبَعْدَهُ، ويسمى الذي قَبْلَ الْكَلَامِ بالسِّبَاقِ والَّذي بعدهُ بالِّلحاقِ.
و أما دلالة الإشارةِ فهي: المعنى التَّابِعُ لِلْمَقْصُودِ مِنَ النَّصِّ.
و أما دلالة الاقْتِضَاءِ فهيَ: الَّلفْظُ المُقَدَّرُ الَّذِي لَوْلَاهُ لَمَا اسْتَقَامَ معنى النَّصِّ.و أما دلالة الايماءِ فهي: الوَصْفُ الذي لولاه لَمَا كان للدليل معنى.
و أما الدلالات التي لا يُحْتَجُّ بها فهي: المُتَشَابِهُ، والمُؤَوَّلُ.
فالمُتَشَابِهُ هُوَ: النَّصُّ الَّذِي خَفِيَ مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إلى نَصٍّ آخَرَ لِبَيَانِهِ أو يَحْتَمِلُ عِدَّةَ أَوْجُهٍ، ومَنْهَجُ أَهْلِ الحَقِّ تَفْسِيرُهُ بِالمُحْكَمِ.
و أما المُؤَوَّلُ فهو: الدَّلَالَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَحْتَمِلُ مَعْنًى مَرْجُوحاً.
المبحث الرابع: مَعْرِفَةُ الإِسْرائيلِياتُ في التَّفْسِيرِ.
فالإسرائيلياتُ هي: قَصَصُ بَنِي إسرائيلَ وتنقسم إلى ثلاثة أنواعٍ.
النوع الأول: إسرائيلياتٌ جاءَ بها القرآنُ والسنَّةُ فهذه حجةٌ في التفسيرِ.
النوع الثاني: إسرائيليات جاءتْ في كتب بني إسرائيلَ ووَافَقَتْ شرعنا فهذه لا تُصدَّقُ ولا تُكذَّبُ، ويُستأنسُ بها في التفسيرِ.
النوع الثالث: إسرائيليات جاءت في كتب بني إسرائيل وخالفت شرعنا، فهذه تُرد باتِّفاقِ المُفَسِّرِينَ
المبحث الخامس: معرفة العَامِّ والخاصِّ، والمُطْلَقِ والمُقَيَّدِ
فالعامُّ هو: اللفظ المُسْتَغْرِقُ الشَّامِلُ كقوله تعالى: \" كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ \" و صيغُ العمومِ في اللغة كثيرة كلفظ \" كلٍّ\"، و\"ال\" للجنس والاستغراقِ، و\"النَّكِرةُ\" في سياق النفيِ أوِ النهيِ أو الشرطِ أو الاستفهامِ، و\"متى\" في عموم الزمان، و\"أينما\" في عموم المكان،و \"مَنْ\" للعاقل و، \"ما\" لغير العاقل، والمفرد المضاف.و أما الخَاصُّ فهو: اللفظُ المُسْتَثْنِي لبعض أفرادِ العمومِ كقوله تعالى: \" قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ \" .
و ينقسم التَّخْصِيصُ إلى تخْصيصٍ بالعقل، وتخصيصٍ بالحسِّ، و تخصيصٍ بالعرف وتخصيصٍ بالوصف، وتخصيصٍ بالنَّصِّ
و أما المُطْلَقُ فهو: ما دَلَّ على ذاتٍ غيرَ مُقَيَّدَةٍ بوصف، كقوله تعالى في كفارة اليمين: \" أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ\"
و أما المُقَيَّدُ فهو: الوصف الذي يُقَيِّدُ مُطْلَقَ الذَّاتِ كقوله تعالى في كفارة القتل الخطإ: \" وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ\" .و يُحمل المُطْلَقُ على المُقَيَّدِ إن اتفقا في السببِ والحُكْمِ أو اتفقا في الحُكْمِ واختلفا في السبب.
المبحثُ السادسِ: مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالمَنْسُوخُ.
النَّسْخُ هو: تَعْويضُ لَفْظٍ أو حُكْمٍ شَرْعِيٍ سَابِقٍ بدليلٍ شرعيٍ لاحقٍ،و ينقسم إلى أربعة أقسام: نسخُ القرآنِ للقرآنِ، ونسخُ السنةِ للقرآنِ،و نسخُ القرآنِ للسنةِ، ونسخُ السنةِ للسنةِ.
وينقسم النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسامٍ:
القسم الأول: ما نُسِخَ رَسْمُهُ وحُكْمُهُ.
القسم الثاني: ما نُسِخَ حُكْمُهُ وبَقِيَ رَسْمُهُ.
القسم الثالثِ: ما نُسِخَ رَسْمُهُ وبَقِيَ حُكْمُهُ.
المبحث السابع: مَعْرِفَةُ القُرْآنِ المَكِيِّ والمَدَنِيِّ.
فالقرآنُ المكيُّ هو: الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرةِ ويعرفُ بإخبارِ الصَّحابي ونبذِ الشِّرْكِ، وتأصيلِ العقيدةِ، وبلفظ \"يَا أَيُّهَا النَّاس\"، وذكر قَصَصِ الأمم السَّابِقَة وقوَّة الخطابِ.و أما القرآنُ المَدَنِيُّ فهو: الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهِجرةِ ويعرف بإخبار الصحابي، وبذكر الأحكام الفقهية، وبفضح المنافقينَ، وذكر بعض الغزوات، وانتقال الخطاب إلى أهل الكتاب، ولفظ \" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا \".و الفائدة من معرفة المكيِّ والمدنيِّ هي: تعميقُ الفهمِ لكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ ومعرفةِ الناسخِ والمنسوخِ
المبحث الثامن: مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ النُّزولِ.
فأسباب النزولِ هي: الأسئلةُ والحوادثُ التي كانت سبَباً في نزول القرآن زمن النبوَّةِ .
فقد يتعدَّدُ النَّازِلُ والسَّبَبُ واحدٌ، وقد تتعدد الأسباب والنازل واحد.و فائدة معرفتِها الوصول إلى المعنى الصحيح للقرآن الكريم، والسَّعة في الإطلاع على معانيه.
المبحث التاسع: مَعْرِفَةُ اخْتِلافِ التَّنَوُّعِ واختلافِ التَّضَادِ.
فاختلاف التَّنَوُّعِ هو: اتفاق المفسرينَ على معنى الآية مع اختلافِهم في التعبيرِ، أو تفسيرِهم للآية بمعاني مختلفة يسوغ الجمع بينهما.
و أما اختلافُ التَّضادِ فهو: تفسير الآيةِ بمعنيين أحدُهما راجحٌ والآخر مرجوحٌ.
المبحث العاشر: معرفة شروطِ المفسرِ.
شروطِ المفسرِ ثمانيةٌ:
الشرطُ الأولُ: التَّقْوَى والسَّمْتُ الحسن عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ»
الشرط الثاني: سلامة العقل والنَّفس من الأمراض.
الشرط الثالث: أن يكون مُلِمًّا بعلوم الآلة كاللغة وأصول الفقه ومصطلح الحديث.
الشرط الرابع: أن يكون مُلِمًّا بأصول العقيدة الصحيحة.
الشرط الخامس: أن يكون مُطَّلِعاً على كتب الحديث كالصحيحين، والسنن الأربعة، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد.
الشرط السادس: أن يكون له علم بفقه المذاهب الأربعة
الشرط السابع: أن يكون له علم بالتاريخ والسِّيَّر والمغازي.
الشرط الثامن: أن يكون له اطلاع واسع على تفاسير المتقدمين والمتأخرين.
تم بحمد الله
قائمة المصادر والمراجع
- كتاب رب العالمين: القرآن الكريم
- الكتاب: تفسير القرآن العظيم (ابن كثير)
المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)
المحقق: محمد حسين شمس الدين
الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت
الطبعة: الأولى - 1419 هـ
- الكتاب: تفسير الجلالين
المؤلف: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (المتوفى: 864هـ) وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى: 911هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: فتح القدير
المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)
الناشر: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت
الطبعة: الأولى - 1414 هـ
- الكتاب: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان
المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376هـ)
المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»
المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ)
الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس
سنة النشر: 1984 هـ
عدد الأجزاء: 30 (والجزء رقم 8 في قسمين)
- الكتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير
المؤلف: جابر بن موسى بن عبدالقادر بن جابر أبوبكرالجزائري
الناشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية
الطبعة: الخامسة، 1424هـ/2003م
عدد الأجزاء: 5
- الكتاب: التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
المؤلف: دوهبة بن مصطفى الزحيلي
الناشر: دار الفكر المعاصر - دمشق
الطبعة: الثانية، 1418 هـ
عدد الأجزاء: 30
- الكتاب: جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبوجعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
المحقق: أحمد محمد شاكر
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م
عدد الأجزاء: 24
- الكتاب: التيسير في القراءات السبع
المؤلف: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبوعمر والداني (المتوفى: 444هـ ) المحقق: اوتوتريزل
الناشر: دارالكتاب العربي - بيروت
الطبعة: الثانية، 1404هـ/ 1984م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: أسباب نزول القرآن
المؤلف: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (المتوفى: 468هـ)
المحقق: عصام بن عبدالمحسن الحميدان
قال المحقق: قمت بتوفيق الله وحده بتخريج أحاديث الكتاب تخريجا مستوفى على ما ذكر العلماء أو ما توصلت إليه من خلال نقد تلك الأسانيد
الناشر: دار الإصلاح - الدمام
الطبعة: الثانية، 1412 هـ - 1992 م
- الكتاب: متن الشاطبية = حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع
المؤلف: القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعيني، أبو محمد الشاطبي (المتوفى: 590هـ)
المحقق: محمد تميم الزعبي
الناشر: مكتبة دار الهدى ودار الغوثاني للدراسات القرآنية
الطبعة: الرابعة، 1426 هـ - 2005 م
عددالأجزاء: 1
- الكتاب: مناهل العرفان في علوم القرآن
المؤلف: محمد عبدالعظيم الزُّرْقاني (المتوفى: 1367هـ)
الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه
الطبعة: الطبعة الثالثة
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير
المؤلف: محمد بن محمد بن سويلم أبوشُهبة المتوفى: 1403هـ))
الناشر: مكتبة السنة
الطبعة: الرابعة
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: أصول في التفسير
المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين(المتوفى: 1421هـ)
أشرف على تحقيقه: قسم التحقيق بالمكتبة الإسلامية
الناشر: المكتبة الإسلامية
الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: القاضي عياض ومفهومه للإعجاز القرآني
المؤلف: أحمد جمال العمري
الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الطبعة: السنة العاشرة – العدد الثاني - 1397هـ - 1977 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه = صحيح البخاري
المؤلف: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي
المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر
الناشر: دار طوق النجاة
الطبعة: الأولى، 1422هـ
عدد الأجزاء: 9
الكتاب: المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
المؤلف: مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)
المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء: 5
- الكتاب: سنن أبي داود
المؤلف: أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275هـ)
المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد
الناشر: المكتبة العصرية، صيدا - بيروت
عدد الأجزاء: 4
- الكتاب: سنن الترمذي
المؤلف: محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ)
تحقيق وتعليق:
أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2)
ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3)
وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف (جـ 4، 5)
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر
الطبعة: الثانية، 1395 هـ - 1975 م
عدد الأجزاء: 5 أجزاء
- الكتاب: المجتبى من السنن = السنن الصغرى للنسائي
المؤلف: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303هـ)
تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة
الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب
الطبعة: الثانية، 1406 - 1986
عدد الأجزاء: 8
- الكتاب: سنن ابن ماجه
المؤلف: ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد (المتوفى: 273هـ)
تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: الموطأ
المؤلف: مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179هـ)
المحقق: محمد مصطفى الأعظمي
الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي - الإمارات
الطبعة: الأولى، 1425 هـ - 2004 م
عدد الأجزاء: 8 (منهم مجلد للمقدمة، و3 للفهارس)
- الكتاب: مسند ابن أبي شيبة
المؤلف: أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى: 235هـ)
المحقق: عادل بن يوسف العزازي وأحمد بن فريد المزيدي
الناشر: دار الوطن - الرياض
الطبعة: الأولى، 1997م
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: مسند الإمام أحمد بن حنبل
المؤلف: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)
المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون
إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م
- الكتاب: صحيحُ ابن خُزَيمة
المؤلف: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري (المتوفى: 311هـ)
حَققهُ وعَلّق عَلَيه وَخَرّجَ أحَاديثه وَقدَّم له: الدكتور محمد مصطفى الأعظمي
الناشر: المكتب الإسلامي
الطبعة: الثالثة، 1424 هـ - 2003 م
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: المعجم الكبير
المؤلف: سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ)
المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي
دار النشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة
الطبعة: الثانية
عدد الأجزاء: 25
- الكتاب: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان
المؤلف: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354هـ)
المحقق: شعيب الأرنؤوط
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
الطبعة: الثانية، 1414 - 1993
عدد الأجزاء: 18 (17 جزء ومجلد فهارس)
- الكتاب: المستدرك على الصحيحين
المؤلف: أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبيالطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفى: 405هـ)
تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، 1411 - 1990
عدد الأجزاء: 4
- الكتاب: العبودية
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
المحقق: محمد زهير الشاويش
الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت
الطبعة: الطبعة السابعة المجددة 1426هـ - 2005م
(هذه الرسالة مطبوعة أيضًا ضمن \"مجموع الفتاوى\" 10/149، وفي \"الفتاوى الكبرى\" 5/155)
- الكتاب: متن القصيدة النونية
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)
الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة
الطبعة: الثانية، 1417هـ
عدد الأجزاء: 1
الفهرس
المقدمة 3
تفسير الاستعاذة: 7
تفسير البسملة 10
مَتْنُ طَاِلبِ التَّفْسِيرِ 47
قائمة المصادر والمراجع 54
الفهرس 63. ❝ ⏤بستان علم النبوءة
❞ هدية إلى الأحباب
في تفسير أم الكتاب
ويليه
متن طالب التفسير
تأليف
أبي الحسن هشام
المحجوبي وأبي مريم
عبدالكريم صكاري
طبعة منقحة ومخرجة الأحاديث
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين˝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ˝ ˝يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا˝ ˝يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)˝
وبعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أجارنا الله جميعا من النار.
إن الله تعالى خلق الجن والإنس وأمرهم بعبادته فقال عزَّ من قائل ˝ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)˝ وبين سبحانه وتعالى كيفية عبادته في الكتب التي أنزل على أنبيائه وآخرها وأفضلها وناسخها القرآن الكريم قال تعالى: ˝ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ˝ ولايمكن أن يصل الإنسان إلى العبادة الصحيحة التي ترضي الله تعالى إلا من طريق علم التفسير الذي هو: علم يبحث في الكشف عن معاني القرآن على مراد الله وبمنهاج رسول الله وأصحابه، لذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحفظون عشرة آيات من القرآن فلا يتعدونها حتى يعلموا معناه ويعملوا بما فيها، عن ابن مسعود، قال: كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، ˝
فعلم التفسير يوصل إلى الفهم الصحيح للقرآن والفهم الصحيح يوصل إلى العمل الصحيح والعمل الصحيح يوصل إلى رضوان الله ورضوان الله يوصل إلى الجنة، لذا يعد علم التفسير سيد العلوم وأشرفها وسبيل النجاة من الضلالات والانحرافات والخرافات.
وجميع العلوم الشرعية خادمة له فلا يمكن أن يفسر عالم القرآن حتى يكون ملما باللغة العربية التي هي لغة القرآن وعلم العقيدة وعلم أصول الفقه والفقه وعلم مصطلح الحديث وعلم السير والمغازي، ومن بركات هذا العلم الكريم أن فاهم القرآن يتخشع في صلاته ويتدبر معانيه ويتلذذ بقراءته ما يدفعه إلى حفظ القرآن والإكثار من قراءته والتهجد والتنفل به قال تعالى: ˝ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ˝ وقال أبو جعفر ابن جرير الطبري: ˝ إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله، كيف يلتذ بقراءته ˝ .
وقد ورد في فضل طالب العلم الجليل أن رحمة الله تغشاه وتنزل عليه الملائكة والسكينة ويذكره الله في الملإ الأعلى، ففي الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» و أفضل سور القرآن الفاتحة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: ˝ هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ ˝ وعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: ˝ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24]. ثُمَّ قَالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ» . ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: «أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»، قَالَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2] «هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» و سميت بالفاتحة لأن المصحف يفتح بها وتفتح بها الصلاة، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قال، قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ومن أسمائها: أم الكتاب وأم القرآن، قَال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» أي المشتملة على أصول معاني القرآن اللذان هما توحيد الله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأصل الأول مضمن من أولها إلى قوله تعالى: ˝ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ˝ والأصل الثاني مضمن من قوله تعالى ˝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ˝ إلى آخرها ـ ومن أسمائها السبع المثاني والقرآن العظيم أي آياتها السبع التي استثنيت بها أمة النبي صلى الله عليه وسلم بالتفضيل على باقي الأمم قال تعالى: ˝ وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ˝ و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمُّ القُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ» و من أسمائها الراقية لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرقي بها من الأمراض فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ ؟فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَابِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ»، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا »فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا˝ ومن أسمائها الشافية أي يشفي الله بها عباده من الأمراض المعنوية كالضلال والأمراض الحسية، قال صلى الله عليه وسلم: ˝ فاتحة الكتاب شفاء من كل سم ˝ومن أسمائها الحمد لأنها تبتدئ به قال تعالى: ˝الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝
و من أسمائها الصلاة أي روحها الصلاة وقيل لا تصح الصلاة إلا بها فعن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ˝ قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: 1]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي – وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي – فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ˝
وقد سماها بعض العلماء بالكنز والأساس والكافية والواقية وغير ذلك.
فهي سورة مكية أي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وقيل مدنية وقيل نزل نصفها في مكة ونصفها في المدينة، وقيل نزلت مرتين في مكة وفي المدينة، والصحيح المشهور بين المفسرين القول الأول.
ولأن المؤمن يقرأ هذه السورة على الأقل سبع عشرة مرة في اليوم في صلواته المفروضة، أقبلنا على تفسير هذه السورة العظيمة بأسلوب ميسر ومفصل وجامع لأجود ما ذكره سادتنا المفسرون في تفاسيرهم راجين من الله تعالى القبول والثواب وأن يجمعنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومع خدمة كتابه الكريم في جنات النعيم إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تفسير الاستعاذة:
اتَّفق المفسِّرون أن(الاستعاذة)ليست من القرآن، وأشهر صِيغها الواردة في السُّنة: ˝أعوذ بالله من الشيطان الرجيم˝، ˝أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم˝، وزِيد عليهما في بعض الروايات ˝من همزه ونفثه ونفخه˝ ، وقد اشتق البعض من القرآن: ˝أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ˝ و ˝أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ˝ و˝أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ˝و ˝أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ˝
ويَجوز فيها السر والجهر على المشهور، وقد اختلف العلماء في موضع قراءتها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها قبل القراءة؛ لأن العِلة منها طرد وساوس الشيطان عند القراءة، وقدَّروا فِعل: فإذا أردت أن تقرأ القرآن، ˝فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ˝.
القول الثاني: يُحكى عن أبي هريرة وبعض العلماء أنها تكون بعد القراءة لطرد عُجب النفس والسُّمعة وعمَلاً بظاهر الآية: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ النحل: 98.
القول الثالث: ذهب بعض المفسِّرين إلى مشروعيتها قبل القراءة وبعدها عملاً بالوجهين، والمشهور القول الأول، وقد اختلفوا في حُكمها، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى وجوبها؛ لأن الأمر يفيد الوجوب ما لم تصرفه القرينة، والصحيح - والله تعالى أعلم - أن الأمر مصروف إلى الاستحباب لقرينة أنه صلى الله عليه وسلم استدل ببعض الآيات من غير أن يستعيذ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ»، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: 58]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ أي: ألتجئ وأعتصم وأتحَصَّن بالله من أذى الشيطان الرجيم، و˝أعوذ˝ فعل مضارع يُفيد الاستمرار عكس الفعل الماضي الذي يفيد الانقطاع،
والمعنى كأن الله تعالى يأمرنا بالمداومة على الاستعاذة؛ لأن الشيطان عَدُوٌّ مبين لا يَملُّ ولا يَكلُّ مِن سعْيه لإضلال الإنسان؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168، وقال على لسانه: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ الأعراف: 16، 17، وفي الحديث: ((إن الشيطان يبعث في الصباح سراياه فيقول من يُضلُّ اليوم مُسلمًا أُلبسه التاجَ))
وقد بُدئ الفعل المضارع بهمزة المضارعة لفائدتين - والله تعالى أعلم:
الفائدة الأولى: استدعاء حضور القلب عند القراءة؛ لأن الهمزة تُفيد الحضور.
الفائدة الثانية: استِشعار التواضع والتبرُّؤ من الكِبْر الذي أضل الشيطان، لأن الهمزة تُفيد الإفراد، ولو كانت بدَلها النون لأفادت الإحساس بالتعظيم.
الله: أصل الأسماء الحسنى وأعظمها، وهو المعبود الذي يتقرَّب إليه العباد بشتى الطاعات حبًّا وتعظيمًا، مشتق من ألَه يأْله إلهة؛ أي: عَبَد يعبد عبادة؛ ففي قراءة ابن عباس: ﴿ وَيَذَرَكَ وَإلَهَتَكَ ﴾، وقيل: الذي حيَّر العقول، مشتقٌّ من الولَه؛ أي: الحيرة وهو بعيد، وقيل: غير مشتق، والصحيح المشهور: القول الأول.
وأما الشيطان فهو الجِنِّي أو الإنسيُّ الكافر المُحارِب للإسلام، مشتقٌّ من شَطَن أي: بعُد عن رحمة الله، وقيل: الشِّياط، والمقصود في هذا السياق شيطان الجنِّ.
الرجيم: وصف له، وهو مفعول في معناه على وزن فعيل، قيل: سُمِّي بالرجيم لأنه أتى إبراهيم عليه السلام وهاجر وإسماعيل في منى، فاستعطف إبراهيمَ حتى لا يذبح ولده، فقال: أعوذ بالله منك فرجمه، ثم استعطف هاجر على ولدها فقالت: أعوذ بالله منك فرجمته، ثم استعطف إسماعيل عليه السلام على نفسه، فقال: أعوذ بالله منك فرجمه˝، فصار الرجم من مناسك الحج إلى يوم القيامة،
وقيل: سُمِّي بالرجيم؛ لأنه يسترق السمع في السماء فترجُمُه الملائكة؛ قال سبحانه: ﴿ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾ [الحجر: 18]، وقيل: وُصف بذلك لأن أتباعه يرجمونه في النار.
السميع: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه الذي لا يَخفى عليه صوت مهما خَفُت، وينقسم إلى سمع عام وهو الذي عرفناه، وسمع خاص ومعناه: الذي يستجيب دعاء عباده.
وأما العليم: فهو من أسماء الله الحسنى، ومن أسمائه أيضًا: العالم والعلّام والأعلم والخبير، ومعناه: صاحب العلم الواسع المطلق؛ بحيث لا يَخفى عليه شيء.
وأما الهمز والنفث والنفخ، فالهمز: جنس من الجنون يُقال له: الموتة، والنفث: الشِّعر القبيح، والنفْخ: الكِبر، فعن ابن جبير بن مطعم، عن أبيه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة، قال عمرو: لا أدرى أي صلاة هي، فقال: ((الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)) ثلاثًا، ((أعوذ بالله من الشيطان من نفخه، ونفثه، وهمزه)) ، قال: نفثه: الشِّعر، ونفخه: الكبر، وهمزه: الموتة.
تفسير البسملة
فالبسملة اختصار لـ ˝بسم الله الرحمن الرحيم˝ كالحمدلة والصلصلة والحوقلة، جاء في فضلها حديث موقوف حُكمه الرفع، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ˝مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ التِّسْعَةَ عَشَرَ فَلْيَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فيجعل اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا جُنَّةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ˝ .
ومعناها الإجمالي: طلب العون والبركة من الله وأسمائه الحسنى صاحِبِ الرحمة الشاملة والخاصة قبل الشروع في القول أو الفعل.
فالباء للاستعانة والتبرُّك، و˝اسم˝ مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، ومعناه اللفظ الذي وُضع للشيء لِرِفعة شأنه وتمييزه عن غيره، مشتق من السُّموِّ، وقيل: من السِّمة، والمعنى هنا: أستعين وأتبرك بجميع أسماء الله الحسنى؛ لأن المفرد المضاف يفيد العموم، كقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]؛ أي: جميع نعم الله؛ لأن ﴿ نِعْمَةَ ﴾ مفرد مضاف إلى اسم الجلالة.
الله: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وهو أعظم اسم من أسماء الله الحسنى؛ لذلك جاء مُبَيَّنًا بعد العموم؛ لأن الخاص بعد العام يفيد الأهمية والشرف، ومعناه المعبود الذي يَتقرب إليه العباد حبًّا وتعظيمًا بشتى الطاعات، مشتق من ألَه يأْله إلاهة؛ أي: عَبَد يعبد عبادة، قال سبحانه: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُو ﴾ [الحشر: 22]، وقد استنبط المحققون من أهل العلم من هذا الاسم العظيم أن المخلوقات في الأصل لا أول لها؛ لأنه سبحانه وتعالى الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء في ذاته وأسمائه وصفاته، ويلزم من هذا الاسم وجود العباد له، فالمخلوقات في جنسها وأفرادها لها أوَّل كما لها آخر، أما في أصل الخَلق فلا أول له؛ لأن من أسمائه اللهَ والخالق والرب وغيرها، والله تعالى أعلم.
الرحمن الرحيم: اسمان عظيمان من أسماء الله الحسنى، قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]، وهما بدل من الله تابعان له في جره، وقيل: نعت.
الرحمن: على وزن فعلان، وهذا الوزن يفيد السَّعَة والامتلاء؛ أي: صاحب الرحمة الشاملة التي تشمل جميع الخَلق، فلولاها لما رُزق الكافر قطرة ماء، قال سبحانه: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فعرشه سبحانه يتوسط الكون ويعلوه، وهو سبحانه وتعالى فوق عرشه يُغدق رحمته على جميع خلقه.
الرحيم: على وزن فعيل؛ أي: صاحب الرحمة الخاصة بالمؤمنين، فبها وُفِّقوا إلى طاعته وأُدخِلوا الجنة، قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، وفي الحديث الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فالجزء الأول يرجع إلى اسم الرحمن، والتسعة والتسعون جزءًا يرجعون إلى اسم الرحيم.
وقيل: الرحمن الذي إذا سُئل أعطى، والرحيم إذا لم يُسأل يغضب، وهما مشتقان من الرحم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ˝قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي فَمَنْ وصلها وصلته ومن قطعها بتته˝ .
والجار والمجرور متعلق بفعل تقديره: ˝أبدأ˝، ويجوز أن يُقدَّر اسمًا ˝ابتدائي˝ على أنه مبتدأ، والمشهور أن يُقدَّر فعلاً لبلاغته، ويجوز أن يُقدَّر خاصًّا: أقرأ أو أتلو، والأفضل - والله أعلم - أن يُقدر عامًّا ˝أبدأ˝؛ لأنه يشمل جميع العبادات والأفعال، فمثلاً تلاوة القرآن فيها القراءة والتدبر والنظر إلى المصحف.
والأصل أن يُقدَّر في أول الكلمة: ˝أبدأ بسم الله الرحمن الرحيم˝، لكن الأفضل أن يُقدر في آخرها: ˝بسم الله الرحمن الرحيم أبدأ˝؛ لأن تأخير ما حقُّه التقديم يفيد الحصر والقصر والاختصاص، فيكون المعنى: أي لا أطلب العون والبركة إلا من الله، وفي هذا إدخال للتوحيد في البسملة، الذي هو إفراد الله بالعبادة.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى استحبابها قبل الأقوال والأفعال؛ فبِها بدأ الله كلامه، وكان يبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أكله وشربه وجِماعه ودخوله إلى الخلاء ودخوله إلى البيت وخروجه منه، وغير ذلك.
واتفق العلماء أنها جزء آية من سورة النمل: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [النمل: 29، 30]، وأنها ليست في أول سورة التوبة التي فُضح فيها المنافقون ووُعدوا فيها بأشد العذاب، فلا يليق أن تُبدأ برحمة الله،
واختلفوا هل هي جزء آية من أول كل سورة، أو آية، أو ليست بآية أصلاً، أو آية من سورة الفاتحة؟ والصحيح - والله تعالى أعلم - الذي ترجح لنا أنها آية منفردة في المصحف ليست من السور، أُنزلت للفصل بينها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الفصل ما بين السورة والسورة، حتى ينزل عليه جبريل بـ˝بسم الله الرحمن الرحيم˝.
ويجوز الإسرار بها والجهر في الصلاة وغيرها؛ جمعًا بين الروايات.
وقد بيَّن القُرَّاء أوجه قراءتها، فأباحوا جميع الأوجه، ومنعوا واحدًا:
الأوجه الجائزة:
أولاً: الفصل بينها وبين آخر السورة وأول السورة التي تليها.
ثانيًا: الجمع بينها وبين آخر السورة وأول السورة التي تليها.
ثالثًا: الفصل بينها وبين آخر السورة وجمعها بأول السورة التي تليها.
رابعًا: حذفها بالكلية.
أما الوجه الممنوع؛ فهو جمعها بآخر السورة وفصلها عن أول السورة التي تليها؛ مخافة أن يُظنَّ أنها من آخر السورة، وفيه تعطيل لمعناها المتعلق بالبدء لا بالانتهاء.
فهذا تفسير البسملة الذي ينبغي لكل طالب علم أن يَعْلَمه ويُتقنه؛ لوجودها في أول كلام الله وأوائل المتون والكتب العلمية، ولكل مسلم؛ حتى يحضر قلبه ويخشى ربه ويتذوق حلاوة البَدء بها.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1)﴾:
إعراب الآية:
الحمد: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
لله: ل: حرف جر، الله: اسم جلالة مجرور اختياري وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وشبه جملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مبتدأ.
رب: بدل من الله تابع له في جره وقيل نعت تابع له في جره وهو مضاف.
العالمين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء.
وجه المناسبة بين البسملة وهذه الآية والله تعالى أعلم أن الله تعالى يعد قارئ القرآن ومفسره والعامل به بالرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة
و المعنى الإجمالي للآية أي جميع الثناء والشكر والمدح مستحق لله تعالى خالق ومالك ومدبر جميع شؤون خلقه ˝فالحمد˝ هو الثناء على شيء بحب وتقدير وهو قريب من الشكر والمدح، فالفرق بينه وبين الشكر من وجهين.
فالحمد أعم من الشكر من جهة السبب فهو يكون مقابل الإحسان وفي غيره، نقول: ˝ فلان يحمد على حسن خلقته ˝ كما يقال: ˝ يحمد على حسن ضيافته ˝ فأما الشكر فلا يكون إلا مقابل الإحسان فهو أعم من الحمد من جهة الآلة فهو يكون باللسان والجوارح وأما الحمد فيكون باللسان قال تعالى: ˝اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ˝سورة سبأ – الآية: 12، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا» و أما الفرق بين الحمد والمدح:
- فالحمد يكون بحب وأما المدح فيكون بحب وبغير حب.
- والحمد يكون للعاقل والمدح يكون للعاقل وغير العاقل نقول مدح شاعر الحمراء مراكش،
- والحمد يكون موجزا وأما المدح فيكون في الأغلب أوسع من الحمد، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحمد أفضل ذكر بعد القرآن الكريم لأن الله تعالى بدأ به كتابه الكريم وأثنى به على نفسه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ به خطبه، إذ ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبدأ به خطبه فيقول:
«إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ» و هو ذكر أهل الجنة يلهمونه كما يلهمون النفس فهو في الدنيا تكليف وفي الآخرة تشريف، قال تعالى: ˝ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) ˝. سورة يونس الآيات: 9- 10
و هو ذكر الحافين بالعرش قال تعالى: ˝وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝ سورة الزمر - الآية: 75
و لازِمه جميع معاني الأذكار فما استَحق الثناءَ سبحانه وتعالى إلا وهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له المنزه عن النقص والرذائل الأكبر من كل شيء، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ˝ أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ˝ : فيحمل على من أفضل، ومثال ذلك عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: ˝ أَنْ يُسْلِمَ قَلْبُكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ ˝، قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ الْإِيمَانُ ˝، قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: ˝ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ˝، قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ الْهِجْرَةُ ˝، قَالَ: فَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: ˝ تَهْجُرُ السُّوءَ ˝، قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ الْجِهَادُ ˝، قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: ˝ أَنْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إِذَا لَقِيتَهُمْ ˝، قَالَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ ˝، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ˝ ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا: حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ˝
˝ رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝
˝رَبِّ ˝: الرب لغة: السيد أو المالك نقول رب الأسرة، وقال سيدنا يوسف على العزيز ˝ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ˝سورة يوسف – الآية: 23
و شرعا: هو الخالق المالك المدبر، من أسماء الله الحسنى المتضمنة لصفات أصلية لازمها باقي صفات الكمال فهو سبحانه ما كان خالقا ومالكا ومدبرا حتى كان عليما خبيرا غنيا حكيما رزاقا.
˝الْعَالَمِينَ˝: جمع عالم قيل هو كل جنس مخلوق عاقل كعالم الملائكة وعالم الإنس وعالم الجن، وقيل كل جنس مخلوق فيه روح، وقيل كل جنس مخلوق على الإطلاق وهو الصحيح المشهور.
فهذه الآية الكريمة اشتملت على أصل الإسلام العظيم الذي هو التوحيد فتوحيد الألوهية مضمن في قوله تعالى ˝: الحمد لله ˝ وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات مضمن في قوله تعالى: ˝رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝، وهنا لنا وقفة لبيان التوحيد.
إنّ توحيد الله لا يتحقق إلا إذا قام على التصديق بأن الله هو الربّ والإله الذي لا شريك له ولا مثيل.
لقد أكد كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على حقيقة التوحيد في صيغ متعددة. فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1- 4]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾سورة البقرة – الآية: 163، وقوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ المائدة - الآية: 73
وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ˝لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: ˝إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيه أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى..˝
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ˝بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ ˝
إنه ولِما لتوحيد الله من أهمية بالغة فقد حرص علماء الإسلام على تبيان الأصول التي يقوم عليها وما يقتضيه الإيمان بكل واحد منها.
توحيد الله وأصوله: يقوم توحيد الله تعالى على ثلاثة أصول هي:
1- توحيد الربوبية.
2- توحيد الألوهية.
3- توحيد أسماء الله وصفاته.
هذه الأصول هي حسبما اهتدى إليه العلماء متضمَّنة في الآية: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]، فتوحيد الربوبية متضمَّن في شق الآية: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، أما توحيد الألوهية فمتضمَّن في: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾، وأما توحيد أسماء الله وصفاته فمُتضمن في: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ أي هل تعلم له شبيها ومثيلا في أسمائه وصفاته.
1- توحيد الربوبية:
يعني توحيد الله في الربوبية إفراده سبحانه بالخلق والملك والتدبير، أي الاعتقاد الجازم بأن لا خالق ولا مالك ولا مُدبر في الكون إلا اللهُ سبحانه وتعالى.
لقد نص القرآن الكريم على ربوبية الله فذَكر تفرده سبحانه بالخلق على غيره، قال تعالى: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾سورة فاطر- الآية: 3، كما أفرد الله نفسه بالملك فقال: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك: 1]، أما الدليل على إفراد الله ذاته بالتدبير فنجده في قوله تعالى: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾سورة الأعراف – الآية: 54، والمراد بالأمر هنا التدبير.
2- توحيد الألوهية:
يعني توحيد الألوهية إفرادَ العبد ربَّه بالعبادة. والعبادة كما عرَّفها ابن تيمية هي: ˝اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة˝ ، قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 3
إن الإنسان لا يصير مُوحِّدًا حتى تكون عبادته كلها موجهة لله دون غيره، بحيث لا يدعو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه ولا يستعين إلا به ولا يحب شيئا مثل حبه ولا يخاف من شيء مثل خوفه ولا يرضى بالتحاكم بغير شرعه سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، فتوحيد الألوهية هو حقّ الله على العباد، لأنه خلقهم ورزقهم فاستحق بذلك عبادتهم، وقد وعد سبحانه وتعالى من أفرده بالعبادة بالجنة والنجاة من النار، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل: ˝ يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ˝يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ ˝، فقال معاذ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: ˝يُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ˝
لقد كان غالبية المشركين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُقِرُّون بتوحيد الربوبية، وهو ما أكده القرآن في حديثه عنهم، حيث قال تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [الزخرف: 88]، لكنهم كانوا يرفضون الإقرار بتوحيد الألوهية فمنعهم ذلك من الدخول في الإسلام، لأن الدخول فيه لا يتم إلا إذا رافق توحيد الربوبية توحيد الألوهية.
3- توحيد أسماء الله تعالى وصفاته:
يعني توحيدُ أسماء الله تعالى وصفاتِه، إفرادَ الله تعالى بأسمائه التي سمّى بها نفسه وصفاته التي وصف بها ذاته في كتابه والتي أخبر بها رسوله - صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الأصل في التوحيد لَيُبيّن للعبد سبيل التعرف على ربه والتأدب معه في الحدود التي ارتضاها سبحانه لمقامه. ويقتضي الإيمان به مراعاة القواعد التسع التالية:
أولها: لا تُستمد أسماء الله تعالى وصفاته إلا من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأنها غيب والغيب لا يُعلم إلاَّ من الوحي. قال الله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ النجم: 1، 4.
ثانيها: التسليم بأن جميع أسماء الله تعالى حسنى في منتهى الحسن، وبأن صفاته كاملة في منتهى الكمال. قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 181]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ˝إن الله جميل يحب الجمال ˝
ثالثها: يجب إثبات أسماء الله تعالى وصفاته كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله دون تحريف ولا تشبيه ولا نفي مع تفويض كيفيتها إلى الله. إن تفسير غنى الله سبحانه وتعالى في الآية: ﴿ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 41]، بالقدرة هو تأويل لا يجوز، أما القول بأن غناه - سبحانه وتعالى - مثل غنى أغنى الناس، فهو تشبيه لا يجوز، وأما الزعم بأن الله غني من غير غنى فهو نفي وتعطيل لا يجوز.
إن هذه التأويل يعارض قول الله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ففي قوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ نفي الشبيه عن الله، وفي قوله: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ إثبات لأسماء الله تعالى وصفاته.
إن الفهم الصحيح للآية: ﴿ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾سورة التغابن – الآية: 6، يقتضى التسليمَ بأن الله غني غنى مطلقًا ليس كغنى خلقه الذي يتسم بالمحدودية والحاجة له - سبحانه.
رابعها: لا يجوز اشتقاق أسماء الله تعالى من صفاته، بينما يجوز اشتقاق صفاته تعالى من أسمائه. قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾سورة طه – الآية: 5، لا يجوز لنا هنا أن نشتق من صفة ˝الاستواء˝ اسم ˝المستوي˝. أما في قول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾، فيجوز لنا إضفاء صفة الغنى على الله؛ لأنها جاءت متضمّنة في اسم الغني ولأن أسماءه سبحانه وتعالى أتت دالة على كماله.
خامسها: لا يجوز حصر أسماء الله عز وجل في تسعةٍ وتسعين اسمًا لوجود دليل من السنة نَصَّ على أن هناك أسماء أخرى استأثر الله تعالى بعلمها وحده دون غيره.
لقد دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القول في دعائه: ˝أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ..˝
إن هذا الدعاء ليشير إلى وجود أسماء استأثر الله بعلمها وحده، ولهذا يُحمل الحديث النبوي: ˝لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة˝
على أن عدد هذه الأسماء جاء على سبيل الذكر لا الحصر.
سادسها: إن للهِ تعالى صفات ذاتية وأخرى فعلية. أما صفات الله الذاتية فهي الصفات اللازمة لذاته كصفة البركة والحياة والعلم واليد والوجه.
وأما صفات الله الفعلية فهي صفات تابعة لمشيئته كصفة الاستواء على العرش وصفة الرضى وصفة الغضب، فهو يفعلها متى شاء ويدعها متى شاء.
سابعها: لا يجوز أن يُفرَد الله تعالى بصفات كالمكر والاستهزاء والخداع لما فيها من تنقيص منه سبحانه بل يعمد إلى مقابلتها بأفعال المخلوقين. إنها لا تطلق على الله إلا فيما سيقت فيه من الآيات كقوله تعالى: ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾. سورة آل عمران – الآية: 54، وقوله: ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 14، 15]، وقوله: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142].
ثامنها: لا يجوز التفصيل في الصفات التي نفاها الله عن ذاته لما يحمله ذلك من قلة أدب في حق الله عز وجل، ويُسمى كل ما نفاه الله عن ذاته صفاتًا سلبية لما فيها من نقص كنفي الولد والنوم؛ قال تعالى: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾، وقال - سبحانه -: ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾، فمثلاً إذا قال إنسان لملِك أنت لست فقيرًا ولا ضعيفًا ولا ذليلًا ولو كنت كذلك لما صرت ملكًا، فلا شك أن مثل هذه الأوصاف لا تُلاقى بالتَّرحاب.
تاسعها: إذا أطلقنا على الله اسم ˝الصانع˝ و˝المقصود˝، فإن ذلك يعد حقًّا في ذاته - سبحانه - لأنه في حقيقة الأمر صانع للكون، ومقصود بالعبادة والرجاء، ولو لم يرد دليل مباشر في الكتاب والسنة على ذلك؛ لذا فقد سمى العلماء ما كان حقًّا في ذات الله، ولم يرد به نصٌّ إِخبارًا.
إن لتوحيد سبعة شروط تسمى عند العلماء بأركان وشروط لا إله إله إلا الله و لا يصير المرء موحدا حتى يحققها، فالركنان هما: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله: قال تعالى: ˝ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ˝ سورة البقرة - الآية: 256
وقال أيضا: ˝ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ˝سورة الزخرف - الآيات: 26-27 فالكفر بالطاغوت متجلي في قوله عليه السلام: ˝ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ˝و الإيمان بالله متجلي في قوله: ˝ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ˝
فالكفر بالطاغوت هو نفي استحقاق العبادة عن غير الله ويدخل فيه بغض كل مدع للألوهية وجهاده إن توفرت الشروط الشرعية المبينة في كتب العقيدة والفقه.
والطاغوت لغة: هو المتجاوز لحده،
وشرعا هو كل مجاوز حده من معبود أو متبوع أو مطاع برضاه، وقد يعرف بكل مشارك لله في حقه على الناس الذي هو العبادة، ورؤوس الطواغيت خمسة:
الرأس الأول: الشيطان، قال تعالى: ˝ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ˝سورة النحل – الآيات: 36
الرأس الثاني: كل من دعى الناس لعبادة نفسه، كفرعون قال تعالى: ˝ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ˝ سورة الفجر، الآيات: 6-12
الرأس الثالث: كل من عبد من غير الله ورضي وسكت.
الرأس الرابع: كل من ادعى علم الغيب وتعامل مع الشياطين لإذاية الناس كالسحرة والعرافين، قال تعالى: ˝ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ˝ سورة النساء – الآية: 51
الرأس الخامس: الحاكم الذي يستحل الحكم بغير ما أنزل الله، قال تعالى: ˝ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ˝سورة النساء – الآية: 60 وأما إن كان يعتقد أن شرع الله هو الحق وحكم بغيره بسبب هوى في نفسه أو حرص على مصلحة دنيوية فهو واقع في الشرك الأصغر الذي لا يخرج من الملة ولا يدخل في الطواغيت.
و أما الإيمان بالله فهو التصديق بوجوده وإفراده بما يختص به على الوجه الذي بيناه في معنى التوحيد، وهو يتضمن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله على وجه الإجمال والتفصيل، وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص.
و أما شروط التوحيد التي تسمى عند العلماء بشروط لا إله إلاّ الله فهي سبعة: العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والانقياد.
الشرط الأول: العلم معنى التوحيد وهو إدراك معنى التوحيد بدليله. فالإنسان لا يمكن أن يعمل بشيء ويُطَبّقه في حياته حتى يعلمه. فالعلم لازم للعمل، قال الله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ ﴾. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ˝من مات وهو يعلم لا إله إلاّ الله دخل الجنة˝
الشرط الثاني: اليقين وهو اعتقاد التوحيد من غير شك. قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾سورة الحجرات – الآية: 15. وقال تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾سورة إبراهيم – الآية: 10
الشرط الثالث: الصدق وهو استقامة الظاهر والباطن على توحيد الله سبحانه وتعالى وطاعته. قال سبحانه وتعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقينَ ﴾ سورة التوبة – الآية: 119. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ [ص: 38] مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . وضد الصدق النفاق، فهو من أشرَّ الكفر بالله ويعني إبطان الكفر وإظهار الإسلام. قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾سورة النساء – الآية: 145
الشرط الرابع: الإخلاص، وهو الابتغاء بالتوحيد والعمل به وجَه الله تعالى وثوابه دون رياء ولا سمعة. قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ سورة البينة – الآية: 5. وقال سبحانه وتعالى أيضا: { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ﴾سورة الزمر – الآية: 14. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ˝أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ ˝ وللإخلاص قوادح تفسده، يجب معرفتها واجتنابها.
القادح الأول: الرياء، وهو فعل العبادة أمام الناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ» القادح الثاني: السمعة، وهي ذكر العبادة والعمل الصالح للناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» أي من سمَّع في الدنيا أسمع الله النّاسَ عيوبه يوم القيامة. والسمعة أخطر من الرياء، لأن الإنسان قد يفعل عبادة ويُخلِص فيها ثم يفسدها بالسمعة بعد سنين.
الشرط الخامس: المحبة، وتعني حبَّ الله تعالى وحبّ ما يحبّ وكراهية ما يكره؛ لقد نعت الله عباده المؤمنين بأنهم أشد الناس حبا له، فهم لا يتخذون من دونه أنداداً كما يفعل غيرهم، قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ﴾سورة البقرة-الآية: 165 وعلامة حب العبد ربَّهُ تقديم كل ما يُحب الله على ما يحبه هو وتميل إليه نفسه، وبغض جميع ما يُبغِض ربُّه وإن مالت إليه نفسه.
الشرط السادس: القَبول، ويعني أن نقبل بالتوحيد كما هو دون أدنى تردّد أو تمنُّع. لقد حدثنا الله تعالى في كتابه عن حال الأمم التي استكبرت ورَدّت كلمة التوحيد متَّهِمَةً من دَعاها إليها بالجنون فقال: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴾. سورة الصافات – الآيات: 35-36. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصحا: ˝قل آمنت بالله ثم استقم˝
الشرط السابع: الانقياد، وهو الإذعان لأمر الله تعالى بالرضى المستحق. قال تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾، وقال أيضا: ﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾سورة لقمان – الآية: 22 ومعنى ﴿ يُسْلِمْ وَجْهَهُ ﴾ أي يذعن، ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾أي موحد، والعروة الوثقى فسّرها علماء الإسلام بـ˝لا إله إلاّ الله˝
و لا يقبل الله تعالى توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات من العبد إلا من طريق توحيد الاتباع بعد بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو إفراد النبي صلى الله علي وسلم بالمتابعة في الدين فقد أجمع العلماء أن من وصلته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه فهو كافر قال تعالى: ˝ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ˝سورة النساء – الآية: 65وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» وقال أيضا: ˝ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي ˝ .
و لا يحقق العبد توحيد الاتباع إلا بالشروط السبعة التالية:
الشرط الأول: العلم بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم.
إن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يتم إلا بمعرفة سنته - صلى الله عليه وسلم -. قال - صلى الله عليه وسلم -: ˝عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ˝ وقال أيضا: ˝طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ˝ ومِن أَوْجَبِ العلمِ تَعلُّمُ سنته - صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثاني: محبته - صلى الله عليه وسلم.
وتعني أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ للمسلم من نفسه وولده، فعن أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» و قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب: ˝ لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ˝ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ˝الآنَ يَا عُمَرُ˝
الشرط الثالث: التصديق بما أخبر به - صلى الله عليه وسلم.
إنَّ كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعدّ وحيا من الله، لذا وجب تصديقه سواء كان خبراً ماضيا كقَصص الأنبياء والصالحين، أو خبراً حاضراً كأحوال الملائكة والجن، أو خبراً مستقبَلا كعلامات الساعة وأحوال أهل الجنة والنار. قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ﴾سورة الحديد – الآية: 28.أي صدِّقوه فيما قال.
الشرط الرابع: طاعته - صلى الله عليه وسلم-.
أمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سورة الأنفال – الآية: 20. أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد قال: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» ومن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك ما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾[31]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ˝مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا˝
الشرط الخامس: تحقيق عبادة الله على منهاجه - صلى الله عليه وسلم.
إن الله سبحانه وتعالى لا يقبل عبادةً حتى تكون على سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: ﴿ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾سورة الأعراف – الآية: 158. أي تَأسَّوْا به في عبادتكم لربكم.
الشرط السادس: الإيمان بأفضليته - صلى الله عليه وسلم.
إن رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل الرسل دون تنقيص من رسول أو تحقير. قال - صلى الله عليه وسلم -: ˝ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..˝
الشرط السابع: الإيمان بخاتَمِيَّته - صلى الله عليه وسلم.
ويعني الاعتقاد الجازم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو آخر الأنبياء والمرسلين؛ قال الله تعالى: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾.سورة الأحزاب – الآية: 40، فلا يقبل مسلم بِمُدَّعٍ لنُبُوَّة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهما كانت مكانته. قال - صلى الله عليه وسلم -: ˝لا نبيّ بعدي˝ . أي لَا لِأحد أن يدَّعي النبوة بعدي.
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن الحمد خير ذكر بعد القرآن، لذا بدأ به سبحانه قرآنه.
- جميع المحاميد مستحقة له سبحانه لكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
- من أسمائه سبحانه وتعالى ˝ الله ˝ وهو: المعبود الذي يتقرب إليه العباد بشتى الطاعات حبا وتعظيما.
- أن من أسمائه سبحانه ˝الرب˝ وهو الخالق المالك المدبر.
- اشتملت الآية على أقسام التوحيد الثلاثة وهي: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
˝الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ˝
إعراب الآية:
الرحمان: بدل من الله تابع له في جره وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وقيل نعت تابع لمنعوته في جره.
الرحيم: لها نفس إعراب الرحمان
مر تفسيرها معنا في البسملة ووجه المناسبة والله أعلم بينها وبين الآية التي قبلها أن الله تعالى يعد موحده وحامده بالرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة فهي قبله في البسملة وبعده في هذه الآية قال تعالى: ˝ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ˝ سورة الأحزاب - الآيات: 43-44
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن من أسمائه سبحانه: ˝الرحمان˝ وهو صاحب الرحمة الواسعة التي تشمل جميع الخلق.
- أن من أسمائه سبحانه وتعالى: ˝الرحيم ˝ وهو صاحب الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين.
- يستحب أن يقرن الرحمان بالرحيم في الدعاء وغيره لورود الآية بذلك وبيان فضل الله تعالى على عباده المؤمنين الذين خصهم بالرحمة الأخروية من دون سائر الناس.
˝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ˝:
إعراب لآية:
مالك: بدل من الله تابع له في جره وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره وقيل نعت تابع لمنعوته في جره وهو مضاف.
يوم: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره.
الشرح:
˝ مَالِكِ ˝: أي المتصرف في يوم القيامة وقرئت أيضا ب ˝ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ˝ أي الحاكم المتصرف وهو أبلغ من مالك مشتق من الملك أما الأول فإنه مشتق من المِلك فكل ملك مالِك وليس كل مالِك ملك وجميع آيات القرآن تأتي بضم الميم كقوله تعالى: ˝لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ˝سورة المائدة – الآية: 120 وقوله تعالى: ˝ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ˝سورة غافر - الآية: 16
وقوله تعالى: ˝ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ˝ سورة البقرة - الآيات: 106و من أسمائه سبحانه ˝ مالك وملك ومليك ˝ قال تعالى: ˝ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) ˝ سورة القمر - الآيات: 54-55
و معناه صاحب الملك الواسع.
˝ يَوْمِ الدِّينِ ˝: هو يوم الجزاء لأن الله تعالى يبعث فيه الناس ليجزيهم على أعمالهم فمن كان مسلما وغلبت حسناته سيئاته دخل الجنة، وإن غلبت سيئاته حسناته دخل النار حتى يطهر من الذنوب فيدخل الجنة إلا إذا غفر الله له أو أدركته شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد المؤمنين فإنه يدخل الجنة من أول مرة،
و أما الكافر فمآله النار خالدين فيها أبدا وبئس المصير قال تعالى: ˝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) ˝ سورة البينة - الآيات: 6-8
وقيل سمي بيوم الدين: لأنه اليوم الذي ينصر فيه الإسلام ويظهر للجميع أنه الحق.
و من أسمائه ˝ يوم القيامة ˝: أي اليوم الذي يقوم فيه الخلق من قبورهم للحساب والجزاء قال تعالى: ˝ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ˝ سورة القيامة – الآية: 1
و من أسمائه: ˝ يوم الفصل ˝: قال تعالى: ˝ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ˝سورة الدخان - الآيات: 40 أي اليوم الذي يفصل فيه الله بين الكفر والإيمان والحق والباطل والظالم والمظلوم،
و سمي أيضا ˝ بيوم التغابن ˝: أي اليوم الذي يَغبُنُ فيه أهل الجنة أهل النار قال تعالى: ˝ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ˝ سورة التغابن – الآية: 9
و سمي ˝ بيوم الجمع ˝ لأنه تعالى يجمع فيه جميع الخلق فلا يفلت منهم أحد، قال تعالى: ˝ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ˝سورة التغابن – الآية: 9
وسمي ˝ بالغاشية ˝: لأنه يُطبق على الناس ويغشاهم بحيث لا يجدون منه مفرا قال تعالى: ˝ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ˝ سورة الغاشية – الآية: 1
و سمي ˝بالقارعة ˝ لأنه يقرع القلوب بأهواله، قال تعالى: ˝ الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) ˝ سورة القارعة
و سمي بيوم الحشر: لأن الناس يحشرون فيه، قال تعالى: ˝ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ˝ سورة يونس – الآية: 28
و سمي بالواقعة: أي يقع على الناس فجأة، قال تعالى: ˝إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ˝ سورة الواقعة – الآيات: 1-2
و سمي: ˝بالحاقة ˝: أي يحق فيه ما أنكر من البعث والحساب والجزاء والقرآن، قال تعالى: ˝ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)˝سورة الحاقة – الآيات: 1-3
و سمي بيوم البعث: لأن الناس يبعثون فيه من قبورهم، قال تعالى: ˝ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ˝. سورة يس– الآية: 51
و سمي بيوم الحساب: لأن الناس يحاسبون فيه على أعمالهم، قال تعالى: ˝ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ˝ سورة الانشقاق – الآيات: 7-8
و سمي˝ بالساعة˝: لأنه هو وقت تحول الناس من الدنيا إلى الآخرة، قال تعالى: ˝قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ˝ سورة الأنعام – الآية: 30
و سمي بالصاخة: قال تعالى: ˝ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ˝ سورة عبس- الآية: 33قال البغوي رحمه الله: ˝ الصاخة ˝ يعني صيحة يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها.
و سمي بالطامة الكبرى: قال تعالى: ˝ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ˝سورة النازعات – الآية: 34 قال البغوي في تفسيره: وسميت القيامة ˝ طامة ˝ لأنها تطم على كل هائلة من الأمور، فتعلوا فوقها وتغمر ما سواها والطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع .
و سمي بالمعاد: قال تعالى: ˝ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ˝سورة القصص – الآية: 85
و سمي بيوم التلاقي: لأن العبد يلتقي فيه بربه، قال تعالى: ˝رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ˝سورة غافر – الآية: 15
و سمي بيوم الوعيد: قال تعالى: ˝وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ˝سورة ق – الآية: 20 أي اليوم الذي يتوعد فيه الله تعالى الظالمين بأشد العذاب.
و هو تعالى مَلك ومالك ليوم القيامة وغيره، وإنما خص يوم القيامة بالمُلك في هذا السياق والله تعالى أعلم لبيان عظمت ذلك اليوم الذي ينتهي فيه ملك كل أحد ويبقى ملك الواحد الأحد سبحانه قال الله تعالى: ˝لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ˝سورة غافر – الآية: 16، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ˝ يَطْوِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ. ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ˝
و فسرت هذه الآية بالقادر على إقامة يوم الدين وهو ضعيف من جهة اللغة والشرع فالمُلك منفصل عن القدرة ومن أسمائه تعالى الملك والمالك والقادر والقدير فيبعد تفسير المُلك بالقدرة.
ووجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هاته الآية والآيتين السابقتين أنه تعالى سيرحم أهل القرآن والتوحيد والحمد يوم القيامة ويرون ذلك بأعينهم قال تعالى: ˝ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ˝سورة الحديد – الآية: 12
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن من أسمائه تعالى: ˝المالك˝ وهو المتصرف.
- أن من أسماه تعالى: ˝الملك˝ وهو الحاكم المتصرف.
- أن يوم القيامة لا ريب فيه.
- أن من أصول الإيمان الإيمان بيوم القيامة التي يقوم فيها الناس ليحاسبوا ويجزوا على أعمالهم، لذا ذكره سبحانه وتعالى في أعظم سورة في القرآن الكريم.
- أن من أسماء يوم القيامة: ˝ يوم الدين ˝ أي يوم الجزاء.
˝إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ˝:
إعراب الآية:
إيا: ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم.
الكاف: حرف خطاب مبني على الفتح.
نعبد: فعل مضارع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره نحن.
الواو: واو العطف.
إياك نستعين: جملة فعلية معطوفة على الآية التي قبلها.
الشرح:
العبادة لغة: مأخوذة من قول العرب الطريق معبد أي ممهد للسير.
و شرعا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ˝ هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ˝
أي كل قول أو فعل دل دليل على أن الله يحب أن يتقرب له به فهو داخل في مسمى العبادة، كالدعاء والركوع والسجود والذبح والصوم والحكم وغير ذلك، ولكل عبادة منها ركنان وشرطان لا تصح العبادة إلا بهما.
الركنان هما: تمام الحب وتمام الذل له سبحانه، قال تعالى: ˝ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ˝ وقال أيضا: ˝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ˝سورة المائدة – الآية: 54 وقال أيضا في سورة المؤمنين: ˝ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ˝ وقال أيضا في سورة البقرة: ˝ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ˝
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وعبادة الرحمن غاية حبه.. مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر.. ما دار حتى قامت القطبان
وأما الشرطان فهما الإخلاص لله والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى ˝ فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ˝ أي من كان يريد حسن اللقاء مع ربه يوم القيامة فليصلح عمله باتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا يرد به غير وجه ربه الأعلى، وقال أيضا: ˝ وما كان لمومن ولامومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ˝
فالإخلاص لغة هو الصفاء نقول: ˝ خالص ماء الورد ˝
و شرعا هو: الابتغاء بالعبادة رضوان الله وتوابه دون رياء ولا سمعة ولا مصلحة دنيوية، قال تعالى: ˝ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء..˝ وقال أيضا: ˝ قل الله أعبد مخلصا له ديني ˝
و له ثلاثة قوادح تفسده وبالتالي تفسد العبادة على صاحبها.
القادح الأول: الرياء وهو: إظهار العبادة لناس ابتغاء إعجابهم، قال صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ˝ أنا أغنى الشركاء عن الشرك من أشرك بي شيئا تركته وشركه˝ وقال عليه الصلاة والسلام: ˝ أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي، قيل ما الشرك الخفي يا رسول الله، قال: الرياء ˝ وفي رواية: ˝ يزين الرجل صلاته ليراها الرجل ˝
القادح الثاني: السمعة وهي: تحديث الناس بالعبادة ابتغاء إعجابهم، قال صلى الله عليه وسلم: ˝ من رأى راء الله به ومن سمع سمع الله به ˝ أي من سمع في الدنيا أسمع الله عيوبه الناس يوم القيامة.
القادح الثالث: فعل العبادة ابتغاء مصلحة دنيوية: كالذي يدعي التدين ليتزوج من امرأة تقية، أو الذي يطلب العلم ليشتهر به ويحصل المال والجاه: قال تعالى: ˝ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ˝، فعن عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» أما الاتباع لغة: تقفي الأثر.
و شرعا: موافقة العبادة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في الأصل والتفاصيل والسبب والعدد والصفة والزمان والمكان والقدر والجنس.
المقصود بالأصل: أن يكون لها دليل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
و التفاصيل: أي توافق سنة النبي صلى الله عليه في الجزئيات المضمنة في الأصل.
و السبب: مثل دعاء دخول المسجد فسببه هو دخول المسجد.
و العدد: مثل عدد ركعات الصلاة.
و الصفة: كموافقة هيئة النبي صلى الله عليه والسلام في الصلاة أو في الحج.
و الزمان: كأداء الصلاة في وقتها الذي بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
و المكان: كأداء ركعتي تحية المسجد في المسجد.
و القدر: كإخراج زكاة المال من القدر الذي بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
و الجنس: كالتضحية في العيد بجنس الأنعام.
و أما الاستعانة فهي طلب العون من الله، فهي عبادة قلبية لها علاقة بالدعاء، قال تعالى: ˝ وعلى الله فليتوكل المومنون ˝ وقال أيضا: ˝ فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ˝ وقال صلى الله عليه وسلم: ˝فإذا استعنت فاستعن بالله ˝
و لا يجوز أن تطلب في الأصل من غير الله إلا بشروط.
الشرط الأول: أن يعتقد المستعين أن المستعان به أعانه بقدر الله وتوفيقه.
الشرط الثاني أن يكون المستعان به حيا.
الشرط الثالث: أن يكون المستعان به حاضرا.
الشرط الرابع: أن يكون المستعان به قادرا على الإعانة. والدليل على هذه الشروط، قوله تعالى: ˝فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ˝ سورة القصص – الآية: 15
و المعنى الإجمالي للآية ˝ إياك نعبد وإياك نستعين˝ ألا نتقرب بالعبادة ولا نطلب العون على ذلك وغيره إلا منك سبحانك.
ف˝إِيَّا ˝: ضمير منفصل مبني في محل نصب مفعول به مقدم والأصل في المفعول به أن يؤخر عن الفعل، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والقصر والاختصاص، أي لا نعبد غيرك ولا نستعين بغيرك، والكاف حرف خطاب يفيد وجوب حضور القلب في الصلاة لأن انتقال الخطاب من الغائب إلى الحاضر يستدعي الانتباه وحضور القلب، ويفيد أيضا قرب الله تعالى من عبده خاصة في الصلاة فمن أسمائه تعالى ˝القريب˝ قال تعالى: ˝ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) ˝ سورة البقرة – الآية: 186وقال عليه الصلاة والسلام: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» و من معاني هذه الآية الكريمة: أنه تعالى يعظم عباده الموحدين لأن نون الجمع في فعل المضارع ˝ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ ˝ تفيد التعظيم إذا أطلقت على الفرد قال تعالى: ˝ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ˝ وفيها إشارة إلى أن المؤمنين أمة واحدة متماسكة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا لدلالة النون على الجماعة، قال تعالى: ˝ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ˝سورة الأنبياء – الآية: 92 وقال أيضا: ˝ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ˝سورة الأنعام - الآية: 159 وقال صلى الله عليه وسلم: ˝ مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ˝ وعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» و فيها إشارة إلى أن الأصل في صلاة الرجل الجماعة لدلالة النون عليها قال سبحانه وتعالى: ˝ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ˝ وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» وفي رواية: «تَفْضُلُهَا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» و قد اختلف العلماء في حكمها بين القول أنها شرط صحة في الصلاة وأنها واجبة وأنها سنة مؤكدة والمشهور من مذهب الإمام مالك أنها سنة مؤكدة والله تعالى أعلم.
و من معانيها أيضا أنه تعالى يحب أن يستمر عباده على الطاعة لأن الفعل المضارع يفيد الاستمرار عكس الفعل الماضي الذي يفيد الانقطاع، قال تعالى: ˝ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ ˝سورة إبراهيم – الآية: 27 وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ» و ينبغي الإشارة إلى تنبيه قارئ هذه الآية من خطإ شائع يحرف معناها ويبطل الصلاة إن كان بتقصير وهو نطق الياء مخففة من غير شدة ˝إيَاك˝ ف ˝الإيَا ˝ هو ضوء الشمس فيصير المعنى ضوء شمسك نعبد ونستعين.
و وجه المناسبة بين هذه الآية والآيات التي قبلها والله تعالى أعلم أن الله تعالى يحاسب الناس يوم القيامة على العبادة لا على الخِلقة والأرزاق والآجال.
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن أعظم أصل في الدين هو التوحيد.
- أن الله تعالى يعظم عباده الموحدين.
- أنه تعالى يحب أن يكون عباده جسدا واحدا كالبنيان المرصوص.
- أن صلاة الرجل مع الجماعة سنة مؤكدة.
- أنه ينبغي للعبد أن يطلب العون من الله على العبادة وغيرها.
- أن الخشوع من واجبات الصلاة.
- أن الله تعالى قريب من عباده المؤمنين.
- أنه تعالى يحب أن يستمر عباده على الطاعة.
˝اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ˝
اعراب الآية:
اهدنا: فعل أمر بمعنى الدعاء مبني على حذف الياء والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت، نا: ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول.
الصراط: مفعول به ثان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
المستقيم: نعت تابع لصراط في نصبه وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
شرح الآية:
أي وفقنا وأرشدنا برحمتك ومنك وكرمك إلى طريق الجنة الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام.
اهْدِنَا: دعاء، ويكون الدعاء بصيغة الأمر ممن هو أسفل إلى من هو أعلى،
والهداية تنقسم إلى قسمين هداية توفيق وهداية دعوة وإرشاد.
فهداية التوفيق لا يملكها إلا الله سبحانه وهي في قوله تعالى: ˝ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ˝ وفي قوله تعالى: ˝ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ˝ وفي قوله تعالى: ˝ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ˝
و أما هداية الدعوة والإرشاد فهي: إرشاد الناس إلى الحق والخير وتحذيرهم من الضلال والشر، وقد جعلها سبحانه وتعالى بيد أنبيائه ودعاته، وهي في قوله تعالى: ˝ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ˝ وفي قوله تعالى: ˝ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ ˝
و في هذه الآية الكريمة ˝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ˝ استحباب أن يكثر المؤمن من الدعاء لنفسه ولأخوانه المسلمين، قال سبحانه: ˝ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ˝ وقال أيضا: ˝ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ˝ وقال تعالى: ˝ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ˝ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ˝ إن الله يحب العبد الملحاح ˝ أي كثير الدعاء وقال أيضا: ˝ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير ˝
و قد عبر سبحانه وتعالى في هذه الآية على الإسلام بالصراط المستقيم لأنه منهاج حياة متكامل وقويم يدفع الإنسان إلى الخير ويبعده عن الشر ويوصله إلى رضوان ربه وجنته، قال تعالى: ˝ قد جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ˝ وقال تعالى: ˝ إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) ˝
الإسلام في اللغة هو الاستسلام.
وفي الشرع هو الانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى بالإخلاص والرضى المستحق له سبحانه. فهو مبنيّ على الاستجابة للأمر الإلهي من غير اعتراض ولا تمَنّع. وينقسم إلى قسمين: إسلام عامّ وإسلام خاص. الإسلام العام هو الاستجابة والانقياد لأمر الله تعالى في كل زمان، فهو دين جميع الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم. والدليل قوله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾. وقال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾.
وأما الإسلام الخاص فهو اتّباع شرع محمد - صلى الله عليه وسلم -. فالله عز وجل لا يقبل شرعا ولا دينا بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - إلا دينه - عليه الصلاة والسلام -. قال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾. وفي الحديث الصحيحالذي رواه الامام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، وَمَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ». وقال - صلى الله عليه وسلم -: ˝لو كان أخي موسى حيّا ما وسعه إلا أن يتّبعني˝.
وضد الإسلام الكفر، ويعني في اللغة: التغطية، تُسمّي العرب الزُّرّاع بالكفار لأنهم يغطون الزرع. قال الله تعالى: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾، أي الزّراع. وفي الشرع هو رفض الإسلام وله سبعة أصول تَرجع إليها جميع شعب الكفر وصوره.
الأصل الأول: كُفر الشرك، وهو عبادة غير الله معه كدعاء الأموات والذبح لهم وحب شيء مثل حب الله والخوف من شيء مثل خوف الله والرضى بالتحاكم لغير شرع الله إلخ. قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾. وقال سبحانه وتعالى في شرك المحبة: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ وينقسم الشرك إلى شرك أكبر وشرك أصغر. الشرك الأكبر سُمّي بالأكبر لأنه يُخرج من الإسلام، وهو الذي عرّفناه. وأما الشرك الأصغر فهو الذنب الذي سُمّي بالشّرك في الشرع ولا يُخرج من الإسلام، لذا سُمّي بالأصغر، إلا أنه أقبح من كبائر الذنوب، ونذكر بعض أنواعه:
النوع الأول: الحَلِفُ بغير الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ˝من حلَف بغير الله فقد أشرك˝
النوع الثاني: الشرك اللفظي، وهو الشرك في اللّفظ دون القصد، كقول الرجل لولا الله والكلب لسُرق البيت، والصحيح أن يقول لولا الله ثم الكلب، لأن الواو تفيد المعية والتسوية وأما ثُمّ فتفيد التراخي، أي الكلب بعد الله. قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ˝لو شاء الله وشئت، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أجعلتني لله نِدّا، قل ما شاء الله وحده˝ وفي رواية: ˝قل لو شاء الله ثم محمد˝. وفي حديث آخر: ˝رأى رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه يمشي في طريق من طرق المدينة، فالتقى بنفر من اليهود قال نِعم القوم أنتم اليهود، لولا أنكم تقولون عُزير ابن الله، فقالت اليهود نِعم القوم أنتم المسلمون لولا أنكم تقولون لو شاء الله ومحمد، ثم التقى بنفر من النصارى فقال لهم نِعم القوم أنتم النصارى لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، فقالت النصارى نِعم القوم أنتم المسلمون لولا أنكم تقولون لو شاء الله ومحمد، فلما أصبح الرجل ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال - صلى الله عليه وسلم - اجمَعُوا الناس ثم صعد المنبر وقال يأيها الناس لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ ˝
النوع الثالث: الرياء، وهو إظهار العبادة للناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ» النوع الرابع: السمعة، وهي إخبار الناس بالعبادة ابتغاء ثنائهم وإعجابهم، وهي داخلة في الشرك الخفي.
النوع الخامس: التّطيّر، وهو التشاؤم بأشياء معينة كالرجل الأسود أو الهِرّ الأسود. وسُمّي بالتطير لأن العرب في الجاهلية كانوا إذا همّوا بالخروج إلى سفر أطلقوا طائرا، فإن طار يمينا تفاءلوا وسافروا وإن طار شمالا تشاءموا ورجعوا. قال - صلى الله عليه وسلم -: ˝الطِّيَرة شرك˝. وأما التفاؤل بالخير فلا بأس به، كالتفاؤل بالأذان أو سماع القرآن أو رؤية رجل صالح، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه الفأل الحسن.
الأصل الثاني: كُفر الجحود والعناد، وهو التكذيب بالإسلام رُغم العلم بصِدقه ككفر آل فرعون، قال سبحانه وتعالى في حقهم: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾، أي كفروا بلا إله إلاّ الله رُغم علمهم بصدقها.
الأصل الثالث: كفر التكذيب، وهو الكفر بالإسلام جهلا بصِدقه، قال سبحانه وتعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ الأصل الرابع: كفر الإيباء والاستكبار، وهو الكفر بالإسلام بسبب احتقار أهله ككفر إبليس، قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾ الأصل الخامس: كفر الشك، وهو التردد في صدق الإسلام، قال سبحانه: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ الأصل السادس: كفر الإعراض، وهو إهمال الإسلام وترك تعلّمه والعمل به، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾. وقال تعالى أيضا: ﴿ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ﴾ الأصل السابع: كفر النفاق، وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾. وقال تعالى أيضا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾ وينقسم الكفر إلى كفر أكبر وكفر أصغر، الكفر الأكبر هو الذي بيّنّا أصوله وأما الكفر الأصغر فهو الذنب الذي سُمّي في الشرع بالكفر ولا يُخرج من الإسلام، لذلك سُمّي بالأصغر كقتال المؤمن، قال - صلى الله عليه وسلم -: ˝سِباب المؤمن فسوق وقتاله كفر˝ والدليل الذي صَرَف الكفر في الحديث من الكفر الأكبر إلى الكفر الأصغر قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾. قال الحافظ بن كثير فقد أثبت سبحانه وتعالى الإيمان لِكلا الطائفتين رُغم اقتتالهم.
وموانع اتباع الكفار للإسلام ستة:
المانع الأول: التعصب لما كان عليه الآباء والأجداد، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾سورة البقرة – الآية: 170
المانع الثاني: اتباع الهوى، وهو شهوة النفس، قال سبحانه: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾سورة ص – الآية: 26
المانع الثالث: الكِبْر، وهو احتقار الناس والتعالي عليهم، فهو السبب الذي منع إبليس من الإسلام. قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾.سورة البقرة – الآية: 35
المانع الرابع: الخوف من زوال مصلحة دُنيوية كالملك أو المال أو الجاه، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ﴾سورة التغابن الآية: 15.وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» أي الحرص على المال والجاه يُفسد الدِّين كما يفسد الذنبان الجائعان الغنم. وقد كان الحرص على المُلك سببا في ارتداد هِرقل ملك الروم بعدما آمن.
المانع الخامس: الحسد، وهو تمنِّي زوال النعمة عن الغير، فهو من أسباب كُفر اليهود لأنهم حسدوا العرب على (النبي صلى الله عليه وسلم) وعلى القرآن. قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ سورة البقرة – الآية: 109.
المانع السادس: الجهل، وهو هنا عدم معرفة الإسلام، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ﴾. سورة التوبة – الآية: 6
و وجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هذه الآية والآية التي قبلها أنه تعالى:
- لا يقبل عبادة من أحد حتى يكون مسلما، قال تعالى: ˝وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) ˝ سورة آل عمران – الآية: 85
- أن من آداب الدعاء أن يبدأ بالثناء على الله لأن الآيات التي قبل هذه الآية ثناء عليه سبحانه.
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن التوفيق إلى الحق بيد الله سبحانه وتعالى.
- استحباب أن يدعو المؤمن لنفسه وإخوانه.
- أن الله تعالى لا يقبل دينا غير الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
- أن الإسلام هو منهاج الحياة القويم والمتكامل الذي يدفع البشرية إلى السعادة ويبعدها عن الشقاوة في الدنيا والآخرة.
˝صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ˝
إعراب الآية:
صراط: بدل تابع للمبدل منه في نصبه وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر مضاف إليه.
أنعمت: فعل ماض مبني على السكون والتاء ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل.
عليهم: على: حرف جر، هم: ضمير متصل مبني على الكسر في محل جر اسم مجرور، وجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
شرح الآية:
أي دين ومنهاج الذين أنعم الله عليهم بالمنهاج القويم والدين الحق والسعادة الدنيوية والجنة والنظر إلى وجه الله في الآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
قال تعالى: ˝وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)˝سورة النساء – الآيات: 69-70
والنبي هو الرجل الإنسي العاقل المعصوم من الكفر والكبائر والرذائل والمكلف بتبليغ رسالة ربه،فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول والفرق بينهما على أرجح أقوال أهل العلم،
الرسول هو: الذي أوحي إليه بشرع جديد غالبا ويبعث إلى قوم مشركين،وقلنا غالبا ليخرج من القاعدة سيدنا إسماعيل عليه السلام فهو رسول نبي أبقاه الله على شرع أبيه ابراهيم عليه السلام،وأما النبي فهو: الذي أوحي إليه بإحياء شرع من قبله غالبا ويبعث إلى قوم مؤمنين وقلنا غالبا لأنه يستثنى من القاعدة آدم عليه السلام فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبي ولا شك أن لا شرع قبله لكونه أبو البشر وقد أخطأ من عرف النبي بالذي أوحي إليه بالرسالة ولم يؤمر بالتبليغ والرسول أمر بالتبليغ لأن هذا يتنافى مع الحكمة الإلهية المطلقة ويتعارض مع قوله تعالى : ˝ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ˝سورة آل عمران – الآية: 187
فأما الصديق فهو المبالغ في الإخلاص لربه والصدق في دينه كسيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه قال تعالى: ˝ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ˝ سورة الحديد – الآية: 19
و أما الشهيد فهو الذي قتل في جهاد مشروع لتكون كلمة الله هي العليا، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (لو يشار لمن له حكم الشهيد كقوله صلى الله عليه وسلم قال: «المبطون شهيد، والمطعون شهيد» صحيح البخاري (7/ 131))
و أما الصالح هو الذي يصلح حياته وآخرته بامتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه قال تعالى: ˝ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ˝ سورة الأعراف – الآية: 170
و وجه المناسبة بين هاته الآية والله تعالى أعلم والآية التي قبلها، أن الإسلام هو الدين الحق والمنهاج القويم الذي ينعم أتباعه بالسعادة الدنيوية والأخروية، قال تعالى: ˝ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ˝. سورة القلم – الآيات: 35-36
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء والصالحين في كل مكان وزمان.
- أن الإسلام هو أقوم منهاج حياة يكفل للإنسان السعادة الدنيوية والأخروية.
- أن أعظم نعمة هي الهداية إلى العمل بالإسلام لأن الإنسان يعيش بها كريما سعيدا وينال بها السعادة الأبدية وهي الجنة،
- أن من صفاته سبحانه وتعالى ˝ الإنعام˝ وليس من أسمائه المنعم، لأن اسم الله يشتق من الاسم لا الفعل قال تعالى: ˝ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ˝ سورة النحل – الآية: 53
˝غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ˝
إعراب الآية:
غير: بدل تابع للمبدل منه في جره المضمر في عليهم وقيل المضمر في الذين أو نعت تابع له في جره وهو مضاف.
المغضوب: مضاف إليه
عليهم: جار ومجرور متعلق بالمغضوب
و: الواو للعطف
لا: زائدة لتأكيد والتنبيه.
وقد قرئت الراء بالفتح ˝ غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ˝ (وهي قراءة شاذة): أي لا تجعلنا على دين ومنهاج الذين غضب الله عليهم بسبب تركهم العمل بالعلم كإبليس واليهود ومن كان على شاكلتهم ولا الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم بسبب جهلهم بالدين كرهبان النصارى وغلاة الخوارج والتصوف ومن كان على شاكلتهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وإنَّ الضَّالِّينَ النَّصَارَى» و ينقسم العمل بالعلم إلى كفر ومعصية ومكروه ومباح.
فالكفر: كترك اعتقاد أصول الإيمان والعمل بالتوحيد
و أما المعصية كشرب الخمر مع العلم أنها حرام
و أما المكروه: كترك المستحبات.
و أماالمباح: كترك العمل بسنن العادات مثل طريقة مشيته صلى الله عليه وسلم وما يحبه من المأكولات.
و الكفر والمعصية يوجبان غضبه سبحانه قال تعالى: ˝وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ˝سورة البقرة الآية: 61
وقال أيضا: ˝ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ˝سورة البقرة – الآية: 90
و ينقسم الضلال إلى كفر وبدعة:
فالكفر هو الذي دل الدليل على أنه يخرج من الإسلام كاعتقاد إيمان وصلاح إبليس قال تعالى: ˝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ˝سورة آل عمران – الآية: 90
و أما البدعة في هذا السياق: فهي التقرب بعبادة إلى الله لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذكر بالشطحات والرقصات الطرقية، قال تعالى: ˝ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ˝سورة النساء – الآية: 115 وقد دلت هذه الآية ˝غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ˝ على صفة فعلية من صفاته تعالى وهي الغضب، فهو تعالى يغضب غضبا يليق به لا كغضب الخلق،
والصفات الفعلية تابعة لمشيئته سبحانه وتعالى فهو يغضب متى شاء على من شاء بعدل مطلق وحكمة بالغة وإرادة نافذة.
و وجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هاته الآية والآية التي قبلها:
أصل الولاء والبراء، فالولاء حب الله تعالى وحب جميع محبوباته وهو مضمن في قوله تعالى: ˝اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ˝
و البراء هو بغض جميع مبغوضاته تعالى وهو مضمن في قوله تعالى: ˝غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ˝
قال تعالى: ˝ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ˝سورة الممتحنة – الآية: 4و قال أيضا: ˝و إذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) ˝ سورة الزخرف - الآيات: 26-27
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن من صفاته تعالى الفعلية الغضب.
- أن الله تعالى يغضب على من ترك العمل مع علمه به.
- لزوم وصف الضلال لكل جاهل بالإسلام.
- أن المغضوب عليهم والضالين في النار عكس المنعم عليهم.
- أن العالم التارك للعمل أشر من الجاهل لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين.
- أن من أراد أن يرض ربه عنه ويكون على صراطه المستقيم فعليه الجمع بين العلم والعمل.
آمين:
اتفق المفسرون أنها ليست من الفاتحة إنما هي جواب على الدعاء المضمن في الفاتحة ومعناها: ˝ اللهم استجب ˝
و حكمها: تجب على المأموم إن أمن الإمام لقول النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ˝ إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ˝
و أما إذا لم يؤمن الإمام فلا يجوز للمأموم أن يؤمن فعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ˝ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، ˝
و وقت تأمين المأموم بعيدة تأمين الإمام والدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال: ˝ إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا ˝
و محل الشاهد أن أمن فعل ماض يفيد الانقطاع وقيل يؤمن مع الامام والراجح القول الأول.
و يستحب التأمين للمنفرد والامام، وفي الصلاة السرية للمأموم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمن في هذه الحالات، ويجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: تَرَكَ النَّاسُ التَّأْمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ: ˝ ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]، قَالَ: «آمِينَ» حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَيَرْتَجُّ بِهَا الْمَسْجِدُ ˝
و يستحب أيضا أن يُمد بها الصوت فعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7] فَقَالَ: ˝ آمِينَ ˝ يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ˝
و نقول في النهاية أن سورة الفاتحة بحر شاسع من العلم والحكم والمواعظ البليغة مهما درسنا وتحرينا وجمعنا وكتبنا فلن نصل إلى ساحله وأملنا في الله أن يتقبل منا ما كتبناه ويحفظه بما حفظ الذكر الحكيم ويكتب له الانتشار والقبول بين الناس ويجعله هاديا إلى الصراط المستقيم والمنهاج السليم ورضوان الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله يوم الأحد 18رمضان 1436 بمدينة مراكش الحمراء. على الساعة السابعة مساء
و الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
مَتْنُ طَاِلبِ التَّفْسِيرِ
تأليف
أبي الحسن هشام المحجوبي
و
أبي مريم عبد الكريم صكاري
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحمدُ لِلهِ مُبَيِّنِ القرآنِ بسنة خيرِ الآنامِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وعلى آل بيتهِ وصحابتهِ الكرامِ.
عِلْم أُصولِ التفسيرِ
اِعلمْ وفقكَ اللهُ أنَّ أُصولَ التَّفسيرِ عِلمٌ يبحثُ في الأصولِ والقواعدِ والمناهجِ الشرعيةِ التي توصلُ المفسِّرَ إلى المعنى الصحيحِ لكتابِ اللهِ، وأولُ من ألفَ فيهِ الإمامُ أبو جعفرَ مُحمدٌ اِبنُ جريرٍ الطبريُّ في مقدمةِ تفسيرهِ ˝جَامِعُ البَيَانِ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ ˝ وحُكمهُ فرضُ كِفايةٍ، وأمَّا ثَمرتُهُ فهي صَوْنُ الفهمِ عنِ الخَطإِ في تأويلِ كتابِ اللهِ.
وَ يشتمِلُ هذا العلمُ على عدَّةِ مباحثَ.
المبحثُ الأولُ: معرفةُ المنهجيةِ الصَّحيحةِ للتفسيرِ.
فالتفسيرُ هو: الكَشفُ عن معاني القرآنِ.
و منهجيَّتُهُ الصَّحِيحةُ هي: تَفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ وتفسيرُ القرآنِ بالسنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وتفسيرُ القرآنِ بأقوالِ الصَّحابةِ وتفسيرُ القرآنِ بأقوالِ التابعينَ وتفسيرُ القرآنِ باللغةِ العربيةِ.
المبحثُ الثَّانِي: مَعرفةُ الدَّلاَلاَتِ اللغويةِ الَّتِي يحتاجُ إِليهَا المُفسرُ.
كالخبرِ والإنشاءِ والمشتركِ المعنوي والمترادفِ.
فالخبرُ: هوَ كلُّ قولٍ يحتملُ الصِّدقَ والكذبَ ؛ كقولِكَ: ˝خليلٌ يقرأُ القرآنَ˝.و أمَّا الإنشاءُ فهوَ مَا لاَ يحتمِلُ الصدقَو لا الكذِبَ ويتضمَّنُ كلاً منَ الأمرِ والنَّهيِ والدُّعاءِ والإلْتِمَاسِ والإستفهامِ والتمنِّي و الرجاءِ والعرْضِ والتَّحْضِيضِ والقسمِ والذَّمِّ والمدحِ وصيغِ البيعِ.فالأمرُ: هو طلبُ الفعلِ مِمَّنْ هوَ أَعلى إلى مَنْ هوَ أَدْنى على سبيلِ الوجوبِ حتَّى تصرفَهُ قرينَةٌ إلى النَّدبِ أو الإباحَةِ، ويكونُ بصيغةِ إفعلْ أو مُضَمَّنا في الخبرِ.و أمَّا النَّهْيُ: فهو طلبُ تركِ الفعلِ مِمَّنْ هو أعلى لِمَنْ هوَ أدْنَى على سبيلِ المنْعِحتَّى تَصْرِفَهُ قرينَةٌ إلى الكَراهةِ، ويكونُ على صِيغَةِ لا تفعلْ أو مضمنا في الخبر.
و أما الدُّعاءُ: فهو طلبٌ مِمَّنْ هو أدْنَى إلى مَنْ هو أَعْلى.و أمَّا الإلْتِمَاسُ: فَهُوَ طلبٌ مِنْ مُساوٍ.و أَمَّا الإسْتِفْهامُ: فهوَ تَوْجيهُ السُّؤالِ.و أمَّا التَّمَنِّي: فهو الرَّغْبَةُ في شَيْءٍ بعيدِ المنالِ.
و أمَّا الرَّجَاءُ: فهوَ الرغبة في شيء قريبِ المنالِ.و أما العرْضُ: فهو طَلَبُ الشَّيْءِ برفْقٍ ولِينٍ.و أما التَّحْضيضُ: فهو طلب الشيء بشدةٍ.و أما القَسَمُ: فهو الحلفُ.و أما الذَّمُّ: فهو ذِكْرُ المَعَايِبِ .و أما المدحُ: فهو ذكر المحاسنِ.و أما صِيَغُ البيعِ: كقولك بِعتُكَ كذا بكذا.
النوع السادس: إطلاقُ الكُلِّ على الجُزءِ ؛
كقَول الله تَعَالَى في الحديثِ القدسي: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ˝
النوع السابع: إطلاق المُسَبَّبِ على السَّبَبِ ؛ كقوله تعالى: ˝وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ˝
النوع الثامن: إطلاق السبب على المسبب ؛ كقوله تعالى: ˝أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ˝
و أما المُشْتَرَكُ: فهو اللَّفْظُ الواحدُ الَّذي يتضمَّنُ عِدَّةَ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً مثل كلمةِ ˝اشْتَرَى ˝
وينقسمُ إلى مشتركٍ حرفيٍ ومشتركٍ اسميٍ ومشتركٍ فِعليٍ.
و أما المُترادِفُ فهو اللألْفَاظ المُخْتلِفةُ في البناءِ والمُتَّفِقةِ في المعنى كالعلْمِ والمعْرِفةِ.
المبحث الثالث: معرفةُ دَلَالَاتِ التفسيرِ
تنقسمُ دلالاتُ التَّفْسيرِ إلى دلالاتٍ يُحتَجُّ بها وإلى دلالات لا يُحتَجُّبها.
الدلالات التي يحتج بها هي: المُحْكَمُ، والظَّاهِرُ، والمُبَيَّنُ، والمَنْطوقُ، ومَفْهومُ المُوافقةِ، ومفهومُ المخالفةِ، ودلالةُ السِّيَّاقِ، ودلالةُ الإشارةِ، ودلالةُ الاِقْتِضاءِ، ودلالةُ الإيماءِ.
فالمُحْكَمُ هُوَ: النَّصُّ الواضحُ، بحيثُ لا يَحتاجُ إلى نصٍ آخرَ لِبيانِ معناهُ وأما الظَّاهر فهو: الدَّلالةُ الشَّرْعِيَّةُ المُتَضَمِّنَةُ لِمعنى راجحٍ.
وأما المُبَيَّنُ فهو: الدَّلَالَةُ الشَّرْعيةُ المُفَسِّرَةُ لِلْمُتَشَابِهِ.
و أما المَنْطُوقُ فهو: دَلَالَةُ الَّلفْظِ الظَّاهِرَةِ. وأما مفهوم المُوَافَقَةِ فهو: المعنى المَسْكُوتُ عَنْهُ المُوَافِقِ لِلْمَنْطُوقِ.
و أما مفهوم المُخَالَفَةِ فهو: المعنى المَسْكُوتُ عنه المُخَالِفِ لِلْمَنْطُوقِ.و أما دَلَالَةُ السِّيَّاقِ فهي: المعنى الذي قَبْلَ الكَلَامِ وبَعْدَهُ، ويسمى الذي قَبْلَ الْكَلَامِ بالسِّبَاقِ والَّذي بعدهُ بالِّلحاقِ.
و أما دلالة الإشارةِ فهي: المعنى التَّابِعُ لِلْمَقْصُودِ مِنَ النَّصِّ.
و أما دلالة الاقْتِضَاءِ فهيَ: الَّلفْظُ المُقَدَّرُ الَّذِي لَوْلَاهُ لَمَا اسْتَقَامَ معنى النَّصِّ.و أما دلالة الايماءِ فهي: الوَصْفُ الذي لولاه لَمَا كان للدليل معنى.
و أما الدلالات التي لا يُحْتَجُّ بها فهي: المُتَشَابِهُ، والمُؤَوَّلُ.
فالمُتَشَابِهُ هُوَ: النَّصُّ الَّذِي خَفِيَ مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إلى نَصٍّ آخَرَ لِبَيَانِهِ أو يَحْتَمِلُ عِدَّةَ أَوْجُهٍ، ومَنْهَجُ أَهْلِ الحَقِّ تَفْسِيرُهُ بِالمُحْكَمِ.
و أما المُؤَوَّلُ فهو: الدَّلَالَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَحْتَمِلُ مَعْنًى مَرْجُوحاً.
المبحث الرابع: مَعْرِفَةُ الإِسْرائيلِياتُ في التَّفْسِيرِ.
فالإسرائيلياتُ هي: قَصَصُ بَنِي إسرائيلَ وتنقسم إلى ثلاثة أنواعٍ.
النوع الأول: إسرائيلياتٌ جاءَ بها القرآنُ والسنَّةُ فهذه حجةٌ في التفسيرِ.
النوع الثاني: إسرائيليات جاءتْ في كتب بني إسرائيلَ ووَافَقَتْ شرعنا فهذه لا تُصدَّقُ ولا تُكذَّبُ، ويُستأنسُ بها في التفسيرِ.
النوع الثالث: إسرائيليات جاءت في كتب بني إسرائيل وخالفت شرعنا، فهذه تُرد باتِّفاقِ المُفَسِّرِينَ
المبحث الخامس: معرفة العَامِّ والخاصِّ، والمُطْلَقِ والمُقَيَّدِ
فالعامُّ هو: اللفظ المُسْتَغْرِقُ الشَّامِلُ كقوله تعالى: ˝ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ˝ و صيغُ العمومِ في اللغة كثيرة كلفظ ˝ كلٍّ˝، و˝ال˝ للجنس والاستغراقِ، و˝النَّكِرةُ˝ في سياق النفيِ أوِ النهيِ أو الشرطِ أو الاستفهامِ، و˝متى˝ في عموم الزمان، و˝أينما˝ في عموم المكان،و ˝مَنْ˝ للعاقل و، ˝ما˝ لغير العاقل، والمفرد المضاف.و أما الخَاصُّ فهو: اللفظُ المُسْتَثْنِي لبعض أفرادِ العمومِ كقوله تعالى: ˝ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ˝ .
و ينقسم التَّخْصِيصُ إلى تخْصيصٍ بالعقل، وتخصيصٍ بالحسِّ، و تخصيصٍ بالعرف وتخصيصٍ بالوصف، وتخصيصٍ بالنَّصِّ
و أما المُطْلَقُ فهو: ما دَلَّ على ذاتٍ غيرَ مُقَيَّدَةٍ بوصف، كقوله تعالى في كفارة اليمين: ˝ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ˝
و أما المُقَيَّدُ فهو: الوصف الذي يُقَيِّدُ مُطْلَقَ الذَّاتِ كقوله تعالى في كفارة القتل الخطإ: ˝ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ˝ .و يُحمل المُطْلَقُ على المُقَيَّدِ إن اتفقا في السببِ والحُكْمِ أو اتفقا في الحُكْمِ واختلفا في السبب.
المبحثُ السادسِ: مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالمَنْسُوخُ.
النَّسْخُ هو: تَعْويضُ لَفْظٍ أو حُكْمٍ شَرْعِيٍ سَابِقٍ بدليلٍ شرعيٍ لاحقٍ،و ينقسم إلى أربعة أقسام: نسخُ القرآنِ للقرآنِ، ونسخُ السنةِ للقرآنِ،و نسخُ القرآنِ للسنةِ، ونسخُ السنةِ للسنةِ.
وينقسم النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسامٍ:
القسم الأول: ما نُسِخَ رَسْمُهُ وحُكْمُهُ.
القسم الثاني: ما نُسِخَ حُكْمُهُ وبَقِيَ رَسْمُهُ.
القسم الثالثِ: ما نُسِخَ رَسْمُهُ وبَقِيَ حُكْمُهُ.
المبحث السابع: مَعْرِفَةُ القُرْآنِ المَكِيِّ والمَدَنِيِّ.
فالقرآنُ المكيُّ هو: الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرةِ ويعرفُ بإخبارِ الصَّحابي ونبذِ الشِّرْكِ، وتأصيلِ العقيدةِ، وبلفظ ˝يَا أَيُّهَا النَّاس˝، وذكر قَصَصِ الأمم السَّابِقَة وقوَّة الخطابِ.و أما القرآنُ المَدَنِيُّ فهو: الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهِجرةِ ويعرف بإخبار الصحابي، وبذكر الأحكام الفقهية، وبفضح المنافقينَ، وذكر بعض الغزوات، وانتقال الخطاب إلى أهل الكتاب، ولفظ ˝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ˝.و الفائدة من معرفة المكيِّ والمدنيِّ هي: تعميقُ الفهمِ لكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ ومعرفةِ الناسخِ والمنسوخِ
المبحث الثامن: مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ النُّزولِ.
فأسباب النزولِ هي: الأسئلةُ والحوادثُ التي كانت سبَباً في نزول القرآن زمن النبوَّةِ .
فقد يتعدَّدُ النَّازِلُ والسَّبَبُ واحدٌ، وقد تتعدد الأسباب والنازل واحد.و فائدة معرفتِها الوصول إلى المعنى الصحيح للقرآن الكريم، والسَّعة في الإطلاع على معانيه.
المبحث التاسع: مَعْرِفَةُ اخْتِلافِ التَّنَوُّعِ واختلافِ التَّضَادِ.
فاختلاف التَّنَوُّعِ هو: اتفاق المفسرينَ على معنى الآية مع اختلافِهم في التعبيرِ، أو تفسيرِهم للآية بمعاني مختلفة يسوغ الجمع بينهما.
و أما اختلافُ التَّضادِ فهو: تفسير الآيةِ بمعنيين أحدُهما راجحٌ والآخر مرجوحٌ.
المبحث العاشر: معرفة شروطِ المفسرِ.
شروطِ المفسرِ ثمانيةٌ:
الشرطُ الأولُ: التَّقْوَى والسَّمْتُ الحسن عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ» الشرط الثاني: سلامة العقل والنَّفس من الأمراض.
الشرط الثالث: أن يكون مُلِمًّا بعلوم الآلة كاللغة وأصول الفقه ومصطلح الحديث.
الشرط الرابع: أن يكون مُلِمًّا بأصول العقيدة الصحيحة.
الشرط الخامس: أن يكون مُطَّلِعاً على كتب الحديث كالصحيحين، والسنن الأربعة، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد.
الشرط السادس: أن يكون له علم بفقه المذاهب الأربعة
الشرط السابع: أن يكون له علم بالتاريخ والسِّيَّر والمغازي.
الشرط الثامن: أن يكون له اطلاع واسع على تفاسير المتقدمين والمتأخرين.
تم بحمد الله
قائمة المصادر والمراجع
- كتاب رب العالمين: القرآن الكريم
- الكتاب: تفسير القرآن العظيم (ابن كثير)
المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)
المحقق: محمد حسين شمس الدين
الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت
الطبعة: الأولى - 1419 هـ
- الكتاب: تفسير الجلالين
المؤلف: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (المتوفى: 864هـ) وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى: 911هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: فتح القدير
المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)
الناشر: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت
الطبعة: الأولى - 1414 هـ
- الكتاب: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان
المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376هـ)
المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»
المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ)
الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس
سنة النشر: 1984 هـ
عدد الأجزاء: 30 (والجزء رقم 8 في قسمين)
- الكتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير
المؤلف: جابر بن موسى بن عبدالقادر بن جابر أبوبكرالجزائري
الناشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية
الطبعة: الخامسة، 1424هـ/2003م
عدد الأجزاء: 5
- الكتاب: التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
المؤلف: دوهبة بن مصطفى الزحيلي
الناشر: دار الفكر المعاصر - دمشق
الطبعة: الثانية، 1418 هـ
عدد الأجزاء: 30
- الكتاب: جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبوجعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
المحقق: أحمد محمد شاكر
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م
عدد الأجزاء: 24
- الكتاب: التيسير في القراءات السبع
المؤلف: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبوعمر والداني (المتوفى: 444هـ ) المحقق: اوتوتريزل
الناشر: دارالكتاب العربي - بيروت
الطبعة: الثانية، 1404هـ/ 1984م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: أسباب نزول القرآن
المؤلف: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (المتوفى: 468هـ)
المحقق: عصام بن عبدالمحسن الحميدان
قال المحقق: قمت بتوفيق الله وحده بتخريج أحاديث الكتاب تخريجا مستوفى على ما ذكر العلماء أو ما توصلت إليه من خلال نقد تلك الأسانيد
الناشر: دار الإصلاح - الدمام
الطبعة: الثانية، 1412 هـ - 1992 م
المؤلف: القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعيني، أبو محمد الشاطبي (المتوفى: 590هـ)
المحقق: محمد تميم الزعبي
الناشر: مكتبة دار الهدى ودار الغوثاني للدراسات القرآنية
الطبعة: الرابعة، 1426 هـ - 2005 م
عددالأجزاء: 1
- الكتاب: مناهل العرفان في علوم القرآن
المؤلف: محمد عبدالعظيم الزُّرْقاني (المتوفى: 1367هـ)
الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه
الطبعة: الطبعة الثالثة
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير
المؤلف: محمد بن محمد بن سويلم أبوشُهبة المتوفى: 1403هـ))
الناشر: مكتبة السنة
الطبعة: الرابعة
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: أصول في التفسير
المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين(المتوفى: 1421هـ)
أشرف على تحقيقه: قسم التحقيق بالمكتبة الإسلامية
الناشر: المكتبة الإسلامية
الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: القاضي عياض ومفهومه للإعجاز القرآني
المؤلف: أحمد جمال العمري
الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الطبعة: السنة العاشرة – العدد الثاني - 1397هـ - 1977 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه = صحيح البخاري
المؤلف: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي
المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر
الناشر: دار طوق النجاة
الطبعة: الأولى، 1422هـ
عدد الأجزاء: 9
الكتاب: المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
المؤلف: مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)
المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء: 5
- الكتاب: سنن أبي داود
المؤلف: أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275هـ)
المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد
الناشر: المكتبة العصرية، صيدا - بيروت
عدد الأجزاء: 4
- الكتاب: سنن الترمذي
المؤلف: محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ)
تحقيق وتعليق:
أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2)
ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3)
وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف (جـ 4، 5)
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر
الطبعة: الثانية، 1395 هـ - 1975 م
عدد الأجزاء: 5 أجزاء
- الكتاب: المجتبى من السنن = السنن الصغرى للنسائي
المؤلف: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303هـ)
تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة
الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب
الطبعة: الثانية، 1406 - 1986
عدد الأجزاء: 8
- الكتاب: سنن ابن ماجه
المؤلف: ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد (المتوفى: 273هـ)
تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: الموطأ
المؤلف: مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179هـ)
المحقق: محمد مصطفى الأعظمي
الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي - الإمارات
الطبعة: الأولى، 1425 هـ - 2004 م
عدد الأجزاء: 8 (منهم مجلد للمقدمة، و3 للفهارس)
- الكتاب: مسند ابن أبي شيبة
المؤلف: أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى: 235هـ)
المحقق: عادل بن يوسف العزازي وأحمد بن فريد المزيدي
الناشر: دار الوطن - الرياض
الطبعة: الأولى، 1997م
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: مسند الإمام أحمد بن حنبل
المؤلف: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)
المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون
إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م
- الكتاب: صحيحُ ابن خُزَيمة
المؤلف: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري (المتوفى: 311هـ)
حَققهُ وعَلّق عَلَيه وَخَرّجَ أحَاديثه وَقدَّم له: الدكتور محمد مصطفى الأعظمي
الناشر: المكتب الإسلامي
الطبعة: الثالثة، 1424 هـ - 2003 م
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: المعجم الكبير
المؤلف: سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ)
المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي
دار النشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة
الطبعة: الثانية
عدد الأجزاء: 25
- الكتاب: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان
المؤلف: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354هـ)
المحقق: شعيب الأرنؤوط
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
الطبعة: الثانية، 1414 - 1993
عدد الأجزاء: 18 (17 جزء ومجلد فهارس)
- الكتاب: المستدرك على الصحيحين
المؤلف: أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبيالطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفى: 405هـ)
تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، 1411 - 1990
عدد الأجزاء: 4
- الكتاب: العبودية
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
المحقق: محمد زهير الشاويش
الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت
الطبعة: الطبعة السابعة المجددة 1426هـ - 2005م
(هذه الرسالة مطبوعة أيضًا ضمن ˝مجموع الفتاوى˝ 10/149، وفي ˝الفتاوى الكبرى˝ 5/155)
- الكتاب: متن القصيدة النونية
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)
الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة
الطبعة: الثانية، 1417هـ
عدد الأجزاء: 1
الفهرس
المقدمة 3
تفسير الاستعاذة: 7
تفسير البسملة 10
مَتْنُ طَاِلبِ التَّفْسِيرِ 47
قائمة المصادر والمراجع 54
الفهرس 63. ❝
❞ أيها الشباب
أكثر ما يأتي الشبابَ الحيرةُ والاضطراب في مسألة اختيار الزوجة، وكثير منهم يَفتقد لِمهارات اختيار ذلك الشريك.
والأمر يَستحق الكثير من التأنِّي والتروِّي؛ لأنَّ الإنسان إذا أراد أن يبذر بذرًا اختار له الأرضَ الصالحة بغية أن يخرج بإذن ربِّه، والأمر بالنسبة للزوجة أجَلُّ وأعظم.
ولذلك دعا الإسلام إلى التدقيق في اختيار الزوجة، والنظر إليها، والوقوف على أخلاقها ودينها؛ حتى يَكمل الانسجام، وتزداد المحبَّة، وصولًا إلى عش الزوجية الهادئ.
وأول ما ينبغي الاهتمام به عند الاختيار
• اختيار ذات دِين وخلُق، عفيفة محتشمة، ذات أخلاق فاضلة ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34]، ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ ﴾ [النور: 32]، ﴿ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ﴾ [البقرة: 221]، ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ﴾ [النور: 26].
وقد جاءت الشريعة بالتأكيد على ما يغفل الناس عنه ويهملونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تُنكحُ المرأةُ لأربعٍ: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدِّين ترِبَت يداك))[4].
قال القرطبي رحمه الله: (هذه الأربع الخصال هي المُرغِّبة في نِكاح المرأة، وهي التي يقصدها الرِّجال من النساء، فهو خبرٌ عما في الوجود من ذلك، لا أنه أمرٌ بذلك، وظاهره إباحة النِّكاح لقصد مجموع هذه الخصال، أو لواحدة منها، لكن قصد الدِّين أولى وأهم)[5].
فالمرأة المتدينة دُرَّة ثمينة بين النساء يتمنَّاها كلُّ رجل، رغبة في خَيرَي الدنيا والآخرة، ولا قيمة لأي اعتِبار آخر ليس معه الدِّين؛ فالجمال مَغنم إذا كان مَعه دِين يحميه، ومَغرم إذا كان بمعزل عن الدِّين، والحسَبُ والنَّسب بغير دِين نِقمة لا نعمة، وثراءُ من لا دين له طغيان وفتنة.. ❝ ⏤حسين محمد يوسف
❞ أيها الشباب
أكثر ما يأتي الشبابَ الحيرةُ والاضطراب في مسألة اختيار الزوجة، وكثير منهم يَفتقد لِمهارات اختيار ذلك الشريك.
والأمر يَستحق الكثير من التأنِّي والتروِّي؛ لأنَّ الإنسان إذا أراد أن يبذر بذرًا اختار له الأرضَ الصالحة بغية أن يخرج بإذن ربِّه، والأمر بالنسبة للزوجة أجَلُّ وأعظم.
ولذلك دعا الإسلام إلى التدقيق في اختيار الزوجة، والنظر إليها، والوقوف على أخلاقها ودينها؛ حتى يَكمل الانسجام، وتزداد المحبَّة، وصولًا إلى عش الزوجية الهادئ.
وقد جاءت الشريعة بالتأكيد على ما يغفل الناس عنه ويهملونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تُنكحُ المرأةُ لأربعٍ: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدِّين ترِبَت يداك))[4].
قال القرطبي رحمه الله: (هذه الأربع الخصال هي المُرغِّبة في نِكاح المرأة، وهي التي يقصدها الرِّجال من النساء، فهو خبرٌ عما في الوجود من ذلك، لا أنه أمرٌ بذلك، وظاهره إباحة النِّكاح لقصد مجموع هذه الخصال، أو لواحدة منها، لكن قصد الدِّين أولى وأهم)[5].
فالمرأة المتدينة دُرَّة ثمينة بين النساء يتمنَّاها كلُّ رجل، رغبة في خَيرَي الدنيا والآخرة، ولا قيمة لأي اعتِبار آخر ليس معه الدِّين؛ فالجمال مَغنم إذا كان مَعه دِين يحميه، ومَغرم إذا كان بمعزل عن الدِّين، والحسَبُ والنَّسب بغير دِين نِقمة لا نعمة، وثراءُ من لا دين له طغيان وفتنة. ❝
❞ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)
قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون نزلت في قوم أقروا بالله خالقهم وخالق الأشياء كلها ، وهم يعبدون الأوثان ; قاله الحسن ، ومجاهد وعامر والشعبي وأكثر المفسرين . وقال عكرمة هو قوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ثم يصفونه بغير صفته ويجعلون له أندادا ; وعن الحسن أيضا : أنهم أهل كتاب معهم شرك وإيمان ، آمنوا بالله وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ; فلا يصح إيمانهم ; حكاه ابن الأنباري . وقال ابن عباس : نزلت في تلبية مشركي العرب : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . وعنه أيضا أنهم النصارى . وعنه أيضا أنهم المشبهة ، آمنوا مجملا وأشركوا مفصلا . وقيل : نزلت في المنافقين ; المعنى : وما يؤمن أكثرهم بالله أي باللسان إلا وهو كافر بقلبه ; ذكره الماوردي عن الحسن أيضا . وقال عطاء : هذا في الدعاء ; وذلك أن الكفار ينسون ربهم في الرخاء ، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء ; بيانه : وظنوا أنهم أحيط بهم الآية . وقوله : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه الآية . وفي آية أخرى : وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض . وقيل : معناها أنهم يدعون الله ينجيهم من الهلكة ، فإذا أنجاهم قال قائلهم : لولا فلان ما نجونا ، ولولا الكلب لدخل علينا اللص ، ونحو هذا ; فيجعلون نعمة الله منسوبة إلى فلان ، ووقايته منسوبة إلى الكلب .
قلت : وقد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين ; ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وقيل : نزلت هذه الآية في قصة الدخان ; وذلك أن أهل مكة لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون فذلك إيمانهم ، وشركهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب ; بيانه قوله : إنكم عائدون والعود لا يكون إلا بعد ابتداء ; فيكون معنى : إلا وهم مشركون أي إلا وهم عائدون إلى الشرك ، والله أعلم .. ❝ ⏤محمد رشيد رضا
❞ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)
قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون نزلت في قوم أقروا بالله خالقهم وخالق الأشياء كلها ، وهم يعبدون الأوثان ; قاله الحسن ، ومجاهد وعامر والشعبي وأكثر المفسرين . وقال عكرمة هو قوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ثم يصفونه بغير صفته ويجعلون له أندادا ; وعن الحسن أيضا : أنهم أهل كتاب معهم شرك وإيمان ، آمنوا بالله وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ; فلا يصح إيمانهم ; حكاه ابن الأنباري . وقال ابن عباس : نزلت في تلبية مشركي العرب : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك . وعنه أيضا أنهم النصارى . وعنه أيضا أنهم المشبهة ، آمنوا مجملا وأشركوا مفصلا . وقيل : نزلت في المنافقين ; المعنى : وما يؤمن أكثرهم بالله أي باللسان إلا وهو كافر بقلبه ; ذكره الماوردي عن الحسن أيضا . وقال عطاء : هذا في الدعاء ; وذلك أن الكفار ينسون ربهم في الرخاء ، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء ; بيانه : وظنوا أنهم أحيط بهم الآية . وقوله : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه الآية . وفي آية أخرى : وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض . وقيل : معناها أنهم يدعون الله ينجيهم من الهلكة ، فإذا أنجاهم قال قائلهم : لولا فلان ما نجونا ، ولولا الكلب لدخل علينا اللص ، ونحو هذا ; فيجعلون نعمة الله منسوبة إلى فلان ، ووقايته منسوبة إلى الكلب .
قلت : وقد يقع في هذا القول والذي قبله كثير من عوام المسلمين ; ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وقيل : نزلت هذه الآية في قصة الدخان ; وذلك أن أهل مكة لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون فذلك إيمانهم ، وشركهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب ; بيانه قوله : إنكم عائدون والعود لا يكون إلا بعد ابتداء ; فيكون معنى : إلا وهم مشركون أي إلا وهم عائدون إلى الشرك ، والله أعلم. ❝