█ إن الإنسان مدني بالطبع لا بد له أن يعيش مع الناس والناسُ لهم إرادات وتصورات فيطلبون منه يُوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حَصَلَ الأذى والعذاب تارةً منهم وتارةً من غيرهم كمن عنده دين وتُقى حل بين قوم فجارٍ ظَلَمَةٍ ولا يتمكنون فجورهم وظلمهم إلا بموافقته أو سكوته عنهم سكت سَلِمَ مِن شرهم الابتداء ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم سلم فلا يُهان ويُعاقب يد فالحزم كُلُّ الحزم الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لمعاوية ( مَنْ أَرْضِيَ اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤنَةَ وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ اللَّهِ يُغْنِوا عَنْهُ مِنَ شَيْئاً ) ومن تأمل أحوال العالم رأى هذا كثيراً فيمن يُعينُ الرؤساء أغراضهم الفاسدة وفيمن أهل البِدَعِ بدعهم هَرَباً عُقوبتهم فمن هداه وألهمه رُشده ووقاه شرَّ نفسه امتنع الموافقة فعل المحرم وصَبَرَ عُدوانهم تكون العاقبة الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ابتلي العلماء كتاب زاد المعاد هدي خير العباد (كامل) مجاناً PDF اونلاين 2024 تأليف ابن قيم الجوزية خمسة مجلدات يتناول الفقه وأصوله والسيرة والتاريخ وذكر فيه سيرة الرسول غزواته وحياته وبيّن هديه معيشته وعباداته ومعاملته لأصحابه وأعدائه وقد ألف الكتب أثناء السفر ولم تكن معه أية مصادر ينقل منها يحتاج إليه أحاديث وأقوال وآراء تتعلق بمواضيع الكتاب ومع ذلك فقد ضمن كتابه نبوية الصحاح والسنن والمعاجم والسير وأثبت كل حديث الموضوع الذي يخصه العلم القيم يحفظ مسند الإمام أحمد بن حنبل يضم أكثر ثلاثين
❞ فلما كان في رمضان من السنة الثانية للهجرة ، بلغ رسول الله ﷺ خبر العير المقبلة من الشام لقريش صحبة أبي سفيان ، وهي العير التي خرجوا في طلبها لما خرجت من مكة ، وكانوا نحو أربعين رجلاً ، وفيها أموال عظيمة لقريش ، فندب رسول الله ﷺ الناس للخروج إليها ، وأمر من كان ظهره حاضراً بالنهوض ، ولم يحتفل لها احتفالاً بليغاً ، لأنه خرج مُسْرِعاً في ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً ، ولم يكن معهم من الخيل إلَّا فَرَسانِ : فرس للزبير بن العوام ، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي ، وكان معهم سبعون بعيراً يَعتَقِبُ الرجلان والثلاثةُ على البعير الواحد ، فكان رسول الله ﷺ ، وعلي ، ومَرْثَدُ بنُ أَبي مَرْتَدِ الغَنوي ، يعتقبُون بعيراً ، وزيد بن حارثة ، وابنه وكبشة موالي رسول الله ﷺ ، يعتَقِبُونَ بعيراً ، وأبو بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبُونَ بعيراً ، واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم ، فلما كان بالرَّوحاء ، رَدَّ أبا لبابة بن عبد المنذر ، واستعمله على المدينة ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ، والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب ، والأخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ ، وجعل على الساقة قيس بن أبي صَعْصَعَةً ، وسار ، فلما قَرُبَ مِن الصَّفْرَاء ، بعث بَسْبَسَ بنَ عمرو الجهني ، وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار العير ، وأما أبو سفيان ، فإنه بلغه مخرج رسول الله ﷺ وقصده إياه ، فاستأجر ضَمْضَمَ بن عمرو الغفاري إلى مكة ، مُستضرخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم ، ليمنعوه من محمد وأصحابه ، وبلغ الصريخ أهل مكة ، فنهضوا مسرعين ، وأوعبوا في الخروج ، فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب ، فإنه عوض عنه رجلاً كان له عليه دين ، وحشدُوا فيمن حولهم من قبائل العرب ، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي ، فلم يخرُج معهم منهم أحد ، وخرجوا من ديارهم كما قال تعالى { بَطَرًا وَرِثَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عن سَبِيلِ اللَّهِ } ، وأقبلوا كما قال رسول الله ﷺ ( بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِم ، تُحَادُّهُ وتُحَادُّ رَسُولَه ) ، وجاؤوا على حَرْدٍ قادرين ، وعلى حمية ، وغضب ، وحَنَقٍ على رسول الله ﷺ وأصحابه ، لما يُريدون من أخذ عيرهم ، وقتل من فيها ، وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي ، والعير التي كانت معه ، فجمعهما الله على غير ميعاد كما قال الله تعالى { وَلَوْ تواعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَد ولكن ليقضى الله أمرا كَانَ مَفْعُولاً } ، ولما بلغ رسول الله ﷺ خروجُ قريش ، استشار أصحابه ، فتكلم المهاجرون فأحسَنُوا ، ثم استشارهم ثانياً ، فتكلم المهاجرون فأحسنوا ، ثم استشارهم ثالثاً ، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم ، فبادر سعدُ بنُ معاذ ، فقال : يا رسول الله ! كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بنا ؟ وكان إنما يعنيهم ، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم ، فلما عزم على الخروج ، استشارهم ليعلم ما عندهم ، فقال له سعد : لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُون الأَنصارُ تَرَى حقاً عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها ، وإني أقول عن الأنصار ، وأجيب عنهم : فاظْعَنْ حَيْثُ شِئْتَ ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ ، وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ ، وَأعطِنَا مَا شِئْتَ ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ ، وَمَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لأَمْرِكَ ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُعَ البَرْكَ مِنْ عمدانَ ، لَنَسِيَرَنَّ مَعَكَ ، وَوَاللَّهِ لَيْنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذا البَحْرَ خُضْنَاهُ مَعَكَ ، وقَالَ لَهُ المَقْدَادُ : لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسى : اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينكَ ، وَعَنْ شِمَالِكَ ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ ، وَمِنْ خَلْفِكَ ، فأشرق وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، وَسُرَّ بِمَا سَمِعَ مِنْ أصحابه ، وقال ﷺ ( سِيرُوا وأبشروا ، فإنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَصارِعَ القَوْمِ ) . ❝
❞ في سياق هديه ﷺ في الحج
❞ فلما فرغ ﷺ من صلاته ، ركب حتى أتى الموقف ، فوقف في ذيل الجبل عند الصَّخَراتِ ، واستقبل القبلة ، وجعل حَبْلَ المُشاة بين يديه ، وكان على بعيره فأخذ في الدعاء والتضرع والابتهال إلى غروب الشمس ، وأمر الناس أن يرفعوا عن بطن عُرَنَةً ، وأخبر أن عرفة لا تختص بموقفه ذلك ، بل قال ( وقَفْتُ هاهنا وعَرَفَةُ كُلَّها مَوْقِفٌ ) ، وأرسل إلى الناس أن يكونوا على مشاعرهم ويقفوا بها ، فإنها من إرث أبيهم إبراهيم ، وهنالك أقبل ناس من أهل نجد ، فسألوه عن الحج ، فقال ( الحَج عَرَفَةُ ، مِن جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعِ ، تَمَّ حَجَّهُ ، أَيَّامُ مِنَى ثَلَاثَةٌ ، فَمَنْ تَعَجِّلَ فِي يَوْمَيْن ، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عليه ) ، ومما ذُكِرَ من دعائه في عرفة( اللَّهُمَّ تَسْمَعُ كَلامي ، وتَرَى مَكَاني ، وتَعْلَمُ سرِّي وعلانيتي ، لا يخفى عليك شَيءٌ مِنْ أَمْري أنا البائس الفقيرُ المُسْتَغِيتُ المُسْتَجيرُ ، وَالوَجلُ المُشْفِقُ ، المقر المعترفُ بِذُنُوبِي ، أَسْأَلكَ مَسْأَلةَ المِسْكِين ، وأبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابتهال المُذْنِبِ الذُّلِيلِ ، وأَدْعُوكَ دُعَاءَ الخَائِفِ الضرِيرِ ، مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ ، وفَاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ ، وذلَّ جَسَدُهُ ، ورَغِمَ أَنْفُهُ لَكَ ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلَنِي بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياً ، وكُن رؤوفاً رحيماً ، يا خيرَ المَسْؤُولين ، ويَا خَيْرَ المُعْطِينَ ) وكان في دعائه رافعاً يديه إلى صدره كاستطعام المسكين ، وأخبرهم أَنَّ خَيْرَ الدَّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وذكر من دعائه في الموقف أيضا ( اللَّهُمَ لَكَ الحَمْدُ كَالَّذِي نَقُولُ ، وخَيْراً مِمَّا نَقُولُ ، اللَّهُمَّ لَكَ صَلاتِي وَنُسُكي ، ومَحْيَايَ وَمَمَاتِي ، وَإِلَيْكَ مَآبِي ، ولَكَ رَبِّي تُراثي ، اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ القَبْرِ ، وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ ، وَشَتَاتِ الأمْر ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تِجِيء به الريح ) ، وذكر الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان أكثرُ دُعاءِ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ عرفة ( لا إله إلا الله وحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمدُ ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِير ) ، وهناك أُنزِلَتْ عليه ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) ، وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته وهو محرم فمات ، فأمر رسول الله ﷺ أَن يُكَفَّنَ فِي ثَوْبَيْهِ ، ولا يُمَسَّ بِطيبٍ ، وأن يُغسل بِمَاءٍ وَسِدْرٍ ، ولا يُغَطَّى رَأْسُه ، ولا وَجْهُهُ ، وأَخْبَرَ أَنَّ الله تَعَالى يَبْعَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يُلبي . ❝
❞ ولما قتل الله أشراف قريش ببدر ، وأصيبوا بمصيبة لم يُصابوا بمثلها ، ورَأَسَ فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم ، وجاء كما ذكرنا إلى أطراف المدينة في غزوة السويق ، ولم يَنَلْ ما في نفسه ، أخذ يُؤلِّبُ على رسول الله ﷺ وعلى المسلمين ، ويجمع الجموع ، فجمع ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش ، وجاؤوا بنسائهم لئلا يَفِرُّوا ، وليحاموا عنهن ، ثم أقبل بهم نحو المدينة ، فنزل قريباً من جبل أحد بمكان يقال له : عَيْنَيْنِ ، وذلك في شوال من السنة الثالثة للهجرة ، واستشار رسول الله ﷺ أصحابه أيخرج إليهم ، أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة ، وأن يتحصَّنُوا بها ، فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة ، والنِّساء من فوق البيوت ، ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي ، وكان هو الرأي ، فبادر جماعةٌ مِن فُضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر ، وأشاروا عليه بالخروج ، والحوا عليه في ذلك ، وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة ، وتابعه على ذلك بعض الصحابة ، فالح أولئك على رسول الله ، فنهض ودخل بيته ، ولَبِسَ لأُمَتَهُ ، وخرج عليهم ، وقد انثني عزم أولئك ، وقالوا : أَكْرَهنَا رَسُولَ اللهِ ﷺ على الخروج ، فقالوا : يا رسول الله ! إن أحببت أن تَمْكُتَ في المدينة فافعل، فقال رسول الله ﷺ ( مَا يَنْبَغِي لِنَبِيِّ إِذَا لَبِسَ لأُمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّه بَيْنَهُ وَبَيْنَ عدوه ) ، فخرج رسولُ اللهِ ﷺ في ألف من الصحابة ، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة ، وكان رسولُ الله ﷺ رأى رؤيا ، وهو بالمدينة ، رأى أن في سيفه تُلْمَةٌ ، ورأى أن بقراً تُذبح ، وأنه أدخل يده في درع حصينة ، فتأول الثلمة في سيفه برجل يُصاب من أهل بيته ، وتأوَّل البقر بِنَفَرٍ مِن أصحابه يقتلون ، وتأول الدرع بالمدينة . ❝