❞ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
وقال أهل التفسير : كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون ; فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظا . وقيل : تحسبهم أيقاظا لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه . وأيقاظا جمع يقظ ويقظان ، وهو المنتبه .
وهم رقود كقولهم : وهم قوم ركوع وسجود وقعود فوصف الجمع بالمصدر .
ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال قال ابن عباس : لئلا تأكل الأرض لحومهم . قال أبو هريرة : كان لهم في كل عام تقليبتان . وقيل : في كل سنة مرة . وقال مجاهد : في كل سبع سنين مرة . وقالت فرقة : إنما قلبوا في التسع الأواخر ، وأما في الثلاثمائة فلا . وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان من فعل الله ، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله ، فيضاف إلى الله - تعالى - .
قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد
فيه أربع مسائل :
الأولى : وكلبهم قال عمرو بن دينار : إن مما أخذ على العقرب ألا تضر أحدا [ قال ] في ليله أو في نهاره : صلى الله على نوح . وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه [ إذا قال ] : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد .
أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة ، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه ; على ما قال مقاتل . واختلف في لونه اختلافا كثيرا ، ذكره الثعلبي . تحصيله : أي لون ذكرت أصبت ; حتى قيل لون الحجر وقيل لون السماء . واختلف أيضا في اسمه ; فعن علي : ريان . ابن عباس : قطمير . الأوزاعي : مشير . عبد الله بن سلام : بسيط . كعب : صهيا . وهب : نقيا . وقيل قطمير ; ذكره الثعلبي . وكان اقتناء الكلب جائزا في وقتهم ، كما هو عندنا اليوم جائز في شرعنا . وقال ابن عباس : هربوا ليلا ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم . وقال كعب : مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطردوه مرارا ، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي ، فنطق فقال : لا تخافوا مني أنا أحب أحباء الله - تعالى - فناموا حتى أحرسكم .
الثانية : ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان . وروى الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط . قال الزهري : وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال : يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع . فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية . وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة ; إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه ، أو لمنع دخول الملائكة البيت ، أو لنجاسته ، على ما يراه الشافعي ، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه ; والله أعلم . وقال في إحدى الروايتين قيراطان وفي الأخرى قيراط . وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر ، كالأسود الذي أمر - عليه السلام - بقتله ، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر ; أخرجه الصحيح . وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان . ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع ، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان وبغيرها قيراط . وأما المباح اتخاذه فلا ينقص ; كالفرس والهرة . والله أعلم .
الثالثة : وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها ، لا الذي يحفظها في الدار من السراق . وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق . وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع . وقد تقدم في " المائدة " من أحكام الكلاب ما فيه كفاية ، والحمد لله .
الرابعة : قال ابن عطية : وحدثني أبي - رضي الله عنه - قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ; كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله .
قلت : إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله - تعالى - بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال ، المحبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وآله خير آل . روى الصحيح عن أنس بن مالك قال : بينا أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أعددت لها قال : فكأن الرجل استكان ، ثم قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكني أحب الله ورسوله . قال : فأنت مع من أحببت . في رواية قال أنس بن مالك : فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : فأنت مع من أحببت . قال أنس : فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر ، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم .
قلت : وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس ، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين ، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين ; كلب أحب قوما فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام ، وحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .
وقالت فرقة : لم يكن كلبا حقيقة ، وإنما كان أحدهم ، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم كما سمي النجم التابع للجوزاء كلبا ; لأنه منها كالكلب من الإنسان ; ويقال له : كلب الجبار . قال ابن عطية : فسمي باسم الحيوان اللازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعين فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة ; ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب . وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرئ " وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد " . فيحتمل أن يريد بالكالب هذا الرجل على ما روي ; إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفي بنفسه . ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب . وقرأ جعفر بن محمد الصادق " كالبهم " يعني صاحب الكلب .
قوله تعالى : باسط ذراعيه أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي ; لأنها حكاية حال ولم يقصد الإخبار عن فعل الكلب . والذراع من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى . ثم قيل : بسط ذراعيه لطول المدة . وقيل : نام الكلب ، وكان ذلك من الآيات . وقيل : نام مفتوح العين .
بالوصيد الوصيد : الفناء ; قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير ، أي فناء الكهف ، والجمع وصائد ووصد . وقيل الباب . وقاله ابن عباس أيضا . وأنشد :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
وقد تقدم . وقال عطاء : عتبة الباب ، والباب الموصد هو المغلق . وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته . والوصيد : النبات المتقارب الأصول ، فهو مشترك ، والله أعلم .
قوله تعالى : لو اطلعت عليهم قرأ الجمهور بكسر الواو . والأعمش ويحيى بن وثاب بضمها .
لوليت منهم فرارا أي لو أشرفت عليهم لهربت منهم .
ولملئت منهم رعبا أي لما حفهم الله - تعالى - من الرعب واكتنفهم من الهيبة . وقيل : لوحشة مكانهم ; وكأنهم آواهم الله إلى هذا المكان الوحش في الظاهر لينفر الناس عنهم . وقيل : كان الناس محجوبين عنهم بالرعب ، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم . وقيل : الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم ; وذكره المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري . وهذا بعيد ; لأنهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض : لبثنا يوما أو بعض يوم . ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها ; إلا أن يقال : إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظفارهم وشعورهم . قال ابن عطية : والصحيح في أمرهم أن الله - عز وجل - حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية ، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة ، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء ، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم . وقرأ نافع وابن كثير وابن عباس وأهل مكة والمدينة " لملئت منهم " بتشديد اللام على تضعيف المبالغة ; أي ملئت ثم ملئت . وقرأ الباقون لملئت بالتخفيف ، والتخفيف أشهر في اللغة . وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي :
وإذ فتك النعمان بالناس محرما فملي من كعب بن عوف سلاسله
وقرأ الجمهور رعبا بإسكان العين . وقرأ بضمها أبو جعفر . قال أبو حاتم : هما لغتان . وفرارا نصب على الحال ورعبا مفعول ثان أو تمييز .. ❝ ⏤محمد بن صالح العثيمين
❞ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ۖ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ۚ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
وقال أهل التفسير : كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون ; فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظا . وقيل : تحسبهم أيقاظا لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه . وأيقاظا جمع يقظ ويقظان ، وهو المنتبه .
وهم رقود كقولهم : وهم قوم ركوع وسجود وقعود فوصف الجمع بالمصدر .
ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال قال ابن عباس : لئلا تأكل الأرض لحومهم . قال أبو هريرة : كان لهم في كل عام تقليبتان . وقيل : في كل سنة مرة . وقال مجاهد : في كل سبع سنين مرة . وقالت فرقة : إنما قلبوا في التسع الأواخر ، وأما في الثلاثمائة فلا . وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان من فعل الله ، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله ، فيضاف إلى الله - تعالى - .
قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد
فيه أربع مسائل :
الأولى : وكلبهم قال عمرو بن دينار : إن مما أخذ على العقرب ألا تضر أحدا [ قال ] في ليله أو في نهاره : صلى الله على نوح . وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه [ إذا قال ] : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد .
أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة ، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه ; على ما قال مقاتل . واختلف في لونه اختلافا كثيرا ، ذكره الثعلبي . تحصيله : أي لون ذكرت أصبت ; حتى قيل لون الحجر وقيل لون السماء . واختلف أيضا في اسمه ; فعن علي : ريان . ابن عباس : قطمير . الأوزاعي : مشير . عبد الله بن سلام : بسيط . كعب : صهيا . وهب : نقيا . وقيل قطمير ; ذكره الثعلبي . وكان اقتناء الكلب جائزا في وقتهم ، كما هو عندنا اليوم جائز في شرعنا . وقال ابن عباس : هربوا ليلا ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم . وقال كعب : مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطردوه مرارا ، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي ، فنطق فقال : لا تخافوا مني أنا أحب أحباء الله - تعالى - فناموا حتى أحرسكم .
الثانية : ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان . وروى الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط . قال الزهري : وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال : يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع . فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية . وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة ; إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه ، أو لمنع دخول الملائكة البيت ، أو لنجاسته ، على ما يراه الشافعي ، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه ; والله أعلم . وقال في إحدى الروايتين قيراطان وفي الأخرى قيراط . وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر ، كالأسود الذي أمر - عليه السلام - بقتله ، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر ; أخرجه الصحيح . وقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان . ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع ، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان وبغيرها قيراط . وأما المباح اتخاذه فلا ينقص ; كالفرس والهرة . والله أعلم .
الثالثة : وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها ، لا الذي يحفظها في الدار من السراق . وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق . وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع . وقد تقدم في " المائدة " من أحكام الكلاب ما فيه كفاية ، والحمد لله .
الرابعة : قال ابن عطية : وحدثني أبي - رضي الله عنه - قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ; كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله في محكم تنزيله .
قلت : إذا كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله - تعالى - بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال ، المحبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - وآله خير آل . روى الصحيح عن أنس بن مالك قال : بينا أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أعددت لها قال : فكأن الرجل استكان ، ثم قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكني أحب الله ورسوله . قال : فأنت مع من أحببت . في رواية قال أنس بن مالك : فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : فأنت مع من أحببت . قال أنس : فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر ، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم .
قلت : وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس ، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين ، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين ; كلب أحب قوما فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام ، وحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا .
وقالت فرقة : لم يكن كلبا حقيقة ، وإنما كان أحدهم ، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم كما سمي النجم التابع للجوزاء كلبا ; لأنه منها كالكلب من الإنسان ; ويقال له : كلب الجبار . قال ابن عطية : فسمي باسم الحيوان اللازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعين فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة ; ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب . وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرئ " وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد " . فيحتمل أن يريد بالكالب هذا الرجل على ما روي ; إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفي بنفسه . ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب . وقرأ جعفر بن محمد الصادق " كالبهم " يعني صاحب الكلب .
قوله تعالى : باسط ذراعيه أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي ; لأنها حكاية حال ولم يقصد الإخبار عن فعل الكلب . والذراع من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى . ثم قيل : بسط ذراعيه لطول المدة . وقيل : نام الكلب ، وكان ذلك من الآيات . وقيل : نام مفتوح العين .
بالوصيد الوصيد : الفناء ; قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير ، أي فناء الكهف ، والجمع وصائد ووصد . وقيل الباب . وقاله ابن عباس أيضا . وأنشد :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
وقد تقدم . وقال عطاء : عتبة الباب ، والباب الموصد هو المغلق . وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته . والوصيد : النبات المتقارب الأصول ، فهو مشترك ، والله أعلم .
قوله تعالى : لو اطلعت عليهم قرأ الجمهور بكسر الواو . والأعمش ويحيى بن وثاب بضمها .
لوليت منهم فرارا أي لو أشرفت عليهم لهربت منهم .
ولملئت منهم رعبا أي لما حفهم الله - تعالى - من الرعب واكتنفهم من الهيبة . وقيل : لوحشة مكانهم ; وكأنهم آواهم الله إلى هذا المكان الوحش في الظاهر لينفر الناس عنهم . وقيل : كان الناس محجوبين عنهم بالرعب ، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم . وقيل : الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم ; وذكره المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري . وهذا بعيد ; لأنهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض : لبثنا يوما أو بعض يوم . ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها ; إلا أن يقال : إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظفارهم وشعورهم . قال ابن عطية : والصحيح في أمرهم أن الله - عز وجل - حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية ، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة ، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء ، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم . وقرأ نافع وابن كثير وابن عباس وأهل مكة والمدينة " لملئت منهم " بتشديد اللام على تضعيف المبالغة ; أي ملئت ثم ملئت . وقرأ الباقون لملئت بالتخفيف ، والتخفيف أشهر في اللغة . وقد جاء التثقيل في قول المخبل السعدي :
وإذ فتك النعمان بالناس محرما فملي من كعب بن عوف سلاسله
وقرأ الجمهور رعبا بإسكان العين . وقرأ بضمها أبو جعفر . قال أبو حاتم : هما لغتان . وفرارا نصب على الحال ورعبا مفعول ثان أو تمييز. ❝
❞ ثم كان ﷺ يرفع رأسه مكبراً غير رافع يديه ، ويرفع من السجود رأسه قبل يديه ، ثم يجلس مفترشاً ، يفرش رجله اليسرى ، ويجلس عليها ، وينصب اليمنى ، وذكر النسائي عن ابن عمر قال : من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى ، واستقباله بأصابعها القبلة ، والجلوس على اليسرى ، ولم يحفظ عنه ﷺ في هذا الموضع جلسة غير لهذه ، وكان يضع يديه على فخذيه ، ويجعل مرفقه على فخذه ، وطرف يده على ركبته ، ويقبض ثنتين من أصابعه ، ويحلق حلقة ، ثم يرفع أصبعه يدعو بها ويحركها ، هكذا قال وائل بن حجر عنه ، ثم كان يقول بين السجدتين (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني ، وارزقني) ، هكذا ذكره ابن عباس رضي الله عنهما عنه ، وذكر حذيفة أنه كان يقول (ربي إغفر لي ربي إغفر لي ) ، وكان هديه ﷺ إطالة هذا الركن بقدر السجود ، وهكذا الثابت عنه في جميع الأحاديث ، وفي «الصحيح» عن أنس رضي الله عنه : كان رسول اللہ ﷺ يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم ، وهذه السنة تركها أكثر الناس من بعد انقراض عصر الصحابة ، ولهذا قال ثابت : وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه ، يمكث بين السجدتين حتى نقول : قد نسي ، أوقد أوهم ، ثم كان ينهض على صدور قدميه وركبته معتمدا على فخذيه ، ولا يعتمد على الأرض بيديه ، وقد ذكر عنه مالك إبن الحويرث إنه كان لا ينهض حتى يستوي جالسا ، وهذه هي التي تسمى جلسة الإستراحة ، وكان إذا نهض ، إفتتح القراءة ، ولم يسكت كما كان يسكت عند إفتتاح الصلاة ، وكان ﷺ يصلي الثانية كالأولى سواء ، إلا في أربعة أشياء : السكوت ، والاستفتاح ، وتكبيرة الإحرام ، وتطويلها كالأولى ، فإنه كان لا يستفتح ، ولا يسكتُ ، ولا يكبر للإحرام فيها ، ويقصرها عن الأولى ، فتكون الأولى أطول منها في كل صلاة كما تقدم ، فإذا جلس للتشهد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ، وأشار بأصبعه السبابة ، وكان لا ينصبها نصباً ، ولا ينيمها ، بل يحنيها شيئاً ، ويحركها شيئاً ، كما تقدم في حديث وائل بن حجر ، وكان يقبض أصبعين وهما الخنصر والبنصر ، ويُحلق حلقة وهي الوسطى مع الإبهام ويرفع السبابة يدعو بها ويرمي ببصره إليها ، ويبسط الكف اليسرى على الفخذ اليسرى ، ويتحامل عليها .. ❝ ⏤محمد ابن قيم الجوزية
❞ ثم كان ﷺ يرفع رأسه مكبراً غير رافع يديه ، ويرفع من السجود رأسه قبل يديه ، ثم يجلس مفترشاً ، يفرش رجله اليسرى ، ويجلس عليها ، وينصب اليمنى ، وذكر النسائي عن ابن عمر قال : من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى ، واستقباله بأصابعها القبلة ، والجلوس على اليسرى ، ولم يحفظ عنه ﷺ في هذا الموضع جلسة غير لهذه ، وكان يضع يديه على فخذيه ، ويجعل مرفقه على فخذه ، وطرف يده على ركبته ، ويقبض ثنتين من أصابعه ، ويحلق حلقة ، ثم يرفع أصبعه يدعو بها ويحركها ، هكذا قال وائل بن حجر عنه ، ثم كان يقول بين السجدتين (اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني ، وارزقني) ، هكذا ذكره ابن عباس رضي الله عنهما عنه ، وذكر حذيفة أنه كان يقول (ربي إغفر لي ربي إغفر لي ) ، وكان هديه ﷺ إطالة هذا الركن بقدر السجود ، وهكذا الثابت عنه في جميع الأحاديث ، وفي «الصحيح» عن أنس رضي الله عنه : كان رسول اللہ ﷺ يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم ، وهذه السنة تركها أكثر الناس من بعد انقراض عصر الصحابة ، ولهذا قال ثابت : وكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه ، يمكث بين السجدتين حتى نقول : قد نسي ، أوقد أوهم ، ثم كان ينهض على صدور قدميه وركبته معتمدا على فخذيه ، ولا يعتمد على الأرض بيديه ، وقد ذكر عنه مالك إبن الحويرث إنه كان لا ينهض حتى يستوي جالسا ، وهذه هي التي تسمى جلسة الإستراحة ، وكان إذا نهض ، إفتتح القراءة ، ولم يسكت كما كان يسكت عند إفتتاح الصلاة ، وكان ﷺ يصلي الثانية كالأولى سواء ، إلا في أربعة أشياء : السكوت ، والاستفتاح ، وتكبيرة الإحرام ، وتطويلها كالأولى ، فإنه كان لا يستفتح ، ولا يسكتُ ، ولا يكبر للإحرام فيها ، ويقصرها عن الأولى ، فتكون الأولى أطول منها في كل صلاة كما تقدم ، فإذا جلس للتشهد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ، وأشار بأصبعه السبابة ، وكان لا ينصبها نصباً ، ولا ينيمها ، بل يحنيها شيئاً ، ويحركها شيئاً ، كما تقدم في حديث وائل بن حجر ، وكان يقبض أصبعين وهما الخنصر والبنصر ، ويُحلق حلقة وهي الوسطى مع الإبهام ويرفع السبابة يدعو بها ويرمي ببصره إليها ، ويبسط الكف اليسرى على الفخذ اليسرى ، ويتحامل عليها. ❝
❞ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف روي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقينوس . وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب ، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى . وقيل : كانوا قبل عيسى ، والله أعلم . وقال ابن عباس : إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس . وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى - عليه السلام - فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام ، وكان بها سبعة أحداث يعبدون الله سرا ، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا ، ومروا براع معه كلب فتبعهم فأووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار ، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم ، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا ; فقال الملك : سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا . وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة ، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم - فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ; فرفع أمرهم إلى الملك وقيل له : إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته ، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ; فقالوا له فيما روي : ربنا رب السماوات والأرض - إلى قوله - وإذ اعتزلتموهم وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك : إنكم شبان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم بل أستأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلا ، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم : إني أعرف كهفا في جبل كذا ، وكان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا ; فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة ، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم . وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك . وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى ابن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها ، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة ، فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم الله - تعالى - فآمنوا به واتبعوه على دينه ، واشتهرت خلطتهم به ; فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها ، فنهاه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه ، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعا ; فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما ; ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف . وقيل في خروجهم غير هذا .
وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم ، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم ; قاله ابن عباس . واسم الكلب حمران وقيل قطمير .
وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية ، والسند في معرفتها واه . والذي ذكره الطبري هي هذه : مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومحسيميلنينا ويمليخا ، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم ، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس . قال مقاتل : وكان الكلب لمكسلمينا ، وكان أسنهم وصاحب غنم .
الثانية : هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة . وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فارا بدينه ، وكذلك أصحابه ، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة " النحل " . وقد نص الله - تعالى - على ذلك في " براءة " وقد تقدم . وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم ، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين . فسكنى الجبال ودخول الغيران ، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق ، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء - صلوات الله عليهم - والأولياء . وقد فضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزلة ، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس ، وقد نص الله - تعالى - عليها في كتابه فقال : فأووا إلى الكهف .
قال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت ; وقد جاء في الخبر : إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك . ولم يخص موضعا من موضع . وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك ، إن كنت بين أظهرهم . وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت . وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم صوامع المؤمنين بيوتهم من مراسل الحسن وغيره . وقال عقبة بن عامر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما النجاة يا رسول الله ؟ فقال : يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك . وقال - صلى الله عليه وسلم - : يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن . خرجه البخاري . وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رءوس الجبال . وذكر أيضا علي بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة . قالوا : يا رسول الله ، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج ؟ قال : إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران . قالوا وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها .
قلت : أحوال الناس في هذا الباب تختلف ، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال ، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في بداية أمره ، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية ، فقال : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف . ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل ; وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم . ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم ، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن . وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال : جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم . فقال : لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ، ولا بد لهم منك ، ولك إليهم حوائج ، ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعا ، أعمى بصيرا ، سكوتا نطوقا . وقد قيل : إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب ; مثل الاعتكاف في المساجد ، ولزوم السواحل للرباط والذكر ، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس . وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - والله أعلم - لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها ; فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه ، كما ذكرنا ، والله الموفق وبه العصمة . وروى عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله - عز وجل - انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة . خرجه النسائي .
الثالثة : قوله تعالى : وهيئ لنا من أمرنا رشدا لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله - تعالى - فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة أي مغفرة ورزقا .
وهيئ لنا من أمرنا رشدا توفيقا للرشاد . وقال ابن عباس : مخرجا من الغار في سلامة . وقيل صوابا . ومن هذا المعنى أنه - عليه السلام - كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .. ❝ ⏤محمد بن صالح العثيمين
❞ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف روي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر ، ويقال فيه دقينوس . وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب ، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى . وقيل : كانوا قبل عيسى ، والله أعلم . وقال ابن عباس : إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس . وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى - عليه السلام - فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام ، وكان بها سبعة أحداث يعبدون الله سرا ، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا ، ومروا براع معه كلب فتبعهم فأووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار ، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم ، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا ; فقال الملك : سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا . وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله ، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة ، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم - فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس ، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله ; فرفع أمرهم إلى الملك وقيل له : إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها ، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته ، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل ; فقالوا له فيما روي : ربنا رب السماوات والأرض - إلى قوله - وإذ اعتزلتموهم وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به ، فقال لهم الملك : إنكم شبان أغمار لا عقول لكم ، وأنا لا أعجل بكم بل أستأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري ، وضرب لهم في ذلك أجلا ، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم ، فقال لهم أحدهم : إني أعرف كهفا في جبل كذا ، وكان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا ; فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة ، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم . وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس ، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك . وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى ابن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها ، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه ، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة عظيمة ، فألقى إليه بكل أمره ، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم الله - تعالى - فآمنوا به واتبعوه على دينه ، واشتهرت خلطتهم به ; فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها ، فنهاه ذلك الحواري فانتهى ، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه ، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي ، فدخل فماتا فيه جميعا ; فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما ; ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف . وقيل في خروجهم غير هذا .
وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم ، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم ; قاله ابن عباس . واسم الكلب حمران وقيل قطمير .
وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية ، والسند في معرفتها واه . والذي ذكره الطبري هي هذه : مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومحسيميلنينا ويمليخا ، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم ، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس . قال مقاتل : وكان الكلب لمكسلمينا ، وكان أسنهم وصاحب غنم .
الثانية : هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة . وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فارا بدينه ، وكذلك أصحابه ، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة " النحل " . وقد نص الله - تعالى - على ذلك في " براءة " وقد تقدم . وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم ، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين . فسكنى الجبال ودخول الغيران ، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق ، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء - صلوات الله عليهم - والأولياء . وقد فضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العزلة ، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس ، وقد نص الله - تعالى - عليها في كتابه فقال : فأووا إلى الكهف .
قال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب ، ومرة في السواحل والرباط ، ومرة في البيوت ; وقد جاء في الخبر : إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك . ولم يخص موضعا من موضع . وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك ، إن كنت بين أظهرهم . وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم ، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت . وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم صوامع المؤمنين بيوتهم من مراسل الحسن وغيره . وقال عقبة بن عامر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما النجاة يا رسول الله ؟ فقال : يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك . وقال - صلى الله عليه وسلم - : يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن . خرجه البخاري . وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رءوس الجبال . وذكر أيضا علي بن سعد عن عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة . قالوا : يا رسول الله ، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج ؟ قال : إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران . قالوا وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها .
قلت : أحوال الناس في هذا الباب تختلف ، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال ، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في بداية أمره ، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية ، فقال : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف . ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل ; وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم . ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم ، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن . وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال : جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم . فقال : لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ، ولا بد لهم منك ، ولك إليهم حوائج ، ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعا ، أعمى بصيرا ، سكوتا نطوقا . وقد قيل : إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب ; مثل الاعتكاف في المساجد ، ولزوم السواحل للرباط والذكر ، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس . وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - والله أعلم - لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها ; فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه ، كما ذكرنا ، والله الموفق وبه العصمة . وروى عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله - عز وجل - انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة . خرجه النسائي .
الثالثة : قوله تعالى : وهيئ لنا من أمرنا رشدا لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجئوا إلى الله - تعالى - فقالوا : ربنا آتنا من لدنك رحمة أي مغفرة ورزقا .
وهيئ لنا من أمرنا رشدا توفيقا للرشاد . وقال ابن عباس : مخرجا من الغار في سلامة . وقيل صوابا . ومن هذا المعنى أنه - عليه السلام - كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ❝