❞ استناد كثير من المؤرخين والباحثين ولا سيما المعاصرين في إلصاق صفة الجهل بالقراءة والكتابة بالعرب في ردودهم على المستشرقين القائلين بمعرفة العرب لهما على لفظ (الأمي) و(الأميين) في القرآن الكريم ولفظة (أمية) في الحديث النبوي المشهور، استناد يرده السياق الواضح لتلك الآيات القرآنية. والحديث محمول على نفي نوع خاص من الكتابة والحساب وهو نفي افتقار العرب في معرفة عباداتهم إلى كتابة وحساب، وليس النفي العام للكتابة. وحمل الحديث على النفي العام يعارض أحاديث أخرى صحيحة وصريحة. ❝ ⏤د.عبد الرحمن عمر محمد اسبينداري
❞ استناد كثير من المؤرخين والباحثين ولا سيما المعاصرين في إلصاق صفة الجهل بالقراءة والكتابة بالعرب في ردودهم على المستشرقين القائلين بمعرفة العرب لهما على لفظ (الأمي) و(الأميين) في القرآن الكريم ولفظة (أمية) في الحديث النبوي المشهور، استناد يرده السياق الواضح لتلك الآيات القرآنية. والحديث محمول على نفي نوع خاص من الكتابة والحساب وهو نفي افتقار العرب في معرفة عباداتهم إلى كتابة وحساب، وليس النفي العام للكتابة. وحمل الحديث على النفي العام يعارض أحاديث أخرى صحيحة وصريحة. ❝
❞ غربة علوم الحديث في عصر العلامة يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد (حفيد الإمام القاسم مؤسس الدولة القاسمية)
في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري وأسبابه:
إن المتفحص للعلوم التي كانت تدرس في عصر الشَّارح وقبله وبعده, لا يكاد يجد أي ذكر لعلوم الحديث, ودواوين السنة المطهرة من الصحاح والمسانيد والسنن, فلم تكن تدرس إلَّا في النادر, قال العلَّامة المؤرخ يحيى بن الحسين –رحمه الله- في تاريخه (بهجة الزمن) وهو يذكر أحداث (1093هـ): \"وفي نصف رمضان منها ختم على الفقير إلى الله صحيح الإمام مسلم بن الحجاج( ) القشيري قراءة محققة الضبط والحراسة من أوله إلى آخره، فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن بعد سماعي له عام اثنين وسبعين وألف على الفقيه صالح بن محمَّد العنسي( ) بسماعه له على الشيخ العارف محمَّد بن علي علان الشَّافعي( ) بمكة المحروسة. وفي السنة التي بعدها شرع لي قراءة سنن أبي داود، فسمع عليَّ أكثره، لم يبق إلَّا قدر الربع من آخره فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن, وكان هذا من جملة النعم؛ لأن هذا الكتاب والبخاري وغيرهما لم يعرفهما أحد
بصنعاء من رأس الألف إلى هذا التأريخ، قدر مائة سنة، فلا قوة إلَّا بالله( )\".
فهذا شاهد منصف من أسرة الأئمة, يثبت ما مرت به كتب الحديث والسنة المطهرة من غربة في عصره وقبله وبعده, ويمكن للباحث أن يستنبط من خلال أحداث تلك الفترة أهم الأسباب التي أدت إلى هذه الغربة ومنها:
1. سياسة التشكيك في كتب الحديث والطعن في رواتها وناقليها, فقد أوغلوا كثيرًا في الطعن بكتب الحديث حتَّى أنَّ القاضي أحمد بن سعد الدِّين المسوري( ) والذي كان مقربًا من إئمة وأمراء الدولة, قد خرق إجماع الأمة – بمن فيهم الزيدية - في طعنه في كتب الحديث ورواته، والظاهر أنَّ مكانته العلمية والسياسية منعت علماء عصره من الرد عليه، لكن المؤلف –رحمه الله– قد رد عليه لسعة علمه، وعدم خوفه من الجهلة والمتعصبين، وكونه من الأسرة الحاكمة.
وكان المسوري هذا قد ألف رسالة سماها \"الرسالة المنقذة من الغواية في طرق أهل الرواية\"( ), قال يحيى بن الحسين –رحمه الله- في \"بهجة الزمن\" في أخبار سنة (1052هـ): \"وفيها - أي في هذه السنة - أنشأ القاضي أحمد بن سعد الدِّين المسوري رسالة أبانت عن صاحبها الجهالة, وذلك في الطعن في سنة النبي r والرد لما جاء منها على ألسنة الرواة والمحدّثين وما أتوا به عن سيد المرسلين وخاتم النبيين, وقال: كلما في الأمَّهات الست لا يحتج به وأنَّه كذب فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم، يريدون أن يبدلوا كلام الله ورسوله، ويؤمنون ببعض الكتاب دون بعضه، وقد أجبت على هذه الرسالة، وأظهرت ما فيها من الغلط والغواية، وما توفيقي إلَّا بالله\"( )
2. أن كل من يشتغل بكتب الحديث أو عمل فيها من السنن عادته العامة، ورمته بالنصب؛ أي: بغض أهل بيت النبي r، ربما أنزلت به أنواع الأذية والمحن.
وهذا هو السبب فيما وقع من الامتحان للعلامة المحدث عبدالرحمن الحيمي( )، وهو أحد شيوخ الشَّارح, قال عنه الشوكاني: الحافظ الكبير العلَّامة الشهير كان من العلماء الجامعين بين علم المعقول والمنقول وله اشتغال بالتدريس في الأمَّهات ونشرها؛ ولكنَّه ما سلم من الامتحان من أهل عصره لسبب اشتغاله بالأمَّهات علمًا وعملًا وتدريسًا, وليس ذلك ببدع فهذا شأن هذه الديار من قديم الأعصار( ).
وهو السبب ذاته الذي دفع العلَّامة الحسن بن أحمد الجلال( ) الى الخروج من مدينة صنعاء إلى الجراف( ) واعتزال النَّاس، ودفع العلَّامة المقبلي( ) إلى الخروج من اليمن إلى مكة وبقائه بها حتَّى مات، وهو السبب في عزلة الشَّارح يحيى بن الحسين –رحمه الله- وإهماله من قبل علماء ومؤرخي عصره، وهو السبب الذي حمل العلَّامة محمَّد بن إبراهيم الوزير( ) على اعتزال أهل عصره، وتوحشه في الفلوات وانقطاعه عن النَّاس.
وهو ذات السبب فيما نزل بعد ذلك بالعلَّامة محمَّد بن إسماعيل الأمير الصنعاني من المحن حتَّى كاد أن يقتل على منبر جامع صنعاء( ).
قال الأمام الشوكاني وهو يتحدث عن ما جرى من محن للعلامة محمَّد بن اسماعيل الأمير: وجرت له مع أهل عصره خطوب ومحن, وتجمع العوام لقتله مرة بعد أخرى, وحفظه الله من كيدهم ومكرهم وكفاه شرهم, وولاه الإمام المنصور بالله الخطابة بجامع صنعاء فاستمر كذلك إلى أيَّام ولده الإمام المهدي, واتفق في بعض الجمع أنَّه لم يذكر الأئمة الذين جرت العادة بذكرهم في الخطبة الأخرى, فثار عليه جماعة من آل الإمام الذين لا أنسة لهم بالعلم, وعضدهم جماعة من العوام, وتواعدوا فيما بينهم على قتله في المنبر يوم الجمعة المقبلة, وكان من أعظم المحشدين لذلك السيد يوسف العجمى( ) الإمامي القادم في أيَّام الإمام المنصور بالله, والمدرس بحضرته, فبلغ الإمام المهدي ما قد وقع التواطأ عليه, فأرسل لجماعة من أكابر آل الإمام وسجنهم, وأرسل لصاحب الترجمة( ) أيضًا وسجنه, وأمر من يطرد السيد يوسف المذكور حتَّى يخرجه من الديار اليمنية, فسكنت عند ذلك الفتنة, وبقي صاحب الترجمة نحو شهرين ثمَّ خرج من السجن, وولي الخطابة غيره, واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا وإفتاءً وتصنيفًا, وما زال في محن من أهل عصره, وكانت العامَّة ترميه بالنصب, مستدلين على ذلك بكونه عاكفًا على الأمَّهات وسائر كتب الحديث, عاملًا بما فيها, ومن صنع هذا الصنع رمته العامَّة بذلك, لا سيما إذا تظهر بفعل شيء من سنن الصلاة, كرفع اليدين وضمهما ونحو ذلك, فإنهم ينفرون عنه ويعادونه ولا يقيمون له وزنًا, مع أنَّهم في جميع هذه الديار منتسبون إلى الإمام زيد بن علي( ), وهو من القائلين بمشروعية الرفع والضم, وكذلك ما زال الأئمة من الزيدية يقرأون كتب الحديث الأمَّهات وغيرها, منذ خرجت إلى اليمن ونقلوها في مصنَّفاتهم الأَّولى, فالأَّول لا ينكره إلَّا جاهل أو متجاهل( ).
ومنهم الإمام العلَّامة يحيى بن الحسين –رحمه الله- شارح المخطوط، الذي حرص على اتباع الدليل من الكتاب والسُّنَّة، ولم يقلد في الأصول، ولا في الفروع، فهو من العلماء القلائل الذين برعوا في علم الحديث بالنسبة لأقرانه - في ذلك العصر- ولم يمنعه اعتراض بعضهم من قول الحق، والدعوة إلى الإلتزام بالكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة، والسير على نهج السلف الصالح، كما كان من سبقه من علماء اليمن الأعلام، والمجددين الأفذاذ، الذين تعرضوا إثر طرحهم لأفكارهم التجديدية إلى الإيذاء، ولم يسلموا من الفتن والامتحان من أهل عصرهم؛ بسبب اشتغالهم بالأمَّهات, علمًا وعملًا وتدريسًا، وليس ذلك ببدع، فهذا شأن هذه الديار من قديم الأعصار, كما قال الشوكاني( ).
والعلَّامة يحيى بن الحسين –رحمه الله- أحد من ابتلي بذلك، قال عنه الشوكاني: أهمل ذكره أهل عصره فمن بعدهم؛ ولعلَّ سبب ذلك والله أعلم: ميله إلى العمل بما في أمهات الحديث, ورده على من خالف النصوص الصَّحيحة, وقد رأيت له مؤلفًا رد به على رسالة للقاضي أحمد بن سعد الدِّين, يتضمن الرد على أئمة الحديث, وسمى صاحب الترجمة مؤلفه: \"صوارم اليقين لقطع شكوك القاضي أحمد بن سعد الدِّين\" وهو مؤلف ممتع, يدل على طول باع مصنِّفه, وكذلك رأيت له مصنَّفا سماه: \"الإيضاح لما خفى من الاتفاق على تعظيم صحابة المصطفى\", ووقع بينه وبين أهل عصره قلاقل بسبب تظهره بما تقدم( ).
3. الفقهاء الجامدون: ومن الأسباب أيضًا ما ذكره الأمام الشوكاني من التحريض من قبل الفقهاء الذين وصفهم بالجمود, قال الشوكاني: وليس الذنب في معاداة من كان كذلك للعامة, الذين لا تعلق لهم بشيء من المعارف العلمية, فإنهم اتباع كل ناعق, إذا قال لهم من له هيئة أهل العلم أنَّ هذا الأمر حق قالوا حق, وإن قال باطل قالوا باطل, إنَّما الذنب لجماعة قرأوا شيئًا من كتب الفقه ولم يمعنوا فيها ولا عرفوا غيرها, فظنوا لقصورهم أنّ المخالفة لشيء منها مخالفة للشريعة؛ بل القطعي من قطعياتها, والغالب عليهم أنّ ذلك ليس لمقاصد دينية بل لمنافع دنيوية تظهر لمن تأملها وهي أن يشيع في النَّاس أنّ من أنكر على أكابر العلماء, ما خالف المذهب من اجتهاداتهم, كان من خلص الشيعة الذَّابين عن مذهب الآل, وتكون تلك الشهرة مفيدة في الغالب لشيء من منافع الدنيا وفوائدها, فلا يزالون قائمين وثائرين في تخطئة أكابر العلماء, ورميهم بالنصب ومخالفة أهل البيت, فتسمع ذلك العامة فتظنه حقًا, وتعظم ذلك المنكِر؛ لأنَّه قد نفق على عقولها صدق قوله, وظنوه من المحامين عن مذهب الأئمة, ولو كشفوا عن الحقيقة لوجدوا ذلك المنكِر هو المخالف لمذهب الأئمة( ).
4. سكوت العلماء عن قول الحق, ومداراتهم للعامة خوفًا على أنفسهم وهتك أعراضهم: قال الشوكاني: كان أهل العلم يخافون على أنفسهم, ويحمون أعراضهم؛ فيسكتون عن العامة, وكثيرًا منهم كان يصوبهم مداراةً لهم, وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن, وتسلط العامة عليهم, وخمول ذكرهم, وسقوط مراتبهم؛ لأنهم يكتمون الحق, فإذا تكلم به واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم, وأوهموهم أنَّهم على الصواب؛ فيتجرؤون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء, وهضم شأنهم, ولو تكلموا بالصواب, أو نصروا من يتكلم به, أو عرفوا العامة إذا سألوهم الحق, وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم؛ لكانوا يدًا واحدةً على الحق, ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة اثارة شيء من الفتن, فإنا لله وإنا إليه راجعون( ).. ❝ ⏤عبد الله راجح شارب الحايطي
❞ غربة علوم الحديث في عصر العلامة يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد (حفيد الإمام القاسم مؤسس الدولة القاسمية)
في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري وأسبابه:
إن المتفحص للعلوم التي كانت تدرس في عصر الشَّارح وقبله وبعده, لا يكاد يجد أي ذكر لعلوم الحديث, ودواوين السنة المطهرة من الصحاح والمسانيد والسنن, فلم تكن تدرس إلَّا في النادر, قال العلَّامة المؤرخ يحيى بن الحسين –رحمه الله- في تاريخه (بهجة الزمن) وهو يذكر أحداث (1093هـ): ˝وفي نصف رمضان منها ختم على الفقير إلى الله صحيح الإمام مسلم بن الحجاج( ) القشيري قراءة محققة الضبط والحراسة من أوله إلى آخره، فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن بعد سماعي له عام اثنين وسبعين وألف على الفقيه صالح بن محمَّد العنسي( ) بسماعه له على الشيخ العارف محمَّد بن علي علان الشَّافعي( ) بمكة المحروسة. وفي السنة التي بعدها شرع لي قراءة سنن أبي داود، فسمع عليَّ أكثره، لم يبق إلَّا قدر الربع من آخره فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن, وكان هذا من جملة النعم؛ لأن هذا الكتاب والبخاري وغيرهما لم يعرفهما أحد
بصنعاء من رأس الألف إلى هذا التأريخ، قدر مائة سنة، فلا قوة إلَّا بالله( )˝.
فهذا شاهد منصف من أسرة الأئمة, يثبت ما مرت به كتب الحديث والسنة المطهرة من غربة في عصره وقبله وبعده, ويمكن للباحث أن يستنبط من خلال أحداث تلك الفترة أهم الأسباب التي أدت إلى هذه الغربة ومنها:
1. سياسة التشكيك في كتب الحديث والطعن في رواتها وناقليها, فقد أوغلوا كثيرًا في الطعن بكتب الحديث حتَّى أنَّ القاضي أحمد بن سعد الدِّين المسوري( ) والذي كان مقربًا من إئمة وأمراء الدولة, قد خرق إجماع الأمة – بمن فيهم الزيدية - في طعنه في كتب الحديث ورواته، والظاهر أنَّ مكانته العلمية والسياسية منعت علماء عصره من الرد عليه، لكن المؤلف –رحمه الله– قد رد عليه لسعة علمه، وعدم خوفه من الجهلة والمتعصبين، وكونه من الأسرة الحاكمة.
وكان المسوري هذا قد ألف رسالة سماها ˝الرسالة المنقذة من الغواية في طرق أهل الرواية˝( ), قال يحيى بن الحسين –رحمه الله- في ˝بهجة الزمن˝ في أخبار سنة (1052هـ): ˝وفيها - أي في هذه السنة - أنشأ القاضي أحمد بن سعد الدِّين المسوري رسالة أبانت عن صاحبها الجهالة, وذلك في الطعن في سنة النبي r والرد لما جاء منها على ألسنة الرواة والمحدّثين وما أتوا به عن سيد المرسلين وخاتم النبيين, وقال: كلما في الأمَّهات الست لا يحتج به وأنَّه كذب فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم، يريدون أن يبدلوا كلام الله ورسوله، ويؤمنون ببعض الكتاب دون بعضه، وقد أجبت على هذه الرسالة، وأظهرت ما فيها من الغلط والغواية، وما توفيقي إلَّا بالله˝( )
2. أن كل من يشتغل بكتب الحديث أو عمل فيها من السنن عادته العامة، ورمته بالنصب؛ أي: بغض أهل بيت النبي r، ربما أنزلت به أنواع الأذية والمحن.
وهذا هو السبب فيما وقع من الامتحان للعلامة المحدث عبدالرحمن الحيمي( )، وهو أحد شيوخ الشَّارح, قال عنه الشوكاني: الحافظ الكبير العلَّامة الشهير كان من العلماء الجامعين بين علم المعقول والمنقول وله اشتغال بالتدريس في الأمَّهات ونشرها؛ ولكنَّه ما سلم من الامتحان من أهل عصره لسبب اشتغاله بالأمَّهات علمًا وعملًا وتدريسًا, وليس ذلك ببدع فهذا شأن هذه الديار من قديم الأعصار( ).
وهو السبب ذاته الذي دفع العلَّامة الحسن بن أحمد الجلال( ) الى الخروج من مدينة صنعاء إلى الجراف( ) واعتزال النَّاس، ودفع العلَّامة المقبلي( ) إلى الخروج من اليمن إلى مكة وبقائه بها حتَّى مات، وهو السبب في عزلة الشَّارح يحيى بن الحسين –رحمه الله- وإهماله من قبل علماء ومؤرخي عصره، وهو السبب الذي حمل العلَّامة محمَّد بن إبراهيم الوزير( ) على اعتزال أهل عصره، وتوحشه في الفلوات وانقطاعه عن النَّاس.
وهو ذات السبب فيما نزل بعد ذلك بالعلَّامة محمَّد بن إسماعيل الأمير الصنعاني من المحن حتَّى كاد أن يقتل على منبر جامع صنعاء( ).
قال الأمام الشوكاني وهو يتحدث عن ما جرى من محن للعلامة محمَّد بن اسماعيل الأمير: وجرت له مع أهل عصره خطوب ومحن, وتجمع العوام لقتله مرة بعد أخرى, وحفظه الله من كيدهم ومكرهم وكفاه شرهم, وولاه الإمام المنصور بالله الخطابة بجامع صنعاء فاستمر كذلك إلى أيَّام ولده الإمام المهدي, واتفق في بعض الجمع أنَّه لم يذكر الأئمة الذين جرت العادة بذكرهم في الخطبة الأخرى, فثار عليه جماعة من آل الإمام الذين لا أنسة لهم بالعلم, وعضدهم جماعة من العوام, وتواعدوا فيما بينهم على قتله في المنبر يوم الجمعة المقبلة, وكان من أعظم المحشدين لذلك السيد يوسف العجمى( ) الإمامي القادم في أيَّام الإمام المنصور بالله, والمدرس بحضرته, فبلغ الإمام المهدي ما قد وقع التواطأ عليه, فأرسل لجماعة من أكابر آل الإمام وسجنهم, وأرسل لصاحب الترجمة( ) أيضًا وسجنه, وأمر من يطرد السيد يوسف المذكور حتَّى يخرجه من الديار اليمنية, فسكنت عند ذلك الفتنة, وبقي صاحب الترجمة نحو شهرين ثمَّ خرج من السجن, وولي الخطابة غيره, واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا وإفتاءً وتصنيفًا, وما زال في محن من أهل عصره, وكانت العامَّة ترميه بالنصب, مستدلين على ذلك بكونه عاكفًا على الأمَّهات وسائر كتب الحديث, عاملًا بما فيها, ومن صنع هذا الصنع رمته العامَّة بذلك, لا سيما إذا تظهر بفعل شيء من سنن الصلاة, كرفع اليدين وضمهما ونحو ذلك, فإنهم ينفرون عنه ويعادونه ولا يقيمون له وزنًا, مع أنَّهم في جميع هذه الديار منتسبون إلى الإمام زيد بن علي( ), وهو من القائلين بمشروعية الرفع والضم, وكذلك ما زال الأئمة من الزيدية يقرأون كتب الحديث الأمَّهات وغيرها, منذ خرجت إلى اليمن ونقلوها في مصنَّفاتهم الأَّولى, فالأَّول لا ينكره إلَّا جاهل أو متجاهل( ).
ومنهم الإمام العلَّامة يحيى بن الحسين –رحمه الله- شارح المخطوط، الذي حرص على اتباع الدليل من الكتاب والسُّنَّة، ولم يقلد في الأصول، ولا في الفروع، فهو من العلماء القلائل الذين برعوا في علم الحديث بالنسبة لأقرانه - في ذلك العصر- ولم يمنعه اعتراض بعضهم من قول الحق، والدعوة إلى الإلتزام بالكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة، والسير على نهج السلف الصالح، كما كان من سبقه من علماء اليمن الأعلام، والمجددين الأفذاذ، الذين تعرضوا إثر طرحهم لأفكارهم التجديدية إلى الإيذاء، ولم يسلموا من الفتن والامتحان من أهل عصرهم؛ بسبب اشتغالهم بالأمَّهات, علمًا وعملًا وتدريسًا، وليس ذلك ببدع، فهذا شأن هذه الديار من قديم الأعصار, كما قال الشوكاني( ).
والعلَّامة يحيى بن الحسين –رحمه الله- أحد من ابتلي بذلك، قال عنه الشوكاني: أهمل ذكره أهل عصره فمن بعدهم؛ ولعلَّ سبب ذلك والله أعلم: ميله إلى العمل بما في أمهات الحديث, ورده على من خالف النصوص الصَّحيحة, وقد رأيت له مؤلفًا رد به على رسالة للقاضي أحمد بن سعد الدِّين, يتضمن الرد على أئمة الحديث, وسمى صاحب الترجمة مؤلفه: ˝صوارم اليقين لقطع شكوك القاضي أحمد بن سعد الدِّين˝ وهو مؤلف ممتع, يدل على طول باع مصنِّفه, وكذلك رأيت له مصنَّفا سماه: ˝الإيضاح لما خفى من الاتفاق على تعظيم صحابة المصطفى˝, ووقع بينه وبين أهل عصره قلاقل بسبب تظهره بما تقدم( ).
3. الفقهاء الجامدون: ومن الأسباب أيضًا ما ذكره الأمام الشوكاني من التحريض من قبل الفقهاء الذين وصفهم بالجمود, قال الشوكاني: وليس الذنب في معاداة من كان كذلك للعامة, الذين لا تعلق لهم بشيء من المعارف العلمية, فإنهم اتباع كل ناعق, إذا قال لهم من له هيئة أهل العلم أنَّ هذا الأمر حق قالوا حق, وإن قال باطل قالوا باطل, إنَّما الذنب لجماعة قرأوا شيئًا من كتب الفقه ولم يمعنوا فيها ولا عرفوا غيرها, فظنوا لقصورهم أنّ المخالفة لشيء منها مخالفة للشريعة؛ بل القطعي من قطعياتها, والغالب عليهم أنّ ذلك ليس لمقاصد دينية بل لمنافع دنيوية تظهر لمن تأملها وهي أن يشيع في النَّاس أنّ من أنكر على أكابر العلماء, ما خالف المذهب من اجتهاداتهم, كان من خلص الشيعة الذَّابين عن مذهب الآل, وتكون تلك الشهرة مفيدة في الغالب لشيء من منافع الدنيا وفوائدها, فلا يزالون قائمين وثائرين في تخطئة أكابر العلماء, ورميهم بالنصب ومخالفة أهل البيت, فتسمع ذلك العامة فتظنه حقًا, وتعظم ذلك المنكِر؛ لأنَّه قد نفق على عقولها صدق قوله, وظنوه من المحامين عن مذهب الأئمة, ولو كشفوا عن الحقيقة لوجدوا ذلك المنكِر هو المخالف لمذهب الأئمة( ).
4. سكوت العلماء عن قول الحق, ومداراتهم للعامة خوفًا على أنفسهم وهتك أعراضهم: قال الشوكاني: كان أهل العلم يخافون على أنفسهم, ويحمون أعراضهم؛ فيسكتون عن العامة, وكثيرًا منهم كان يصوبهم مداراةً لهم, وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن, وتسلط العامة عليهم, وخمول ذكرهم, وسقوط مراتبهم؛ لأنهم يكتمون الحق, فإذا تكلم به واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم, وأوهموهم أنَّهم على الصواب؛ فيتجرؤون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء, وهضم شأنهم, ولو تكلموا بالصواب, أو نصروا من يتكلم به, أو عرفوا العامة إذا سألوهم الحق, وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم؛ لكانوا يدًا واحدةً على الحق, ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة اثارة شيء من الفتن, فإنا لله وإنا إليه راجعون( ). ❝
❞ حوار مع صديقي الملحد
هل الدين افيون ..؟
قال لي صاحبي الدكتور وهو يغمز بعينيه :
وما رايك في الذين يقولون ان الدين افيون ...!!
وانه يخدر الفقراء والمظلومين ليناموا على ظلمهم وفقرهم ويحلموا بالجنة والحور العين ..
في حين يثبت الاغنياء على غناهم باعتبار انه حق ..
وان الله خلق الناس درجات ...؟.
وما رايك في الذين يقولون ان الدين لم ينزل من عند الله ..
وانما هو طلع من الارض من الظروف والدواعي الاجتماعية ليكون سلاحاً لطبقة على طبقة ..؟
وهو يشير بذلك الى الماديين وافكارهم ..
قلت :
ليس ابعد من الخطأ القائل بان الدين افيون .. فالدين في حقيقته اعباء وتكاليف وتبعات ..
وليس تخفيفاً وتحللاً .. وبالتالي ليس مهرباً من المسئوليات وليس افيوناً ..
وديننا عمل وليس كسل ..
( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم )
ونحن نقول بالتوكل وليس التواكل ..
والتوكل يقتضي عندنا العزم واستفراغ الوسع ..
وبذل غاية الطاقة والحيلة .
ثم التسليم بعد ذلك لقضاء الله وحكمه .
( فاذا عزمت فتوكل على الله )
العزم اولاً ..
والنبي يقول لمن اراد ان يترك ناقته سائبة توكلاً على حفظ الله ( اعقلها وتوكل )
أي ابذل وسعك اولا فثبتها في عقالها ثم توكل ..
والدين صحو وانتباه ويقظة . ومحاسبة للنفس ومراقبة للضمير ..
في كل فعل وفي كل كلمة وكل خاطر . وليس هذا حال اكل الافيون .
انما اكل الافيون الحقيقي هو المادي الذي ينكر الدين هرباً من تبعاته ومسئولياته .
ويتصور ان لحظته ملكه . وانه لاحسيب ولا رقيب ولا بعث بعد الموت ..
فيفعل ما يخطر على باله . وأين هذا الرجل من المتدين المسلم الذي يعتبر نفسه مسئولاً عن سابع جار ..
واذا جاع فرد في امته او ضربت دابة عاتب نفسه بانه لم يقم بواجب الدين في عنقه ..
وليس صحيحاً ان ديننا خرج من الارض .. من الظروف والدواعي الاجتماعية ..
ليكون سلاحاً لطبقة على طبقة وتثبيتاً لغنى الاغنياء وفقر الفقراء ..
والعكس هو الصحيح ...
فالاسلام جاء ثورة على الاغنياء والكانزين المال والمستغلين الظالمين ..
فامر صراحة بالا يكون المال دولة بين الاغنياء يحتكرونه ويتداولونه بينهم ..
وانما يكون حقاً للكل ..
( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم )
والانفاق يبدا من زكاة اجبارية ( 2،5 ) في المائة ..
ثم يتصاعد اختيارياً الى كل ما في الجيب وكل ما في اليد .
فلا تبقي لنفسك الا خبزك .. كفافك ..
( يسألونك ماذا ينفقون قل العفو )
والعفو هو كل ما زاد على الكفاف والحاجة ..
وبهذا جمع الاسلام بين التكليف الجبري القانوني والتكليف الاختياري القائم على الضمير ..
وهذا اكرم للانسان من نزع املاكه بالقهر والمصادرة ..
ووصل إلى الانفاق إلى ما فوق التسعين في المائة بدون ارهاق ..
ولم يأت الاسلام ليثبت ظلم الظالمين . بل جاء ثورة صريحة على كل الظالمين .
وجاء سيفاً وحربا على رقاب الطواغين والمستبدين ..
اما التهمة التي يسوقها الماديون بأن الدين رجعي وطبقي بدليل الايات ..
( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق )
( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات )
فنحن نرد بان هذه الايات تنطبق على لندن وباريس وبرلين وموسكو ..
بمثل ما تنطبق على القاهرة ودمشق وجدة ..
واذا مشينا في شوارع موسكو فسوف نجد من يسير على رجليه ..
ومن يركب بسكليت . ومن يركب عربة موسكوفتش ..
ومن يركب عربة زيم فاخرة ..
وماذا يكون هذا الا التفاضل في الرزق بعينه والدرجات والرتب الاقتصادية ..
والتفاوت بين الناس حقيقة جوهرية ..
ولم تستطع الشيوعية ان تلغي التفاوت ..
ولم يقل حتى غلاة المادية والفوضوية بالمساواة ..
والمساواة غير ممكنة فكيف نساوي بين غير متساويين ..
الناس يولدون من لحظة الميلاد غير متساوين في الذكاء والقوة والجمال والمواهب ..
يولدون درجات في كل شيء ..
واقصى ما طمعت فيه المذاهب الاقتصادية هي المساواة في الفرص وليس المساواة بين الناس ..
ان يلقى كل واحد نفس الفرصة في التعليم والعلاج والحد الادنى للمعيشة ..
وهو نفس ما تحض عليه الاديان ..
اما الغاء الدرجات والغاء التفاوت فهو الظلم بعينه والامر الذي ينافي الطبيعة ..
والطبيعة تقوم كلها على اساس التفاضل والتفاوت والتنوع في ثمار الارض وفي البهائم وفي الناس ..
في القطن نجد طويل التيلة . وقصير التيلة ..
وفي الحيوان والانسان نجد الرتب والدرجات والتفاوت اكثر ..
هذا هو قانون الوجود كله .. التفاضل ..
وحكمة هذا القانون واضحة . فلو كان جميع الناس يولدون بخلقة واحدة وقالب واحد ونسخة واحدة ..
لما كان هناك داع لميلادهم اصلا .
وكان يكفي ان نأتي بنسخة واحدة فتغني عن الكل ..
وكذلك الحال في كل شيء ..
ولانتهي الامر إلى فقر الطبيعة وافلاسها ..
وانما غنى الطبيعة وخصبها لايظهر الا بالتنوع في ثمارها وغلاتها والتفاوت في الوانها واصنافها ..
ومع ذلك فالدين لم يسكت على هذا التفاوت بين الاغنياء والفقراء ..
بل امر بتصحيح الاوضاع وجعل للفقير نصيباً من مال الغني .
وقال ان هذا التفاوت فتنة وامتحان ..
( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة اتصبرون )
سوف نرى ماذا يفعل القوي بقوته .
هل ينجد بها الضعفاء او يضرب ويقتل ويكون جباراً في الارض ...؟
وسوف نرى ماذا يفعل الغني بغناه ..
هل يسرف ويطغى ..؟ او يعطف ويحسن ..؟
وسوف نرى ماذا يفعل الفقير بفقره ..
هل يحسد ويحقد ويسرق ويختلس ..
او يعمل ويكد ويجتهد ليرفع مستوى معيشته بالشرع والعدل ..
وقد امر الدين بالعدل وتصحيح الاوضاع بالمساواة بين الفرص ..
وهدد بعذاب الاخرة وقال ان الاخرة ستكون ايضاً درجات اكثر تفاوتاً لتصحيح ما لم يجر تصحيحه في الارض .
(( وللاخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا ))
وللذين يتهمون الإسلام بالرجعية السياسية نقول إن الإسلام أتى بأكثر الشرائع تقدمية في نظم الحكم .
احترام الفرد في الإسلام بلغ الذروة .. وسبق ميثاق حقوق الإنسان وتفوق عليه .. فماذا يساوي الفرد الواحد في الإسلام إنه يساوي الإنسانية كلها .
( من قتل نفا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) .
لا تغني المنجزات ولا الإصلاحات المادية ولا التعمير ولا السدود ولا المصانع .. إذا قتل الحاكم فردا واحدا ظلما في سبيل هذا الإصلاح ، فإنه يكون قد قتل الناس جميعا.
ذروة في احترام الفرد لم يصل إليها مذهب سياسي قديم أو جديد .. فالفرد في الإسلام له قيمة مطلقة بينما في كل المذاهب السياسية له قيمة نسبية .. والفرد في الإسلام آمن في بيته .. وفي أسراره " لا تجسس ولا غيبة " آمن في ماله ورزقه وملكيته وحريته .
كل شيء حتى التحية حتى إفساح المجلس حتى الكلمة الطيبة لها مكان في القرآن .
وقد نهى القرآن عن التجبر والطغيان والإنفراد بالحكم .
وقال الله للنبي " وهو من هو في كماله وصلاحيته " .
( وما أنت عليهم بجبار ) .
( فذكر إنما أنت مذكر .. لست عليهم بمسيطر ) .
( إنما المؤمنون إخوة ) .
ونهى عن عبادة الحاكم وتأليه العظيم :
( لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) .
( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) .
ونهى عن الغوغائية وتملق الدهماء والسوقة والجري وراء الأغلبية المضللة وقال أن :
( بل أكثر الناس لا يعلمون ) .
( بل أكثرهم لا يعقلون ) .
( أكثر الناس لا يؤمنون ) .
( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) . " يكذبون "
( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل ) .
ونهى عن العنصرية والعرقية :
( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) .
وبالمعنى العلمي كان الإسلام تركيبا جدليا جامعا بين مادية اليهودية وروحانية المسيحية ، بين العدل الصارم الجاف الذي يقول : السن بالسن والعين بالعين . وبين المحبة والتسامح المتطرف الذي يقول : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر .
وجاء القرآن وسطا بين التوراة التي حرفت حتى أصبحت كتابا ماديا ليس فيه حرف واحد عن الآخرة ، وبين الإنجيل الذي مال إلى رهبانية تامة ، ونادى القرآن بناموس الرحمة الجامع بين العدل والمحبة فقال بشرعية الدفاع عن النفس ولكنه فضل العفو والصفح والمغفرة .
( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) .
وإذا كانت الرأسمالية أطلقت للفرد حرية الكسب إلى درجة استغلال الآخرين .. وإذا كانت الشيوعية سحقت هذه الحرية تماما .. فإن الإسلام قدم الحل الوسط .
( للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) .
الفرد حر في الكسب ولكن ليس له أن يأخذ ثمرة أرباحه كلها .. وإنما له فيها نصيب .. وللفقير نصيب يؤخذ زكاة وإنفاقا من 2.5 في المائة إلى 90% جبرا واختيارا .. وهذا النصيب ليس تصدقا وتفضلا وإنما هو حق الله في الربح .. وبهذه المعادلة الجميلة حفظ الإسلام للفرد حريته وللفقير حقه .
ولهذا أصاب القرآن كل الصواب حينما خاطب أمة الإسلام قائلا :
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) .
فقد اختار الإسلام الوسط العدل في كل شيء .
وهو ليس الوسط الحسابي وإنما الوسط الجدلي أو التركيب الذي يجمع النقيضين " اليمين واليسار " ويتجاوزهما ويزيد عليهما .. ولذلك ليس في الإسلام يمين ويسار وإنما فيه " صراط " الاعتدال الوسط الذي نسميه الصراط المستقيم من خارج عنه باليمين أو اليسار فقد انحرف .
ولم يقيدنا القرآن بدستور سياسي محدد أو منهج مفصل للحكم لعلم الله بأن الظروف تتغير بما يقتضي الاجتهاد في وضع دساتير متغيرة في الأزمنة المتغيرة ، وحتى يكون الباب مفتوحا أمام المسلمين للأخذ والعطاء من المعارف المتاحة في كل عصر دون انغلاق على دستور بعينه .
ولهذا اكتفى القرآن بهذه التوصيات السياسية العامة السالفة كخصائص للحكم الأمثل .. ولم يكبلنا بنظرية وهذا سر من أسرار إعجازه وتفوقه وليس فقرا ولا نقصا فيه .
وتلك لمسة أخرى من تقديمة القرآن التي سبقت كل التقديمات .
ونرد على القائلين بأن الدين جمود وتحجر .. بأن الإسلام لم يكن أبدا دين تجمد وتحجر وإنما كان دائما وأبدا دين نظر وفكر وتطوير وتغيير بدليل آياته الصريحة .
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) .
( فلينظر الإنسان مم خلق .. خلق من ماء دافق .. يخرج من بين الصلب والترائب )
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى
لأرض كيف سطحت ) .
أوامر صريحة بالنظر في خلق الإنسان وفي خلق الحيوان وفي خلق الجبال وفي طبقات الأرض وفي السماء وأفلاكها .. والتشريح والفسيولوجيا والبيولوجيا وعلم الأجنة .
أوامر صريحة بالسير في الأرض وجمع الشواهد واستنباط الأحكام والقوانين ومعرفة كيف بدأ الخلق .. وهو ما نعرفه الآن بعلوم التطور .
ولا خوف من الخطأ .
فالإسلام يكافئ الذي يجتهد ويخطئ بأجر والذي يجتهد ويصيب بأجرين .
وليس صحيحا ما يقال من أننا تخلفنا بالدين وتقدم الغرب بالإلحاد .. والحق أننا تخلفنا حينما هجرنا أوامر ديننا .
وحينما كان المسلمون يأتمرون بهذه الآيات حقا كان هناك تقدم وكانت هناك دولة من المحيط إلى الخليج وعلماء مثل ابن سينا في الطب وابن رشد في الفلسفة وابن الهيثم في الرياضيات وابن النفيس في التشريح وجابر بن حيان في الكيمياء .
وكانت الدنيا تأخذ عنا علومنا .. وما زالت مجمعات النجوم وأبراجها تحتفظ إلى الآن بأسمائها العربية في المعاجم الأوروبية .. وما زالوا يسمون جهاز التقطير بالفرنسية imbique ومنه الفعل من كلمة أمبيق العربية . imbiquer ولم يتقدم الغرب بالإلحاد بل بالعلم .
وإنما وقع الخلط مما حدث في العصور الوسطى من طغيان الكنيسة ومحاكم التفتيش وحجرها على العلم والعلماء وما حدث من سجن غاليليو وحرق جيوردانو برونو .
حينما حكمت الكنيسة وانحرف بها البابوات عن أهدافها النبيلة فكانت عنصر تأخر .. فتصور النقاد السطحيون أن هذا ينسحب أيضا على الإسلام وهو خطأ .. فالإسلام ليس بابوية ولا كهنوت ..
الله لم يقم بينه وبين المسلمين أوصياء ولا وسطاء .
وحينما حكم الإسلام بالفعل كان عنصر تقدم كما شرحنا وكما يقول التاريخ مكذبا هذه المزاعم السطحية .
وآيات القرآن الصريحة تحض على العلم وتأمر بالعلم ولا تقيم بين العلم والدين أي تناقض :
( وقل رب زدني علما ) .
( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .
( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) .
جعل الله الملائكة وأولي العلم في الآية مقترنين بشرف اسمه ونسبته .
وأول آية في القران وأول كلمة كانت " اقرأ " والعلماء في القرآن موعودون بأرفع الدرجات :
( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) .
وتتكرر كلمة العلم ومشتقاته في القرآن نحوا من ثمانمائة وخمسين مرة .
فكيف يتكلم بعد هذا متكلم عن تناقض بين الدين والعلم أو حجر من الدين على العلم .
والنظر في الدين وتطوير فهمه مطلوب ، وتاريخ الإسلام كله حركات إحياء وتطوير .. والقرآن بريء من تهمة التحجير على الناس وكل شيء في ديننا يقبل التطوير .. ما عدا جوهر العقيدة وصلب الشريعة .. لأن الله واحد ولن يتطور إلى اثنين أو ثلاثة .. هذا أمر مطلق .. وكذلك الشر شر والخير خير .. لن يصبح القتل فضيلة ولا السرقة حسنة ولا الكذب حلية يتحلى بها الصالحون .
وفيما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر والاجتهاد والإضافة والتطوير .
وجوهر الإسلام عقلاني منطقي يقبل الجدل والحوار ويحض على استخدام العقل والمنطق .
وفي أكثر من مكان وفي أكثر من صفحة في القرآن نعثر على التساؤل .. " أفلا يعقلون " .. " أفلا يفقهون " .
وأهل الدين عندنا هم " أولو الألباب " .
( شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) .
( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ) .
احترام العقل في لب وصميم الديانة .
والإيجابية عصبها والثورة روحها .
لم يكن الإسلام أبدا خانعا ولا سلبيا .
( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) .
( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) .
والجهاد بالنفس والمال والأولاد .. والقتال والثبات وعدم النكوص على الأعقاب ، ومواجهة اليأس والمصابة والمرابطة في صلب ديننا .
فكيف يمكن لدين بهذه المرونة والعقلانية والعلمية والإيجابية والثورة أن يتهم بالتحجر والجمود إلا من صديق عزيز مثل الدكتور القادم من فرنسا لا يعرف من أوليات دينه شيئا ولم يقرأ في قرآنه حرفا .
من كتاب : حوار مع صديقي الملحد
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ حوار مع صديقي الملحد
هل الدين افيون .؟
قال لي صاحبي الدكتور وهو يغمز بعينيه :
وما رايك في الذين يقولون ان الدين افيون ..!!
وانه يخدر الفقراء والمظلومين ليناموا على ظلمهم وفقرهم ويحلموا بالجنة والحور العين .
في حين يثبت الاغنياء على غناهم باعتبار انه حق .
وان الله خلق الناس درجات ..؟.
وما رايك في الذين يقولون ان الدين لم ينزل من عند الله .
وانما هو طلع من الارض من الظروف والدواعي الاجتماعية ليكون سلاحاً لطبقة على طبقة .؟
وهو يشير بذلك الى الماديين وافكارهم .
قلت :
ليس ابعد من الخطأ القائل بان الدين افيون . فالدين في حقيقته اعباء وتكاليف وتبعات .
وليس تخفيفاً وتحللاً . وبالتالي ليس مهرباً من المسئوليات وليس افيوناً .
وديننا عمل وليس كسل .
( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم )
ونحن نقول بالتوكل وليس التواكل .
والتوكل يقتضي عندنا العزم واستفراغ الوسع .
وبذل غاية الطاقة والحيلة .
ثم التسليم بعد ذلك لقضاء الله وحكمه .
( فاذا عزمت فتوكل على الله )
العزم اولاً .
والنبي يقول لمن اراد ان يترك ناقته سائبة توكلاً على حفظ الله ( اعقلها وتوكل )
أي ابذل وسعك اولا فثبتها في عقالها ثم توكل .
والدين صحو وانتباه ويقظة . ومحاسبة للنفس ومراقبة للضمير .
في كل فعل وفي كل كلمة وكل خاطر . وليس هذا حال اكل الافيون .
انما اكل الافيون الحقيقي هو المادي الذي ينكر الدين هرباً من تبعاته ومسئولياته .
ويتصور ان لحظته ملكه . وانه لاحسيب ولا رقيب ولا بعث بعد الموت .
فيفعل ما يخطر على باله . وأين هذا الرجل من المتدين المسلم الذي يعتبر نفسه مسئولاً عن سابع جار .
واذا جاع فرد في امته او ضربت دابة عاتب نفسه بانه لم يقم بواجب الدين في عنقه .
وليس صحيحاً ان ديننا خرج من الارض . من الظروف والدواعي الاجتماعية .
ليكون سلاحاً لطبقة على طبقة وتثبيتاً لغنى الاغنياء وفقر الفقراء .
والعكس هو الصحيح ..
فالاسلام جاء ثورة على الاغنياء والكانزين المال والمستغلين الظالمين .
فامر صراحة بالا يكون المال دولة بين الاغنياء يحتكرونه ويتداولونه بينهم .
وانما يكون حقاً للكل .
( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم )
والانفاق يبدا من زكاة اجبارية ( 2،5 ) في المائة .
ثم يتصاعد اختيارياً الى كل ما في الجيب وكل ما في اليد .
فلا تبقي لنفسك الا خبزك . كفافك .
( يسألونك ماذا ينفقون قل العفو )
والعفو هو كل ما زاد على الكفاف والحاجة .
وبهذا جمع الاسلام بين التكليف الجبري القانوني والتكليف الاختياري القائم على الضمير .
وهذا اكرم للانسان من نزع املاكه بالقهر والمصادرة .
ووصل إلى الانفاق إلى ما فوق التسعين في المائة بدون ارهاق .
ولم يأت الاسلام ليثبت ظلم الظالمين . بل جاء ثورة صريحة على كل الظالمين .
وجاء سيفاً وحربا على رقاب الطواغين والمستبدين .
اما التهمة التي يسوقها الماديون بأن الدين رجعي وطبقي بدليل الايات .
( والله فضل بعضكم على بعض في الرزق )
( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات )
فنحن نرد بان هذه الايات تنطبق على لندن وباريس وبرلين وموسكو .
بمثل ما تنطبق على القاهرة ودمشق وجدة .
واذا مشينا في شوارع موسكو فسوف نجد من يسير على رجليه .
ومن يركب بسكليت . ومن يركب عربة موسكوفتش .
ومن يركب عربة زيم فاخرة .
وماذا يكون هذا الا التفاضل في الرزق بعينه والدرجات والرتب الاقتصادية .
والتفاوت بين الناس حقيقة جوهرية .
ولم تستطع الشيوعية ان تلغي التفاوت .
ولم يقل حتى غلاة المادية والفوضوية بالمساواة .
والمساواة غير ممكنة فكيف نساوي بين غير متساويين .
الناس يولدون من لحظة الميلاد غير متساوين في الذكاء والقوة والجمال والمواهب .
يولدون درجات في كل شيء .
واقصى ما طمعت فيه المذاهب الاقتصادية هي المساواة في الفرص وليس المساواة بين الناس .
ان يلقى كل واحد نفس الفرصة في التعليم والعلاج والحد الادنى للمعيشة .
وهو نفس ما تحض عليه الاديان .
اما الغاء الدرجات والغاء التفاوت فهو الظلم بعينه والامر الذي ينافي الطبيعة .
والطبيعة تقوم كلها على اساس التفاضل والتفاوت والتنوع في ثمار الارض وفي البهائم وفي الناس .
في القطن نجد طويل التيلة . وقصير التيلة .
وفي الحيوان والانسان نجد الرتب والدرجات والتفاوت اكثر .
هذا هو قانون الوجود كله . التفاضل .
وحكمة هذا القانون واضحة . فلو كان جميع الناس يولدون بخلقة واحدة وقالب واحد ونسخة واحدة .
لما كان هناك داع لميلادهم اصلا .
وكان يكفي ان نأتي بنسخة واحدة فتغني عن الكل .
وكذلك الحال في كل شيء .
ولانتهي الامر إلى فقر الطبيعة وافلاسها .
وانما غنى الطبيعة وخصبها لايظهر الا بالتنوع في ثمارها وغلاتها والتفاوت في الوانها واصنافها .
ومع ذلك فالدين لم يسكت على هذا التفاوت بين الاغنياء والفقراء .
بل امر بتصحيح الاوضاع وجعل للفقير نصيباً من مال الغني .
وقال ان هذا التفاوت فتنة وامتحان .
( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة اتصبرون )
سوف نرى ماذا يفعل القوي بقوته .
هل ينجد بها الضعفاء او يضرب ويقتل ويكون جباراً في الارض ..؟
وسوف نرى ماذا يفعل الغني بغناه .
هل يسرف ويطغى .؟ او يعطف ويحسن .؟
وسوف نرى ماذا يفعل الفقير بفقره .
هل يحسد ويحقد ويسرق ويختلس .
او يعمل ويكد ويجتهد ليرفع مستوى معيشته بالشرع والعدل .
وقد امر الدين بالعدل وتصحيح الاوضاع بالمساواة بين الفرص .
وهدد بعذاب الاخرة وقال ان الاخرة ستكون ايضاً درجات اكثر تفاوتاً لتصحيح ما لم يجر تصحيحه في الارض .
(( وللاخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا ))
وللذين يتهمون الإسلام بالرجعية السياسية نقول إن الإسلام أتى بأكثر الشرائع تقدمية في نظم الحكم .
احترام الفرد في الإسلام بلغ الذروة . وسبق ميثاق حقوق الإنسان وتفوق عليه . فماذا يساوي الفرد الواحد في الإسلام إنه يساوي الإنسانية كلها .
( من قتل نفا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) .
لا تغني المنجزات ولا الإصلاحات المادية ولا التعمير ولا السدود ولا المصانع . إذا قتل الحاكم فردا واحدا ظلما في سبيل هذا الإصلاح ، فإنه يكون قد قتل الناس جميعا.
ذروة في احترام الفرد لم يصل إليها مذهب سياسي قديم أو جديد . فالفرد في الإسلام له قيمة مطلقة بينما في كل المذاهب السياسية له قيمة نسبية . والفرد في الإسلام آمن في بيته . وفي أسراره " لا تجسس ولا غيبة " آمن في ماله ورزقه وملكيته وحريته .
كل شيء حتى التحية حتى إفساح المجلس حتى الكلمة الطيبة لها مكان في القرآن .
وقد نهى القرآن عن التجبر والطغيان والإنفراد بالحكم .
وقال الله للنبي " وهو من هو في كماله وصلاحيته " .
( وما أنت عليهم بجبار ) .
( فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطر ) .
( إنما المؤمنون إخوة ) .
ونهى عن عبادة الحاكم وتأليه العظيم :
( لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) .
( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) .
ونهى عن الغوغائية وتملق الدهماء والسوقة والجري وراء الأغلبية المضللة وقال أن :
( بل أكثر الناس لا يعلمون ) .
( بل أكثرهم لا يعقلون ) .
( أكثر الناس لا يؤمنون ) .
( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) . " يكذبون "
( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل ) .
ونهى عن العنصرية والعرقية :
( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
( هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) .
وبالمعنى العلمي كان الإسلام تركيبا جدليا جامعا بين مادية اليهودية وروحانية المسيحية ، بين العدل الصارم الجاف الذي يقول : السن بالسن والعين بالعين . وبين المحبة والتسامح المتطرف الذي يقول : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر .
وجاء القرآن وسطا بين التوراة التي حرفت حتى أصبحت كتابا ماديا ليس فيه حرف واحد عن الآخرة ، وبين الإنجيل الذي مال إلى رهبانية تامة ، ونادى القرآن بناموس الرحمة الجامع بين العدل والمحبة فقال بشرعية الدفاع عن النفس ولكنه فضل العفو والصفح والمغفرة .
( ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) .
وإذا كانت الرأسمالية أطلقت للفرد حرية الكسب إلى درجة استغلال الآخرين . وإذا كانت الشيوعية سحقت هذه الحرية تماما . فإن الإسلام قدم الحل الوسط .
( للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ) .
الفرد حر في الكسب ولكن ليس له أن يأخذ ثمرة أرباحه كلها . وإنما له فيها نصيب . وللفقير نصيب يؤخذ زكاة وإنفاقا من 2.5 في المائة إلى 90% جبرا واختيارا . وهذا النصيب ليس تصدقا وتفضلا وإنما هو حق الله في الربح . وبهذه المعادلة الجميلة حفظ الإسلام للفرد حريته وللفقير حقه .
ولهذا أصاب القرآن كل الصواب حينما خاطب أمة الإسلام قائلا :
( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) .
فقد اختار الإسلام الوسط العدل في كل شيء .
وهو ليس الوسط الحسابي وإنما الوسط الجدلي أو التركيب الذي يجمع النقيضين " اليمين واليسار " ويتجاوزهما ويزيد عليهما . ولذلك ليس في الإسلام يمين ويسار وإنما فيه " صراط " الاعتدال الوسط الذي نسميه الصراط المستقيم من خارج عنه باليمين أو اليسار فقد انحرف .
ولم يقيدنا القرآن بدستور سياسي محدد أو منهج مفصل للحكم لعلم الله بأن الظروف تتغير بما يقتضي الاجتهاد في وضع دساتير متغيرة في الأزمنة المتغيرة ، وحتى يكون الباب مفتوحا أمام المسلمين للأخذ والعطاء من المعارف المتاحة في كل عصر دون انغلاق على دستور بعينه .
ولهذا اكتفى القرآن بهذه التوصيات السياسية العامة السالفة كخصائص للحكم الأمثل . ولم يكبلنا بنظرية وهذا سر من أسرار إعجازه وتفوقه وليس فقرا ولا نقصا فيه .
وتلك لمسة أخرى من تقديمة القرآن التي سبقت كل التقديمات .
ونرد على القائلين بأن الدين جمود وتحجر . بأن الإسلام لم يكن أبدا دين تجمد وتحجر وإنما كان دائما وأبدا دين نظر وفكر وتطوير وتغيير بدليل آياته الصريحة .
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ) .
( فلينظر الإنسان مم خلق . خلق من ماء دافق . يخرج من بين الصلب والترائب )
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى
لأرض كيف سطحت ) .
أوامر صريحة بالنظر في خلق الإنسان وفي خلق الحيوان وفي خلق الجبال وفي طبقات الأرض وفي السماء وأفلاكها . والتشريح والفسيولوجيا والبيولوجيا وعلم الأجنة .
أوامر صريحة بالسير في الأرض وجمع الشواهد واستنباط الأحكام والقوانين ومعرفة كيف بدأ الخلق . وهو ما نعرفه الآن بعلوم التطور .
ولا خوف من الخطأ .
فالإسلام يكافئ الذي يجتهد ويخطئ بأجر والذي يجتهد ويصيب بأجرين .
وليس صحيحا ما يقال من أننا تخلفنا بالدين وتقدم الغرب بالإلحاد . والحق أننا تخلفنا حينما هجرنا أوامر ديننا .
وحينما كان المسلمون يأتمرون بهذه الآيات حقا كان هناك تقدم وكانت هناك دولة من المحيط إلى الخليج وعلماء مثل ابن سينا في الطب وابن رشد في الفلسفة وابن الهيثم في الرياضيات وابن النفيس في التشريح وجابر بن حيان في الكيمياء .
وكانت الدنيا تأخذ عنا علومنا . وما زالت مجمعات النجوم وأبراجها تحتفظ إلى الآن بأسمائها العربية في المعاجم الأوروبية . وما زالوا يسمون جهاز التقطير بالفرنسية imbique ومنه الفعل من كلمة أمبيق العربية . imbiquer ولم يتقدم الغرب بالإلحاد بل بالعلم .
وإنما وقع الخلط مما حدث في العصور الوسطى من طغيان الكنيسة ومحاكم التفتيش وحجرها على العلم والعلماء وما حدث من سجن غاليليو وحرق جيوردانو برونو .
حينما حكمت الكنيسة وانحرف بها البابوات عن أهدافها النبيلة فكانت عنصر تأخر . فتصور النقاد السطحيون أن هذا ينسحب أيضا على الإسلام وهو خطأ . فالإسلام ليس بابوية ولا كهنوت .
الله لم يقم بينه وبين المسلمين أوصياء ولا وسطاء .
وحينما حكم الإسلام بالفعل كان عنصر تقدم كما شرحنا وكما يقول التاريخ مكذبا هذه المزاعم السطحية .
وآيات القرآن الصريحة تحض على العلم وتأمر بالعلم ولا تقيم بين العلم والدين أي تناقض :
( وقل رب زدني علما ) .
( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) .
( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) .
جعل الله الملائكة وأولي العلم في الآية مقترنين بشرف اسمه ونسبته .
وأول آية في القران وأول كلمة كانت " اقرأ " والعلماء في القرآن موعودون بأرفع الدرجات :
( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) .
وتتكرر كلمة العلم ومشتقاته في القرآن نحوا من ثمانمائة وخمسين مرة .
فكيف يتكلم بعد هذا متكلم عن تناقض بين الدين والعلم أو حجر من الدين على العلم .
والنظر في الدين وتطوير فهمه مطلوب ، وتاريخ الإسلام كله حركات إحياء وتطوير . والقرآن بريء من تهمة التحجير على الناس وكل شيء في ديننا يقبل التطوير . ما عدا جوهر العقيدة وصلب الشريعة . لأن الله واحد ولن يتطور إلى اثنين أو ثلاثة . هذا أمر مطلق . وكذلك الشر شر والخير خير . لن يصبح القتل فضيلة ولا السرقة حسنة ولا الكذب حلية يتحلى بها الصالحون .
وفيما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر والاجتهاد والإضافة والتطوير .
وجوهر الإسلام عقلاني منطقي يقبل الجدل والحوار ويحض على استخدام العقل والمنطق .
وفي أكثر من مكان وفي أكثر من صفحة في القرآن نعثر على التساؤل . " أفلا يعقلون " . " أفلا يفقهون " .
وأهل الدين عندنا هم " أولو الألباب " .
( شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) .
( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ) .
احترام العقل في لب وصميم الديانة .
والإيجابية عصبها والثورة روحها .
لم يكن الإسلام أبدا خانعا ولا سلبيا .
( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) .
( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) .
والجهاد بالنفس والمال والأولاد . والقتال والثبات وعدم النكوص على الأعقاب ، ومواجهة اليأس والمصابة والمرابطة في صلب ديننا .
فكيف يمكن لدين بهذه المرونة والعقلانية والعلمية والإيجابية والثورة أن يتهم بالتحجر والجمود إلا من صديق عزيز مثل الدكتور القادم من فرنسا لا يعرف من أوليات دينه شيئا ولم يقرأ في قرآنه حرفا .
من كتاب : حوار مع صديقي الملحد
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ حوار مع صديقي الملحد .
إذا كان الله قدَّر عليّ أفعالي فلماذا يحاسبني؟
قال صديقي في شماتة وقد تصوّر أنه أمسكني من عنقي وأنه لا مهرب لي هذه المرة :
أنتم تقولون إن الله يُجري كل شيء في مملكته بقضاء وقدر، وإن الله قدَّر علينا أفعالنا ، فإذا كان هذا هو حالي ، وأن أفعالي كلها مقدّرة عنده فلماذا يحاسبني عليها ؟
لا تقل لي كعادتك .. أنا مخيـَّر .. فليس هناك فرية أكبر من هذه الفرية ودعني أسألك :
هل خُـيّرتُ في ميلادي وجنسي وطولي وعرضي ولوني ووطني ؟
هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر ؟
هل باختياري ينزل عليَّ القضاء ويفاجئني الموت وأقع في المأساة فلا أجد مخرجاً إلا الجريمة ..
لماذا يُكرهني الله على فعل ثم يؤاخذني عليه ؟
وإذا قلت إنك حر ، وإن لك مشيئة إلى جوار مشيئة الله ألا تشرك بهذا الكلام وتقع في القول بتعدد المشيئات ؟
ثم ما قولك في حكم البيئة والظروف ، وفي الحتميات التي يقول بها الماديون التاريخيون ؟
أطلق صاحبي هذه الرصاصات ثم راح يتنفس الصعداء في راحة وقد تصوَّر أني توفيت وانتهيت ، ولم يبق أمامه إلا استحضار الكفن..
قلت له في هدوء :
أنت واقع في عدة مغالطات .. فأفعالك معلومة عند الله في كتابه ، ولكنها ليست مقدورة عليك بالإكراه .. إنها مقدَّرة في علمه فقط .. كما تقدِّر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني .. ثم يحدث أن يزني بالفعل .. فهل أكرهته .. أو كان هذا تقديراً في العلم وقد أصاب علمك ..
أما كلامك عن الحرية بأنها فرية ، وتدليلك على ذلك بأنك لم تخيَّر في ميلادك ولا في جنسك ولا في طولك ولا في لونك ولا في موطنك ، وأنك لا تملك نقل الشمس من مكانها .. هو تخليط آخر ..
وسبب التخليط هذه المرة أنك تتصوَّر الحرية بالطريقة غير تلك التي نتصورها نحن المؤمنين ..
أنت تتكلم عن حرية مطلقة .. فتقول .. أكنت أستطيع أن أخلق نفسي أبيض أو أسود أو طويلا أو قصيراً .. هل بإمكاني أن أنقل الشمس من مكانها أو أوقفها في مدارها .. أين حريتي ؟
ونحن نقول له : أنت تسأل عن حرية مطلقة .. حرية التصرف في الكون وهذه ملك لله وحده .. نحن أيضاً لا نقول بهذه الحرية { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } 68 سورة القصص
ليس لأحد الخيرة في مسألة الخلق ، لأن الله هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ..
ولن يحاسبك الله على قِصَرك ولن يعاتبك على طولك ولن يعاقبك لأنك لم توقف الشمس في مدارها ، ولكن مجال المساءلة هو مجال التكليف .. وأنت في هذا المجال حر .. وهذه هي الحدود التي نتكلم فيها ..
أنت حر في أن تقمع شهوتك وتلجم غضبك وتقاوم نفسك وتزجر نياتك الشريرة وتشجع ميولك الخيرة..
أنت تستطيع أن تجود بمالك ونفسك ..
أنت تستطيع أن تصدق وأن تكذب ..
وتستطيع أن تكف يدك عن المال الحرام ..
وتستطيع أن تكف بصرك عن عورات الآخرين ..
وتستطيع أن تمسك لسانك عن السباب والغيبة والنميمة ..
في هذا المجال نحن أحرار ..
وفي هذا المجال نُحاسَب ونُسأل ..
الحرية التي يدور حولها البحث هي الحرية النسبية وليست الحرية المطلقة حرية الإنسان في مجال التكليف..
وهذه الحرية حقيقة ودليلنا عليها هو شعورنا الفطري بها في داخلنا فنحن نشعر بالمسئولية وبالندم على الخطأ ، وبالراحة للعمل الطيب .. ونحن نشعر في كل لحظة أننا نختار ونوازن بين احتمالات متعددة ، بل إن وظيفة عقلنا الأولى هي الترجيح والاختيار بين البديلات ..
ونحن نفرق بشكل واضح وحاسم بين يدنا وهي ترتعش بالحمى ، ويدنا وهي تكتب خطاباً .. فنقول إن حركة الأولى جبرية قهرية ، والحركة الثانية حرة اختيارية .. ولو كنا مسيرين في الحالتين لما استطعنا التفرقة ..
ويؤكد هذه الحرية ما نشعر به من استحالة إكراه القلب على شيء لا يرضاه تحت أي ضغط .. فيمكنك أن تُكره امرأة بالتهديد والضرب على أن تخلع ثيابها .. ولكنك لا تستطيع بأي ضغط أو تهديد أن تجعلها تحبك من قلبها ومعنى هذا أن الله أعتق قلوبنا من كل صنوف الإكراه والإجبار ، وأنه فطرها حرة ..
ولهذا جعل الله القلب والنية عمدة الأحكام ، فالمؤمن الذي ينطق بعبارة الشرك والكفر تحت التهديد والتعذيب لا يحاسب على ذلك طالما أن قلبه من الداخل مطمئن بالإيمان ، وقد استثناه الله من المؤاخذة في قوله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ٌ} 106 سورة النحل
والوجه الآخر من الخلط في هذه المسألة أن بعض الناس يفهم حرية الإنسان بأنها علو على المشيئة ، وانفراد بالأمر ، فيتهم القائلين بالحرية بأنهم أشركوا بالله وجعلوا له أنداداً يأمرون كأمره ، ويحكمون كحكمه ، وهذا ما فهمته أنت أيضاً .. فقلت بتعدد المشيئات .. وهو فهم خاطئ .. فالحرية الإنسانية لا تعلو على المشيئة الإلهية ..
إن الإنسان قد يفعل بحريته ما ينافي الرضا الإلهي ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما ينافي المشيئة ..
الله أعطانا الحرية أن نعلو على رضاه "فنعصيه" ، ولكن لم يعط أحداً الحرية في أن يعلو على مشيئته .. وهنا وجه آخر من وجوه نسبية الحرية الإنسانية ..
وكل ما يحدث منا داخل في المشيئة الإلهية وضمنها ، وإن خالف الرضا الإلهي وجانب الشريعة ..
وحريتنا ذاتها كانت منحة إلهية وهبة منحها لنا الخالق باختياره .. ولم نأخذها منه كرهاً ولا غصباً ..
إن حريتنا كانت عين مشيئته ..
ومن هنا معنى الآية : {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ } 30 سورة الإنسان
لأن مشيئتنا ضمن مشيئته ، ومنحة منه ، وهبة من كرمه وفضله ، فهي ضمن إرادته لا ثنائية ولا تناقض ، ولا منافسة منا لأمر الله وحكمه ..
والقول بالحرية بهذا المعنى لا ينافي التوحيد ، ولا يجعل لله أنداداً يحكمون كحكمه ويأمرون كأمره .. فإن حرياتنا كانت عين أمره ومشيئته وحكمه ..
والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسيير والتخيير .. فهموا القضاء والقدر بأنه إكراه للإنسان على غير طبعه وطبيعته وهذا خطأ وقعت فيه أنت أيضاً .. وقد نفى الله عن نفسه الإكراه بآيات صريحة :
{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 4 سورة الشعراء
والمعنى واضح .. أنه كان من الممكن أن نُكره الناس على الإيمان بالآيات الملزمة ، ولكننا لم نفعل .. لأنه ليس في سنتنا الإكراه ..
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } 256 سورة البقرة
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } 99 سورة يونس
ليس في سُنة الله الإكراه ..
والقضاء والقدر لا يصح أن يُفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم .. وإنما على العكس ..
الله يقضي على كل إنسان من جنس نيته .. ويشاء له من جنس مشيئته ، ويريد له من جنس إرادته ، لا ثنائية ... تسيير الله هو عين تخيير العبد ، لأنه الله يسيِّر كل امرئ على هوى قلبه وعلى مقتضى نياته ..
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا } 20 سورة الشورى
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } 10 سورة البقرة
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } 17 سورة محمد
وهو يخاطب الأسرى في القرآن :
{ إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } 70 سورة الأنفال
الله يقضي ويقدِّر ، ويجري قضاءه وقدره على مقتضى النية والقلب .. إن شراً فشر وإن خيراً فخير..
ومعنى هذا أنه لا ثنائية .. التسيير هو عين التخيير .. ولا ثنائية ولا تناقض ..
الله يسيِّرنا إلى ما اخترناه بقلوبنا ونياتنا، فلا ظلم ولا إكراه ولا جبر ، ولا قهر لنا على غير طبائعنا ..
{ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } 5 سورة الليل
{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } 17 سورة الأنفال
هنا تلتقي رمية العبد والرمية المقدَّرة من الرب ، فتكون رمية واحدة.. وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر .. على العبد النية، وعلى الله التمكين، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر..
والحرية الإنسانية ليست مقداراً ثابتاً ، ولكنها قدرة نسبية قابلة للزيادة ..
الإنسان يستطيع أن يزيد من حريته بالعلم .. باختراع الوسائل والأدوات والمواصلات استطاع الإنسان أن يطوي الأرض ، ويهزم المسافات ، ويخترق قيود الزمان والمكان .. وبدراسة قوانين البيئة استطاع أن يتحكم فيها ويسخرها لخدمته، وعرف كيف يهزم الحر والبرد والظلام ، وبذلك يضاعف من حرياته في مجال الفعل ..
العلم كان وسيلة إلى كسر القيود والأغلال وإطلاق الحرية ..
أما الوسيلة الثانية فكانت الدين .. الاستمداد من الله بالتقرب منه .. والأخذ عنه بالوحي والتلقي والتأييد .. وهذه وسيلة الأنبياء ومن في دربهم ..
سخّر سليمان الجن وركب الريح وكلّم الطير بمعونة الله ومدده ..
وشق موسى البحر .. وأحيا المسيح الموتى .. ومشى على الماء .. وأبرأ الأكمه والأبرص والأعمى ..
ونقرأ عن الأولياء أصحاب الكرامات الذين تُطوى لهم الأرض وتكشف لهم المغيبات ..
وهي درجات من الحرية اكتسبوها بالاجتهاد في العبادة والتقرب إلى الله والتحبب إليه .. فأفاض عليهم من علمه المكنون ..
إنه العلم مرة أخرى ..
ولكنه هذه المرة العلم "اللدني" ..
ولهذا يُلخص أبو حامد الغزالي مشكلة المخيَّر والمسيَّر قائلاً في كلمتين :
الإنسان مخيَّر فيما يعلم ..
مسيَّر فيما لا يعلم ..
وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته .. سواء كان العلم المقصود هو العلم الموضوعي أو العلم اللدنِّي ..
ويخطئ المفكرون الماديون أشد الخطأ حينما يتصورون الإنسان أسير الحتميات التاريخية والطبقية .. ويجعلون منه حلقة في سلسلة من الحلقات لا فكاك له ، ولا مهرب من الخضوع لقوانين الاقتصاد وحركة المجتمع ، كأنما هو قشة في تيار بلا ذراعين وبلا إرادة ..
والكلمة التي يرددونها ولا يتعبون من ترديدها وكأنها قانون : "حتمية الصراع الطبقي" وهي كلمة خاطئة في التحليل العلمي ، لأنه لا حتميات في المجال الإنساني ، وإنما على الأكثر ترجيحات واحتمالات .. وهذا هو الفرق بين الإنسان ، وبين التروس ، والآلات والأجسام المادية .. فيمكن التنبوء بخسوف الشمس بالدقيقة والثانية ، ويمكن التنبؤ بحركاتها المستقبلة على مدى أيام وسنين .. أما الإنسان فلا يمكن أن يعلم أحد ماذا يُضمر وماذا يُخبئ في نياته ، وماذا يفعل غداً أو بعد غد .. ولا يمكن معرفة هذا إلا على سبيل الاحتمال والترجيح والتخمين ، وذلك على فرض توفر المعلومات الكافية للحكم ..
وقد أخطأت جميع تنبؤات كارل ماركس ، فلم تبدأ الشيوعية في بلد متقدم كما تنبأ ، بل في بلد متخلف ، ولم يتفاقم الصراع بين الرأسمالية والشيوعية ، بل تقارب الاثنان إلى حالة من التعايش السلمي ، وأكثر من هذا فتحت البلاد الشيوعية أبوابها لرأس المال الأمريكي .. ولم تتصاعد التناقضات في المجتمع الرأسمالي إلى الإفلاس الذي توقعه كارل ماركس ، بل على العكس ، ازدهر الاقتصاد الرأسمالي ووقع الشقاق والخلاف بين أطراف المعسكر الاشتراكي ذاته ..
أخطأت حسابات ماركس جميعها دالة بذلك على خطأ منهجه الحتمي .. ورأينا صراع العصر الذي يحرك التاريخ هو الصراع اللاطبقي بين الصين وروسيا ، وليس الصراع الطبقي الذي جعله ماركس عنوان منهجه .. وكلها شواهد على فشل الفكر المادي في فهم الإنسان والتاريخ ، وتخبطه في حساب المستقبل .. وجاء كل ذلك نتيجة خطأ جوهري ، هو أن الفكر المادي تصوَّر أن الإنسان ذبابة في شبكة من الحتميات .. ونسي تماماً أنّ الإنسان حر .. وأن حريته حقيقة ..
أمّا كلام الماديين عن حكم البيئة والمجتمع والظروف ، وأن الإنسان لا يعيش وحده ولا تتحرك حريته في فراغ ..
نقول ردّاً على هذا الكلام : إن حكم البيئة والمجتمع والظروف كمقاومات للحرية الفردية إنما يؤكد المعنى الجدلي لهذه الحرية ولا ينفيه .. فالحرية الفردية .. لا تؤكد ذاتها إلا ّ في وجه مقاومة تزحزحها..
أما إذا كان الإنسان يتحرك في فراغ بلا مقاومة من أي نوع فإنه لا يكون حراً بالمعنى المفهوم للحرية، لأنه لن تكون هناك عقبة يتغلب عليها ويؤكد حريته من خلالها ..
كتاب حوار مع صديقي الملحد
للدكتور مصطفى محمود رحمه الله. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ حوار مع صديقي الملحد .
إذا كان الله قدَّر عليّ أفعالي فلماذا يحاسبني؟
قال صديقي في شماتة وقد تصوّر أنه أمسكني من عنقي وأنه لا مهرب لي هذه المرة :
أنتم تقولون إن الله يُجري كل شيء في مملكته بقضاء وقدر، وإن الله قدَّر علينا أفعالنا ، فإذا كان هذا هو حالي ، وأن أفعالي كلها مقدّرة عنده فلماذا يحاسبني عليها ؟
لا تقل لي كعادتك . أنا مخيـَّر . فليس هناك فرية أكبر من هذه الفرية ودعني أسألك :
هل خُـيّرتُ في ميلادي وجنسي وطولي وعرضي ولوني ووطني ؟
هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر ؟
هل باختياري ينزل عليَّ القضاء ويفاجئني الموت وأقع في المأساة فلا أجد مخرجاً إلا الجريمة .
لماذا يُكرهني الله على فعل ثم يؤاخذني عليه ؟
وإذا قلت إنك حر ، وإن لك مشيئة إلى جوار مشيئة الله ألا تشرك بهذا الكلام وتقع في القول بتعدد المشيئات ؟
ثم ما قولك في حكم البيئة والظروف ، وفي الحتميات التي يقول بها الماديون التاريخيون ؟
أطلق صاحبي هذه الرصاصات ثم راح يتنفس الصعداء في راحة وقد تصوَّر أني توفيت وانتهيت ، ولم يبق أمامه إلا استحضار الكفن.
قلت له في هدوء :
أنت واقع في عدة مغالطات . فأفعالك معلومة عند الله في كتابه ، ولكنها ليست مقدورة عليك بالإكراه . إنها مقدَّرة في علمه فقط . كما تقدِّر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني . ثم يحدث أن يزني بالفعل . فهل أكرهته . أو كان هذا تقديراً في العلم وقد أصاب علمك .
أما كلامك عن الحرية بأنها فرية ، وتدليلك على ذلك بأنك لم تخيَّر في ميلادك ولا في جنسك ولا في طولك ولا في لونك ولا في موطنك ، وأنك لا تملك نقل الشمس من مكانها . هو تخليط آخر .
وسبب التخليط هذه المرة أنك تتصوَّر الحرية بالطريقة غير تلك التي نتصورها نحن المؤمنين .
أنت تتكلم عن حرية مطلقة . فتقول . أكنت أستطيع أن أخلق نفسي أبيض أو أسود أو طويلا أو قصيراً . هل بإمكاني أن أنقل الشمس من مكانها أو أوقفها في مدارها . أين حريتي ؟
ونحن نقول له : أنت تسأل عن حرية مطلقة . حرية التصرف في الكون وهذه ملك لله وحده . نحن أيضاً لا نقول بهذه الحرية ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾ 68 سورة القصص
ليس لأحد الخيرة في مسألة الخلق ، لأن الله هو الذي يخلق ما يشاء ويختار .
ولن يحاسبك الله على قِصَرك ولن يعاتبك على طولك ولن يعاقبك لأنك لم توقف الشمس في مدارها ، ولكن مجال المساءلة هو مجال التكليف . وأنت في هذا المجال حر . وهذه هي الحدود التي نتكلم فيها .
أنت حر في أن تقمع شهوتك وتلجم غضبك وتقاوم نفسك وتزجر نياتك الشريرة وتشجع ميولك الخيرة.
أنت تستطيع أن تجود بمالك ونفسك .
أنت تستطيع أن تصدق وأن تكذب .
وتستطيع أن تكف يدك عن المال الحرام .
وتستطيع أن تكف بصرك عن عورات الآخرين .
وتستطيع أن تمسك لسانك عن السباب والغيبة والنميمة .
في هذا المجال نحن أحرار .
وفي هذا المجال نُحاسَب ونُسأل .
الحرية التي يدور حولها البحث هي الحرية النسبية وليست الحرية المطلقة حرية الإنسان في مجال التكليف.
وهذه الحرية حقيقة ودليلنا عليها هو شعورنا الفطري بها في داخلنا فنحن نشعر بالمسئولية وبالندم على الخطأ ، وبالراحة للعمل الطيب . ونحن نشعر في كل لحظة أننا نختار ونوازن بين احتمالات متعددة ، بل إن وظيفة عقلنا الأولى هي الترجيح والاختيار بين البديلات .
ونحن نفرق بشكل واضح وحاسم بين يدنا وهي ترتعش بالحمى ، ويدنا وهي تكتب خطاباً . فنقول إن حركة الأولى جبرية قهرية ، والحركة الثانية حرة اختيارية . ولو كنا مسيرين في الحالتين لما استطعنا التفرقة .
ويؤكد هذه الحرية ما نشعر به من استحالة إكراه القلب على شيء لا يرضاه تحت أي ضغط . فيمكنك أن تُكره امرأة بالتهديد والضرب على أن تخلع ثيابها . ولكنك لا تستطيع بأي ضغط أو تهديد أن تجعلها تحبك من قلبها ومعنى هذا أن الله أعتق قلوبنا من كل صنوف الإكراه والإجبار ، وأنه فطرها حرة .
ولهذا جعل الله القلب والنية عمدة الأحكام ، فالمؤمن الذي ينطق بعبارة الشرك والكفر تحت التهديد والتعذيب لا يحاسب على ذلك طالما أن قلبه من الداخل مطمئن بالإيمان ، وقد استثناه الله من المؤاخذة في قوله تعالى: ﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ٌ﴾ 106 سورة النحل
والوجه الآخر من الخلط في هذه المسألة أن بعض الناس يفهم حرية الإنسان بأنها علو على المشيئة ، وانفراد بالأمر ، فيتهم القائلين بالحرية بأنهم أشركوا بالله وجعلوا له أنداداً يأمرون كأمره ، ويحكمون كحكمه ، وهذا ما فهمته أنت أيضاً . فقلت بتعدد المشيئات . وهو فهم خاطئ . فالحرية الإنسانية لا تعلو على المشيئة الإلهية .
إن الإنسان قد يفعل بحريته ما ينافي الرضا الإلهي ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما ينافي المشيئة .
الله أعطانا الحرية أن نعلو على رضاه "فنعصيه" ، ولكن لم يعط أحداً الحرية في أن يعلو على مشيئته . وهنا وجه آخر من وجوه نسبية الحرية الإنسانية .
وكل ما يحدث منا داخل في المشيئة الإلهية وضمنها ، وإن خالف الرضا الإلهي وجانب الشريعة .
وحريتنا ذاتها كانت منحة إلهية وهبة منحها لنا الخالق باختياره . ولم نأخذها منه كرهاً ولا غصباً .
إن حريتنا كانت عين مشيئته .
ومن هنا معنى الآية : ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ ﴾ 30 سورة الإنسان
لأن مشيئتنا ضمن مشيئته ، ومنحة منه ، وهبة من كرمه وفضله ، فهي ضمن إرادته لا ثنائية ولا تناقض ، ولا منافسة منا لأمر الله وحكمه .
والقول بالحرية بهذا المعنى لا ينافي التوحيد ، ولا يجعل لله أنداداً يحكمون كحكمه ويأمرون كأمره . فإن حرياتنا كانت عين أمره ومشيئته وحكمه .
والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسيير والتخيير . فهموا القضاء والقدر بأنه إكراه للإنسان على غير طبعه وطبيعته وهذا خطأ وقعت فيه أنت أيضاً . وقد نفى الله عن نفسه الإكراه بآيات صريحة :
﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ 4 سورة الشعراء
والمعنى واضح . أنه كان من الممكن أن نُكره الناس على الإيمان بالآيات الملزمة ، ولكننا لم نفعل . لأنه ليس في سنتنا الإكراه .
والقضاء والقدر لا يصح أن يُفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم . وإنما على العكس .
الله يقضي على كل إنسان من جنس نيته . ويشاء له من جنس مشيئته ، ويريد له من جنس إرادته ، لا ثنائية .. تسيير الله هو عين تخيير العبد ، لأنه الله يسيِّر كل امرئ على هوى قلبه وعلى مقتضى نياته .
﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ﴾ 17 سورة محمد
وهو يخاطب الأسرى في القرآن :
﴿ إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ ﴾ 70 سورة الأنفال
الله يقضي ويقدِّر ، ويجري قضاءه وقدره على مقتضى النية والقلب . إن شراً فشر وإن خيراً فخير.
ومعنى هذا أنه لا ثنائية . التسيير هو عين التخيير . ولا ثنائية ولا تناقض .
الله يسيِّرنا إلى ما اخترناه بقلوبنا ونياتنا، فلا ظلم ولا إكراه ولا جبر ، ولا قهر لنا على غير طبائعنا .
﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ 5 سورة الليل
هنا تلتقي رمية العبد والرمية المقدَّرة من الرب ، فتكون رمية واحدة. وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر . على العبد النية، وعلى الله التمكين، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
والحرية الإنسانية ليست مقداراً ثابتاً ، ولكنها قدرة نسبية قابلة للزيادة .
الإنسان يستطيع أن يزيد من حريته بالعلم . باختراع الوسائل والأدوات والمواصلات استطاع الإنسان أن يطوي الأرض ، ويهزم المسافات ، ويخترق قيود الزمان والمكان . وبدراسة قوانين البيئة استطاع أن يتحكم فيها ويسخرها لخدمته، وعرف كيف يهزم الحر والبرد والظلام ، وبذلك يضاعف من حرياته في مجال الفعل .
العلم كان وسيلة إلى كسر القيود والأغلال وإطلاق الحرية .
أما الوسيلة الثانية فكانت الدين . الاستمداد من الله بالتقرب منه . والأخذ عنه بالوحي والتلقي والتأييد . وهذه وسيلة الأنبياء ومن في دربهم .
سخّر سليمان الجن وركب الريح وكلّم الطير بمعونة الله ومدده .
وشق موسى البحر . وأحيا المسيح الموتى . ومشى على الماء . وأبرأ الأكمه والأبرص والأعمى .
ونقرأ عن الأولياء أصحاب الكرامات الذين تُطوى لهم الأرض وتكشف لهم المغيبات .
وهي درجات من الحرية اكتسبوها بالاجتهاد في العبادة والتقرب إلى الله والتحبب إليه . فأفاض عليهم من علمه المكنون .
إنه العلم مرة أخرى .
ولكنه هذه المرة العلم "اللدني" .
ولهذا يُلخص أبو حامد الغزالي مشكلة المخيَّر والمسيَّر قائلاً في كلمتين :
الإنسان مخيَّر فيما يعلم .
مسيَّر فيما لا يعلم .
وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته . سواء كان العلم المقصود هو العلم الموضوعي أو العلم اللدنِّي .
ويخطئ المفكرون الماديون أشد الخطأ حينما يتصورون الإنسان أسير الحتميات التاريخية والطبقية . ويجعلون منه حلقة في سلسلة من الحلقات لا فكاك له ، ولا مهرب من الخضوع لقوانين الاقتصاد وحركة المجتمع ، كأنما هو قشة في تيار بلا ذراعين وبلا إرادة .
والكلمة التي يرددونها ولا يتعبون من ترديدها وكأنها قانون : "حتمية الصراع الطبقي" وهي كلمة خاطئة في التحليل العلمي ، لأنه لا حتميات في المجال الإنساني ، وإنما على الأكثر ترجيحات واحتمالات . وهذا هو الفرق بين الإنسان ، وبين التروس ، والآلات والأجسام المادية . فيمكن التنبوء بخسوف الشمس بالدقيقة والثانية ، ويمكن التنبؤ بحركاتها المستقبلة على مدى أيام وسنين . أما الإنسان فلا يمكن أن يعلم أحد ماذا يُضمر وماذا يُخبئ في نياته ، وماذا يفعل غداً أو بعد غد . ولا يمكن معرفة هذا إلا على سبيل الاحتمال والترجيح والتخمين ، وذلك على فرض توفر المعلومات الكافية للحكم .
وقد أخطأت جميع تنبؤات كارل ماركس ، فلم تبدأ الشيوعية في بلد متقدم كما تنبأ ، بل في بلد متخلف ، ولم يتفاقم الصراع بين الرأسمالية والشيوعية ، بل تقارب الاثنان إلى حالة من التعايش السلمي ، وأكثر من هذا فتحت البلاد الشيوعية أبوابها لرأس المال الأمريكي . ولم تتصاعد التناقضات في المجتمع الرأسمالي إلى الإفلاس الذي توقعه كارل ماركس ، بل على العكس ، ازدهر الاقتصاد الرأسمالي ووقع الشقاق والخلاف بين أطراف المعسكر الاشتراكي ذاته .
أخطأت حسابات ماركس جميعها دالة بذلك على خطأ منهجه الحتمي . ورأينا صراع العصر الذي يحرك التاريخ هو الصراع اللاطبقي بين الصين وروسيا ، وليس الصراع الطبقي الذي جعله ماركس عنوان منهجه . وكلها شواهد على فشل الفكر المادي في فهم الإنسان والتاريخ ، وتخبطه في حساب المستقبل . وجاء كل ذلك نتيجة خطأ جوهري ، هو أن الفكر المادي تصوَّر أن الإنسان ذبابة في شبكة من الحتميات . ونسي تماماً أنّ الإنسان حر . وأن حريته حقيقة .
أمّا كلام الماديين عن حكم البيئة والمجتمع والظروف ، وأن الإنسان لا يعيش وحده ولا تتحرك حريته في فراغ .
نقول ردّاً على هذا الكلام : إن حكم البيئة والمجتمع والظروف كمقاومات للحرية الفردية إنما يؤكد المعنى الجدلي لهذه الحرية ولا ينفيه . فالحرية الفردية . لا تؤكد ذاتها إلا ّ في وجه مقاومة تزحزحها.
أما إذا كان الإنسان يتحرك في فراغ بلا مقاومة من أي نوع فإنه لا يكون حراً بالمعنى المفهوم للحرية، لأنه لن تكون هناك عقبة يتغلب عليها ويؤكد حريته من خلالها .
كتاب حوار مع صديقي الملحد
للدكتور مصطفى محمود رحمه الله. ❝
❞ – ورسول الله صل الله عليه وسلم أعظم جاها وأجل منصبا وأعلى قدرا من يوشع بن نون ، بل من سائر الانبياء على الاطلاق ولكن لا نقول إلا ما صح عندنا [ عنه ] ولا نسند إليه ما ليس بصحيح ، ولو صح لكنا من أول القائلين به ، والمعتقدين له وبالله المستعان. ❝ ⏤حنان عبد المنان
❞ – ورسول الله صل الله عليه وسلم أعظم جاها وأجل منصبا وأعلى قدرا من يوشع بن نون ، بل من سائر الانبياء على الاطلاق ولكن لا نقول إلا ما صح عندنا [ عنه ] ولا نسند إليه ما ليس بصحيح ، ولو صح لكنا من أول القائلين به ، والمعتقدين له وبالله المستعان. ❝