❞ وقدم وفد هوازن على رسول الله ﷺ ، بعد معركة حُنين ، وهم أربعة عشر رجلاً ، ورأسُهم زهير بن صرد ، وفيهم أبو برقان عم رسول الله ﷺ من الرضاعة ، فسألوه أن يَمُنَّ عليهم بالسبي والأموال ، فقال ﷺ ( إِنَّ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ ، وإِنَّ أَحَبَّ الحَدِيث إِلَيَّ أَصْدَقُهُ ، فَأَبْنَاؤُكُم ونساؤُكُم أَحَبُّ إِلَيْكُم أَمْ أَمْوَالُكُمْ ؟ ) ، قالوا : ما كنا نعدِلُ بالأحساب شيئاً ، فقال ﷺ ( إذا صَلَّيْتُ الغَدَاةَ فَقُومُوا فقولوا : إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَنَسْتَشْفِعُ بِالمُؤمِنِينَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْنَا سَبينَا ) ، فلما صلى الغداة ، قاموا فقالُوا ذلِكَ ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ ( أَمَّا مَا كَانَ لي ولبني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ ، وَسَأَسْأَلُ لَكُمُ النَّاسَ ) ، فقال المهاجِرُونَ والأنصار ما كان لنا فهو لرسول الله ﷺ ، فقال الأقرع بن حابس : أما أنا وبنو تميم ، فلا ، وقال عيينة بن حصن أما أنا وبنو فَزارة فلا ، وقال العباس بن مرداس : أما أنا وبنو سليم ، فلا ، فقالت بنو سليم ما كان لنا ، فهو لرسول الله ﷺ ، فقال العباس بن مرداس : وهنتموني ، فقال رسولُ الله ﷺ ( إِنَّ هؤلاء القَوْمَ قَدْ جَاؤُوا مُسْلِمِينَ ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ سَيْبَهُم ، وقد خَيَّرْتُهم ، فَلَمْ يَعْدِلُوا بالأبناء والنِّسَاء شَيْئاً ، فمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شيء ، فَطَابَتْ نَفْسُهُ بأن يَرُدَّه ، فسبيل ذلكَ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَمْسِكَ بِحَقِّهِ ، فليرُدَّ عليهِمْ ، ولَهُ بِكُلِّ فَرِيضَةٍ ستُ فرائضَ مِنْ أَوَّلِ ما يفيء الله علينا ) ، فقال الناسُ : قد طيبنا لرسول الله ﷺ ، فقال ﷺ ( إنا لا نعرِفُ مَنْ رَضِيَ مِنْكُم مِمَّنْ لَمْ يَرْضَ ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرفَعَ إلينا عرفاؤكم أَمْرَكُم ) ، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم ، ولم يتخلف منهم أحد غير عُيينة بن حِصن ، فإنه أبى أن يرد عجوزاً صارت في يديه ، ثم ردها بعد ذلك ، وكسا رسول الله ﷺ السَّبي قبطية قبطية. ❝ ⏤محمد ابن قيم الجوزية
❞ وقدم وفد هوازن على رسول الله ﷺ ، بعد معركة حُنين ، وهم أربعة عشر رجلاً ، ورأسُهم زهير بن صرد ، وفيهم أبو برقان عم رسول الله ﷺ من الرضاعة ، فسألوه أن يَمُنَّ عليهم بالسبي والأموال ، فقال ﷺ ( إِنَّ مَعِي مَنْ تَرَوْنَ ، وإِنَّ أَحَبَّ الحَدِيث إِلَيَّ أَصْدَقُهُ ، فَأَبْنَاؤُكُم ونساؤُكُم أَحَبُّ إِلَيْكُم أَمْ أَمْوَالُكُمْ ؟ ) ، قالوا : ما كنا نعدِلُ بالأحساب شيئاً ، فقال ﷺ ( إذا صَلَّيْتُ الغَدَاةَ فَقُومُوا فقولوا : إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَنَسْتَشْفِعُ بِالمُؤمِنِينَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيْنَا سَبينَا ) ، فلما صلى الغداة ، قاموا فقالُوا ذلِكَ ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ ( أَمَّا مَا كَانَ لي ولبني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ ، وَسَأَسْأَلُ لَكُمُ النَّاسَ ) ، فقال المهاجِرُونَ والأنصار ما كان لنا فهو لرسول الله ﷺ ، فقال الأقرع بن حابس : أما أنا وبنو تميم ، فلا ، وقال عيينة بن حصن أما أنا وبنو فَزارة فلا ، وقال العباس بن مرداس : أما أنا وبنو سليم ، فلا ، فقالت بنو سليم ما كان لنا ، فهو لرسول الله ﷺ ، فقال العباس بن مرداس : وهنتموني ، فقال رسولُ الله ﷺ ( إِنَّ هؤلاء القَوْمَ قَدْ جَاؤُوا مُسْلِمِينَ ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ سَيْبَهُم ، وقد خَيَّرْتُهم ، فَلَمْ يَعْدِلُوا بالأبناء والنِّسَاء شَيْئاً ، فمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهُنَّ شيء ، فَطَابَتْ نَفْسُهُ بأن يَرُدَّه ، فسبيل ذلكَ ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَمْسِكَ بِحَقِّهِ ، فليرُدَّ عليهِمْ ، ولَهُ بِكُلِّ فَرِيضَةٍ ستُ فرائضَ مِنْ أَوَّلِ ما يفيء الله علينا ) ، فقال الناسُ : قد طيبنا لرسول الله ﷺ ، فقال ﷺ ( إنا لا نعرِفُ مَنْ رَضِيَ مِنْكُم مِمَّنْ لَمْ يَرْضَ ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرفَعَ إلينا عرفاؤكم أَمْرَكُم ) ، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم ، ولم يتخلف منهم أحد غير عُيينة بن حِصن ، فإنه أبى أن يرد عجوزاً صارت في يديه ، ثم ردها بعد ذلك ، وكسا رسول الله ﷺ السَّبي قبطية قبطية. ❝
❞ الفتح الأعظم ...
فلما نزل رسول الله ﷺ مر الظهران ، نزله عشاء ، فأمر الجيش فأوقدوا النيران ، فأُوقدت عشرة آلاف نار ، وجعل رسول الله ﷺ على الحَرَسَ عُمَرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه ، وركب العباس بغلة رسول الله ﷺ البيضاء ، وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطّابة ، أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله ﷺ قبل أن يدخلها عَنْوَةً ، قال : والله إني لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان ، وبدیل بن ورقاء وهُما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول : ما رأيتُ كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً ، قال : يقول بديل : هذه واللَّهِ خزاعة حَمَشَتْهَا الحَرْبُ ، فيقول أبو سفيان : خُزاعة أقل وأذلُّ أن تكون هذه نيرانها وعسكرها قال فعرفتُ صوته ، فقلت : أبا حنظلة ! فعرف صوتي ، فقال : أبا الفضل ؟ قلت : نعم ، قال : مالك فداك أبي وأمي ؟ قال : قلتُ : هذا رسول الله ﷺ في الناس واصباحَ قُريش واللهِ ، قال : فما الحيلةُ فداك أبي وأمي ؟ قلت : والله لئن ظَفِرَ بكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنقَكَ ، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله ، فاستأمنه لك ، فركب خَلْفي ورجع صَاحِبَاه قال فجئتُ به فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا مَنْ هَذَا ؟ فإذا رأَوْا بغلةَ رسول الله ﷺ وأنا عليها ، قالوا : عم رسول الله ﷺ على بغلته حتى مررتُ بنارِ : عمر بن الخطاب فقال : من هذا ؟ وقام إليَّ ، فلما رأى أبا سفيان علي عَجزِ الدابة ، قال : أبو سفيان عَدُوٌّ الله ، الحمد لله الذي امْكَنَ مِنْكَ بغير عقد ولا عهد ، ثم خرج يشتد نحو رسول الله ﷺ ، وركضت البغلة ، فَسَبَقَتْ ، فاقتحمت عن البغلة ، فدخلت على رسول الله ﷺ ، ودخل عليه عُمَرُ ، فقال : يا رسول الله ! هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه ، قال: قلتُ : يا رسول الله ﷺ إني قد أجرته ، ثم جلستُ إلى رسول الله ﷺ ، فأخذتُ برأسه ، فقلتُ : والله لا يُناجيه الليلة أحد دوني ، فلما أكثر عُمَرُ في شأنه، قلتُ : مهلاً يا عمر ، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قُلْتَ مِثْلَ هذا ، قال : مهلاً يا عباس ، فوالله لإسْلامُكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلامِ الخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ ، وما بي إلَّا أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَكَ كَانَ أَحبَّ إلى رسول الله ﷺ من إسلام الخطاب ، فقال رسول الله ﷺ ( اذْهَبْ بِهِ يا عبَّاسُ إِلى رَحْلِكَ ، فإذا أَصْبَحْتَ فَالتِني به ) ، فذهبت فلما أصبحتُ غدوتُ به إلى رسول الله ﷺ ، فلما راه رسول الله ﷺ قال ( وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ ، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِله إِلَّا الله ؟ ) قال : بأبي أنتَ وأمي ، ما أحلمك ، وأكرمك ، وأوصلك ، لقد ظننتُ أن لو كان مع الله إله غيره ، لقد أغني شيئاً بعد ، قال ﷺ ( ويحك يا أبا سفيان ، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ الله ؟ ) قال : بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمَكَ وأوصلك ، أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئاً ، فقال له العباس : ويحك أسلم ، واشهد أن لا إله إلَّا الله ، وأن محمداً رسول الله قبل أن تُضْرَبَ عنقُك ، فأسلم وشَهِدَ شهادة الحق ، فقال العباس : يا رسول الله ! إن أبا سفيان رَجُلٌ يُحِبُّ الفخر ، فاجعل له شيئاً ، قال ﷺ ( نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبي سفيان ، فَهُوَ آمِنٌ ، ومَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهِ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام فَهُوَ آمن ) وأمر ﷺ العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تَمُرَّ به جنود الله ، فيراها ، ففعل ، فمرَّتِ القبائل على راياتها ، كلما مرت به قبيلةٌ قال: يا عباس، مَنْ هذه؟ فأقول : سليم ، قال : فيقول : ما لي ولسليم ، ثم تمرُّ به القبيلة ، فيقول: يا عباس ! مَنْ هولاء ؟ فأقول : مُزَيْنَة ، فيقول : ما لي ومُزينة ، حتى نَفَدَتِ القبائل ، ما تَمُرُّ به قبيلة إِلَّا سألني عنها ، فإذا أخبرته بهم : قال : ما لي ولبني فلان حتى مر به رسول الله ﷺ في كتيبته الخضراء ، فيها المهاجرون والأنصار لا يُرى منهم الا الحدق من الحديد قال : سبحان الله يا عباس ، من هؤلاء ؟ قال : قلت : هذا رسول الله ﷺ في المهاجرين والأنصار ، قال : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ، ثم قال : والله يا أبا الفضل ! لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابن أخيك اليَوْمَ عظيماً ، قال : قلت يا أبا سفيان : إنها النبوة ، قال : فنعم إذاً ، قال : قلتُ : النَّجاء إلى قومك. ❝ ⏤محمد ابن قيم الجوزية
❞ الفتح الأعظم ..
فلما نزل رسول الله ﷺ مر الظهران ، نزله عشاء ، فأمر الجيش فأوقدوا النيران ، فأُوقدت عشرة آلاف نار ، وجعل رسول الله ﷺ على الحَرَسَ عُمَرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه ، وركب العباس بغلة رسول الله ﷺ البيضاء ، وخرج يلتمس لعله يجد بعض الحطّابة ، أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله ﷺ قبل أن يدخلها عَنْوَةً ، قال : والله إني لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان ، وبدیل بن ورقاء وهُما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول : ما رأيتُ كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً ، قال : يقول بديل : هذه واللَّهِ خزاعة حَمَشَتْهَا الحَرْبُ ، فيقول أبو سفيان : خُزاعة أقل وأذلُّ أن تكون هذه نيرانها وعسكرها قال فعرفتُ صوته ، فقلت : أبا حنظلة ! فعرف صوتي ، فقال : أبا الفضل ؟ قلت : نعم ، قال : مالك فداك أبي وأمي ؟ قال : قلتُ : هذا رسول الله ﷺ في الناس واصباحَ قُريش واللهِ ، قال : فما الحيلةُ فداك أبي وأمي ؟ قلت : والله لئن ظَفِرَ بكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنقَكَ ، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله ، فاستأمنه لك ، فركب خَلْفي ورجع صَاحِبَاه قال فجئتُ به فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا مَنْ هَذَا ؟ فإذا رأَوْا بغلةَ رسول الله ﷺ وأنا عليها ، قالوا : عم رسول الله ﷺ على بغلته حتى مررتُ بنارِ : عمر بن الخطاب فقال : من هذا ؟ وقام إليَّ ، فلما رأى أبا سفيان علي عَجزِ الدابة ، قال : أبو سفيان عَدُوٌّ الله ، الحمد لله الذي امْكَنَ مِنْكَ بغير عقد ولا عهد ، ثم خرج يشتد نحو رسول الله ﷺ ، وركضت البغلة ، فَسَبَقَتْ ، فاقتحمت عن البغلة ، فدخلت على رسول الله ﷺ ، ودخل عليه عُمَرُ ، فقال : يا رسول الله ! هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه ، قال: قلتُ : يا رسول الله ﷺ إني قد أجرته ، ثم جلستُ إلى رسول الله ﷺ ، فأخذتُ برأسه ، فقلتُ : والله لا يُناجيه الليلة أحد دوني ، فلما أكثر عُمَرُ في شأنه، قلتُ : مهلاً يا عمر ، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قُلْتَ مِثْلَ هذا ، قال : مهلاً يا عباس ، فوالله لإسْلامُكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلامِ الخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ ، وما بي إلَّا أَنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَكَ كَانَ أَحبَّ إلى رسول الله ﷺ من إسلام الخطاب ، فقال رسول الله ﷺ ( اذْهَبْ بِهِ يا عبَّاسُ إِلى رَحْلِكَ ، فإذا أَصْبَحْتَ فَالتِني به ) ، فذهبت فلما أصبحتُ غدوتُ به إلى رسول الله ﷺ ، فلما راه رسول الله ﷺ قال ( وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ ، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إِله إِلَّا الله ؟ ) قال : بأبي أنتَ وأمي ، ما أحلمك ، وأكرمك ، وأوصلك ، لقد ظننتُ أن لو كان مع الله إله غيره ، لقد أغني شيئاً بعد ، قال ﷺ ( ويحك يا أبا سفيان ، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ الله ؟ ) قال : بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمَكَ وأوصلك ، أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئاً ، فقال له العباس : ويحك أسلم ، واشهد أن لا إله إلَّا الله ، وأن محمداً رسول الله قبل أن تُضْرَبَ عنقُك ، فأسلم وشَهِدَ شهادة الحق ، فقال العباس : يا رسول الله ! إن أبا سفيان رَجُلٌ يُحِبُّ الفخر ، فاجعل له شيئاً ، قال ﷺ ( نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبي سفيان ، فَهُوَ آمِنٌ ، ومَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهِ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام فَهُوَ آمن ) وأمر ﷺ العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تَمُرَّ به جنود الله ، فيراها ، ففعل ، فمرَّتِ القبائل على راياتها ، كلما مرت به قبيلةٌ قال: يا عباس، مَنْ هذه؟ فأقول : سليم ، قال : فيقول : ما لي ولسليم ، ثم تمرُّ به القبيلة ، فيقول: يا عباس ! مَنْ هولاء ؟ فأقول : مُزَيْنَة ، فيقول : ما لي ومُزينة ، حتى نَفَدَتِ القبائل ، ما تَمُرُّ به قبيلة إِلَّا سألني عنها ، فإذا أخبرته بهم : قال : ما لي ولبني فلان حتى مر به رسول الله ﷺ في كتيبته الخضراء ، فيها المهاجرون والأنصار لا يُرى منهم الا الحدق من الحديد قال : سبحان الله يا عباس ، من هؤلاء ؟ قال : قلت : هذا رسول الله ﷺ في المهاجرين والأنصار ، قال : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ، ثم قال : والله يا أبا الفضل ! لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابن أخيك اليَوْمَ عظيماً ، قال : قلت يا أبا سفيان : إنها النبوة ، قال : فنعم إذاً ، قال : قلتُ : النَّجاء إلى قومك. ❝
❞ لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وارتجت العرب واختلف المسلمون ولا سيما الأنصار والمهاجرون في الخلافة فتدارك الأمر "أبو بكر" رضي الله عنه بحكمته وسرعته وسرعة بديهته وتمت البيعة له بالإجماع. وقد برهن رضي الله عنه أنه أكفأ رجل وأنه رجل الساعة وقتئذ لأن العرب عندما سمعوا بوفاة رسول الله ارتد كثير منهم؛ ولكن هذا الأمر لم يرهب الخليفة، وإنما حثه على إرسال الجيوش واختيار القواد والولاة إلى جميع أنحاء العرب؛ فكبح جماح المرتدين وهزمهم شرّ هزيمة.
ولا يقتصر على ذلك بل بعث الجيوش إلى العراق والشام، فانهزمت الفرس والروم ومن ولاهما من العرب وتعدى المسلمون في فتوحهم شبه جزيرة العرب. وقد تمّ ذلك كله في مدة خلافته وهي سنتان وأشهر، ولا شك أن هذه مدة قصيرة بالنسبة إلى ما تمّ في خلالها من جلائل الأعمال، وقد مهد بذلك طريق الفتوحات الإسلامية لمن جاء بعده من الخلفاء واتضحت بذلك حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختيار أبي بكر بعده.
هذا هو أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عنى "محمد رضا" بترجمة حياته وشرح خلافته ومآثره، وأعماله التي استطاع من خلالها توطيد دعائم الدين الإسلامي. وقد ألحق المؤلف سيرة أبو بكر الصديق رضي الله عنه بسيرة صحابي جليل وبطل مشهور وفارس مأثور "خالد بن الوليد" (سيف الله)، صاحب الفتوحات العظيمة والغزوات الكثيرة، وأشهر الفاتحين في الإسلام. ❝ ⏤محمد رضا
❞ لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وارتجت العرب واختلف المسلمون ولا سيما الأنصار والمهاجرون في الخلافة فتدارك الأمر ˝أبو بكر˝ رضي الله عنه بحكمته وسرعته وسرعة بديهته وتمت البيعة له بالإجماع. وقد برهن رضي الله عنه أنه أكفأ رجل وأنه رجل الساعة وقتئذ لأن العرب عندما سمعوا بوفاة رسول الله ارتد كثير منهم؛ ولكن هذا الأمر لم يرهب الخليفة، وإنما حثه على إرسال الجيوش واختيار القواد والولاة إلى جميع أنحاء العرب؛ فكبح جماح المرتدين وهزمهم شرّ هزيمة.
ولا يقتصر على ذلك بل بعث الجيوش إلى العراق والشام، فانهزمت الفرس والروم ومن ولاهما من العرب وتعدى المسلمون في فتوحهم شبه جزيرة العرب. وقد تمّ ذلك كله في مدة خلافته وهي سنتان وأشهر، ولا شك أن هذه مدة قصيرة بالنسبة إلى ما تمّ في خلالها من جلائل الأعمال، وقد مهد بذلك طريق الفتوحات الإسلامية لمن جاء بعده من الخلفاء واتضحت بذلك حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اختيار أبي بكر بعده.
هذا هو أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عنى ˝محمد رضا˝ بترجمة حياته وشرح خلافته ومآثره، وأعماله التي استطاع من خلالها توطيد دعائم الدين الإسلامي. وقد ألحق المؤلف سيرة أبو بكر الصديق رضي الله عنه بسيرة صحابي جليل وبطل مشهور وفارس مأثور ˝خالد بن الوليد˝ (سيف الله)، صاحب الفتوحات العظيمة والغزوات الكثيرة، وأشهر الفاتحين في الإسلام. ❝
❞ سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ..
ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العُزَّي ، ورسول الله ﷺ مقيم بمكة ، بعثه إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام ، ولم يبعثه مقاتلاً ، فخرج في ثلاثمئة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار وبني سليم ، فانتهى إليهم ، فقال : ما أنتم ؟ قالوا : مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحتنا ، وأذنا فيها ، قال : فما بال السلاح عليكم ؟ قالوا : إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة ، فخفنا أن تكونوا هم ، وقد قيل : أنهم قالوا صبأنا ، ولم يُحسِنُوا أن يقولُوا : أسلمنا ، قال : فضعُوا السلاح ، فوضعوه ، فقال لهم : استأسروا ، فاستأسر القوم ، فأمر بعضهم فكتف بعضاً ، وفرقهم في أصحابه ، فلما كان في السحر ، نادى خالد بن الوليد : من كان معه أسير ، فليضرب عنقه ، فأما بنو سليم ، فقتلوا من كان في أيديهم ، وأما المهاجرون والأنصار ، فأرسلوا أسراهم ، فبلغ النبي ﷺ ما صنع خالد ، فقال ﷺ ( اللهم إِنِّي أَبْرَأَ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ ) ، وبعث علياً يُودي لهم قتلاهم وما ذهب منهم ، وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك ، فبلغ النبي ﷺ ، فقال ﷺ ( مَهْلاً يَا خَالِدُ دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكَ مثل أُحُدٌ ذَهَبَاً ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ في سَبِيلِ اللَّهِ مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةً رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا
رَوْحَتَه ). ❝ ⏤محمد ابن قيم الجوزية
❞ سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة .
ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العُزَّي ، ورسول الله ﷺ مقيم بمكة ، بعثه إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام ، ولم يبعثه مقاتلاً ، فخرج في ثلاثمئة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار وبني سليم ، فانتهى إليهم ، فقال : ما أنتم ؟ قالوا : مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحتنا ، وأذنا فيها ، قال : فما بال السلاح عليكم ؟ قالوا : إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة ، فخفنا أن تكونوا هم ، وقد قيل : أنهم قالوا صبأنا ، ولم يُحسِنُوا أن يقولُوا : أسلمنا ، قال : فضعُوا السلاح ، فوضعوه ، فقال لهم : استأسروا ، فاستأسر القوم ، فأمر بعضهم فكتف بعضاً ، وفرقهم في أصحابه ، فلما كان في السحر ، نادى خالد بن الوليد : من كان معه أسير ، فليضرب عنقه ، فأما بنو سليم ، فقتلوا من كان في أيديهم ، وأما المهاجرون والأنصار ، فأرسلوا أسراهم ، فبلغ النبي ﷺ ما صنع خالد ، فقال ﷺ ( اللهم إِنِّي أَبْرَأَ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ ) ، وبعث علياً يُودي لهم قتلاهم وما ذهب منهم ، وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك ، فبلغ النبي ﷺ ، فقال ﷺ ( مَهْلاً يَا خَالِدُ دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكَ مثل أُحُدٌ ذَهَبَاً ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ في سَبِيلِ اللَّهِ مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةً رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا
❞ فلما كان في رمضان من السنة الثانية للهجرة ، بلغ رسول الله ﷺ خبر العير المقبلة من الشام لقريش صحبة أبي سفيان ، وهي العير التي خرجوا في طلبها لما خرجت من مكة ، وكانوا نحو أربعين رجلاً ، وفيها أموال عظيمة لقريش ، فندب رسول الله ﷺ الناس للخروج إليها ، وأمر من كان ظهره حاضراً بالنهوض ، ولم يحتفل لها احتفالاً بليغاً ، لأنه خرج مُسْرِعاً في ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً ، ولم يكن معهم من الخيل إلَّا فَرَسانِ : فرس للزبير بن العوام ، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي ، وكان معهم سبعون بعيراً يَعتَقِبُ الرجلان والثلاثةُ على البعير الواحد ، فكان رسول الله ﷺ ، وعلي ، ومَرْثَدُ بنُ أَبي مَرْتَدِ الغَنوي ، يعتقبُون بعيراً ، وزيد بن حارثة ، وابنه وكبشة موالي رسول الله ﷺ ، يعتَقِبُونَ بعيراً ، وأبو بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبُونَ بعيراً ، واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم ، فلما كان بالرَّوحاء ، رَدَّ أبا لبابة بن عبد المنذر ، واستعمله على المدينة ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ، والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب ، والأخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ ، وجعل على الساقة قيس بن أبي صَعْصَعَةً ، وسار ، فلما قَرُبَ مِن الصَّفْرَاء ، بعث بَسْبَسَ بنَ عمرو الجهني ، وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار العير ، وأما أبو سفيان ، فإنه بلغه مخرج رسول الله ﷺ وقصده إياه ، فاستأجر ضَمْضَمَ بن عمرو الغفاري إلى مكة ، مُستضرخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم ، ليمنعوه من محمد وأصحابه ، وبلغ الصريخ أهل مكة ، فنهضوا مسرعين ، وأوعبوا في الخروج ، فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب ، فإنه عوض عنه رجلاً كان له عليه دين ، وحشدُوا فيمن حولهم من قبائل العرب ، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي ، فلم يخرُج معهم منهم أحد ، وخرجوا من ديارهم كما قال تعالى { بَطَرًا وَرِثَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عن سَبِيلِ اللَّهِ } ، وأقبلوا كما قال رسول الله ﷺ ( بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِم ، تُحَادُّهُ وتُحَادُّ رَسُولَه ) ، وجاؤوا على حَرْدٍ قادرين ، وعلى حمية ، وغضب ، وحَنَقٍ على رسول الله ﷺ وأصحابه ، لما يُريدون من أخذ عيرهم ، وقتل من فيها ، وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي ، والعير التي كانت معه ، فجمعهما الله على غير ميعاد كما قال الله تعالى { وَلَوْ تواعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَد ولكن ليقضى الله أمرا كَانَ مَفْعُولاً } ، ولما بلغ رسول الله ﷺ خروجُ قريش ، استشار أصحابه ، فتكلم المهاجرون فأحسَنُوا ، ثم استشارهم ثانياً ، فتكلم المهاجرون فأحسنوا ، ثم استشارهم ثالثاً ، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم ، فبادر سعدُ بنُ معاذ ، فقال : يا رسول الله ! كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بنا ؟ وكان إنما يعنيهم ، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم ، فلما عزم على الخروج ، استشارهم ليعلم ما عندهم ، فقال له سعد : لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُون الأَنصارُ تَرَى حقاً عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها ، وإني أقول عن الأنصار ، وأجيب عنهم : فاظْعَنْ حَيْثُ شِئْتَ ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ ، وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ ، وَأعطِنَا مَا شِئْتَ ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ ، وَمَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لأَمْرِكَ ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُعَ البَرْكَ مِنْ عمدانَ ، لَنَسِيَرَنَّ مَعَكَ ، وَوَاللَّهِ لَيْنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذا البَحْرَ خُضْنَاهُ مَعَكَ ، وقَالَ لَهُ المَقْدَادُ : لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسى : اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينكَ ، وَعَنْ شِمَالِكَ ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ ، وَمِنْ خَلْفِكَ ، فأشرق وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، وَسُرَّ بِمَا سَمِعَ مِنْ أصحابه ، وقال ﷺ ( سِيرُوا وأبشروا ، فإنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَصارِعَ القَوْمِ ). ❝ ⏤محمد ابن قيم الجوزية
❞ فلما كان في رمضان من السنة الثانية للهجرة ، بلغ رسول الله ﷺ خبر العير المقبلة من الشام لقريش صحبة أبي سفيان ، وهي العير التي خرجوا في طلبها لما خرجت من مكة ، وكانوا نحو أربعين رجلاً ، وفيها أموال عظيمة لقريش ، فندب رسول الله ﷺ الناس للخروج إليها ، وأمر من كان ظهره حاضراً بالنهوض ، ولم يحتفل لها احتفالاً بليغاً ، لأنه خرج مُسْرِعاً في ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً ، ولم يكن معهم من الخيل إلَّا فَرَسانِ : فرس للزبير بن العوام ، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي ، وكان معهم سبعون بعيراً يَعتَقِبُ الرجلان والثلاثةُ على البعير الواحد ، فكان رسول الله ﷺ ، وعلي ، ومَرْثَدُ بنُ أَبي مَرْتَدِ الغَنوي ، يعتقبُون بعيراً ، وزيد بن حارثة ، وابنه وكبشة موالي رسول الله ﷺ ، يعتَقِبُونَ بعيراً ، وأبو بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف يعتقبُونَ بعيراً ، واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم ، فلما كان بالرَّوحاء ، رَدَّ أبا لبابة بن عبد المنذر ، واستعمله على المدينة ، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير ، والراية الواحدة إلى علي بن أبي طالب ، والأخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ ، وجعل على الساقة قيس بن أبي صَعْصَعَةً ، وسار ، فلما قَرُبَ مِن الصَّفْرَاء ، بعث بَسْبَسَ بنَ عمرو الجهني ، وعدي بن أبي الزغباء إلى بدر يتجسسان أخبار العير ، وأما أبو سفيان ، فإنه بلغه مخرج رسول الله ﷺ وقصده إياه ، فاستأجر ضَمْضَمَ بن عمرو الغفاري إلى مكة ، مُستضرخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم ، ليمنعوه من محمد وأصحابه ، وبلغ الصريخ أهل مكة ، فنهضوا مسرعين ، وأوعبوا في الخروج ، فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب ، فإنه عوض عنه رجلاً كان له عليه دين ، وحشدُوا فيمن حولهم من قبائل العرب ، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي ، فلم يخرُج معهم منهم أحد ، وخرجوا من ديارهم كما قال تعالى ﴿ بَطَرًا وَرِثَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ، وأقبلوا كما قال رسول الله ﷺ ( بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِم ، تُحَادُّهُ وتُحَادُّ رَسُولَه ) ، وجاؤوا على حَرْدٍ قادرين ، وعلى حمية ، وغضب ، وحَنَقٍ على رسول الله ﷺ وأصحابه ، لما يُريدون من أخذ عيرهم ، وقتل من فيها ، وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي ، والعير التي كانت معه ، فجمعهما الله على غير ميعاد كما قال الله تعالى ﴿ وَلَوْ تواعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَد ولكن ليقضى الله أمرا كَانَ مَفْعُولاً ﴾ ، ولما بلغ رسول الله ﷺ خروجُ قريش ، استشار أصحابه ، فتكلم المهاجرون فأحسَنُوا ، ثم استشارهم ثانياً ، فتكلم المهاجرون فأحسنوا ، ثم استشارهم ثالثاً ، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم ، فبادر سعدُ بنُ معاذ ، فقال : يا رسول الله ! كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بنا ؟ وكان إنما يعنيهم ، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم ، فلما عزم على الخروج ، استشارهم ليعلم ما عندهم ، فقال له سعد : لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُون الأَنصارُ تَرَى حقاً عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها ، وإني أقول عن الأنصار ، وأجيب عنهم : فاظْعَنْ حَيْثُ شِئْتَ ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ ، وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ ، وَأعطِنَا مَا شِئْتَ ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ ، وَمَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لأَمْرِكَ ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُعَ البَرْكَ مِنْ عمدانَ ، لَنَسِيَرَنَّ مَعَكَ ، وَوَاللَّهِ لَيْنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذا البَحْرَ خُضْنَاهُ مَعَكَ ، وقَالَ لَهُ المَقْدَادُ : لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسى : اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينكَ ، وَعَنْ شِمَالِكَ ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ ، وَمِنْ خَلْفِكَ ، فأشرق وَجْهُ رَسُولِ اللهِ ﷺ ، وَسُرَّ بِمَا سَمِعَ مِنْ أصحابه ، وقال ﷺ ( سِيرُوا وأبشروا ، فإنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَصارِعَ القَوْمِ ). ❝