❞ أغلب هذه القراءات يعرفها أهل القراءات وعلماؤها الذين تلقوها وعددهم كافٍ للتواتر في العالم الإسلامي. لكن العامّة من المسلمين المنتشرين في أغلب دول العالم الإسلامي وعددهم يقدر بالملايين يقرؤون برواية الكوفية برواية الكوفي حفص عن عاصم وفي بلاد المغرب العربي يقرؤون بقراءة الإمام نافع وهو إمام أهل المدينة سواء رواية قالون أو رواية ورش". وفي السودان وفي حضرموت يقرؤون بالرواية التي رواها الدوري عن أبي عمرو.
سبب الاقتصار على القراءات السبع:
وقال مكي بن أبي طالب: كان الناس على رأس المئتين (200هـ) بالبصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب، بالكوفة على قراءة حمزة وعاصم، بالشام على قراءة ابن عامر، بمكة على قراءة ابن كثير، بالمدينة على قراءة نافع. واستمروا على ذلك. فلما كان على رأس الثلاثمئة (300هـ)، أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب. قال: والسبب في الاقتصار على السبعة –مع أن في أئمة القراء من هو أجل منهم قدراً، ومثلهم أكثر من عددهم– أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيراً جداً. فلما تقاصرت الهمم، اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به. فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة، وطول العمر في ملازمة القراءة، والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إماما واحداً. ولم يتركوا مع ذلك ما نقل مما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة به، كقراءة يعقوب وعاصم الجحدري وأبي جعفر وشيبة وغيرهم... انظر فتح الباري (9|31).
أي القراءات أصح وأصوب؟
وهنا قد يتساءل المرء، أي القراءات أصح وأصوب؟ وهذا السؤال خطأ. ولعل الأصح قولاً: أيهن الأقوى تواتراً؟ فأقواهن تواتراً هي قراءة نافع المدني، ثم تليها قراءة ابن عامر الشامي وقراءة ابن كثير المكي. وهناك قراءات فيها خلاف، أعني أن بعض الناس ذمها وبخاصة قراءة حمزة وما تفرع عنها. وأما ما زعمه البعض من أن انتشار رواية حفص عن عاصم هذه الأيام دليل على أنها أصح، فليس في هذا القول إثارة من علم. ولو كان صادقاً، لكانت انتشرت قبل العثمانيين بعصور طويلة. لكن الحقيقة معروفة.
فرواية حفص عن عاصم كانت رواية نادرة لم تنتشر ولا حتى بالكوفة، وإنما أخذ أهلها رواية عاصم عن أبي بكر. ثم لما ضنّ بها أبو بكر، اضطروا للأخذ بقراءة حمزة والكسائي رغم كراهيتهم لها، وما التفتوا لرواية حفص. ثم لو نظرنا في العالم الإسلامي لوجدنا أنه خلال مدة من الزمن سادت قراءتا أبي عمرو ونافع على العالم الإسلامي. ولم يكن لرواية حفص عن عاصم ذكر. ثم مع قدوم الدولة العثمانية اعتُمِدت رواية حفص.
في عام 2009 أصدر الدكتور المعصراوي كتابه الرائع: الكامل المفصل في القراءات الأربعة عشر بهامش مصحف القراءات التعليمي بالترميز اللوني (ملون) وهو يشتمل على القراءات العشر المتواترة من طريق طيبة النشر لابن الجزري بالإضافة إلى القراءات الشاذة منفصلة عن المتواترة.. ❝ ⏤أحمد عيسى المعصراوي
❞ أغلب هذه القراءات يعرفها أهل القراءات وعلماؤها الذين تلقوها وعددهم كافٍ للتواتر في العالم الإسلامي. لكن العامّة من المسلمين المنتشرين في أغلب دول العالم الإسلامي وعددهم يقدر بالملايين يقرؤون برواية الكوفية برواية الكوفي حفص عن عاصم وفي بلاد المغرب العربي يقرؤون بقراءة الإمام نافع وهو إمام أهل المدينة سواء رواية قالون أو رواية ورش˝. وفي السودان وفي حضرموت يقرؤون بالرواية التي رواها الدوري عن أبي عمرو.
سبب الاقتصار على القراءات السبع:
وقال مكي بن أبي طالب: كان الناس على رأس المئتين (200هـ) بالبصرة على قراءة أبي عمرو ويعقوب، بالكوفة على قراءة حمزة وعاصم، بالشام على قراءة ابن عامر، بمكة على قراءة ابن كثير، بالمدينة على قراءة نافع. واستمروا على ذلك. فلما كان على رأس الثلاثمئة (300هـ)، أثبت ابن مجاهد اسم الكسائي وحذف يعقوب. قال: والسبب في الاقتصار على السبعة –مع أن في أئمة القراء من هو أجل منهم قدراً، ومثلهم أكثر من عددهم– أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيراً جداً. فلما تقاصرت الهمم، اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به. فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة، وطول العمر في ملازمة القراءة، والاتفاق على الأخذ عنه، فأفردوا من كل مصر إماما واحداً. ولم يتركوا مع ذلك ما نقل مما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة به، كقراءة يعقوب وعاصم الجحدري وأبي جعفر وشيبة وغيرهم.. انظر فتح الباري (9|31).
أي القراءات أصح وأصوب؟
وهنا قد يتساءل المرء، أي القراءات أصح وأصوب؟ وهذا السؤال خطأ. ولعل الأصح قولاً: أيهن الأقوى تواتراً؟ فأقواهن تواتراً هي قراءة نافع المدني، ثم تليها قراءة ابن عامر الشامي وقراءة ابن كثير المكي. وهناك قراءات فيها خلاف، أعني أن بعض الناس ذمها وبخاصة قراءة حمزة وما تفرع عنها. وأما ما زعمه البعض من أن انتشار رواية حفص عن عاصم هذه الأيام دليل على أنها أصح، فليس في هذا القول إثارة من علم. ولو كان صادقاً، لكانت انتشرت قبل العثمانيين بعصور طويلة. لكن الحقيقة معروفة.
فرواية حفص عن عاصم كانت رواية نادرة لم تنتشر ولا حتى بالكوفة، وإنما أخذ أهلها رواية عاصم عن أبي بكر. ثم لما ضنّ بها أبو بكر، اضطروا للأخذ بقراءة حمزة والكسائي رغم كراهيتهم لها، وما التفتوا لرواية حفص. ثم لو نظرنا في العالم الإسلامي لوجدنا أنه خلال مدة من الزمن سادت قراءتا أبي عمرو ونافع على العالم الإسلامي. ولم يكن لرواية حفص عن عاصم ذكر. ثم مع قدوم الدولة العثمانية اعتُمِدت رواية حفص.
في عام 2009 أصدر الدكتور المعصراوي كتابه الرائع: الكامل المفصل في القراءات الأربعة عشر بهامش مصحف القراءات التعليمي بالترميز اللوني (ملون) وهو يشتمل على القراءات العشر المتواترة من طريق طيبة النشر لابن الجزري بالإضافة إلى القراءات الشاذة منفصلة عن المتواترة. ❝
❞ الدكتور عصام الدين إبراهيم النقيلي
الشواهد والمتابعات
الشاهد:
الشاهد لغة:
الشاهد وجمعه: شواهِد، شاهدون، وأشهاد، وشُهداءُ، وشُهَّد، وشُهُود، وهو المخبر بحق شخص على غيره عن مشاهدة وعيان لا عن تخمين وحسبان، والشاهد: الدليل والبرهان[1].
الشاهد اصطلاحًا:
هو الحديث الذي يشارك فيه رواته رواة الحديث الفرد لفظًا ومعنى، أو معنى فقط، مع الاختلاف في الصحابي.
ولتوضيح التعريف نقول: إذا ورد الحديث عن صحابي، ثم ورد نفس الحديث أو معناه عن صحابي آخر، كان هذا شاهدًا للحديث الأول، فمثلًا: إذا جاء حديث عن عائشة رضى الله عنها، ثم ورد نفس الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، فإنَّنا نطلق على حديث أبي هريرة شاهدًا لحديث عائشة وحديث عائشة شاهدًا لحديث أبي هريرة.
والشواهد على قسمين:
الأوَّل: أن يشارك الحديث الثاني الحديث الأول في اللفظ والمعنى.
والثَّاني: يشاركه بالمعنى دون اللفظ.
1 - مثال مشاركة الحديث في اللفظ والمعنى:
عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \"لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ\"[2].
فهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه: أبو ثِفَال المُري، قال فيه الذهبي: أبو ثفال المري ليس بعمدة، وروي مرسلًا بسند فيه مجهول ونحوه بسند فيه مجهول[3]، وقال ابن ابي حاتم: أبو ثقال مجهول، ورباح مجهول[4].
فهذا الحديث مع ضعفه الظاهر، فإنَّه يرتقي إلى الحسن لغيره بكثرة شواهده، وعلى ما قلت ذهب ابن حجر، وقال: غريب وله شواهد[5]، والسيوطي[6]، والشوكاني، وقال: حسن وله طرق أخرى[7]، والألباني، وقال: حسن لغيره[8]، والرَّابعي، وقال: بإسناد ضعيف وفي الباب أحاديث كثيرة في أسانيدها مقال، وبمجموع الأحاديث يرتقي الحديث إلى درجة الحسن لغيره[9]، والمباركفوري، وقال: مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلًا[10]، وغيرهم...
ومن شواهد هذا الحديث في اللفظ والمعنى:
أ - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \"لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ\"[11]، وهو ضعيف؛ لأن في إسناده يعقوب بن سَلمة، قال فيه ابن حجر العسقلاني: فيه يعقوب بن سلمة هو الليثي مجهول الحال[12]، وقال البغوي: سلمة الليثي مولاهم، قال البخاري: ولا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة، ولا ليعقوب عن أبيه[13]، وابن حجر قال: فيه الليثي، قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه، ولا لأبيه من أبي هريرة[14]، وقال الذهبي: شيخ ليس بعمدة[15].
ب - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \"لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ\"[16]، وهو ضعيف؛ لأن في إسناده عبد المهيمن بن عباس وقد ضعَّفه الكثير، قال فيه البُخارِيّ: عَبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، منكر الْحَدِيثِ[17]، وكذلك ضعَّفه المباركفوري في التحفة[18].
ولا تزال أحاديث أخرى تشهد للحديث الأول يطول ذكرها، فكلُّ هذه الشواهد، تقَّوى بها الحديث الأوَّل وارتقى من الضعيف إلى الحسن لغيره.
فهذا مثال على الشاهد لفظًا ومعنى.
2 – مثال على مشاركة الحديث في المعنى دون اللفظ:
حديث \"إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً\"[19]، وهذا الحديث الأصل فيه الإرسال، قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد رواه أشعث بن عبد الملك، عن الحسن مرسلًا[20].
وسند الحديث فيه سعيد بن بشير وهو ضعيف، قال فيه الأرنؤوط: في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف، وعنعنَه الحسن، وذكر الترمذي أنه ورد مرسلا وقال: هو أصح[21].
وقال أبو محمد الحاكم: سعيد بن بشير ليس بالقوي عندهم، وقال أبو أحمد بن عدي الجرجاني: يهم في الشيء بعد الشيء ويغلط والغالب على حديثه الاستقامة والغالب عليه الصدق، وقال البيهقي: ضعيف، وذكره العقيلي في الضعفاء[22].
ومن شواهد هذا الحديث بالمعنى:
أ – حديث الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فَقدتُموني فأنا فرَطُكم على الحوضِ، إنَّ لِكلِّ نبيٍّ حَوضًا، وَهُوَ قائمٌ على حوضِهِ، بيدِه عصًا يدعو مَن عرفَ من أمَّتِهِ، ألا وإنَّهم يتباهونَ أيُّهم أَكثَرُ تبعًا، والَّذي نَفسي بيدِهِ، إنِّي لأرجو أن أَكونَ أَكثرَهُم تَبعًا[23]، قال ابن كثير وهذا مرسل عن الحسن البصري[24].
وقال الألباني: مرسل رجاله رجال الصحيح، فيه خالد بن خداش وحزم بن أبي حزم فيهما كلام وهو صحيح عن الحسن من طريق أخرى[25].
والصحيح أنَّ خالد بن خداش ليس به بأس وهو من شيوخ مسلم، قال فيه الرازي: صدوق، وقال العسقلاني: صدوق يخطئ، وقال الدارقطني، ثقة ربما وهم، وقال الأزدي: لا بأس به، وقال الواقدي: ثقة، وقال يحيى بن معين: صدوق، ومرة ينفرد عن حماد بن زيد بأحاديث، وفي رواية ابن محرز قال: لا بأس به[26]، فكما تلاحظ فإنَّ غالب أهل الصنعة أجمعوا على توثيقه إلَّا النَّزر القليل بسبب الوهم غير المطبق عليه أي أحيانا يهم، وعلى هذا فهو من رجال الحديث الحسن.
وأمَّا حزم بن أبي حزم فقد قال فيه ابن حنبل: شيخ ثقة، وقال أبو حاتم الرازي: صدوق، لا بأس به، هو من ثقات من بقي من أصحاب الحسن، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن حجر العسقلاني: صدوق يهم، وقال الدارقطني: ثقة، وقال الذهبي: ثقة[27].
فكذلك هذا الأخير من رجال الحديث الحسن ولا بأس به، ولعلَّ سبب من ضعَّف هذا الحديث هو إرسال الحسن البصري.
ب – ومن الشواهد التي تشهد على الحديث بالمعنى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: \"إِنَّ لِي حَوْضًا مَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَبْيَضَ مِثْلَ اللَّبَنِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، وَكُلّ نَبِيّ يَدْعُو أُمَّته وَلِكُلِّ نَبِيّ حَوْضٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيه الْفِئَام وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيه الْعُصْبَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيه الْوَاحِدُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيه الِاثْنَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْتِيه أَحَدٌ، فَيقَال: قَدْ بَلَّغت، وَإِنِّي لَأَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ\"[28].
وهذا الحديث أيضا فيه عطية العوفي: قال الألباني فيه عطية العوفي ضعيف[29].
وبالطَّبع صححه الألباني رحمه الله تعالى بمجموع طرقه.
وعطيَّة العوفي هو: عطيَّة بن سعد بن جنادة العوفي وكنيته أبو الحسن وهو من الكوفة، قال فيه النسائي: ضعيف، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي ذكر عطية العوفي فقال: هو ضعيف الحديث، وقال الذهبي: أبو الحسن من مشاهير التابعين ضعيف الحديث[30].
فهذه الشواهد وردت بمعنى الحديث الأول لا بلفظه، فكما تُلاحظ ألفاظ الأحاديث ليست متطابقة، ولكنَّ المعنى هو نفسه، وكما تلاحظ أنَّ أسانيد الأحاديث السابقة ليس فيها متهم بالفسق ولا بالكذب، بل كل من هو ضعيف في السند تجد ضعفه من قلَّة حفظه أو وهمه، مع تمام عدالته، فعلى هذا فإنَّ كل الأحاديث السابقة شهدت لبعضها بالمعنى فتقوَّت وارتقت من الضعيف إلى الحسن لغيره، فكل الأحاديث السابقة هي حسان.
المتابعة:
المتابعة لغة:
المتابعة بضم الميم وفتح الباء مصدر تابع، وهي الموالاة[31].
المتابعة اصطلاحًا:
هو الحديث الذي يشارك فيه رواته رواة الحديث الفرد لفظًا ومعنى، أو معنى فقط، مع الاتحاد في الصحابي.
فالمتابعة تختلف عن الشاهد في كون المتابعة الصحابي فيها واحد، أما الشاهد فالصحابي يختلف.
مثال المتابعة: ما رواه الترمذي من طريق شَريك عن المقداد بن شُريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: \"مَنْ حَدَّثَكُم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَالَ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ مَا كَانَ يَبُولُ إلا قَاعِدًا\"[32].
قال فيه الألباني: إسناده ضعيف ثم وجدت له متابعا قويًّا، فصح الحديث لكنه ناف، وحديث حذيفة مثبت، والمثبت مقدم على النافي[33].
وهذا الحديث ضعِّف لأنَّ في إسناده \"شَريك\" وهو ضعيف من سوء حفظه، فقد قال فيه ابن القاضي: فيه لين؛ لأن فيه شريكًا القاضي وهو متكلم فيه بسوء الحفظ[34].
وقال الحاكم: ليس بالمتين، وقال أبو حاتم الرازي: صدوق له أغاليط، وقال أبو زرعة الرازي: كان كثير الخطأ، صاحب وهم، وهو يغلط أحيانًا، وقال أبو عيسى الترمذي: كثير الغلط والوهم، وقال الذهبي: العَلاَّمَةُ، الحَافِظ، القَاضِي، أَبُو عَبْدِ اللهِ النَّخَعِيُّ، أَحَدُ الأَعْلاَمِ، عَلَى لِيْنٍ مَا فِي حَدِيْثِهِ[35].
لكن هناك من تابع شريكًا في هذا الحديث، وهو سفيان الثوري، فقد جاء الحديث من طريق سفيان الثوري عن المقداد بن شُريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ونصُّه: قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: \"مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَالَ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقْهُ، \"مَا بَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا مُنْذُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ\"[36].
فلو تلاحظ أنَّ السند تغيَّر فيه شريك فأخذ مكانه سفيان الثوري، فهذا طريق ثانٍ لهذا الحديث غير طريق شريك، وإن كان شريك ضعيفا، فسفيان الثوري لا تخفى على أحد إمامته في الدين، فالحديث إسناده صحيح على شرط مسلم، والمقدام وهو ابن شُريح بن هانىء الحارثي المذحجي الكوفي وأبوه من رجال مسلم، وروى البخاري لهما في \"الأدب المفرد\"، وبقية رجاله ثقات وهم رجال الشيخين[37].
فيُحمل الحديث الأوَّل على الثَّاني، ويتقَّوى به ويكون حسنًا بهذه المتابعة، وقد تكون المتابعة بالمعنى كما سبق، أو بالمعنى واللَّفظ، كما في الأمثلة السابقة في الشواهد.
أنواع المتابعة:
المتابعة نوعان: متابعة تامَّة، ومتابعة قاصر.
المتابعة التامة:
وهي الحديث المشارك لغيره في اللفظ أو المعنى، أو بهما معا، مع الاتحاد في الصحابي مع، كون المشاركة من أوَّل السند، أي تحصل المتابعة للراوي نفسه، فيرويها غيره بنفس سند الراوي الأوَّل.
مثال: ما رواهُ الشَّافعي في الأمِّ، عن مالِكٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمر، أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: \"الشهرُ تِسْعٌ وعِشرون، فلا تَصوموا حتَّى تَروُا الهِلالَ، ولا تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْه، فإنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلوا العِدَّةَ ثلاثين[38].
قال ابن حجر العسقلاني: فهذا الحديث، بهذا اللفظ، ظن قوم أن الشافعي تفرَّدَ بهِ عن مالِكٍ، فعدَّوْهُ في غرائِبِه؛ لأن أصحاب مالك رووه عنه بهذا الإسنادِ بلفظِ: \"فإن غُمَّ علَيْكُم فاقْدُرُوا له\"، لكنْ وجَدْنا للشَّافعيَّ متابِعًا، وهو عبدُ اللهِ بنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ[39]، كذلك أَخرجَهُ البُخَارِيّ عنهُ، عن مالك[40]، وهذه متابَعَةٌ تامة.
فهنا قد تابع القعني وهو ثقة ثبت عدل، الشافعي في روايته: عن مالك عن ابن دينار عن ابن عمر، فرواه القعني بنفس السند عن مالك، وكانت المتابعة لفظا ومعنى، إلَّا أنَّ في رواية البخاري زيادة: \"ليلة\" بعد قوله: \"تسع وعشرون\" فزيادة لفظة \"ليلة\" ونكَّر لفظ ثلاثين، وعند الشافعي معرَّفة، وهذا لا يعدُّ من كبير الزيادة أو التَّغيير، فتعدُّ متابعة تامَّة باللفظ والمعنى.
وأمَّا المتابعة القاصرة:
هو الحديث المشارك لغيره في اللفظ أو المعنى، أو بهما معا، مع الاتحاد في الصحابي، مع عدم كون المشاركة أوَّل السند، أي تحصل المتابعة من شيخ الراوي أو شيخ شيخه.
مثال:
ما رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق عَاصِم بن مُحَمَّدٍ العُمَرِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: \"الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ثَلَاثِينَ، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَيَعْقِدُ فِي الثَّالِثَة، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ\" وَفِي خَبَرِ ابْنِ فُضَيْلٍ: \"ثُمَّ طَبَّقَ بِيَدِهِ، وَأَمْسَكَ وَاحِدَةً مِنْ أَصَابِعِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَثَلَاثِينَ\"[41].
وهذه متابعة قاصر لحديث الشافعي السابق، فلو تلاحظ أنَّ السنَّد مختلف مع أنَّ الصحابي نفسه، فالأوَّل: عن مالك عن ابن دينار عن ابن عمر.
والثاني: عن عاصم عن أبيه عن ابن عمر.
وهذه المتابعة قاصر وهي بالمعنى، إذ أنَّ اللفظ اختلف.
وكلُّ ما سبق من بحث وجمع طرق وغيره يسمَّى بالاعتبار.
الاعتبار:
والاعتبار لغة:
هو رد الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بمثل حكمه[42].
واصطلاحًا:
هو التتبُّع، والسبر، والبحث، والنظر، والموازنة بين طرق الحديث لتقويته أو عدم ذلك، وهو نتيجة الاعتبار.
قال العراقي:
الاعتبار سبرك الحديث هلْ
شارك راو غيره فيما حملْ
عن شيخه، فإن يكن شورك مِنْ
مُعتبرٍ به فتابعٌ وإنْ
شورك شيخه ففوقُ فكذا
وقد يُسمَّى شاهدا ثمَّ إذا
متن بمعناه أتى فالشَّاهدُ
وما خلا عن كلِّ ذا مَفَاردُ[43]
ويجب أن يعلمَ أنَّ منهم من يسمي الشاهد تابعا والتابع شاهدًا، ومنهم من يسمي الذي بالمعنى سواء بالمتابعة أو بالشواهد شاهدًا، أو عكسه، ولكن استقرَّ الاصطلاح على ما ذكرنا سابقًا، قال السيوطي:
وربَّما يُدعى الذي بالمعنى
متابعًا، وعكسه قد يُعنى[44]
فائدة الاعتبار:
هو الوقوف على الطرق التي تصلح لتقوية الأحاديث الضعيفة، أو الحسان، وما لا يصلح للتقوية، لذا أحيانًا يقول أهل الحديث: هذا صالح للاعتبار، وهذا غير صالح للاعتبار، وكذلك بالاعتبار يُعلم هل هذا الحديث من قبيل المتواتر الذي رواه الجماعة، أو من قبيل الآحاد، وهل له طريق واحد فيكون غريبًا، أو له أكثر من طريق فيكون من قبيل العزيز، أو المشهور، وكلُّ هذا لا يكون إلَّا بالاعتبار.
هذا وبالله التَّوفيق وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
الهامش
[1] معجم المعاني.
[2] رواه الترمذي 25.
[3] تلخيص العلل المتناهية 114.
[4] علل ابن أبي حاتم 54.
[5] نتائج الأفكار 224/ 1.
[6] الجامع الصغير 9876.
[7] الدراري المضيَّة 42.
[8] صحيح الترغيب والترهيب 200.
[9] فتح الغفار 1/ 85.
[10] تحفة الأحوذي 88/ 1.
[11] رواه أحمد 9213.
[12] الدراية 1/ 14.
[13] شرح السنة 303/ 1.
[14] التلخيص الحبير 107/ 1.
[15] حاشية تهذيب الكمال ج32 ص 335.
[16] رواه ابن ماجه 399.
[17] الكامل في ضعفاء الرجال 46/ 7.
[18] تحفة الأحوذي 6/ 129.
[19] أخرجه الترمذي من حديث سمرة بن جندب 2443.
[20] السابق.
[21] تخريج شرح الطحاوية 281.
[22] الفتن للحافظ أبي عبد الله لنعيم بن حمَّاد ج2 ص330.
[23] البداية والنهاية لابن كثير 371/ 1.
[24] السابق.
[25] السلسلة الصحيحة 119/ 4.
[26] ينظر: سير أعلام النبلاء ج8 ص499، وتهذيب التهذيب للعسقلاني.
[27] ينظر التعديل والتجريح للباجي، والجرح والتعديل لأبي حاتي الرازي، وسؤالات أبي داود 454، والعلل ومعرفة الرجال لابن حنبل 5950.
[28] رواه ابن ماجه 3489.
[29] السابق نفسه.
[30] يُنظر الضعفاء والمتروكون للنسائي، والعلل ومعرفة الرجال لابن حنبل 1306، ويُنظر: سير أعلام النبلاء.
[31] يُنظر: معاجم اللغة.
[32] ) أخرجه الترمذي 12، والنسائي 29 واللفظ له، وابن ماجه 307.
[33] شرح النسائي للسيوطي.
[34] يُنظر في ذلك علل الترمذي، وعلل ابن أبي حاتم، والكامل في ضعفاء الرجال، وسير أعلام النبلاء وغيرها.
[35] ينظر: الكامل في ضعفاء الرجال، وسير أعلام النبلاء وغيرها.
[36] رواه أحمد في مسنده 25045.
[37] يُنظر تخريج المسند للأرنؤوط 25045.
[38] ترتيب مسند الشافعي، نشر وتصحيح: السيد يوسف على الحسني، والسيد عزت العطار، 1/ 272، وهكذا هو عند مالك في الموطأ.
[39] كان عبدالله هذا من المتقنين، وكان يحيى بن معين لا يُقدِّم عليه في مالك أحدًا.
[40] حدثنا عبد الله بن مسلمة (القعنبي) حدثنا مالك، عن عبدالله بن دينار، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين البخاري، 1906، الصوم.
[41] صحيح ابن خزيمة (1909).
[42] معجم المعاني.
[43] ألفية العراقي في علم الحديث.
[44] ألفية السيوطي في علم الحديث.. ❝ ⏤الدُّكتُور: عِصَامُ الدِّينِ إِبْرَاهِيمَ النُّقَيْلِي
❞ الدكتور عصام الدين إبراهيم النقيلي
الشواهد والمتابعات
الشاهد:
الشاهد لغة:
الشاهد وجمعه: شواهِد، شاهدون، وأشهاد، وشُهداءُ، وشُهَّد، وشُهُود، وهو المخبر بحق شخص على غيره عن مشاهدة وعيان لا عن تخمين وحسبان، والشاهد: الدليل والبرهان[1].
الشاهد اصطلاحًا:
هو الحديث الذي يشارك فيه رواته رواة الحديث الفرد لفظًا ومعنى، أو معنى فقط، مع الاختلاف في الصحابي.
ولتوضيح التعريف نقول: إذا ورد الحديث عن صحابي، ثم ورد نفس الحديث أو معناه عن صحابي آخر، كان هذا شاهدًا للحديث الأول، فمثلًا: إذا جاء حديث عن عائشة رضى الله عنها، ثم ورد نفس الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، فإنَّنا نطلق على حديث أبي هريرة شاهدًا لحديث عائشة وحديث عائشة شاهدًا لحديث أبي هريرة.
والشواهد على قسمين:
الأوَّل: أن يشارك الحديث الثاني الحديث الأول في اللفظ والمعنى.
والثَّاني: يشاركه بالمعنى دون اللفظ.
1 - مثال مشاركة الحديث في اللفظ والمعنى:
عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ˝لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ˝[2].
فهذا الحديث ضعيف؛ لأن فيه: أبو ثِفَال المُري، قال فيه الذهبي: أبو ثفال المري ليس بعمدة، وروي مرسلًا بسند فيه مجهول ونحوه بسند فيه مجهول[3]، وقال ابن ابي حاتم: أبو ثقال مجهول، ورباح مجهول[4].
فهذا الحديث مع ضعفه الظاهر، فإنَّه يرتقي إلى الحسن لغيره بكثرة شواهده، وعلى ما قلت ذهب ابن حجر، وقال: غريب وله شواهد[5]، والسيوطي[6]، والشوكاني، وقال: حسن وله طرق أخرى[7]، والألباني، وقال: حسن لغيره[8]، والرَّابعي، وقال: بإسناد ضعيف وفي الباب أحاديث كثيرة في أسانيدها مقال، وبمجموع الأحاديث يرتقي الحديث إلى درجة الحسن لغيره[9]، والمباركفوري، وقال: مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلًا[10]، وغيرهم..
ومن شواهد هذا الحديث في اللفظ والمعنى:
أ - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ˝لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ˝[11]، وهو ضعيف؛ لأن في إسناده يعقوب بن سَلمة، قال فيه ابن حجر العسقلاني: فيه يعقوب بن سلمة هو الليثي مجهول الحال[12]، وقال البغوي: سلمة الليثي مولاهم، قال البخاري: ولا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة، ولا ليعقوب عن أبيه[13]، وابن حجر قال: فيه الليثي، قال البخاري: لا يعرف له سماع من أبيه، ولا لأبيه من أبي هريرة[14]، وقال الذهبي: شيخ ليس بعمدة[15].
ب - وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ˝لاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ˝[16]، وهو ضعيف؛ لأن في إسناده عبد المهيمن بن عباس وقد ضعَّفه الكثير، قال فيه البُخارِيّ: عَبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، منكر الْحَدِيثِ[17]، وكذلك ضعَّفه المباركفوري في التحفة[18].
ولا تزال أحاديث أخرى تشهد للحديث الأول يطول ذكرها، فكلُّ هذه الشواهد، تقَّوى بها الحديث الأوَّل وارتقى من الضعيف إلى الحسن لغيره.
فهذا مثال على الشاهد لفظًا ومعنى.
2 – مثال على مشاركة الحديث في المعنى دون اللفظ:
حديث ˝إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً˝[19]، وهذا الحديث الأصل فيه الإرسال، قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد رواه أشعث بن عبد الملك، عن الحسن مرسلًا[20].
وسند الحديث فيه سعيد بن بشير وهو ضعيف، قال فيه الأرنؤوط: في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف، وعنعنَه الحسن، وذكر الترمذي أنه ورد مرسلا وقال: هو أصح[21].
وقال أبو محمد الحاكم: سعيد بن بشير ليس بالقوي عندهم، وقال أبو أحمد بن عدي الجرجاني: يهم في الشيء بعد الشيء ويغلط والغالب على حديثه الاستقامة والغالب عليه الصدق، وقال البيهقي: ضعيف، وذكره العقيلي في الضعفاء[22].
ومن شواهد هذا الحديث بالمعنى:
أ – حديث الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فَقدتُموني فأنا فرَطُكم على الحوضِ، إنَّ لِكلِّ نبيٍّ حَوضًا، وَهُوَ قائمٌ على حوضِهِ، بيدِه عصًا يدعو مَن عرفَ من أمَّتِهِ، ألا وإنَّهم يتباهونَ أيُّهم أَكثَرُ تبعًا، والَّذي نَفسي بيدِهِ، إنِّي لأرجو أن أَكونَ أَكثرَهُم تَبعًا[23]، قال ابن كثير وهذا مرسل عن الحسن البصري[24].
وقال الألباني: مرسل رجاله رجال الصحيح، فيه خالد بن خداش وحزم بن أبي حزم فيهما كلام وهو صحيح عن الحسن من طريق أخرى[25].
والصحيح أنَّ خالد بن خداش ليس به بأس وهو من شيوخ مسلم، قال فيه الرازي: صدوق، وقال العسقلاني: صدوق يخطئ، وقال الدارقطني، ثقة ربما وهم، وقال الأزدي: لا بأس به، وقال الواقدي: ثقة، وقال يحيى بن معين: صدوق، ومرة ينفرد عن حماد بن زيد بأحاديث، وفي رواية ابن محرز قال: لا بأس به[26]، فكما تلاحظ فإنَّ غالب أهل الصنعة أجمعوا على توثيقه إلَّا النَّزر القليل بسبب الوهم غير المطبق عليه أي أحيانا يهم، وعلى هذا فهو من رجال الحديث الحسن.
وأمَّا حزم بن أبي حزم فقد قال فيه ابن حنبل: شيخ ثقة، وقال أبو حاتم الرازي: صدوق، لا بأس به، هو من ثقات من بقي من أصحاب الحسن، وقال النسائي: ليس به بأس، وقال ابن حجر العسقلاني: صدوق يهم، وقال الدارقطني: ثقة، وقال الذهبي: ثقة[27].
فكذلك هذا الأخير من رجال الحديث الحسن ولا بأس به، ولعلَّ سبب من ضعَّف هذا الحديث هو إرسال الحسن البصري.
ب – ومن الشواهد التي تشهد على الحديث بالمعنى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ˝إِنَّ لِي حَوْضًا مَا بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَبْيَضَ مِثْلَ اللَّبَنِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ، وَكُلّ نَبِيّ يَدْعُو أُمَّته وَلِكُلِّ نَبِيّ حَوْضٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيه الْفِئَام وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيه الْعُصْبَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيه الْوَاحِدُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِيه الِاثْنَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَأْتِيه أَحَدٌ، فَيقَال: قَدْ بَلَّغت، وَإِنِّي لَأَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ˝[28].
وهذا الحديث أيضا فيه عطية العوفي: قال الألباني فيه عطية العوفي ضعيف[29].
وبالطَّبع صححه الألباني رحمه الله تعالى بمجموع طرقه.
وعطيَّة العوفي هو: عطيَّة بن سعد بن جنادة العوفي وكنيته أبو الحسن وهو من الكوفة، قال فيه النسائي: ضعيف، وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي ذكر عطية العوفي فقال: هو ضعيف الحديث، وقال الذهبي: أبو الحسن من مشاهير التابعين ضعيف الحديث[30].
فهذه الشواهد وردت بمعنى الحديث الأول لا بلفظه، فكما تُلاحظ ألفاظ الأحاديث ليست متطابقة، ولكنَّ المعنى هو نفسه، وكما تلاحظ أنَّ أسانيد الأحاديث السابقة ليس فيها متهم بالفسق ولا بالكذب، بل كل من هو ضعيف في السند تجد ضعفه من قلَّة حفظه أو وهمه، مع تمام عدالته، فعلى هذا فإنَّ كل الأحاديث السابقة شهدت لبعضها بالمعنى فتقوَّت وارتقت من الضعيف إلى الحسن لغيره، فكل الأحاديث السابقة هي حسان.
المتابعة:
المتابعة لغة:
المتابعة بضم الميم وفتح الباء مصدر تابع، وهي الموالاة[31].
المتابعة اصطلاحًا:
هو الحديث الذي يشارك فيه رواته رواة الحديث الفرد لفظًا ومعنى، أو معنى فقط، مع الاتحاد في الصحابي.
فالمتابعة تختلف عن الشاهد في كون المتابعة الصحابي فيها واحد، أما الشاهد فالصحابي يختلف.
مثال المتابعة: ما رواه الترمذي من طريق شَريك عن المقداد بن شُريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ˝مَنْ حَدَّثَكُم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَالَ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ مَا كَانَ يَبُولُ إلا قَاعِدًا˝[32].
قال فيه الألباني: إسناده ضعيف ثم وجدت له متابعا قويًّا، فصح الحديث لكنه ناف، وحديث حذيفة مثبت، والمثبت مقدم على النافي[33].
وهذا الحديث ضعِّف لأنَّ في إسناده ˝شَريك˝ وهو ضعيف من سوء حفظه، فقد قال فيه ابن القاضي: فيه لين؛ لأن فيه شريكًا القاضي وهو متكلم فيه بسوء الحفظ[34].
وقال الحاكم: ليس بالمتين، وقال أبو حاتم الرازي: صدوق له أغاليط، وقال أبو زرعة الرازي: كان كثير الخطأ، صاحب وهم، وهو يغلط أحيانًا، وقال أبو عيسى الترمذي: كثير الغلط والوهم، وقال الذهبي: العَلاَّمَةُ، الحَافِظ، القَاضِي، أَبُو عَبْدِ اللهِ النَّخَعِيُّ، أَحَدُ الأَعْلاَمِ، عَلَى لِيْنٍ مَا فِي حَدِيْثِهِ[35].
لكن هناك من تابع شريكًا في هذا الحديث، وهو سفيان الثوري، فقد جاء الحديث من طريق سفيان الثوري عن المقداد بن شُريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ونصُّه: قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: ˝مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَالَ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقْهُ، ˝مَا بَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا مُنْذُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ˝[36].
فلو تلاحظ أنَّ السند تغيَّر فيه شريك فأخذ مكانه سفيان الثوري، فهذا طريق ثانٍ لهذا الحديث غير طريق شريك، وإن كان شريك ضعيفا، فسفيان الثوري لا تخفى على أحد إمامته في الدين، فالحديث إسناده صحيح على شرط مسلم، والمقدام وهو ابن شُريح بن هانىء الحارثي المذحجي الكوفي وأبوه من رجال مسلم، وروى البخاري لهما في ˝الأدب المفرد˝، وبقية رجاله ثقات وهم رجال الشيخين[37].
فيُحمل الحديث الأوَّل على الثَّاني، ويتقَّوى به ويكون حسنًا بهذه المتابعة، وقد تكون المتابعة بالمعنى كما سبق، أو بالمعنى واللَّفظ، كما في الأمثلة السابقة في الشواهد.
أنواع المتابعة:
المتابعة نوعان: متابعة تامَّة، ومتابعة قاصر.
المتابعة التامة:
وهي الحديث المشارك لغيره في اللفظ أو المعنى، أو بهما معا، مع الاتحاد في الصحابي مع، كون المشاركة من أوَّل السند، أي تحصل المتابعة للراوي نفسه، فيرويها غيره بنفس سند الراوي الأوَّل.
مثال: ما رواهُ الشَّافعي في الأمِّ، عن مالِكٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، عن ابنِ عمر، أَنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: ˝الشهرُ تِسْعٌ وعِشرون، فلا تَصوموا حتَّى تَروُا الهِلالَ، ولا تُفْطِرُوا حتَّى تَرَوْه، فإنْ غُمَّ عليكم فأَكْمِلوا العِدَّةَ ثلاثين[38].
قال ابن حجر العسقلاني: فهذا الحديث، بهذا اللفظ، ظن قوم أن الشافعي تفرَّدَ بهِ عن مالِكٍ، فعدَّوْهُ في غرائِبِه؛ لأن أصحاب مالك رووه عنه بهذا الإسنادِ بلفظِ: ˝فإن غُمَّ علَيْكُم فاقْدُرُوا له˝، لكنْ وجَدْنا للشَّافعيَّ متابِعًا، وهو عبدُ اللهِ بنُ مَسْلَمَةَ القَعْنَبِيُّ[39]، كذلك أَخرجَهُ البُخَارِيّ عنهُ، عن مالك[40]، وهذه متابَعَةٌ تامة.
فهنا قد تابع القعني وهو ثقة ثبت عدل، الشافعي في روايته: عن مالك عن ابن دينار عن ابن عمر، فرواه القعني بنفس السند عن مالك، وكانت المتابعة لفظا ومعنى، إلَّا أنَّ في رواية البخاري زيادة: ˝ليلة˝ بعد قوله: ˝تسع وعشرون˝ فزيادة لفظة ˝ليلة˝ ونكَّر لفظ ثلاثين، وعند الشافعي معرَّفة، وهذا لا يعدُّ من كبير الزيادة أو التَّغيير، فتعدُّ متابعة تامَّة باللفظ والمعنى.
وأمَّا المتابعة القاصرة:
هو الحديث المشارك لغيره في اللفظ أو المعنى، أو بهما معا، مع الاتحاد في الصحابي، مع عدم كون المشاركة أوَّل السند، أي تحصل المتابعة من شيخ الراوي أو شيخ شيخه.
مثال:
ما رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق عَاصِم بن مُحَمَّدٍ العُمَرِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ˝الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ثَلَاثِينَ، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَيَعْقِدُ فِي الثَّالِثَة، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ˝ وَفِي خَبَرِ ابْنِ فُضَيْلٍ: ˝ثُمَّ طَبَّقَ بِيَدِهِ، وَأَمْسَكَ وَاحِدَةً مِنْ أَصَابِعِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَثَلَاثِينَ˝[41].
وهذه متابعة قاصر لحديث الشافعي السابق، فلو تلاحظ أنَّ السنَّد مختلف مع أنَّ الصحابي نفسه، فالأوَّل: عن مالك عن ابن دينار عن ابن عمر.
والثاني: عن عاصم عن أبيه عن ابن عمر.
وهذه المتابعة قاصر وهي بالمعنى، إذ أنَّ اللفظ اختلف.
وكلُّ ما سبق من بحث وجمع طرق وغيره يسمَّى بالاعتبار.
الاعتبار:
والاعتبار لغة:
هو رد الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بمثل حكمه[42].
واصطلاحًا:
هو التتبُّع، والسبر، والبحث، والنظر، والموازنة بين طرق الحديث لتقويته أو عدم ذلك، وهو نتيجة الاعتبار.
قال العراقي:
الاعتبار سبرك الحديث هلْ
شارك راو غيره فيما حملْ
عن شيخه، فإن يكن شورك مِنْ
مُعتبرٍ به فتابعٌ وإنْ
شورك شيخه ففوقُ فكذا
وقد يُسمَّى شاهدا ثمَّ إذا
متن بمعناه أتى فالشَّاهدُ
وما خلا عن كلِّ ذا مَفَاردُ[43]
ويجب أن يعلمَ أنَّ منهم من يسمي الشاهد تابعا والتابع شاهدًا، ومنهم من يسمي الذي بالمعنى سواء بالمتابعة أو بالشواهد شاهدًا، أو عكسه، ولكن استقرَّ الاصطلاح على ما ذكرنا سابقًا، قال السيوطي:
وربَّما يُدعى الذي بالمعنى
متابعًا، وعكسه قد يُعنى[44]
فائدة الاعتبار:
هو الوقوف على الطرق التي تصلح لتقوية الأحاديث الضعيفة، أو الحسان، وما لا يصلح للتقوية، لذا أحيانًا يقول أهل الحديث: هذا صالح للاعتبار، وهذا غير صالح للاعتبار، وكذلك بالاعتبار يُعلم هل هذا الحديث من قبيل المتواتر الذي رواه الجماعة، أو من قبيل الآحاد، وهل له طريق واحد فيكون غريبًا، أو له أكثر من طريق فيكون من قبيل العزيز، أو المشهور، وكلُّ هذا لا يكون إلَّا بالاعتبار.
هذا وبالله التَّوفيق وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.
الهامش
[1] معجم المعاني.
[2] رواه الترمذي 25.
[3] تلخيص العلل المتناهية 114.
[4] علل ابن أبي حاتم 54.
[5] نتائج الأفكار 224/ 1.
[6] الجامع الصغير 9876.
[7] الدراري المضيَّة 42.
[8] صحيح الترغيب والترهيب 200.
[9] فتح الغفار 1/ 85.
[10] تحفة الأحوذي 88/ 1.
[11] رواه أحمد 9213.
[12] الدراية 1/ 14.
[13] شرح السنة 303/ 1.
[14] التلخيص الحبير 107/ 1.
[15] حاشية تهذيب الكمال ج32 ص 335.
[16] رواه ابن ماجه 399.
[17] الكامل في ضعفاء الرجال 46/ 7.
[18] تحفة الأحوذي 6/ 129.
[19] أخرجه الترمذي من حديث سمرة بن جندب 2443.
[20] السابق.
[21] تخريج شرح الطحاوية 281.
[22] الفتن للحافظ أبي عبد الله لنعيم بن حمَّاد ج2 ص330.
[32] ) أخرجه الترمذي 12، والنسائي 29 واللفظ له، وابن ماجه 307.
[33] شرح النسائي للسيوطي.
[34] يُنظر في ذلك علل الترمذي، وعلل ابن أبي حاتم، والكامل في ضعفاء الرجال، وسير أعلام النبلاء وغيرها.
[35] ينظر: الكامل في ضعفاء الرجال، وسير أعلام النبلاء وغيرها.
[36] رواه أحمد في مسنده 25045.
[37] يُنظر تخريج المسند للأرنؤوط 25045.
[38] ترتيب مسند الشافعي، نشر وتصحيح: السيد يوسف على الحسني، والسيد عزت العطار، 1/ 272، وهكذا هو عند مالك في الموطأ.
[39] كان عبدالله هذا من المتقنين، وكان يحيى بن معين لا يُقدِّم عليه في مالك أحدًا.
[40] حدثنا عبد الله بن مسلمة (القعنبي) حدثنا مالك، عن عبدالله بن دينار، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين البخاري، 1906، الصوم.
❞ غربة علوم الحديث في عصر العلامة يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد (حفيد الإمام القاسم مؤسس الدولة القاسمية)
في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري وأسبابه:
إن المتفحص للعلوم التي كانت تدرس في عصر الشَّارح وقبله وبعده, لا يكاد يجد أي ذكر لعلوم الحديث, ودواوين السنة المطهرة من الصحاح والمسانيد والسنن, فلم تكن تدرس إلَّا في النادر, قال العلَّامة المؤرخ يحيى بن الحسين –رحمه الله- في تاريخه (بهجة الزمن) وهو يذكر أحداث (1093هـ): \"وفي نصف رمضان منها ختم على الفقير إلى الله صحيح الإمام مسلم بن الحجاج( ) القشيري قراءة محققة الضبط والحراسة من أوله إلى آخره، فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن بعد سماعي له عام اثنين وسبعين وألف على الفقيه صالح بن محمَّد العنسي( ) بسماعه له على الشيخ العارف محمَّد بن علي علان الشَّافعي( ) بمكة المحروسة. وفي السنة التي بعدها شرع لي قراءة سنن أبي داود، فسمع عليَّ أكثره، لم يبق إلَّا قدر الربع من آخره فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن, وكان هذا من جملة النعم؛ لأن هذا الكتاب والبخاري وغيرهما لم يعرفهما أحد
بصنعاء من رأس الألف إلى هذا التأريخ، قدر مائة سنة، فلا قوة إلَّا بالله( )\".
فهذا شاهد منصف من أسرة الأئمة, يثبت ما مرت به كتب الحديث والسنة المطهرة من غربة في عصره وقبله وبعده, ويمكن للباحث أن يستنبط من خلال أحداث تلك الفترة أهم الأسباب التي أدت إلى هذه الغربة ومنها:
1. سياسة التشكيك في كتب الحديث والطعن في رواتها وناقليها, فقد أوغلوا كثيرًا في الطعن بكتب الحديث حتَّى أنَّ القاضي أحمد بن سعد الدِّين المسوري( ) والذي كان مقربًا من إئمة وأمراء الدولة, قد خرق إجماع الأمة – بمن فيهم الزيدية - في طعنه في كتب الحديث ورواته، والظاهر أنَّ مكانته العلمية والسياسية منعت علماء عصره من الرد عليه، لكن المؤلف –رحمه الله– قد رد عليه لسعة علمه، وعدم خوفه من الجهلة والمتعصبين، وكونه من الأسرة الحاكمة.
وكان المسوري هذا قد ألف رسالة سماها \"الرسالة المنقذة من الغواية في طرق أهل الرواية\"( ), قال يحيى بن الحسين –رحمه الله- في \"بهجة الزمن\" في أخبار سنة (1052هـ): \"وفيها - أي في هذه السنة - أنشأ القاضي أحمد بن سعد الدِّين المسوري رسالة أبانت عن صاحبها الجهالة, وذلك في الطعن في سنة النبي r والرد لما جاء منها على ألسنة الرواة والمحدّثين وما أتوا به عن سيد المرسلين وخاتم النبيين, وقال: كلما في الأمَّهات الست لا يحتج به وأنَّه كذب فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم، يريدون أن يبدلوا كلام الله ورسوله، ويؤمنون ببعض الكتاب دون بعضه، وقد أجبت على هذه الرسالة، وأظهرت ما فيها من الغلط والغواية، وما توفيقي إلَّا بالله\"( )
2. أن كل من يشتغل بكتب الحديث أو عمل فيها من السنن عادته العامة، ورمته بالنصب؛ أي: بغض أهل بيت النبي r، ربما أنزلت به أنواع الأذية والمحن.
وهذا هو السبب فيما وقع من الامتحان للعلامة المحدث عبدالرحمن الحيمي( )، وهو أحد شيوخ الشَّارح, قال عنه الشوكاني: الحافظ الكبير العلَّامة الشهير كان من العلماء الجامعين بين علم المعقول والمنقول وله اشتغال بالتدريس في الأمَّهات ونشرها؛ ولكنَّه ما سلم من الامتحان من أهل عصره لسبب اشتغاله بالأمَّهات علمًا وعملًا وتدريسًا, وليس ذلك ببدع فهذا شأن هذه الديار من قديم الأعصار( ).
وهو السبب ذاته الذي دفع العلَّامة الحسن بن أحمد الجلال( ) الى الخروج من مدينة صنعاء إلى الجراف( ) واعتزال النَّاس، ودفع العلَّامة المقبلي( ) إلى الخروج من اليمن إلى مكة وبقائه بها حتَّى مات، وهو السبب في عزلة الشَّارح يحيى بن الحسين –رحمه الله- وإهماله من قبل علماء ومؤرخي عصره، وهو السبب الذي حمل العلَّامة محمَّد بن إبراهيم الوزير( ) على اعتزال أهل عصره، وتوحشه في الفلوات وانقطاعه عن النَّاس.
وهو ذات السبب فيما نزل بعد ذلك بالعلَّامة محمَّد بن إسماعيل الأمير الصنعاني من المحن حتَّى كاد أن يقتل على منبر جامع صنعاء( ).
قال الأمام الشوكاني وهو يتحدث عن ما جرى من محن للعلامة محمَّد بن اسماعيل الأمير: وجرت له مع أهل عصره خطوب ومحن, وتجمع العوام لقتله مرة بعد أخرى, وحفظه الله من كيدهم ومكرهم وكفاه شرهم, وولاه الإمام المنصور بالله الخطابة بجامع صنعاء فاستمر كذلك إلى أيَّام ولده الإمام المهدي, واتفق في بعض الجمع أنَّه لم يذكر الأئمة الذين جرت العادة بذكرهم في الخطبة الأخرى, فثار عليه جماعة من آل الإمام الذين لا أنسة لهم بالعلم, وعضدهم جماعة من العوام, وتواعدوا فيما بينهم على قتله في المنبر يوم الجمعة المقبلة, وكان من أعظم المحشدين لذلك السيد يوسف العجمى( ) الإمامي القادم في أيَّام الإمام المنصور بالله, والمدرس بحضرته, فبلغ الإمام المهدي ما قد وقع التواطأ عليه, فأرسل لجماعة من أكابر آل الإمام وسجنهم, وأرسل لصاحب الترجمة( ) أيضًا وسجنه, وأمر من يطرد السيد يوسف المذكور حتَّى يخرجه من الديار اليمنية, فسكنت عند ذلك الفتنة, وبقي صاحب الترجمة نحو شهرين ثمَّ خرج من السجن, وولي الخطابة غيره, واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا وإفتاءً وتصنيفًا, وما زال في محن من أهل عصره, وكانت العامَّة ترميه بالنصب, مستدلين على ذلك بكونه عاكفًا على الأمَّهات وسائر كتب الحديث, عاملًا بما فيها, ومن صنع هذا الصنع رمته العامَّة بذلك, لا سيما إذا تظهر بفعل شيء من سنن الصلاة, كرفع اليدين وضمهما ونحو ذلك, فإنهم ينفرون عنه ويعادونه ولا يقيمون له وزنًا, مع أنَّهم في جميع هذه الديار منتسبون إلى الإمام زيد بن علي( ), وهو من القائلين بمشروعية الرفع والضم, وكذلك ما زال الأئمة من الزيدية يقرأون كتب الحديث الأمَّهات وغيرها, منذ خرجت إلى اليمن ونقلوها في مصنَّفاتهم الأَّولى, فالأَّول لا ينكره إلَّا جاهل أو متجاهل( ).
ومنهم الإمام العلَّامة يحيى بن الحسين –رحمه الله- شارح المخطوط، الذي حرص على اتباع الدليل من الكتاب والسُّنَّة، ولم يقلد في الأصول، ولا في الفروع، فهو من العلماء القلائل الذين برعوا في علم الحديث بالنسبة لأقرانه - في ذلك العصر- ولم يمنعه اعتراض بعضهم من قول الحق، والدعوة إلى الإلتزام بالكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة، والسير على نهج السلف الصالح، كما كان من سبقه من علماء اليمن الأعلام، والمجددين الأفذاذ، الذين تعرضوا إثر طرحهم لأفكارهم التجديدية إلى الإيذاء، ولم يسلموا من الفتن والامتحان من أهل عصرهم؛ بسبب اشتغالهم بالأمَّهات, علمًا وعملًا وتدريسًا، وليس ذلك ببدع، فهذا شأن هذه الديار من قديم الأعصار, كما قال الشوكاني( ).
والعلَّامة يحيى بن الحسين –رحمه الله- أحد من ابتلي بذلك، قال عنه الشوكاني: أهمل ذكره أهل عصره فمن بعدهم؛ ولعلَّ سبب ذلك والله أعلم: ميله إلى العمل بما في أمهات الحديث, ورده على من خالف النصوص الصَّحيحة, وقد رأيت له مؤلفًا رد به على رسالة للقاضي أحمد بن سعد الدِّين, يتضمن الرد على أئمة الحديث, وسمى صاحب الترجمة مؤلفه: \"صوارم اليقين لقطع شكوك القاضي أحمد بن سعد الدِّين\" وهو مؤلف ممتع, يدل على طول باع مصنِّفه, وكذلك رأيت له مصنَّفا سماه: \"الإيضاح لما خفى من الاتفاق على تعظيم صحابة المصطفى\", ووقع بينه وبين أهل عصره قلاقل بسبب تظهره بما تقدم( ).
3. الفقهاء الجامدون: ومن الأسباب أيضًا ما ذكره الأمام الشوكاني من التحريض من قبل الفقهاء الذين وصفهم بالجمود, قال الشوكاني: وليس الذنب في معاداة من كان كذلك للعامة, الذين لا تعلق لهم بشيء من المعارف العلمية, فإنهم اتباع كل ناعق, إذا قال لهم من له هيئة أهل العلم أنَّ هذا الأمر حق قالوا حق, وإن قال باطل قالوا باطل, إنَّما الذنب لجماعة قرأوا شيئًا من كتب الفقه ولم يمعنوا فيها ولا عرفوا غيرها, فظنوا لقصورهم أنّ المخالفة لشيء منها مخالفة للشريعة؛ بل القطعي من قطعياتها, والغالب عليهم أنّ ذلك ليس لمقاصد دينية بل لمنافع دنيوية تظهر لمن تأملها وهي أن يشيع في النَّاس أنّ من أنكر على أكابر العلماء, ما خالف المذهب من اجتهاداتهم, كان من خلص الشيعة الذَّابين عن مذهب الآل, وتكون تلك الشهرة مفيدة في الغالب لشيء من منافع الدنيا وفوائدها, فلا يزالون قائمين وثائرين في تخطئة أكابر العلماء, ورميهم بالنصب ومخالفة أهل البيت, فتسمع ذلك العامة فتظنه حقًا, وتعظم ذلك المنكِر؛ لأنَّه قد نفق على عقولها صدق قوله, وظنوه من المحامين عن مذهب الأئمة, ولو كشفوا عن الحقيقة لوجدوا ذلك المنكِر هو المخالف لمذهب الأئمة( ).
4. سكوت العلماء عن قول الحق, ومداراتهم للعامة خوفًا على أنفسهم وهتك أعراضهم: قال الشوكاني: كان أهل العلم يخافون على أنفسهم, ويحمون أعراضهم؛ فيسكتون عن العامة, وكثيرًا منهم كان يصوبهم مداراةً لهم, وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن, وتسلط العامة عليهم, وخمول ذكرهم, وسقوط مراتبهم؛ لأنهم يكتمون الحق, فإذا تكلم به واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم, وأوهموهم أنَّهم على الصواب؛ فيتجرؤون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء, وهضم شأنهم, ولو تكلموا بالصواب, أو نصروا من يتكلم به, أو عرفوا العامة إذا سألوهم الحق, وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم؛ لكانوا يدًا واحدةً على الحق, ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة اثارة شيء من الفتن, فإنا لله وإنا إليه راجعون( ).. ❝ ⏤عبد الله راجح شارب الحايطي
❞ غربة علوم الحديث في عصر العلامة يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد (حفيد الإمام القاسم مؤسس الدولة القاسمية)
في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري وأسبابه:
إن المتفحص للعلوم التي كانت تدرس في عصر الشَّارح وقبله وبعده, لا يكاد يجد أي ذكر لعلوم الحديث, ودواوين السنة المطهرة من الصحاح والمسانيد والسنن, فلم تكن تدرس إلَّا في النادر, قال العلَّامة المؤرخ يحيى بن الحسين –رحمه الله- في تاريخه (بهجة الزمن) وهو يذكر أحداث (1093هـ): ˝وفي نصف رمضان منها ختم على الفقير إلى الله صحيح الإمام مسلم بن الحجاج( ) القشيري قراءة محققة الضبط والحراسة من أوله إلى آخره، فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن بعد سماعي له عام اثنين وسبعين وألف على الفقيه صالح بن محمَّد العنسي( ) بسماعه له على الشيخ العارف محمَّد بن علي علان الشَّافعي( ) بمكة المحروسة. وفي السنة التي بعدها شرع لي قراءة سنن أبي داود، فسمع عليَّ أكثره، لم يبق إلَّا قدر الربع من آخره فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن, وكان هذا من جملة النعم؛ لأن هذا الكتاب والبخاري وغيرهما لم يعرفهما أحد
بصنعاء من رأس الألف إلى هذا التأريخ، قدر مائة سنة، فلا قوة إلَّا بالله( )˝.
فهذا شاهد منصف من أسرة الأئمة, يثبت ما مرت به كتب الحديث والسنة المطهرة من غربة في عصره وقبله وبعده, ويمكن للباحث أن يستنبط من خلال أحداث تلك الفترة أهم الأسباب التي أدت إلى هذه الغربة ومنها:
1. سياسة التشكيك في كتب الحديث والطعن في رواتها وناقليها, فقد أوغلوا كثيرًا في الطعن بكتب الحديث حتَّى أنَّ القاضي أحمد بن سعد الدِّين المسوري( ) والذي كان مقربًا من إئمة وأمراء الدولة, قد خرق إجماع الأمة – بمن فيهم الزيدية - في طعنه في كتب الحديث ورواته، والظاهر أنَّ مكانته العلمية والسياسية منعت علماء عصره من الرد عليه، لكن المؤلف –رحمه الله– قد رد عليه لسعة علمه، وعدم خوفه من الجهلة والمتعصبين، وكونه من الأسرة الحاكمة.
وكان المسوري هذا قد ألف رسالة سماها ˝الرسالة المنقذة من الغواية في طرق أهل الرواية˝( ), قال يحيى بن الحسين –رحمه الله- في ˝بهجة الزمن˝ في أخبار سنة (1052هـ): ˝وفيها - أي في هذه السنة - أنشأ القاضي أحمد بن سعد الدِّين المسوري رسالة أبانت عن صاحبها الجهالة, وذلك في الطعن في سنة النبي r والرد لما جاء منها على ألسنة الرواة والمحدّثين وما أتوا به عن سيد المرسلين وخاتم النبيين, وقال: كلما في الأمَّهات الست لا يحتج به وأنَّه كذب فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم، يريدون أن يبدلوا كلام الله ورسوله، ويؤمنون ببعض الكتاب دون بعضه، وقد أجبت على هذه الرسالة، وأظهرت ما فيها من الغلط والغواية، وما توفيقي إلَّا بالله˝( )
2. أن كل من يشتغل بكتب الحديث أو عمل فيها من السنن عادته العامة، ورمته بالنصب؛ أي: بغض أهل بيت النبي r، ربما أنزلت به أنواع الأذية والمحن.
وهذا هو السبب فيما وقع من الامتحان للعلامة المحدث عبدالرحمن الحيمي( )، وهو أحد شيوخ الشَّارح, قال عنه الشوكاني: الحافظ الكبير العلَّامة الشهير كان من العلماء الجامعين بين علم المعقول والمنقول وله اشتغال بالتدريس في الأمَّهات ونشرها؛ ولكنَّه ما سلم من الامتحان من أهل عصره لسبب اشتغاله بالأمَّهات علمًا وعملًا وتدريسًا, وليس ذلك ببدع فهذا شأن هذه الديار من قديم الأعصار( ).
وهو السبب ذاته الذي دفع العلَّامة الحسن بن أحمد الجلال( ) الى الخروج من مدينة صنعاء إلى الجراف( ) واعتزال النَّاس، ودفع العلَّامة المقبلي( ) إلى الخروج من اليمن إلى مكة وبقائه بها حتَّى مات، وهو السبب في عزلة الشَّارح يحيى بن الحسين –رحمه الله- وإهماله من قبل علماء ومؤرخي عصره، وهو السبب الذي حمل العلَّامة محمَّد بن إبراهيم الوزير( ) على اعتزال أهل عصره، وتوحشه في الفلوات وانقطاعه عن النَّاس.
وهو ذات السبب فيما نزل بعد ذلك بالعلَّامة محمَّد بن إسماعيل الأمير الصنعاني من المحن حتَّى كاد أن يقتل على منبر جامع صنعاء( ).
قال الأمام الشوكاني وهو يتحدث عن ما جرى من محن للعلامة محمَّد بن اسماعيل الأمير: وجرت له مع أهل عصره خطوب ومحن, وتجمع العوام لقتله مرة بعد أخرى, وحفظه الله من كيدهم ومكرهم وكفاه شرهم, وولاه الإمام المنصور بالله الخطابة بجامع صنعاء فاستمر كذلك إلى أيَّام ولده الإمام المهدي, واتفق في بعض الجمع أنَّه لم يذكر الأئمة الذين جرت العادة بذكرهم في الخطبة الأخرى, فثار عليه جماعة من آل الإمام الذين لا أنسة لهم بالعلم, وعضدهم جماعة من العوام, وتواعدوا فيما بينهم على قتله في المنبر يوم الجمعة المقبلة, وكان من أعظم المحشدين لذلك السيد يوسف العجمى( ) الإمامي القادم في أيَّام الإمام المنصور بالله, والمدرس بحضرته, فبلغ الإمام المهدي ما قد وقع التواطأ عليه, فأرسل لجماعة من أكابر آل الإمام وسجنهم, وأرسل لصاحب الترجمة( ) أيضًا وسجنه, وأمر من يطرد السيد يوسف المذكور حتَّى يخرجه من الديار اليمنية, فسكنت عند ذلك الفتنة, وبقي صاحب الترجمة نحو شهرين ثمَّ خرج من السجن, وولي الخطابة غيره, واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا وإفتاءً وتصنيفًا, وما زال في محن من أهل عصره, وكانت العامَّة ترميه بالنصب, مستدلين على ذلك بكونه عاكفًا على الأمَّهات وسائر كتب الحديث, عاملًا بما فيها, ومن صنع هذا الصنع رمته العامَّة بذلك, لا سيما إذا تظهر بفعل شيء من سنن الصلاة, كرفع اليدين وضمهما ونحو ذلك, فإنهم ينفرون عنه ويعادونه ولا يقيمون له وزنًا, مع أنَّهم في جميع هذه الديار منتسبون إلى الإمام زيد بن علي( ), وهو من القائلين بمشروعية الرفع والضم, وكذلك ما زال الأئمة من الزيدية يقرأون كتب الحديث الأمَّهات وغيرها, منذ خرجت إلى اليمن ونقلوها في مصنَّفاتهم الأَّولى, فالأَّول لا ينكره إلَّا جاهل أو متجاهل( ).
ومنهم الإمام العلَّامة يحيى بن الحسين –رحمه الله- شارح المخطوط، الذي حرص على اتباع الدليل من الكتاب والسُّنَّة، ولم يقلد في الأصول، ولا في الفروع، فهو من العلماء القلائل الذين برعوا في علم الحديث بالنسبة لأقرانه - في ذلك العصر- ولم يمنعه اعتراض بعضهم من قول الحق، والدعوة إلى الإلتزام بالكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة، والسير على نهج السلف الصالح، كما كان من سبقه من علماء اليمن الأعلام، والمجددين الأفذاذ، الذين تعرضوا إثر طرحهم لأفكارهم التجديدية إلى الإيذاء، ولم يسلموا من الفتن والامتحان من أهل عصرهم؛ بسبب اشتغالهم بالأمَّهات, علمًا وعملًا وتدريسًا، وليس ذلك ببدع، فهذا شأن هذه الديار من قديم الأعصار, كما قال الشوكاني( ).
والعلَّامة يحيى بن الحسين –رحمه الله- أحد من ابتلي بذلك، قال عنه الشوكاني: أهمل ذكره أهل عصره فمن بعدهم؛ ولعلَّ سبب ذلك والله أعلم: ميله إلى العمل بما في أمهات الحديث, ورده على من خالف النصوص الصَّحيحة, وقد رأيت له مؤلفًا رد به على رسالة للقاضي أحمد بن سعد الدِّين, يتضمن الرد على أئمة الحديث, وسمى صاحب الترجمة مؤلفه: ˝صوارم اليقين لقطع شكوك القاضي أحمد بن سعد الدِّين˝ وهو مؤلف ممتع, يدل على طول باع مصنِّفه, وكذلك رأيت له مصنَّفا سماه: ˝الإيضاح لما خفى من الاتفاق على تعظيم صحابة المصطفى˝, ووقع بينه وبين أهل عصره قلاقل بسبب تظهره بما تقدم( ).
3. الفقهاء الجامدون: ومن الأسباب أيضًا ما ذكره الأمام الشوكاني من التحريض من قبل الفقهاء الذين وصفهم بالجمود, قال الشوكاني: وليس الذنب في معاداة من كان كذلك للعامة, الذين لا تعلق لهم بشيء من المعارف العلمية, فإنهم اتباع كل ناعق, إذا قال لهم من له هيئة أهل العلم أنَّ هذا الأمر حق قالوا حق, وإن قال باطل قالوا باطل, إنَّما الذنب لجماعة قرأوا شيئًا من كتب الفقه ولم يمعنوا فيها ولا عرفوا غيرها, فظنوا لقصورهم أنّ المخالفة لشيء منها مخالفة للشريعة؛ بل القطعي من قطعياتها, والغالب عليهم أنّ ذلك ليس لمقاصد دينية بل لمنافع دنيوية تظهر لمن تأملها وهي أن يشيع في النَّاس أنّ من أنكر على أكابر العلماء, ما خالف المذهب من اجتهاداتهم, كان من خلص الشيعة الذَّابين عن مذهب الآل, وتكون تلك الشهرة مفيدة في الغالب لشيء من منافع الدنيا وفوائدها, فلا يزالون قائمين وثائرين في تخطئة أكابر العلماء, ورميهم بالنصب ومخالفة أهل البيت, فتسمع ذلك العامة فتظنه حقًا, وتعظم ذلك المنكِر؛ لأنَّه قد نفق على عقولها صدق قوله, وظنوه من المحامين عن مذهب الأئمة, ولو كشفوا عن الحقيقة لوجدوا ذلك المنكِر هو المخالف لمذهب الأئمة( ).
4. سكوت العلماء عن قول الحق, ومداراتهم للعامة خوفًا على أنفسهم وهتك أعراضهم: قال الشوكاني: كان أهل العلم يخافون على أنفسهم, ويحمون أعراضهم؛ فيسكتون عن العامة, وكثيرًا منهم كان يصوبهم مداراةً لهم, وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن, وتسلط العامة عليهم, وخمول ذكرهم, وسقوط مراتبهم؛ لأنهم يكتمون الحق, فإذا تكلم به واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم, وأوهموهم أنَّهم على الصواب؛ فيتجرؤون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء, وهضم شأنهم, ولو تكلموا بالصواب, أو نصروا من يتكلم به, أو عرفوا العامة إذا سألوهم الحق, وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم؛ لكانوا يدًا واحدةً على الحق, ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة اثارة شيء من الفتن, فإنا لله وإنا إليه راجعون( ). ❝
❞ \"هذا هو الفصل الأول من قصة يوسف، وهو صفوة الحق من أحسن القصص بما فيه من الدقة والعبرة، وقد شوهه رواة الأساطير والمفتريات الإسرائيلية بما ظنوا أنه من أخبار التوراة وما هو منها.\" . ❝ ⏤محمد رشيد رضا
❞ ˝هذا هو الفصل الأول من قصة يوسف، وهو صفوة الحق من أحسن القصص بما فيه من الدقة والعبرة، وقد شوهه رواة الأساطير والمفتريات الإسرائيلية بما ظنوا أنه من أخبار التوراة وما هو منها.˝ . ❝
❞ فللمعترض هنا أن يقول : لأى سبب أضرب مرقس ويوحنا عن ذكر ميلاد عيسى من دون أب ، وهو أمر خارق للعادة ؟
فإن قيل : إن ذلك كان لعلمهما أن غيرهما ذكره أو سيذكره .
قلت : فلِمَ تواطأ إذن على ذكر الأمور الخسيسة ، والحوادث الأجنبية ، والكلام اللغو ؟ ولِمَ أسهبا الكلام على ذكر آلام عيسى ، وشكوى اليهود عليه ، وعلى قصة إرسال التلميذين لحل الجحش ، وغير ذلك كثير لا يحصى ؟
ويا ليت شعرى ، أى فائدة تحصل من العلم بكون (زكـّـا) طلع على الجميزة لأنه كان قصيرة القامة ؟ .. وبكون بطرس اخترط سيفه وضرب به عبد رئيس الكهنة وكان اسمه (ملخس) فقط أذنه ؟ .. وبكون اليهود سخروا رجلاً كان آتيًا من الحقل اسمه (سمعان) وهو أبو الإسكندر ، ليحمل صليب عيسى خلفه ؟
فإن قيل : إن ذلك لعدم علمهما بذكره .
قلت : فلأى شىء أهملاه وهما مطلعان عليه ؟ .. فهل كانا يعلمان أن هذه الأناجيل الأربع تجمع فى مجلد واحد حتى يعرف الناس منها كلها المهم من أحوال عيسى ؟ .. ولِمَ جهلا إذن الأوقات التى ذكرا فيها تلك الوقائع والقصص ، وناقض أحدهما صاحبه فى ذلك أشد المناقضة ؟
فلم يبق الآن إلا أن يقال كما أسلفنا آنفــًا : إن هؤلاء المؤلفين لم يكونوا مشاهدين بمرأى العين ما شهدوا به ، وإنما هى رويات مختلفة عن عيسى ، طارت فى البلاد ، فنقلها كل منهم بحسب ما بلغته من أفواه الرواة فى بلاده .
وقد سميت هذا المؤلف : ( مماحكات التأويل فى مناقضات الإنجيل ) ، ثم شفعته أيضًا بمسائل فى عقائد النصارى سميتها: المسائل المفخمة فى العقائد المبهمة. ❝ ⏤احمد فارس الشدياق
❞ فللمعترض هنا أن يقول : لأى سبب أضرب مرقس ويوحنا عن ذكر ميلاد عيسى من دون أب ، وهو أمر خارق للعادة ؟
فإن قيل : إن ذلك كان لعلمهما أن غيرهما ذكره أو سيذكره .
قلت : فلِمَ تواطأ إذن على ذكر الأمور الخسيسة ، والحوادث الأجنبية ، والكلام اللغو ؟ ولِمَ أسهبا الكلام على ذكر آلام عيسى ، وشكوى اليهود عليه ، وعلى قصة إرسال التلميذين لحل الجحش ، وغير ذلك كثير لا يحصى ؟
ويا ليت شعرى ، أى فائدة تحصل من العلم بكون (زكـّـا) طلع على الجميزة لأنه كان قصيرة القامة ؟ . وبكون بطرس اخترط سيفه وضرب به عبد رئيس الكهنة وكان اسمه (ملخس) فقط أذنه ؟ . وبكون اليهود سخروا رجلاً كان آتيًا من الحقل اسمه (سمعان) وهو أبو الإسكندر ، ليحمل صليب عيسى خلفه ؟
فإن قيل : إن ذلك لعدم علمهما بذكره .
قلت : فلأى شىء أهملاه وهما مطلعان عليه ؟ . فهل كانا يعلمان أن هذه الأناجيل الأربع تجمع فى مجلد واحد حتى يعرف الناس منها كلها المهم من أحوال عيسى ؟ . ولِمَ جهلا إذن الأوقات التى ذكرا فيها تلك الوقائع والقصص ، وناقض أحدهما صاحبه فى ذلك أشد المناقضة ؟
فلم يبق الآن إلا أن يقال كما أسلفنا آنفــًا : إن هؤلاء المؤلفين لم يكونوا مشاهدين بمرأى العين ما شهدوا به ، وإنما هى رويات مختلفة عن عيسى ، طارت فى البلاد ، فنقلها كل منهم بحسب ما بلغته من أفواه الرواة فى بلاده .
وقد سميت هذا المؤلف : ( مماحكات التأويل فى مناقضات الإنجيل ) ، ثم شفعته أيضًا بمسائل فى عقائد النصارى سميتها: المسائل المفخمة فى العقائد المبهمة. ❝