❞ خطر لي ذات مساء أن أقوم ببحث في سراديب ذاكرتي .. فأرصد في ورقة كل ما أحفظه من أرقام ..
رقم الباسبور ورقم العربة ورقم الشقة ورقم البطاقة العائلية وتليفونات من أعرف من الأصدقاء والزملاء .. وتليفونات المصالح والجرائد .. وأرقام جدول الضرب التي أحفظها غيباً وعمليات الجمع والطرح والقسمة الأولية التي أعرفها بالبداهة .. وتواريخ ميلادي وميلاد أولادي .. وثوابت الرياضة والطبيعة مثل النسبة التقريبية وسرعة الضوء وسرعة الصوت ومجموع زوايا المثلث ودرجة غليان الماء .. وما تعلمته في كلية الطب عن نسبة سكر الدم وعدد الكريات الحمراء وعدد الكريات البيضاء وحجم الدم وسرعة النبض وسرعة التنفس وجرعات العقاقير ..
وفي لحظات تجمعت تحت يدي عدة صفحات من مئات الأرقام .. تداعت في ذهني ولمعت كالبرق وكأني حاسب إلكتروني .. وكان المشهد مذهلاً .
كيف أحفظ هذا الكم الهائل من الأعداد .. كل عدد يبلغ طوله ستة أو سبعة أرقام ؟
وأين تختفي هذه الأرقام في تلافيف المخ ؟
وكيف يتم استدعاؤها فتلمع في الوعي كالبرق الخاطف ؟
وبأي أسلوب تصطف هذه الأرقام في أعداد متمايزة .. كل عدد له مذكرة تفسيرية ملحقة به تشرح دلالته ومعناه ؟
وكيف تتراكم المئات والمئات من هذه الأرقام في ذاكرتنا ولا تختلط ولايطمس بعضها بعضاً؟
وغير الأرقام .. هناك الأسماء والإصطلاحات والكلمات .. والأشكال والوجوه .. تزدحم بها رأسنا . وهناك معالم الطبيعة التي طُفنا بها والأماكن التي زرناها .. وهناك الروائح .. ومع كل رائحة صورة لامرأة عرفناها أو مشهد نذكره ولواعج وأشواق وقصص وسيناريو من آلاف اللقطات .. وهناك الطعوم .. والنكهات .. يأتي الطعم في الفم فيسيل اللعاب شوقاً أو يتحرك الغثيان إشمئزازاً .. ومع كل طعم .. يجري شريط يحكي عن وليمة دسمة ذات يوم أو جرعة دواء مريرة ومرض طويل ممض وأوجاع أليمة .. حتى لمسة النسيم الحريرية ورائحة أصداف الشاطئ تحفظها لنا الذاكرة فتهب علينا لفحات الهواء الرطيب مع ذكراها وكأننا نعيشها من جديد .
حتى الأصوات والهمسات والوشوشات والصخَب والصراخ والضجيج والعويل والنشيج .
وفاصل من موسيقى ..
ومقطع من أغنية ..
ولطمة على وجه ..
وقرقعة عصاً على الظهر ..
وحشرجة ألم ..
كل هذا تحفظه الذاكرة وتسجله في دقة شديدة وأمانة .. ومعه بطاقة بالتاريخ والمناسبة وأسماء الأشخاص وظروف الواقعة ومحضر بالأقوال .. معجزة .. إسمها الذاكرة .
إن معنا رقيباً حقيقياً يكتب بالورقة والقلم كل دبة نمل في قلوبنا ؟
وما نتخيل أحياناً أننا نسيناه نكتشف أننا لم ننسه وأنه موجود يظهر لنا فجأة في لحظة استرخاء أو حلم أو بعد كأس أو في عيادة طبيب نفسي .. وأحياناً يظهر في زلة لسان أو خطأ إملائي .
لا شيء يُنسَى أبداً .. ولا شيء يضيع .. والماضي مكتوب بالفعل لحظة بلحظة ودقة قلب بدقة قلب .
والسؤال الكبير بل اللغز المحير هو .. أين توجد هذه الصور .. أين هذا الأرشيف السري ؟
وهو سؤال حاول أن يجيب عليه أكثر من عالِم وأكثر من فيلسوف .
الفلاسفة الماديون قالوا إن الذاكرة في المخ .. وإنها ليست أكثر من تغيرات كيميائية كهربائية تحدث لمادة المخ نتيجة الفعل العصبي للحوادث تماماً كما يحدث لشريط ريكوردر عند التسجيل .. وإن هذه اللفائف المسجلة تُحفَظ بالمخ وإنها تدور تلقائياً لحظة محاولة التذكر فتعيد ما كان .. في أمانة ودِقة .
الذاكرة مجرد نقش وحفر على مادة الخلايا .
ومصيرها أن تَبلَى وتتآكل كما تبلى النقوش وتتآكل وينتهي شأنها حينما ينتهي الإنسان بالموت وتتآكل خلاياه .
رأي مريح وسهل ولكنه أوقع أصحابه في مطلب لم يستطيعوا الخروج منه ..
فإذا كانت الذاكرة هي مجرد طارئ مادي يطرأ على مادة الخلايا فينبغي أن تتلف الذاكرة لأي تلف مادي مناظر في الخلايا المخية .. وينبغي أن يكون هناك توازٍ بين الحادثين .. كل نقص في ذاكرة معينة لا بد أن يقابله تلف في الخلايا المختصة المقابلة .. وهو أمر لا يشاهَد في إصابات المخ وأمراضه .. بل ما يشاهد هو العكس .
يصاب مركز الكلمات فلا تصاب ذاكرة الكلمات بأي تلف , وإنما الذي يحدث هو عاهة في النطق .. في الأداء الحركي للعضلات التي تنطق الكلمات . إن الموتور هو الذي يتلف بتلف الخلايا .. أما الذاكرة .. أما صورة الكلمات في الذهن فتظل سليمة .
♦♦ وهذا دليل على أن وظيفة المخ ليست الذاكرة ولا التذكر .
وإنما المخ هو مجرد سنترال يعطي التوصيلة .
هو مجرد أداة تُعَبّر به الكلمة عن نفسها في وسط مادي فتصبح صوتًا مسموعًا .. كما يفعل الراديو حينما يحوّل الموجة اللاسلكية إلى نبض كهربائي مسموع .. فإذا أصيب الراديو بعطل فلا يكون معنى هذا العطل أن تتعطل موجة الأثير .. وإنما فقط يحدث شلل في جهاز النطق في الراديو . أما الموجة فتظل سليمة على حالها يمكن أن يلتقطها راديو آخر سليم .
وهذا حال الذاكرة .. فهي صور وأفكار ورُؤى مستقلة مسكنها ومستقرها الروح وليس المخ ولا الجسد بحال .. وما المخ إلا وسيلة لنقل هذه الصور لتصبح كلمات منطوقة مسموعة في عالم ماديّ .
فإذا أصيب المخ بتلف .. يصاب النطق بالتلف ولا تصاب الذاكرة لأن الذاكرة حكمها حكم الروح ولا يجري عليها ما يجري على الجسد .
التوازي مفقود بين الإثنين مما يدل على أننا أمام مستويين (جسد .. وروح ) لا مستوى واحد إسمه المادة .
وفي حوادث النسيان المرحلي .. الذي تنسى فيه مرحلة زمنية بعينها ( وهو الموضوع المحبب عند مؤلفي السينما المصريين ) .. ينسى المصاب فترة زمنية بعينها فتُمحى تمامًا من وعيه وتكشط من ذاكرته .
وكان يتحتم تبعًا للنظرية المادية أن نعثر على تلف مخي جزئي مقابل ومناظر للفترة المنسية .
لكن من الملاحَظ أن أغلب تلك الحالات هي حالات صدمة نفسية عامة وليست تلفًا جزئيًا محددًا .
مرة أخرى نجد أن التوازي مفقود بين حجم الحادث وبين حجم التلف المادي .
وفي حالات التلف المادي الشديد للمخ نتيجة الكسور أو الإلتهابات أو النمو السرطاني , حينما يبدأ النسيان الكامل يلاحظ دائمًا أن هذا النسيان يتخذ نظامًا خاصًا فتُنسَى في البداية أسماء الأعلام وآخر ما يُنسَى هي الكلمات الدالة على الأفعال .
وهذا التسلسل المنتظم في النسيان في مقابل إصابة غير منتظمة .. وفي مقابل تلف مشوش أصاب المخ كيفما اتفق , هو مرة أخرى عدم توازٍ له معنى .. فهنا إصابة في الذاكرة لا علاقة لها من حيث المدى والكم والنظام بالإصابة المادية للمخ .
وهكذا تتحطم النظرية المادية للذاكرة على حائط مسدود .
ونجد أنفسنا أمام ظاهرة متعالية على الجسد وعلى خلايا المخ .
وسوف تموت وتتعفن الخلايا المخية وتظل الذاكرة شاخصة حية بتفصيلاتها ودقائقها تذكرنا في حياتنا الروحية الثانية بكل ما فعلناه .
ولم يكن الجسد إلا جهازاً تنفيذيّاً للفعل وللإفصاح عن النوايا في عالم الدنيا المادي .. كان مجرد أداة للروح ومطية لها .
لم يكن المخ إلا سنترالًا .. وكابلات توصيل .
وكل دوره هو أن يعطي التوصيلة من عالم الروح إلى عالم المادة أو كما يقول برجسون DONNER LA COMMUNICATION ....... يعطي الخط .
كابلات الأعصاب تنقل مكنون الروح وتحوله إلى نبض إلكتروني لتنطق به عضلات اللسان على الطرف الآخر .. كما يفعل الراديو بالموجة اللاسلكية ..
وهكذا نتبادل الكلام كأجساد في عالم مادي .. فإذا ماتت أجسادنا عدنا أرواحًا .. لنتذاكر ما فعلناه في دنيانا لحظة بلحظة حيث كل حرف وكل فعل مسجل .
بل إن هناك نظريات علمية تمضي لأكثر من هذا فترى أن التحصيل هو في ذاته عملية تذكر لعلم قديم مكنوز ومسطور في الروح .. وليس تعلماً من السبورة .. فنحن لا نكتشف أن 2 × 2 = 4 من عدم , وإنما نولد بها .. وكل ما نفعله أننا نتذكرها .. وكذلك بداهات الرياضة والهندسة والمنطق .. كلها بداهات نولد بها مكنوزة فينا .. وكل ما يحدث أننا نتذكرها .. تُذكِرنا بها الخبرة الدنيوية كل لحظة .
وبالمثل شخصيتنا .. نولد بها مسطورة في روحنا .. وكل ما يحدث أن الواقع الدنيوي يقدم المناسبات والملابسات والقالب المادي لتفصح هذه الشخصية عن خيرها وشرها .. فيسجل عليها فعلها .
والتسجيل هو الأمر الجديد الذي يتم في الدنيا .
الإنتقال من حالة النية إلى حالة التلبس .
وهذا ما تُعبِّر عنه الأديان بأن يحق القول على المذنب بعد الإبتلاء والإختبار في الدنيا .. فتحق عليه الضلالة وتلزمه رتبته .
وهو أمر قد سبق إليه علم الله .. علم الحصر لا علم الإلزام .. فالله لا يلزم أحداً بخطيئة ولا يقهره على شر .. وإنما كل واحد يتصرف على وفاق طبيعته الداخلية .. فعله هو ذاته .. وليس في ذلك أي معنى من معاني الجبر .. لأن هذه الطبيعة الداخلية هي التي نسميها أحيانًا الضمير وأحيانًا السريرة وأحيانًا الفؤاد .. ويسميها الله (( السر )) .
(( يعلم السر وأخفَى )) .
ونقول عنها في تعبيراتنا الشعبية عن الموت (( طلع السر الإلهي )) أي صعدت الروح إلى بارئها ..
هذا السر المطلسم هو ابتداء حر ومبادرة أعتقها الله من كل القيود ليكون فعلها هو ذاتها وليكون هواها دالاً عليها .
ومِن هنا لا يصح القول بالحتميات في المجال الإنساني أمثال حتمية الصراع الطبقي والجبرية التاريخية .. لأن الإنسان مجال حر وليس مسمارًا أو ترسًا في ماكينة .
وكما لا يمكن التنبؤ بما يأتي به الغد في حياة فرد فإنه يستحيل القول بالحتم أو الجبر في مجال المجتمعات والتاريخ .. وكل ما يمكن القول به هو الترجيح والإحتمال بناء على مقدمات إحصائية .. وهو ترجيح يخطئ ويصيب ويحدث فيه تفاوت في طرفيه .. فمعدل عمر الإنسان في إنجلترا مثلاً هو ستون سنة .. وهذا المعدل معدل إحصائي مأخوذ من متوسطات أرقام .. وهو غير ملزم بالنسبة للفرد , فقد يعيش فرد مثل برناردشو في إنجلترا أكثر من تسعين سنة ويتجاوز المعدل . وقد يموت في سن العشرين في حادثة . وقد يموت وهو طفل بمرضٍ معدٍ ..
ثم إن المعدل ذاته قابل للتذبذب من طرفيه صعودًا وهبوطًا من سنة لأخرى ..
فلا يصح القول بالحتمية والجَبر في هذا الموضوع .. ولا يجوز إخضاع المجال الإنساني سواء كان فرداً أو مجتمعاً أو تاريخاً لقالب نظري أو معادلة أو حسبة إحصائية أو فرض فلسفي .
إنما تأتي فكرة الحتمية الخاطئة من التصور الخاطئ للإنسان على أنه جسد بلا نفس وبلا روح وبلا عقل ..واعتبار النفس والعقل مجرد مجموعة الوظائف العليا للجهاز العصبي.
ومن الواقع المشاهد من خضوع الجسم للقوانين الفسيولوجية يستنتج المفكر المادي أن الإنسان والإنسانية بأسرها مغلولة في القوانين المادية.
وهكذا يجعل من الإنسان كتلة مادية أشبه بكتلة القمر محكومة في دورانه حول الأرض والشمس بالحتميات الفلكية.
وينسى أن الإنسان يعيش في مستويين.
مستوى الزمن الخارجي الموضوعي المادي .. زمن الساعة .. وفي هذا الزمن يرتبط بالمواعيد والضرورات الإجتماعية ويعيش في أَسر القوانين والحتميات .
ومستوى زمنه الخاص الداخلي .. زمن الشعور وزمن الحلم .. وفي هذا المستوى يعيش حياة حرة بالفعل .. فيفكر ويحلم ويبتكر ويخترع و يقف من كل المجتمع و التاريخ موقف الثورة .. بل يستطيع أن ينقل هذه الثورة الداخلية إلى فعل خارجي فيقلب المجتمع و يغير التاريخ من أساسه كما حدث في كل الثورات التقدمية .
هذه الثنائية هي صفة ينفرد بها الإنسان .
وهذه الحياة الداخلية الحرة يختص بها الإنسان دون الجماد
وهذه النفس التي يملكها تتصف بصفات مختلفة مغايرة لصفت الجماد .. فهنا نحن أمام وحدة لا امتداد لها في المكان ..
هي الـ (( أنا )) تتصف بالحضور والديمومة والشخوص والكينونة والمثول الدائم في الوعي .. ثم هي تفرض نفسها على الواقع الخارجي وتغيره .. وتفرض نفسها على الجسد وتحكمه وتقوده وتعلو على ضروراته .. فتفرض عليه الصوم والحرمان إختياراً .
بل قد تقوده إلى الموت فداء وتضحية ..
مثل هذه النفس لا يمكن أن تكون مجرد ناتج ثانوي من نواتج الجسد وذيلًا تابعًا له ومادة تطورت منه .. مثل هذه النظريات المادية لا تفسر لنا شيئًا .. وإنما لابد لنا أن نسلم أن هذه النفس عالية على الجسد متعالية عليه وأنها من جوهر مفارق لجوهر الجسد وحاكم عليه .. فهي في واقع الأمر تستخدم الجسد كأداة لأغراضها ومطية لأهدافها كما يستخدم العقل المخ مجرد توصيلة أو سنترال .
ولا بد أن يتداعى إلى ذهننا الإحتمال البديهي من أن هذه النفس لا يمكن أن يجري عليها ما يجري على الجسد من موت وتآكل وتعفن بحكم جوهرها الذي تشعر به متصفًا بالحضور والديمومة والشخوص في الوعي طوال الوقت .. فلا تتآكل كما يتآكل الجسد ولا هي تقع كما يقع الشعر ولا هي تبلى كما تبلى الأسنان .
وإنه لأمر بديهي تمامًا أن نتصور بقاءها بعد الموت .
فإذا نحن تأملنا ما يصاحب أفعالنا من تردد قبل اختيار القرار ثم شعور بالمسئولية في أثناء العمل ثم ندم أو راحة بعد تمامه .. فنحن نستنتج أننا أمام حالة مراقبة فطرية وفكرة ملحة بالحساب وبأن هناك خطأ وصوابًا . وإننا نعلم بداهةً وبالفطرة التي ولدنا بها أن العدل والنظام هو ناموس الوجود .. وأن المسئولية هي القاعدة .
ويفترض لنا هذا الشعور الفطري القهري أن الظالم الذي أفلت من عقاب الأرض .. والقاتل الذي أفلت من محاسبة القانون البري الأرضي .. لابد أن يعاقَب ويحاسَب .. لأن العالم الذي نعيش فيه يفصح عن النظام والإنضباط من أصغر ذرة إلى أكبر فلك .. والعبث غير موجود إلا في عقولنا وأحكامنا المنحرفة .
وفكرة العدل والنظام وضرورة العدل عالم آخر يتم فيه العدل والنظام والمحاسبة .
كل هذا علم نولد به .. وحقيقة تقول بها الفطرة والبداهة .
ولا غرابة في أن يعترف مفكر غربي ألماني وهو (( عمانويل كانت )) بهذه الحقيقة في كتابة (( نقد العقل العلمي )) .
ولا غرابة في أن يصل إلى هذه النتيجة السليمة دون أن يقرأ قرآنًا .
إنها الفطرة والبداهة التي تقوم عليها جميع العلوم .
ولا حاجة لأن يقرأ العقل السليم الكتاب المقدس ليكتشف أن له روحًا و أن له حياة بعد الموت و أن هناك حساباًَ .. فالفطرة السليمة تضيء لصاحبها الطريق إلى هذه الحقائق .
وهذا العلم الذي نولد به .. وهذه البداهة التي نولد بها .. تقوم شاهدة على جميع العلوم المكتسبة وملزمة لها .. فجميع العلوم المكتسبة يجوز فيها الخطأ والصواب .. أما العلم الذي نولد به فهو جزء من نظام الكون المحكم .. وهو الحقيقة الأولى التي نعمل على ضوئها نرى جميع الحقائق الفرعية .. وهي المعيار والمقياس .. وإذا فسد المعيار فسد كل شيء وأصبح كل شيء عبثًا في عبث وهو أمر غير صحيح .
وإذا اتهمنا بالبداهة فإن جميع العلوم والمعارف سوف ينسحب عليها الإتهام وسوف تنهدم لأنها تقوم أصلاً على البداهات .
فنحن هنا أمام أصل من أصول المعرفة ومرجع لا يجوز الشك فيه ( لأن هذا المرجع شأنه شأن الحياة ذاتها ) نحن أمام متن هو لحم المعرفة ودمها . وكما نأتي إلى الحياة مزودين بعضلات لنتحرك بها وندافع عن أنفسنا كذلك نولد مزودين بالبداهات الأولى لنحتكم إليها في إدراك الحق من الباطل والصواب من الخطأ .
وأعلى درجات المعرفة هي ما يأتيك من داخلك , فأنت تستطيع أن تدرك وضعك ( هل أنت واقف أو جالس أو راقد ) دون أن تنظر إلى نفسك .. يأتيك هذا الإدراك وأنت مغمض العينين .. يأتيك من داخلك .. وتقوم هذه المعرفة حجة على أية مشاهدة .
وحينما تقول .. أنا سعيد .. أنا شقيّ .. أنا أتألم .. فكلامك يقوم حجة بالغة ولا يجوز تكذيبه بحجة منطقية .. بل إن تناول هذا الأمر بالمنطق هو تنطع ولجاجة لا معنى لها .. فلا أحد أعرف بحال نفسك من نفسك ذاتها .
وبالمثل شهادة الفطرة وحكم البداهة هي حجة على أعلى مستوى .. وحينما تقول الفطرة والبداهة مؤيدة بالعلم والفكر والتأمل حينما تقول بوجود الروح والنفس .. وبالحرية وبالمسئولية والمحاسبة , وحينما توحي بالتصرف على أساس أن في الكون نظامًا .. فنحن هنا أمام حجة على أعلى مستوى من اليقين .
وهو يقين مثل يقين العيَان أو أكثر .. فالفطرة عضو مثل العين نولد به .
وهو يقين أعلى من يقين العلم .. لأن الصدق العلمي هو صدق إحصائي والنظريات العلمية تُستنتَج من متوسطات الأرقام .. أما حكم البداهة فله صفة القطع والإطلاق
2 × 2 = 4 هي حقيقة مطلقة صادقة صدقًا مطلقًا , لا يجوز عليها ما يجوز من نسخ وتطور وتغير في نظريات العلم لأنها مقبولة بديهية .
1 + 1 = 2 مسألة لا تقبل الشك لأنها حقيقة ألقتها إلينا الفطرة من داخلنا وأوحت بها البداهة .
وهي معرفة أولى جاءت إلينا مع شهادة الميلاد .
لو أدرك الإنسان هذا لأراح واستراح .. ولوفّر على نفسه كثيراً من الجدل والشقشقة والسفسطة والمكابرة في مسألة الروح والجسد .. والعقل والمخ .. والحرية والجبر .. والمسئولية والحساب .. ولاكتفى بالإصغاء إلى ما تهمس به فطرته وما يُفتي به قلبه وما تشير به بصيرته .
وذرة من الإخلاص أفضل من قناطير من الكتب .
لنصغي إلى صوت نفوسنا وهمس بصائرنا في إخلاص شديد دون محاولة تشويه ذلك الصوت البكر بحبائل المنطق وشراك الحجج .
وعلى من يشك في كلامي .. وعلى هواة الجدل والنقاش والمقارعة المنطقية أن يعودوا فيقرأوا مقالي من أوله .
..
مقال / الروح
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ خطر لي ذات مساء أن أقوم ببحث في سراديب ذاكرتي . فأرصد في ورقة كل ما أحفظه من أرقام .
رقم الباسبور ورقم العربة ورقم الشقة ورقم البطاقة العائلية وتليفونات من أعرف من الأصدقاء والزملاء . وتليفونات المصالح والجرائد . وأرقام جدول الضرب التي أحفظها غيباً وعمليات الجمع والطرح والقسمة الأولية التي أعرفها بالبداهة . وتواريخ ميلادي وميلاد أولادي . وثوابت الرياضة والطبيعة مثل النسبة التقريبية وسرعة الضوء وسرعة الصوت ومجموع زوايا المثلث ودرجة غليان الماء . وما تعلمته في كلية الطب عن نسبة سكر الدم وعدد الكريات الحمراء وعدد الكريات البيضاء وحجم الدم وسرعة النبض وسرعة التنفس وجرعات العقاقير .
وفي لحظات تجمعت تحت يدي عدة صفحات من مئات الأرقام . تداعت في ذهني ولمعت كالبرق وكأني حاسب إلكتروني . وكان المشهد مذهلاً .
كيف أحفظ هذا الكم الهائل من الأعداد . كل عدد يبلغ طوله ستة أو سبعة أرقام ؟
وأين تختفي هذه الأرقام في تلافيف المخ ؟
وكيف يتم استدعاؤها فتلمع في الوعي كالبرق الخاطف ؟
وبأي أسلوب تصطف هذه الأرقام في أعداد متمايزة . كل عدد له مذكرة تفسيرية ملحقة به تشرح دلالته ومعناه ؟
وكيف تتراكم المئات والمئات من هذه الأرقام في ذاكرتنا ولا تختلط ولايطمس بعضها بعضاً؟
وغير الأرقام . هناك الأسماء والإصطلاحات والكلمات . والأشكال والوجوه . تزدحم بها رأسنا . وهناك معالم الطبيعة التي طُفنا بها والأماكن التي زرناها . وهناك الروائح . ومع كل رائحة صورة لامرأة عرفناها أو مشهد نذكره ولواعج وأشواق وقصص وسيناريو من آلاف اللقطات . وهناك الطعوم . والنكهات . يأتي الطعم في الفم فيسيل اللعاب شوقاً أو يتحرك الغثيان إشمئزازاً . ومع كل طعم . يجري شريط يحكي عن وليمة دسمة ذات يوم أو جرعة دواء مريرة ومرض طويل ممض وأوجاع أليمة . حتى لمسة النسيم الحريرية ورائحة أصداف الشاطئ تحفظها لنا الذاكرة فتهب علينا لفحات الهواء الرطيب مع ذكراها وكأننا نعيشها من جديد .
حتى الأصوات والهمسات والوشوشات والصخَب والصراخ والضجيج والعويل والنشيج .
وفاصل من موسيقى .
ومقطع من أغنية .
ولطمة على وجه .
وقرقعة عصاً على الظهر .
وحشرجة ألم .
كل هذا تحفظه الذاكرة وتسجله في دقة شديدة وأمانة . ومعه بطاقة بالتاريخ والمناسبة وأسماء الأشخاص وظروف الواقعة ومحضر بالأقوال . معجزة . إسمها الذاكرة .
إن معنا رقيباً حقيقياً يكتب بالورقة والقلم كل دبة نمل في قلوبنا ؟
وما نتخيل أحياناً أننا نسيناه نكتشف أننا لم ننسه وأنه موجود يظهر لنا فجأة في لحظة استرخاء أو حلم أو بعد كأس أو في عيادة طبيب نفسي . وأحياناً يظهر في زلة لسان أو خطأ إملائي .
لا شيء يُنسَى أبداً . ولا شيء يضيع . والماضي مكتوب بالفعل لحظة بلحظة ودقة قلب بدقة قلب .
والسؤال الكبير بل اللغز المحير هو . أين توجد هذه الصور . أين هذا الأرشيف السري ؟
وهو سؤال حاول أن يجيب عليه أكثر من عالِم وأكثر من فيلسوف .
الفلاسفة الماديون قالوا إن الذاكرة في المخ . وإنها ليست أكثر من تغيرات كيميائية كهربائية تحدث لمادة المخ نتيجة الفعل العصبي للحوادث تماماً كما يحدث لشريط ريكوردر عند التسجيل . وإن هذه اللفائف المسجلة تُحفَظ بالمخ وإنها تدور تلقائياً لحظة محاولة التذكر فتعيد ما كان . في أمانة ودِقة .
الذاكرة مجرد نقش وحفر على مادة الخلايا .
ومصيرها أن تَبلَى وتتآكل كما تبلى النقوش وتتآكل وينتهي شأنها حينما ينتهي الإنسان بالموت وتتآكل خلاياه .
رأي مريح وسهل ولكنه أوقع أصحابه في مطلب لم يستطيعوا الخروج منه .
فإذا كانت الذاكرة هي مجرد طارئ مادي يطرأ على مادة الخلايا فينبغي أن تتلف الذاكرة لأي تلف مادي مناظر في الخلايا المخية . وينبغي أن يكون هناك توازٍ بين الحادثين . كل نقص في ذاكرة معينة لا بد أن يقابله تلف في الخلايا المختصة المقابلة . وهو أمر لا يشاهَد في إصابات المخ وأمراضه . بل ما يشاهد هو العكس .
يصاب مركز الكلمات فلا تصاب ذاكرة الكلمات بأي تلف , وإنما الذي يحدث هو عاهة في النطق . في الأداء الحركي للعضلات التي تنطق الكلمات . إن الموتور هو الذي يتلف بتلف الخلايا . أما الذاكرة . أما صورة الكلمات في الذهن فتظل سليمة .
♦♦ وهذا دليل على أن وظيفة المخ ليست الذاكرة ولا التذكر .
وإنما المخ هو مجرد سنترال يعطي التوصيلة .
هو مجرد أداة تُعَبّر به الكلمة عن نفسها في وسط مادي فتصبح صوتًا مسموعًا . كما يفعل الراديو حينما يحوّل الموجة اللاسلكية إلى نبض كهربائي مسموع . فإذا أصيب الراديو بعطل فلا يكون معنى هذا العطل أن تتعطل موجة الأثير . وإنما فقط يحدث شلل في جهاز النطق في الراديو . أما الموجة فتظل سليمة على حالها يمكن أن يلتقطها راديو آخر سليم .
وهذا حال الذاكرة . فهي صور وأفكار ورُؤى مستقلة مسكنها ومستقرها الروح وليس المخ ولا الجسد بحال . وما المخ إلا وسيلة لنقل هذه الصور لتصبح كلمات منطوقة مسموعة في عالم ماديّ .
فإذا أصيب المخ بتلف . يصاب النطق بالتلف ولا تصاب الذاكرة لأن الذاكرة حكمها حكم الروح ولا يجري عليها ما يجري على الجسد .
التوازي مفقود بين الإثنين مما يدل على أننا أمام مستويين (جسد . وروح ) لا مستوى واحد إسمه المادة .
وفي حوادث النسيان المرحلي . الذي تنسى فيه مرحلة زمنية بعينها ( وهو الموضوع المحبب عند مؤلفي السينما المصريين ) . ينسى المصاب فترة زمنية بعينها فتُمحى تمامًا من وعيه وتكشط من ذاكرته .
وكان يتحتم تبعًا للنظرية المادية أن نعثر على تلف مخي جزئي مقابل ومناظر للفترة المنسية .
لكن من الملاحَظ أن أغلب تلك الحالات هي حالات صدمة نفسية عامة وليست تلفًا جزئيًا محددًا .
مرة أخرى نجد أن التوازي مفقود بين حجم الحادث وبين حجم التلف المادي .
وفي حالات التلف المادي الشديد للمخ نتيجة الكسور أو الإلتهابات أو النمو السرطاني , حينما يبدأ النسيان الكامل يلاحظ دائمًا أن هذا النسيان يتخذ نظامًا خاصًا فتُنسَى في البداية أسماء الأعلام وآخر ما يُنسَى هي الكلمات الدالة على الأفعال .
وهذا التسلسل المنتظم في النسيان في مقابل إصابة غير منتظمة . وفي مقابل تلف مشوش أصاب المخ كيفما اتفق , هو مرة أخرى عدم توازٍ له معنى . فهنا إصابة في الذاكرة لا علاقة لها من حيث المدى والكم والنظام بالإصابة المادية للمخ .
وهكذا تتحطم النظرية المادية للذاكرة على حائط مسدود .
ونجد أنفسنا أمام ظاهرة متعالية على الجسد وعلى خلايا المخ .
وسوف تموت وتتعفن الخلايا المخية وتظل الذاكرة شاخصة حية بتفصيلاتها ودقائقها تذكرنا في حياتنا الروحية الثانية بكل ما فعلناه .
ولم يكن الجسد إلا جهازاً تنفيذيّاً للفعل وللإفصاح عن النوايا في عالم الدنيا المادي . كان مجرد أداة للروح ومطية لها .
لم يكن المخ إلا سنترالًا . وكابلات توصيل .
وكل دوره هو أن يعطي التوصيلة من عالم الروح إلى عالم المادة أو كما يقول برجسون DONNER LA COMMUNICATION .... يعطي الخط .
كابلات الأعصاب تنقل مكنون الروح وتحوله إلى نبض إلكتروني لتنطق به عضلات اللسان على الطرف الآخر . كما يفعل الراديو بالموجة اللاسلكية .
وهكذا نتبادل الكلام كأجساد في عالم مادي . فإذا ماتت أجسادنا عدنا أرواحًا . لنتذاكر ما فعلناه في دنيانا لحظة بلحظة حيث كل حرف وكل فعل مسجل .
بل إن هناك نظريات علمية تمضي لأكثر من هذا فترى أن التحصيل هو في ذاته عملية تذكر لعلم قديم مكنوز ومسطور في الروح . وليس تعلماً من السبورة . فنحن لا نكتشف أن 2 × 2 = 4 من عدم , وإنما نولد بها . وكل ما نفعله أننا نتذكرها . وكذلك بداهات الرياضة والهندسة والمنطق . كلها بداهات نولد بها مكنوزة فينا . وكل ما يحدث أننا نتذكرها . تُذكِرنا بها الخبرة الدنيوية كل لحظة .
وبالمثل شخصيتنا . نولد بها مسطورة في روحنا . وكل ما يحدث أن الواقع الدنيوي يقدم المناسبات والملابسات والقالب المادي لتفصح هذه الشخصية عن خيرها وشرها . فيسجل عليها فعلها .
والتسجيل هو الأمر الجديد الذي يتم في الدنيا .
الإنتقال من حالة النية إلى حالة التلبس .
وهذا ما تُعبِّر عنه الأديان بأن يحق القول على المذنب بعد الإبتلاء والإختبار في الدنيا . فتحق عليه الضلالة وتلزمه رتبته .
وهو أمر قد سبق إليه علم الله . علم الحصر لا علم الإلزام . فالله لا يلزم أحداً بخطيئة ولا يقهره على شر . وإنما كل واحد يتصرف على وفاق طبيعته الداخلية . فعله هو ذاته . وليس في ذلك أي معنى من معاني الجبر . لأن هذه الطبيعة الداخلية هي التي نسميها أحيانًا الضمير وأحيانًا السريرة وأحيانًا الفؤاد . ويسميها الله (( السر )) .
(( يعلم السر وأخفَى )) .
ونقول عنها في تعبيراتنا الشعبية عن الموت (( طلع السر الإلهي )) أي صعدت الروح إلى بارئها .
هذا السر المطلسم هو ابتداء حر ومبادرة أعتقها الله من كل القيود ليكون فعلها هو ذاتها وليكون هواها دالاً عليها .
ومِن هنا لا يصح القول بالحتميات في المجال الإنساني أمثال حتمية الصراع الطبقي والجبرية التاريخية . لأن الإنسان مجال حر وليس مسمارًا أو ترسًا في ماكينة .
وكما لا يمكن التنبؤ بما يأتي به الغد في حياة فرد فإنه يستحيل القول بالحتم أو الجبر في مجال المجتمعات والتاريخ . وكل ما يمكن القول به هو الترجيح والإحتمال بناء على مقدمات إحصائية . وهو ترجيح يخطئ ويصيب ويحدث فيه تفاوت في طرفيه . فمعدل عمر الإنسان في إنجلترا مثلاً هو ستون سنة . وهذا المعدل معدل إحصائي مأخوذ من متوسطات أرقام . وهو غير ملزم بالنسبة للفرد , فقد يعيش فرد مثل برناردشو في إنجلترا أكثر من تسعين سنة ويتجاوز المعدل . وقد يموت في سن العشرين في حادثة . وقد يموت وهو طفل بمرضٍ معدٍ .
ثم إن المعدل ذاته قابل للتذبذب من طرفيه صعودًا وهبوطًا من سنة لأخرى .
فلا يصح القول بالحتمية والجَبر في هذا الموضوع . ولا يجوز إخضاع المجال الإنساني سواء كان فرداً أو مجتمعاً أو تاريخاً لقالب نظري أو معادلة أو حسبة إحصائية أو فرض فلسفي .
إنما تأتي فكرة الحتمية الخاطئة من التصور الخاطئ للإنسان على أنه جسد بلا نفس وبلا روح وبلا عقل .واعتبار النفس والعقل مجرد مجموعة الوظائف العليا للجهاز العصبي.
ومن الواقع المشاهد من خضوع الجسم للقوانين الفسيولوجية يستنتج المفكر المادي أن الإنسان والإنسانية بأسرها مغلولة في القوانين المادية.
وهكذا يجعل من الإنسان كتلة مادية أشبه بكتلة القمر محكومة في دورانه حول الأرض والشمس بالحتميات الفلكية.
وينسى أن الإنسان يعيش في مستويين.
مستوى الزمن الخارجي الموضوعي المادي . زمن الساعة . وفي هذا الزمن يرتبط بالمواعيد والضرورات الإجتماعية ويعيش في أَسر القوانين والحتميات .
ومستوى زمنه الخاص الداخلي . زمن الشعور وزمن الحلم . وفي هذا المستوى يعيش حياة حرة بالفعل . فيفكر ويحلم ويبتكر ويخترع و يقف من كل المجتمع و التاريخ موقف الثورة . بل يستطيع أن ينقل هذه الثورة الداخلية إلى فعل خارجي فيقلب المجتمع و يغير التاريخ من أساسه كما حدث في كل الثورات التقدمية .
هذه الثنائية هي صفة ينفرد بها الإنسان .
وهذه الحياة الداخلية الحرة يختص بها الإنسان دون الجماد
وهذه النفس التي يملكها تتصف بصفات مختلفة مغايرة لصفت الجماد . فهنا نحن أمام وحدة لا امتداد لها في المكان .
هي الـ (( أنا )) تتصف بالحضور والديمومة والشخوص والكينونة والمثول الدائم في الوعي . ثم هي تفرض نفسها على الواقع الخارجي وتغيره . وتفرض نفسها على الجسد وتحكمه وتقوده وتعلو على ضروراته . فتفرض عليه الصوم والحرمان إختياراً .
بل قد تقوده إلى الموت فداء وتضحية .
مثل هذه النفس لا يمكن أن تكون مجرد ناتج ثانوي من نواتج الجسد وذيلًا تابعًا له ومادة تطورت منه . مثل هذه النظريات المادية لا تفسر لنا شيئًا . وإنما لابد لنا أن نسلم أن هذه النفس عالية على الجسد متعالية عليه وأنها من جوهر مفارق لجوهر الجسد وحاكم عليه . فهي في واقع الأمر تستخدم الجسد كأداة لأغراضها ومطية لأهدافها كما يستخدم العقل المخ مجرد توصيلة أو سنترال .
ولا بد أن يتداعى إلى ذهننا الإحتمال البديهي من أن هذه النفس لا يمكن أن يجري عليها ما يجري على الجسد من موت وتآكل وتعفن بحكم جوهرها الذي تشعر به متصفًا بالحضور والديمومة والشخوص في الوعي طوال الوقت . فلا تتآكل كما يتآكل الجسد ولا هي تقع كما يقع الشعر ولا هي تبلى كما تبلى الأسنان .
وإنه لأمر بديهي تمامًا أن نتصور بقاءها بعد الموت .
فإذا نحن تأملنا ما يصاحب أفعالنا من تردد قبل اختيار القرار ثم شعور بالمسئولية في أثناء العمل ثم ندم أو راحة بعد تمامه . فنحن نستنتج أننا أمام حالة مراقبة فطرية وفكرة ملحة بالحساب وبأن هناك خطأ وصوابًا . وإننا نعلم بداهةً وبالفطرة التي ولدنا بها أن العدل والنظام هو ناموس الوجود . وأن المسئولية هي القاعدة .
ويفترض لنا هذا الشعور الفطري القهري أن الظالم الذي أفلت من عقاب الأرض . والقاتل الذي أفلت من محاسبة القانون البري الأرضي . لابد أن يعاقَب ويحاسَب . لأن العالم الذي نعيش فيه يفصح عن النظام والإنضباط من أصغر ذرة إلى أكبر فلك . والعبث غير موجود إلا في عقولنا وأحكامنا المنحرفة .
وفكرة العدل والنظام وضرورة العدل عالم آخر يتم فيه العدل والنظام والمحاسبة .
كل هذا علم نولد به . وحقيقة تقول بها الفطرة والبداهة .
ولا غرابة في أن يعترف مفكر غربي ألماني وهو (( عمانويل كانت )) بهذه الحقيقة في كتابة (( نقد العقل العلمي )) .
ولا غرابة في أن يصل إلى هذه النتيجة السليمة دون أن يقرأ قرآنًا .
إنها الفطرة والبداهة التي تقوم عليها جميع العلوم .
ولا حاجة لأن يقرأ العقل السليم الكتاب المقدس ليكتشف أن له روحًا و أن له حياة بعد الموت و أن هناك حساباًَ . فالفطرة السليمة تضيء لصاحبها الطريق إلى هذه الحقائق .
وهذا العلم الذي نولد به . وهذه البداهة التي نولد بها . تقوم شاهدة على جميع العلوم المكتسبة وملزمة لها . فجميع العلوم المكتسبة يجوز فيها الخطأ والصواب . أما العلم الذي نولد به فهو جزء من نظام الكون المحكم . وهو الحقيقة الأولى التي نعمل على ضوئها نرى جميع الحقائق الفرعية . وهي المعيار والمقياس . وإذا فسد المعيار فسد كل شيء وأصبح كل شيء عبثًا في عبث وهو أمر غير صحيح .
وإذا اتهمنا بالبداهة فإن جميع العلوم والمعارف سوف ينسحب عليها الإتهام وسوف تنهدم لأنها تقوم أصلاً على البداهات .
فنحن هنا أمام أصل من أصول المعرفة ومرجع لا يجوز الشك فيه ( لأن هذا المرجع شأنه شأن الحياة ذاتها ) نحن أمام متن هو لحم المعرفة ودمها . وكما نأتي إلى الحياة مزودين بعضلات لنتحرك بها وندافع عن أنفسنا كذلك نولد مزودين بالبداهات الأولى لنحتكم إليها في إدراك الحق من الباطل والصواب من الخطأ .
وأعلى درجات المعرفة هي ما يأتيك من داخلك , فأنت تستطيع أن تدرك وضعك ( هل أنت واقف أو جالس أو راقد ) دون أن تنظر إلى نفسك . يأتيك هذا الإدراك وأنت مغمض العينين . يأتيك من داخلك . وتقوم هذه المعرفة حجة على أية مشاهدة .
وحينما تقول . أنا سعيد . أنا شقيّ . أنا أتألم . فكلامك يقوم حجة بالغة ولا يجوز تكذيبه بحجة منطقية . بل إن تناول هذا الأمر بالمنطق هو تنطع ولجاجة لا معنى لها . فلا أحد أعرف بحال نفسك من نفسك ذاتها .
وبالمثل شهادة الفطرة وحكم البداهة هي حجة على أعلى مستوى . وحينما تقول الفطرة والبداهة مؤيدة بالعلم والفكر والتأمل حينما تقول بوجود الروح والنفس . وبالحرية وبالمسئولية والمحاسبة , وحينما توحي بالتصرف على أساس أن في الكون نظامًا . فنحن هنا أمام حجة على أعلى مستوى من اليقين .
وهو يقين مثل يقين العيَان أو أكثر . فالفطرة عضو مثل العين نولد به .
وهو يقين أعلى من يقين العلم . لأن الصدق العلمي هو صدق إحصائي والنظريات العلمية تُستنتَج من متوسطات الأرقام . أما حكم البداهة فله صفة القطع والإطلاق
2 × 2 = 4 هي حقيقة مطلقة صادقة صدقًا مطلقًا , لا يجوز عليها ما يجوز من نسخ وتطور وتغير في نظريات العلم لأنها مقبولة بديهية .
1 + 1 = 2 مسألة لا تقبل الشك لأنها حقيقة ألقتها إلينا الفطرة من داخلنا وأوحت بها البداهة .
وهي معرفة أولى جاءت إلينا مع شهادة الميلاد .
لو أدرك الإنسان هذا لأراح واستراح . ولوفّر على نفسه كثيراً من الجدل والشقشقة والسفسطة والمكابرة في مسألة الروح والجسد . والعقل والمخ . والحرية والجبر . والمسئولية والحساب . ولاكتفى بالإصغاء إلى ما تهمس به فطرته وما يُفتي به قلبه وما تشير به بصيرته .
وذرة من الإخلاص أفضل من قناطير من الكتب .
لنصغي إلى صوت نفوسنا وهمس بصائرنا في إخلاص شديد دون محاولة تشويه ذلك الصوت البكر بحبائل المنطق وشراك الحجج .
وعلى من يشك في كلامي . وعلى هواة الجدل والنقاش والمقارعة المنطقية أن يعودوا فيقرأوا مقالي من أوله .
.
مقال / الروح
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝
❞ حوار مع صديقي الملحد
قال صاحبي : -
ألست معي في أنكم تبالغون كثيراً في استخدام كلمة لا إله إلا الله و كأنها مفتاح لكل باب .. تشيعون بها الميت و تستقبلون الوليد و تطبعونها على الأختام و تنقشونها على القلائد و تصكون بها العملات و تعلقونها على الجدران .. من ينطق بها منكم تقولون أن جســمه أعتق من النار .. فإذا نطق بها مائة ألف مرة دخل الجنة و كأنها طلسم سحري أو تعويذة لطرد الجن أو قمقم لحبس المردة .. ثم هذه الحروف التي لا تعرفون لها معنى .. ا . ل . م .. كهيعص .. طسم .. حم .. الر .
هل أنجو من العذاب إذا قلت لا إله إلا الله .. إذن فإني أقولها و أشهدك و أشهد الحضور على ذلك .. لا إله إلا الله .. هل انتهى الأمر ؟!
- بل أنت لم تقل شيئـاً .
إن لا إله إلا الله لمن يعمل بها و ليست لمن يشقشق بها لسانه .. لا إله إلا الله منهج عمل و خطة حياة و ليست مجرد حروف ..
و دعنا نفكر قليلاً في معناها .. إننا حينما نقول لا إله إلا الله نعني أنه لا معبود إلا الله و بين لا و إلا بين النفي و الإثبات في العبارة بين هاتين الدفتين تقع العقيدة كلها لا النافية تنفي الألوهية عن كل شيء .. عن كل ما نعبد من مشتهيات في الدنيا .. عن المال و الجاه و السلطان و اللذات و ترف العيش و النساء الباهرات و العز الفاره .. لكل هذا نقول لا .. لا نعبدك .. لست إلهاً ..
ثم نقول لا لنفوسنا التي تشتهي تلك الأشياء لأن الإنسان يعبد نفسه في العادة و يعبد رأيه و يعبد هواه و اختياره و مزاجه و يعبد ذكاءه و مواهبه و شهرته و يتصور أن بيده مقاليد الأمور و أقدار الناس و المجتمع .. و يجعل من نفسه إلهاً دون أن يدري .. لهذه النفس نحن نقول لا .. لا نعبدك .. لست إلهاً .
نقول ((لا)) – للمدير و الرئيس و الحاكم .. لا لست إلهاً .
و معنى كلمة ((إله)) أي ((فاعل)) .. و الفاعل بحق عندنا هو الله ، أما كل هذه الأشياء فوسائط و أسباب ، المدير و الوزير و الرئيس و المال و الجاه و السلطان و النفس بذكائها و مواهبها .. لكل هذا نقول لا .. لست إلهاً .
((إلا)) – واحد نستثنيه و نثبت له تلك الفاعلية و القدرة هـــو الله .
و بين لا و إلا بين هذا النفي و هذا الإثبات تقع العقيدة كلها فمن كان مشغولاً بجمع المال و تكديس الثروات و تملق السلطان و التزلف للرؤساء و تحري اللذات و اتباع هوى نفسه و تعشق رأيه و التعصب لوجهة نظره .. فهو لم يقل لا لكل هــذه المعبودات و هو ساجد في محرابها دون أن يدرى و حينما يقول لا إله إلا الله فهو يقولها كاذباً .. يقول بلسانه ما لا يفعل بيديه و رجليه .. و معنى (( لا إله إلا الله )) أنه لا حسيب و لا رقيب إلا الله .. هو وحده الجدير بالخشية و الخوف و المراقبة .. فمن كان يخاف المرض و من كان يخاف الميكروب و من كان يخاف عصا الشرطي و جند الحاكم فإنه لم يقل (( لا )) .. لكل تلك الآلهة الوهمية .. و إنما هو مازال ساجداً لها و قد أشرك مع خالقه كل تلك الآلهة المزيفة .. فهو كاذب في كلمة (( لا إله إلا الله )) .
و معنى ذلك أن (( لا إله إلا الله )) عهد و دستور و منهج حياة .
و المقصود بها .. العمل بها ، فمن عمل بها كانت له طلسماً بالفعل يفتح له كل الأبواب العصية .. و كانت نجاة في الدنيا و الآخرة و مدخلاً إلى الجنة .
أما نطق اللسان بدون تصديق القلب و عمل الجوارح .. فإنه لا يغني .
و (( لا إله إلا الله )) تعنى أكثر من هذا موقفاً فلسفياً .
يقول الدكتور زكى نجيب محمود أن (( شهادة لا إله إلا الله )) تتضمن الإقرار بثلاث حقائق .. أن الشاهد موجود و المشهود موجود .. و الحضور الذين تلقى أمامهم الشهادة موجودون أيضاً أي أنها إقرار صريح بأن : الذات و الله و الآخرين لهم جميعاً وجود حقيقي .
و بهذا يرفض الإسلام الفلسفة المثالية كما يرفض الفلسفة المادية في ذات الوقت .. يرفض اليمين و اليسار معاً و يختار موقفـاً وسطاً .
يرفض المثالية الفلسفية .. لأن المثالية الفلسفية لا تعترف بوجود الآخرين و لا بوجود العالم الموضوعي كحقيقة خارجية مستقلة عن العقل .. و إنما كل شيء في نظر الفلسفة المثالية يجري كأنه حلم في دماغ .. أو أفكار في عقل .. أنت و الراديو و الشارع و المجتمع و الصحيفة و الحرب كلها حوادث و مرائي و أحلام تجري في عقلي .. لا وجود حقيقي للعــالم الخارجى .
و هذا الموقف المثالى المتطرف يرفضه الإسلام و ترفضه الشهادة لأنها كما قلنا إقرار صريح بأن الشاهد و المشهود و الحضور الذين تلقى أمامهم الشهادة .. أي الذات و الله و الآخرين حقائق مقررة .
كما يرفض الإسلام أيضاً الفلسفة المادية لأن الفلسفة المادية تعترف بالعالم الموضوعي و لكنها تنكر ما وراءه .. تنكر الغيب و الله .
و الإسلام بهذا يقدم فلسفة واقعية و فكراً واقعياً فيعترف بالعالم الموضوعي ثم يضيف إلى هذا العالم كل الثراء الذي يتضمنه الوجود الإلهي الغيبي .. و يقدم تركيباً جدلياً جامعاً بين فكر اليمين و فكر اليسار في فلسفة جامعة ما زالت تتحدى كل اجتهاد المفكرين فتسبق ما سطروا من نظريات ظنية لا تقوم على يقين .
شهادة (( لا إله إلا الله )) تعني إذن منهج حياة و موقفاً فلسفياً . و لهذا فأنت تكذب و أنت الرجل الماديّ الذي اخترت موقفـاً فلسفــيـاً ماديـاً و أنت تنطق بالشهادة كذبتين :
الكذبة الأولى – أنك تشهد بما ينافي فلسفتك .
و الكذبة الثانية – أنك لا تعمل بهذه الشهادة في حياتك قدر خردلة .
أما حكاية .. ا . ل . م .. و كهيعص .. حم .. الر . فدعني أسألك .. و ما حكـاية س ص و لوغاريتم و معادلة الطاقة ط = ك × س2 و هي ألغاز و طلاسم بالنســبة لمن لا يعرف شيئـاً في الحساب و الجبر و الرياضيات .. و عند العالمين لها معاني خطيرة .
كذلك هذه الحروف حينما يكشف لنا عن معناها .
- قال صاحبي في سخرية : - و هل كشف لك عن معناها ؟
- قلت و أنا ألقي بالقنبلة : - هذا موضوع مثير يحتاج إلى كلام آخر طويل سوف يدهشك .
من كتاب / حوار مع صديقي الملحد
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ حوار مع صديقي الملحد
قال صاحبي : -
ألست معي في أنكم تبالغون كثيراً في استخدام كلمة لا إله إلا الله و كأنها مفتاح لكل باب . تشيعون بها الميت و تستقبلون الوليد و تطبعونها على الأختام و تنقشونها على القلائد و تصكون بها العملات و تعلقونها على الجدران . من ينطق بها منكم تقولون أن جســمه أعتق من النار . فإذا نطق بها مائة ألف مرة دخل الجنة و كأنها طلسم سحري أو تعويذة لطرد الجن أو قمقم لحبس المردة . ثم هذه الحروف التي لا تعرفون لها معنى . ا . ل . م . كهيعص . طسم . حم . الر .
هل أنجو من العذاب إذا قلت لا إله إلا الله . إذن فإني أقولها و أشهدك و أشهد الحضور على ذلك . لا إله إلا الله . هل انتهى الأمر ؟!
- بل أنت لم تقل شيئـاً .
إن لا إله إلا الله لمن يعمل بها و ليست لمن يشقشق بها لسانه . لا إله إلا الله منهج عمل و خطة حياة و ليست مجرد حروف .
و دعنا نفكر قليلاً في معناها . إننا حينما نقول لا إله إلا الله نعني أنه لا معبود إلا الله و بين لا و إلا بين النفي و الإثبات في العبارة بين هاتين الدفتين تقع العقيدة كلها لا النافية تنفي الألوهية عن كل شيء . عن كل ما نعبد من مشتهيات في الدنيا . عن المال و الجاه و السلطان و اللذات و ترف العيش و النساء الباهرات و العز الفاره . لكل هذا نقول لا . لا نعبدك . لست إلهاً .
ثم نقول لا لنفوسنا التي تشتهي تلك الأشياء لأن الإنسان يعبد نفسه في العادة و يعبد رأيه و يعبد هواه و اختياره و مزاجه و يعبد ذكاءه و مواهبه و شهرته و يتصور أن بيده مقاليد الأمور و أقدار الناس و المجتمع . و يجعل من نفسه إلهاً دون أن يدري . لهذه النفس نحن نقول لا . لا نعبدك . لست إلهاً .
نقول ((لا)) – للمدير و الرئيس و الحاكم . لا لست إلهاً .
و معنى كلمة ((إله)) أي ((فاعل)) . و الفاعل بحق عندنا هو الله ، أما كل هذه الأشياء فوسائط و أسباب ، المدير و الوزير و الرئيس و المال و الجاه و السلطان و النفس بذكائها و مواهبها . لكل هذا نقول لا . لست إلهاً .
((إلا)) – واحد نستثنيه و نثبت له تلك الفاعلية و القدرة هـــو الله .
و بين لا و إلا بين هذا النفي و هذا الإثبات تقع العقيدة كلها فمن كان مشغولاً بجمع المال و تكديس الثروات و تملق السلطان و التزلف للرؤساء و تحري اللذات و اتباع هوى نفسه و تعشق رأيه و التعصب لوجهة نظره . فهو لم يقل لا لكل هــذه المعبودات و هو ساجد في محرابها دون أن يدرى و حينما يقول لا إله إلا الله فهو يقولها كاذباً . يقول بلسانه ما لا يفعل بيديه و رجليه . و معنى (( لا إله إلا الله )) أنه لا حسيب و لا رقيب إلا الله . هو وحده الجدير بالخشية و الخوف و المراقبة . فمن كان يخاف المرض و من كان يخاف الميكروب و من كان يخاف عصا الشرطي و جند الحاكم فإنه لم يقل (( لا )) . لكل تلك الآلهة الوهمية . و إنما هو مازال ساجداً لها و قد أشرك مع خالقه كل تلك الآلهة المزيفة . فهو كاذب في كلمة (( لا إله إلا الله )) .
و معنى ذلك أن (( لا إله إلا الله )) عهد و دستور و منهج حياة .
و المقصود بها . العمل بها ، فمن عمل بها كانت له طلسماً بالفعل يفتح له كل الأبواب العصية . و كانت نجاة في الدنيا و الآخرة و مدخلاً إلى الجنة .
أما نطق اللسان بدون تصديق القلب و عمل الجوارح . فإنه لا يغني .
و (( لا إله إلا الله )) تعنى أكثر من هذا موقفاً فلسفياً .
يقول الدكتور زكى نجيب محمود أن (( شهادة لا إله إلا الله )) تتضمن الإقرار بثلاث حقائق . أن الشاهد موجود و المشهود موجود . و الحضور الذين تلقى أمامهم الشهادة موجودون أيضاً أي أنها إقرار صريح بأن : الذات و الله و الآخرين لهم جميعاً وجود حقيقي .
و بهذا يرفض الإسلام الفلسفة المثالية كما يرفض الفلسفة المادية في ذات الوقت . يرفض اليمين و اليسار معاً و يختار موقفـاً وسطاً .
يرفض المثالية الفلسفية . لأن المثالية الفلسفية لا تعترف بوجود الآخرين و لا بوجود العالم الموضوعي كحقيقة خارجية مستقلة عن العقل . و إنما كل شيء في نظر الفلسفة المثالية يجري كأنه حلم في دماغ . أو أفكار في عقل . أنت و الراديو و الشارع و المجتمع و الصحيفة و الحرب كلها حوادث و مرائي و أحلام تجري في عقلي . لا وجود حقيقي للعــالم الخارجى .
و هذا الموقف المثالى المتطرف يرفضه الإسلام و ترفضه الشهادة لأنها كما قلنا إقرار صريح بأن الشاهد و المشهود و الحضور الذين تلقى أمامهم الشهادة . أي الذات و الله و الآخرين حقائق مقررة .
كما يرفض الإسلام أيضاً الفلسفة المادية لأن الفلسفة المادية تعترف بالعالم الموضوعي و لكنها تنكر ما وراءه . تنكر الغيب و الله .
و الإسلام بهذا يقدم فلسفة واقعية و فكراً واقعياً فيعترف بالعالم الموضوعي ثم يضيف إلى هذا العالم كل الثراء الذي يتضمنه الوجود الإلهي الغيبي . و يقدم تركيباً جدلياً جامعاً بين فكر اليمين و فكر اليسار في فلسفة جامعة ما زالت تتحدى كل اجتهاد المفكرين فتسبق ما سطروا من نظريات ظنية لا تقوم على يقين .
شهادة (( لا إله إلا الله )) تعني إذن منهج حياة و موقفاً فلسفياً . و لهذا فأنت تكذب و أنت الرجل الماديّ الذي اخترت موقفـاً فلسفــيـاً ماديـاً و أنت تنطق بالشهادة كذبتين :
الكذبة الأولى – أنك تشهد بما ينافي فلسفتك .
و الكذبة الثانية – أنك لا تعمل بهذه الشهادة في حياتك قدر خردلة .
أما حكاية . ا . ل . م . و كهيعص . حم . الر . فدعني أسألك . و ما حكـاية س ص و لوغاريتم و معادلة الطاقة ط = ك × س2 و هي ألغاز و طلاسم بالنســبة لمن لا يعرف شيئـاً في الحساب و الجبر و الرياضيات . و عند العالمين لها معاني خطيرة .
كذلك هذه الحروف حينما يكشف لنا عن معناها .
- قال صاحبي في سخرية : - و هل كشف لك عن معناها ؟
- قلت و أنا ألقي بالقنبلة : - هذا موضوع مثير يحتاج إلى كلام آخر طويل سوف يدهشك .
من كتاب / حوار مع صديقي الملحد
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ وصف الله نفسه بأنه المَلك وبأن له مُلكاً وملكوتاً وجنداً مجندة وملأً أعلى وأنه قد وَكّل إلى كل فرد من هذا الملأ الأعلى مهمة يقوم بها فجبريل الروح الأمين هو رسول الوحي وهو الواسطة بين الله وجميع أنبيائه وميكائيل مُكَّلف بالأرزاق وإسرافيل نَافِخ الصّور يوم تقوم الساعة وعزرائيل قابض الأرواح.
"قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم "( السجده ـ11)
ذلك ملك الموت.. وهم كثير ..
"توفته رسلنا وهم لا يفرطون" ( الانعام ـ61)
ثم هناك الملائكه الحفظة
"إن كل نفس لمّا عليها حافظ "( الطارق ـ4)
والملائكة الكاتبون
"وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون" ( الانفطار10 ـ11 ـ12)
والملائكة الصافّون والملائكة المُسَبِّحون والملائكة الحافّون بالعرش والملائكة الحاملون للعرش والملائكة العالون وملائكة التصريف.
ملك عظيم من فوق سبع سموات لا يتناهى.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن..
لماذا لا يباشر الله جميع هذه الشئون بذاته ما دام بيده مقاليد كل شيء وإليه يرجع الأمر كله.. فلماذا لا يفعل بذاته وبدون وسائط ؟
وما الحاجه إلى كل هذا الملأ ؟ .. والجواب ...
أنها سُنّة الله في خلقه.. فهو يجري الشفاء على يد جراح وكان في قدرته أن يشفي بذاته وهو يجري الأرزاق من باب تجارة أو من باب صناعة وكان في قدرته أن يوصل المال إلى أصحابه مباشرة دون أسباب.. وهو يوصل إلينا العلم بوسائط الكليات والجامعات والمدارس.. بل هو يوصل العلم إلى أنبيائه عن طريق جبريل.. وكان بالإمكان أن يلقيه في روعنا مباشرة..
حتى المعجزة الخارقة فإنه يُجريها بواسطة فيقول عن الحمل الخارق لمريم :
" فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سوياً "
ويقول جبريل لمريم:
" إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً "
وهو أمر كان يمكن أن يفعله الله مباشرة.
تلك إذن سُنّته في الدنيا وتلك أيضاً سُنّته في الآخره حيث يُقيم على النار زبانية لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمَرون وحيث يُقيم على أبواب الجنة ملائكة الرضوان حتى عرشه العظيم سبحانه يقول لنا القرآن أنه محمول يحمله ثمانية
"ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية"
وهم يحملونه ولا شك بقوة الله ذاته فما ضرورتهم..؟؟!!
والجواب ...
لا ضرورة له سوى كرمه هو .. حيث شاء بكرمه أن يعطي صفاته الشافيه للطبيب ويتجلى بأحكام إسمه العليم على العالم ويتجلى بإسمه الرزّاق على التاجر وبإسمه البديع على الفنان ويتكرم بقوته على حاملي عرشه فتلك كلها شواهد كرم منه لا شواهد حاجه إلينا.
ثم إن الوسائط أيضا هي سنتّه.. فهو إذا أراد أن يعالج الجبل سلّط عليه وسائط ماديه مثله لتشكيله.. سلّط عليه الرياح والأمطار والسيول تنحته وتشكّله أو سلّط عليه كائناً مادياً مثل الإنسان ينحت فيه الكهوف والسدود.. ولو أنه سبحانه تجلّى على الجبل مباشرة لجعله دكاً.
وحينما ظهر جبريل على صورته الحقيقية لمحمد عليه الصلاة والسلام خرّ مغشيًا عليه.
إن تفاوت المقامات بين الله وملائكته وبين ملائكته وخلقه من البشر وبين البشر وسائر صنوف المادة الجامدة إستدعى وجود البرازخ والوسائط.. فلا يطيق الأسفل أن يتجلّى عليه الأعلى مباشرة دون واسطة برزخية.
إننا نقذف نواة الذّرة وهي شيء غير منظور بشيء آخر غير منظور وهي قذائف النيوترون فنتخذ وسائط من جنس ما نتعامل معه.. فنحاول الوصول إلى الشيء الخفي باتخاذ برزخ خفي.. وهو مثال من عالمنا.
وجبريل هو البرزخ بين الله وبين محمد عليه الصلاة والسلام في عالم الملكوت وهو أيضًا البرزخ بين الله وبين جميع أنبيائه.. لأنه لا أحد من الانبياء يُطيق الحضرة الإلهية الذاتية مباشرة.. فإن تجلِّي هذه الحضرة يؤدي إلى سحق ومحق كل شيء .. تماماً كما رأينا من حال الجبل الذي أصبح دكاً وموسى الذي خر صعقًا.
إننا بحكم طبيعتنا البشرية لا نحتمل أنوار الذات الإلهية فاستدعى التواصل بين الطبيعتين إلى إتخاذ البرازخ.
وكما أن جبريل هو البرزخ بين الله وبين محمد فكذلك محمد عليه الصلاة والسلام هو برزخنا الأعظم وهو وسيلتنا وواسطتنا وبابنا إلى الفهم عن الله.. لأننا بحكم طبيعتنا المحدودة لا نستطيع أن نصل إلى حضرة الإطلاق دون دليل.
إن الضرورة هنا كانت قيداً علينا نحن، فنحن الضعفاء والله هو القوي ونحن الفقراء إليه وهو سبحانه الغني عنّا.
وكان تنزل الله بين البرازخ ليتواصل معنا كرماً منه ولطفاً وإيناسًا.. لا حاجةً منه إلينا فالله ليس فعالًا بنا بل نحن الذين نفعل به ونحن الذين نرى به ونسمع به ونفهم به ونمشي به ونحيا به.. بل إنه هو.. هو الظاهر بوجهه في كل شيء.
" أينما تولوا فثم وجه الله "
فهو الملك وهو جميع القوى الفعّاله في المملكه من حق وخير وجمال وعدل وكرم وحلم ورأفة ومودة ورحمة وسمع وبصر وعلم فتلك جميعاً أسماؤه تجّلت بأحكامها على ما في المملكة من خلائق.
فإذا سُحِب منا ربنا قيوميته عدنا عدماً واختفى مسرح الوجود كله ولم يبق إلا نوره فهو الحضور المستمر أبداً وأزلاً وهو الظاهر ابداً ونحن الغيب.. وهو الوجود ونحن العدم.. وهو الحُجّة على نفسه وهو برهان وجوده ودليل ذاته وهو ليس في حاجه إلى دليل يدل عليه.
ومن مبدأ القصة حينما كان الله ولا شيء معه.. إلى الآن حيث مازال ربنا هو هو.. على ما عليه كان.. لم يجِدَّ جديد.. فكل ما حدث كان تحصيل حاصل لما في علمه.. ومازال هو على ما عليه كان.. فالقول بحاجة الله إلى جنوده ومملكته يعكس القضية ويقلبها.. تعالى ربنا عن ذلك عُلواً كبيراً.. فلا شيء فعال في مُلكه ومَلكوته سواه إنما هي ثياب ألبسها لنا ومواهب أعطاها لنا وأرزاق وزّعها علينا بل إن لبسه الوجود ذاتها منه.. وليس لنا من ذواتنا إلاّ العدم.
بل اللغز الذي يُحيّرني.. هو ذاتي نفسها.
أنا.. من أكون.. وأنا لست إلاّ كلمة من كلماته ونفخة من روحه..؟!!
أما أحقية الله في كل شيء فهي أظهر من أن تكون محل شك أو مُسائلة.. وبالمثل وجوده وهيمنته وظهوره.
إنما أنا.. ذرة العدم.. التي هي نفسي.. ما أمرها.. وما خطبها وكيف تشخّصت من الأزل.. وكيف جاء بها الله ومعها سرّها وما تكتم ثم أوجدها ليُخرِج مكتومها وابتلاها بالشر والخير لتُفصِح عن سرها وتُفشي مكنونها.
أنا..؟
وهل لي هذه الأنا.. أم أني استعرتها مع ما استعرت من الله.. فهي ثوب ضمن ما ألبسني الله من ثياب.
ذلك هو السر الذي يحيرني رغم أنه لا شيء أقرب إليّ منها.. وهل هناك ما هو أقرب إليّ من نفسي التي بين جنبي.. ومع ذلك فهي الطلسم.. والتيه.. والمحال.
ثم إن اللغز يصل إلى ذروة استسراره حينما نرى الله يأمر ملائكته بالسجود لهذه النفس التي تشخّصت من عدم ويُسخّر لها ملكه وملكوته ويُخضِع لها الكون جميعه.
" سخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعًا منه "
يقول الله للعبد الكامل في كتاب المواقف والمخاطبات للنفري:
أنت مني.. أنت تليني.. وكل شيء في الوجود يأتي بعدك.. لا شيء يقدر عليك إذا عرفت مقامك ولزمت مقامك.. فأنت أقوى من الأرض والسماء أقوى من الجنه والنار أقوى من الحروف والأسماء.. أقوى من كل ما بدا في دنيا وآخره.
إذا تحققت بسرّك تحققت بي.. أنا الذي منه كل شيء أنا الذي أديت كل شيء.. أنا الذي هو أنا.
إلى هذه الذروه المذهله من التشريف تصل هذه الذره الوجوديه التي هي النفس الانسانيه.
فيقول عنها رب العالمين:
اأنت مني.. أنت تليني.. وكل شيء في الوجود يأتي بعدك.. لا شيء يقدر عليك إذا عرفت مقامك ولزمت مقامك.. فأنت أقوى من الأرض والسماء أقوى من الجنه والنار أقوى من الحروف والأسماء.. أقوى من كل ما بدا في دنيا وآخره ... ( وكل ما في الوجود باديات يبديها ربنا من خفاء ولا يبتديها).
ويقول للعبد الكامل:
إذا تحققت بسرّك تحققت بي.. أنا الذي منه كل شيء.
كيف يارب يتحقق الواحد منا بسره.
إذا عرفت مقامك ولزمت مقامك.
ليس فقط أن يبلغ مقام الكمال بل أيضًا أن يلزم هذا المقام فلا يحيد عنه.. وذلك هو غاية التمكين والتثبيت.
وذلك هو المعراج العظيم الذي لا يقدر عليه الا آحاد بل إن المُلك والملكوت ذاتهما مجرد معارج لهذه النفس الكاملة والدنيا والآخرة منازلها وهي تسير إلى ربها وقد أقدرها الله على الدنيا.. وعلى تجاوزها.. كما أقدرها على الآخرة وعلى تجاوزها في مراقي السير إليه.. تلك هي النفس الطلسم المطلسم.
وتلك هي إمكاناتها حيث اجتمع فيها أقصى العدم وأقصى الوجود.
وحيث هي مني أقرب إليّ من كل شيء وأخفى عليّ من كل شيء فهي التي بدأت من لا شيء وأصبحت أقوى من كل شيء.
وحيث يبلغ إبهامها بي إلى البهت والحيرة والذهول:
من أنا..؟!!!
ومن أكون..؟!!
أنا الذي أسجَد لي الله المُلك والملكوت وسخّر لي الكون أجمع.
أنا الذي أمرض وأشيخ وأموت ويفتك بي ميكروب لا يُرى لفرط تفاهته.
أنا الذي جئت من قطرة ماء مَهين وأنتهي إلى جيفة.
إلهي ... كم تكذب المظاهر وكم تُخفي جلودنا حقائق هائلة تحتها.
وكم تتشابه وجوهنا وتختلف منازلنا.. وكم يمشي في الأسمال والخرق من هم فوق الثريا منزله.
لهفي على ذلك اليوم الذي تهتك فيه الأستار وتفتضح الأسرار ويعرف كل منا من يكون.. ومقدار ما يكون.
وتُرفَع الحجب ويكشف الغطاء ويغدو البصر حديدًا ويُفاجأ كل منا من نفسه بما لا يعلم..
ويعرف كل منا حقيقته وخبيئته
يا له من يوم .. يا له من يوم ..
مقال : الملك والملكوت وانا
من كتاب/ الإسلام ما هو
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ وصف الله نفسه بأنه المَلك وبأن له مُلكاً وملكوتاً وجنداً مجندة وملأً أعلى وأنه قد وَكّل إلى كل فرد من هذا الملأ الأعلى مهمة يقوم بها فجبريل الروح الأمين هو رسول الوحي وهو الواسطة بين الله وجميع أنبيائه وميكائيل مُكَّلف بالأرزاق وإسرافيل نَافِخ الصّور يوم تقوم الساعة وعزرائيل قابض الأرواح.
˝قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ˝( السجده ـ11)
ذلك ملك الموت. وهم كثير .
˝توفته رسلنا وهم لا يفرطون˝ ( الانعام ـ61)
ثم هناك الملائكه الحفظة
˝إن كل نفس لمّا عليها حافظ ˝( الطارق ـ4)
والملائكة الصافّون والملائكة المُسَبِّحون والملائكة الحافّون بالعرش والملائكة الحاملون للعرش والملائكة العالون وملائكة التصريف.
ملك عظيم من فوق سبع سموات لا يتناهى.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن.
لماذا لا يباشر الله جميع هذه الشئون بذاته ما دام بيده مقاليد كل شيء وإليه يرجع الأمر كله. فلماذا لا يفعل بذاته وبدون وسائط ؟
وما الحاجه إلى كل هذا الملأ ؟ . والجواب ..
أنها سُنّة الله في خلقه. فهو يجري الشفاء على يد جراح وكان في قدرته أن يشفي بذاته وهو يجري الأرزاق من باب تجارة أو من باب صناعة وكان في قدرته أن يوصل المال إلى أصحابه مباشرة دون أسباب. وهو يوصل إلينا العلم بوسائط الكليات والجامعات والمدارس. بل هو يوصل العلم إلى أنبيائه عن طريق جبريل. وكان بالإمكان أن يلقيه في روعنا مباشرة.
حتى المعجزة الخارقة فإنه يُجريها بواسطة فيقول عن الحمل الخارق لمريم :
˝ فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سوياً ˝
ويقول جبريل لمريم:
˝ إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً ˝
وهو أمر كان يمكن أن يفعله الله مباشرة.
تلك إذن سُنّته في الدنيا وتلك أيضاً سُنّته في الآخره حيث يُقيم على النار زبانية لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمَرون وحيث يُقيم على أبواب الجنة ملائكة الرضوان حتى عرشه العظيم سبحانه يقول لنا القرآن أنه محمول يحمله ثمانية
˝ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية˝
وهم يحملونه ولا شك بقوة الله ذاته فما ضرورتهم.؟؟!!
والجواب ..
لا ضرورة له سوى كرمه هو . حيث شاء بكرمه أن يعطي صفاته الشافيه للطبيب ويتجلى بأحكام إسمه العليم على العالم ويتجلى بإسمه الرزّاق على التاجر وبإسمه البديع على الفنان ويتكرم بقوته على حاملي عرشه فتلك كلها شواهد كرم منه لا شواهد حاجه إلينا.
ثم إن الوسائط أيضا هي سنتّه. فهو إذا أراد أن يعالج الجبل سلّط عليه وسائط ماديه مثله لتشكيله. سلّط عليه الرياح والأمطار والسيول تنحته وتشكّله أو سلّط عليه كائناً مادياً مثل الإنسان ينحت فيه الكهوف والسدود. ولو أنه سبحانه تجلّى على الجبل مباشرة لجعله دكاً.
وحينما ظهر جبريل على صورته الحقيقية لمحمد عليه الصلاة والسلام خرّ مغشيًا عليه.
إن تفاوت المقامات بين الله وملائكته وبين ملائكته وخلقه من البشر وبين البشر وسائر صنوف المادة الجامدة إستدعى وجود البرازخ والوسائط. فلا يطيق الأسفل أن يتجلّى عليه الأعلى مباشرة دون واسطة برزخية.
إننا نقذف نواة الذّرة وهي شيء غير منظور بشيء آخر غير منظور وهي قذائف النيوترون فنتخذ وسائط من جنس ما نتعامل معه. فنحاول الوصول إلى الشيء الخفي باتخاذ برزخ خفي. وهو مثال من عالمنا.
وجبريل هو البرزخ بين الله وبين محمد عليه الصلاة والسلام في عالم الملكوت وهو أيضًا البرزخ بين الله وبين جميع أنبيائه. لأنه لا أحد من الانبياء يُطيق الحضرة الإلهية الذاتية مباشرة. فإن تجلِّي هذه الحضرة يؤدي إلى سحق ومحق كل شيء . تماماً كما رأينا من حال الجبل الذي أصبح دكاً وموسى الذي خر صعقًا.
إننا بحكم طبيعتنا البشرية لا نحتمل أنوار الذات الإلهية فاستدعى التواصل بين الطبيعتين إلى إتخاذ البرازخ.
وكما أن جبريل هو البرزخ بين الله وبين محمد فكذلك محمد عليه الصلاة والسلام هو برزخنا الأعظم وهو وسيلتنا وواسطتنا وبابنا إلى الفهم عن الله. لأننا بحكم طبيعتنا المحدودة لا نستطيع أن نصل إلى حضرة الإطلاق دون دليل.
إن الضرورة هنا كانت قيداً علينا نحن، فنحن الضعفاء والله هو القوي ونحن الفقراء إليه وهو سبحانه الغني عنّا.
وكان تنزل الله بين البرازخ ليتواصل معنا كرماً منه ولطفاً وإيناسًا. لا حاجةً منه إلينا فالله ليس فعالًا بنا بل نحن الذين نفعل به ونحن الذين نرى به ونسمع به ونفهم به ونمشي به ونحيا به. بل إنه هو. هو الظاهر بوجهه في كل شيء.
˝ أينما تولوا فثم وجه الله ˝
فهو الملك وهو جميع القوى الفعّاله في المملكه من حق وخير وجمال وعدل وكرم وحلم ورأفة ومودة ورحمة وسمع وبصر وعلم فتلك جميعاً أسماؤه تجّلت بأحكامها على ما في المملكة من خلائق.
فإذا سُحِب منا ربنا قيوميته عدنا عدماً واختفى مسرح الوجود كله ولم يبق إلا نوره فهو الحضور المستمر أبداً وأزلاً وهو الظاهر ابداً ونحن الغيب. وهو الوجود ونحن العدم. وهو الحُجّة على نفسه وهو برهان وجوده ودليل ذاته وهو ليس في حاجه إلى دليل يدل عليه.
ومن مبدأ القصة حينما كان الله ولا شيء معه. إلى الآن حيث مازال ربنا هو هو. على ما عليه كان. لم يجِدَّ جديد. فكل ما حدث كان تحصيل حاصل لما في علمه. ومازال هو على ما عليه كان. فالقول بحاجة الله إلى جنوده ومملكته يعكس القضية ويقلبها. تعالى ربنا عن ذلك عُلواً كبيراً. فلا شيء فعال في مُلكه ومَلكوته سواه إنما هي ثياب ألبسها لنا ومواهب أعطاها لنا وأرزاق وزّعها علينا بل إن لبسه الوجود ذاتها منه. وليس لنا من ذواتنا إلاّ العدم.
بل اللغز الذي يُحيّرني. هو ذاتي نفسها.
أنا. من أكون. وأنا لست إلاّ كلمة من كلماته ونفخة من روحه.؟!!
أما أحقية الله في كل شيء فهي أظهر من أن تكون محل شك أو مُسائلة. وبالمثل وجوده وهيمنته وظهوره.
إنما أنا. ذرة العدم. التي هي نفسي. ما أمرها. وما خطبها وكيف تشخّصت من الأزل. وكيف جاء بها الله ومعها سرّها وما تكتم ثم أوجدها ليُخرِج مكتومها وابتلاها بالشر والخير لتُفصِح عن سرها وتُفشي مكنونها.
أنا.؟
وهل لي هذه الأنا. أم أني استعرتها مع ما استعرت من الله. فهي ثوب ضمن ما ألبسني الله من ثياب.
ذلك هو السر الذي يحيرني رغم أنه لا شيء أقرب إليّ منها. وهل هناك ما هو أقرب إليّ من نفسي التي بين جنبي. ومع ذلك فهي الطلسم. والتيه. والمحال.
ثم إن اللغز يصل إلى ذروة استسراره حينما نرى الله يأمر ملائكته بالسجود لهذه النفس التي تشخّصت من عدم ويُسخّر لها ملكه وملكوته ويُخضِع لها الكون جميعه.
˝ سخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعًا منه ˝
يقول الله للعبد الكامل في كتاب المواقف والمخاطبات للنفري:
أنت مني. أنت تليني. وكل شيء في الوجود يأتي بعدك. لا شيء يقدر عليك إذا عرفت مقامك ولزمت مقامك. فأنت أقوى من الأرض والسماء أقوى من الجنه والنار أقوى من الحروف والأسماء. أقوى من كل ما بدا في دنيا وآخره.
إذا تحققت بسرّك تحققت بي. أنا الذي منه كل شيء أنا الذي أديت كل شيء. أنا الذي هو أنا.
إلى هذه الذروه المذهله من التشريف تصل هذه الذره الوجوديه التي هي النفس الانسانيه.
فيقول عنها رب العالمين:
اأنت مني. أنت تليني. وكل شيء في الوجود يأتي بعدك. لا شيء يقدر عليك إذا عرفت مقامك ولزمت مقامك. فأنت أقوى من الأرض والسماء أقوى من الجنه والنار أقوى من الحروف والأسماء. أقوى من كل ما بدا في دنيا وآخره .. ( وكل ما في الوجود باديات يبديها ربنا من خفاء ولا يبتديها).
ويقول للعبد الكامل:
إذا تحققت بسرّك تحققت بي. أنا الذي منه كل شيء.
كيف يارب يتحقق الواحد منا بسره.
إذا عرفت مقامك ولزمت مقامك.
ليس فقط أن يبلغ مقام الكمال بل أيضًا أن يلزم هذا المقام فلا يحيد عنه. وذلك هو غاية التمكين والتثبيت.
وذلك هو المعراج العظيم الذي لا يقدر عليه الا آحاد بل إن المُلك والملكوت ذاتهما مجرد معارج لهذه النفس الكاملة والدنيا والآخرة منازلها وهي تسير إلى ربها وقد أقدرها الله على الدنيا. وعلى تجاوزها. كما أقدرها على الآخرة وعلى تجاوزها في مراقي السير إليه. تلك هي النفس الطلسم المطلسم.
وتلك هي إمكاناتها حيث اجتمع فيها أقصى العدم وأقصى الوجود.
وحيث هي مني أقرب إليّ من كل شيء وأخفى عليّ من كل شيء فهي التي بدأت من لا شيء وأصبحت أقوى من كل شيء.
وحيث يبلغ إبهامها بي إلى البهت والحيرة والذهول:
من أنا.؟!!!
ومن أكون.؟!!
أنا الذي أسجَد لي الله المُلك والملكوت وسخّر لي الكون أجمع.
أنا الذي أمرض وأشيخ وأموت ويفتك بي ميكروب لا يُرى لفرط تفاهته.
أنا الذي جئت من قطرة ماء مَهين وأنتهي إلى جيفة.
إلهي .. كم تكذب المظاهر وكم تُخفي جلودنا حقائق هائلة تحتها.
وكم تتشابه وجوهنا وتختلف منازلنا. وكم يمشي في الأسمال والخرق من هم فوق الثريا منزله.
لهفي على ذلك اليوم الذي تهتك فيه الأستار وتفتضح الأسرار ويعرف كل منا من يكون. ومقدار ما يكون.
وتُرفَع الحجب ويكشف الغطاء ويغدو البصر حديدًا ويُفاجأ كل منا من نفسه بما لا يعلم.
ويعرف كل منا حقيقته وخبيئته
يا له من يوم . يا له من يوم .
مقال : الملك والملكوت وانا
من كتاب/ الإسلام ما هو
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ ((المكر الإلهي)) للدكتور مصطفى محمود
بطل الحادث (( سليمة إبراهيم )) 801 جنايات الصف، اشتركت مع أخيها – 17 سنة – في قتل زوجها ضربا و خنقا، ثم هجمت عليه و أكلت أعضاءه و هو ميت.. هكذا تقول اعترافاتها المفصلة أمام وكيل النيابة و القاضي.. و هكذا شهدت الوقائع كما تشهد الجثة.
قرأت الحادث مع الألوف الذين قرأوه، و شعرت معهم بتلك القشعريرة الباردة، و الفضول إلى معرفة هذا الحادث الغريب في وحشيته.
هل يمكن أن يبلغ الغل بإمرأة إلى هذا المدى.
و ماذا يمكن أن تكون صورة هذا الوجه الذي يأكل الميتة.
طالعتني في سجن النساء بالقناطر إمرأة وسيمة، دقيقة الملامح، أسنانها جميلة كصفين من لؤلؤ.. على وجهها سكينة و طمأنينة.. تصلي و تصوم، و تنام نوما هادئا عميقا.. و كلامها كله عن رحمة الله و أمر الله و حكمة الله..
أيمكن أن يخالف الظاهر الباطن إلى هذا الحد؟
أيمكن أن تخدع الصور، و تكذب العين و اليد و اللسان؟
أيمكن أن تصبح الحياة كلها تمويها؟
و كيف يخلق الله للحقائق البشعة وجوها جميلة؟
و ما الدافع الذي أخرج من الباطن كل هذا الشر المخفي؟
و ما الذي هتك الحجاب و كشف النفس على ما هي عليه.
الزوج تزوج عليها..
هذا أمر عادي في البدو..
و هو يتكرر في تلك البيئة دون أن تأكل النساء أزواجهن.
الزوج طلق الزوجة ثم ردها..
كان يسيء معاملتها أمام الزوجة الجديدة.
أهي غضبة للنفس و للكرامة؟!
و لكن الزوجة اعترفت بأنها كانت على علاقات متعددة مع رجال متعددين أثناء الطلاق فهي لم تحفظ لنفسها كرامة..
كيف لا يبدو كل هذا الخراب النفسي على ذلك الوجه الجميل السمح الوديع، المطمئن الهادئ كأنه وجه قديس.
تذكرت رجلا جميلا رأيته ذات مرة.. كان جميلا فاتنا مفتول العضل، جذاب الصورة كأنه نجم سينما.. و كان مهذبا يتكلم بنبرة خفيضة.. و كان يجفل بنظراته في حياء.. ثم تبين لي فيما بعد أنه مجنون يعالج بالصدمات الكهربائية.
كان باطن الرجل خرابا مطلقا..
و كانت حقيقته الخواء.
و كان فارغا تماما و مجوفا من الداخل.. إلى هذا المدى يمكن أن تكذب الصور و تخدع الأشكال.
(( إن الله لا ينظر إلى صوركم و لا إلى أشكالكم و إنما ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم )).
في ليلة الجريمة عاد الزوج إلى زوجته بهدية من الحلوى ليصالحها (( لم يكن يدري برغم سنوات المعاشرة الطويلة أنه ينام كل ليلة مع ضبع )).. قتلته في لحظة غزل.. كيف واتتها الشجاعة؟
نفس السؤال يلح علي باستمرار.
كيف تتنكر الحقائق في غير ثيابها؟
و يلبس الباطل الحق..
و يلبس القبح الجمال..
و تلبس الجريمة الحب.
و كيف يخلق الخالق هذه العبوات الجميلة لهذه النفوس البشعة؟ كيف يضع السم في وردة و يضع العسل في عقرب، و يخفي المتفجرات في أقنعة من حرير؟
أهذا مصداق الآية:
(( و الله مخرج ما كنتم تكتمون )) (72– البقرة).
أهو المكر الإلهي الذي يستدرج به الله النفوس، و يمتحنها بعضها ببعض ليفضح خباياها و مكتوماتها، و ليخرج حقائقها و يكشف بشاعتها، فإذا بالمرأة الجميلة جلادا و إذا بالرجل الدميم ملاكا..
هي لا تشعر بندم أو تأنيب ضمير.. و يقينها أنها على الحق.
أيمكن ألا يعرف الواحد منا نفسه؟
لقد قال أبوبكر أنه لا يطمئن إلى أنه صار إلى الجنة حتى و لو دخلت إحدى رجليه الجنة، مادامت الرجل الثانية لم تدخل بعد.. و ذلك خوفا من مكر الله.. خوفا من أن يكشف الله في اللحظة الأخيرة شرا مكتوما في نفسه يدخله به النار الأبدية.. شرا كان يكتمه أبوبكر في نفسه دون أن يدري به أو يدري عنه.
و تلك هي ذروة التقوى..
خوف الله..
و التواضع و عدم الإطمئنان إلى براءة النفس و نقائها، و خلوها من الشوائب..
و عدم الغرور بصالح الأعمال..
و خوف المكتوم الذي يمكن أن يفتضح فجأة بالامتحان..
لم يكن أبوبكر من أهل الدعاوي..
لم يكن يدعي لنفسه منزلة أو صلاحا..
و إنما كان من أهل الحقائق..
و أهل الحقائق في خوف دائما من أن تظهر فيهم حقيقة مكتومة لا يعلمون عنها شيئا تؤدي بهم إلى المهالك، فهم أمام نفوسهم في رجفة..
و أمام الله في رجفة..
و ذلك هو العلم الحق بالنفس و بالله..
فالنفس هي(( السر الأعظم )).. و هي الغيب المطلسم..
هي غيب حتى عن صاحبها.. لا تنكشف له إلا من خلال المعاناة.. و هي في مكر دائم تظهر وجها من وجوهها، و تخفي ألف وجه..
~
من كتاب (القرآن كائن حي). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ ((المكر الإلهي)) للدكتور مصطفى محمود
بطل الحادث (( سليمة إبراهيم )) 801 جنايات الصف، اشتركت مع أخيها – 17 سنة – في قتل زوجها ضربا و خنقا، ثم هجمت عليه و أكلت أعضاءه و هو ميت. هكذا تقول اعترافاتها المفصلة أمام وكيل النيابة و القاضي. و هكذا شهدت الوقائع كما تشهد الجثة.
قرأت الحادث مع الألوف الذين قرأوه، و شعرت معهم بتلك القشعريرة الباردة، و الفضول إلى معرفة هذا الحادث الغريب في وحشيته.
هل يمكن أن يبلغ الغل بإمرأة إلى هذا المدى.
و ماذا يمكن أن تكون صورة هذا الوجه الذي يأكل الميتة.
طالعتني في سجن النساء بالقناطر إمرأة وسيمة، دقيقة الملامح، أسنانها جميلة كصفين من لؤلؤ. على وجهها سكينة و طمأنينة. تصلي و تصوم، و تنام نوما هادئا عميقا. و كلامها كله عن رحمة الله و أمر الله و حكمة الله.
أيمكن أن يخالف الظاهر الباطن إلى هذا الحد؟
أيمكن أن تخدع الصور، و تكذب العين و اليد و اللسان؟
أيمكن أن تصبح الحياة كلها تمويها؟
و كيف يخلق الله للحقائق البشعة وجوها جميلة؟
و ما الدافع الذي أخرج من الباطن كل هذا الشر المخفي؟
و ما الذي هتك الحجاب و كشف النفس على ما هي عليه.
الزوج تزوج عليها.
هذا أمر عادي في البدو.
و هو يتكرر في تلك البيئة دون أن تأكل النساء أزواجهن.
الزوج طلق الزوجة ثم ردها.
كان يسيء معاملتها أمام الزوجة الجديدة.
أهي غضبة للنفس و للكرامة؟!
و لكن الزوجة اعترفت بأنها كانت على علاقات متعددة مع رجال متعددين أثناء الطلاق فهي لم تحفظ لنفسها كرامة.
كيف لا يبدو كل هذا الخراب النفسي على ذلك الوجه الجميل السمح الوديع، المطمئن الهادئ كأنه وجه قديس.
تذكرت رجلا جميلا رأيته ذات مرة. كان جميلا فاتنا مفتول العضل، جذاب الصورة كأنه نجم سينما. و كان مهذبا يتكلم بنبرة خفيضة. و كان يجفل بنظراته في حياء. ثم تبين لي فيما بعد أنه مجنون يعالج بالصدمات الكهربائية.
كان باطن الرجل خرابا مطلقا.
و كانت حقيقته الخواء.
و كان فارغا تماما و مجوفا من الداخل. إلى هذا المدى يمكن أن تكذب الصور و تخدع الأشكال.
(( إن الله لا ينظر إلى صوركم و لا إلى أشكالكم و إنما ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم )).
في ليلة الجريمة عاد الزوج إلى زوجته بهدية من الحلوى ليصالحها (( لم يكن يدري برغم سنوات المعاشرة الطويلة أنه ينام كل ليلة مع ضبع )). قتلته في لحظة غزل. كيف واتتها الشجاعة؟
نفس السؤال يلح علي باستمرار.
كيف تتنكر الحقائق في غير ثيابها؟
و يلبس الباطل الحق.
و يلبس القبح الجمال.
و تلبس الجريمة الحب.
و كيف يخلق الخالق هذه العبوات الجميلة لهذه النفوس البشعة؟ كيف يضع السم في وردة و يضع العسل في عقرب، و يخفي المتفجرات في أقنعة من حرير؟
أهذا مصداق الآية:
(( و الله مخرج ما كنتم تكتمون )) (72– البقرة).
أهو المكر الإلهي الذي يستدرج به الله النفوس، و يمتحنها بعضها ببعض ليفضح خباياها و مكتوماتها، و ليخرج حقائقها و يكشف بشاعتها، فإذا بالمرأة الجميلة جلادا و إذا بالرجل الدميم ملاكا.
هي لا تشعر بندم أو تأنيب ضمير. و يقينها أنها على الحق.
أيمكن ألا يعرف الواحد منا نفسه؟
لقد قال أبوبكر أنه لا يطمئن إلى أنه صار إلى الجنة حتى و لو دخلت إحدى رجليه الجنة، مادامت الرجل الثانية لم تدخل بعد. و ذلك خوفا من مكر الله. خوفا من أن يكشف الله في اللحظة الأخيرة شرا مكتوما في نفسه يدخله به النار الأبدية. شرا كان يكتمه أبوبكر في نفسه دون أن يدري به أو يدري عنه.
و تلك هي ذروة التقوى.
خوف الله.
و التواضع و عدم الإطمئنان إلى براءة النفس و نقائها، و خلوها من الشوائب.
و عدم الغرور بصالح الأعمال.
و خوف المكتوم الذي يمكن أن يفتضح فجأة بالامتحان.
لم يكن أبوبكر من أهل الدعاوي.
لم يكن يدعي لنفسه منزلة أو صلاحا.
و إنما كان من أهل الحقائق.
و أهل الحقائق في خوف دائما من أن تظهر فيهم حقيقة مكتومة لا يعلمون عنها شيئا تؤدي بهم إلى المهالك، فهم أمام نفوسهم في رجفة.
و أمام الله في رجفة.
و ذلك هو العلم الحق بالنفس و بالله.
فالنفس هي(( السر الأعظم )). و هي الغيب المطلسم.
هي غيب حتى عن صاحبها. لا تنكشف له إلا من خلال المعاناة. و هي في مكر دائم تظهر وجها من وجوهها، و تخفي ألف وجه.
~
من كتاب (القرآن كائن حي). ❝