❞ مراجعة رواية ماريو وأبو العباس للكاتبة الجميلة د / ريم بسيوني :
إن للجبن ضريبةً باهظة يظل المرء يدفعها طيلة حياته كما يظل ينتقل من مشكلة لأخرى ويعاني الأمرَّين ويكابد المشقات على مدار الطريق ذلك لأن التخاذل لم يكن يوماً من شِيم الأقوياء وهو المصير الطبيعي لأفعالهم الوضيعة ، فقد تخلَّف عن الدفاع عن بلاده بشجاعة واستبسال وحمايته من يد الطُغاة المستعمرين الذين وضعوا قبضتهم عليه مُصرِّين على البقاء فيه لأبد الآبدين معتقدين أن في هذا حقاً لهم ، فلم تكن إراقة الدماء واستباحة الأراضي وإزهاق الأرواح حقاً لأحد ذات يوم ولكنها الظنون الوهمية التي تمحق البلاد كافة وتطمس تاريخها وتُدمِّر كل شبر فيها بلا التفات من أحد مواطنيها وهذا أكبر عار قد يصدر عن أحد ، هذا ما تبدَّى لنا في بداية الأحداث ورُغم أنه أبلى بلاءً حسناً في بعض الحروب الأخرى وتجلَّت شجاعته وحرصه على نُصرة تلك البلاد وإرجاع الحقوق لأصحابها فكان من الأجدر والأولَى أنْ يدافع عن أرض وطنه التي ينتمي إليها وتربَّى فيها بالفعل بدلاً من الحفاظ على أراضي الغير من أيدي المعتدين ،
فقد غادر بطل الرواية أبو العباس المُرسي أراضيه في الأندلس بعدما احتلها الفرنجة وفَرَّ هارباً مع أسرته قاصداً تونس هو وجميع مَنْ في البلاد ، وحدث ما لم يكن في الحسبان فقَبْل الوصول انشقت السفينة وابتلعهم البحر جميعاً ولم ينجُ من الركاب سوى هو وأخوه الذي ظل يبحث عنه وقتاً طويلاً حتى عثر عليه وحينها استمرا في البحث عن أهلهما ولم يجدا أثراً لهم ، أصابهما الحزن الشديد ومن ثَم قرر محمد أخوه أنْ يلتفت لحياته ويستمر في ممارسة تجارة القمح التي تركها له والده ولم يتمكن أحمد من ممارسة الحياة بسهولة لفترة طويلة إلى أنْ وجد وسيلة للعيش بمرور الوقت فقد التقى بفتاة ساعدها في جلب الماء من البئر فعَمِل لدى والدها الشيخ لفترة ما وتعرَّض للمزيد من المشاكل معه انتهت بزَجِّه في السجن على جُرم لم يقترفه حينما وشاه للوالي فذهب إليه أخوه وأَخرجه ونصحه بألا يفتعل المشكلات مع الآخرين وليتذكر أنه ليس بوطنه كي يحميه أحد أو يُنقذه ولكنه لم يُنصت إليه فلم يكن يحب الظلم أو يرغب في تفشيه على يد أي امرئ ظالم يبطش بكل عبد ضعيف أو ذي حاجة ، ثم انتقل إلى الإسكندرية التي أحبَها كثيراً وكان يتعجب من جمالها وبخاصةً الفنار الذي لفَته وقرر البحث عن طريقة تشييده وكيف تعمل تلك المرآة العاكسة داخله ، ظل ينتقل ويرتحل بين البلدان حتى استقر به الحال في المنصورة التي كانت بداية الحروب حيث هزم التتار في دمياط وكان يشعر أنه من الصعب عليهم الدخول للمنصورة ولكن بمرور الوقت دلَّهم أحد الخونة على معبر يمكِّنهم من استعمار تلك البلاد وقد كان تسلل جيش الأعداء إلى هذا الممر السري وتمكَّنوا من وضع قبضتهم على المنصورة ولكن الجيش قد وضع خُطةً محكمة من أجل القضاء عليهم إذْ أظهروا الهزيمة واختبأوا داخل أزقة البلاد وحينما دخل الفرنجة هاجموهم وأطاحوا بهم وقضوا عليهم جميعاً ولما جاء موعد الملك أشار إليهم أحمد أبو العباس بالابتعاد فلا يَصِح أنْ يتم قتل الملك وأمرهم بأسره وإرساله إلى قصر بن لقمان ليكون عبرة لمَنْ يأتي من بَعْده ، ثم هتف الجميع باسمه وهلَّلوا لهذا النصر العظيم الذي تحقَّق على يده ومن ثم ذهب إلى بيبرس أحد قادة الأمراء المماليك وقتها فكان فخوراً به للغاية حينما أتاه بالملك أسيراً وقد أراد مكافأته فخيَّره بين الولاية والمال فلم يختَر أيهما فكل ما أراده هو العودة لبلاده فوافق بيبرس على الفور ولكنه كان حزيناً لهذا الرحيل ، مشتاقاً لتلك الفتاة المحاربة التي قابلها في بداية الحرب في دمياط ولكنه لم يجدها حينما عثر عليها في المكان الذي أخبرته عنه في دمياط فقرر العودة على ألا يتوقف عن مسيرة البحث عنها ، ولما عاد التقى بأحد الشيوخ الذي اعتمد عليه في كل شيء وكان يحضر دروسه وتقرَّب منه شيئاً فشيئاً حتى أحبَه فكان يشعر به دون أنْ يتكلم ، وفي أحد المرات شعر بأن هناك أمراً يشغله ويؤرقه فلما لم يحكِ عرف من تلقاء نفسه وأخبره أن ما قد يبحث عنه وينتقل من مكان لآخر قاصداً إياه قد يكون صوب عينيه دون أنْ يدري ، لم يفهم كلامه في بادئ الأمر ولكن بالتدريج اتضح الأمر حينما وجدها أمامه وقد كانت ابنة الشيخ ، لم يكن يُصدِّق عينيه ، طلب الزواج منها على الفور فقد أحبَها حباً جماً ، عاش حياته معها في نعيم وسعادة غير مرتقبة النظير ، ورُزقا بالبنين والبنات ، وقد قرر الشيخ أن يُولِّيه بعض المهام فطلب منه إعطاء الدروس في القاهرة ، في البداية لم يكن مُرحِّباً بالأمر ولكن بمرور الوقت قرر الذهاب وأخذ زوجته وأولاده معه إذْ لم يتمكن من فراقها يوماً ، وَفَّر لهم مكاناً آمناً يعيشون فيه كان شيخه قد أخبره عنه قبل السفر مباشرةً وقد بدأ رحلة الوعظ وإلقاء الدروس ودَلْ الناس على طريق الله ، كان خائفاً في البداية من قبول الناس له ولكن الله فتح عليه بالكلمة التي كانت تخرج من قلبه بصِدق فتدخل القلوب وتمسَّها وتؤثر فيها فقد كان الجميع يشعرون بالراحة فور الاستماع إليه ، ظل كذلك إلى أنْ انتهت المدة وعاد للأسكندرية وقد تتابعت تلك الدروس إلى أنْ اعتادها الناس جميعاً وكانوا يشتاقون إليها إلى أنْ حدث أمر جلل أصابه هو وزوجته بالجزع فقررا الرحيل تماماً من هذا المكان المشئوم إذْ وفر لهم أبو العباس مكاناً أكثر سعةً ورحابةً ولكن كان يسكنه شيخٌ لا يَطيق الأطفال فإذا به يدفع بأبنائه من فوق الدرَج فمات أحدهم وقد فجَع هذا الحدث قلبيهما ، رغبت لطيفة في أنْ يُعيد زوجها حقه ولكنه لم يجد الوسيلة المناسبة لذلك ، ظل واجماً حزيناً لفترة لا بأس بها ، وكانت تشعر بالضيق تجاهه لأنه لا يتصرف فكيف يمكنه تجاهل الأمر لتلك الدرجة البغيضة ، تركت له البيت وعادت لأبيها رُغم أنها على علم أنه لا يوجد حل يُعيد المفقود إلى حضنها مرة أخرى ، مرَّت الأيام وقد اعتصرهما الحزن وفتَّت قلبيهما ولكن ما باليد حيلة ، قررت العودة إلى بيت زوجها وكانت تخشى مواجهته بما حدث بينهما من خلاف بفعل عجزه عن إرجاع حق ابنهما ، ثم سافر إلى الحج مع أبيها وفي تلك الرحلة تُوفي والدها وشيخه ولم يكن يعرف كيف سيُخبرها بالأمر عند العودة ، كان قد عَزم أمره على استكمال الرحلة فلم يرجع سوى بعد إتمام الحج وقد لَامه الجميع على ذلك ، وحينما عاد إلى الإسكندرية انقلب عليه الجميع خاصةً حينما حثهم عبد البارئ على ذلك ، فقد كان يضمُر الشر والحقد تجاه أبي العباس حيث غار منه حينما صار خليفة الشيخ لأنه كان يرى عدم أحقيته بهذا الأمر وأنه الأجدر به حيث جاء قبله وحضر دروس الشيخ قبل أنْ يأتي أحمد إلى الإسكندرية من الأساس ، حشد الجميع ضده حتى أن متولي الإسكندرية كان يرغب في طرده وقد هدد الجميع بالعقاب العسير إنْ حضر أحدهم دروس الشيخ أو لمحهم في مجلسه فقد ارتعب الجميع واعتزلوا الشيخ تماماً ، عاني كثيراً من انصراف الناس عنه ولم يَستعِد مكانته سوى بعد مرور وقت طويل حينما رحل المتولي من البلاد تماماً حينها بدأ يسترجع وضعه وبدأت القلة القليلة تحضر دورسه مرة أخرى حتى الصيادون وتجار العبيد ، وكانت المفارقة من هنا فكيف يمكن لشخص أنْ يحبه البشر أجمعين ثم ينصرفوا عنه تماماً وكان هذا بفعل الاتحاد والتكالب الذي حدث ضده من قُبيل زميله عبد البارئ وتقي الدين فقيه الإسكندرية وقتها وهما مَنْ شنَّا الحرب ضده وجعلا متولي الإسكندرية يتخذ هذا الموقف العنيف ضده ، ولكن ما أعجبني بشدة هو براعة الكاتبة في إخراج البطل من قوقعة الإنسان المثالي فقد جذبته الدنيا في بعض المحطات فهو كبقية البشر لا يسلَم من مغرياتها ، فقد تعرَّض لمزيد من الهفوات والكبوات التي لولا تعلُّقه بالله لاجتذبه الدنيا بكل ما فيها من متاع ولكنه كان يتصدى لها ويجتنبها بقدر الإمكان حيث كان رجلاً تقياً زاهداً في الدنيا لا يبغى سوى رضا الله وقربه ، لذا حاول مجاهدة نفسه ومحاربتها من أجل الثبات على مبادئه ومعتقداته التي كان يدعو الناس إليها طوال الوقت فقد كان يستغفر ويتوب إلى الله على الفور ، وقد حدث هذا في موقفين حينما طلب منه السلطان بيبرس أنْ يصير شيخه ويعاونه في كل أموره ولكنه رفض رفضاً قاطعاً باتاً ، كان سيضعف في بادئ الأمر حينما فكَّر أن بهذا قد تسير أمور حياته بمزيد من السلاسة والمرونة ويتمكن من تلبية حاجيات أبنائه بسهولة ولكنه قد يضحي في المقابل بكل ما وصل إليه من عِلم وتاريخه الماضي الذي بذل فيه جهداً مضنياً ، وحينما اغتر بذاته وأصابه بعض الزَهو والكِبر حينما شعر من زوجته أنها تغار عليه من نجمة خاتون ملكة الديار المصرية التي كانت تفوقها جمالاً وجاهاً وسُلطةً وقد تعجَّب من هذا الأمر فكيف تفكر فيه بتلك الطريقة وهو شيخ ؟ ، كيف توقعت منه الغدر والخيانة ونقض العهد ولا يفعل ذلك شخص عادي ؟ ، حينها شعر أنه رأى ذاته في مكانة أعلى من كل البشر وتراجع واعتذر عمَّا بدر منه بالفعل وطلب منها الصَفح والسماح ،
الجدير بالذكر أن أبا العباس حظى بحب الناس حيث التف حوله الجميع وكانوا يعتبرونه عَلماً من أعلام بلادهم ورمزاً لهم حينما وجدوا في كلماته الراحة والسكون ولمست قلوبهم وأثرت فيهم بقدر كبير لأنها خرجت بصِدق من قلبه وقد دعاهم لسبيل الله ودلهم على الطريق السليم ، وبمرور الوقت ذاع صيته في الإسكندرية رغم أنها لم تكن موطنه الأصلي ، كما شُيِّد مسجد باسمه بناه أكبر مهندس معماري قَدِم من إيطاليا وكأنه بُعِث خِصيصاً لبناء هذا المسجد العريق الذي برع في رسم كل ركن من أركانه ليُعبِّر عن هذا الشيخ العظيم الذي بجَّله الجميع ورفعوا اسمه على مرِّ الزمان نظراً لقلبه النادر بين الورى ، وكان يُخيَّل إليه وقت البناء أنه يتحدث إليه أو بالكاد يعرفه عن طريق وصف الناس له كما رسم صورة له أثناء البناء وكأنه يحاول التقرب إليه وتوطيد علاقته به رغم أنه لم يَره وقد انتهى منها مع انتهائه من بناء المسجد بعد ستة عشر عاماً وقد بنى هذا المسجد تخليداً لاسمه وإبقاءً لأثره بعد الممات ، حقاً إن ترك البصمة في قلوب البشر هي غاية كل الخَلْق وما يصبو إليه الجميع بلا استثناء فيظلون يطمحون لهذا طوال أعمارهم وها قد تحقَّقت لهذا الرجل الخلوق الذي أحبه الجميع رغم اختلاف البعض عليه والتشكيك في نواياه في بادئ الأمر فقد تغيَّرت وجهات نظرهم حينما تقربوا إليه وبدأوا في حضور بعض الدورس التي كان يُلقيها لمَنْ يرغب في التقرب من الله والعمل لآخرته ، لم يكن أبو العباس كغيره من البشر ، كان زاهداً في الدنيا بالقَدْر الذي يجعله لا يرغب في نيل أي شيء منها وكل ما كان يتمناه أنْ يظل قريباً من ربه أو يَلقاه في أقرب وقت ممكن وقد كان ، حزنت كثيراً لهذا الحدث المُفجِع فقد تعلَّقت كثيراً بقصة كفاح هذا البطل المغوار الذي ضحى بحياته في سبيل الحفاظ على معتقداته ومبادئه وما كان مؤمناً به ولم يُفرِّط فيه رغم كثرة المغريات من حوله ...
مما أعجبني ؛
لقد سارت الرواية على خط متوازن لم يختل للحظة لدرجة أنك لا تفقد الشخصيات أو تتيه لوهلة كما أنها تصف أحداث حقيقية واقعية ذكَّرتني بالماضي الذي استرجعت بعض أحداثه فور القراءة المُتمعِّنة لتلك السطور البديعة التي أطرَبت القلب وشحنت الفؤاد بالطاقة وملأته بالسعادة التي غمرته على فوهته فقد غيَّرت وجهة نظري في التاريخ بالكامل ...
أبدعتِ أستاذة ريم ولن تكون أول وآخر رواية بمشيئة الله ... ❤️
#خلود_أيمن #مراجعات #روايات .. ❝ ⏤Kholoodayman1994 Saafan
❞ مراجعة رواية ماريو وأبو العباس للكاتبة الجميلة د / ريم بسيوني :
إن للجبن ضريبةً باهظة يظل المرء يدفعها طيلة حياته كما يظل ينتقل من مشكلة لأخرى ويعاني الأمرَّين ويكابد المشقات على مدار الطريق ذلك لأن التخاذل لم يكن يوماً من شِيم الأقوياء وهو المصير الطبيعي لأفعالهم الوضيعة ، فقد تخلَّف عن الدفاع عن بلاده بشجاعة واستبسال وحمايته من يد الطُغاة المستعمرين الذين وضعوا قبضتهم عليه مُصرِّين على البقاء فيه لأبد الآبدين معتقدين أن في هذا حقاً لهم ، فلم تكن إراقة الدماء واستباحة الأراضي وإزهاق الأرواح حقاً لأحد ذات يوم ولكنها الظنون الوهمية التي تمحق البلاد كافة وتطمس تاريخها وتُدمِّر كل شبر فيها بلا التفات من أحد مواطنيها وهذا أكبر عار قد يصدر عن أحد ، هذا ما تبدَّى لنا في بداية الأحداث ورُغم أنه أبلى بلاءً حسناً في بعض الحروب الأخرى وتجلَّت شجاعته وحرصه على نُصرة تلك البلاد وإرجاع الحقوق لأصحابها فكان من الأجدر والأولَى أنْ يدافع عن أرض وطنه التي ينتمي إليها وتربَّى فيها بالفعل بدلاً من الحفاظ على أراضي الغير من أيدي المعتدين ،
فقد غادر بطل الرواية أبو العباس المُرسي أراضيه في الأندلس بعدما احتلها الفرنجة وفَرَّ هارباً مع أسرته قاصداً تونس هو وجميع مَنْ في البلاد ، وحدث ما لم يكن في الحسبان فقَبْل الوصول انشقت السفينة وابتلعهم البحر جميعاً ولم ينجُ من الركاب سوى هو وأخوه الذي ظل يبحث عنه وقتاً طويلاً حتى عثر عليه وحينها استمرا في البحث عن أهلهما ولم يجدا أثراً لهم ، أصابهما الحزن الشديد ومن ثَم قرر محمد أخوه أنْ يلتفت لحياته ويستمر في ممارسة تجارة القمح التي تركها له والده ولم يتمكن أحمد من ممارسة الحياة بسهولة لفترة طويلة إلى أنْ وجد وسيلة للعيش بمرور الوقت فقد التقى بفتاة ساعدها في جلب الماء من البئر فعَمِل لدى والدها الشيخ لفترة ما وتعرَّض للمزيد من المشاكل معه انتهت بزَجِّه في السجن على جُرم لم يقترفه حينما وشاه للوالي فذهب إليه أخوه وأَخرجه ونصحه بألا يفتعل المشكلات مع الآخرين وليتذكر أنه ليس بوطنه كي يحميه أحد أو يُنقذه ولكنه لم يُنصت إليه فلم يكن يحب الظلم أو يرغب في تفشيه على يد أي امرئ ظالم يبطش بكل عبد ضعيف أو ذي حاجة ، ثم انتقل إلى الإسكندرية التي أحبَها كثيراً وكان يتعجب من جمالها وبخاصةً الفنار الذي لفَته وقرر البحث عن طريقة تشييده وكيف تعمل تلك المرآة العاكسة داخله ، ظل ينتقل ويرتحل بين البلدان حتى استقر به الحال في المنصورة التي كانت بداية الحروب حيث هزم التتار في دمياط وكان يشعر أنه من الصعب عليهم الدخول للمنصورة ولكن بمرور الوقت دلَّهم أحد الخونة على معبر يمكِّنهم من استعمار تلك البلاد وقد كان تسلل جيش الأعداء إلى هذا الممر السري وتمكَّنوا من وضع قبضتهم على المنصورة ولكن الجيش قد وضع خُطةً محكمة من أجل القضاء عليهم إذْ أظهروا الهزيمة واختبأوا داخل أزقة البلاد وحينما دخل الفرنجة هاجموهم وأطاحوا بهم وقضوا عليهم جميعاً ولما جاء موعد الملك أشار إليهم أحمد أبو العباس بالابتعاد فلا يَصِح أنْ يتم قتل الملك وأمرهم بأسره وإرساله إلى قصر بن لقمان ليكون عبرة لمَنْ يأتي من بَعْده ، ثم هتف الجميع باسمه وهلَّلوا لهذا النصر العظيم الذي تحقَّق على يده ومن ثم ذهب إلى بيبرس أحد قادة الأمراء المماليك وقتها فكان فخوراً به للغاية حينما أتاه بالملك أسيراً وقد أراد مكافأته فخيَّره بين الولاية والمال فلم يختَر أيهما فكل ما أراده هو العودة لبلاده فوافق بيبرس على الفور ولكنه كان حزيناً لهذا الرحيل ، مشتاقاً لتلك الفتاة المحاربة التي قابلها في بداية الحرب في دمياط ولكنه لم يجدها حينما عثر عليها في المكان الذي أخبرته عنه في دمياط فقرر العودة على ألا يتوقف عن مسيرة البحث عنها ، ولما عاد التقى بأحد الشيوخ الذي اعتمد عليه في كل شيء وكان يحضر دروسه وتقرَّب منه شيئاً فشيئاً حتى أحبَه فكان يشعر به دون أنْ يتكلم ، وفي أحد المرات شعر بأن هناك أمراً يشغله ويؤرقه فلما لم يحكِ عرف من تلقاء نفسه وأخبره أن ما قد يبحث عنه وينتقل من مكان لآخر قاصداً إياه قد يكون صوب عينيه دون أنْ يدري ، لم يفهم كلامه في بادئ الأمر ولكن بالتدريج اتضح الأمر حينما وجدها أمامه وقد كانت ابنة الشيخ ، لم يكن يُصدِّق عينيه ، طلب الزواج منها على الفور فقد أحبَها حباً جماً ، عاش حياته معها في نعيم وسعادة غير مرتقبة النظير ، ورُزقا بالبنين والبنات ، وقد قرر الشيخ أن يُولِّيه بعض المهام فطلب منه إعطاء الدروس في القاهرة ، في البداية لم يكن مُرحِّباً بالأمر ولكن بمرور الوقت قرر الذهاب وأخذ زوجته وأولاده معه إذْ لم يتمكن من فراقها يوماً ، وَفَّر لهم مكاناً آمناً يعيشون فيه كان شيخه قد أخبره عنه قبل السفر مباشرةً وقد بدأ رحلة الوعظ وإلقاء الدروس ودَلْ الناس على طريق الله ، كان خائفاً في البداية من قبول الناس له ولكن الله فتح عليه بالكلمة التي كانت تخرج من قلبه بصِدق فتدخل القلوب وتمسَّها وتؤثر فيها فقد كان الجميع يشعرون بالراحة فور الاستماع إليه ، ظل كذلك إلى أنْ انتهت المدة وعاد للأسكندرية وقد تتابعت تلك الدروس إلى أنْ اعتادها الناس جميعاً وكانوا يشتاقون إليها إلى أنْ حدث أمر جلل أصابه هو وزوجته بالجزع فقررا الرحيل تماماً من هذا المكان المشئوم إذْ وفر لهم أبو العباس مكاناً أكثر سعةً ورحابةً ولكن كان يسكنه شيخٌ لا يَطيق الأطفال فإذا به يدفع بأبنائه من فوق الدرَج فمات أحدهم وقد فجَع هذا الحدث قلبيهما ، رغبت لطيفة في أنْ يُعيد زوجها حقه ولكنه لم يجد الوسيلة المناسبة لذلك ، ظل واجماً حزيناً لفترة لا بأس بها ، وكانت تشعر بالضيق تجاهه لأنه لا يتصرف فكيف يمكنه تجاهل الأمر لتلك الدرجة البغيضة ، تركت له البيت وعادت لأبيها رُغم أنها على علم أنه لا يوجد حل يُعيد المفقود إلى حضنها مرة أخرى ، مرَّت الأيام وقد اعتصرهما الحزن وفتَّت قلبيهما ولكن ما باليد حيلة ، قررت العودة إلى بيت زوجها وكانت تخشى مواجهته بما حدث بينهما من خلاف بفعل عجزه عن إرجاع حق ابنهما ، ثم سافر إلى الحج مع أبيها وفي تلك الرحلة تُوفي والدها وشيخه ولم يكن يعرف كيف سيُخبرها بالأمر عند العودة ، كان قد عَزم أمره على استكمال الرحلة فلم يرجع سوى بعد إتمام الحج وقد لَامه الجميع على ذلك ، وحينما عاد إلى الإسكندرية انقلب عليه الجميع خاصةً حينما حثهم عبد البارئ على ذلك ، فقد كان يضمُر الشر والحقد تجاه أبي العباس حيث غار منه حينما صار خليفة الشيخ لأنه كان يرى عدم أحقيته بهذا الأمر وأنه الأجدر به حيث جاء قبله وحضر دروس الشيخ قبل أنْ يأتي أحمد إلى الإسكندرية من الأساس ، حشد الجميع ضده حتى أن متولي الإسكندرية كان يرغب في طرده وقد هدد الجميع بالعقاب العسير إنْ حضر أحدهم دروس الشيخ أو لمحهم في مجلسه فقد ارتعب الجميع واعتزلوا الشيخ تماماً ، عاني كثيراً من انصراف الناس عنه ولم يَستعِد مكانته سوى بعد مرور وقت طويل حينما رحل المتولي من البلاد تماماً حينها بدأ يسترجع وضعه وبدأت القلة القليلة تحضر دورسه مرة أخرى حتى الصيادون وتجار العبيد ، وكانت المفارقة من هنا فكيف يمكن لشخص أنْ يحبه البشر أجمعين ثم ينصرفوا عنه تماماً وكان هذا بفعل الاتحاد والتكالب الذي حدث ضده من قُبيل زميله عبد البارئ وتقي الدين فقيه الإسكندرية وقتها وهما مَنْ شنَّا الحرب ضده وجعلا متولي الإسكندرية يتخذ هذا الموقف العنيف ضده ، ولكن ما أعجبني بشدة هو براعة الكاتبة في إخراج البطل من قوقعة الإنسان المثالي فقد جذبته الدنيا في بعض المحطات فهو كبقية البشر لا يسلَم من مغرياتها ، فقد تعرَّض لمزيد من الهفوات والكبوات التي لولا تعلُّقه بالله لاجتذبه الدنيا بكل ما فيها من متاع ولكنه كان يتصدى لها ويجتنبها بقدر الإمكان حيث كان رجلاً تقياً زاهداً في الدنيا لا يبغى سوى رضا الله وقربه ، لذا حاول مجاهدة نفسه ومحاربتها من أجل الثبات على مبادئه ومعتقداته التي كان يدعو الناس إليها طوال الوقت فقد كان يستغفر ويتوب إلى الله على الفور ، وقد حدث هذا في موقفين حينما طلب منه السلطان بيبرس أنْ يصير شيخه ويعاونه في كل أموره ولكنه رفض رفضاً قاطعاً باتاً ، كان سيضعف في بادئ الأمر حينما فكَّر أن بهذا قد تسير أمور حياته بمزيد من السلاسة والمرونة ويتمكن من تلبية حاجيات أبنائه بسهولة ولكنه قد يضحي في المقابل بكل ما وصل إليه من عِلم وتاريخه الماضي الذي بذل فيه جهداً مضنياً ، وحينما اغتر بذاته وأصابه بعض الزَهو والكِبر حينما شعر من زوجته أنها تغار عليه من نجمة خاتون ملكة الديار المصرية التي كانت تفوقها جمالاً وجاهاً وسُلطةً وقد تعجَّب من هذا الأمر فكيف تفكر فيه بتلك الطريقة وهو شيخ ؟ ، كيف توقعت منه الغدر والخيانة ونقض العهد ولا يفعل ذلك شخص عادي ؟ ، حينها شعر أنه رأى ذاته في مكانة أعلى من كل البشر وتراجع واعتذر عمَّا بدر منه بالفعل وطلب منها الصَفح والسماح ،
الجدير بالذكر أن أبا العباس حظى بحب الناس حيث التف حوله الجميع وكانوا يعتبرونه عَلماً من أعلام بلادهم ورمزاً لهم حينما وجدوا في كلماته الراحة والسكون ولمست قلوبهم وأثرت فيهم بقدر كبير لأنها خرجت بصِدق من قلبه وقد دعاهم لسبيل الله ودلهم على الطريق السليم ، وبمرور الوقت ذاع صيته في الإسكندرية رغم أنها لم تكن موطنه الأصلي ، كما شُيِّد مسجد باسمه بناه أكبر مهندس معماري قَدِم من إيطاليا وكأنه بُعِث خِصيصاً لبناء هذا المسجد العريق الذي برع في رسم كل ركن من أركانه ليُعبِّر عن هذا الشيخ العظيم الذي بجَّله الجميع ورفعوا اسمه على مرِّ الزمان نظراً لقلبه النادر بين الورى ، وكان يُخيَّل إليه وقت البناء أنه يتحدث إليه أو بالكاد يعرفه عن طريق وصف الناس له كما رسم صورة له أثناء البناء وكأنه يحاول التقرب إليه وتوطيد علاقته به رغم أنه لم يَره وقد انتهى منها مع انتهائه من بناء المسجد بعد ستة عشر عاماً وقد بنى هذا المسجد تخليداً لاسمه وإبقاءً لأثره بعد الممات ، حقاً إن ترك البصمة في قلوب البشر هي غاية كل الخَلْق وما يصبو إليه الجميع بلا استثناء فيظلون يطمحون لهذا طوال أعمارهم وها قد تحقَّقت لهذا الرجل الخلوق الذي أحبه الجميع رغم اختلاف البعض عليه والتشكيك في نواياه في بادئ الأمر فقد تغيَّرت وجهات نظرهم حينما تقربوا إليه وبدأوا في حضور بعض الدورس التي كان يُلقيها لمَنْ يرغب في التقرب من الله والعمل لآخرته ، لم يكن أبو العباس كغيره من البشر ، كان زاهداً في الدنيا بالقَدْر الذي يجعله لا يرغب في نيل أي شيء منها وكل ما كان يتمناه أنْ يظل قريباً من ربه أو يَلقاه في أقرب وقت ممكن وقد كان ، حزنت كثيراً لهذا الحدث المُفجِع فقد تعلَّقت كثيراً بقصة كفاح هذا البطل المغوار الذي ضحى بحياته في سبيل الحفاظ على معتقداته ومبادئه وما كان مؤمناً به ولم يُفرِّط فيه رغم كثرة المغريات من حوله ..
مما أعجبني ؛
لقد سارت الرواية على خط متوازن لم يختل للحظة لدرجة أنك لا تفقد الشخصيات أو تتيه لوهلة كما أنها تصف أحداث حقيقية واقعية ذكَّرتني بالماضي الذي استرجعت بعض أحداثه فور القراءة المُتمعِّنة لتلك السطور البديعة التي أطرَبت القلب وشحنت الفؤاد بالطاقة وملأته بالسعادة التي غمرته على فوهته فقد غيَّرت وجهة نظري في التاريخ بالكامل ..
أبدعتِ أستاذة ريم ولن تكون أول وآخر رواية بمشيئة الله .. ❤️
❞ حوار مع صديقي الملحد
لماذا لا يكون القرآن من تأليف محمد ؟
قال صاحبي وهو ينتقي عباراته : -
لا أريد أن أجرحك فأنا أعلم اعتزازك بالقرآن و أنا معك في أنه كتاب قيم .. و لكن لماذا لا يكون من تأليف محمد ؟ .. إن رجلاً في عظمة محمد لا يستغرب منه أن يضع كتاباً في عظمة القرآن .. سوف يكون هذا منطقياً أكثر من أن نقول إن الله أنزله .
فإنا لم نر الله ينزل من السماء شيئاً .. و نحن في عصر من الصعب أن نقنع فيه إنساناً بأن هناك ملاكاً اسمه جبريل نزل من السماء بكتاب ليوحي به إلى أحد .
قلت في هدوء : - بل نحن في عصر يسهل فيه تماماً أن نصدق بأن هناك ملائكة لا ترى ، و بأن الحقائق يمكن أن تلقى إلى الإنسان وحياً .. فهم يتكلمون اليوم عن أطباق طائره تنزل على الأرض . كواكب بعيدة و أشعة غير منظورة تقتل ، و أمواج لاسلكية تحدد الأهداف و تضربها .. وصور تتحول إلى ذبذبات في الهواء ثم تستقبل في أجهزة صغيرة كعلب التبغ .. و كاميرات تصور الأشباح .. و عيون ترى في الظلام .. و رجل يمشى على القمر .. و سفينة تنزل على المريخ .. لم يعد غريباً أن نسمع أن الله أرسل ملكاً خفياً من ملائكته.. و أنه ألقى بوحيه على أحد أنبيائه .. لقد أصبح وجود جبريل اليوم حقيقة من الدرجة الثانية .. و أقل عجباً و غرابة مما نرى و نسمع كل يوم .
أما لماذا لا نقول إن القرآن من تأليف محمد عليه الصلاة و السلام .. فلأن القرآن بشكله و عباراته و حروفه و ما احتوى عليه من علوم و معارف و أسرار و جمال بلاغي و دقة لغوية هو مما لا يدخل في قدرة بشر أن يؤلفه .. فإذا أضفنا إلى ذلك أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان أمياً ، لا يقرأ و لا يكتب و لم يتعلم في مدرسة و لم يختلط بحضارة ، و لم يبرح شبه الجزيرة العربية ، فإن احتمال الشك و احتمال إلقاء هذا السؤال يغدو مستحيلاً .. و الله يتحدى المنكرين ممن زعموا أن القرآن مؤلف :
قال تعالى: "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" [يونس : 38]
استعينوا بالجن و الملائكة وعباقرة الإنس وأتوا بسورة من مثله و مازال التحدي قائماً و لم يأت أحد بشيء ... إلا ببعض عبارات مسجوعة ساذجة سموها "سورة من مثله"... أتى بها أناس يعتقدون أن القرآن مجرد كلام مسجوع .. و لكن سورة من مثله.. أي بها نفس الإعجاز البلاغي و العلمي .. وإذا نظرنا إلى القرآن في حياد و موضوعية فسوف نستبعد تماماً أن يكون محمد عليه الصلاة و السلام هو مؤلفه .
أولاً : لأنه لو كان مؤلفه لبث فيه همومه و أشجانه ، و نحن نراه في عام واحد يفقد زوجه خديجة و عمه أبا طالب و لا سند له في الحياة غيرهما .. و فجيعته فيهما لا تقدر .. و مع ذلك لا يأتي لهما ذكر في القرآن و لا بكلمة .. و كذلك يموت ابنه إبراهيم و يبكيه ، و لا يأتى لذلك خبر في القرآن .. القرآن معزول تماماً عن الذات المحمدية .
بل إن الآية لتأتي مناقضة لما يفعله محمد و ما يفكر فيه .. و أحياناً تنزل الآية معاتبة له كما حدث بصدد الأعمى الذي انصرف عنه النبي إلى أشراف قريش :
( "عَبَسَ وَتَوَلَّى ، أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى ،وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى" )
وأحياناً تنزل الآية فتنقض عملاً من أعمال النبي :
("مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" )
و أحياناً يأمر القرآن محمد بأن يقول لأتباعه ما لا يمكن أن يقوله لو أنه كان يؤلف الكلام تأليفاً :
("قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ" )
لا يوجد نبي يتطوع من تلقاء نفسه ليقول لأتباعه لا أدرى ما يفعل بي و لا بكم .. لا أملك لنفسي ضراً و لا نفعاً .. و لا أملك لكم ضراً و لا نفعاً .
فإن هذا يؤدى إلى أن ينفض عنه أتباعه .. و هذا ما حدث فقد اتخذ اليهود هذه الآية عذرا ليقولوا .. ما نفع هذا النبي الذي لا يدرى ماذا يفعل به و لا بنا .. هذا رجل لا جدوى فيه .
مثل هذه الآيات ما كان يمكن أن يؤلفها النبي لو كان يضع القرآن من عند نفسه .
ثانياً : لو نظرنا بعد ذلك في العبارة القرآنية لوجدنا أنها جديدة منفردة في رصفها و بنائها و معمارها ليس لها شبيه فيما سبق من أدب العرب و لا شبيه فيما أتى لاحقاً بعد ذلك .. حتى لتكاد اللغة تنقسم إلى شعر و نثر و قرآن .. فنحن أمام كلام هو نسيج وحده لا هو بالنثر و لا بالشعر .
فموسيقى الشعر تأتى من الوزن و من التقفية فنسمع الشاعر ابن الأبرص الأسدى ينشد:
أقفر من أهله عبيد
فليس يبدى و لا يعيد
هنا الموسيقى تخرج من التشطير و من التقفية على الدال الممدودة ، فهي موسيقى خارجية .. أما موسيقى القرآن فهي موسيقى داخلية:
(" وَالضُّحَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى" )
لا تشطير و لا تقفية في هذه العبارة البسيطة ، ولكن الموسيقى تقطر منها .. من أين؟ إنها موسيقى داخلية .
اسمع هذه الآيات :
( "قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا" [مريم : 4]
و هذه الآيات :
" طه ، مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ، إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ، تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى"
فإذا تناولت الآيات تهديداً تحول بناء العبارة و نحتها إلى جلاميد صخر .. و أصبح للإيقاع صلصلة نحاسية تصخ السمع :
"إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ ، تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ"
كلمات مثل "صرصراً".. "و منقعر".. كل كلمة كأنها جلمود صخر .. فإذا جاءت الآية لتروى خبراً هائلاً كما في نهاية الطوفان تقاصرت العبارات و كأنها إشارات " مورس " التلغرافية .
و أصبحت الآية كلها كأنها تلغراف مقتضب له وقع هائل :
قال تعالى: "وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" [هود : 44]
هذا التلون في نحت الألفاظ و في بناء العبارة و في إيقاع الكلمات مع المعاني و المشاعر .. يبلغ في القرآن الذروة و يأتي دائماً منساباً لا تكلف فيه و لا تعمل .
ثالثاً : إذا مضينا في التحليل أكثر فإنا سنكتشف الدقة البالغة و الإحكام المذهل .. كل حرف في مكانه لا تقديم و لا تأخير .. لا تستطيع أن تضع كلمة مكان كلمة ، و لا حرفاً مكان حرف .. كل لفظة تم اختيارها من مليون لفظة بميزان دقيق .
و سنرى أن هذه الدقة البالغة لا مثيل لها في التأليف .. انظر إلى هذه الكلمة " لواقح " في الآية : قال تعالى: ("وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ " )
و كانوا يفسرونها في الماضي على المعنى المجازي بمعنى أن الرياح تثير السحب فتسقط المطر فيلقح الأرض بمعنى " يخصبها " ثم عرفنا اليوم أن الرياح تسوق السحب إيجابية التكهرب و تلقي بها في أحضان السحب سالبة التكهرب فيحدث البرق و الرعد والمطر .. و هي بهذا المعنى "لواقح " أيضا ، و نعرف الآن أيضاً أن الرياح تنقل حبوب اللقاح من زهرة إلى زهرة فتلقحها بالمعنى الحرفي ، ون عرف أخيراً أن المطر لا يسقط إلا بتلقيح قطيرات الماء بذرات الغبار فتنمو القطيرات حول هذه الأنوية من الغبار و تسقط مطراً .. فها نحن أولاء أمام كلمة صادقة مجازياً و حرفياً وعلمياً ، ثم هي بعد ذلك جميلة فنياً و أدبياً و ذات إيقاع حلو .
هنا نرى منتهى الدقة في انتقاء اللفظة و نحتها ، و في آية أخرى :
قال تعالى: "وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ"
كلمة " تدلوا ".
مع أن الحاكم الذي تلقى إليه الأموال في الأعلى و ليس في الأسفل .. لا .. إن القران يصحح الوضع ، فاليد التي تأخذ الرشوة هي اليد السفلى و لو كانت يد الحاكم .. و من هنا جاءته كلمة " تدلوا بها إلى الحكام " لتعبر في بلاغة لا مثيل إلا عن دناءة المرتشي و سفله .
و في آية الجهاد :
قال تعالى: " مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ "
القرآن يستعمل كلمة " اثَّاقلتم " بدلا من تثاقلتم .. يدمج الحروف إدماجاً ، و يلصقها إلصاقاً ليعبر عن جبن الجبناء الذين يلتصقون بالأرض ( و يتربسون ) فيها من الخوف إذا دعوا إلى القتال ، فجاءت حروف الكلمة بالمثل (متربسة) .
و في آية قتل الأولاد من الفقر نراها جاءت على صورتين :
قال تعالى: " وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ "
قال تعالى: "وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ "
و الفرق بين الآيتين لم يأتي اعتباطاً ، و إنما جاء لأسباب محسوبة .. فحينما يكون القتل من إملاق فإن معناه أن الأهل فقراء في الحاضر ، فيقول : نحن ( نرزقكم ) و إياهم .
و حينما يكون قتل الأولاد خشية إملاق فإن معناه أن الفقر هو احتمال في المستقبل و لذا تشير الآية إلى الأبناء فتقول نحن "نرزقهم " و إياكم .
مثل هذه الفروق لا يمكن أن تخطر على بال مؤلف .. و في حالات التقديم و التأخير نجد دائماً أنه لحكمة ، نجد أن السارق مقدم على السارقة في آية السرقة ، في حين أن الزانية مقدمة على الزانى في آية الزنى .. و ذلك لسبب واضح ، أن الرجل أكثر إيجابية في السرقة .. أما في الزنى فالمرأة هي التي تأخذ المبادرة ، من لحظة وقوفها أمام المرآة تضع " البارفان " و لمسات " التواليت " و تختار الفستان أعلى الركبة فإنها تنصب الفخاخ للرجل الموعود .
قال تعالى: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ "
قال تعالى:"وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا "
و بالمثل تقديم السمع على البصر في أكثر من 16 مكاناً
( " وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ " )
( " وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً ")
( "أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ")
(" إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" )
( "وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ " )
( " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" )
دائما السمع أولاً . و لا شك أن السمع أكثر إرهافاً و كمالاً من البصر .. إننا نسمع الجن و لا نراه .. و الأنبياء سمعوا الله و كلموه و لم يره أحد .
و قد تلقى محمد القرآن سمعاً .. والأم تميز بكاء ابنها في الزحام و لا تستطيع أن تميز وجهه .. و السمع يصاحب الإنسان أثناء النوم فيظل صاحياً في حين تنام عيناه ، و من حاول تشريح جهاز السمع يعلم أنه أعظم دقة و إرهافاً من جهاز البصر .
و بالمثل تقديم المال على الولد :
( "يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ" )
( "إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ" )
( " لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" )
( "أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ" )
( "فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " )
( "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ " )
و الأمثلة على هذا التقديم كثيرة و السر أن المال عند أكثر الناس أعز من الولد .. ثم الدقة و الخفاء و اللطف في الإعراب .
انظر إلى هذه الآية :
( "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا " )
مرة عوملت الطائفتان على أنهما جمع "اقتتلوا" و مرة على أنهما مثنى "فأصلحوا بينهما" والسر لطيف .. فالطائفتان في القتال تلتحمان وتصبحان جمعاً من الأذرع المتضاربة .. في حين أنهما في الصلح تتفصلان إلى اثنين .. و ترسل كل واحدة عنها مندوباً ، و من هنا قال : و إن طائفتان من المؤمنين "اقتتلوا" فأصلحوا "بينهما"!
حتى حروف الجر و الوصل و العطف تأتى و تمتنع في القرآن لأسباب عميقة ، و بحساب دقيق محكم .. مثلاً تأتي كلمة "يسألونك " في أماكن عديدة من القرآن:
(" وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ")
( "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ")
( "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ " )
دائماً الجواب بكلمة "قل ".. و لكنها حين تأتى عن الجبال :
"وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا"
هنا لأول مرة جاءت "فقل" بدلاً من "قل ".. و السبب أن كل الأسئلة السابقة كانت قد سئلت بالفعل ، أما سؤال الجبال فلم يكن قد سئل بعد ، لأنه من أسرار القيامة ، و كأنما يقول الله : فإذا سألوك عن الجبال "فقل ".. فجاءت الفاء زائدة لسبب محسوب ..
أما في الآية :
("وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاع ")
هنا لا ترد كلمة "قل " لأن السؤال عن ذات الله .. و الله أولى بالإجابة عن نفسه ..
كذلك الضمير أنا و نحن .
يتكلم الله بضمير الجمع حيثما يكون التعبير عن "فعل " إلهي تشترك فيه جميع الصفات الإلهية كالخلق ، و إنزال القرآن و حفظه :
( "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" )
("نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ" )
(" إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" )
( "أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ" )
( "نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا" )
"ونحن " هنا تعبر عن جمعية الصفات الإلهية و هي تعمل في إبداع عظيم مثل عملية الخلق .
أما إذا جاءت الآية في مقام مخاطبة بين الله وعبده كما في موقف المكالمة مع موسى .. تأتي الآية بضمير المفرد
( "إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي" )
الله يقول : "أنا" لأن الحضرة هنا حضرة ذات ، و تنبيها منه سبحانه على مسألة التوحيد و الوحدانية في العبادة .
و نجد مثل هذه الدقة الشديدة في آيتين متشابهتين عن الصبر تفترق الواحدة عن الأخرى في حرف اللام .. يقول لقمان لولده :
" وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"
و في آية أخرى عن الصبر نقرأ :
("وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ" )
الصبر في الأولى "من عزم الأمور" و في الثانية " لمن عزم الامور".. و سر التوكيد باللام في الثانية أنه صبر مضاعف ، لأنه صبر على عدوان بشري لك فيه غريم ، و أنت مطالب فيه بالصبر و المغفرة و هو أمر أشد على النفس من الصبر على القضاء الإلهي الذي لا حيلة فيه ..
و نفس هذه الملاحظة عن "اللام " نجدها مرة أخرى في آيتين عن إنزال المطر و إنبات الزرع :
( "أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ، قال تعالى: "لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا " )"أي مالحا"
و في آية ثانية :
( "أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ")
في الآية الأولى "جعلناه " أجاجا.. و في الآية الثانية "لجعلناه " حطاما واللام جاءت في الثانية لضرورة التوكيد ، لأن هناك من سوف يدعى بأنه يستطيع أن يتلف الزرع كما يتلفه الخالق ، و يجعله حطاما .. في حين لن يستطيع أحد من البشر أن يدعى أن في إمكانه أن ينزل من سحب السماء مطرا مالحا فلا حاجة إلى توكيد باللام ..
و نفس هذه الدقة نجدها في وصف إبراهيم لربه في القرآن بأنه :
("وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ" )
( "وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ" )
فجاء بكلمة"هو" حينما تكلم عن "الإطعام " ليؤكد الفعل الإلهي ، لأنه سوف يدعي الكل أنهم يطعمونه .. و يسقونه ، على حين لن يدّعي أحد بأنه يميته و محييه كما يميته الله ويحييه .
و نجد هذه الدقة أيضاً حينما يخاطب القرآن المسلمين قائلاً :
( "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ")
و يخاطب اليهود قائلاً :
(" اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ")
فاليهود ماديون لا يذكرون الله إلا في النعمة و الفائدة و المصلحة و المسلمون أكثر شفافية و يفهمون معنى أن يذكر الله لذاته لا لمصلحة ..
و بنفس المعنى يقول الله للخاصة من أولى الألباب :
(" وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ" )
و يقول للعوام :
( " فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ")
لأن العوام لا يردعهم إلا النار ، أما الخاصة فهم يعلمون أن الله أقوى من كل نار ، و أنه يستطيع أن يجعل النار برداً و سلاماً إن شاء .
و نجد مثل هذه الدقة البالغة في اختيار اللفظ في كلام إبليس حينما أقسم على ربه قائلاً :
( "قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" )
أقسم إبليس بالعزة الإلهية و لم يقسم بغيرها ، فأثبت بذلك علمه و ذكاءه ، لأن هذه العزة الإلهية هي التي اقتضت استغناء الله عن خلقه ، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر، و لن يضروا الله شيئاً ، فهو العزيز عن خلقه ، الغني عن العالمين .
و يقول الله في حديثه القدسى :
(هؤلاء في النار و لا أبالي ، و هؤلاء في الجنة ولا أبالي )
و هذا مقتضى العزة الإلهية .. وهي الثغرة الوحيدة التي يدخل منها إبليس ، فهو بها يستطيع أن يضل و يوسوس ، لأن الله لن يقهر أحداً اختار الكفر على الإيمان .. و لهذا قال "فبعزتك " لأغوينهم أجمعين .
( " لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ")
ذكر الجهات الأربع ، و لم يذكر من فوقهم و لا من تحتهم .. لأن "فوق " الربوبية ، و " تحت " تواضع العبودية .. و من لزم مكانه الأدنى من ربه الأعلى لن يستطيع الشيطان أن يدخل عليه .
ثم ذكر إبليس أن مقعده المفضل للإغواء سوف يكون الصراط المستقيم .. على طريق الخير و على سجادة الصلاة ، لأن تارك الصلاة و السكير و العربيد ليس في حاجة إلى إبليس ليضله ، فقد تكفلت نفسه بإضلاله ، إنه إنسان خرب .. و إبليس لص ذكي ، لا يحب أن يضيع وقته بأن يحوم حول البيوت الخربة .
مثال آخر من أمثلة الدقة القرآنية نجده في سبق المغفرة على العذاب و الرحمة على الغضب في القرآن .. فالله في "الفاتحة" هو الرحمن الرحيم قبل أن يكون مالك يوم الدين .. وهو دائماً يوصف بأنه يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء ... تأتى المغفرة أولاً قبل العذاب إلا في مكانين في آية قطع اليد :
( " يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ")
لأن العقوبة بقطع اليد عذاب دنيوي .. تليه مغفرة أخروية .. و في كلام عيسى يوم القيامة عن المشركين الذين عبدوه من دون الله .. فيقول لربه :
( "إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" )
فلا يقول فإنك أنت الغفور الرحيم تأدباً .. و يذكر ألم العذاب قبل المغفرة .. لعظم الإثم الذي وقعوا فيه .
و نجد هذه الدقة القرآنية مرة أخرى في تناول القرآن للزمن .. فالمستقبل يأتي ذكره على لسان الخالق على أنه ماض .. فأحداث يوم القيامة ترد كلها على أنها ماض :
( "وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ")
( "وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ" )
( "وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ" )
( "وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ")
و السر في ذلك أن كل الأحداث حاضرها و مستقبلها قد حدثت في علم الله و ليس عند الله زمن يحجب عنه المستقبل ، فهو سبحانه فوق الزمان والمكان ، و لهذا نقرأ العبارة القرآنية أحياناً فنجد أنها تتحدث عن زمانين مختلفين ، و تبدو في ظاهرها متناقضة مثل :
(" أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ")
فالأمر قد أتى و حدث في الماضي .
لكن الله يخاطب الناس بألا يستعجلوه كما لو كان مستقبلًا لم يحدث بعد .. و السر كما شرحنا أنه حدث في علم الله ، لكنه لم يحدث بعد في علم الناس ، ولا تناقض .. و إنما دقة و إحكام ، و خفاء و استسرار ، و صدق في المعاني العميقة .
هذه بعض الأمثلة للدقة البالغة و النحت المحكم في بناء العبارة القرآنية و في اختيار الألفاظ و استخدام الحروف لا زيادة و لا نقص ، و لا تقديم و لا تأخير ، إلا بحساب و ميزان ، و لا نعرف لذلك مثيلاً في تأليف أو كتاب مؤلف ، و لا نجده إلا في القرآن .
أما لمحات العلم فى القران وعجائب الآيات الكونية التى أتت
بالأسرار والخفايا التى لم تكتشف إلا فى عصرنا، والتى لم يعرفهامحمد
! ولا عصره فهى موضوع آخر يطول، وله جلسة أخرى .
من كتاب / حوار مع صديقي الملحد
للدكتور / مصطفى محمود( رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ حوار مع صديقي الملحد
لماذا لا يكون القرآن من تأليف محمد ؟
قال صاحبي وهو ينتقي عباراته : -
لا أريد أن أجرحك فأنا أعلم اعتزازك بالقرآن و أنا معك في أنه كتاب قيم . و لكن لماذا لا يكون من تأليف محمد ؟ . إن رجلاً في عظمة محمد لا يستغرب منه أن يضع كتاباً في عظمة القرآن . سوف يكون هذا منطقياً أكثر من أن نقول إن الله أنزله .
فإنا لم نر الله ينزل من السماء شيئاً . و نحن في عصر من الصعب أن نقنع فيه إنساناً بأن هناك ملاكاً اسمه جبريل نزل من السماء بكتاب ليوحي به إلى أحد .
قلت في هدوء : - بل نحن في عصر يسهل فيه تماماً أن نصدق بأن هناك ملائكة لا ترى ، و بأن الحقائق يمكن أن تلقى إلى الإنسان وحياً . فهم يتكلمون اليوم عن أطباق طائره تنزل على الأرض . كواكب بعيدة و أشعة غير منظورة تقتل ، و أمواج لاسلكية تحدد الأهداف و تضربها . وصور تتحول إلى ذبذبات في الهواء ثم تستقبل في أجهزة صغيرة كعلب التبغ . و كاميرات تصور الأشباح . و عيون ترى في الظلام . و رجل يمشى على القمر . و سفينة تنزل على المريخ . لم يعد غريباً أن نسمع أن الله أرسل ملكاً خفياً من ملائكته. و أنه ألقى بوحيه على أحد أنبيائه . لقد أصبح وجود جبريل اليوم حقيقة من الدرجة الثانية . و أقل عجباً و غرابة مما نرى و نسمع كل يوم .
أما لماذا لا نقول إن القرآن من تأليف محمد عليه الصلاة و السلام . فلأن القرآن بشكله و عباراته و حروفه و ما احتوى عليه من علوم و معارف و أسرار و جمال بلاغي و دقة لغوية هو مما لا يدخل في قدرة بشر أن يؤلفه . فإذا أضفنا إلى ذلك أن محمداً عليه الصلاة والسلام كان أمياً ، لا يقرأ و لا يكتب و لم يتعلم في مدرسة و لم يختلط بحضارة ، و لم يبرح شبه الجزيرة العربية ، فإن احتمال الشك و احتمال إلقاء هذا السؤال يغدو مستحيلاً . و الله يتحدى المنكرين ممن زعموا أن القرآن مؤلف :
استعينوا بالجن و الملائكة وعباقرة الإنس وأتوا بسورة من مثله و مازال التحدي قائماً و لم يأت أحد بشيء .. إلا ببعض عبارات مسجوعة ساذجة سموها ˝سورة من مثله˝.. أتى بها أناس يعتقدون أن القرآن مجرد كلام مسجوع . و لكن سورة من مثله. أي بها نفس الإعجاز البلاغي و العلمي . وإذا نظرنا إلى القرآن في حياد و موضوعية فسوف نستبعد تماماً أن يكون محمد عليه الصلاة و السلام هو مؤلفه .
أولاً : لأنه لو كان مؤلفه لبث فيه همومه و أشجانه ، و نحن نراه في عام واحد يفقد زوجه خديجة و عمه أبا طالب و لا سند له في الحياة غيرهما . و فجيعته فيهما لا تقدر . و مع ذلك لا يأتي لهما ذكر في القرآن و لا بكلمة . و كذلك يموت ابنه إبراهيم و يبكيه ، و لا يأتى لذلك خبر في القرآن . القرآن معزول تماماً عن الذات المحمدية .
بل إن الآية لتأتي مناقضة لما يفعله محمد و ما يفكر فيه . و أحياناً تنزل الآية معاتبة له كما حدث بصدد الأعمى الذي انصرف عنه النبي إلى أشراف قريش :
لا يوجد نبي يتطوع من تلقاء نفسه ليقول لأتباعه لا أدرى ما يفعل بي و لا بكم . لا أملك لنفسي ضراً و لا نفعاً . و لا أملك لكم ضراً و لا نفعاً .
فإن هذا يؤدى إلى أن ينفض عنه أتباعه . و هذا ما حدث فقد اتخذ اليهود هذه الآية عذرا ليقولوا . ما نفع هذا النبي الذي لا يدرى ماذا يفعل به و لا بنا . هذا رجل لا جدوى فيه .
مثل هذه الآيات ما كان يمكن أن يؤلفها النبي لو كان يضع القرآن من عند نفسه .
ثانياً : لو نظرنا بعد ذلك في العبارة القرآنية لوجدنا أنها جديدة منفردة في رصفها و بنائها و معمارها ليس لها شبيه فيما سبق من أدب العرب و لا شبيه فيما أتى لاحقاً بعد ذلك . حتى لتكاد اللغة تنقسم إلى شعر و نثر و قرآن . فنحن أمام كلام هو نسيج وحده لا هو بالنثر و لا بالشعر .
فموسيقى الشعر تأتى من الوزن و من التقفية فنسمع الشاعر ابن الأبرص الأسدى ينشد:
أقفر من أهله عبيد
فليس يبدى و لا يعيد
هنا الموسيقى تخرج من التشطير و من التقفية على الدال الممدودة ، فهي موسيقى خارجية . أما موسيقى القرآن فهي موسيقى داخلية:
(˝ وَالضُّحَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى˝ )
لا تشطير و لا تقفية في هذه العبارة البسيطة ، ولكن الموسيقى تقطر منها . من أين؟ إنها موسيقى داخلية .
اسمع هذه الآيات :
( ˝قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا˝ [مريم : 4]
كلمات مثل ˝صرصراً˝. ˝و منقعر˝. كل كلمة كأنها جلمود صخر . فإذا جاءت الآية لتروى خبراً هائلاً كما في نهاية الطوفان تقاصرت العبارات و كأنها إشارات ˝ مورس ˝ التلغرافية .
و أصبحت الآية كلها كأنها تلغراف مقتضب له وقع هائل :
قال تعالى: ˝وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ˝ [هود : 44]
هذا التلون في نحت الألفاظ و في بناء العبارة و في إيقاع الكلمات مع المعاني و المشاعر . يبلغ في القرآن الذروة و يأتي دائماً منساباً لا تكلف فيه و لا تعمل .
ثالثاً : إذا مضينا في التحليل أكثر فإنا سنكتشف الدقة البالغة و الإحكام المذهل . كل حرف في مكانه لا تقديم و لا تأخير . لا تستطيع أن تضع كلمة مكان كلمة ، و لا حرفاً مكان حرف . كل لفظة تم اختيارها من مليون لفظة بميزان دقيق .
و سنرى أن هذه الدقة البالغة لا مثيل لها في التأليف . انظر إلى هذه الكلمة ˝ لواقح ˝ في الآية : قال تعالى: (˝وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ˝ )
و كانوا يفسرونها في الماضي على المعنى المجازي بمعنى أن الرياح تثير السحب فتسقط المطر فيلقح الأرض بمعنى ˝ يخصبها ˝ ثم عرفنا اليوم أن الرياح تسوق السحب إيجابية التكهرب و تلقي بها في أحضان السحب سالبة التكهرب فيحدث البرق و الرعد والمطر . و هي بهذا المعنى ˝لواقح ˝ أيضا ، و نعرف الآن أيضاً أن الرياح تنقل حبوب اللقاح من زهرة إلى زهرة فتلقحها بالمعنى الحرفي ، ون عرف أخيراً أن المطر لا يسقط إلا بتلقيح قطيرات الماء بذرات الغبار فتنمو القطيرات حول هذه الأنوية من الغبار و تسقط مطراً . فها نحن أولاء أمام كلمة صادقة مجازياً و حرفياً وعلمياً ، ثم هي بعد ذلك جميلة فنياً و أدبياً و ذات إيقاع حلو .
هنا نرى منتهى الدقة في انتقاء اللفظة و نحتها ، و في آية أخرى :
قال تعالى: ˝وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ˝
كلمة ˝ تدلوا ˝.
مع أن الحاكم الذي تلقى إليه الأموال في الأعلى و ليس في الأسفل . لا . إن القران يصحح الوضع ، فاليد التي تأخذ الرشوة هي اليد السفلى و لو كانت يد الحاكم . و من هنا جاءته كلمة ˝ تدلوا بها إلى الحكام ˝ لتعبر في بلاغة لا مثيل إلا عن دناءة المرتشي و سفله .
و في آية الجهاد :
قال تعالى: ˝ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ˝
القرآن يستعمل كلمة ˝ اثَّاقلتم ˝ بدلا من تثاقلتم . يدمج الحروف إدماجاً ، و يلصقها إلصاقاً ليعبر عن جبن الجبناء الذين يلتصقون بالأرض ( و يتربسون ) فيها من الخوف إذا دعوا إلى القتال ، فجاءت حروف الكلمة بالمثل (متربسة) .
و في آية قتل الأولاد من الفقر نراها جاءت على صورتين :
قال تعالى: ˝ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ˝
و الفرق بين الآيتين لم يأتي اعتباطاً ، و إنما جاء لأسباب محسوبة . فحينما يكون القتل من إملاق فإن معناه أن الأهل فقراء في الحاضر ، فيقول : نحن ( نرزقكم ) و إياهم .
و حينما يكون قتل الأولاد خشية إملاق فإن معناه أن الفقر هو احتمال في المستقبل و لذا تشير الآية إلى الأبناء فتقول نحن ˝نرزقهم ˝ و إياكم .
مثل هذه الفروق لا يمكن أن تخطر على بال مؤلف . و في حالات التقديم و التأخير نجد دائماً أنه لحكمة ، نجد أن السارق مقدم على السارقة في آية السرقة ، في حين أن الزانية مقدمة على الزانى في آية الزنى . و ذلك لسبب واضح ، أن الرجل أكثر إيجابية في السرقة . أما في الزنى فالمرأة هي التي تأخذ المبادرة ، من لحظة وقوفها أمام المرآة تضع ˝ البارفان ˝ و لمسات ˝ التواليت ˝ و تختار الفستان أعلى الركبة فإنها تنصب الفخاخ للرجل الموعود .
دائما السمع أولاً . و لا شك أن السمع أكثر إرهافاً و كمالاً من البصر . إننا نسمع الجن و لا نراه . و الأنبياء سمعوا الله و كلموه و لم يره أحد .
و قد تلقى محمد القرآن سمعاً . والأم تميز بكاء ابنها في الزحام و لا تستطيع أن تميز وجهه . و السمع يصاحب الإنسان أثناء النوم فيظل صاحياً في حين تنام عيناه ، و من حاول تشريح جهاز السمع يعلم أنه أعظم دقة و إرهافاً من جهاز البصر .
و الأمثلة على هذا التقديم كثيرة و السر أن المال عند أكثر الناس أعز من الولد . ثم الدقة و الخفاء و اللطف في الإعراب .
انظر إلى هذه الآية :
( ˝وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ˝ )
مرة عوملت الطائفتان على أنهما جمع ˝اقتتلوا˝ و مرة على أنهما مثنى ˝فأصلحوا بينهما˝ والسر لطيف . فالطائفتان في القتال تلتحمان وتصبحان جمعاً من الأذرع المتضاربة . في حين أنهما في الصلح تتفصلان إلى اثنين . و ترسل كل واحدة عنها مندوباً ، و من هنا قال : و إن طائفتان من المؤمنين ˝اقتتلوا˝ فأصلحوا ˝بينهما˝!
حتى حروف الجر و الوصل و العطف تأتى و تمتنع في القرآن لأسباب عميقة ، و بحساب دقيق محكم . مثلاً تأتي كلمة ˝يسألونك ˝ في أماكن عديدة من القرآن:
هنا لأول مرة جاءت ˝فقل˝ بدلاً من ˝قل ˝. و السبب أن كل الأسئلة السابقة كانت قد سئلت بالفعل ، أما سؤال الجبال فلم يكن قد سئل بعد ، لأنه من أسرار القيامة ، و كأنما يقول الله : فإذا سألوك عن الجبال ˝فقل ˝. فجاءت الفاء زائدة لسبب محسوب .
أما في الآية :
(˝وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاع ˝)
هنا لا ترد كلمة ˝قل ˝ لأن السؤال عن ذات الله . و الله أولى بالإجابة عن نفسه .
كذلك الضمير أنا و نحن .
يتكلم الله بضمير الجمع حيثما يكون التعبير عن ˝فعل ˝ إلهي تشترك فيه جميع الصفات الإلهية كالخلق ، و إنزال القرآن و حفظه :
˝ونحن ˝ هنا تعبر عن جمعية الصفات الإلهية و هي تعمل في إبداع عظيم مثل عملية الخلق .
أما إذا جاءت الآية في مقام مخاطبة بين الله وعبده كما في موقف المكالمة مع موسى . تأتي الآية بضمير المفرد
الصبر في الأولى ˝من عزم الأمور˝ و في الثانية ˝ لمن عزم الامور˝. و سر التوكيد باللام في الثانية أنه صبر مضاعف ، لأنه صبر على عدوان بشري لك فيه غريم ، و أنت مطالب فيه بالصبر و المغفرة و هو أمر أشد على النفس من الصبر على القضاء الإلهي الذي لا حيلة فيه .
و نفس هذه الملاحظة عن ˝اللام ˝ نجدها مرة أخرى في آيتين عن إنزال المطر و إنبات الزرع :
و في آية ثانية :
( ˝أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا ˝)
في الآية الأولى ˝جعلناه ˝ أجاجا. و في الآية الثانية ˝لجعلناه ˝ حطاما واللام جاءت في الثانية لضرورة التوكيد ، لأن هناك من سوف يدعى بأنه يستطيع أن يتلف الزرع كما يتلفه الخالق ، و يجعله حطاما . في حين لن يستطيع أحد من البشر أن يدعى أن في إمكانه أن ينزل من سحب السماء مطرا مالحا فلا حاجة إلى توكيد باللام .
و نفس هذه الدقة نجدها في وصف إبراهيم لربه في القرآن بأنه :
(˝وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ˝ )
( ˝وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ˝ )
فجاء بكلمة˝هو˝ حينما تكلم عن ˝الإطعام ˝ ليؤكد الفعل الإلهي ، لأنه سوف يدعي الكل أنهم يطعمونه . و يسقونه ، على حين لن يدّعي أحد بأنه يميته و محييه كما يميته الله ويحييه .
و نجد هذه الدقة أيضاً حينما يخاطب القرآن المسلمين قائلاً :
( ˝فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ˝)
و يخاطب اليهود قائلاً :
(˝ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ˝)
فاليهود ماديون لا يذكرون الله إلا في النعمة و الفائدة و المصلحة و المسلمون أكثر شفافية و يفهمون معنى أن يذكر الله لذاته لا لمصلحة .
و بنفس المعنى يقول الله للخاصة من أولى الألباب :
(˝ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ˝ )
و يقول للعوام :
( ˝ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ˝)
لأن العوام لا يردعهم إلا النار ، أما الخاصة فهم يعلمون أن الله أقوى من كل نار ، و أنه يستطيع أن يجعل النار برداً و سلاماً إن شاء .
و نجد مثل هذه الدقة البالغة في اختيار اللفظ في كلام إبليس حينما أقسم على ربه قائلاً :
أقسم إبليس بالعزة الإلهية و لم يقسم بغيرها ، فأثبت بذلك علمه و ذكاءه ، لأن هذه العزة الإلهية هي التي اقتضت استغناء الله عن خلقه ، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر، و لن يضروا الله شيئاً ، فهو العزيز عن خلقه ، الغني عن العالمين .
و يقول الله في حديثه القدسى :
(هؤلاء في النار و لا أبالي ، و هؤلاء في الجنة ولا أبالي )
و هذا مقتضى العزة الإلهية . وهي الثغرة الوحيدة التي يدخل منها إبليس ، فهو بها يستطيع أن يضل و يوسوس ، لأن الله لن يقهر أحداً اختار الكفر على الإيمان . و لهذا قال ˝فبعزتك ˝ لأغوينهم أجمعين .
( ˝ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ˝)
ذكر الجهات الأربع ، و لم يذكر من فوقهم و لا من تحتهم . لأن ˝فوق ˝ الربوبية ، و ˝ تحت ˝ تواضع العبودية . و من لزم مكانه الأدنى من ربه الأعلى لن يستطيع الشيطان أن يدخل عليه .
ثم ذكر إبليس أن مقعده المفضل للإغواء سوف يكون الصراط المستقيم . على طريق الخير و على سجادة الصلاة ، لأن تارك الصلاة و السكير و العربيد ليس في حاجة إلى إبليس ليضله ، فقد تكفلت نفسه بإضلاله ، إنه إنسان خرب . و إبليس لص ذكي ، لا يحب أن يضيع وقته بأن يحوم حول البيوت الخربة .
مثال آخر من أمثلة الدقة القرآنية نجده في سبق المغفرة على العذاب و الرحمة على الغضب في القرآن . فالله في ˝الفاتحة˝ هو الرحمن الرحيم قبل أن يكون مالك يوم الدين . وهو دائماً يوصف بأنه يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء .. تأتى المغفرة أولاً قبل العذاب إلا في مكانين في آية قطع اليد :
فلا يقول فإنك أنت الغفور الرحيم تأدباً . و يذكر ألم العذاب قبل المغفرة . لعظم الإثم الذي وقعوا فيه .
و نجد هذه الدقة القرآنية مرة أخرى في تناول القرآن للزمن . فالمستقبل يأتي ذكره على لسان الخالق على أنه ماض . فأحداث يوم القيامة ترد كلها على أنها ماض :
و السر في ذلك أن كل الأحداث حاضرها و مستقبلها قد حدثت في علم الله و ليس عند الله زمن يحجب عنه المستقبل ، فهو سبحانه فوق الزمان والمكان ، و لهذا نقرأ العبارة القرآنية أحياناً فنجد أنها تتحدث عن زمانين مختلفين ، و تبدو في ظاهرها متناقضة مثل :
(˝ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ˝)
فالأمر قد أتى و حدث في الماضي .
لكن الله يخاطب الناس بألا يستعجلوه كما لو كان مستقبلًا لم يحدث بعد . و السر كما شرحنا أنه حدث في علم الله ، لكنه لم يحدث بعد في علم الناس ، ولا تناقض . و إنما دقة و إحكام ، و خفاء و استسرار ، و صدق في المعاني العميقة .
هذه بعض الأمثلة للدقة البالغة و النحت المحكم في بناء العبارة القرآنية و في اختيار الألفاظ و استخدام الحروف لا زيادة و لا نقص ، و لا تقديم و لا تأخير ، إلا بحساب و ميزان ، و لا نعرف لذلك مثيلاً في تأليف أو كتاب مؤلف ، و لا نجده إلا في القرآن .
أما لمحات العلم فى القران وعجائب الآيات الكونية التى أتت
بالأسرار والخفايا التى لم تكتشف إلا فى عصرنا، والتى لم يعرفهامحمد
! ولا عصره فهى موضوع آخر يطول، وله جلسة أخرى .
من كتاب / حوار مع صديقي الملحد
للدكتور / مصطفى محمود( رحمه الله ). ❝
❞ عايز عيالك يطلعوا زي العسل فل أذكياء عاقلين واعيين شاكرين شاطرين إيجابيين
عندهم قيم و مبادئ .. ترميهم في الصحراء و متخافش ..
عارفين ربنا و عندهم أخلاق مع نفسهم و اهلهم و الناس ...
يبقا انت الاول كدا مع نفسك
اسمع سورة #لقمان
و اقرا سورة #لقمان
و احفظ سورة #لقمان
و افهم سورة #لقمان
و تدبر سورة #لقمان
ثم اقرا ليهم سورة #لقمان و خليهم يسمعوها و يحفظوها و يفهموها و يتدبروها
سورة #لقمان
#يا_بُنَىّ. ❝ ⏤صفاء فوزي
❞ عايز عيالك يطلعوا زي العسل فل أذكياء عاقلين واعيين شاكرين شاطرين إيجابيين
عندهم قيم و مبادئ . ترميهم في الصحراء و متخافش .
عارفين ربنا و عندهم أخلاق مع نفسهم و اهلهم و الناس ..