❞ في إحدي الڨلل الفخمة في مصر الجديدة يقف رجل بائس أمام صاحب الڨيلافزع عم رجب وبدأ قلبه يخفق بشدة وأحس بأن قدميه لا تحمله...وأثناء ذلك أخرج ذلك الرجل من جيبه ورقة مكتوب فيها خمس كلمات فقط ( لا تاتي غدا، عقاب شديد).......
وعيناه تملأهما الدموع ويتوسل إليه….
الرجل بصوت متهدج: أرجوك يا أخي، يا إبن أمي وأبي، إعطني حقي في ميراث أبي، لدي ديون يجب أن أسددها سريعا حتي لا أسجن، وقد أعلنت إفلاسي…
الأخ ولم تتغير ملامحه: لقد باع والدي لي كل شئ،وكل تركته الآن من حقي، لقد تعبت وتحملت المسئولية لوحدي حتي أصل إلي ما أنا فيه.
الرجل: لكن هذا شرع الله تعالي ولنا حق في تركة والدنا، أعطنا حتي نصف ميراثنا ونحن متنازلين عن الباقي ثمنا لتعبك كما تقول، ما رأيك؟
الأخ بسخرية: وهل ستمن علي بمالي، لن أعطيكم قرشا واحدا، ثم نظر إليه بحدة وقال: والآن لتذهب من حيث جئت،فلدي أشغالا كثيرة، وأرجو ألا تأتي مرة أخري.
الرجل بحزن شديد وقد رفع بصره إلي السماء: حسبنا الله ونعم الوكيل، وكررها عدة مرات ثم دعا: يا منتقم يا جبار، رد لنا حقنا يا الله.
وخرج هائما علي وجهه لم يدري إلي أين يذهب، فقد تراكمت الديون عليه وزادت أعبائه، والدنيا أصبحت سوداء في وجهه وقد استولى أخيه علي كل شئ و أجبر والده على التنازل عن كل شئ قبل أن يموت دون أن يضع أدنى إعتبار لباقي أبنائه…..
وأثناء سيره في أحد الشوارع الجانبية، فوجئ برجل أمامه، إنه نفس الرجل يرتدي معطفه الأصفر،وعينيه الزرقاوتين تلمعان بشدة…...أصيب الرجل برعب شديد،وكاد أن يفقد الوعي، لكن الرجل المرعب بادره بورقة مكتوب فيها ( سوف تأخذ عزاء أخيك غدا).....
نظر إلى الورقة بعينين زائغتين لبرهة ثم نظر أمامه فإذا به قد اختفى تماما…….. ❝ ⏤عمرو الضوي
❞ في إحدي الڨلل الفخمة في مصر الجديدة يقف رجل بائس أمام صاحب الڨيلافزع عم رجب وبدأ قلبه يخفق بشدة وأحس بأن قدميه لا تحمله..وأثناء ذلك أخرج ذلك الرجل من جيبه ورقة مكتوب فيها خمس كلمات فقط ( لا تاتي غدا، عقاب شديد)....
وعيناه تملأهما الدموع ويتوسل إليه….
الرجل بصوت متهدج: أرجوك يا أخي، يا إبن أمي وأبي، إعطني حقي في ميراث أبي، لدي ديون يجب أن أسددها سريعا حتي لا أسجن، وقد أعلنت إفلاسي…
الأخ ولم تتغير ملامحه: لقد باع والدي لي كل شئ،وكل تركته الآن من حقي، لقد تعبت وتحملت المسئولية لوحدي حتي أصل إلي ما أنا فيه.
الرجل: لكن هذا شرع الله تعالي ولنا حق في تركة والدنا، أعطنا حتي نصف ميراثنا ونحن متنازلين عن الباقي ثمنا لتعبك كما تقول، ما رأيك؟
الأخ بسخرية: وهل ستمن علي بمالي، لن أعطيكم قرشا واحدا، ثم نظر إليه بحدة وقال: والآن لتذهب من حيث جئت،فلدي أشغالا كثيرة، وأرجو ألا تأتي مرة أخري.
الرجل بحزن شديد وقد رفع بصره إلي السماء: حسبنا الله ونعم الوكيل، وكررها عدة مرات ثم دعا: يا منتقم يا جبار، رد لنا حقنا يا الله.
وخرج هائما علي وجهه لم يدري إلي أين يذهب، فقد تراكمت الديون عليه وزادت أعبائه، والدنيا أصبحت سوداء في وجهه وقد استولى أخيه علي كل شئ و أجبر والده على التنازل عن كل شئ قبل أن يموت دون أن يضع أدنى إعتبار لباقي أبنائه….
وأثناء سيره في أحد الشوارع الجانبية، فوجئ برجل أمامه، إنه نفس الرجل يرتدي معطفه الأصفر،وعينيه الزرقاوتين تلمعان بشدة…..أصيب الرجل برعب شديد،وكاد أن يفقد الوعي، لكن الرجل المرعب بادره بورقة مكتوب فيها ( سوف تأخذ عزاء أخيك غدا)...
نظر إلى الورقة بعينين زائغتين لبرهة ثم نظر أمامه فإذا به قد اختفى تماما……. ❝
❞ وظللت أنا ساهرا حتي وجدت جسده وهو نائم علي ظهره ينتفض في الفراش، وقفت علي قدمي بسرعة محاولا تهدئته لكنه فتح عينيه ونظر لي والتقت عينه بعيني.. وشعرت بقلبي ينقبض، نظرته لي لم ينظرها لأحد في حياته، نظرة يستنجد بي بها وأنا اشعر بقلبي ينقبض أكثر..
\"متخافش ياجدو أنا هنا\"
أقولها بصوت متهدج فيزداد جسده في الارتعاش وتقع عيني علي قدمه فأجد انها تتصلب فجأة وتتوقف عن الحركة فأنظر لعينيه وأنا ألقنه الشهادتين.. ولكنه أمسك رسغي بعدها وقبض عليه ثم هدأت نظرة عينيه فجأة وهدأ جسده ورأسه يميل يمينا علي الوسادة وبعض قطرات من الدماء تتساقط من جانب فمه.
ما هذا؟ هل مات؟ أين هو الأن؟ أين أنت ياجدي؟
ماذا شعرت وأنت في سكرات الموت؟
ماذا شاهدت؟ لماذا نظرت لي هكذا؟ لقد كنت أنا السبب المباشر في موتك.. أنا أعرف أنه قدرك لكن الأمور تجري بأسباب وأنا كنت السبب، أنا قاتلك ياجدي..نهايتك كانت علي ايدي أنا... ❝ ⏤حسن الجندى
❞ وظللت أنا ساهرا حتي وجدت جسده وهو نائم علي ظهره ينتفض في الفراش، وقفت علي قدمي بسرعة محاولا تهدئته لكنه فتح عينيه ونظر لي والتقت عينه بعيني. وشعرت بقلبي ينقبض، نظرته لي لم ينظرها لأحد في حياته، نظرة يستنجد بي بها وأنا اشعر بقلبي ينقبض أكثر.
˝متخافش ياجدو أنا هنا˝
أقولها بصوت متهدج فيزداد جسده في الارتعاش وتقع عيني علي قدمه فأجد انها تتصلب فجأة وتتوقف عن الحركة فأنظر لعينيه وأنا ألقنه الشهادتين. ولكنه أمسك رسغي بعدها وقبض عليه ثم هدأت نظرة عينيه فجأة وهدأ جسده ورأسه يميل يمينا علي الوسادة وبعض قطرات من الدماء تتساقط من جانب فمه.
ما هذا؟ هل مات؟ أين هو الأن؟ أين أنت ياجدي؟
ماذا شعرت وأنت في سكرات الموت؟
ماذا شاهدت؟ لماذا نظرت لي هكذا؟ لقد كنت أنا السبب المباشر في موتك. أنا أعرف أنه قدرك لكن الأمور تجري بأسباب وأنا كنت السبب، أنا قاتلك ياجدي.نهايتك كانت علي ايدي أنا. ❝
❞ أغسطس القاتل
ودرجة الحرارة أربعون درجة ، و الزنزانة متر فى متر، و السجين يدور حول نفسه منذ ساعات ثم ينهار فى ركن ثم يتجمد كتمثال يحملق أمامه بأعين ثابتة زجاجية تخترق الجدران و تخترق الزمن . إنه فى إنتظار من يفتح الباب و يقوده لتنفيذ حكم الإعدام ..
ربما يحدث هذا اليوم و ربما يحدث غداً .. وربما يحدث الأن .
وشريط حياته يمر أمام عينه سريعاً .
إنه صيدلى ورجل أعملا ناجح .. له صيدلية فى أكبر ميادين الكويت يكسب منها ثمانية آلاف جنيه شهرياً .. ولا يحتاج منه هذا المكسب الضخم أكثر من العمل بضع ساعات هو وزوجته فى الصيدلية كل يوم .
وقد اشتغل فى بيع وشراء الأراضى فارتفع رصيده فى سنوات من عدة آلاف إلى عدة ملايين من الدنانير .
ثم اشتغل فى بناء و بيع الفيلات و العمارات .. ثم فى الأدوات الكهربائية و الأثاث ثم فى تجارة العربات القديمة .. فتضاعفت ثروته إلى أرقام فلكية .
وتصور أنه لم يعد ينقصه هو وزجته شئ ..فكل ما يرغبان فيه يحصلان عليه بإشارة من طرف البنان .. وكل ما يحلمان به يحققانه فى أقل من إغماضة عين .
هكذا كان يتصور حتى شهور قليلة حينما حدثت الحادثة الرهيبة .
وقد بدأت الحادثة بملاحظة بسيطة هى تناقص تدريجى فى أمبولات المورفين بالصيدلية و بإعادة الحسابات اكتشف أن هناك تناقصاً مماثلاً فى أمبولات الكوديين و اللومينال و الكاربيتال و فى عدد من المخدرات الممنوع تداولها بدون روشتات و لم يكن أحد يملك مفتاح دولاب المخدرات سواء هو وزوجته .
ولا يد غريبة تعمل معهما بالصيدلية ..
ولم يكن الشك يخرج من أحد اثنين .. إما هو .. و إما زوجته .
وكانت حالتها النفسية فى السنوات الأخيرة تشير إليها بإصبع الإتهام .. نوبات الخدر و الذهول و الرغبة فى الوحدة ، ثم نوبات التوتر و العصبية .. ثم الرغبة فى النوم .. ثم الإمساك المزمن و فقدان الشهية و الكآبة و السوداوية .
إنها هى إذن ... و لكن ما السر ؟؟؟
و كتم الأمر فى نفسه و لم يشأ أن يسألها .. و راح يتجسس ...
و اكتشف أنها تبعث بخطابات منتظمة إلى القاهرة بمعدل خطاب كل ثلاثة أو أربع أيام وراح يفتش فى أدراجها ، وعثر على أحد هذه الخطابات .. وكانت ما تزال تكتب فى صفحته الأخيرة .. و لم تنته من بعد .
ووقف شعر رأسه و تصبب منه العرق بارداً و هو يقرأ ..
كان خطاب حب ملتهب به سطورعن علاقة مكشوفة وتفاصيل عن اللذة المحمومة التى غمرتها من الرأس إلى القدم حينما ذاقت أول قبلة .. وكاد قلبه يتوقف وهو يقرأ كلماتها :
" صدقنى لم أشعر بأى شعور بين ذراعى زوجى حينما أتخيل أنك هو " و كانت السطور تعود فتحلق إلى نبرة غامضة شرية حينما تقول : " ما أجمل اللحظة التى لا مس فيها سرك سرى . وانطوى نورك نورى و شعرت أنى ذبت تماماً وعدت كما بدأت .. مجرد لا شئ " ..
وأعاد الخطاب إلى الدرج و يده ترتجف كأنما أصابه مس من جنون ..
و لكنه كتم الأمر و لم يشأ أن يفاتحها و طار إلى القاهرة إلى عنوان الرجل .. وكانت المفاجئة الثانية الصاعقة الثانية .. فقد اكتشف أن الرجل مات من خمس عشرة سنة فى حادث تصادم فى طريق مصر الأسكندرية الصحراوى .. أى أنه مات قبل زواجه منها ...
هى إذن قصة حب مع رجل ميت . مع شبح .. مع ماض سحيق ..
ولكن ما هذا التجسيد الغريب المثير للمشاعر .. وكأنها تخاطب أعضاء تلمسها .. وتباشر حالات حية .. وتعيش فى حاضر مهيمن يملأ عليها أقطار أحاسيسها فتتكلم فى صراحة بذيئة عن ذلك الإحساس اللذيذ .. ثم يعود فيحلق بها الخيال المحموم إلى تلك النبرات الشعرية الغامضة .. عن السر الذى لا مس السر .. و النور الذى انطوى فى النور .. وعن الذوبان حتى التلاشى و العدم .
أيمكن أن يفعل ذلك هذا رجل مات و تحلل وأصبح رمة عفنة وتراباً منذ خمس عشرة سنة ؟
أم أنه أمام حالة جنون كامل ؟
تلك المرأة الضامرة الهزيلة ذات الجمال الذابل و النظرات الناعسة الأنثوية .. ذلك الكيان الحريرى فى الأربعين الذى يودع جماله ..
أتكون قد أصابها مس من صرع و قد رأت جمالها يذوى و ألقى فى وجهها بكل شئ ..
ونظرت إليه نظرات مخدورة واتسعت عيناها الناعسة الأنثوية وكأنما تيقظت من حلم ، وأشاحت بيديها كأنما تزيح الأغطية أو تنفض غبار تابوت ..
قال فى صوت متهدج :
لم فعلت هذا ؟
فأجابت فى نبرة ساهمة لكن ثابتة :
أنا أعيش حياة لا تطاق ..
أنت تملكين كل شئ ..
نحن لا نحب ما نملك ..
كل ما تحلمين به تجدينه ..
نحن لا نحلم بما نجد ، بل نحلم بالعزيز الذى لا ينال ..
ماذا ينقصك ؟؟
الحب ..
و لكنى تصورت أنك تحبين المال حتى الموت .
و هل يُِِحب الأسمنت و الحديد و الخشب ؟؟
حياتنا كانت دائمة حافلة بالنجاح .
بل كانت دائمة صدئة خالية من لمسة الشعر و كلمة الحنان ..
ما حكاية هذا الرجل .. هل كنت عشيقته قبل زواجنا ؟؟ صارحينى بالله ..
فابتسمت إبتسامة باهتة .. و قالت فى هدوء :
بل مجرد لقاء مصادفة فى إحدى المكتبات العامة .. تبادلنا فيه بعض الكلمات .. لم يلمس يدى و لم ألمس يده .. و لم أره بعد ذلك .. و إنما كنت أقرأ له فى الصحف.. كاتبا ً مشهوراً .. ثم مات فى حادث تصادم .. وقرأت نعيه كما قرأته أنت وكما قرأه كل الناس .. ثم قابلتك وتزوجنا و هذا كل شئ ..
أنت إمرأة مجنونة ..
بل إمرأة عاقلة تريد أن تعيش حياة حقيقية ..
أليست حياتنا حقيقية ؟؟
إنها مجرد كمبيالات وإيصالات وشيكات وأوراق نقدية تتراكم بدون معنى وخارج إطار هذه الكمبيالات والشيكات لاوجود لشئ لا إيمان بشئ .. لا حب لشئ .. إن حياتك هى الجنون و الــــــلامعقول ذاته و ليست حياتى .
إنظرى إلى ما فعلت بنفسك .. مورفين كوديين و هيروين و كوكايين .. أهذه الحياة .
أفعل هذا لأتحمل الحرمان و الجفاف الذى أعيشه معك .
و لماذا لم تطلبى الطلاق ؟
إنتهى العمر و هذا قدرى و لم يعد فى الإمكان البدء من جديد .. وحياتنا هى خطؤنا نحن الإثنين و ليست خطأك وحدك .. وربما كان ذنبى أكبر من ذنبك .
ذنبك أكبر!!! كيف؟؟؟؟؟
لأنى كنت أعلم جريمتى و أستمرفيها .. أما أنت فلم تكن تعلم ماذا تفعل بنفسك .. كنت تحب المال حتى الموت بالفعل .. وكنت صادقاً مع نفسك فى هذا الدأب الـــلامعقول .. أما أنا فظل فى داخلى شعور واع رافض لكل شئ .. لكنى أستمررت وحاولت أن أعالج الخطأ ثم أعالج الخطأين بخطأ ثالث .. حتى التهيت إلى تلوث كامل .
ماذا تعنين بتلوث كامل ؟
فجمعت شجاعتها و ألقت بالمفاجئة الثالثة الصاعقة .
لن أكتم عنك شيئاً .. سوف أضع عن قلبى كل أثقاله و أستريح .. سوف أقول لك كل الحقيقة .
و شعر بأنها سوف تلقى بكارثة فقال مشفقاً على نفسه و عليها :
سعاد .. أرجوك .. لا داعى .
وكنها استمرت بصوت معدنى بارد ميت كأنها مصفحة تمر فوق أضلاعه :
لقد خنتك مع كل رجل دخل هذا البيت .. وتصورت فى كل مرة أنى سوف أحب هذا الرجل أو ذاك حتى الموت ثم اكتشفت فى كل مرة أنى أكثر مللاً .. وأنى أمام شئ مضجر لا يطاق .. و لم يبق لى فى النهاية إلا ذاك الرجل الشبح الحلم العزيز الذى لا ينال ذلك الجمال الشفيف من وراء الغيب .
ثم انهارت فجأة تبكى و كأنها تتلاشى فى دموعها و تكوم هو مهزماً فى كرسيه و هو يغمغم :
أنت مجنونة .. مجنونة .
و لا يعلم كيف مضت به الأيام بعد ذلك .
و لا يستطيع أن يصف هذه الظلمة التى مازحته حتى قضت عليه .
و حينما دبر بعد ذلك قتلها بالسم لم يكن سبب القتل أنها خانته و إنما كان السبب الحقيقى أنها قتلته و أنها مزقت الستر عن حياته فأصابته بعدواها و نقلت إليه الشعور المرهف بعدم الجدوى ..
فأصبح يعيش فى خواء تام و قد سلبته الإحساس بالهدف وحرمته لذة الجمع و النجاح .. فانكشف له الجنون و الآلية و العبث فى هذا الجمع اللامعقول ــــــ وهذا الجرى وراء اللاشئ .. فأدرك أنه لم يعش وأنه لم يكن يعيش فى أى يوم .
نعم .. لقد دبر لقتلها بإصرار و تعمد و ليس بإنفعال و لا بغضب الزوج الذى أهين فى شرفه .. وإنما بإحساس قتيل يثأر من قاتله .. وبإحساس رجل فقد كل شئ .. فقد نفسه وروحه وجوهره و لذته وحافز كفاحه .
و حينما كانت تموت كانت عيناها تبتسمان .
وكانت تبدو وكأنما تخففت من أثقالها .
و قالت له فى نبرة شكر و هى تقبل يده :
هذا هو العمل الوحيد المعقول الذى صنعته فى حياتك .
و سلم نفسه للنيابة فى ذلك اليوم وكتب اعترافاً كاملاً بخط يده
وكان تعليق القاضى الذى أصدرالحكم وهورجل صوفى إلى زميله:
إن كل الذين عبروا من هنا إلى المشانق قالوا إنهم أحبوا حتى الموت ، البعض أحب الخشب و الحديد ، و البعض أحبوا السلطة ، و البعض الآ خر أحب إمرأة ، و البعض أحب نفسه ...و لا شئ من هذا الحب يروى عطشاً كلهم كانوا كمن يشرب من ماء مالح
كلما ازداد شرباً ازداد ظمئاً
و لهذا حاولت صاحبتنا أن تسعى بحبها إلى العزيز الذى لا ينال فأحبت الميت فكانت أكثر سقوطاً وصرفت وجهها عن الوجود لتسقط فى العدم .. و لو أنها أحبت الحى الذى لا يموت و لو أنها عرفت جمال وجه الله المستور من وراء الغيب لأدركت طريقها و لتغيرت القصة ....
و لكن .. "ولكن" هذه هى جريمتنا جميعاً
----------------------. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ أغسطس القاتل
ودرجة الحرارة أربعون درجة ، و الزنزانة متر فى متر، و السجين يدور حول نفسه منذ ساعات ثم ينهار فى ركن ثم يتجمد كتمثال يحملق أمامه بأعين ثابتة زجاجية تخترق الجدران و تخترق الزمن . إنه فى إنتظار من يفتح الباب و يقوده لتنفيذ حكم الإعدام .
ربما يحدث هذا اليوم و ربما يحدث غداً . وربما يحدث الأن .
وشريط حياته يمر أمام عينه سريعاً .
إنه صيدلى ورجل أعملا ناجح . له صيدلية فى أكبر ميادين الكويت يكسب منها ثمانية آلاف جنيه شهرياً . ولا يحتاج منه هذا المكسب الضخم أكثر من العمل بضع ساعات هو وزوجته فى الصيدلية كل يوم .
وقد اشتغل فى بيع وشراء الأراضى فارتفع رصيده فى سنوات من عدة آلاف إلى عدة ملايين من الدنانير .
ثم اشتغل فى بناء و بيع الفيلات و العمارات . ثم فى الأدوات الكهربائية و الأثاث ثم فى تجارة العربات القديمة . فتضاعفت ثروته إلى أرقام فلكية .
وتصور أنه لم يعد ينقصه هو وزجته شئ .فكل ما يرغبان فيه يحصلان عليه بإشارة من طرف البنان . وكل ما يحلمان به يحققانه فى أقل من إغماضة عين .
هكذا كان يتصور حتى شهور قليلة حينما حدثت الحادثة الرهيبة .
وقد بدأت الحادثة بملاحظة بسيطة هى تناقص تدريجى فى أمبولات المورفين بالصيدلية و بإعادة الحسابات اكتشف أن هناك تناقصاً مماثلاً فى أمبولات الكوديين و اللومينال و الكاربيتال و فى عدد من المخدرات الممنوع تداولها بدون روشتات و لم يكن أحد يملك مفتاح دولاب المخدرات سواء هو وزوجته .
ولا يد غريبة تعمل معهما بالصيدلية .
ولم يكن الشك يخرج من أحد اثنين . إما هو . و إما زوجته .
وكانت حالتها النفسية فى السنوات الأخيرة تشير إليها بإصبع الإتهام . نوبات الخدر و الذهول و الرغبة فى الوحدة ، ثم نوبات التوتر و العصبية . ثم الرغبة فى النوم . ثم الإمساك المزمن و فقدان الشهية و الكآبة و السوداوية .
إنها هى إذن .. و لكن ما السر ؟؟؟
و كتم الأمر فى نفسه و لم يشأ أن يسألها . و راح يتجسس ..
و اكتشف أنها تبعث بخطابات منتظمة إلى القاهرة بمعدل خطاب كل ثلاثة أو أربع أيام وراح يفتش فى أدراجها ، وعثر على أحد هذه الخطابات . وكانت ما تزال تكتب فى صفحته الأخيرة . و لم تنته من بعد .
ووقف شعر رأسه و تصبب منه العرق بارداً و هو يقرأ .
كان خطاب حب ملتهب به سطورعن علاقة مكشوفة وتفاصيل عن اللذة المحمومة التى غمرتها من الرأس إلى القدم حينما ذاقت أول قبلة . وكاد قلبه يتوقف وهو يقرأ كلماتها :
˝ صدقنى لم أشعر بأى شعور بين ذراعى زوجى حينما أتخيل أنك هو ˝ و كانت السطور تعود فتحلق إلى نبرة غامضة شرية حينما تقول : ˝ ما أجمل اللحظة التى لا مس فيها سرك سرى . وانطوى نورك نورى و شعرت أنى ذبت تماماً وعدت كما بدأت . مجرد لا شئ ˝ .
وأعاد الخطاب إلى الدرج و يده ترتجف كأنما أصابه مس من جنون .
و لكنه كتم الأمر و لم يشأ أن يفاتحها و طار إلى القاهرة إلى عنوان الرجل . وكانت المفاجئة الثانية الصاعقة الثانية . فقد اكتشف أن الرجل مات من خمس عشرة سنة فى حادث تصادم فى طريق مصر الأسكندرية الصحراوى . أى أنه مات قبل زواجه منها ..
هى إذن قصة حب مع رجل ميت . مع شبح . مع ماض سحيق .
ولكن ما هذا التجسيد الغريب المثير للمشاعر . وكأنها تخاطب أعضاء تلمسها . وتباشر حالات حية . وتعيش فى حاضر مهيمن يملأ عليها أقطار أحاسيسها فتتكلم فى صراحة بذيئة عن ذلك الإحساس اللذيذ . ثم يعود فيحلق بها الخيال المحموم إلى تلك النبرات الشعرية الغامضة . عن السر الذى لا مس السر . و النور الذى انطوى فى النور . وعن الذوبان حتى التلاشى و العدم .
أيمكن أن يفعل ذلك هذا رجل مات و تحلل وأصبح رمة عفنة وتراباً منذ خمس عشرة سنة ؟
أم أنه أمام حالة جنون كامل ؟
تلك المرأة الضامرة الهزيلة ذات الجمال الذابل و النظرات الناعسة الأنثوية . ذلك الكيان الحريرى فى الأربعين الذى يودع جماله .
أتكون قد أصابها مس من صرع و قد رأت جمالها يذوى و ألقى فى وجهها بكل شئ .
ونظرت إليه نظرات مخدورة واتسعت عيناها الناعسة الأنثوية وكأنما تيقظت من حلم ، وأشاحت بيديها كأنما تزيح الأغطية أو تنفض غبار تابوت .
قال فى صوت متهدج :
لم فعلت هذا ؟
فأجابت فى نبرة ساهمة لكن ثابتة :
أنا أعيش حياة لا تطاق .
أنت تملكين كل شئ .
نحن لا نحب ما نملك .
كل ما تحلمين به تجدينه .
نحن لا نحلم بما نجد ، بل نحلم بالعزيز الذى لا ينال .
ماذا ينقصك ؟؟
الحب .
و لكنى تصورت أنك تحبين المال حتى الموت .
و هل يُِِحب الأسمنت و الحديد و الخشب ؟؟
حياتنا كانت دائمة حافلة بالنجاح .
بل كانت دائمة صدئة خالية من لمسة الشعر و كلمة الحنان .
ما حكاية هذا الرجل . هل كنت عشيقته قبل زواجنا ؟؟ صارحينى بالله .
فابتسمت إبتسامة باهتة . و قالت فى هدوء :
بل مجرد لقاء مصادفة فى إحدى المكتبات العامة . تبادلنا فيه بعض الكلمات . لم يلمس يدى و لم ألمس يده . و لم أره بعد ذلك . و إنما كنت أقرأ له فى الصحف. كاتبا ً مشهوراً . ثم مات فى حادث تصادم . وقرأت نعيه كما قرأته أنت وكما قرأه كل الناس . ثم قابلتك وتزوجنا و هذا كل شئ .
أنت إمرأة مجنونة .
بل إمرأة عاقلة تريد أن تعيش حياة حقيقية .
أليست حياتنا حقيقية ؟؟
إنها مجرد كمبيالات وإيصالات وشيكات وأوراق نقدية تتراكم بدون معنى وخارج إطار هذه الكمبيالات والشيكات لاوجود لشئ لا إيمان بشئ . لا حب لشئ . إن حياتك هى الجنون و الــــــلامعقول ذاته و ليست حياتى .
إنظرى إلى ما فعلت بنفسك . مورفين كوديين و هيروين و كوكايين . أهذه الحياة .
أفعل هذا لأتحمل الحرمان و الجفاف الذى أعيشه معك .
و لماذا لم تطلبى الطلاق ؟
إنتهى العمر و هذا قدرى و لم يعد فى الإمكان البدء من جديد . وحياتنا هى خطؤنا نحن الإثنين و ليست خطأك وحدك . وربما كان ذنبى أكبر من ذنبك .
ذنبك أكبر!!! كيف؟؟؟؟؟
لأنى كنت أعلم جريمتى و أستمرفيها . أما أنت فلم تكن تعلم ماذا تفعل بنفسك . كنت تحب المال حتى الموت بالفعل . وكنت صادقاً مع نفسك فى هذا الدأب الـــلامعقول . أما أنا فظل فى داخلى شعور واع رافض لكل شئ . لكنى أستمررت وحاولت أن أعالج الخطأ ثم أعالج الخطأين بخطأ ثالث . حتى التهيت إلى تلوث كامل .
ماذا تعنين بتلوث كامل ؟
فجمعت شجاعتها و ألقت بالمفاجئة الثالثة الصاعقة .
لن أكتم عنك شيئاً . سوف أضع عن قلبى كل أثقاله و أستريح . سوف أقول لك كل الحقيقة .
و شعر بأنها سوف تلقى بكارثة فقال مشفقاً على نفسه و عليها :
سعاد . أرجوك . لا داعى .
وكنها استمرت بصوت معدنى بارد ميت كأنها مصفحة تمر فوق أضلاعه :
لقد خنتك مع كل رجل دخل هذا البيت . وتصورت فى كل مرة أنى سوف أحب هذا الرجل أو ذاك حتى الموت ثم اكتشفت فى كل مرة أنى أكثر مللاً . وأنى أمام شئ مضجر لا يطاق . و لم يبق لى فى النهاية إلا ذاك الرجل الشبح الحلم العزيز الذى لا ينال ذلك الجمال الشفيف من وراء الغيب .
ثم انهارت فجأة تبكى و كأنها تتلاشى فى دموعها و تكوم هو مهزماً فى كرسيه و هو يغمغم :
أنت مجنونة . مجنونة .
و لا يعلم كيف مضت به الأيام بعد ذلك .
و لا يستطيع أن يصف هذه الظلمة التى مازحته حتى قضت عليه .
و حينما دبر بعد ذلك قتلها بالسم لم يكن سبب القتل أنها خانته و إنما كان السبب الحقيقى أنها قتلته و أنها مزقت الستر عن حياته فأصابته بعدواها و نقلت إليه الشعور المرهف بعدم الجدوى .
فأصبح يعيش فى خواء تام و قد سلبته الإحساس بالهدف وحرمته لذة الجمع و النجاح . فانكشف له الجنون و الآلية و العبث فى هذا الجمع اللامعقول ــــــ وهذا الجرى وراء اللاشئ . فأدرك أنه لم يعش وأنه لم يكن يعيش فى أى يوم .
نعم . لقد دبر لقتلها بإصرار و تعمد و ليس بإنفعال و لا بغضب الزوج الذى أهين فى شرفه . وإنما بإحساس قتيل يثأر من قاتله . وبإحساس رجل فقد كل شئ . فقد نفسه وروحه وجوهره و لذته وحافز كفاحه .
و حينما كانت تموت كانت عيناها تبتسمان .
وكانت تبدو وكأنما تخففت من أثقالها .
و قالت له فى نبرة شكر و هى تقبل يده :
هذا هو العمل الوحيد المعقول الذى صنعته فى حياتك .
و سلم نفسه للنيابة فى ذلك اليوم وكتب اعترافاً كاملاً بخط يده
وكان تعليق القاضى الذى أصدرالحكم وهورجل صوفى إلى زميله:
إن كل الذين عبروا من هنا إلى المشانق قالوا إنهم أحبوا حتى الموت ، البعض أحب الخشب و الحديد ، و البعض أحبوا السلطة ، و البعض الآ خر أحب إمرأة ، و البعض أحب نفسه ..و لا شئ من هذا الحب يروى عطشاً كلهم كانوا كمن يشرب من ماء مالح
كلما ازداد شرباً ازداد ظمئاً
و لهذا حاولت صاحبتنا أن تسعى بحبها إلى العزيز الذى لا ينال فأحبت الميت فكانت أكثر سقوطاً وصرفت وجهها عن الوجود لتسقط فى العدم . و لو أنها أحبت الحى الذى لا يموت و لو أنها عرفت جمال وجه الله المستور من وراء الغيب لأدركت طريقها و لتغيرت القصة ..
و لكن . ˝ولكن˝ هذه هى جريمتنا جميعاً
❞ أفرغ الرجل كأس الخمر الرديئة في جوفه و شرع يبكي و يتمتم نادماَ .. تُبت إليك يا رب .. لا أعود إلى شربها أبداً أعاهدك و أستغفرك ..
و بعد لحظات كان يملأ كأساً أخرى ليلقيها في جوفه ليعود فيستفغر باكيا مغمغماً .. سامحني يا رب .. هذه اخر مرة .. تبت إليك و رجعت إليك و أنبت إليك ..
ثم ما تلبث الغفلة أن تسيطر عليه و يعاوده ضعفه فيغالبه فيغلبه فينكب على كأس أخرى .. ثم يعود فيقف تائباً باكياً بالباب .
ذلك هو الشيخ مبروك .. و كانوا يسمونه " الشيخ " من باب السخرية بحاله .
ستون سنة و لكن هيكله المضعضع يوحي بأنه جاوز المائة .. جاء إلى الدنيا لقيطاً ملقى على الرصيف في لفة و قضى صباه في ملجأ للأيتام ثم في سجن للأحداث .
لم يدع منكراً إلا قارفه و لا مخاضة أو حال إلا انغرس فيها .
كان يخرج من سجن ليدخل سجناً و يخرج من تخشيبة ليلقى في تخشيبة و انتهى حاله إلى ان أصبح حارساً في قرافة ..
ينام و يأكل و يشرب و يسكن مع الموتى .. يحرس القبور نهاراً ثم يعود فينبشها ليلا ليبيع الجثث لطلبة الطب في مقابل جنيهات قليلة يسكر بها .
ذلك هو " الشيخ مبروك " صاحب ملف السوابق الحافل . و لكنه طراز خاص من المجرمين ..كان مجرما " غلباناً " دائم البكاء دائم الندم منكسر الوجه إلى الأرض يلازمه الشعور بأنه حشرة و بأنه لا يستحق شعاع الشمس الذي يطلعه الله عليه و لا نسمة الهواء التي يتنفسها و لا اللقمة الجافة التي يأكلها .
و لم يكن يرتكب ذنباً إلا كانت وراءه ضرورة ملحة تدفعه .. و حياته كلها كانت محاولة مستمرة للاستقامة دون جدوي . فهو يغالب طبعه و طبعه يغلبه . و يغالب ضعفه و ضعفه يغلبه . ثم يبكي في النهاية و يشعر بالخزي و الهوان . و يحاول أن ينسي ذلك الهوان بالشرب فيزداد بالشرب هوانا .
يشعر دائماً ان الله يراه .. و لا يدري من أين يأتيه ذلك الشعور .. و لا كيف يفعل ما يفعل أمام عين الله التي لا تنام .
شعوره الدائم الذي لا يفارقه هو الإشمئزاز من نفسه . و هو شعور ملازم له كالتنفس لا خلاص منه .. و كأنه صرصور غارق في مستنقع من الصمف كلما حاول الخلاص ازداد غرقا . لا ينجيه من الموت يأسا إلا إيمانه بأن ذنوبه مهما عظمت فإن عفو الله اعظم ..
و إن الله لا تنفعه طاعتنا و لا تضره ذنوبنا .. فهو غني بنفسه عن العالمين .. و هو الذي وسع كل شيء رحمة و علما .. و هو الوهاب الذي لا يحتاج لأحد .
لا يكف عن البكاء .
و لا يكف عن الوقوف بباب الرحمة و إن كان يشعر بأن يديه ملطختان بالآثام .. يعرف الناس تاريخه ويسخرون منه و لكنهم يعطفون عليه .. و البعض يقول له .. ادع لنا يا شيخ مبروك فيقول لهم .. يدعو لكم الشيخ مبروك .. و لكن لا أنا شيخ و لا أنا مبروك و يبكي و يمد يده المرتجفة تحت جلبابه ليخرج الزجاجة فيشربها ممزوجة بدموعه ثم يمضي يحث الخطى لائذاً بالجدران منكس الوجه إلى الارض ليختفي في ظلمة المقابر .. و هو يستغفر و يطلب العفو .
و اليوم كان على الشيخ مبروك أن يفتح حوش الحاج إبراهيم للمرة الخامسة ليلتقي الإبن الخامس للحاج .. تلك القصة التي كانت تتكرر كل عام .. كلما أنجب الحاج إبنا شق له لحداً .
و كان قلب الشيخ مبروك ينفطر حزناً على ذلك الأب الواله الغارق في دموعه .
قال الحاج و هو يبكي :
ذلك هو إبني الخامس .. بنتي الوحيده أصابها شلل الأطفال من شهور و أصبحت كسيحة تتحرك على كرسي بعجلات .. و بالأمس قال الطبيب .. إنه لا فائدة .. تآكلت جذور الأعصاب و لم يعد ينفع طب و لا دواء .. عن قريب نشق لها لحداً آخرا يا شيخ مبروك .. عن قريب آتي بها إليك محمولة .. يا رب رجمتك .
و ألقى الرجل بنفسه على صدر الشيخ مبروك وراح يبكي و ينهنه كطفل يتيم .
قال الحاج في دموعه :
أدع لها بالشفاء يا شيخ مبروك .. لعل الله يشفيها بدعوتك ..
قال الشيخ مبروك و الخزي يملأ نبراته :
أنت اولى بالدعوة يا حاج .. أنت حجيت بيت الله .. و زرت النبي .. أما أنا فحجي كان إلي السجون و زياراتى للملاجئ و الأحداث و حظى من تقوى الله هو ما تري .. فكيف أجرؤ أن أرفع وجهى إليه بدعاء .
فعاد الحاج يقول باكيا :
بُحَّ صوتي بالدعاء و جاهدت نفسي صلاة و صوما فما استمعت السماء لدعائي ..
ادع لها انت يا شيخ مبروك فالله رب قلوب .. بحق الله ادع لها ولاتخيب رجاء اب ملكوم .
فرفع الشيخ مبروك يديه إلي السماء واجماً خزيان وتوجه إلي الله بتظرات خجلى وتمتم بدعوى مخضلة بالدمع متهدجة بالانكسار:
يا رب اشفها لا شاف سواك و عافها فلا معاف سواك .. و بكى الرجلان كما لم يبكيا منذ وُلِدا .
و في اليوم التالي شهدت القرافة الحاج ابراهيم يبحث عن الشيخ مبروك .. و يفتش عنه كالمجنون و هويقول لكل من يلقاه :أين الشيخ مبروك ؟ .. أين الشيخ مبروك دلوني على مكانه .. بنتي شفيت من الشلل .. قامت من كرسيها و مشت وحدها و قال الدكتور هي معجزة.أين الشيخ مبروك .. أين أجد الشيخ مبروك .
و لكن الشيخ مبروك كان قد مات و لقى ربه في فجر ذلك اليوم و دفن حيث لفظ أنفاسه و هو يتمتم باكياً كعادته كلما وضع خده لينام .
رب اغفر لي فمن يغفر الذنوب إلا انت .
رب إن ذنوبي و إن كثرت فانها لن تضرك و طاعاتي و ان كثرت فانها لن تنفعك فانت الغني عن العالمين .
رب مهما عظمت ذنوبي فان عفوك أعظم و مهما كبرت آثامي فان إحسانك أكبر .
سبحانك وسعت كل شيء رحمة و علما .. فارحم ضعفي وعجزي وفاقتي و انت القائل : " وَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا " (28) النساء
رب اقبلني من المنكسرين الخائفين المشفقين الوجلين ..
يا رب انت الرب و انا العبد .. انت الوجود و انا العدم .. سبحانك لا أملك من نفسي شيئا و لا املك لنفسي شيئا.رب اسلمت نفسي اليك .. و أسلمت ضعفي اليك .. و أسلمت حقيقتي اليك .. و اسلمت ارادتى اليك .. و أسلمت روحى إليك .. لا حول و لا قوة إلا بكك .. بك أحيا و بك أموت و بك أُبعَث .. و بك أنال المغفرة و بك أدخل الجنة .
و طلع فجر ذلك اليوم معه آخر أنفاس الشيخ مبروك يسلمها إلي ربه .
و انتهت قصة رجل من الخطائين كان أقرب إلي الله من كثير من الطائعين من أهل الغرور بطاعتهم .
رجل غفر الله له لأنه عرف مقامه .. و كانت حياته كلها إنحناءً و إنكساراً و دخولاً من الباب الضيق .
قصة / المبروك
من كتاب / نقطة الغليان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ أفرغ الرجل كأس الخمر الرديئة في جوفه و شرع يبكي و يتمتم نادماَ . تُبت إليك يا رب . لا أعود إلى شربها أبداً أعاهدك و أستغفرك .
و بعد لحظات كان يملأ كأساً أخرى ليلقيها في جوفه ليعود فيستفغر باكيا مغمغماً . سامحني يا رب . هذه اخر مرة . تبت إليك و رجعت إليك و أنبت إليك .
ثم ما تلبث الغفلة أن تسيطر عليه و يعاوده ضعفه فيغالبه فيغلبه فينكب على كأس أخرى . ثم يعود فيقف تائباً باكياً بالباب .
ذلك هو الشيخ مبروك . و كانوا يسمونه ˝ الشيخ ˝ من باب السخرية بحاله .
ستون سنة و لكن هيكله المضعضع يوحي بأنه جاوز المائة . جاء إلى الدنيا لقيطاً ملقى على الرصيف في لفة و قضى صباه في ملجأ للأيتام ثم في سجن للأحداث .
لم يدع منكراً إلا قارفه و لا مخاضة أو حال إلا انغرس فيها .
كان يخرج من سجن ليدخل سجناً و يخرج من تخشيبة ليلقى في تخشيبة و انتهى حاله إلى ان أصبح حارساً في قرافة .
ينام و يأكل و يشرب و يسكن مع الموتى . يحرس القبور نهاراً ثم يعود فينبشها ليلا ليبيع الجثث لطلبة الطب في مقابل جنيهات قليلة يسكر بها .
ذلك هو ˝ الشيخ مبروك ˝ صاحب ملف السوابق الحافل . و لكنه طراز خاص من المجرمين .كان مجرما ˝ غلباناً ˝ دائم البكاء دائم الندم منكسر الوجه إلى الأرض يلازمه الشعور بأنه حشرة و بأنه لا يستحق شعاع الشمس الذي يطلعه الله عليه و لا نسمة الهواء التي يتنفسها و لا اللقمة الجافة التي يأكلها .
و لم يكن يرتكب ذنباً إلا كانت وراءه ضرورة ملحة تدفعه . و حياته كلها كانت محاولة مستمرة للاستقامة دون جدوي . فهو يغالب طبعه و طبعه يغلبه . و يغالب ضعفه و ضعفه يغلبه . ثم يبكي في النهاية و يشعر بالخزي و الهوان . و يحاول أن ينسي ذلك الهوان بالشرب فيزداد بالشرب هوانا .
يشعر دائماً ان الله يراه . و لا يدري من أين يأتيه ذلك الشعور . و لا كيف يفعل ما يفعل أمام عين الله التي لا تنام .
شعوره الدائم الذي لا يفارقه هو الإشمئزاز من نفسه . و هو شعور ملازم له كالتنفس لا خلاص منه . و كأنه صرصور غارق في مستنقع من الصمف كلما حاول الخلاص ازداد غرقا . لا ينجيه من الموت يأسا إلا إيمانه بأن ذنوبه مهما عظمت فإن عفو الله اعظم .
و إن الله لا تنفعه طاعتنا و لا تضره ذنوبنا . فهو غني بنفسه عن العالمين . و هو الذي وسع كل شيء رحمة و علما . و هو الوهاب الذي لا يحتاج لأحد .
لا يكف عن البكاء .
و لا يكف عن الوقوف بباب الرحمة و إن كان يشعر بأن يديه ملطختان بالآثام . يعرف الناس تاريخه ويسخرون منه و لكنهم يعطفون عليه . و البعض يقول له . ادع لنا يا شيخ مبروك فيقول لهم . يدعو لكم الشيخ مبروك . و لكن لا أنا شيخ و لا أنا مبروك و يبكي و يمد يده المرتجفة تحت جلبابه ليخرج الزجاجة فيشربها ممزوجة بدموعه ثم يمضي يحث الخطى لائذاً بالجدران منكس الوجه إلى الارض ليختفي في ظلمة المقابر . و هو يستغفر و يطلب العفو .
و اليوم كان على الشيخ مبروك أن يفتح حوش الحاج إبراهيم للمرة الخامسة ليلتقي الإبن الخامس للحاج . تلك القصة التي كانت تتكرر كل عام . كلما أنجب الحاج إبنا شق له لحداً .
و كان قلب الشيخ مبروك ينفطر حزناً على ذلك الأب الواله الغارق في دموعه .
قال الحاج و هو يبكي :
ذلك هو إبني الخامس . بنتي الوحيده أصابها شلل الأطفال من شهور و أصبحت كسيحة تتحرك على كرسي بعجلات . و بالأمس قال الطبيب . إنه لا فائدة . تآكلت جذور الأعصاب و لم يعد ينفع طب و لا دواء . عن قريب نشق لها لحداً آخرا يا شيخ مبروك . عن قريب آتي بها إليك محمولة . يا رب رجمتك .
و ألقى الرجل بنفسه على صدر الشيخ مبروك وراح يبكي و ينهنه كطفل يتيم .
قال الحاج في دموعه :
أدع لها بالشفاء يا شيخ مبروك . لعل الله يشفيها بدعوتك .
قال الشيخ مبروك و الخزي يملأ نبراته :
أنت اولى بالدعوة يا حاج . أنت حجيت بيت الله . و زرت النبي . أما أنا فحجي كان إلي السجون و زياراتى للملاجئ و الأحداث و حظى من تقوى الله هو ما تري . فكيف أجرؤ أن أرفع وجهى إليه بدعاء .
فعاد الحاج يقول باكيا :
بُحَّ صوتي بالدعاء و جاهدت نفسي صلاة و صوما فما استمعت السماء لدعائي .
ادع لها انت يا شيخ مبروك فالله رب قلوب . بحق الله ادع لها ولاتخيب رجاء اب ملكوم .
فرفع الشيخ مبروك يديه إلي السماء واجماً خزيان وتوجه إلي الله بتظرات خجلى وتمتم بدعوى مخضلة بالدمع متهدجة بالانكسار:
يا رب اشفها لا شاف سواك و عافها فلا معاف سواك . و بكى الرجلان كما لم يبكيا منذ وُلِدا .
و في اليوم التالي شهدت القرافة الحاج ابراهيم يبحث عن الشيخ مبروك . و يفتش عنه كالمجنون و هويقول لكل من يلقاه :أين الشيخ مبروك ؟ . أين الشيخ مبروك دلوني على مكانه . بنتي شفيت من الشلل . قامت من كرسيها و مشت وحدها و قال الدكتور هي معجزة.أين الشيخ مبروك . أين أجد الشيخ مبروك .
و لكن الشيخ مبروك كان قد مات و لقى ربه في فجر ذلك اليوم و دفن حيث لفظ أنفاسه و هو يتمتم باكياً كعادته كلما وضع خده لينام .
رب اغفر لي فمن يغفر الذنوب إلا انت .
رب إن ذنوبي و إن كثرت فانها لن تضرك و طاعاتي و ان كثرت فانها لن تنفعك فانت الغني عن العالمين .
رب مهما عظمت ذنوبي فان عفوك أعظم و مهما كبرت آثامي فان إحسانك أكبر .
سبحانك وسعت كل شيء رحمة و علما . فارحم ضعفي وعجزي وفاقتي و انت القائل : ˝ وَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ˝ (28) النساء
رب اقبلني من المنكسرين الخائفين المشفقين الوجلين .
يا رب انت الرب و انا العبد . انت الوجود و انا العدم . سبحانك لا أملك من نفسي شيئا و لا املك لنفسي شيئا.رب اسلمت نفسي اليك . و أسلمت ضعفي اليك . و أسلمت حقيقتي اليك . و اسلمت ارادتى اليك . و أسلمت روحى إليك . لا حول و لا قوة إلا بكك . بك أحيا و بك أموت و بك أُبعَث . و بك أنال المغفرة و بك أدخل الجنة .
و طلع فجر ذلك اليوم معه آخر أنفاس الشيخ مبروك يسلمها إلي ربه .
و انتهت قصة رجل من الخطائين كان أقرب إلي الله من كثير من الطائعين من أهل الغرور بطاعتهم .
رجل غفر الله له لأنه عرف مقامه . و كانت حياته كلها إنحناءً و إنكساراً و دخولاً من الباب الضيق .
قصة / المبروك
من كتاب / نقطة الغليان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝